أم عبد الله
وفقها الله
- إنضم
- 29 أكتوبر 2010
- المشاركات
- 74
- النقاط
- 6
معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد روايته ، وما يتعلق بذلك من قدح وجرح وتوثيق وتعديل
أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على : أنه يشترط فيمن يحتج بروايته : أن يكون عدلاً ، ضابطاً لما يرويه . وتفصيله : أن يكون مسلماً ، بالغاً ، عاقلاً ، سالماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة ، متيقظاً غير مغفل ، حافظاً إن حدَّث من حفظه ، ضابطاً لكتابه إن حدَّث من كتابه .
وإن كان يحدث بالمعنى : اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالماً بما يحيل المعاني ، والله أعلم .
ونوضح هذه الجملة بمسائل :
أحدها : عدالة الراوي : تارة تثبت بتنصيص المعدِّلين على عدالته ، وتارة تثبت بالاستفاضة ، فمن اشتهرت عدالته بين أهل النقل أو نحوهم من أهل العلم ، وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة ، استغني فيه بذلك عن بينة شاهدة بعدالته تنصيصاً ، وهذا هو الصحيح في مذهب الشافعي ، وعليه الاعتماد في فن أصول الفقه .
وممن ذكر ذلك من أهل الحديث أبو بكر الخطيب الحافظ ، ومثل ذلك بمالك ، وشعبة ، والسفيانين ، والأوزاعي ، والليث ، وابن المبارك ، ووكيع ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعلي بن المديني ، ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر ، فلا يسأل عن عدالة هؤلاء وأمثالهم ، وإنما يسأل عن عدالة من خفي أمره على الطالبين .
وتوسَّع ابن عبد البر الحافظ في هذا فقال : كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل ، محمول في أمره أبدا على العدالة ، حتى يتبين جرحه . لقوله صلى الله عليه وسلم : " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله " . وفيما قاله اتساع غير مرضي ، والله أعلم .
الثانية : يعرف كون الراوي ضابطاً بأن نعتبر رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان . فإن وجدنا رواياته موافقة - ولو من حيث المعنى - لرواياتهم ، أو موافقة لها في الأغلب والمخالفة نادرة ، عرفنا حينئذ كونه ضابطاً ثبْتاً . وإن وجدناه كثير المخالفة لهم ، عرفنا اختلال ضبطه ، ولم نحتج بحديثه ، والله أعلم .
الثالثة : التعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصحيح المشهور ، لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها ، فإن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول : لم يفعل كذا ، لم يرتكب كذا ، فعل كذا وكذا ، فيعدد جميع ما يفسق بفعله أو بتركه ، وذلك شاق جداً .
وأما الجرح فإنه لا يقبل إلا مفسراً مبين السبب ، لأن الناس يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح ، فيطلق أحدهم الجرح بناء على أمر اعتقده جرحاً وليس بجرح في نفس الأمر ، فلابدَّ من بيان سببه ، لينظر فيما هو جرح أم لا .
وهذا ظاهر مقرر في الفقه وأصوله . وذكر الخطيب الحافظ : أنه مذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده ، مثل : البخاري ، ومسلم ، وغيرهما .
ولذلك احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح لهم ، كعكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما ، وكإسماعيل بن أبي أويس ، وعاصم بن علي ، وعمرو بن مرزوق ، وغيرهم . واحتج مسلم بسويد بن سعيد ، وجماعة اشتهر الطعن فيهم . وهكذا فعل أبو داود السجستاني . وذلك دال على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فسر سببه ، ومذاهب النقاد للرجال غامضة مختلفة .
وعقد الخطيب باباً في بعض أخبار من استفسر في جرحه ، فذكر ما لا يصلح جارحاً .
منها عن شعبة أنه قيل له : لمَ تركت حديث فلان ؟ فقال : رأيته يركض علي برذون ، فتركت حديثه .
ومنها : عن مسلم بن إبراهيم أنه سُئل عن حديث الصالح المري ، فقال : ما يصنع بصالح ؟ ذكروه يوماً عند حماد بن سلمة فامتخط حماد ، والله أعلم .
قلت : ولقائل أن يقول : إنما يعتمد الناس في جرح الرواة ورد حديثهم على الكتب التي صنفها أئمة الحديث في الجرح أو في الجرح والتعديل . وقلَّ ما يتعرضون فيها لبيان السبب ، بل يقتصرون على مجرد قولهم : فلان ضعيف ، وفلان ليس بشيء ، ونحو ذلك . أو : هذا حديث ضعيف ، وهذا حديث غير ثابت ، ونحو ذلك . فاشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك ، وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر .
وجوابه : أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به ، فقد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك ، بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية ، يوجب مثلها التوقف .
ثم من انزاحت عنه الريبة منهم ، ببحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه ولم نتوقف ، كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين وغيرهما ، ممن مسَّهم مثل هذا الجرح من غيرهم . فافهم ذلك ، فإنه مخلص حسن ، والله أعلم .
الرابعة : اختلفوا في أنه : هل يثبت الجرح والتعديل بقول واحد ، أو : لابدَّ من اثنين . فمنهم من قال : لا يثبت ذلك إلاّ باثنين ، كما في الجرح والتعديل في الشهادات . ومنهم من قال - وهو الصحيح الذي اختاره الحافظ أبو بكر الخطيب وغيره - أنه يثبت بواحد ، لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر ، فلم يشترط في جرح راويه وتعديله ، بخلاف الشهادات ، والله أعلم .
الخامسة : إذا اجتمع في شخص جرح وتعديل : فالجرح مقدم ، لأن المعدل يخبر عما ظهر من حاله ، والجارح يخبر عن باطن خفي على المعدل . فإن كان عدد المعدلين أكثر : فقد قيل : التعديل أولى . والصحيح - والذي عليه الجمهور - أن الجرح أولى ، لما ذكرناه ، والله أعلم .
السادسة : لا يجزئ التعديل على الإبهام من غير تسمية المعدل ، فإذا قال : حدثني الثقة ، أو نحو ذلك ، مقتصراً عليه ، لم يكتفَ به ، فيما ذكره الخطيب الحافظ والصيرفي الفقيه وغيرهما . خلافاً لمن اكتفى بذلك . وذلك : لأنه قد يكون ثقة عنده ، وغيره قد اطّلع على جرحه بما هو جارح عنده ، أو بالإجماع ، فيحتاج إلى أن يسميه حتى يعرف . بل إضرابه عن تسميته مريب ، يوقع في القلوب فيه ترددا . فإن كان القائل لذلك عالماً أجزأ ذلك في حق من يوافقه في مذهبه ، على ما اختاره بعض المحققين .
وذكر الخطيب الحافظ : أن العالم إذا قال : كل من رويت عنه فهو ثقة وإن لم أُسمه . ثم روى عن من لم يسمه فإنه يكون مزكياً له ، غير أنا لا نعمل بتزكيته هذه ، وهذا على ما قدمناه ، والله أعلم .
السابعة : إذا روى العدل عن رجل وسماه لم تجعل روايته عنه تعديلاً منه له ، عند أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم .
وقال بعض أهل الحديث وبعض أصحاب الشافعي : يجعل ذلك تعديلاً منه له ، لأن ذلك يتضمن التعديل .
والصحيح هو الأول ، لأنه يجوز أن يروي عن غير عدل فلم يتضمن روايته عنه تعديله . وهكذا نقول : إن عمل العالم ، أو فتياه على وفق حديث ، ليس حكماً منه بصحة ذلك الحديث . وكذلك مخالفته للحديث ليست قدحاً منه في صحته ولا راويه ، والله أعلم .
الثامنة : في رواية المجهول ، وهو في غرضنا ههنا أقسام :
أحدها : المجهول العدالة من حيث الظاهر والباطن جميعاً . وروايته غير مقبولة عند الجماهير ، على ما نبهنا عليه أولاً .
الثاني : المجهول الذي جهلت عدالته الباطنة ، وهو عدل في الظاهر ، وهو المستور فقد قال بعض أئمتنا : المستور من يكون عدلاً في الظاهر ، ولا نعرف عدالة باطنه . فهذا المجهول يحتج بروايته بعض من ردَّ رواية الأول ، وهو قول بعض الشافعيين وبه قطع ، منهم الإمام سليم بن أيوب الرازي . قال : لأن أمر الأخبار مبني على حسن الظن بالراوي . ولأن رواية الأخبار تكون عند من يتعذر عليه معرفة العدالة في الباطن ، فاقتصر فيها على معرفة ذلك في الظاهر . وتفارق الشهادة ، فإنها تكون عند الحكام ، ولا يتعذر عليهم ذلك ، فاعتبر فيها العدالة في الظاهر والباطن .
قلت : ويشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة ، في غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم ، وتعذرت الخبرة الباطنة بهم ، والله أعلم .
الثالث : المجهول العين ، وقد يقبل رواية المجهول العدالة من لا يقبل رواية المجهول العين ، ومن روى عنه عدلان وعيَّناه فقد ارتفعت عنه هذه الجهالة .
ذكر أبو بكر الخطيب البغدادي في أجوبة مسائل سئل عنها : أن المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم تعرفه العلماء ، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد . مثل : عمرو وذي مر ، وجبار الطائي ، وسعيد بن ذي حدان ، لم يروِ عنهم غير أبي إسحاق السبيعي . ومثل الهزهاز بن ميزان ، لا راوي عنه غير الشعبي . ومثل جري بن كليب ، لم يروِ عنه إلا قتادة .
قلت : قد روي عن الهزهاز الثوري أيضاً .
قال الخطيب : وأقل ما يرتفع به الجهالة أن يروي عن الرجل اثنان من المشهورين بالعلم ، إلا أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه . وهذا مما قدمنا بيانه ، والله أعلم .
قلت : قد خرج البخاري في صحيحه حديث جماعة ليس لهم غير راو واحد ، منهم مرداس الأسلمي ، لم يرو عنه قيس بن أبي حازم . وكذلك خرج مسلم حديث قوم لا راوي لهم غير واحد منهم ربيعة بن كعب الأسلمي ، لم يرو عنه غير أبي سلمة بن عبد الرحمن . وذلك منهما مصّير إلى أن الراوي قد يخرج عن كونه مجهولاً مردوداً برواية واحد عنه . والخلاف في ذلك متجه في التعديل نحو اتجاه الخلاف المعروف في الاكتفاء بواحد في التعديل ، على ما قدمناه ، والله أعلم .
التاسعة : اختلفوا في قبول رواية المبتدع الذي لا يكفر في بدعته :
فمنهم من رد روايته مطلقاً ، لأنه فاسق ببدعته . وكما استوى في الكفر المتأول وغير المتأول يستوي في الفسق المتأول وغير المتأول .
ومنهم من قبل رواية المبتدع إذا لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه ، سواء كان داعية إلى بدعته أو لم يكن . وعزا بعضهم هذا إلى الشافعي ، لقوله : أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة ، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم .
وقال قوم : تقبل روايته إذا لم يكن داعية ، ولا تقبل إذا كان داعية إلى بدعته ، وهذا مذهب الكثير أو الأكثر من العلماء .
وحكى بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه خلافاً بين أصحابه في قبول رواية المبتدع إذا لم يدعُ إلى بدعته ، وقال : أما إذا كان داعية ، فلا خلاف بينهم في عدم قبول روايته .
وقال أبو حاتم بن حبان البستي ، أحد المصنفين من أئمة الحديث : الداعية إلى البدع لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبة ، لا أعلم بينهم فيه خلافاً .
وهذا المذهب الثالث أعدلها وأولاها ، والأول بعيد مُباعد للشائع عن أئمة الحديث ، فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة .
وفي الصحيحين كثير من أحاديثهم في الشواهد والأصول ، والله أعلم .
العاشرة : التائب من الكذب في حديث الناس ، وغيره من أسباب الفسق ، تقبل روايته ، إلا التائب من الكذب متعمداً في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا تقبل روايته أبداً ، وإن حسنت توبته ، على ما ذُكر غير واحد من أهل العلم .
منهم : أحمد بن حنبل وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري .
وأطلق الإمام أبو بكر الصيرفي الشافعي فيما وجدت له في شرحه لرسالة الشافعي ، فقال : كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه ، لم نعد لقبوله بتوبة تظهر ، ومن ضعفنا نقله لم نجعله قويا بعد ذلك .
وذكر أن ذلك مما افترقت فيه الرواية والشهادة ، وذكر الإمام أبو المظفر السمعاني المروزي أن من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه ، وهذا يضاهي من حيث المعنى ما ذكره الصيرفي . والله أعلم .
الحادية عشرة : إذا روى ثقة عن ثقة حديثاً وروجع المروي عنه فنفاه :
فالمختار أنه إن كان جازماً بنفيه بأن قال ما رويته ، أو كذب علي ، أو نحو ذلك ، فقد تعارض الجزمان ، والجاحد هو الأصل ، فوجب رد حديث فرعه ذلك ، ثم لا يكون ذلك جرحاً له يوجب رد باقي حديثه ، لأنه مكذب لشيخه أيضاً في ذلك ، وليس قبول جرح شيخه له بأولى من قبول جرحه لشيخه ، فتساقطا .
أما إذا قال المروي عنه : لا أعرفه ، أو لا أذكره ، أو نحو ذلك ، فذلك لا يوجب رد رواية الراوي عنه ، ومن روى حديثاً ثم نسيه : لم يكن ذلك مسقطاً للعمل به عند جمهور أهل الحديث ، وجمهور الفقهاء ، والمتكلمين .
خلافاً لقوم من أصحاب أبي حنيفة ، صاروا إلى إسقاطه بذلك . وبنوا عليه ردَّهم : حديث سليمان بن موسى ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا نكحت المرأة بغير إذن وليها ، فنكاحها باطل . . . " الحديث . من أجل أن ابن جريج قال : لقيت الزهري ، فسألته عن هذا الحديث فلم يعرفه .
وكذا حديث ربيعة الرأي ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم : قضى بشاهد ويمين ، فإن عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال : لقيت سهيلاً ، فسألته عنه ، فلم يعرفه .
والصحيح ما عليه الجمهور ، لأن المروي عنه بصدد السهو والنسيان ، والراوي عنه ثقة جازم ، فلا يرد بالاحتمال روايته . ولهذا كان سهيل بعد ذلك يقول حدثني ربيعة عني ، عن أبي . . . ويسوق الحديث .
وقد روى كثير من الأكابر أحاديث نسوها بعدما حدثوا بها ، عن من سمعها منهم ، فكان أحدهم يقول : حدثني فلان ، عني ، عن فلان ، بكذا وكذا .
وجمع الحافظ الخطيب ذلك في كتاب أخبار من حدث ونسي .
ولأجل أن الإنسان معرَّض للنسيان ، كره من كره من العلماء الرواية عن الأحياء ، منهم الشافعي رضي الله عنه ، قال لابن عبد الحكم : إياك والرواية عن الأحياء ، والله أعلم .
الثانية عشرة : من أخذ على التحديث أجراً منع ذلك من قبول روايته عند قوم من أئمة الحديث . روينا عن إسحاق بن إبراهيم : أنه سُئل عن المحدث يحدث بالأجر ؟ فقال : لا يكتب عنه . وعن أحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي نحو ذلك .
وترخص أبو نعيم الفضل بن دكين وعلي بن عبد العزيز المكي ، وآخرون ، في أخذ العوض على التحديث . وذلك شبيه بأخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه . غير أن في هذا من حيث العرف خرماً للمروءة ، والظن يساء بفاعله ، إلا أن يقترن ذلك بعذر ينفي ذلك عنه ، كمثل ما حدثنيه الشيخ أبو المظفر ، عن أبيه الحافظ أبي سعيد السمعاني : أن أبا الفضل محمد بن ناصر السلامي ذكر : أن أبا الحسين بن النقور فعل ذلك ، لأن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أفتاه بجواز أخذ الأجرة على التحديث ، لأن أصحاب الحديث كانوا يمنعونه عن الكسب لعياله ، والله أعلم .
الثالثة عشرة : لا تُقبل رواية من عرف بالتساهل في سماع الحديث أو إسماعه ، كمن لا يبالي بالنوم في مجلس السماع ، وكمن يحدث لا من أصل مقابل صحيح . ومن هذا القبيل من عرف بقبول التلقين في الحديث . ولا تقبل رواية من كثرت الشواذ والمناكير في حديثه . جاء عن شعبة أنه قال : لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ .
ولا تقبل رواية من عرف بكثرة السهو في رواياته ، إذا لم يحدث من أصل صحيح .
وكل هذا يخرم الثقة بالراوي وبضبطه .
وورد عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل والحميدي وغيرهم : أن من غلط في حديث وبُين له غلطه ، فلم يرجع عنه وأصرَّ على رواية ذلك الحديث ، سقطت روايته ولم يكتب عنه . وفي هذا نظر ، وهو غير مستنكر إذا ظهر أن ذلك منه على جهة العناد أو نحو ذلك ، والله أعلم .
الرابعة عشرة : أعرض الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بينا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه ، فلم يتقيدوا بها في رواياتهم ، لتعذر الوفاء بذلك على نحو ما تقدم ، وكان عليه من تقدم .
ووجه ذلك : ما قدمناه في أول كتابنا هذا من كون المقصود المحافظة على خصيصة هذه الأمة في الأسانيد ، والمحاذرة من انقطاع سلسلتها . فليعتبر من الشروط المذكورة ما يليق بهذا الغرض على تجرده . وليكتفَ في أهلية الشيخ بكونه : مسلماً ، بالغاً ، عاقلاً ، غير متظاهر بالفسق والسخف ، وفي ضبطه : بوجود سماعه مثبتاً بخط غير مهتم ، وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه .
وقد سبق إلى نحو ما ذكرناه الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي رحمه الله تعالى ، فإنه ذكر فيما روينا عنه توسع من توسع في السماع من بعض محدثي زمانه ، الذين لا يحفظون حديثهم ولا يحسنون قراءته من كتبهم ، ولا يعرفون ما يقرأ عليهم بعد تكون القراءة عليهم من أصل سماعهم .
ووُجِّه ذلك : بأن الأحاديث التي قد صحت ، أو وقعت بين الصحة والسقم ، قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث . ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم ، وإن جاز أن يذهب على بعضهم ، لضمان صاحب الشريعة حفظها .
قال البيهقي : فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه ، ومن جاء بحديث معروف عندهم : فالذي يرويه لا ينفرد بروايته ، والحجة قائمة بحديثه برواية غيره . والقصد من روايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلاً بحدثنا وأخبرنا وتبقى هذه الكرامة التي خُصَّت بها هذه الأمة شرفاً لنبينا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، والله أعلم .
الخامسة عشرة : في بيان الألفاظ المستعملة بين أهل هذا الشأن في الجرح والتعديل . وقد رتبها أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتابه في الجرح والتعديل فأجاد وأحسن . ونحن نرتبها كذلك ، ونورد ما ذكره ، ونضيف إليه ما بلغنا في ذلك عن غيره إن شاء الله تعالى .
أما ألفاظ التعديل فعلى المراتب :
الأولى : قال ابن أبي حاتم : إذا قيل للواحد إنه ثقة ، أو : متقن فهو ممن يحتج بحديثه .
قلت : وكذا إذا قيل ثبت ، أو : حجة . وكذا إذا قيل في العدل إنه حافظ ، أو : ضابط ، والله أعلم .
الثانية : قال ابن أبي حاتم : إذا قيل إنه صدوق ، أو : محله الصدق ، أو لا بأس به ، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه ، وهي المنزلة الثانية .
قلت : هذا كما قال ، لأن هذه العبارات لا تشعر بشريطة الضبط ، فينظر في حديثه ويختبر ، حتى يعرف ضبطه . وقد تقدم بيان طريقه في أول هذا النوع .
وإن لم يستوفِ النظر المعرِّف لكون ذلك المحدث في نفسه ضابطاً مطلقاً ، واحتجنا إلى حديث من حديثه ، اعتبرنا ذلك الحديث ، ونظرنا : هل له أصل من رواية غيره ؟ كما تقدم بيان طريق الاعتبار في النوع الخامس عشر .
ومشهور عن عبد الرحمن بن مهدي القدوة في هذا الشأن أنه حدث ، فقال : حدثنا أبو خلدة ، فقيل له : أكان ثقة ؟ فقال : كان صدوقاً ، وكان مأموناً ، وكان خيراً - وفي رواية : وكان خيارا - الثقة شعبة وسفيان .
ثم إن ذلك مخالف لما ورد عن ابن أبي خيثمة ، قال : قلت ليحيى بن معين إنك تقول : فلان ليس به بأس ، وفلان ضعيف ؟ قال : إذا قلت لك : ليس به بأس فهو ثقة ، وإذا قلت لك : هو ضعيف فليس هو بثقة ، لا تكتب حديثه .
قلت : ليس في هذا حكاية ذلك عن غيره من أهل الحديث ، فإن نسبه إلى نفسه خاصة ، بخلاف ما ذكره ابن أبي حاتم ، والله أعلم .
الثالثة : قال ابن أبي حاتم : إذا قيل شيخ فهو بالمنزلة الثالثة ، يكتب حديثه وينظر فيه ، إلا أنه دون الثانية .
الرابعة : قال : إذا قيل صالح الحديث فإنه يكتب حديثه للاعتبار .
قلت : وقد جاء عن أبي جعفر أحمد بن سنان قال : كان عبد الرحمن بن مهدي ربما جرى ذكر حديث الرجل فيه ضعف ، وهو رجل صدوق ، فيقول : رجل صالح الحديث ، والله أعلم .
وأما ألفاظهم في الجرح فهي أيضاً على مراتب :
أولاها : قولهم لين الحديث . قال ابن أبي حاتم : إذا أجابوا في الرجل بلين الحديث ، فهو ممن يكتب حديثه ، وينظر فيه اعتباراً .
قلت : وسأل حمزة بن يوسف السهمي أبا الحسن الدارقطني الإمام ، فقال له : إذا قلت فلان لين إيش تريد به ؟ قال : لا يكون ساقطاً متروك الحديث ، ولكن مجروحاً بشيء لا يسقط عن العدالة .
الثانية : قال ابن أبي حاتم : إذا قالوا ليس بقوي فهو بمنزلة الأول في كتب حديثه ، إلا أنه دونه .
الثالثة : قال : إذا قالوا ضعيف الحديث فهو دون الثاني ، لا يطرح حديثه ، بل يعتبر به .
الرابعة : قال : إذا قالوا متروك الحديث ، أو ذاهب الحديث ، أو كذاب فهو ساقط الحديث ، لا يكتب حديثه ، وهي المنزلة الرابعة .
قال الخطيب أبو بكر : أرفع العبارات في أحوال الرواة أن يقال حجة ، أو : ثقة . وأدونها أن يقال كذاب ساقط . أخبرنا أبو بكر بن عبد المنعم الصاعدي الفراوي ، قراءة عليه بنيسابور قال : أخبرنا محمد بن إسماعيل الفارسي قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي الحافظ : أخبرنا الحسين بن الفضل : أخبرنا عبد الله بن جعفر : حدثنا يعقوب بن سفيان ، قال : سمعت أحمد بن صالح قال : لا يترك حديث رجل حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه . قد يقال : فلان ضعيف ، فأما أن يقال : فلان متروك ، فلا ؛ إلا أن يجمع الجمع على ترك حديثه .
ومما لم يشرحه ابن أبي حاتم وغيره من الألفاظ المستعملة في هذا الباب قولهم فلان قد روى الناس عنه ، فلان وسط ، فلان مقارب الحديث ، فلان مضطرب الحديث ، فلان لا يحتج به ، فلان مجهول ، فلان لا شيء ، فلان ليس بذاك وربما قيل ليس بذاك القوي ، فلان فيه - أو : في حديثه - ضعف . وهو في الجرح أقل من قولهم فلان ضعيف الحديث ، فلان ما أعلم به بأساً . وهو في التعديل دون قولهم لا بأس به . وما من لفظة منها ومن أشباهها إلا ولها نظير شرحناه ، أو أصل أصلناه ، ننبه إن شاء الله به عليها . والله أعلم .
منقول لتعم الفائدة
أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على : أنه يشترط فيمن يحتج بروايته : أن يكون عدلاً ، ضابطاً لما يرويه . وتفصيله : أن يكون مسلماً ، بالغاً ، عاقلاً ، سالماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة ، متيقظاً غير مغفل ، حافظاً إن حدَّث من حفظه ، ضابطاً لكتابه إن حدَّث من كتابه .
وإن كان يحدث بالمعنى : اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالماً بما يحيل المعاني ، والله أعلم .
ونوضح هذه الجملة بمسائل :
أحدها : عدالة الراوي : تارة تثبت بتنصيص المعدِّلين على عدالته ، وتارة تثبت بالاستفاضة ، فمن اشتهرت عدالته بين أهل النقل أو نحوهم من أهل العلم ، وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة ، استغني فيه بذلك عن بينة شاهدة بعدالته تنصيصاً ، وهذا هو الصحيح في مذهب الشافعي ، وعليه الاعتماد في فن أصول الفقه .
وممن ذكر ذلك من أهل الحديث أبو بكر الخطيب الحافظ ، ومثل ذلك بمالك ، وشعبة ، والسفيانين ، والأوزاعي ، والليث ، وابن المبارك ، ووكيع ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعلي بن المديني ، ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر ، فلا يسأل عن عدالة هؤلاء وأمثالهم ، وإنما يسأل عن عدالة من خفي أمره على الطالبين .
وتوسَّع ابن عبد البر الحافظ في هذا فقال : كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل ، محمول في أمره أبدا على العدالة ، حتى يتبين جرحه . لقوله صلى الله عليه وسلم : " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله " . وفيما قاله اتساع غير مرضي ، والله أعلم .
الثانية : يعرف كون الراوي ضابطاً بأن نعتبر رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان . فإن وجدنا رواياته موافقة - ولو من حيث المعنى - لرواياتهم ، أو موافقة لها في الأغلب والمخالفة نادرة ، عرفنا حينئذ كونه ضابطاً ثبْتاً . وإن وجدناه كثير المخالفة لهم ، عرفنا اختلال ضبطه ، ولم نحتج بحديثه ، والله أعلم .
الثالثة : التعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصحيح المشهور ، لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها ، فإن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول : لم يفعل كذا ، لم يرتكب كذا ، فعل كذا وكذا ، فيعدد جميع ما يفسق بفعله أو بتركه ، وذلك شاق جداً .
وأما الجرح فإنه لا يقبل إلا مفسراً مبين السبب ، لأن الناس يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح ، فيطلق أحدهم الجرح بناء على أمر اعتقده جرحاً وليس بجرح في نفس الأمر ، فلابدَّ من بيان سببه ، لينظر فيما هو جرح أم لا .
وهذا ظاهر مقرر في الفقه وأصوله . وذكر الخطيب الحافظ : أنه مذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده ، مثل : البخاري ، ومسلم ، وغيرهما .
ولذلك احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح لهم ، كعكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما ، وكإسماعيل بن أبي أويس ، وعاصم بن علي ، وعمرو بن مرزوق ، وغيرهم . واحتج مسلم بسويد بن سعيد ، وجماعة اشتهر الطعن فيهم . وهكذا فعل أبو داود السجستاني . وذلك دال على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فسر سببه ، ومذاهب النقاد للرجال غامضة مختلفة .
وعقد الخطيب باباً في بعض أخبار من استفسر في جرحه ، فذكر ما لا يصلح جارحاً .
منها عن شعبة أنه قيل له : لمَ تركت حديث فلان ؟ فقال : رأيته يركض علي برذون ، فتركت حديثه .
ومنها : عن مسلم بن إبراهيم أنه سُئل عن حديث الصالح المري ، فقال : ما يصنع بصالح ؟ ذكروه يوماً عند حماد بن سلمة فامتخط حماد ، والله أعلم .
قلت : ولقائل أن يقول : إنما يعتمد الناس في جرح الرواة ورد حديثهم على الكتب التي صنفها أئمة الحديث في الجرح أو في الجرح والتعديل . وقلَّ ما يتعرضون فيها لبيان السبب ، بل يقتصرون على مجرد قولهم : فلان ضعيف ، وفلان ليس بشيء ، ونحو ذلك . أو : هذا حديث ضعيف ، وهذا حديث غير ثابت ، ونحو ذلك . فاشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك ، وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر .
وجوابه : أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به ، فقد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك ، بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية ، يوجب مثلها التوقف .
ثم من انزاحت عنه الريبة منهم ، ببحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه ولم نتوقف ، كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين وغيرهما ، ممن مسَّهم مثل هذا الجرح من غيرهم . فافهم ذلك ، فإنه مخلص حسن ، والله أعلم .
الرابعة : اختلفوا في أنه : هل يثبت الجرح والتعديل بقول واحد ، أو : لابدَّ من اثنين . فمنهم من قال : لا يثبت ذلك إلاّ باثنين ، كما في الجرح والتعديل في الشهادات . ومنهم من قال - وهو الصحيح الذي اختاره الحافظ أبو بكر الخطيب وغيره - أنه يثبت بواحد ، لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر ، فلم يشترط في جرح راويه وتعديله ، بخلاف الشهادات ، والله أعلم .
الخامسة : إذا اجتمع في شخص جرح وتعديل : فالجرح مقدم ، لأن المعدل يخبر عما ظهر من حاله ، والجارح يخبر عن باطن خفي على المعدل . فإن كان عدد المعدلين أكثر : فقد قيل : التعديل أولى . والصحيح - والذي عليه الجمهور - أن الجرح أولى ، لما ذكرناه ، والله أعلم .
السادسة : لا يجزئ التعديل على الإبهام من غير تسمية المعدل ، فإذا قال : حدثني الثقة ، أو نحو ذلك ، مقتصراً عليه ، لم يكتفَ به ، فيما ذكره الخطيب الحافظ والصيرفي الفقيه وغيرهما . خلافاً لمن اكتفى بذلك . وذلك : لأنه قد يكون ثقة عنده ، وغيره قد اطّلع على جرحه بما هو جارح عنده ، أو بالإجماع ، فيحتاج إلى أن يسميه حتى يعرف . بل إضرابه عن تسميته مريب ، يوقع في القلوب فيه ترددا . فإن كان القائل لذلك عالماً أجزأ ذلك في حق من يوافقه في مذهبه ، على ما اختاره بعض المحققين .
وذكر الخطيب الحافظ : أن العالم إذا قال : كل من رويت عنه فهو ثقة وإن لم أُسمه . ثم روى عن من لم يسمه فإنه يكون مزكياً له ، غير أنا لا نعمل بتزكيته هذه ، وهذا على ما قدمناه ، والله أعلم .
السابعة : إذا روى العدل عن رجل وسماه لم تجعل روايته عنه تعديلاً منه له ، عند أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم .
وقال بعض أهل الحديث وبعض أصحاب الشافعي : يجعل ذلك تعديلاً منه له ، لأن ذلك يتضمن التعديل .
والصحيح هو الأول ، لأنه يجوز أن يروي عن غير عدل فلم يتضمن روايته عنه تعديله . وهكذا نقول : إن عمل العالم ، أو فتياه على وفق حديث ، ليس حكماً منه بصحة ذلك الحديث . وكذلك مخالفته للحديث ليست قدحاً منه في صحته ولا راويه ، والله أعلم .
الثامنة : في رواية المجهول ، وهو في غرضنا ههنا أقسام :
أحدها : المجهول العدالة من حيث الظاهر والباطن جميعاً . وروايته غير مقبولة عند الجماهير ، على ما نبهنا عليه أولاً .
الثاني : المجهول الذي جهلت عدالته الباطنة ، وهو عدل في الظاهر ، وهو المستور فقد قال بعض أئمتنا : المستور من يكون عدلاً في الظاهر ، ولا نعرف عدالة باطنه . فهذا المجهول يحتج بروايته بعض من ردَّ رواية الأول ، وهو قول بعض الشافعيين وبه قطع ، منهم الإمام سليم بن أيوب الرازي . قال : لأن أمر الأخبار مبني على حسن الظن بالراوي . ولأن رواية الأخبار تكون عند من يتعذر عليه معرفة العدالة في الباطن ، فاقتصر فيها على معرفة ذلك في الظاهر . وتفارق الشهادة ، فإنها تكون عند الحكام ، ولا يتعذر عليهم ذلك ، فاعتبر فيها العدالة في الظاهر والباطن .
قلت : ويشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة ، في غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم ، وتعذرت الخبرة الباطنة بهم ، والله أعلم .
الثالث : المجهول العين ، وقد يقبل رواية المجهول العدالة من لا يقبل رواية المجهول العين ، ومن روى عنه عدلان وعيَّناه فقد ارتفعت عنه هذه الجهالة .
ذكر أبو بكر الخطيب البغدادي في أجوبة مسائل سئل عنها : أن المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم تعرفه العلماء ، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد . مثل : عمرو وذي مر ، وجبار الطائي ، وسعيد بن ذي حدان ، لم يروِ عنهم غير أبي إسحاق السبيعي . ومثل الهزهاز بن ميزان ، لا راوي عنه غير الشعبي . ومثل جري بن كليب ، لم يروِ عنه إلا قتادة .
قلت : قد روي عن الهزهاز الثوري أيضاً .
قال الخطيب : وأقل ما يرتفع به الجهالة أن يروي عن الرجل اثنان من المشهورين بالعلم ، إلا أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه . وهذا مما قدمنا بيانه ، والله أعلم .
قلت : قد خرج البخاري في صحيحه حديث جماعة ليس لهم غير راو واحد ، منهم مرداس الأسلمي ، لم يرو عنه قيس بن أبي حازم . وكذلك خرج مسلم حديث قوم لا راوي لهم غير واحد منهم ربيعة بن كعب الأسلمي ، لم يرو عنه غير أبي سلمة بن عبد الرحمن . وذلك منهما مصّير إلى أن الراوي قد يخرج عن كونه مجهولاً مردوداً برواية واحد عنه . والخلاف في ذلك متجه في التعديل نحو اتجاه الخلاف المعروف في الاكتفاء بواحد في التعديل ، على ما قدمناه ، والله أعلم .
التاسعة : اختلفوا في قبول رواية المبتدع الذي لا يكفر في بدعته :
فمنهم من رد روايته مطلقاً ، لأنه فاسق ببدعته . وكما استوى في الكفر المتأول وغير المتأول يستوي في الفسق المتأول وغير المتأول .
ومنهم من قبل رواية المبتدع إذا لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه ، سواء كان داعية إلى بدعته أو لم يكن . وعزا بعضهم هذا إلى الشافعي ، لقوله : أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة ، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم .
وقال قوم : تقبل روايته إذا لم يكن داعية ، ولا تقبل إذا كان داعية إلى بدعته ، وهذا مذهب الكثير أو الأكثر من العلماء .
وحكى بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه خلافاً بين أصحابه في قبول رواية المبتدع إذا لم يدعُ إلى بدعته ، وقال : أما إذا كان داعية ، فلا خلاف بينهم في عدم قبول روايته .
وقال أبو حاتم بن حبان البستي ، أحد المصنفين من أئمة الحديث : الداعية إلى البدع لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبة ، لا أعلم بينهم فيه خلافاً .
وهذا المذهب الثالث أعدلها وأولاها ، والأول بعيد مُباعد للشائع عن أئمة الحديث ، فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة .
وفي الصحيحين كثير من أحاديثهم في الشواهد والأصول ، والله أعلم .
العاشرة : التائب من الكذب في حديث الناس ، وغيره من أسباب الفسق ، تقبل روايته ، إلا التائب من الكذب متعمداً في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا تقبل روايته أبداً ، وإن حسنت توبته ، على ما ذُكر غير واحد من أهل العلم .
منهم : أحمد بن حنبل وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري .
وأطلق الإمام أبو بكر الصيرفي الشافعي فيما وجدت له في شرحه لرسالة الشافعي ، فقال : كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه ، لم نعد لقبوله بتوبة تظهر ، ومن ضعفنا نقله لم نجعله قويا بعد ذلك .
وذكر أن ذلك مما افترقت فيه الرواية والشهادة ، وذكر الإمام أبو المظفر السمعاني المروزي أن من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه ، وهذا يضاهي من حيث المعنى ما ذكره الصيرفي . والله أعلم .
الحادية عشرة : إذا روى ثقة عن ثقة حديثاً وروجع المروي عنه فنفاه :
فالمختار أنه إن كان جازماً بنفيه بأن قال ما رويته ، أو كذب علي ، أو نحو ذلك ، فقد تعارض الجزمان ، والجاحد هو الأصل ، فوجب رد حديث فرعه ذلك ، ثم لا يكون ذلك جرحاً له يوجب رد باقي حديثه ، لأنه مكذب لشيخه أيضاً في ذلك ، وليس قبول جرح شيخه له بأولى من قبول جرحه لشيخه ، فتساقطا .
أما إذا قال المروي عنه : لا أعرفه ، أو لا أذكره ، أو نحو ذلك ، فذلك لا يوجب رد رواية الراوي عنه ، ومن روى حديثاً ثم نسيه : لم يكن ذلك مسقطاً للعمل به عند جمهور أهل الحديث ، وجمهور الفقهاء ، والمتكلمين .
خلافاً لقوم من أصحاب أبي حنيفة ، صاروا إلى إسقاطه بذلك . وبنوا عليه ردَّهم : حديث سليمان بن موسى ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا نكحت المرأة بغير إذن وليها ، فنكاحها باطل . . . " الحديث . من أجل أن ابن جريج قال : لقيت الزهري ، فسألته عن هذا الحديث فلم يعرفه .
وكذا حديث ربيعة الرأي ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم : قضى بشاهد ويمين ، فإن عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال : لقيت سهيلاً ، فسألته عنه ، فلم يعرفه .
والصحيح ما عليه الجمهور ، لأن المروي عنه بصدد السهو والنسيان ، والراوي عنه ثقة جازم ، فلا يرد بالاحتمال روايته . ولهذا كان سهيل بعد ذلك يقول حدثني ربيعة عني ، عن أبي . . . ويسوق الحديث .
وقد روى كثير من الأكابر أحاديث نسوها بعدما حدثوا بها ، عن من سمعها منهم ، فكان أحدهم يقول : حدثني فلان ، عني ، عن فلان ، بكذا وكذا .
وجمع الحافظ الخطيب ذلك في كتاب أخبار من حدث ونسي .
ولأجل أن الإنسان معرَّض للنسيان ، كره من كره من العلماء الرواية عن الأحياء ، منهم الشافعي رضي الله عنه ، قال لابن عبد الحكم : إياك والرواية عن الأحياء ، والله أعلم .
الثانية عشرة : من أخذ على التحديث أجراً منع ذلك من قبول روايته عند قوم من أئمة الحديث . روينا عن إسحاق بن إبراهيم : أنه سُئل عن المحدث يحدث بالأجر ؟ فقال : لا يكتب عنه . وعن أحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي نحو ذلك .
وترخص أبو نعيم الفضل بن دكين وعلي بن عبد العزيز المكي ، وآخرون ، في أخذ العوض على التحديث . وذلك شبيه بأخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه . غير أن في هذا من حيث العرف خرماً للمروءة ، والظن يساء بفاعله ، إلا أن يقترن ذلك بعذر ينفي ذلك عنه ، كمثل ما حدثنيه الشيخ أبو المظفر ، عن أبيه الحافظ أبي سعيد السمعاني : أن أبا الفضل محمد بن ناصر السلامي ذكر : أن أبا الحسين بن النقور فعل ذلك ، لأن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أفتاه بجواز أخذ الأجرة على التحديث ، لأن أصحاب الحديث كانوا يمنعونه عن الكسب لعياله ، والله أعلم .
الثالثة عشرة : لا تُقبل رواية من عرف بالتساهل في سماع الحديث أو إسماعه ، كمن لا يبالي بالنوم في مجلس السماع ، وكمن يحدث لا من أصل مقابل صحيح . ومن هذا القبيل من عرف بقبول التلقين في الحديث . ولا تقبل رواية من كثرت الشواذ والمناكير في حديثه . جاء عن شعبة أنه قال : لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ .
ولا تقبل رواية من عرف بكثرة السهو في رواياته ، إذا لم يحدث من أصل صحيح .
وكل هذا يخرم الثقة بالراوي وبضبطه .
وورد عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل والحميدي وغيرهم : أن من غلط في حديث وبُين له غلطه ، فلم يرجع عنه وأصرَّ على رواية ذلك الحديث ، سقطت روايته ولم يكتب عنه . وفي هذا نظر ، وهو غير مستنكر إذا ظهر أن ذلك منه على جهة العناد أو نحو ذلك ، والله أعلم .
الرابعة عشرة : أعرض الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بينا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه ، فلم يتقيدوا بها في رواياتهم ، لتعذر الوفاء بذلك على نحو ما تقدم ، وكان عليه من تقدم .
ووجه ذلك : ما قدمناه في أول كتابنا هذا من كون المقصود المحافظة على خصيصة هذه الأمة في الأسانيد ، والمحاذرة من انقطاع سلسلتها . فليعتبر من الشروط المذكورة ما يليق بهذا الغرض على تجرده . وليكتفَ في أهلية الشيخ بكونه : مسلماً ، بالغاً ، عاقلاً ، غير متظاهر بالفسق والسخف ، وفي ضبطه : بوجود سماعه مثبتاً بخط غير مهتم ، وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه .
وقد سبق إلى نحو ما ذكرناه الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي رحمه الله تعالى ، فإنه ذكر فيما روينا عنه توسع من توسع في السماع من بعض محدثي زمانه ، الذين لا يحفظون حديثهم ولا يحسنون قراءته من كتبهم ، ولا يعرفون ما يقرأ عليهم بعد تكون القراءة عليهم من أصل سماعهم .
ووُجِّه ذلك : بأن الأحاديث التي قد صحت ، أو وقعت بين الصحة والسقم ، قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث . ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم ، وإن جاز أن يذهب على بعضهم ، لضمان صاحب الشريعة حفظها .
قال البيهقي : فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه ، ومن جاء بحديث معروف عندهم : فالذي يرويه لا ينفرد بروايته ، والحجة قائمة بحديثه برواية غيره . والقصد من روايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلاً بحدثنا وأخبرنا وتبقى هذه الكرامة التي خُصَّت بها هذه الأمة شرفاً لنبينا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، والله أعلم .
الخامسة عشرة : في بيان الألفاظ المستعملة بين أهل هذا الشأن في الجرح والتعديل . وقد رتبها أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتابه في الجرح والتعديل فأجاد وأحسن . ونحن نرتبها كذلك ، ونورد ما ذكره ، ونضيف إليه ما بلغنا في ذلك عن غيره إن شاء الله تعالى .
أما ألفاظ التعديل فعلى المراتب :
الأولى : قال ابن أبي حاتم : إذا قيل للواحد إنه ثقة ، أو : متقن فهو ممن يحتج بحديثه .
قلت : وكذا إذا قيل ثبت ، أو : حجة . وكذا إذا قيل في العدل إنه حافظ ، أو : ضابط ، والله أعلم .
الثانية : قال ابن أبي حاتم : إذا قيل إنه صدوق ، أو : محله الصدق ، أو لا بأس به ، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه ، وهي المنزلة الثانية .
قلت : هذا كما قال ، لأن هذه العبارات لا تشعر بشريطة الضبط ، فينظر في حديثه ويختبر ، حتى يعرف ضبطه . وقد تقدم بيان طريقه في أول هذا النوع .
وإن لم يستوفِ النظر المعرِّف لكون ذلك المحدث في نفسه ضابطاً مطلقاً ، واحتجنا إلى حديث من حديثه ، اعتبرنا ذلك الحديث ، ونظرنا : هل له أصل من رواية غيره ؟ كما تقدم بيان طريق الاعتبار في النوع الخامس عشر .
ومشهور عن عبد الرحمن بن مهدي القدوة في هذا الشأن أنه حدث ، فقال : حدثنا أبو خلدة ، فقيل له : أكان ثقة ؟ فقال : كان صدوقاً ، وكان مأموناً ، وكان خيراً - وفي رواية : وكان خيارا - الثقة شعبة وسفيان .
ثم إن ذلك مخالف لما ورد عن ابن أبي خيثمة ، قال : قلت ليحيى بن معين إنك تقول : فلان ليس به بأس ، وفلان ضعيف ؟ قال : إذا قلت لك : ليس به بأس فهو ثقة ، وإذا قلت لك : هو ضعيف فليس هو بثقة ، لا تكتب حديثه .
قلت : ليس في هذا حكاية ذلك عن غيره من أهل الحديث ، فإن نسبه إلى نفسه خاصة ، بخلاف ما ذكره ابن أبي حاتم ، والله أعلم .
الثالثة : قال ابن أبي حاتم : إذا قيل شيخ فهو بالمنزلة الثالثة ، يكتب حديثه وينظر فيه ، إلا أنه دون الثانية .
الرابعة : قال : إذا قيل صالح الحديث فإنه يكتب حديثه للاعتبار .
قلت : وقد جاء عن أبي جعفر أحمد بن سنان قال : كان عبد الرحمن بن مهدي ربما جرى ذكر حديث الرجل فيه ضعف ، وهو رجل صدوق ، فيقول : رجل صالح الحديث ، والله أعلم .
وأما ألفاظهم في الجرح فهي أيضاً على مراتب :
أولاها : قولهم لين الحديث . قال ابن أبي حاتم : إذا أجابوا في الرجل بلين الحديث ، فهو ممن يكتب حديثه ، وينظر فيه اعتباراً .
قلت : وسأل حمزة بن يوسف السهمي أبا الحسن الدارقطني الإمام ، فقال له : إذا قلت فلان لين إيش تريد به ؟ قال : لا يكون ساقطاً متروك الحديث ، ولكن مجروحاً بشيء لا يسقط عن العدالة .
الثانية : قال ابن أبي حاتم : إذا قالوا ليس بقوي فهو بمنزلة الأول في كتب حديثه ، إلا أنه دونه .
الثالثة : قال : إذا قالوا ضعيف الحديث فهو دون الثاني ، لا يطرح حديثه ، بل يعتبر به .
الرابعة : قال : إذا قالوا متروك الحديث ، أو ذاهب الحديث ، أو كذاب فهو ساقط الحديث ، لا يكتب حديثه ، وهي المنزلة الرابعة .
قال الخطيب أبو بكر : أرفع العبارات في أحوال الرواة أن يقال حجة ، أو : ثقة . وأدونها أن يقال كذاب ساقط . أخبرنا أبو بكر بن عبد المنعم الصاعدي الفراوي ، قراءة عليه بنيسابور قال : أخبرنا محمد بن إسماعيل الفارسي قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي الحافظ : أخبرنا الحسين بن الفضل : أخبرنا عبد الله بن جعفر : حدثنا يعقوب بن سفيان ، قال : سمعت أحمد بن صالح قال : لا يترك حديث رجل حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه . قد يقال : فلان ضعيف ، فأما أن يقال : فلان متروك ، فلا ؛ إلا أن يجمع الجمع على ترك حديثه .
ومما لم يشرحه ابن أبي حاتم وغيره من الألفاظ المستعملة في هذا الباب قولهم فلان قد روى الناس عنه ، فلان وسط ، فلان مقارب الحديث ، فلان مضطرب الحديث ، فلان لا يحتج به ، فلان مجهول ، فلان لا شيء ، فلان ليس بذاك وربما قيل ليس بذاك القوي ، فلان فيه - أو : في حديثه - ضعف . وهو في الجرح أقل من قولهم فلان ضعيف الحديث ، فلان ما أعلم به بأساً . وهو في التعديل دون قولهم لا بأس به . وما من لفظة منها ومن أشباهها إلا ولها نظير شرحناه ، أو أصل أصلناه ، ننبه إن شاء الله به عليها . والله أعلم .
منقول لتعم الفائدة
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع