نصيحة العارف في حرمة المعازف

طباعة الموضوع

منة الله

ظˆظ‡ط°ط§ ط²ظ…ط§ظ† ط§ظ„طµط¨ط±
إنضم
8 نوفمبر 2012
المشاركات
515
النقاط
18
الإقامة
ط*ظٹط« ظٹطھظ„ظ‰ ظƒطھط§ط¨ ط§ظ„ظ„ظ‡
الموقع الالكتروني
www.qoranona.com
احفظ من كتاب الله
ظ†ط³ط£ظ„ ط§ظ„ظ„ظ‡ طھط¹ط§ظ„ظ‰ ط§ظ„ظ‚ط¨ظˆظ„ ظˆط§ظ„ط¥ط®ظ„ط§طµ
احب القراءة برواية
ط¨ط±ظˆط§ظٹط© ظˆط±ط´ ط¹ظ† ظ†ط§ظپط¹ ظ…ظ† ط·ط±ظٹظ‚ ط§ظ„ط£ط²ط±ظ‚
القارئ المفضل
ط§ظ„ط´ظٹط® ط§ظ„ط*طµط±ظٹ
الجنس
ط£ط®طھ
نصيحة العارف في حرمة المعازف
صالح حسين الرقب: المعازف لغة: عَزَفَ يَعْزفُ عَزْفاً من باب ضَرَبَ، وَعَزِيفًا لعب بالمعازف، وهي آلات يضرب بها الواحد، والمَعازِفُ: المَلاهي، واحدها مِعْزَف ومِعْزَفة..والمَعازِف: هي الدُّفُوف وغيرها مما يُضرب.. العازِفُ اللاعِبُ بها والمُغَني وقد عَزَفَ عَزْفاً".(انظر لسان العرب: 9/244، ومختار الصحاح: محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي، تحقيق محمود خاطر، مكتبة لبنان- بيروت-1415ه– 1995م 1/467). والمعَازِف هي الدُّفوف وغَيرها مما يُضْرَب.(النهاية في غريب الحديث والأثر:أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري. تحقيق طاهر أحمد الزاوى - محمود محمد الطناحي. المكتبة العلمية – بيروت- 1399هـ- 1979م،1/457).
المعازف اصطلاحاً: عرَّف الإمام الذهبي المعازف فقال:"المعازف: اسم لكل آلات الملاهي التي يعزف بها، كالمزمار، والطنبور، والشبابة، والصنوج".(سير أعلام النبلاء: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه شعيب الارنؤوط، مؤسسة الرسالة -بيروت- الطبعة التاسعة 1413ه-1993م،21/158) وقال ابن القيم:"وهي آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك".( إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان:ابن قيم الجوزية محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، تحقيق محمد حامد الفقي، دار المعرفة – بيروت- الطبعة الثانية 1395ه- 1975م، 1/260). والمعازف:الملاهي، وقيل هو اسم يجمع العود والطّنبور، وما أشبههما والعزف: اختلاط الأصوات في لهو وطرب.( المخصص:أبو الحسن علي بن إسماعيل الأندلسي المعروف بابن سيده، تحقيق خليل إبراهم جفال، دار إحياء التراث العربي -بيروت- الطبعة الأولى1417هـ 1996م، 4/11).
إذاً المعازف هي آلات الطرب والملاهي، وهي كثيرة، ويمكن حصرها في أربعة أنواع:-
1- آلات القرع أو النقر، وهي الآلات: التي تحدث الصوت عند هزها أو قرعها أو نقرها بمطرقة أو عصا أو بحك بعضها ببعض، ولها أشكال كثيرة، مثل: الطبل، والدف، والأوركسترا، والماريمبا.
2- آلات النفخ، وهي: الآلات التي تحدث الصوت بالنفخ فيها أو في بعض أجزائها، مثل: القانون، والقيثار.
3- الآلات الوترية: وهي الآلات التي تحدث الصوت بوجود حركة احتكاك أو تذبذب، أو تمرير ذهابا وإيابا، أو غيره؛ وينتج ذلك عن شد الأوتار بالأنامل عند العزف عليها، أو بتمرير آلة على قوس من الخيوط الجلدية أو خيوط النايلون أو غيره، أو غير ذلك من الطرق التي تؤدي إلى إحداث صوت مطرب، كالعود، والرباب.
4- آلات العزف الذاتي: وهي التي تحدث الأصوات المطربة والإيقاع الموسيقي بنفسها.
المطلب الأول: الأدلة من السنة في تحريم آلات الطرب والمعازف:

هناك عدة أحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استدلَّ بها أهل العلم في تحريم المعازف وآلات الطرب، وأذكر هنا بعضها:-
الحديث الأول: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم -يعني الفقير- لحاجة فيقولوا ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة"، وهو حديث صحيح لا شك في صحته؛ فقد رواه البخاري في صحيحه تعليقا مجزوما به، أي موصولاً على شرطه، وهو داخل في الصحيح،(صحيح البخاري رقم 5590، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه) والحديث صحيح، وقد وصله ابن حبان في (صحيحه رقم 6574، وقال الشيخ الألباني:صحيح وذكره في سلسلة الصحيحة رقم91، وقال محقق صحيح ابن حبان الشيخ شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح)، ورواه الطبراني في (المعجم الكبير رقم 3339)، وفي مسند الشاميين(1337)، والبيهقي في (السنن الصغرى 4320)، و(السنن الكبرى رقم 6317، و17073، و21516، وانظر الاستقامة، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود - المدينة المنورة- الطبعة الأولى 1403ه،1/294؛ والسلسلة الصحيحة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني رقم 91، وقال الألباني في كتابه تحريم آلات الطرب: قلت:إسناده صحيح متصل ص 41). وقال ابن القيم:"هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه محتجاً به، وعلقه تعليقاً مجزوماً به، فقال: باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه".(إغاثة اللهفان 1/259).
ولقد زعم ابن حزم الظاهري أنَّ الحديث منقطع، انتُصارا منه لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي، بزعم أنَّ البخاري لم يصل سنده به، وبجهالة أبي مالك الأشعري! كما زعم في (المحلى، طباعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع 9/59)، وفي (رسائل ابن حزم، تحقيق إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1980م، 1/434). ومما يؤسف له أن فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي تابع ابن حزم في وهمه، وقال به دون أن يراجع ما يبين له بطلان وهم ابن حزم، وجواب هذا الوهم من وجوه:-
1- إن البخاري قد لقى هشام بن عمار وسمع منه، فإذا قال:"قال هشام" فهو بمنزلة قوله "عن هشام".
2- إنَّه لـو لم يسمع منـه فهو لم يستجز الجزم به عنه إلا وقد صـحَّ عنه أنه حـدث به. وهذا كثيراً مايكون لكثرة من رواه عنه عن ذلك الشيخ وشُهرته. فالبخاري أبعدُ خلق الله من التدليس.
3- إنَّه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجاً به، فلولا صحته عنده لما فعل ذلك.
4- إن البخاري علّقه بصيغة الجزم، دون صيغة التمريض، فإنَّه إذا توقف في الحديث ولم يكن على شرطه يقول:"ويُروى عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ويُذكر عنه". ونحو ذلك: فإذا قال:"قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم" فقد جزم وقطع بإضافته إليه.
5- إنَّا لو أعرضنا عن هذا كله صفحاً، فالحديث صحيح متصل عند غيره. كما بينت سابقا، وكما سيأتي من أقوال أهل العلم الذين ردَّوا على أوهام ابن حزم الظاهري.
6- قال ابن حزم :ولا يصح في هذا الباب شيء، وكل ما فيه فموضوع، ووالله لو أسند جمعية، أو واحد منه فأكثر، من طريق الثقات إلى رسول الله صلي الله عليه وآل وسلم:لما ترددنا في الأخذ به.(المحلى، دار الفكر 9/59(. أقول لابن حزم ومن يأخذ بأقواله في إباحة المعازف، لقد أسند أهل العلم رواية البخاري، وذكروا ما يدلَّ على صحته وصحة غيره من الأحايث في تحريم المعازف، لدرجة أنَّ بعص أهل العلم كفَّر من استحل المعازف. إذا فعلى قول ابن حزم ي يبطل مذهبه في إباحة المعازف والغناء، ويبطل رأي من تابعه لصحة حديث البخاري وغيره من الأحاديث الصحيحة التي احتج بها علماء الأمة في التحريم.
وإذا كان الحديث صحيحاً كغيره من أحاديث صحيح البخاري، فلا يلتفت إلى طعن ابن حزم الظاهري في هذا الحديث، ولقد ردَّ على زعمه غير واحد من أهل العلم ومعظمهم من أهل الحديث، وأذكر هنا أقوال عدد منهم:-
1- العلامة أبو عمرو ابن الصلاح حيث قال:"ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رده ما أخرجه البخاري، من حديث أبي عامر، أو أبي مالك الأشعري، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جواباً عن الاحتجاج به على تحريم المعازف. وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح، والبخاري رحمه الله قد يفعل ذلك، لكون ذلك الحديث معروفا من جهة الثقات عن ذلك الشخص الذي علقه عنه، وقد يفعل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسنداً متصلاً، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع".(مقدمة ابن الصلاح:أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح، تحقيق نور الدين عتر، دار الفكر- سوريا- ودار الفكر المعاصر – بيروت- 1406هـ- 1986م ص67).
2- الإمام ابن قيم الجوزية، قال:"وأمَّا أبو محمد فإنَّه على قدر يبسه وقسوته في التمسك بالظاهر وإلغائه للمعاني والمناسبات والحكم والعلل الشرعية، إنَّما في باب العشق والنظر وسماع الملاهي المحرمة فوسع هذا الباب جداً، وضيق باب المناسبات والمعاني والحكم الشرعية جداً، وهو مع انحرافه في الطرفين حين ردَّ الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه في تحريم آلات اللهو بأنَّه معلَّق غير مسند، وخفي عليه أنَّ البخاري لقي من علقه عنه وسمع منه وهو هشام بن عمار، وخفي عليه أنَّ الحديث قد أسنده غير واحد من أئمة الحديث عن غير هشام بن عمار، فأبطل سنة صحيحة ثابتة عن رسول الله، لا مطعن فيها بوجه".(روضة المحبين ونزهة المشتاقين: أبو عبد الله ابن القيم محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي، دار الكتب العلمية - بيروت- 1412ه- 1992م ص 130)، وقال:"ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئا كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي، وزعم أنه منقطع لأن البخاري لم يصل سنده به. وجواب هذا الوهم من وجوه، فذكر منها:الثالث:أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجا به فلولا صحته عنده لما فعل ذلك..".(إغاثة اللهفان:ابن القيم 1/259) و(انظر تهذيب سنن أبي داود 2/228، تغليق التعليق على صحيح البخاري: أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق سعيد عبد الرحمن موسى القزقي، المكتب الإسلامي, دار عمار – بيروت- عمان- الأردن 5/22، فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر أبو الفضل العسقلاني، دار المعرفة – بيروت- 1379ه 10/52).
3- العلامة ابن حجر العسقلاني، قال:"زعم بن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف وأخطأ في ذلك من وجوه والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح والبخاري، قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندا متصلا، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع".(فتح الباري شرح صحيح البخاري 10/52).
3- الحافظ ابن عبد الهادي، قال في ابن حزم:"وهو كثير الوهم في الكلام على تصحيح الحديث وتضعيفه وعلى أحوال الرواة".(طبقات علماء الحديث 2/349).
4- ابن حجر الهيتمي قال:"قد حكيت آراء باطلة وآراء ضعيفة مخالفة للاتفاق المذكور: منها: قول ابن حزم لم يصح في تحريم العود حديث، وقد سمعه ابن عمر وابن جعفر رضي الله عنهم، وهو من جموده على ظاهريته الشنيعة القبيحة، كيف والعود من جملة المعازف؟ وقد صح في تحريمها الحديث المذكور آنفا، وما زعمه عن هذين الإمامين ممنوع، ولا يثبت ذلك عنهما، وحاشاهما من ذلك مع شدة ورعهما وتحريمهما واتباعهما وبعدهما من اللهو".(الزواجر عن اقتراف الكبائر:أحمد بن محمد بن على بن حجر الهيتمي، دراسة وتحقيق أحمد عبد الشافي، دار الفكر 2/337).
5- الحافظ ابن رجب الحنبلي، قال:"هكذا ذكره البخاري في كتابه بصيغة التعليق المجزوم به والأقرب أنه مسند، فإن هشام بن عمار أحد شيوخ البخاري، وقد قيل إن البخاري إذا قال في صحيحه قال فلان ولم يصرح بروايته عنه وكان قد سمع منه فإنه يكون قد أخذه عنه عرضا أو مناولة أو مذاكرة، وهذا كله لا يخرجه عن أن يكون مسندا والله أعلم".(نزهة الأسماع في مسألة السماع:عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، تحقيق وليد عبد الرحمن الفريان، دار طيبة – الرياض- الطبعة الأولى 1407ه-1986م ص 39-40).
6- محمد أنور شاه ابن معظم شاه الكشميري الهندي، قال:"قال ابن حزم:إن في البخاري تعليقاً والسند معنعن، والحال أن المحدثين أوصلوه وأثبتوا السماع.. واعلم أن المعازف ما يضرب بالفم، والملاهي ما يضرب بالأيدي، وذهب جمهور الأئمة وأهل المذاهب الأربعة إلى التحريم واستثنوا الطبل والدهل للتسحير أو الوليمة أو لغرض صحيح آخر".(العرف الشذي شرح سنن الترمذي: محمد أنور شاه ابن معظم شاه الكشميري الهندي، المحقق محمود أحمد شاكر، المدقق مؤسسة ضحى للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 3/241).
7- قال الإمام السخاوي: لا تصغ لابن حزم فقد صححه ابن حبان وغيره من الأئمة".(فتح المغيث شرح ألفية الحديث:الإمام محمد بن عبد الرحمن السخاوي، دار الكتب العلمية – لبنان- الطبعة الأولى 1403ه، 1/56-57).
8- قال الحافظ ابن كثير:"وأنكر ابن الصلاح على أبن حزم رده حديث الملاهي حيث قال فيه البخاري: وقال هشام بن عمار، وقال: أخطأ ابن حزم من وجوه، فإنه ثابت من حديث هشام بن عمار. قلت":وقد رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه وخرجه البرقاني في صحيحه، وغير واحد، مسنداً متصلاً إلى هشام بن عمار وشيخه أيضاً، كما بيناه في كتاب "الأحكام" ولله الحمد".(الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث: أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الشافعي ص 4).
9- قال سراج الدين عمر بن علي الأنصاري:"ولا التفات إلى ابن حزم الظاهري في رده حديث البخاري في المعازف والحرير والحر بالانقطاع فإنه أخطأ من وجوه والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكون الحديث معروفا من جهة الثقات عن ذلك الشخص الذي علقه عنه".(المقنع في علوم الحديث: سراج الدين عمر بن علي بن أحمد الأنصاري، تحقيق عبد الله بن يوسف الجديع، دار فواز للنشر –السعودية- الطبعة الأولى، 1413هـ، ص150).
10- قال الحافظ العراقي:"إن هذا الحديث حكمه الاتصال؛لأن هشام بن عمار من شيوخ البخاري حدَّث عنه بأحاديث...والحديث متصل من طرق: من طريق هشام وغيره".(شرح التبصرة والتذكرة:الحافظ العراقي، تحقيق د. ماهر ياسين الفحل ص 45).
11- قال العلامة النظار محمد بن إبراهيم الوزير:"والصحيح صحة الحديث أي حديث هشام بن عمار بلا ريب، لما عرفت من ثبوت اتصاله".(توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار: محمد بن إسماعيل الأمير الحسني الصنعاني، دراسة وتحقيق أبو عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة، دار الكتب العلمية, بيروت- لبنان الطبعة الأولى1417هـ-1997م 1/135).
12- قال محمد بن إبراهيم بن جماعة:"وقد خطىء ابن حزم الظاهري في رده حديث أبي مالك الأشعري في المعازف لقول البخاري فيه قال هشام بن عمار وساق السند وزعمه أنه منقطع بين البخاري وهشام فإن الحديث معروف الاتصال بشرط الصحيح".(المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي: محمد بن إبراهيم بن جماعة، تحقيق د. محيي الدين عبد الرحمن رمضان، دار الفكر – دمشق- الطبعة الثانية 1406ه، ص 49).
وفي هذا الحديث الشريف دليل على تحريم آلات العزف والطرب من وجهين:-
أولهما: قوله صلى الله عليه وسلم:"يستحلون"، فإنَّه صريح بأنَّ المذكورات في هذا الحديث، ومنها المعازف هي في الشرع محرمة، فيستحلها أولئك الأقوام من أمته صلى الله عليه وسلم. ومعنى يستحلونها: يعلمون حرمتها ومع ذلك يكابرون فيستحلونها أي يفعلونها فعل المستحل لها فلا ينكرونها ولا يدعونها. قال العلامة الشيخ علي القاري:"والمعنى: يعدُّون هذه الأشياء حلالات بإيراد شبهات وأدلة واهيات".(مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: الملا على القاري، باب البكاء والخوف، تحقيق جمال عيتاني، دار الكتب العلمية 5/106).
وإنَّا اليوم لنجد من يكابر فيستحلّ الربا باسم الفائدة، ويحلّ شرب الخمور، ويرى أنَّها من ضرورات العصر والحضارة. ولخطورة استحلال ما حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكون خبر البخاري حجة في التحريم فقد ذهب كل من القاضي عياض والأمير الصنعاني إلى تكفير من استحلَّ المعازف.(كتاب الفروع ومعه تصحيح الفروع لعلاء الدين علي بن سليمان المرداوي: محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1424هـ-2003م، 11/349)، وقال الأمير الصنعاني:"قوله يستحلون بمعنى يجعلون الحرام حلالاً...فإن من استحل محرماً أي اعتقد حله فإنَّه قد كذب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخبر أنَّه حرام، فقوله بحلِّه رد لكلامه وتكذيب، وتكذيبه كفر، فلا بد من تأويل الحديث بأنه أراد أنه من الأمة قبل الاستحلال، فإذا استحل خرج عن مسمى الأمة".(سبل السلام شرح بلوغ المرام: محمد بن إسماعيل الصنعاني، دار إحياء التراث العربي -بيروت- الطبعة الرابعة 1379هـ، 3/33). نسأل الله تعالى العفو والعافية.
ثانيا: ذكر المعازف مقرونة مع محرمات أخرى معروف أنَّها محرمة مقطوع بحرمتها لا يشك في حرمتها أي مسلم، وهي: الزنا، والخمر ولبس الحرير للرجال، ولو لم تكن محرمة لما قرنها معها.(السلسلة الصحيحة للألباني- بتصرف- 1/140-141)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"فدلَّ هذا الحديث على تحريم المعازف، والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة، وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها.(مجموع الفتاوى:ابن تيمية، تحقيق أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، الطبعة الثالثة 1426هـ-2005م 11/535).
ومن العجيب أنَّ من رخَّص في المعازف - كابن حزم ومن سلك مذهبه من المعاصرين- زعم أنَّها حرام لو قرنت بما ذكر في الحديث، أي اجتمعت معهن، قلت: هذا تأويل بارد مضحك، فكلٌّ من الزنا، والخمر ولبس الحرير للرجال، محرَّمة اجتمعت مع غيرها أو انفردت لوحدها، فلما يقال هذا فقط في المعازف؟!!. ومن قال إنَّ المحرم هو الجمع بين المذكورات في الحديث فقط يلزم منه أنَّ الزنا المصرَّح به في الحديث لا يحرم إلا عند شرب الخمر واستعمال المعازف، وأن الخمر لا يحرم إلا عند الزنا واستعمال المعازف، وهذا باطل بالإجماع. فمن القواعد الاصوليه
(الجمع بين الاشياء فى الوعيد يدل على تحريم كل منهما بمفردهما، أو لا يجمع بين محرم ومباح فى الوعيد). ورحم الله العلامة ابن عابدين فقد قال فى كتابه(نسمات الاحرار):"لا يضم مباح الى حرام فى الوعيد".
وصدق ابن قيم الجوزية بقوله:"ووجه الدلالة منه أنَّ المعازف هي آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك، ولو كانت حلالاً لما ذمَّهم على استحلالها، ولَمَا قرن استحلالها باستحلال الخمر والحِرَ".(إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان:ابن قيم الجوزية 1/256). وقال ابن رجب الحنبلي:أكثر العلماء على تحريم سماع آلآت الملاهي كلها، وكل منها محرم بانفراده، وقد حكى أبو بكر الآجري وغيره إجماع العلماء على ذلك.(نزهة الأسماع في مسألة السماع: عبد الرحمن بن رجب الحنبلي ص 25).
الحديث الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم:"صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة"؛ وهو حديث صحيح أخرجه البزار كما في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الفكر-بيروت- 1412ه 3/13) قال الهيثمى: رجاله ثقات، ورواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي المشهور بالضياء المقدسي في الأحاديث المختارة، قال المحقق:عبد الملك بن عبد الله بن دهيش: إسناده حسن.(الأحاديث المختارة:الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد الحنبلي المقدسي المشهور بالضياء المقدسي، تحقيق عبد الملك بن عبد الله بن دهيش مكتبة النهضة الحديثة-مكة المكرمة-1410ه، الطبعة الأولى،2/477، الترغيب والترهيب من الحديث الشريف:عبد العظيم بن عبد القوي المنذري أبو محمد، تحقيق إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية – بيروت- الطبعة الأولى 1417ه، رقم 5353، 4/184، وجاء فيه: رواه البزار ورواته ثقات). ورواه صاحب صحيح الترغيب والترهيب: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف – الرياض- الطبعة الخامسة، رقم 3527، 3/210، وقال الألباني:حسن) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:"هذا الحديث من أجود ما يحتج به على تحريم الغناء، كما في اللفظ المشهور عن جابر بن عبد الله:"صوت عند نعمة: لهو ولعب، ومزامير الشيطان". فنهى عن الصوت الذي يفعل عند النعمة، كما نهى عن الصوت الذي يفعل عند المصيبة...".(الاستقامة: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود -المدينة المنورة- الطبعة الأولى 1403ه 1/292). ورنَّة الشيطان هي: الصوت الحزين.
وفي رواية الترمذي من حديث ابن أبي ليلى عن عطاء عن جابر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مع عبدالرحمن بن عوف إلى النخل فإذا ابنه ابراهيم يجود بنفسه فوضعه في حجره ففاضت عيناه فقال عبدالرحمن:أتبكي وأنت تنهى الناس قال :إني لم أنه عن البكاء وإنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة: لهو ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة:خمش وجوه وشق جيوب ورنة، وهذا هو رحمة ومن لا يرحم لا يرحم لولا أنه أمر حق ووعد صدق وأن آخرنا سيلحق أولنا لحزنا عليك حزنا هو أشد من هذا، وإنا بك لمحزونون تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب".(سنن الترمذي رقم 1005 في الرخصة في البكاء على الميت). قال الترمذي:هذا حديث حسن، وأقرَّه الزيلعي على ذلك في (نصب الراية لأحاديث الهداية مع حاشيته بغية الألمعي في تخريج الزيلعي:جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد الزيلعي، صححه ووضع الحاشية عبد العزيز الديوبندي الفنجاني، إلى كتاب الحج، ثم أكملها محمد يوسف الكاملفوري، تحقيق محمد عوامة، مؤسسة الريان للطباعة والنشر - بيروت- ودار القبلة للثقافة الإسلامية -جدة- الطبعة الأولى، 1418ه-1997 4/84). وأخرجه الحاكم في المستدرك 4/43، والبيهقي في السنن الكبرى 4/69، والطيالسي في المسند رقم 1683، والطحاوي في شرح المعاني 4/29، وحسَّنه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. يقول ابن قيِّم الجوزية:"فانظر إلى هذا النهي المؤكد بتسميته صوت الغناء صوتا أحمق، ولم يقتصر على ذلك حتى وصفه بالفجور، ولم يقتصر على ذلك حتى سماه من مزامير الشيطان، وقد أقر النبي النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق على تسمية الغناء مزمور الشيطان في الحديث الصحيح كما سيأتي، فإن لم يستفد التحريم من هذا لم نستفده من نهي أبدا".(إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان:ابن قيم الجوزية 1/255).
الحديث الثالث: عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الله عز وجل حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء، وكل مسكر حرام".(رواه احمد في المسند رقم 2347، 2476، 6303، 6478، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح، علي بن بذيمة ثقة روى له أصحاب السنن، وقيس بن حبتر روى له أبو داود، وهو ثقة، وباقي رجال السند ثقات رجال الشيخين، وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند في موضعين 4/158-218، وأبو داود رقم 3696، (7) باب في الأَوْعِيَةِ، 3/331، وقال الألباني: صحيح، ورواه البيهقي في سننه الكبرى رقم 20780،10/221، ورواه ابن حبان عن ابن عباس بلفظ:"إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا حَرَّمَ عَلَيَّ، أَوْ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْكُوبَةَ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" قَالَ سُفْيَانُ: قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ: مَا الْكُوبَةُ؟ قَالَ: الطَّبْلُ.(صحيح ابن حبان رقم 5365،12/187، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة – بيروت-الطبعة الثانية، 1414ه– 1993م، قال شعيب الأرنؤوط:إسناده جيد. وصححه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في المشكاة رقم 4503، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 1708. وقال المحقق لكتاب جامع الأصول في أحاديث الرسول: أيمن صالح شعبان: صحيح، طبعة دار الكتب العلمية،5/149). والكوبة من آلات العزف والطرب، وهي:الطبل.
الحديث الرابع: حديث عائشة رضي الله عنها لما دخل عليها أبوها رضي الله عنه في أيام العيد وعندها جاريتان تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، فقال أبو بكر رضي الله عنه:" أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله معرضاً بوجهه عنهما مقبلاً بوجهه الكريم إلى الحائط".(رواه البخاري رقم 909، ورقم 952،13، كتاب العيدين، باب سنة العيدين لأهل الإسلام، ومسلم رقم892، كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد). قال بعض العلماء أنَّ أبا بكر رضي الله عنه ما كان ليزجر أحداً أو ينكر عليه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه ظنَّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منتبه لما يحصل، والله أعلم، فقال:"دعهما يا أبا بكر فإنَّ لكل قوم عيداً وهذا عيدنا أهل الإسلام". ففي هذا الحديث بيان أنَّ هذا لم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الاجتماع عليه، ولهذا سماه الصديق مزمار الشيطان، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ هذه التسمية ولم يبطلها،(سير أعلام النبلاء 11/431-432)، حيث إنَّه قال:"دعهما فإنَّ لكل قوم عيداً وهذا عيدنا"، فذكر أنَّ السبب في إباحته هو كون الوقت عيداً، فيفهم من ذلك أنَّ التحريم باق في غير العيد إلا ما استثني من عرس في أحاديث أخرى.
يقول ابن قيم الجوزية:"لم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر تسمية الغناء مزمار الشيطان وأقرهما لأنهما جاريتان غير مكلفتين تغنيان بغناء الأعراب الذي قيل في يوم حرب بعاث من الشجاعة والحرب وكان اليوم يوم عيد فتوسع حزب الشيطان في ذلك".(إغاثة اللهفان:ابن قيم الجوزية 1/257). وقال ابن القيم أيضا:"وأعجب من هذا استدلالكم على إباحة السماع المركب مما ذكرنا من الهيئة الاجتماعية بغناء بنتين صغيرتين دون البلوغ عند امرأة صبية في يوم عيد وفرح بأبيات من أبيات العرب في وصف الشجاعة والحروب ومكارم الأخلاق والشيم، فأين هذا من هذا، والعجيب أن هذا الحديث من أكبر الحجج عليهم، فإن الصديق الأكبر رضي الله عنه سمى ذلك مزمورا من مزامير الشيطان، وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه التسمية، ورخص فيه لجويريتين غير مكلفتين ولا مفسدة في إنشادهما ولاستماعهما، أفيدلُّ هذا على إباحة ما تعملونه وتعلمونه من السماع المشتمل على ما لا يخفى؟! فسبحان الله كيف ضلت العقول والأفهام".(مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين: محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي –بيروت- الطبعة الثانية 1393ه– 1973م،1/ 493).
وقال أبو العباس القرطبي معقبا على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه:"أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم":(إنكارٌ منه لما سمع، مستصحباً لما كان تقرر عنده من تحريم اللهو والغناء جملة؛ حتى ظنَّ أنَّ هذا من قبيل ما يُنكر، فبادر إلى ذلك...وعند ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"دعهما"، ثم علَّل الإباحة بأنَّه يوم عيد؛ يعني أنَّه يوم سرور وفرح شرعي، فلا ينكر فيه مثل هذا).(المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 2/534). وقال أبو الطيب الطبري:"هذا الحديث حجتنا لأن أبا بكر سمى ذلك مزمور الشيطان ولم ينكر النبي على أبي بكر قوله وإنما منعه من التغليط في الإنكار لحسن رفعته ولا سيما في يوم العيد، وقد كانت عائشة رضي الله عنها صغيرة في ذلك الوقت ولم ينقل عنها بعد بلوغها وتحصيلها إلا ذم الغناء، وقد كان ابن أخيها القاسم بن محمد يذم الغناء، ويمنع من سماعه، وقد أخذ العلم عنها".( تلبيس إبليس: عبد الرحمن بن علي بن محمد أبو الفرج، تحقيق د. السيد الجميلي، دار الكتاب العربي – بيروت- الطبعة الأولى 1405ه– 1985م، ص 292).
وقال ابن رجب: والرخصة في اللهو عند العرس تدل على النهي عنه في غير العرس ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة المتفق عليه في الصحيحين لما دخل عليها وعندها جاريتان...فلم يُنكر قول أبي بكر (يعني مزمور الشيطان) وإنما علل بكونه في يوم عيد، فدلَّ على أنَّه في أيام السرور كأيام العيد وأيام الأفراح كالأعراس وقدوم الغيّاب (يباح فيها) مالا يباح في غيرها من اللهو وإنما كانت دفوفهم نحو الغرابيل وغناؤهم إنشاد أشعار الجاهلية في أيام حروبهم. وما أشبه ذلك. فمن قاس على ذلك سماع أشعار الغزل مع الدفوف المصلصلة فقد أخطأ غاية الخطأ وقاس مع ظهور الفرق بين الفرع والأصل".(نزهة الأسماع ص 40-41)
وقد فصَّل ذلك الشيخ الألباني في كتابه (تحريم آلات الطرب ص117)، ومما قال: فالنبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ غناء الجواري في الأعياد كما في الحديث:"ليعلم المشركون أن في ديننا فسحة"، وليس في حديث الجاريتين أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى ذلك. فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سامعاً، ولم يكن مستمعاً، ومعلوم أن ثمّة فرق بين السماع والاستماع. فالسماع: هو أن ينفذ إلى سمع الإنسان شيء من غير اختياره ومن غير إنصات. فإنَّ الله عز وجل قد حرّم الغيبة والنميمة وحرّم الاستماع إليها، والجلوس عند من يخوض في كلام الله عز وجل استهزاءاً، وقد ينفذ إلى مسَامِعِهِ شيء من الحرام ولا يأثم بذلك. وهذا نظير المُحرم حينما يأتي إليه من رائحة الطيب مما لا يتعمّده شمّاً، ولا يلحق في ملابسه فليس عليه شيء. ويقول ابن قدامة رحمه الله:"المحرم استماعها دون سماعها ، والاستماع غير السماع"(المغني 23/183). وقال الحافظ ابن حجر:"واستدل جماعة من الصوفية بحديث الباب ‏(‏يعني حديث غناء الجاريتين‏)‏ على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة، ويكفي في ردِّ ذلك تصريح عائشة في الحديث الذي في الباب بعده بقولها‏:‏(‏وليستا بمغنيتين‏)‏ فنفت عنهما بطريق المعنى ما أثبته لهما اللفظ، لأنَّ الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه الأعراب النَّصْب، وعلى الحداء ولا يسمى فاعله مغنيا‏.‏ وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح، قال القرطبي‏:‏ قولها ‏(‏ليستا بمغنيتين‏)‏ أي ليستا ممن يعرف بالغناء كما يعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرز من الغناء المعتاد عند المشتهرين به، وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن...إلى أن قال‏:‏"وأما التفافه صلى الله عليه وسلم بثوبه ففيه إعراض عن ذلك لكون مقامه يقتضي أن يرتفع عن الإصغاء إلى ذلك لكن عدم إنكاره دال على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذي أقره إذ لا يقر على باطل، والأصل التنزه عن اللعب واللهو، فيقتصر على ما ورد فيه النص وقتا وكيفية تقليلا لمخالفة الأصل والله أعلم‏.‏"(فتح الباري شرح صحيح البخاري:ابن حجر العسقلاني، دار المعرفة – بيروت- 1379ه 23/442-443‏).
الحديث الخامس: عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشربنَّ ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها ويضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير".(أخرجه ابن ماجه 2/1333، رقم 4020، وقال الشيخ الألباني في صحيح ابن ماجة:صحيح، كما أخرجه في سلسلة الأحدايث الصحيحة رقم 90 وقال: صحيح). وفي رواية:عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ِفي هَذِهِ الأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَتَى ذَاكَ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِذَا ظَهَرَتْ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتْ الْخُمُور".(رواه الترمذي في الفتن باب ما جاء في علامة حلول المسخ والقذف رقم 2138) وابن أبي الدنيا وغيرهم، وصحَّحه الألباني في صحيح الترمذي رقم 1776، وذكره في سلسلة الصحيحة رقم 1604).
الحديث السادس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سيكون في آخر الزمان خسف وقذف ومسخ، إذا ظهرتِ المعازف والقيناتُ، واستحلتِ الخمر". صحيح الجامع الصغير وزيادته(الفتح الكبير)، رقم 3665، الطبعة المجددة والمزيدة والمنقحة: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي- بيروت-1408هـ،1/177، قال الشيخ الألباني: صحيح، والطبراني في المعجم الكبير رقم 5810. وصحَّحَهُ صاحب كتاب صحيح كنوز السنة النبوية: بارع عرفان توفيق، نشرت في مكتبة مشكاة الإسلامية، ضمن موقعها في الشبكة العنكبوتية).
الحديث السابع:عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس"، وروي أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الجرس مزامير الشيطان".(صحيح مسلم الأول رقم2113، والثاني رقم 2114، باب كراهة الكلب والجرس في السفر، كتاب، ورواه أحمد في المسند رقم 8851، وأبو داود في سننه رقم 2556، وابن حبان في صحيحه رقم 4704). ووجه الاستدلال بالحديث في تحريم المعازف أن الجرس عبارة عن سطل صغير فيه قطعة حديد يحدث أصواتاً عند تحريك السطل بفعل حركة الدابة أو غيرها، فإذا كان هذا في مثل الجرس ممنوع، فمن كان أشد من الجرس في الإطراب صار أشد في المنع، (شرح مختصر الخرقي:أبو القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله الخرقي، شرح عبد الكريم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن حمد الخضير 6/2). ومن هنا نفهم لماذا سمى أبو بكر الصديق رضي الله عنه الغناء مزمار الشيطان وهو بلا آلة موسيقية، فكيف إذا كان بمعزفة من المعازف؟!
الحديث الثامن: ومن الآثار الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم في بيان تحريم ذلك: قصة نافع مولى ابن عمر رضي الله عنه، قال:"سمع ابن عمر مزماراً، قال: فوضع إصبعيه على أذنيه، ونأى عن الطريق، وقال لي: يا نافع هل تسمع شيئاً؟ قال: فقلت: لا، قال: فرفع إصبعيه من أذنيه، وقال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا، فصنع مثل هذا".(أخرجه مسلم رقم 6295 و6296، والبيهقي في سننه الكبرى رقم 20786، 10/222). قال محمد بن المنكدر:"بلغني أن الله تعالى يقول يوم القيامة أين الذين كانوا يُنزِّهون أسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؟ أَدْخِلوهم في رِياض المسك، ثم يقول للملائكة أسْمِعوهم حمدي، وأخبِروهم أنْ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون".(جامع الأصول من أحاديث الرسول: ابن الأثير 8/6225).
وقد ظنَّ البعض أنَّ هذا الحديث ليس دليلاً على التحريم؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن يسد أذنيه، ولأنَّ ابن عمر لم يأمر نافعاً بسد أذنيه كذلك! والجواب عن ذلك:أنَّ عبد الله بن عمر لم يكن يستمع، وإنما كان يسمع، وهناك فرق بين السامع والمستمع، قال شيخ الإسلام بن تيمية:"أمَّا ما لم يقصده الإنسان من الاستماع فلا يترتب عليه نهي ولا ذم باتفاق الأئمة، ولهذا إنما يترتب الذم والمدح على الاستماع لا السماع، فالمستمع للقرآن يثاب عليه، والسامع له من غير قصد ولا إرادة لا يثاب على ذلك، إذ الأعمال بالنيات، وكذلك ما ينهى عنه من الملاهي، لو سمعه بدون قصد لم يضره ذلك".(مجموع الفتاوى:ابن تيمية 10/78).
وقال ابن قدامة المقدسي:"والمستمع هو الذي يقصد السماع، ولم يوجد هذا من ابن عمر رضي الله عنهما، وإنَّما وجد منه السماع، ولأنَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم حاجة إلى معرفة انقطاع الصوت عنه؛ لأنَّه عدل عن الطريق، وسدَّ أذنيه، فلم يكن ليرجع إلى الطريق، ولا يرفع إصبعيه عن أذنيه حتى ينقطع الصوت عنه، فأبيح للحاجة.(المغني:ابن قدامة المقدسي 10/173). وعلق على هذا الحديث الإمام القرطبي قائلا:"قال علماؤنا:إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج عن الاعتدال، فكيف بغناء أهل هذا الزمان وزمرهم!؟(الجامع لأحكام القرآن:أبو عبد الله القرطبي، تحقيق أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية – القاهرة- الطبعة الثانية 1384هـ- 1964م 10/291). وجاء في رسالة في السماع والرقص لابن محمد المنجي الحنبلي رحمه الله:"والأمر والنهى إنما يتعلق بالاستماع لا بمجرد السماع، كما في الرؤية، فإنه يتعلق بقصد الرؤية لأنها يحصل منها بغير الاختيار، وكذلك في اشتمام الطيب إنما يُنهى المُحْرِم عن قصد الشم...وكذلك في مباشرة المحرمات كالحواس الخمس من السمع والبصر والشم والذوق واللمس، إنما يتعلق الأمر والنهي في ذلك بما للعبد فيه قصد وعمل...".(عون المعبود شرح سنن أبي داود: محمد شمس الحق العظيم آبادي أبو الطيب، دار الكتب العلمية –بيروت- الطبعة الثانية 1415ه، 4/435). وقال الملا على القاري:"وفي شرح السنة اتفقوا على تحريم المزامير والملاهي والمعازف، وكان الذي سمع ابن عمر صفارة الرعاة.. وقد رخَّص بعضهم في صفارة الرعاة"، ثم قال:"والغناء بآلات مطربة هو من شعار شاربي الخمر، كالعود والطنبور والصنج والمعازف وسائر الأوتار حرام، وكذا سماعه حرام".(مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح:الملا على القاري، 14/78-79).
المطلب الثاني: ذكر الإجماع على تحريم المعازف:

إذا كان قد أفتى بإباحة المزامير عالم أو عالمان، أو ثلاثة؛ فليعلم أنَّ قولهم مخالف للإجماع في حرمة سماع الآلات الموسيقية، ومنهم الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله، وغيرهم من الأئمة الأعلام الذين يرون تحريمها. والإجماع ثابت في تحريم المعازف عن عشرين من أهل العلم في كل عصر ومصر. وأذكر هنا أقوال طائفة من أهل العلم ممن رووا الإجماع في حرمة سماع الآلات الموسيقية، ليستبين المسلم الحلال من الحرام، وليبتعد عن الأقوال الشاذة المخالفة للإجماع. ومن هؤلاء العلماء ممن رووا الإجماع:-
1- أبو عمر يوسف ابن عبد البر: قال:"من المكاسب المجمع على تحريمها الربا ومهور البغايا والسحت والرشا، وأخذا الأجرة على النياحة والغناء وعلى الكهانة، وادعاء الغيب وأخبار السماء، وعلى الزمر، واللعب الباطل كله.(الكافي في فقه أهل المدينة المالكي:أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر القرطبي، تحقيق محمد محمد أحيد ولد ماديك الموريتاني، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1400هـ/1980م،1/444).
2- نقل ابن مفلح عن القاضي عياض أنه ذكر الإجماع على كفر مستحل الغناء.(كتاب الفروع ومعه تصحيح الفروع لعلاء الدين علي بن سليمان المرداوي، 11/349).
3- قال الإمام الطبري:قال في تفسيره:" وسماع الغناء مما هو مستقبح في أهل الدين"( جامع البيان في تأويل القرآن: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، تحقيق أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1420هـ- 2000م،19/315)، وقال فيما نقل عنه:"فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه".(تفسير القرطبي 14/56). وقال في كتابه تهذيب الآثار:"فمعلوم أن ما ذكرت من الطنابير والعيدان والمزامير، وما أشبه ذلك من الأشياء التي يعصى الله باللهو بها، أولى وألزم للمرء المسلم تغييرها عن هيئتها المكروهة التي يعصى الله بها، إذ كان فيها الأسباب التي توجب للاهي بها سخط الله وغضبه، من تغيير التماثيل التي هي أصنام لا شيء فيها إلا ما يحدثه أهل الكفر في أنفسهم من الكفر بالله بسجودهم لها، وتعظيمهم إياها، عن هيئتها بكسرها، إذا أمن على نفسه من أن تنال بما لا قبل لها به. وبنحو الذي قلنا في ذلك وردت الآثار عن السلف الماضين من علماء الأمة، وعمل به التابعون لهم بإحسان...ثم روى الكبري أثراً فقال:حدثنا ابن بشار، قال:حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان ،عن منصور، عن إبراهيم:"كان أصحاب عبد الله (يقصد عبد الله بن مسعود) يستقبلون الجواري معهن الدفوف في الطرق فيخرقونها".(تهذيب الآثار:أبو جعفر بن جرير الطبري- مسند علي- رقم 1636-1637، تحقيق العلامة محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي – القاهرة-. وانظر الأثر مصنف ابن أبي شيبة:أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي الكوفي، تحقيق محمد عوامة، طبعة دار القبلة، رقم 26995، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أبو بكر بن الخلال رقم 140).
4- قال البغوي":واتفقوا على تحريم المزامير والملاهي والمعازف".)شرح السنة: الحسين بن مسعود البغوي، المكتب الإسلامي - دمشق، بيروت- 1403هـ- 1983م، الطبعة الثانية، تحقيق شعيب الأرناؤوط - محمد زهير الشاويش 12/383).
5- قال ابن قدامة:"وأما آلة اللهو كالطنبور والمزمار والشَّبَّابة فلا قطع فيه... ولنا أنه آلة للمعصية بالاجماع".(المغني 12/457).
6- قال النووي:"المزمار العراقي وما يُضرب به الأوتار حرام بلا خلاف".(روضة الطالبين 8/205).
7- قال الشيخ ابن حجر المكي الهيتمي الشافعي:"الأوتار والمعازف كالطنبور والعود والصنج والرباب والجنك والكمنجة والسنطير والدريج، وغير ذلك...هذه كلها محرمة بلا خلاف، ومن حكى فيها خلافاً فقد غلظ، أو غلب عليه هواه، حتى أصمه وأعماه، ومنعه هداه، وزل به عن سنن تقواه، وممن حكى الإجماع على تحريم ذلك كله الإمام أبو العباس القرطبي، وهو الثقة العدل".(كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع ص124).
8- يقول العلامة ابن رجب الحنبلي:"فإنه لا يعرف عن أحد ممن سلف الرخصة فيها إنما يعرف ذلك عن بعض المتأخرين من الظاهرية والصوفية ممن لا يعتد به، ومن حكى شيئا من ذلك عن مالك فقد أبطل، إلا أن مالكا يرى أن الدف والكبر أخف من غيرهما من الملاهي فلا يرجع لأجلهما من دعي إلى وليمة فرأى فيها شيئا من ذلك، وقد قال الإمام أحمد حدثنا إسحاق بن عيسى الطباع قال سألت مالك بن أنس عما يترخص في أهل المدينة من الغناء فقال إنما يفعله عندنا الفساق، وكذا قال إبراهيم بن المنذر الحزامي -وهو من علماء أهل المدينة- فتبين بهذا موافقة علماء أهل المدينة المعتبرين لعلماء سائر الأمصار في النهي عن الغناء وذمه، ومنهم القاسم بن محمد وغيره، كما هو قول علماء أهل مكة كمجاهد وعطاء وعلماء أهل الشام كمكحول والأوزاعي، وعلماء أهل مصر كالليث بن سعد، وعلماء أهل الكوفة كالثوري وأبي نيفة ومن قبلهما كالشعبي والنخعي وحماد ومن قبلهم من التابعين أصحاب ابن مسعود وقول الحسن وعلماء أهل البصرة، وهو قول فقهاء أهل الحديث كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم، وكان الأوزاعي يعد قول من رخص في الغناء من أهل المدينة من زلات العلماء التي يؤمر باجتنابها وينهى عن الاقتداء بها".(نزهة الأسماع في مسألة السماع:عبد الرحمن بن رجب الحنبلي ص 60-62). وقال ابن رجب الحنبلي:"وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاة من وضع الأعاجم، فمحرَّم مجمع على تحريمه، ولا يعلم عن أحد منهم الرخصة في شيء من ذلك، ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد به فقد كذب وافترى".(فتح الباري 6/83 عند حديث رقم:952).
9- الإمام أبو بكر الآجري قال:"فإن سائلا سأل عن هذه الملاهي التي يلهو بها كثير من الناس ويلعب بها، مثل:النرد والشطرنج، والزمارة والصفارة، والصنج، والطبل والعود، والطنبور، وأشباه ذلك من القمار مما قد افتتن كثير من الناس، فقال له السائل:هل في شيء مما ذكرت رخصة لمن استمع إليه ولمن لعب به؟ وهل لأحد أن يستمع الغنى من مغن أو جارية أو من امرأة حرة؟. أحب السائل أن يعلم الجواب في ذلك كله. الجواب وبالله التوفيق: جميع ما سأل عنه السائل والعمل به واللعب به باطل وحرام العمل به، وحرام استماعه بدليل من كتاب الله عز وجل، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الصحابة رضي الله عنهم، وقول الكثير من علماء المسلمين".(مقدمة كتابه تحريم النرد والشطرنج للإمام أبو بكر الآجري ص 2).
10- وقال القرطبي المالكي:"وأما المزامير والأوتار والكوبة فلا يختلف في تحريم سماعها، ولم أسمع عن أحد ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف من يبيح ذلك، وكيف لا يحرم وهو شعار أهل الخمور والفسوق ومهيج الشهوات والفساد والمجون؟ وما كان كذلك لم يشك في تحريمه، ولا في تفسيق فاعله وتأثيمه".(كشف القناع عن حكم الوجدان والسماع:أحمد بن عمر القرطبي، دار الصحابة للتراث، مصر– طنطا- الطبعة الأولى 1412ه-1992م، ص 72).
11- وممَّن ذكر الإجماع في تحريم الملاهي القاضي أبو الطيب الطبري الشافعي رحمه وقد صنف كتابا في ذم السماع "وافتتحه بأقوال العلماء في ذمِّه، وبدأ بقول الشافعي رحمه الله بأن لهو مكروه يشبه الباطل، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته.. ثمَّ قال: فأمَّا سماع آلات اللهو فلم يحك في تحريمه خلاف، وقال إن استباحتها فسق".(نزهة الأسماع في مسألة السماع:عبد الرحمن بن رجب الحنبلي ص 62-63).
12- قال شهاب الدين ابن حجر الهيتمي:"الأوتار والمعازف كالطنبور والعود والصنج، أي ذي الأوتار، والرباب والجنك والكمنجة والسنطير والدريج وغير ذلك..هذه كلَّها محرَّمة بلا خلاف، ومن حكى فيها خلافاً فقد غلط عليه هواه حتى أصمَّه وأعماه، ومنعه هداه، وزلَّ به عن سنن تقواه.. وممن حكى الإجماع على تحريم ذلك كله الإمام أبو العباس القرطبي، وهو الثقة العدل".(كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع ص 124).
13- نقل البزازي في المناقب الإجماع على حرمة الغناء إذا كان على آلة كالعود.(البحر الرائق شرح كنز الدقائق:ابن نجيم، دار المعرفة –بيروت- 7/89).
14- أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي: قال شهاب الدين ابن حجر الهيتمي:"وممن نقل الإجماع على ذلك أيضاً –أي على تحريم المعازف- إمام أصحابنا المتأخرين: أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي، فإنه قال في تقريبه بعد أن أورد حديثاً في تحريم الكوبة.. ومع هذا فإنه إجماع".(كف الرعاع: شهاب الدين ابن حجر الهيتمي ص 124).
15- زكريا بن يحيى الساجي ذكر في كتابه (اختلاف العلماء) اتفاق العلماء على النهي عن الغناء إلا إبراهيم بن سعد المدني، وعبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، وهذا في الغناء دون سماع آلات الملاهي؛ فإنه لا يُعرف عن أحد ممن سلف الرخصة فيها، إنما يُعرف ذلك عن بعض المتأخرين من الظاهرية والصوفية ممن لا يعتد به".(نزهة السماع:ابن رجب الحنبلي ص60).
إنَّ نقل هؤلاء العلماء وغيرهم للإجماع بتحريم المعازف وآلات الطرب يبيِّن بكل وضوح بطلان من زعم عدم الإجماع في التحريم ومن ذلك ما ذكره الإمام محمد بن علي الشوكاني في رسالته:"إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع". وتابعه في ذلك بعض أهل العلم من المعاصرين. وأمَّا ما حكاه الشوكاني عن بعض الصحابة والتابعين بسماع بعض المعازف فلم يصح منها شيء، بل صحَّ عنهم التحريم، فما ذكره الشوكاني ومن تابعه فيه من التجني عليهم في إباحة ما حرَّمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، إذ كيف يذكر الأئمة الأعلام الإجماع على التحريم؟! وهناك من السلف من كان يستمع، أو أباح الاستماع.
يقول الإمام ابن القيم:"ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع، والاختلاف أنه أباح هذا السماع، والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل في الشبابة منفردة، والدف منفردا، فمن لا يحصل أو لا يتأمل ربما اعتقد خلافاً بين الشافعيين في هذا السماع الجامع هذه الملاهي، وذلك وهم بين من الصائر إليه تنادي عليه أدلة الشرع والعقل مع أنه ليس كل خلاف يستروح إليه ويعتمد عليه، ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء وأخذ بالرخص من أقاويلهم تزندق أو كاد".(إغاثة اللهفان 1/228).
المطلب الثالث: الأئمة الأربعة كلهم أفتوا بتحريم المعازف:

لقد ثبت من خلال مصنفات تلامذة المذاهب الفقهية الأربعة أنَّهم يحرمون جميع الملاهي والمعازف. قال ابن الصلاح:"وأما اباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاخلاف أنه أباح هذا السماع والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل في الشبابة منفردا والدف منفردا".(فتاوى ومسائل ابن الصلاح في التفسير والحديث والأصول والفقه: عثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح، تحقيق د. موفق عبد الله عبد القادر، مكتبة العلوم والحكم, عالم الكتب1407ه -بيروت- 1/319).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:"مذهب الأئمة الأربعة أنَّ آلات اللهو كلها حرام، ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون من أمَّته من يستحل الحر والحرير والخمر والمعازف، وذكر أنهم يمسخون قردة وخنازير، ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعاً".(المجموع 11/576). وقال تلميذه ابن القيم:" فليعلم أنَّ الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين".(إغاثة اللهفان:ابن قيم الجوزية 1/226)، وقال ابن رجب:"سماع آلات الملاهي، لا يعرف عن أحد ممن سلف الرخصة فيه، وإنما يعرف ذلك عن بعض المتأخرين من الظاهـرية والصـوفية ممن لا يعتد به".(نزهة الأسماع في مسألة السماع 69). وقال الشيخ ناصر الدين الألباني:"اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم آلات الطرب كلها".(السلسلة الصحيحة:الشيخ محمد ناصر الدين الألباني 1/145).
ونبين هنا مذهب الأئمة الأربعة وأصحابهم وتلامذتهم في تحريم استعمال المعازف وآلات اللهو:-
1- مذهب الإمام أبي حنيفة:

ذهب علماء الحنفية إلى تحريم الآلات الموسيقية بأنواعها المختلفة، الوترية والإيقاعية والهوائية، وأحلوا فقط الدُّف، والطبل عند الغزو.
قال شيخ الإسلام علاء الدين الإسبيجابي في شرح الكافي:"ولا تجوز الإجارة على شيء من الغناء والنوح والمزامير والطبل وشيء من اللهو ولا على الحداء وقراءة الشعر ولا غيره ولا أجر في ذلك، وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد؛ لأنه معصية ولهو ولعب والاستئجار على المعاصي واللعب لا يجوز؛ لأنه منهي عنه".(تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي، دار الكتب الإسلامي-القاهرة- 1313هـ، 5/125).
وقال ابن القيم:"مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب، وقوله فيه من أغلظ الأقوال، وقد صرَّح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار والدف، حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية يوجب الفسق وترد بها الشهادة، وأبلغ من ذلك أنهم قالوا:أن السماع فسق والتلذذ به كفر..."، وقال الإمام أبو يوسف في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي: ادخل عليهم بغير إذنهم؛ لأنَّ النهي عن المنكر فرض، فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض".(إغاثة اللهفان 1/425، وانظر البحر الرائق شرح كنز الدقائق: زين الدين ابن نجيم الحنفي، دار المعرفة-بيروت-8/ 215). "وفي السراج:"ودلَّت المسألة أنَّ الملاهي كلها حرام ويدخل عليهم بلا إذنهم لإنكار المنكر". وفي البزازية استماع صوت الملاهي كضرب قصب ونحوه حرام".(راجع مصادر الفقه الحنفي: الدر المختار شرح تنوير الابصار في فقه مذهب الامام ابي حنيفة النعمان: محمد أمين بن عمر ابن عابدين، دار الفكر -بيروت- 1386ه، 6/348، المحيط البرهاني: محمود بن أحمد بن الصدر الشهيد النجاري برهان الدين مازه،5/233، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر:عبد الرحمن بن محمد بن سليمان الكليبولي المدعو بشيخي زاده، حققه وخرح آياته وأحاديثه خليل عمران المنصور، دار الكتب العلمية، 1419هـ- 1998،4/218).
وذهب إماما الحنفية أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني إلى عدم انعقاد بيع الملاهي من البربط، والطبل، والمزمار، والدف؛ لأنها آلات معدة للتلهي بها موضوعة للفسق، والفساد فلا تكون أموالا فلا يجوز بيعها،بينما جوَّز أبو حنيفة بيعها لا لكونها مباحة استعمالها كملاهي ولكن لإمكان الانتفاع بها شرعا من جهة أخرى بأن تجعل ظروفا لأشياء، ونحو ذلك من المصالح فلا تخرج عن كونها أموالا.(بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي 11/103)، وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَلَاهِيَ كُلَّهَا حَرَامٌ عند أبي حنيفة ومحمد.( العناية شرح الهداية: محمد بن أحمد الحنفي 14/217، فتح القدير:أَبِو الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الْجَلِيلِ الرِّشْدَانِيِّ الْمَرْغِينَانِيِّ 22/158). وجاء في فتح القدير:"وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ، وَكَذَا سَائِرُ الْمَلَاهِي؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالْمَعْصِيَةُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ".(اللباب في شرح الكتاب:الشيخ عبد الغني الغنيمي الدمشقي الميداني، طبعة دار الكتاب العربي 1/184. وانظر فتح القدير:أَبِو الْحَسَنِ الْمَرْغِينَانِيِّ 20/140).
وجاء في مجموعة دار الإفتاء المصرية:"ونفيد بأنه لا يجوز شرعا عند فقهاء الحنفية الضرب على الدف وسائر آلات اللّهو إلا ما استثنوه من الدف بلا جلاجل فى ليلة العرس وطبل الغزاة والحجاج والقافلة على ما جاء بكتاب الطريقة المحمدية وقال الزيلعى عند قول المصنف:"ومن دعى إلى وليمة وثمة لعب وغناء يقعد ويأكل" وما نصه:"ودلت المسألة على أن الملاهى كلها حرام حتى التغنى بضرب القضيب".(مجموعة دار الإفتاء المصرية 7/231).
2- مذهب الإمام مالك:

قال إسحاق بن عيسى الطباع: سألت مالكًا عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال:إنما يفعله عندنا الفساق.(انظر مجموع الفتاوى 24/198، إغاثة اللهفان 1/227). وقد سئل الإمام مالك عن ضرب الطبل والمزمار، ينالك سماعه وتجد له لذة في طريق أو مجلس؟ قال: فليقم إذا التذ لذلك، إلا أن يكون جلس لحاجة، أو لا يقدر أن يقوم، وأما الطريق فليرجع أو يتقدم.(مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل:العلامة خليل بن إسحاق 11/40. الجامع للقيرواني 262). وقال سحنون في المدونة:"قُلْتُ:هَلْ كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ الدِّفَافَ فِي الْعُرْسِ أَوْ يُجِيزُهُ وَهَلْ كَانَ مَالِكٌ يُجِيزُ الْإِجَارَةَ فِيهِ؟ قَالَ:كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ الدِّفَافَ وَالْمَعَازِفَ كُلَّهَا فِي الْعُرْسِ وَذَلِكَ أَنِّي سَأَلْتُهُ عَنْهُ فَضَعَّفَهُ، وَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ").المدونة الكبرى: مالك بن أنس بن مالك بن عامر، تحقيق زكريا عميرات، دار الكتب العلمية -بيروت- لبنان، 3/432). وقال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المالكي:"لا يحل لك أن تتعمد سماع الباطل...ولا سماع شيء من الملاهي والغناء".(فواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: أحمد بن غنيم بن سالم النفراوي، تحقيق رضا فرحات، مكتبة الثقافة الدينية 1/94).
وجاء في (كتاب بلغة السالك لأقرب المسالك):"حرمة جميع المعازف في غير النكاح قولا واحدا".(بلغة السالك لأقرب المسالك: أحمد الصاوي، تحقيق ضبطه وصححه: محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية بيروت- 1415هـ- 1995م، 3/487، وانظر مثله في الشرح الكبير أبو البركات:لأبي البركات سيدي أحمد الدردير 4/18). وقال الإمام أبو العباس القرطبي المالكي:"أما المزامير والأوتار والكوبة (الطبل) فلا يختلف في تحريم استماعها ولم أسمع عن أحد ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف من يبيح ذلك، وكيف لا يحرم وهو شعار أهل الخمور والفسوق ومهيج الشهوات والفساد والمجون؟ وما كان كذلك لم يشك في تحريمه ولا تفسيق فاعله وتأثيمه".(الزواجر عن اقتراف الكبائر: ابن حجر الهيتمي 3/ 258).
3- مذهب الإمام الشافعي:

قال الإمام الشافعي:"وَلَوْ كَسَرَ له طُنْبُورًا أو مِزْمَارًا أو كَبَرًا فَإِنْ كان في هذا شَيْءٌ يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي فَعَلَيْهِ ما نَقَصَ الْكَسْرُ، وَإِنْ لم يَكُنْ يَصْلُحُ إلَّا لِلْمَلَاهِي فَلَا شَيْءَ عليه، وَهَكَذَا لو كَسَرَهَا نَصْرَانِيٌّ لِمُسْلِمٍ أو نَصْرَانِيٌّ أو يَهُودِيٌّ أو مُسْتَأْمَنٌ أو كَسَرَهَا مُسْلِمٌ لِوَاحِدٍ من هَؤُلَاءِ أَبْطَلْت ذلك كُلَّهُ".(الأم:الشافعي، دار المعرفة،1410هـ-1990م 4/212). وقد حرَّم الشافعي تنفيذ الوصية إن كان فيها طبل أو عود أوم زمار يصلح للهو، وهذا دليل عللا تحريمه استخدام المعازف(الآلات الموسيقية) للهو، إلَّا طَبْل اِلحَرْب فاجازه، فقال رحمه الله:"وَالطَّبْلُ الذي يُضْرَبُ بِهِ لِلَّهْوِ فَإِنْ كان الطَّبْلُ الذي يُضْرَبُ بِهِ لِلَّهْوِ يَصْلُحُ لِشَيْءٍ غَيْرِ اللَّهْوِ قِيلَ لِلْوَرَثَةِ أَعْطُوهُ أَيَّ الطَّبْلَيْنِ شِئْتُمْ لِأَنَّ كُلًّا يَقَعُ عليه اسْمُ طَبْلٍ...وَإِنْ كان الطَّبْلُ الذي يُضْرَبُ بِهِ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلضَّرْبِ لم يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُعْطُوهُ طَبْلًا إلَّا طَبْلًا لِلْحَرْبِ...وَلَوْ قال أَعْطُوهُ عُودًا من عِيدَانِي وَلَهُ عِيدَانٌ يُضْرَبُ بها وَعِيدَانُ قسى وعصى وَغَيْرُهَا فَالْعُودُ إذَا وَجَّهَ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ لِلْعُودِ الذي يُضْرَبُ بِهِ دُونَ ما سِوَاهُ مِمَّا يَقَعُ عليه اسْمُ عُودٍ فَإِنْ كان الْعُودُ يَصْلُحُ لِغَيْرِ الضَّرْبِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ، ولم يَكُنْ عليه إلَّا أَقَلُّ ما يَقَعُ عليه اسْمُ عُودٍ وَأَصْغَرُهُ بِلَا وَتَر، وَإِنْ كان لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلضَّرْبِ بَطَلَتْ عِنْدِي الْوَصِيَّةُ وَهَكَذَا الْقَوْلُ في الْمَزَامِيرِ كُلِّهَا...وَإِنْ قال مِزْمَارٌ من مَالِي أَعْطَوْهُ أَيَّ مِزْمَارٍ شاؤوا نَايٍ أو قَصَبَةٍ أو غَيْرِهَا إنْ صَلُحَتْ لِغَيْرِ الزَّمْرِ وَإِنْ لم تَصْلُحْ إلَّا لِلزَّمْرِ لم يُعْطَ منها شيئا".(المصدر السابق 4/92).
وقال النووي الشافعي:"كسر الملاهي لا ضمان في صنعتها لأنها محرمة، وهذا لا خلاف فيه".(روضة الطالبين وعمدة المفتين:الإمام النووي، المكتب الإسلامي-بيروت- طبعة سنة 1405ه، 5/43).
وقال ابن القيم:"وصرَّح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه، وأنكروا على من نسب إليه حله كالقاضي أبي الطيب الطبري، والشيخ أبي إسحق وابن الصباغ".(إغاثة اللهفان 1/227)، ونقل عنه ابن رجب الحنبلي عن الشافعي قوله:"فأما سماع آلات اللهو فلم يحك في تحريمه خلاف، وقال إن استباحتها فسق".(نزهة الأسماع في مسألة السماع:عبد الرحمن بن رجب الحنبلي ص 64). ثم قال ابن رجب:"قد أنكر الضرب بالقضيب-أي الشافعي-، وجعله من فعل الزنادقة، فكيف يكون قوله في آلات اللهو المطربة؟".(نزهة الأسماع في مسألة السماع:عبد الرحمن بن رجب الحنبلي ص 65).
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي:"وسائر المعازف أي الملاهي والأوتار وما يضرب به والمزمار العراقي وهو الذي يضرب به مع الأوتار، وكذا اليراع وهو الشبابة فحرام استعماله واستماعه وكما يحرم ذلك يحرم استعمال هذه الآلات واتخاذها لأنها من شعار الشربة وَهِيَ مُطْرِبَةٌ".(أسنى المطالب في شرح روض الطالب:شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، تحقيق د. محمد محمد تامر، دار الكتب العلمية - بيروت- الطبعة الأولى 1422هـ- 2000م 4/ 344، وانظر الوسيط في المذهب: أبو حامد الغزالي، تحقيق أحمد محمود إبراهيم , محمد محمد تامر، دار السلام 1417ه 7/350، روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي، المكتب الإسلامي- بيروت– 1405ه،11/228).
وقال النووي الشافعي:"المعازف والأوتار حرام، لأنها تشوق إلى الشرب وهو شعار الشرب فحرم التشبه بهم".(روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي 11/228). وقال محمد الخطيب الشربيني الشافعي:"يحرم استماع آلات اللهو لأنه يطرب ولقوله صلى الله عليه وسلم ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والمعازف قال الجوهري وغيره المعازف آلات اللهو".(مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج: محمد الخطيب الشربيني، دار الفكر-بيروت- 4/ 429).
وقال الشيخ الإمام الزاهد أبو إسحاق الفيروز أباذي الشافعي:"ويحرم استعمال الآلات التي تطرب من غير غناء كالعود والطنبور والمعزفة والطبل والمزمار".(المهذب في الفقه الشافعي: أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز أباذي، طبعة بيروت،3/ 436).
وأفتى الإمام البغوي الشافعي بتحريم بيع جميع آلات اللهو والباطل مثل الطنبور والمزمار والمعازف كلها، ثم قال:"فإذا طمست الصور، وغيرت آلات اللهو عن حالتها، فيجوز بيع جواهرها وأصولها، فضة كانت أو حديد أو خشبا أو غيرها".(شرح السنة: حسين بن مسعود البغوي، تحقيق شعيب الأرناؤوط ومحمد زهير الشاويش المكتب الإسلامي- دمشق، بيروت- الطبعة الثانية 1403هـ-1983م، 8/28). وقال الحافظ ابن رجب:"كان النبي يرخص لهم في أوقات الأفراح، كالأعياد والنكاح وقدوم الغياب في الضرب للجواري بالدفوف، والتغني مع ذلك بهذه الأشعار، وما كان في معناها، فلما فتحت بلاد فارس والروم ظهر للصحابة ما كان أهل فارس والروم قد أعتادوه من الغناء الملحن بالإيقاعات الموزونة، على طريقة الموسيقى بالأشعار التي توصف فيها المحرمات من الخمور والصور الجميلة المثيرة للهوى الكامن في النفوس، المجبول محبته فيها ، بآلات اللهو المطربة، المخرج سماعها عن الاعتدال، فحينئذ أنكر الصحابة الغناء واستماعه، ونهوا عنه وغلظوا فيه".(فتح الباري 6/78). وقال:"وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاة من وضع الأعاجم ، فمحرم مجمع على تحريمه، ولا يعلم عن أحد منه الرخصة في شيء من ذَلِكَ، ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد به فقد كذب وافترى".(فتح الباري 6/83).
4- مذهب الإمام أحمد:

قال عبد الله سألت أبي عن الغناء فقال:"يثبت النفاق في القلب لا يعجبني". وقال عبد الله سمعت أبي يقول في رجل يرى مثل الطنبور أو العود أو الطبل أو ما أشبه هذا ما يصنع به قال:"إذا كان مغطى فلا وإن كان مكشوفاً كسره..وقال سألت ابي عن الغناء فقال يثبت النفاق في القلب لا يعجبني".(مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله: عبد الله بن أحمد بن حنبل، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي–بيروت-1401هـ-1981م ص 316).
روى أبو بكر الخلال أن شريحا القاضي أتي في طنبور، فلم يقض فيه بشيء، وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله –يقصد الإمام أحمد- يقول: هو منكر، لم يقض فيه بشيء"(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأبي بكر بن الخلال، رقم 132، تحقيق حسن مشهور سليمان،دار عمار الأردن، المكتب الإسلامي –بيروت-). وقال أيضا أخبرنا سليمان بن الأشعث، قال:سمعت أبا عبد الله، سئل عن رجل، مر بقوم يلعبون بالشطرنج، فنهاهم فلم ينتهوا، فأخذ الشطرنج فرمى به؟ قال:« قد أحسن، وليس عليه شيء، قلت لأبي عبد الله:وكذلك إن كسر عودا أو طنبورا؟ قال: نعم".(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأبي بكر بن الخلال رقم 134).
وقال أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي :"وفي المستوعب والترغيب وغيرهما يحرم مع آلة لهو بلا خلاف بيننا".(الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل: أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي، دار إحياء التراث العربي –بيروت- ،12/39).
قال عبد الله بن قدامة المقدسي الحنبلي عن المعازف:"وهي نوعان: الأول: محرم: وهي الآلات المطربة من غير غناء كالمزمار، وسواء كان من عود أو قصب كالشبابة، أو غيره كالطنبور، والعود، والمعزفة، والرباب ونحوها فمن أدام استماعها ردت شهادته،(كتاب الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل:عبد الله بن أحمد بن قدامة 4/274، وانظر المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني:عبد الله بن أحمد بن قدامة، دار الفكر – بيروت-الطبعة الأولى، 1405ه 12/40) لما روى أبو أمامة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله بعثني رحمة للعالمين وأمرني بمحق المعازف والمزامير". رواه سعيد في سننه ولأنها تطرب وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة فحرمت كالخمر.(والحديث رواه الطيالسي في مسنده رقم 1217، والحافظ أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري: إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة،33- باب في المعازف والمزامير والكوبة والصليب والدف وميسر العجم والأوثان التي كانت تعبد من دون اللّه، طبعة دار الوطن 1420هـ- 1999م).
النوع الثاني: مباح وهو:الدف في النكاح لأن النبي صلى الله عليه و سلم مرَّ على جواري من بني النجار وهن يضربن بالدف، ويقلن:نحن جواري من بني النجار يا حبذا محمد من جار، فقال نبي الله:اللهم بارك فيهن". رواه أبو يعلى، ورواه ابن ماجه بسند صحيح دون قوله:"اللهم بارك فيهن". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:فصل ما بين الحلال والحرام والصوت بالدف". رواه أحمد في المسند، رقم 18306، وقال محققه شعيب الأرنؤوط:إسناده حسن، والحاكم في المستدرك، وقال:هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي قي التلخيص:صحيح. وذكر البيهقي في سننه 73 باب مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ إِظْهَارِ النِّكَاحِ وَإِبَاحَةِ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ عَلَيْهِ وَمَا لاَ يُسْتَنْكَرُ مِنَ الْقَوْلِ 2/145).
وقال عبد الله بن قدامة المقدسي:"وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا سمع صوت الدف بعث فنظر، فإن كان في وليمة سكت، وإن كان في غيره عمد بالدرة، وهو مكروه للرجل على كل حال لتشبهه بالنساء".(كتاب الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل: عبد الله بن قدامة المقدسي أبو محمد 4/271).
وقال ابن قدامة:"وإذا دعي إلى وليمة فيها منكر، كالخمر والزمر، فأمكنه الإنكار، حضر وأنكر؛ لأنه يجمع بين واجبين، وإن لم يمكنه لا يحضر".(الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل 3/118) وعقد ابن قدامة فصلاً في الملاهي في كتابه (المغني 12/40) قال فيه:"وهي على ثلاثة أضرب:(محرم) وهو ضرب الأوتاد والنايات والمزامير كلها والعود والطنبور والمعزفة والرباب ونحوها، فمن أدام استماعها ردت شهادة..".
وجاء في كتاب مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى:"وحرم مزمار طنبور ورباب وجنك، ومعزفة وجفانة، وعود وناي وزمارة الراعي ونحوه، سواء استعملت لحزن أو سرور".(مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى: مصطفى السيوطي، الطبعة الثانية 1415، 3/363).
وجاء في حاشية الروض المربع لابن قاسم:"قال الشيخ؛ الأئمة – أي أئمة الحنابلة- متفقون على تحريم الملاهي التي هي آلات اللهو، كالعود ونحوه، ويحرم اتخاذها، ولم يحك عنهم نزاع في ذلك، أي فلا يصح الخلع عليها".(حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع:جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، الطبعة الأولى1397هـ 6/470).
5- يقول الإمام الأوزاعي رحمه الله - أحد الأئمة العشرة الكبار- :"لا تدخل وليمة فيها طبل ومعازف."(النور الكاشف في بيان حكم الغناء والمعازف: أحمد بن حسين الأزهري ص17).
6- الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز: روى الأوزاعي فقال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد كتابا فيه: وإظهارك المعازف والمزمار بدعة في الإسلام ولقد هممت أن أبعث إليك من يجز جمتك جمة السوء".(رواه النسائي في المجتبى من السنن رقم 4135: أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي، تحقيق: عبدالفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية – حلب- الطبعة الثانية 1406ه- 1986م، والأحاديث مذيلة بأحكام الألباني عليها، وقال الشيخ الألباني: أخرجه النسائي بسند صحيح، والترمذي رقم 3780، وانظر حلية الأولياء وطبقات الأصفياء:أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، دار الكتاب العربي – بيروت- الطبعة الرابعة 1405ه،5/270). وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: ليكن أولَّ ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن، فإنَّه بلغني عن الثقات من أهل العلم أنَّ صوت المعازف واستماع الأغاني واللهَج بها يُنبت النفاق في القلب كما يُنبت العشب على الماء.(إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان:ابن القيم الجوزية 1/250، عَوْنِ الْمَعْبُودِ شرح سنن أبي داود: محمد شمس الحق العظيم آبادي أبو الطيب، دار الكتب العلمية – بيروت- الطبعة الثانية 1415ه، 10/456).
المطلب الرابع: شبهات وردود:

الشبهة الأولى: استدلَّ بعض أهل العلم المعاصرين على إباحة المعازف بما روى الترمذي عن بُرَيْدَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه"أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لما رَجَعَ من بعض مغازيه، جَاءَتْهُ جَارِيَة سَوْدَاء فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي نذرت إِن ردَّك الله سالماً أَن أضْرب بَين يَديك بالدف وأتغنى. فَقَالَ لَهَا:إِن كنت نذرت فأوف بِنَذْرِك".(سنن الترمذي رقم 3690، وقَالَ التِّرْمِذِيّ:حَدِيث حسن صَحِيح)، وَقَالَ ابْن الْقطَّان:هُوَ عِنْدِي ضَعِيف؛ لضعف رِوَايَة عَلّي بن حُسَيْن بن وَاقد. قَالَ أَبُو حَاتِم:ضَعِيف. وَقَالَ الْعقيلِيّ:كَانَ مرجئًا.(البدر المنير في تخريج الأحاديث والأثار الواقعة في الشرح الكبير:ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري، تحقيق مصطفى أبو الغيط، وعبدالله بن سليمان وياسر بن كمال، دار الهجرة للنشر والتوزيع -الرياض- السعودية، الطبعة الاولى 1425هـ-2004م،9/645). وقد رواه البيهقي في السنن الكبرى، رقم 19888، باب ما يوفى به من نذر ما يكون مباحا وان لم يكن طاعة، وفي السنن الصغرى برقم 4456 باب الوفاء بالنذور التي ليست المعصية، وذكر من قول المرأة:"أن اضرب بين يديك بالدف" دون "واتغنى". وعقَّب عليه بقوله:"يشبه أن يكون صلى الله عليه وسلم انما أذن لها في الضرب لأنَّه أمر مباح وفيه إظهار الفرح بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوعه سالما، لا أنَّه يجب بالنذر والله أعلم".(السنن الكبرى 10/77).
استدلَّ هؤلاء بهذا الحديث على إباحة المعازف باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم سمح للجارية أن تفي بنذرها، فاستنتج منه السماح بضرب الدف،لأن نذرها نذر طاعة وليس نذر معصية، لأنَّ نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، أمَّا نذر الطاعة فيجب الوفاء به. وهذا غلط فاحش وقع به من رخَّص في الموسيقى. لأن هذه الجارية نذرت نذراَ خاصاً للنبي صلى الله عليه وسلم بأن تضرب بين يديه بالدف فرحاً بعودته سالما من الغزو، ولذلك قال: لها وإلاَّ فلا. أي فلا تفعلي، وفي رواية أخرى "إن كنت لم تفعلي فلا تفعلي"، وهذا نهي واضح وصريح يفيد التحريم، ولو كان مباحاً لأمرها بأن تفعل دون نهي إن لم تكن نذرت، ولكن سمح لها النبي صلى الله عليه وسلم للوضع الذي لا يتطلب من النبي صلى الله عليه وسلم منعها، حيث أن الجارية فرحة بعودة النبي صلى الله عليه وسلم سالماً من الغزو، فتركها النبي تضرب بالدف بين يديه. ويدلُّ عليه قول الجارية للنبي عليه الصلاة والسلام إن ردَّك الله سالماً تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بضرب الدف بين يديه. وسبق أن بينَّا استثناء الدف من المعازف المحرَّمة. وأشار الشيخ محمد ناصر الدين الالباني إلى أنًّ الأمر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقال شهاب الدين الرملي في كتابه)نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 17/28)": قال لها رسول الله صلى عليه سلم أوفي بنذرك. لأنه أقترن بقدومه كمال مسرة المسلمين وإغاظة الكفار". ولذا فمن الخطأ البيَّن أن يستدل أحد بهذه الحادثة الخاصة به صلى الله عليه وسلم كما ظهر من سياق الحديث، فالرسول عليه السلام له استثناءات في إباحة ما حرَّم على أمَّته، وهذا معلوم لطلبة العلم الشرعي، كما في إباحته للزبير ابن العوام وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكة بهما.(رواه البخاري رقم 5839، قوله باب ما يرخص للرجال من الحرير للحكة، كتاب اللباس). قال الطبري:" فيه دلالة على أن النهي عن لبس الحرير لا يدخل فيه من كانت به علة يخففها لبس الحرير".(فتح الباري شرح صحيح البخاري: لابن حجر العسقلاني 10/295).
الشبهة الثانية: استدلَّ ابن حزم ومن تبعه من المعاصرين ممن يبيحون الموسيقى- ومنهم الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه الإسلام والفن ص 106- بما رواه محمد بن سيرين قال:"أن رجلا قدم المدينة بجوار فأتى إلى عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه فأمر جارية منهن فأحدت قال أيوب: (بالدف)، وقال هشام: (بالعود) حتى ظنَّ ابن عمر أنَّه قد نظر إلى ذلك فقال ابن عمر:حسبك سائر اليوم من مزمور الشيطان فساومه ثم جاء الرجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن إن غبنت بسبعمائة درهم فأتى ابن عمر إلى عبد الله بن جعفر فقال له:إنه غبن بسبعمائة درهم فاما أن تعطيها اياه واما أن ترد عليه بيعه فقال:بل نعطيها اياه، فهذا ابن عمر قد سمع الغناء وسعى في بيع المغنية، قال ابن حزم: وهذه أسانيد صحيحة لا تلك الملفقات الموضوعة.(المحلى:ابن حزم 9/62-63). وللرد على ذلك:-
أ- قال أهل العلم ببطلان الرواية، لأنَّ ابن حزم رواها عن حماد بن زيد، وبينه وبين حماد بن زيد 286 سنة، أي بينهما رواة مجاهيل غير معروفين، ثمَّ في الرواية اضطراب وتردد بين لفظة "العود" وبين لفظة "الدف". ولم يروها أحد من المحدثين لا في الصحاح ولا في السنن،غير ابن سيرين، وإذا كان ابن حزم جزم بانقطاع حديث البخاري في المعازف لأنَّ البخاري قال هشام بن عمار، ولم يقل حدَّثنا مع أنَّه من شيوخه، فكيف يستدل ابن حزم ومن تابعه بقول ابن حزم روينا عن حماد بن زيد وبينه وبين زيد بن حماد 286 سنة، فأين سلسلة الرواة بينهما؟؟! والرواية التي جاءت فيها لفظة "الدف" هي أقرب للصواب، لكون الدف هو المستثني بالإباحة من المعازف.(الرد على القرضاوي والجديع:عبد رمضان بن موسى،الأثرية للتراث-العراق- ص 501-503).
ب- إنَّه ليس في "رسالة" ابن حزم المطبوعة (ص100) لفظة "العود"، وإنما وردت في "المحلى" لكن على الشكِّ فيها أو التردد بينها وبين لفظة "الدف"، فقد اختلف أيوب وهشام في تعيين الآلة التي ضربت عليها الجارية، وكل منهما ثقة فقال الأول:"الدف" وقال الآخر:"العود" والقول الأول هو اللائق بعبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، فإن الدفَّ يختلف حكمه عن كل آلات الطرب من حيث إنه يباح الضرب عليه من النساء في العرس...ولا سيما وقد قال عبد الله بن عمر -وهو أفقه منه وأعلم- "حسبك اليوم من مزمور الشيطان".(تحريم آلات الطرب أو الرد بالوحيين وأقوال أئمتنا على ابن حزم ومقلديه المبيحين للمعازف والغناء، وعلى الصوفيين الذين اتخذوه قربة ودينا: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة الدليل،الطبعة الأولى 1416هـ ص103-104).
الشبهة الثالثة: قال الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في فتواه:"وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم استمعوا الغناء ولم يروا بسماعه بأسا‏".
وللرد على هذه الشبهة: أقول:إنَّ إباحة المعازف لم يثبت نقله عن أحد من الصحابة أو أحد من التابعين أو أحد من الأئمة المجتهدين. وقد قال الشيخ محمد بن محمود الصالحي المنبجي الحنبلي:"وإذا عرف هذا فاعلم أنَّه لم يكن في القرون الثلاثة المفضلة، لا بالحجاز ولا بالشام، ولا باليمن ولا بمصر والمغرب، والعراق خراسان، من أهل الدين والصلاح والزهد والعبادة من يجتمع على مثل سماع المكاء والتعدية لا بدف، ولا بكف، ولا بقضيب، وإنما حدث هذا بعد هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية، فلما رآه الأئمة أنكروه".
وإنَّ كلَّ ما ذكره العلامة الدكتور يوسف القرضاوي - في فتاويه عن الغناء والموسيقى أو في كتابه:الإسلام والفن- من أقوال نسبت لبعض الصحابة والتابعين والفقهاء القدامى في تحليل آلات العزف هو نقل حرفي عن كتاب (نيل الأوطار للشوكاني 8/179)، أو كان تابعا فيها لابن حزم الظاهري، ولم يتحقق من صحَّة نقل الشوكاني وابن حزم اللذان لم يذكرا سنداً لما يرويانه أو ينقلانه، والشوكاني أكثر النقل عن محمد بن طاهر المقدسي والأدفوي، لذا كان من الواجب العلمي على فضيلة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي أن يدقِّق في هذه الروايات، وأن يتتبع سند المنسوب للصحابة والتابعين منها: ليتبين له ولمن يقرأ فتواه وكتابه هل هذه الروايات ثابتة أم مجرد حكايات وأقوال لم تصح بالسند الصحيح إلى أصحابها، فالأمر ليس هيناً فهو يتعلق بالحرام والحلال، والمفتي بفتواه يوقِّع عن رب العالمين، ولا يجوز شرعا الفتوي بإباحة المعازف بالاعتماد على أقوال وحكايات منسوبة للصحابة والتابعين لم تثبت بسند صحيح، مع وجود روايات أخري منسوبة لهم بالتحريم فمثلا الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الذي ينسبون له أنه كان يستمع للعود أو للدف، هو نفسه كما في الحديث الصحيح – وقد مرَّ- الذي سمع مزماراً، فوضع أصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق؟
والطريق الوحيد لمعرفة الحق ممن يجتهد في إصدار الفتاوى أن يطالع وبتدقيق كتب الروايات والحديث ومنها كتب التخريج للسنة للتأكد من صحة السند فيما ينقل، ولو فعل ذلك لوجد تصريحات لمن ذكروا الصحابة والتابعين - بأنهم أباحوا السماع للمعازف- بتحريم آلات الموسيقى كما نقلنا عنهم، ولكنَّ الدكتور القرضاوي اكتفى بمجرد نقل الروايات والحكايات فقط، ثمَّ أقنع نفسه بثبوتها، ثمَّ قال إنًّه لا يمكن الطعن فيها!! ومن أراد الوقوف على ضعف كل ما روي عن الصحابة والتابعين وغيرهم فيما نسب لهم الاستماع للموسيقى فليرجع لكتاب (الرد على القرضاوي والجديع للشيخ عبد الله رمضان بن موسى)، فلقد أجاد وأفاد في دراسة المرويات والحكايات المزعومة عن الصحابة والتابعين وغيرهم من أهل العلم، وبين تهالك وبطلان تلك الروايات من ناحية السند ولمناقضتها لما ثبت عنهم.(انظر كتاب الرد على القرضاوي والجديع ص501-581).
وأذكر هنا أمثلة لذلك وقد تتبعتها من كتب أصحابها:
أ- فمثلا نقل فضيلة الدكتور القرضاوي عن الشوكاني:"وحكى الماوردي عن معاوية وعمرو بن العاص أنَّهما سمعا العود عند ابن جعفر، بينما الماوردي نفسه في كتابه (الحاوي الكبير) يصرِّح بالتحريم في أكثر من موضع، حيث جاء فيه:الطُّنْبُورُ وَالْمِزْمَار وسائر الْمَلَاهِي فاسْتِعْمَالها محْظور، وَكَذَلِكَ اقْتِنَاؤُهَا(الحاوى الكبير:أبو الحسن الماوردى الشافعي، دار الفكر– بيروت- 13/749)...وجاء فيه أيضا:"فأمَّا الحرام من الملاهي: فالعود، والطنبور، والمعزفة، والطبل، والمزمار، وما ألهى بصوت مطرب إذا انفرد...والْعَوْدَ أَكْثَر الْمَلَاهِي طَرَبا، وَأَشْغَلُهَا عن ذكرِ اللَّه تعالى وعنِ الصلَاةِ، وَإِنْ تَميز بِه الْأَمَاثِل عَنِ الْأَرَاذِلِ".(الحاوى الكبير:أبو الحسن الماوردى 17/390). والذي أباحه الماوردي فهو كما قال: وَأَمَّا الْمُبَاحُ من الملاهي: فَمَا خَرَجَ عَنْ آلَةِ الْإِطْرَابِ، إِمَّا إِلَى إِنْذَارٍ كالْبُوقِ، وَطَبْلِ الْحربِ، أَوْ لِمجمع وَإِعْلَان كَالدف فِي النِّكَاحِ".(المصدر السابق).
ب- حكى الدكتور يوسف القرضاوي فيما نقل عن العز بن عبد السلام الإباحة، بينما نجده في كتابه(قواعد الأحكام في مصالح الأنام:أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، تحقيق مجمود بن التلاميد الشنقيطي، دار المعارف -بيروت- لبنان ص184،198) يصرح بالتحريم حيث قال:"لم يشتغل الأنبياء والصديقون وأصحابهم بسماع الملاهي والغناء، واقتصروا على كلام ربهم لشدة تأثيره في أحوالهم، ولقد غلط كثير من الناس في سماع النشيد وطيب نغمات الغناء من جهة أن أصوات الملاهي وطيب النشيد وطيب نغمات الغناء فيها حظ للنفوس.. لذة الأصوات والنغمات والكلمات الموزونات الموجبات للذات النفس التي ليست من الدين ولا متعلقة بأمور الدين". ونقل الدكتور يوسف القرضاوي عن الشيرازي الإباحة، بينما في كتابه (المهذب) يصرَّح بالتحريم. قال في المهذب:"ويحرم استعمال الآلات التي تطرب من غير غناء كالعود والطنبور والمعزفة والطبل والمزمار".(المهذب في الفقه الشافعي: إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز أباذي، طبعة بيروت،3/436).
لذا أناشد فضيلة أستاذنا الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله تعالى أن يراجع فتواه، وأن يخرِّج إسناد تلك المرويات المذكورة (في فتواه وفي كتابه الإسلام والفن) مع بيان صحتها. واذكَّره بما أخرجه الإمام مسلم‏ عن عبد الله بن المبارك أنَّه قال:"إنَّ الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء".(صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، رقم 5، باب بيان أن الإسناد من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات، دار الجيل ودار الأفاق الجديدة – بيروت). وبما قاله ابن رجب الحنبلي:"وأما الآثار الموقوفة عن السلف في تحريم الغناء وآلآت اللهو فكثيرة جدا".(نزهة الأسماع في مسألة السماع:عبد الرحمن بن رجب الحنبلي ص62). واذكره بقول ابن حجر الهيتمي (شأن هؤلاء المنتصرين لحل ما حرم الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ووارثيه أنهم يكتفون بمجرد حكاية يجدونها في كتاب من غير بحث منهم عمن رواها، ولا عن مدلولها ومعناه...ولا منكر أقبح ممن يريد أن يحلل ما أجمع العلماء على تحريمه، ويوقع العامة وغيرهم في العمل به وسماعه، غافلا عما يترتب عليه من الإثم والعقاب، عافانا الله من ذلك بمنه وكرمه، آمين")كف الرعاع 312).
ج- قال الدكتور القرضاوي عن أهل المدينة بإباحة الغناء، وهذا على إطلاقه ليس بصحيح، فأهل المدينة ترخصوا في الغناء الذي هو غناء الركبان وهو الحداء كما قال أهل العلم، وليس هو الغزل المهيّج للطباع، ومن رخصَّ في غيره فلا يُقتدى به، فهذا إمام أهل المدينة مالك بن أنس: لما سئل عن الغناء قال:"إنما يفعله عندنا الفساق". وقد سبق أن ذكرت ما قاله إسحاق بن عيسى الطباع: سألت مالكًا عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال:إنما يفعله عندنا الفساق.(انظر مجموع الفتاوى 24/198، إغاثة اللهفان 1/227). وقد سئل الإمام مالك عن ضرب الطبل والمزمار، ينالك سماعه وتجد له لذة في طريق أو مجلس؟ قال:فليقم إذا التذ لذلك، إلا أن يكون جلس لحاجة، أو لا يقدر أن يقوم، وأما الطريق فليرجع أو يتقدم.(الجامع للقيرواني 262).
4- لقد نقل الدكتور القرضاوي عن الشوكاني قائمة من أسماء أهل العلم المجيزين للمعازف والغناء، وتابعه على ذلك، ومن هؤلاء محمد بن طاهر المقدسي الذي قال في كتابه)السماع)":لم يصح منها حرف واحد". أي من أحاديث تحريم المعازف.(الإسلام والفن: الدكتور يوسف القرضاوي، المكتب الإسلامي 1998م ص 14) ونقل فيه عن ابن طاهر المقدسي والدفوي إباحة المعازف، كما نقل عنهما أنهما يقولان أن فلانا وفلانا من الصحابة وفلانا من أهل العلم أباح الغناء والمعازف. وأهمس بالقول لفضيلة الدكتور القرضاوي:إنه لا ينبغي لمثلك من أهل العلم أن ينقل عن الإمام الشوكاني ما قاله عن ابن طاهر المقدسي والدفوي على وجه التسليم بلا تحقيق، فابن طاهر المقدسي ظاهري صوفي، وقد ألَّف في التصوف؛ وكثير من الصوفية يتعبدون الله بالغناء والعزف؛ كما أنه متهم بالوهم والانحراف عن السنة، فقد ذمه أهل العلم من أجل ذلك. ومن هؤلاء:-
أ- ما قاله الحافظ العالم بالرجال الذهبي:"ليس بالقوى، فإنه له أوهام كثيرة في تواليفه، وقال ابن ناصر:كان لحنة، وكان يصحف. وقال ابن عساكر:جمع أطراف الكتب الستة، فرأيته بخطه، وقد أخطأ فيه في مواضع خطأ فاحشا.قلت: وله انحراف عن السنة إلى تصوف غير مرضى".(ميزان الاعتدال 3/587).
ب- وما قال الأذرعي الشافعي:"وابن طاهر الذي تبعوه وإن كان مكثرا فليس بظاهر النقل، وفي كتابه صفة التصوف وكتابه في السماع فضائح وتدليسات قبيحة لأشياء موضوعة".(كف الرعاع 279).
ج- وما قاله الهيتمي:إنَّ العلماء بالغوا في تضليل ابن طاهر وتسفيهه. وشدَّد الهيتمي في النكير عليه، وذكر ما ينسب إليه من القبح والأمر الشنيع".(كف الرعاع 308).
د- وما قاله الحافظ ابن حجر:"ونقل ابن طاهر في كتاب السماع الجواز عن كثير من الصحابة؛ لكن لم يثبت من ذلك شيء إلا في النَصْب -شبيه بالحداء-".(فتح الباري 10/543).
ه- وما قاله ابن الجوزي عنه:"صنف كتاباً سماه صفوة التصوف يضحك منه من يراه ويعجب من استشهاده على مذاهب الصوفية بالأحاديث التي لا تناسب ما يحتج له من نصرة الصوفية، وكان داودي المذهب، فمن أثنى عليه فلأجل حفظه للحديث ومعرفته به وإلا فالجرح أولى به، ذكره أبو سعد ابن السمعاني وانتصر له بغير حجة بعد أن قال:سألت شيخنا إسماعيل بن أحمد الطلحي الحافظ عن محمد بن طاهر فأساء الثناء عليه، وكان سيء الرأي فيه.قال: وسمعت أبا الفضل ابن ناصر يقول محمد بن طاهر لا يحتج به، صنف كتاباً في جواز النظر إلى المرد، وأرود فيه حكاية عن يحيى بن معين، قال:رأيت جارية بمصر مليحة صلى اللّه عليها فقيل له تصلى عليها؟ فقال:صلى اللهّ عليها وعلى كل مليح ثم قال:كان يذهب مذهب الإباحة".(المنتظم:ابن الجوزي 9/177).
و- وما قال الحافظ ابن كثير عن محمد بن طاهر: صنف كتابا في إباحة السماع وفي التصوف وساق فيه أحاديث منكرة جدا".(البداية والنهاية لابن كثير، مكتبة المعارف – بيروت-12/177).
وأما الأدفوي فقد تابع ابن طاهر في هذا الباب؛ قال ابن حجر الهيتمي:"والأدفوي هذا يتابع ابن طاهر في جميع كذباته".(كف الرعاع 282).
أقول: فمن كان هذا حاله فكيف يتابع في أقواله في إباحة ما أجمع أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة على تحريمه؟!
هل السلف من الصحابة والتابعين كانوا يسمعون المعازف؟؟

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"واما سماع المكاء والتصدية وهو الاجتماع لسماع القصائد الربانية سواء كان بكف أو بقضيب أو بدف أو كان مع ذلك شبابة، فهذا لم يفعله أحد من الصحابة لا من أهل الصفة ولا من غيرهم بل ولا من التابعين، بل القرون المفضلة التى قال فيها النبى خير القرون الذين بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم لم يكن فيهم أحد يجتمع على هذا السماع لا فى الحجاز، ولا فى الشام ولا فى اليمن، ولا العراق، ولا مصر، ولا خراسان، ولا المغرب".(مجموع الفتاوي:ابن تيمية 11/57).
نعم لقد ورد عن بعض السلف جواز سماع الحداء والأشعار، فظنَّ من زعم الإباحة المقصود بذلك الغناء مع الأوتار وآلات الطرب، وهذا ظنٌ فاسد لا يعوَّل عليه في بيان الأحكام الشرعية. إذ لم يرد نص واحد صحيح عن الصحابة والتابعين وتابعيهم، والأئمة الأعلام يستفاد منه تحليل المعازف والملاهي، اللهمَّ إلاَّ الدف، كما سبق بيانه، وضَرْبِ القَصَب عند بعضهم. وفد سبق أن ذكرت قول ابن رجب الحنبلي:"وقد روى ما يوهم الرخصة عن بعضهم وليس بمخالف لهذا، فإن الرخصة إنما وردت عنهم في إنشاد أشعار الأعراب على طريق الحداء ونحوه مما لا محذور فيه".(نزهة الأسماع في مسألة السماع:أحمد بن رجب الحنبلي ص69). ويقول الطبري عن نشيد الأعراب في السفر:"وهذا النوع من الغناء هو المطلق المباح بإجماع الحجة، وهو الذى غُنّي به في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يَنْهَ عنه، وهو الذي كان السلف يجيزون ويسمعون".(شرح صحيح البخارى:أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال البكري القرطبي، تحقيق أبو تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد -الرياض- الطبعة الثانية 1423هـ- 2003م، 4/560).
وأعيد هنا ما نقلته سابقا عن ابن رجب الحنبلي قوله:"وأمَّا الآثار الموقوفة عن السلف في تحريم الغناء وآلآت اللهو فكثيرة جدا".(نزهة الأسماع في مسألة السماع:عبد الرحمن بن رجب الحنبلي ص62). وقول ابن حجر الهيتمي (شأن هؤلاء المنتصرين لحلِّ ما حرَّم الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ووارثيه أنَّهم يكتفون بمجرد حكاية يجدونها في كتاب من غير بحث منهم عمن رواها، ولا عن مدلولها ومعناه...ولا منكر أقبح ممن يريد أن يحلِّل ما أجمع العلماء على تحريمه، ويوقع العامة وغيرهم في العمل به وسماعه، غافلاً عما يترتَّب عليه من الإثم والعقاب، عافانا الله من ذلك بمنِّه وكرمه، آمين")كف الرعاع ص 312). وقال ابن حجر الهيتمي:لم يحفظ عن احد ولم يروى عن احد من الصحابة والتابعين ولا من الأئمة المجتهدين كان يقول بإباحة المعازف.( كف الرعاع ص 313)
المطلب الخامس: الضرب بالدُّف حلال في الأعراس والأعياد:

إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رخص بالغناء بغير المعازف، وذلك بضرب الدف للنساء خاصة في العيد، وعند قدوم الغائب، وشرعه في الأعراس كما هو مبسوط في مظانه من كتب أهل العلم. فهو مستثنى من تحريم الغناء بالمعازف والمزامير. وهذا ليس محلاً للنزاع! وذكر البخاري في صحيحه)ضرب الدف في النكاح والوليمة) وروى غير واحد من المحدثين عن محمد بن حاطب الجمحي قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فصل ما بين الحرام والحلال الدف والصوت قال وفي الباب عن عائشة وجابر والربيع بنت معوذ".(رواه أحمد في المسند برقم 15489، ورقم 18305، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن من أجل أبي بلج، والترمذي، رقم 1088، كتاب النكاح، باب ما جاء في إعلان النكاح، قال الشيخ الألباني: حسن. ورواه ابن ماجه يرقم 1896، كتاب النكاح: باب إعلان النكاح 1/611، وقال الشيخ الألباني: حسن، والنسائي برقم 3369 في إعلان النكاح بالصوت وضرب الدف، وقال الشيخ الألباني: حسن).
والدُّف آلة تشبه الطبل إلا أنَّ بينهما فرقاً، فالطبل هو الذي يغطى بالجلد من جهتيه أو من جهة واحدة؛ وأما الدف فهو الذي يصنع من إطار خشبي يغشى بالجلد من جهة واحدة، وقد يكون له جلاجل توضع في خروق في جوانبه؛ فهذا مستثنى من النهي، بل هو مستحب في بعض الحالات، وقد اتفق الفقهاء على جواز ضرب الدف الذي ليس فيه جلاجل إذا كان لا يضرب على هيئة التطريب، من النساء والجواري في حفلات الأعراس؛ بل استحبه المالكية والإمام أحمد وبعض الشافعية في هذه الحال؛ وأما الذي فيه جلاجل ففيه خلاف بين العلماء؛ والأمر فيه أيسر ما دام دفاً.
وأمَّا إذا كان ضرب الدُّف للرجال في العيد أو العرس فقد وقع الخلاف بين أهل العلم في جواز ذلك من عدمه، فأجازه جمهور المالكية وأكثر أصحاب الشافعي، وهو ظاهر كلام أحمد وبعض أصحابه، ومنعه بعض المالكية وبعض الشافعية وجمهور الحنابلة، وهو الأحوط بالنسبة للعرس والعيد؛ لأنَّ النصوص التي ذكرت ضرب الدف لم يرد فيها ذكر لضرب الرجال للدف، والدف مستثنى من التحريم، فيكتفى فيه بالصورة التي استثنيت، بينما ذهب الإمام الأوزاعي وأحمد أنَّه لا يباح فعله للرجال، وبه قال الحافظ ابن رجب:"جمهور العلماء على أنَّ الضرب بالدف للغناء لا يباح للرجال". وقال ابن قدامة:"وأما الضرب به للرجال فمكروه، وعلى كل حال لأنَّه إنَّما كان يضرب به النَّساء والمخنثون المتشبهون بهن، ففي ضرب الرجال تشبٍّه بالنساء، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء".(المغني: ابن قدامة 12/40)، وقال ابن تيمية:"ولكن رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أنواع من اللهو في العرس ونحوه كما رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح، وأمَّا الرجال على عهده فلم يكن أحد على عهده يضرب بدف ولا يصفق بكف، بل ثبت عنه في الصحيح أنه قال:"التصفيق للنساء والتسبيح للرجال، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء".(مجموع الفتاوى: شيخ الإسلام ابن تيمية 13/198)، وقال ابن حجر:"والأحاديث القوية فيها الإذن في ذلك للنساء فلا يلتحق بهن الرجال لعموم النهي عن التشبه بهن".(فتح الباري 9/226).
استعمال الدرمز في الأناشيد:

ابتلي بعض الشباب المسلم باستعمال آلة تسمى الدرمز يستخدمونها في الأناشيد بدل المعازف بدعوى أن من إيقاعاتها الدف والطبل، وأنها البديل الإسلامي عن الموسيقى والمعازف المحرمة شرعاً، وهؤلاء سوّل الشيطان طريقة للتحايل على تحريم الشرع للمعازف(الآلات الموسيقية)، فاستخدموا الدرمز للحصول على المؤثرات الموسيقية التي يطرب لها المستمعون، وتسبب إزعاجا يغطي على كلمات النشيد الطيبة والمنسجمة مع الآداب الإسلامية. حتى في الحفلات الدينية والمناسبات الوطنية أصبح صوت الدرمز مزعج جدا، يضيِّع جمال الكلمات، وحسن أداء المنشدين. ويعبر الشباب المستمعين عن شعورهم بالتلذذ به عن طريق الرقص والتمايل والصفير والتصفيق والزعيق. أي أحدث في قلوبهم لذة وطربا، كما تحدث المعازف والملاهي.
ومن هنا ننبه إلى خطورة ذلك، مبينين مخالفة ذلك للشريعة الغراء، وأنَّ الدرمز آلة موسيقية كغيره من آلات المعازف واللهو المحرمة، ولا عبرة لقول من استحلها من علماء العصر فإنّ كل يأخذ من قوله، ويرد عليه، فيؤخذ قوله ما كان مصحوبا بالدليل والبرهان الساطع من الكتاب والسنة. ويردّ قوله إذا كان بلا دليل أو برهان من الكتاب والسنة. كيف وقد أجمع أهل العلم على تحريم المعازف ما عدا الدف والطبل عند بعضهم.
ضوابط حل الأناشيد الإسلامية:-

1- عدم استعمال الآلات والمعازف المحرمة في النشيد. ويباح منها الدف فقط كما مرَّ معنى سابقا.
2- عدم الإكثار منه وجعله ديدن المسلم، وبسببه تضيع الواجبات والفرائض.
3- أن لا يكون بصوت النساء.
4- أن لا يتضمن كلاما محرما أو فاحشا.
5- أن لا يشابه ألحان أهل الفسق والمجون.
6- أن يخلو من المؤثرات الصوتية التي تنتج أصواتاً مثل أصوات المعازف. كالدرمز ونحوه.
7- أن لا يطرب ويفتن السامع ويهيجه فيصيح ويرقص، كالذي يسمع الأغاني، وما نراه في احتفالات الزواج ممن يستمعون الأناشيد المصحوبة بمؤثرات موسيقية من آلة الدرمز ونحوه كمن يستولدها من جهاز الحاسوب(الكمبيوتر)، فهو آلة تحدث طربا وحكمها التحريم كالمعازف.
البدائل التي يمكن استعمالها في الأنشطة الإسلامية:

وإذا كان بعض الناس يقول وما البديل؟ أقول يمكن الاستغناء عن المعازف وآلات اللهو المحرمة باستعمال الدف في الأعياد والأعراس، وفي غيرهما استعمال الأصوات الطبيعية، كأصوات الطيور، وخرير المياه في الجداول والشلالات، واستعمال أصوات المدافع والقذائف، إذا كان الموضوع أو النشيد له علاقة بالجهاد والرجولة وإحياء العزة في النفوس؛ واستعمال الفواصل من هذه الأصوات ونحوها، أو من بعض المقطوعات الإنشادية التي لا محذور فيها.
الخاتـمـة:

الحمد لله رب العالمين الذي أعانني ووفقني إلى كتابة هذا البحث، وأذكر هنا أهمّ نتائج البحث:
1- إن الإجماع منعقد على تحريم استعمال جميع المعازف كآلات للطرب واللهو ما عدا ما استثناه الشارع منها، كالدف، والطبل في الحرب عند بعض أهل العلم.
2- إنّ الأئمة الأربعة وعلماء المذاهب ذهبوا إلى تحريم المعازف، وعند الجمهور منهم إلى عدم اعتبارها مالاً فإذا كسرها فلا ضمان ولا تورَّث لأنها ليست مالاً.
3- إن أدلة من أباح من العلماء المعاصرين لم يعتمد على أدلة شرعية صحيحة، وعمدوا إلى تأويل الأدلة الشرعية الصحيحة، أو الطعن فيها جريا على مذهب ابن حزم الظاهري الذي اباح المعازف وطعن في صحة الأحاديث التي تدل بوضوح على تحريم المعازف.
4- تبيَّن بطلان صحة أية رواية منسوبة لأحد من الصحابة أو التابعين باستماع الملاهي والمعازف. وما ذكره ابن حزم والشوكاني ومحمد بن طاهر المقدسي ما هي إلا حكايات غير صحيحة. لم يروها أحد من أصحاب الصحاح والسنن وغيرها من المصادر الحديثية المعتمدة.
5- لا يجوز الاعتماد على أقوال الصوفية المبيحين للمعازف والسماع كمحمد بن طاهر المقدسي وأبي حامد الغزالي لأنَّ السماع والمعازف داخلة في دينهم. وكتب هلاء مشحونة بالأحاديث الضعيفة والحكايات المكذوبة.
6- على شبابنا المسلم الحذر من استحلال المعازف لئلا يقعوا في وعيد النبي صلى الله عليه وسلم:"ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف". ومن يبتعد من الشباب المسلم عن سماع الموسيقى في هذا العصر المليء بهذه البلوى ينطبق عليه قول رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"يِأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، الْقَابِضُ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ".(رواه الترمذي، كتاب الفتن، باب الصابر على دينه كالقابض على الجمر، رقم 2428، صحيح الجامع الصغير وزيادته
للشيخ محمد ناصر الدين الألباني رقم8003 ص 1326).
7- إذا كان الإجماع منعقد على تحريم آلات الطرب واللهو، فعلينا عدم استعمالها والاستماع لمن يستخدمها في نشيد أو غيره، كما يجب الابتعاد عن الأقوال الشاذة عن الإجماع.
جعلنا الله تعالى وإياكم بكتاب الله عاملين، وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم متمسكين، وللأئمة الخلفاء الراشدين المهديين متبعين، ولآثار سلفنا، وعلمائنا مقتفين، رحمة الله عليهم أجمعين مهتدين. والحمد لله رب العالمين.
صالح حسين الرقب
المصدر شبكة طريق السنة
يتوجب عليك تسجيل الدخول او تسجيل لروئية الموضوع
 
إنضم
23 يونيو 2011
المشاركات
2,069
النقاط
38
الإقامة
مصر
احفظ من كتاب الله
القرآن كاملا
احب القراءة برواية
حفص
القارئ المفضل
الشيخ محمود خليل الحصري
الجنس
أخ
hamsmasry-4e4228cb7d.gif
 
أعلى