صفاتها جهر ورخو مستفل** منفتح مصمتة والضد قل
وهو هنا يشير إليها بوصف الحروف بها، فهذه في الواقع ليست صفات، الجهر صفة من صفات الحروف، لكن قوله: ورخو الرخو حرف موصوف بالرخاوة، الصفة هي الرخاوة والحرف هو الرخو، وكذلك قوله: مستفل، فالمستفل وصف للحرف، لكن الاستفال هو الصفة، وكذلك قوله: منفتح هذا وصف للحرف والانفتاح هو الصفة، وكذلك قوله: مصمتة هذا وصف للحروف والصفة هي الإصمات، والضد قل أي قل الضد، فضد كل واحد منها معروف، وبدأ مباشرة في تقسيم الحروف على هذه، فأولها الجهر وهو في الأصل الرفع، فجهر بصوته أي رفع به، {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا} أي لا ترفع صوتك بالقراءة، ورفع الصوت منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم، فما كان محمودا منه كما كان لتبليغ العلم وإسماع الحق، فهذا رفع محمود على أن لا يزعج السامعين ولا يؤثر في صحة المتكلم، ولذلك فإن عمر رضي الله عنه سمع مؤذنا يبالغ في رفع الصوت فرفع عليه الدرة وقال: أما تختشي يا هذا أن تنشق بريداؤك، والبريداء والمريداء أسفل البطن، والمقصود أن عمر يخاف عليه أن يقع فتق في أسفل بطنه من شدة ما يرفع صوته، قال: أما تختشي يا هذا أن تنشق بريداؤك، والنوع الثاني هو رفع الصوت المذموم، ولذلك قال الله تعالى في حكايته لوصية لقمان لابنه: {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} يقول في هذه الوصية: {واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} صوت الحمير يبدأ بأعلى شيء فلذلك كان أنكر الأصوات، بعد هذا ضد الجهارة الهمس والهمس الخفاء في الصوت، لا تسمع إلا همسا، أي إلا صوتا خفيفا، ومنه صوت المشي، فوطء الرجل للأرض ما يسمع من صوت الرجل ثلاثة أقسام، إذا كان صوتا للنعل يسمى قبقبة، وإذا كان صوتا للحلي يسمى وسوسة، {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} فصوت الحلي يسمى وسوسة، ومنه قول الأعشى:*
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت*
وقول أبي تمام:
*وإذا مشت تركت بقلبك ضعف ما** بحليها من كثرة الوسواس*
فهنا استعمل الوسواس في معنييه: الوسواس الذي في القلب والوسواس الذي هو صوت الحلي.
الصوت الثالث هو الهمس وهو إذا كانت الرجل ليست لابسة لنعل ولا لحلي فمسها للأرض صوته يسمى همسا، ومنه قول الشاعر:
* معاود جرأة وقف الهوادي** أشم كأنه رجل عبوس*
* فباتوا يدلجون وبات يسري** بصير بالدجى ورد هموس*
* إلى أن عرسوا فأغب عنهم** قريبا ما يحس له حسيس*
* سوى أن العتاق من المطايا** أحسن به فهن إليه شوس*
هو يصف أسدا صحب قافلة تسير في الليل يريد أن يأخذ منها فريسة فيقول: معاود جرأة واقف الهوادي أن هذا الأسد تعود على وقف الهوادي، والهوادي السوابق من الخيل أو من الوحش، وهو معاود ذلك جرأة مفعول لأجله أي من أجل الجراءة والجسارة أشم أي مرتفع الأنف والمقصود بذلك تكبره كأنه رجل عبوس، فالرجل العبوس يظهر على وجهه الشمم والتكبر فكذلك هو، كأنه رجل عبوس فباتوا يدلجون والإدْلاج السير أول الليل والادِّلاج السير آخر الليل، فباتوا يدلجون وبات يسري بصير بالدجى والسباع كلها ترى في الظلام، ورد وهذا لونه وهو الغبرة المائلة إلى الحمرة، هموس فمشيه هو همس، أي يسمع له صوت خفيف جدا في مسه للأرض، ورد هموس إلى أن عرسوا أي نزلوا، التعريس هو النزول ليلا، إلى أن عرسوا فأغب عنهم، أي استقر في مكان قريب منهم، قريبا ما يحس له حسيس، لا يحسون له بشيء، سوى أن العتاق من المطايا أي الحرائر من الخيل أحسن به أي أحسسن به فهن إليه شوس أي ينظرنه بمؤخرة أعينهن، فالأَشْوَسُ الذي ينظر بمؤخرة عينه، وهذا من الوصف البليغ الذي يجعلك كأنك تنظر إلى هذا الأسد إلى وصفه كأنك تراه، من دقة الوصف وتمامه، فهذا الهمس، ثم بعد ذلك الرخاوة وهي ضد الشد، فالشيء الرخو هو غير المشدود، وفي وصف الإبل يقال: رخو الملاط، أي أن ما يلي الخصر من جلده رخو يقبل التمدد:
* فبيناه يشري رحله قال قائل** لمن جمل رخو الملاط نجيب*
أي خصره مسترخ، ثم ضد الرخاوة الشدة، وكذلك من أضدادها التوسط بين الشدة والرخاوة، والمقصود في الاصطلاح بالجهر هو أن ينقطع النفس عند النطق بالحرف، وقد ذكرنا أن الهواء الخارج ينقسم إلى نفس وصوت، فالصوت يبقى لكن ينقطع النفس فهذا هو المقصود بالجهر، وأما الشدة فهي انقطاع الصوت فينقطع الصوت، ولذلك يجتمعان معا، فبينهما نسبة العموم والخصوص من وجه، فبعض الحروف يجمع بين الشدة والجهر، وبعضها يختص بالجهر وبعضها يختص بالشدة، مستفل أي مائل إلى السفل، والسفل هو أسفل الشيء، والواقع أن الحرف غير مستفل وإنما المستفل اللسان، فالحرف مستفَل عنده، أي اللسان يستفل عنده، وهو لا يستفل في الواقع الحرف دائما لا يستفل لأن مكانه هو الفتحة فتحة اللهاة، فإذا ارتفع اللسان سمي الحرف مستعليا، وإذا انخفض اللسان سمي الحرف مستفلا، والعلو والسفل متضادان فلذلك صفة الاستعلاء وصفة الاستفال متضادتان، منفتح الانفتاح هو ضد الإغلاق أن يكون الحرف بقي معه مكان للنفس، يخرج صوت الحرف من المخرج ويبقى معه مكان للنفس فهذا الذي يسمى بالانفتاح وضده الإطباق بحيث ينطبق المخرج على الحرف فلا يبقى فيه مكان، فإذن الإطباق ضد الانفتاح، وهو من أطبق الشيء على الشيء إذا أوقعه عليه، والأطباق هي السماوات، السبع الطباق أي السماوات كل واحد منها طبق مغط لما تحته بالكلية، وكذلك أطوار الزمن تسمى أطباقا لتركبن طبقا عن طبق، هي أطوار الزمان من الغنى والفقر والصحة والمرض والفراغ والانشغال... الخ تسمى أطباقا، ولذلك في حديث أم زرع: زوجي عياياء غياياء طباقاء شجك أو فلك أو جمع كلا لك، عياياء معناه عيي لا يستطيع أن يبين فكرة في قلبه، غياياء معناه كثير الغي مائل إلى الخصام، طباقاء معناه لا يتحمل ولا يطاق كأنه يطبق على الإنسان النفس لا يستطيع أن يتنفس معه، شجك أو فلك أو جمع كلا لك، شجك الشج هو الضرب في الرأس أو في الوجه، أو فلك أي كسر بعض أسنانك، أو جمع كلا لك، فهذا الإطباق، مصمتة، الإصمات هو حبس الصوت، فصمت فلان أي سكت، والصمات السكوت، والصامت هو ما لا كلام له بالخلقة، كما في حديث الغلول أن النبي r ذكر الغلول فعظم من شأنه وفي هذا الحديث: ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته صامت يقول يا محمد أغثني ولست له بمغيث، فالمقصود بالصامت الذهب أو الفضة، المال الصامت هو الذهب أو الفضة، وضد الإصمات الإذلاق، والإذلاق هو الحدة، فالذلق هو الحديد اللسان، ورأس اللسان محدد ليس كأصله، فلذلك ما خرج من رأس اللسان أو من الشفتين هذا الذي يسمى بحروف الذلاقة، وهذه الصفات الإحدى عشرة الذي ينفع منها في تمييز الحروف وتحسينها هي التسع الأول، وأما الأخيرتان وهما الإصمات والذلاقة فلا نفع فيهما في تمييز الحروف، ولذلك لم يذكرهما بعض أهل الأداء في صفات الحروف أصلا، لأن معرفتك أن هذا الحرف مصمت أو أن هذا من حروف الذلاقة لا يؤدي إلى أثر في النطق به، لأن المصمتة هي التي تخرج من الجوف أو من الحلق أو من أصل اللسان أو من ظهره أو من حافتيه، والمذلقة هي التي تخرج من رأس اللسان أو من الشفتين، فالإصمات والإذلاق بيان لقسم المخرج فرأس اللسان وما يخرج منه إلى نهاية الحروف هذه هي حروف الذلاقة، وما وراء ذلك كله هو حروف الإصمات، فإذن الإصمات والذلاقة لا يترتب عليهما شيء في تمييز الحرف ولا في النطق به، إنما هما بيان لمكانه فقط.