1- كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان، ويقولون: لا يُعطى إلا من لاقى الحروب، وقاتل العدو، وطاعن بالرمح، وضارب بالسيف، وحاز الغنيمة، فنزل قوله تعالى: ﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ﴾ [النساء:7]. رداً عليهم، وإبطالاً لقولهم وتصرفهم بجهلهم، فإن الورثة الصغار كان ينبغي أن يكونوا أحق بالمال من الكبار، لعدم تصرفهم، والنظر في مصالحهم، فعكسوا الحكم، وأبطلوا الحِكمة فضلوا بأهوائهم، وأخطؤا في آرائهم وتصرفاتهم.[1]
وهذا الأمر لم يكنْ في الإسلام شَرْعًا مَسْكُوتًا عنه، مُقَرًّا عَلَيْه، لأنه لو كان شرعًا مُقَرًّا عليه، لَمَا حَكَمَ النبي r على عَمِّ ابنتي سعد بن الربيع، بِرَدِّ ما أَخَذَ من مالهما[2]، لأَنَّ الأحكام إذا مضتْ، وجاء النسخ بعدها، إنما تُؤثر في المستقبل, وَلا يُنْقَض به ما تقدم, وإنما كانتْ ظُلامَةٌ وقعتْ.[3]
[1] الجامع لأحكام القرآن 5/31، أحكام القرآن لابن العربي 1/426.
[2] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، من حديث جابر بن عبد الله، وصححه الترمذي والحاكم والذهبي وابن الملقن، وحسنه الألباني.
[3] أحكام القرآن لابن العربي 1/433، الجامع لأحكام القرآن 5/41.
- وكان التبني معمولاً به في الجاهلية، يتوارثون به ويتناصرون، فكان الرجل إذا أعجبه من الرجل جَلَده، وظرْفه، ضمه إلى نفسه، وجعل له نصيب الذكر من أولاده من ميراثه، وكان يُنسب إليه فيقال: فلان بن فلان.
وعمل بالتبني في ابتداء الإسلام، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ t أَنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ r مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ ﴿ ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [الأحزاب:5] متفق عليه. فنُسِخ بهذه الآية حكم التبني، ومُنِع من إطلاق لفظه.[1]
3- وكان الرجل في الجاهلية إذا رغب في خلة الآخر عاقده، فيقول له: دمي دمك، وهَدْمي هَدْمك، وسلْمي سلْمك، وحربي حربك، ترثني وأرثك، وتنصرني وأنصرك، وتعقل عني وأعقل عنك. وربما زيد في ذلك: وثأري ثأرك، وتطلب بي وأطلب بك[2]، ويوافقه على ذلك. فإذا صدر بينهما ذلك، سُمِّي كل منهما: حليفًا وعقيدًا ومواليًا وعديلاً، وورث كل منهما صاحبه.[3]
[2] ( دمي دمك ): أي إذا قتلت طالبت بدمي. ( هدمي هدمك ): أي من أهدر دمي يكون كما لو أهدر دمك. ( تطلب بي وأطلب بك ): أي تطالب بما أرتكبه من جرائم، وأطالب بما ترتكبه.
وذكر ابن كثير في تفسيره: أنهم توارثوا في ابتداء الإسلام بهذا الحلف، بقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾ [النساء:33]. أي: والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة، أنتم وهم، فآتوهم نصيبهم من الميراث، كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة، ثم نسخ بعد ذلك، وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا، ولا ينشئوا بعد نزول هذه الآية معاقدة.[1]
وعن ابْنِ عَبَّاسٍ t قَالَ: ﴿ وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾ كَانَ الرَّجُلُ يُحَالِفُ الرَّجُلَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ، فَيَرِثُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَنَسَخَ ذَلِكَ الأَنْفَالُ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾. رواه أبو داود، وحسنه ابن حجر والألباني.
واختار ابن جرير: أن الآية محكمة، وأن المراد بقوله: ﴿ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾ أي: من النصرة، والنصيحة، والمعونة، لا أنَّ المراد: ﴿ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾ من الميراث حتى تكون الآية منسوخة. قال ابن كثير[2]: وهذا الذي قاله فيه نظر، فإن من الحلف ما كان على النصرة والمعونة، ومنه ما كان على الإرث، كما حكاه غير واحد من السلف. اهـ.[3]
- ومما توارث به المسلمون في ابتداء الإسلام: الهجرة، وذلك بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ ﴾ [الأنفال:72] فتوارث المسلمون بالهجرة، فكان لا يرث من آمن ولم يهجر، من قريبه المهاجر، ويرث المهاجرين والأنصار بعضهم بعضا، كل منهم أحق بالآخر من كل أحد، ولهذا آخى رسول الله r بين المهاجرين والأنصار كل اثنين أخوان، فكانوا يتوارثون بذلك إرثاً مقدماً على القرابة، وظاهر ما صَوَّر به بعضهم المسألة من قوله: "فكان المهاجر إذا ترك أخوين، أحدهما مهاجر، والآخر غير مهاجر، كان إرثه للمهاجر فقط". ظاهره: اشتراط القرابة بينهما. لكن ظاهر إطلاق بعضهم: أنه لا يشترط أن يكون بينهما قرابة، وهو أقرب إلى ظاهر الآية الكريمة. فتوارث المسلمون بالهجرة، حتى نسخ الله تعالى التوارث بها بقوله: ﴿ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ ﴾ [الأحزاب:6]. أي: القرابات أولى بالتوريث في حكم الله من المهاجرين والأنصار. فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من التوريث بالحلف والمؤاخاة والهجرة. وقيل: ليس هنا نسخ، وإنما معناه النصرة والنصيحة والمعونة، كما تقدم.[1]
قال ابن حجر[2]: قال ابن بَطَّال: أكثر المفسرين عَلَى أَنَّ الناسخ لقوله تعالى: ﴿ وَاَلَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ قوله تعالى في الأنفال: ﴿ وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾ وبذلك جزم أبو عُبَيْد فِي النَّاسِخ والمنسوخ. قلت: كذا أخرجه أبو داود بسندٍ حسن عن ابن عباس.اهـ. وتقدم ذكر الخبر الذي أشار إليه الحافظ.
[1] انظر: الجامع لأحكام القرآن 8/37، تفسير القرآن العظيم 4/66، 6/227، حاشية الباجوري ص64.
- وفي ابتداء الإسلام أمر الله تعالى بالوصية للوالدين والأقربين بقوله: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة:180]. واختلف أهل العلم، هل كان ذلك على سبيل الوجوب أو الندب ؟. فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه الآية، وصارت المواريث المقدرة، فريضة من الله، يأخذها أهلوها حتمًا من غير وصية، ولا تحمل مِنَّة الموصِي.
وقيل: إن آية الفرائض لم تستقل بنسخها بل بِضميمةٍ أخرى، وهي قوله r في حديث أَبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ: (( إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ )) رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي وحسنه، وصححه الألباني.
وقيل: إن الآية مخصوصة لا منسوخة، وأن آية المواريث رَفَعتْ حكم الوصية فيمن يرث، دون من لا يرث، فيستحب له أن يوصِي لقرابته الذين لا يرثون، استئناسًا بآية الوصية وشمولها. وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم[1]، وهو أن حكم الوصية للأقارب وإن نسخ، لم يَبطل بالكلية، بل بقي منه ما هو مَنْشَأ المصلحة، وهو الوصية للأقارب الذين لا يرثون، ونسخ منه ما لا مصلحة فيه، بل المصلحة في خلافه. ويد لهذا قول ابْن عَبَّاسٍ t: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ. رواه البخاري.[2]
[1] مجموع فتاوى ابن تيمية 31/363، مفتاح دار السعادة 2/388.
[2] تفسير القرآن العظيم 1/274، الجامع لأحكام القرآن 2/176.
- وأمر الله تعالى أن يرزق من التركة من حضر قسمتهاممن لا يرث من ذوي القربى، واليتامى، والمساكين. فقال: ﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ﴾ [النساء:8]. فيُرْضَخُ لهم من التركة ما طابت به نفس الورثة، ويقال لهم: خذوا بُورِك لكم، أو ودِدتُ أنْ لو كان أكثر من هذا، ونحو ذلك. وقيل: لا حاجة مع الرزق إلى عذر. فيرضخ لهم إن كان المال كثيرًا، ويعتذر إليهم إن كان قليلاً. وذلك لأن من حضر القسمة من قرابة الميت ممن لا يرث واليتامى والمساكين، تتشوف نفوسهم إلى أخذ شيء منه، ولا سيما إنْ كان جزيلاً، فأمر الله سبحانه، أن يرضخ لهم بشيء، على سبيل البر والإحسان.
واختلف أهل العلم، هل الأمر فيه على الواجب أو الندب ؟ وهل نسخ أم لا ؟ فقال مجاهد، وطائفة: هي على الوجوب، وهو اختيار ابن حزم[1]. وقال ابن العربي، والقرطبي وغيرهما: الأمر في الآية محمول على الندب، لأنه لو كان فرضًا، لكان استحقاقًا في التركة، ومشاركة في الميراث، لأحد الجهتين معلوم، وللآخر مجهول، وذلك مناقض للحكمة، وسبب للتنازع والتقاطع.
وجمهور الفقهاء والأئمة الأربعة وأصحابهم: على أن الآية منسوخة، بآية الميراث. وقال ابن عباس، وابن جبير، والحسن: إنها محكمة، ولكن الناس ضيعوها، روى البخاري في صحيحه عَنْ ابن عباس t أنه قَالَ في هذه الآية: هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ. وفي رواية قال: إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نُسِخَتْ، وَلا وَاللَّهِ مَا نُسِخَتْ، وَلَكِنَّهَا مِمَّا تَهَاوَنَ النَّاسُ، هُمَا وَالِيَانِ، وَالٍ يَرِثُ وَذَاكَ الَّذِي يَرْزُقُ، وَوَالٍ لا يَرِثُ فَذَاكَ الَّذِي يَقُولُ بِالْمَعْرُوفِ، يَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ أَنْ أُعْطِيَكَ. رواه البخاري. ورجح هذا القول ابن حزم[2]، والقرطبي. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية[3]: ينبغي للميت أن يوصي لقرابته الذين لا يرثونه، فإذا لم يوصِ فينبغي إذا حضروا القسمة أن يعطوا منه. اهـ.
وذهبت فرقة: إلى إن الآية نازلة في الوصية، وأن المخاطب في الآية: المُحْتَضَرون الذين يقسمون أموالهم بالوصية لا الوَرَثة، وروي ذلك عن ابن عباس بإسناد صحيح كما قال الحافظ ابن حجر[4]، فإذا أراد المريض أن يفرِّق ماله بالوصايا، وحضره من لا يرث، ينبغي له أن لا يحرمه. قال القرطبي: والصحيح الأول، وعليه المعوَّل. اهـ.[5] والله تعالى أعلم.
وذكر ابن كثير في تفسيره: أنهم توارثوا في ابتداء الإسلام بهذا الحلف، بقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾ [النساء:33]. أي: والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة، أنتم وهم، فآتوهم نصيبهم من الميراث، كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة، ثم نسخ بعد ذلك، وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا، ولا ينشئوا بعد نزول هذه الآية معاقدة.[1]
وعن ابْنِ عَبَّاسٍ t قَالَ: ﴿ وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾ كَانَ الرَّجُلُ يُحَالِفُ الرَّجُلَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ، فَيَرِثُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَنَسَخَ ذَلِكَ الأَنْفَالُ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾. رواه أبو داود، وحسنه ابن حجر والألباني.
واختار ابن جرير: أن الآية محكمة، وأن المراد بقوله: ﴿ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾ أي: من النصرة، والنصيحة، والمعونة، لا أنَّ المراد: ﴿ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ﴾ من الميراث حتى تكون الآية منسوخة. قال ابن كثير[2]: وهذا الذي قاله فيه نظر، فإن من الحلف ما كان على النصرة والمعونة، ومنه ما كان على الإرث، كما حكاه غير واحد من السلف. اهـ.[3]