قواعد نبوية [1/50] د. عمر بن عبد الله المقبل ..

طباعة الموضوع
إنضم
23 يونيو 2011
المشاركات
2,069
النقاط
38
الإقامة
مصر
احفظ من كتاب الله
القرآن كاملا
احب القراءة برواية
حفص
القارئ المفضل
الشيخ محمود خليل الحصري
الجنس
أخ
قواعد نبوية [1/50] د. عمر بن عبد الله المقبل ..






الحمد لله الذي خلق فسوّى، وقدّر فهدى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فأكرمه وسدّد أقواله، وعصمه من الزلل فيها، بقوله: "وما ينطق عن الهوى"، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وأزواجه، ومن بهداهم اقتدى.




أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته - أيها القراء الكرام - وحياكم الله في أولى سلسلتنا هذه "قواعد نبوية"، والتي تأتي تتمةً لصنوها - التي بُثَّت من خلال أثير: إذاعة القرآن الكريم - قبل سنتين - والذي كان عنوانها: "قواعد قرآنية".





أيها الإخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوة:
من الأمور المتفق عليها بين المسلمين، أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم قد أوتي من الفضائل ما لم يجمعه الله في بشر سواه، ومن جملة هذه الفضائل التي حلاّه الله بها: أنه أوتي جوامع الكلم؛ فاختُصرت له المعاني العظيمة في كلمات قليلة.





وجوامع كلمه - كما يقول ابن رجب - نوعان:
"أحدهما: ما هو في القُرآن، كقوله عز وجل: "إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْي"[النحل: 90] قال الحسنُ: لم تترك هذه الآيةُ خيراً إلاَّ أَمرت به، ولا شرّاً إلاَّ نَهَتْ عنه.
والثَّاني: ما هو في كلامه صلى الله عليه وسلم، وهو موجودٌ منتشرٌ في السُّنن المأثورةِ عنه صلى الله عليه وسلم"ا.هـ.(1)



وإذا أردتَ - أيها القارئ الكريم - أن تكشف عن شيء من وجوه الإعجاز في هذه الجوامع؛ فتذكر أنه أوتيها: "وهو أُمّي مِن أمةٍ أمية، لم يقرأ كتاباً ولا درس علماً، و لا صحِب عالماً ولا معلماً، فأتى بما بهر العقول، وأذهل الفِطَن، مِن إتقانِ ما أبانَ، وإحكامِ ما أظهر، فلم يَعثُر فيه بزلل في قولٍ أو عمل".(2)




"أفصح الناس لساناً، وأوضحهم بياناً، وأوجزهم كلاماً، وأجزلهم ألفاظاً، وأصحهم معاني، لا يظهر فيه هجنة التكلف(3)، ولا يتخلله فيهقة التعسف(4)،... كلامه جامع لشروط البلاغة، ومُعْرِبٌ عن نهج الفصاحة، ولو مزج بغيره لتميز بأسلوبه، ولظهر فيه آثار التنافر، فلم يلتبس حقه من باطله، ولبان صدقه من كذبه، هذا ولم يكن متعاطياً للبلاغة، ولا مخالطاً لأهلها من خطباءَ، أو شعراء، أو فصحاء، و إنما هو من غرائز فطرته، و بداية جبلته، وما ذاك إلا لغاية تراد، وحادثة تشاد!"



ومما خصّه الله به - في هذا المقام - من أوجه الإعجاز: "وضوح جوابه صلى الله عليه وسلم إذا سئل، وظهور حجاجه إذا جودل، لا يحصره عي، ولا يقطعه عجز، و لا يعارضه خصم في جدال إلا كان جوابه أوضح، وحجاجه أرجح،...





ومما خصّه الله به - في هذا المقام -:"تحرير كلامه في التوخي به إبّان حاجته، والاقتصار منه على قدر كفايته، فلا يسترسل فيه هذراً، و لا يحجم عنه حصراً، وهو - فيما عدا حالتي الحاجة والكفاية -: أجملُ الناس صمتاً، وأحسنهم سمتاً صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك حفظ كلامه، حتى لم يختل، وظهر رونقه حتى لم يعتل، واستعذبته الأفواه حتى بقي محفوظاً في القلوب، مدوناً في الكتب..." (5).




أيها الإخــــــــــــــــــــــــــــــــــوة:
لقد اعتنى العُلماء كثيراً بهذا النوع من الأحاديث؛ فصنفوا فيه التصانيف، وجمعوا فيه الجموع، ومن ذلك:


1 - "الإيجاز وجوامع الكلم مِنَ السُّنَن المأثورة" لأبي بكر ابن السُّنِّيِّ رحمه الله.


2- "الشهاب في الحِكَم والآداب" للقاضي أبي عبدِالله القُضاعي رحمه الله جمع فيه مِنْ جوامع الكلم الوجيزة، وصنَّفَ على مِنوالِه قومٌ آخرون، فزادُوا على ما ذكره زيادةً كثيرةً.


وأَشارَ الخطَّابيُّ رحمه الله - في أوَّل كتابه"غريب الحديث"- إلى جملةٍ يسيرة من الأحاديث الجامعة.



3- ومن ذلك: ما أملاه الإمامُ الحافظُ أبو عمرو بنُ الصَّلاحِ رحمه الله في مجلسٍ من مجالسه، وسمَّاه: "الأحاديث الكلّيَّة"جمع فيه الأحاديثَ الجوامعَ التي يُقال: إنَّ مدارَ الدِّين عليها، وما كان في معناها مِنَ الكلمات الجامعةِ الوجيزةِ؛ فاشتمل مجلسهُ هذا على ستَّةٍ وعشرين حديثاً.



4 - ثمَّ جاء بعده الإمام الفقيهُ الزَّاهِدُ القُدوةُ، أبو زكريا يحيى النَّوويَّ -رحمةُ اللهِ عليهِ- فأخذَ هذه الأحاديثَ - التي أملاها ابنُ الصَّلاحِ - وزادَ عليها تمامَ اثنينِ وأربعينَ حديثاً، وسمى كتابه بـ"الأربعين"، وهي المعروفة بـ"الأربعين النووية"، التي اشتهرت، وكَثُرَ حفظُها، ونفع الله بها؛ ولعل ذلك ببركة نيَّة جامِعِها، وحُسْنِ قصدِه رحمه الله"(6).



وفي عصرنا هذا وما قبله سمت همة بعض العلماء إلى التصنيف في هذا الباب - أيضاً - ولعل من أشهر الكتب في هذا، كتابُ العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله "بهجة قلوب الأبرار، وقرة عيون الأخيار، في شرح جوامع الأخبار"، فإنه انتقى من هذا الباب تسعة وتسعين حديثاً، - ولم يكتف بهذا - بل شرحها شرحاً موجزاً، سهل العبارة، مليئاً بالفوائد والقواعد - كما هي عادته في مصنفاته رحمه الله - وقد أوضح مقصوده بهذا التصنيف فقال:


"فليس بعد كلام الله: أصدق، ولا أنفع، ولا أجمع لخير الدنيا والآخرة؛ من كلام رسوله وخليله محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو أعلم الخلق، وأعظمهم نصحاً وإرشاداً وهداية، وأبلغهم بياناً وتأصيلاً وتفصيلاً، وأحسنهم تعليماً، وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً؛ بحيث كان يتكلم بالكلام القليل لفظه، الكثيرة معانيه، مع كمال الوضوح والبيان الذي هو أعلى رتب البيان.



وقد بدا لي أن أذكر جملةً صالحة من أحاديثه الجوامع في المواضيع الكلية، والجوامع في جنس، أو نوع، أو باب من أبواب العلم، مع التكلم على مقاصدها، وما تدل عليه على وجه يحصل به الإيضاح والبيان مع الاختصار؛ إذ المقام لا يقتضي البسط"(7).




أيها الإخوة:
ولم تكن العناية بجوامع كلمه صلى الله عليه وسلم - أو بما اصطلحنا عليه بـ"القواعد النبوية"- مقتصرةً على علماء الشريعة فحسب؛ بل كان لعلماء الإسلام قاطبةً اهتمامٌ ظاهر بهذا النوع من الأحاديث؛ يظهر ذلك جلياً في كتب البلاغة، والبيان، والأدب، والتي لا يكاد يخلو كتاب منها إلا وينوّه بما أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم من قدرة عظيمة على صياغة المعاني الكثيرة في جملٍ قصيرة، ويضمنون كتبهم نماذج من ذلك.



فهذا – مثلاً - أبو منصور الثعالبي (ت: 430هـ) (8) يصدر كتابه "الإعجاز والإيجاز"- بعد أن ذكر نماذج من الآيات القرآنية التي تشبه القواعد - بذكر نماذج من الكلام النبوي المعجز في بلاغته وبيانه، مع قصر ألفاظه وتراكيبه؛ فعقد لذلك ثلاثة فصول، منها قوله في الفصل الثالث: "فصل في سائر أمثاله وروائع أقواله، وأحاسين حكمه في جوامع كلمه التي يلوح عليها نور النبوة، وتجمع فوائد الدين والدنيا"(9)، ثم ذكر أكثر من ثلاثين نموذجاً.





أيها الإخوة:
هذا غيض من فيض مما يتعلق بالإشارة إلى ما آتى الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم من كمالاتٍ في باب الفصاحة والبيان، كان الغرض منها: التوطئة لأهمية العناية بهذا النوع من كلماته الجوامع، والتي نود أن نصطلح عليها هنا بـ"قواعد نبوية"، ننطلق فيها بإذن الله؛ لانتقاء كلمات جوامع من حديثه الثابت عنه صلى الله عليه وسلم؛ نتفيأ ظلالها، وننعم ببركة معانيها؛ لعلنا نترجمها واقعاً عملياً في حياتنا، وهل يراد من العلم إلا العمل؟ سواءٌ كان عملاً قلبياً، أم متعلقاً بالجوارح.



وإلى لقاء قريب – بإذن الله - في قاعدة جديدة



________________
(1) جامع العلوم والحكم: (1/ 50).
(2) أعلام النبوة للماوردي: (254).
(3) الهُجْنَة: قُبْحُ الْكَلَام.
(4) تَفَيْهَق فِي كلامِه: إِذا تنطّع وتوسّع فِيهِ.
(5) ما تقدم كله مختصر من كلام الماوردي في" أعلام النبوة"(254-260) بتقديم وتأخير.
(6) جامع العلوم والحكم: (1/ 56).
(7) "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار" مقدمة المؤلف.
(8) له ترجمة في سير أعلام النبلاء: (17/438).
(9) الإعجاز والإيجاز : (22).


يتوجب عليك تسجيل الدخول او تسجيل لروئية الموضوع
 
إنضم
3 يونيو 2012
المشاركات
2,918
النقاط
38
الإقامة
تونس الخضراء
احفظ من كتاب الله
الحمد لله
احب القراءة برواية
قالون
القارئ المفضل
الحذيفي / أبو عبد الله
الجنس
أخت
بارك الله فيكم و أحسن الله إليكم على الموضوع القيّم
جزاكم الله خيرا
 

تسابيح ساجدة

لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
إنضم
16 أكتوبر 2010
المشاركات
8,111
النقاط
38
الإقامة
المعهد
احفظ من كتاب الله
اللهم إجعلنا من العاملين به... آمين
احب القراءة برواية
حفص
القارئ المفضل
هم كُثر ,,,
الجنس
أخت
فليس بعد كلام الله عز وجل : أصدق، ولا أنفع، ولا أجمع لخير الدنيا والآخرة؛ من كلام رسوله وخليله محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو أعلم الخلق، وأعظمهم نصحاً وإرشاداً وهداية، وأبلغهم بياناً وتأصيلاً وتفصيلاً، وأحسنهم تعليماً، وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً؛ بحيث كان يتكلم بالكلام القليل لفظه، الكثيرة معانيه، مع كمال الوضوح والبيان الذي هو أعلى رتب البيان.

بوركتم اخي الفاضل

طرح قيم جدا جدا ورائع

سلمت يمينكم واحسن ربي سبحانه اليكم

وجزاكم جل وعلا خير الجزاء واجزل لكم العطاء


 
إنضم
23 يونيو 2011
المشاركات
2,069
النقاط
38
الإقامة
مصر
احفظ من كتاب الله
القرآن كاملا
احب القراءة برواية
حفص
القارئ المفضل
الشيخ محمود خليل الحصري
الجنس
أخ
قوآعد نبويه [2/50] د. عمر بن عبد الله المقبل ..






قواعـــد نبويـــــــــــــة [2/50]


د. عمر بن عبد الله المقبل









القاعدة الأولى: (إنما الأعمال بالنيات) (1)



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:





فمرحباً بكم - أيها القراء الكرام - في حلْقة جديدة من سلسلتكم: "قواعد نبوية"، والتي نبدأ فيها بذكر نماذج من تلك القواعد التي حوت من جوامع الكلم النبوي صنوفاً.




والقاعدة التي تتبوأ المنزلة الأولى من تلكم القواعد النبوية، وجوامع الكلم المصطفوية؛ قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"، فهي قاعدة عظيمة، جعلها النبي صلى الله عليه وسلم ميزاناً للأعمال الباطنة، كما أنها أحد شرطي قبول العمل: الإخلاص.




فمن أخلص أعماله لله متبعاً في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا الذي عمله مقبول، ومن فقد الأمرين أو أحدهما فعمله مردود، داخل في قول الله تعالى:"وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً"[الفرقان: 23].




ومن أخلص لله، واتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو داخل في قوله تعالى:"وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ"الآية[النساء:125]، وفي قوله سبحانه:"بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ"[البقرة: 112].




أما النية - التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القاعدة -: فهي القصد للعمل تقرباً إلى الله، وطلباً لمرضاته وثوابه، فيدخل في هذا: نية العمل، ونية المعمول له.




"والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين:


أحدهما: تمييز العبادات بعضها عن بعض -كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلاً، وتمييز رمضان من صيام غيره-، أو تمييز العبادات من العادات - كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظيف، وكمن يذبح شاة أضحيةً أو رغبةً في أكل لحمها، ونحو ذلك -، وهذه النية هي التي توجد كثيراً في كلام الفقهاء في كتبهم.



والمعنى الثاني - للنية في كلام أهل العلم -:بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو لله وحده لا شريك له، أم لله وغيره؟ وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم، في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيراً في كلام السلف المتقدمين رحمهم الله تعالى...، وهي - قبل هذا - التي يتكرر ذكرها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، تارة بلفظ النية، وتارة بلفظ الإرادة، وتارة بلفظ مقارب لذلك، وقد جاء ذكرها كثيراً في كتاب الله عز وجل بغير لفظ النية أيضاً من الألفاظ المقاربة لها". (2)



أيها الإخـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوة:
إن الحديث عن هذه القاعدة يستحق أن يفرد بمجلدات! كيف وقد قال بعض الأئمة: إن هذا الحديث - يعني حديث النية - هو نصف الدين؟! ذلك أن الأعمال: إما ظاهرةٌ أو باطنة، فالأعمال الظاهرة دليلها: حديث "من عمل عملاً..."(3)، ودليل الأعمال الباطنة هو هذه القاعدة النبوية المحكمة: "إنما الأعمال بالنية".




أما كلام الأئمة في كونه ثلث الدين، أو ربعه،
أو خمسه، فهذا كثير ومشهور.




بل قال الإمام الشافعي رحمه الله: إن هذا الحديث يدخل في جميع أبواب العلم.



فحريٌّ بالعبد - بعد معرفة منزلة هذا الحديث العظيم والقاعدة النبوية المحكمة "إنما الأعمال بالنيات" - أن يستحضر هذا الحديث في أعماله كلها: بحيث ينوي "نية كلية شاملة لأموره كلها، يقصد بها وجه الله، والتقرب إليه، وطلب ثوابه، واحتساب أجره، والخوف من عقابه، ثم يستصحب هذه النية في كل فرد من أفراد أعماله وأقواله، وجميع أحواله، حريصاً فيه على تحقيق الإخلاص وتكميله، ودفع كل ما يضاده: من الرياء والسمعة، وقصد المحمدة عند الخلق، ورجاء تعظيمهم، بل إن حصل شيء من ذلك فلا يجعله العبدُ قصدَه، وغايةَ مرادِه، بل يكون القصدُ الأصيلُ منه وجهَ الله، وطلبَ ثوابِه من غير التفاتٍ للخلق، ولا رجاء لنفعهم أو مدحهم، فإن حصل شيء من ذلك - دون قصد من العبد - لم يضره شيئاً، بل قد يكون من عاجل بشرى المؤمن"(4).




وعوداً على بدء: فإن قوله صلى الله عليه وسلم- في هذه القاعدة النبوية العظيمة -:"إنما الأعمال بالنيات" أي: إنها لا تحصل ولا تكون إلا بالنية، وأن مدارها على النية، "أو أنَّ صلاحَ الأعمال وفسادَها بحسب صلاحِ النِّياتِ وفسادِها".(5)




فمن نوى فعل الخير وقصد به المقاصد العليا - وهي ما يقرب إلى الله - فله من الثواب والجزاءِ الجزاءَ الكامل الأوفى، ومن نقصت نيتُه وقصدُه؛ نقص ثوابه، ومن توجهت نيته إلى غير هذا المقصد الجليل؛ فاته الخير، وحصل على ما نوى من المقاصد الدنيئة الناقصة.




أيها الإخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوة:
إن من أهم ما ينبغي للعبد أن يعتني به - وهو يقرأ هذه القاعدة "إنما الأعمال بالنيات" - أن يفتش عن مقاصده في أعماله، وتلك - والله - التي رفع الله بها شأن القوم من سلف هذه الأمة، وكلُّ من سلك طريقتهم في مراقبة القلب، والتفتيش عن إراداته، والاجتهاد في تنقية العمل من شوائبه الفاسدة؛ فله من الرفعة والقبول، وعلو المنزلة بحسبه.





ولقد تتابعت كلمات الأئمة في التنويه بهذا الأمر، وحسبك - أيها القارئ الكريم - أن تتأمل في قصة المرأة البغي من بني إسرائيل، التي لم تذكر إلا بجريمتها - وهي البغاء - ومع هذا لما سقت ذلك الكلب ابتغاء مرضات الله؛ غفر الله لها(6)؛ فانظر كيف انتقل هذا العمل اليسير إلى هذه المنزلة العالية من الثواب! وفي مقابل ذلك تأمل تلك الأفعال الكبيرة، ومنها: تطاير الرقاب عن أجسادها، كيف تنقلب بسوء النية إلى عملٍ يستحق صاحبه العقوبة عليه!




وحين سُئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، أو حمية، أو ليُرى مقامُه في صف القتال "أيّ ذلك في سبيل الله؟" فقال: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل اللهz(7).




يقول مطرِّف بن عبدِالله رحمه الله: صلاحُ القلب بصلاحِ العملِ، وصلاحُ العملِ بصلاحِ النيَّةِ".(8)



ويقول ابن رجب رحمه الله:"والأعمال إنما تتفاضل ويعظم ثوابها بحسب ما يقوم بقلب العامل من الإيمان والإخلاص، حتى إن صاحب النية الصادقة - وخصوصاً إذا اقترن بها ما يقدر عليه من العمل - يلتحق صاحبها بالعامل، قال تعالى: "وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ"[النساء: 100].



وفي الصحيح مرفوعاً: {إذا مرض العبد أو سافر كُتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماًz(9)، {إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم - أي: في نياتهم وقلوبهم وثوابهم - حبسهم العُذْرz(10) وإذا هَمَّ العبد بالخير، ثم لم يُقَدَّر له العمل؛ كُتِبت همتُه ونيتُه له حسنةً كاملة"(11)ا.هـ.



وما أجمعَ ما قال داود الطَّائيِّ: رأيتُ الخيرَ كلَّه إنَّما يجمعُه حُسْنُ النِّيَّة، وكفاك به خيراً وإنْ لم تَنْصَبْ.



أيها الإخـــــــــــــــــــــــــــــــــــوة:
لا يوجد في حياتنا عمل - مهما كانت منزلته - إلا ويرتبط بهذه القاعدة العظيمة: "إنما الأعمال بالنيات"، ومن ذلك: الإحسان إلى الخلق بالمال أو القول أو الفعل؛ فإن ذلك كله جميل وعظيم، وإذا اقترنت به نية صالحة كان ثوابه أعظم؛ تأمل جيداً قوله تعالى: "لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ"[النساء: 114]، أي: فإنه خير، ثم قال: "وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً"[النساء: 114] فرتّب الأجر العظيم على فعل ذلك ابتغاء مرضاته، وفي البخاري مرفوعاً: {من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّاها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله z (12) فانظر كيف جعل النية الصالحة سبباً قوياً للرزق وأداء الله عنه، وجعل النية السيئة سبباً للتلف والإتلاف!




وإذا كان هذا في الأمور المتعدية النفع؛ فإن قاعدتنا هذه "إنما الأعمال بالنيات" تجري النية في الأمور المباحة، والأمور الدنيوية:
"فمن قصدَ بكسبه وأعماله الدنيوية والعادية الاستعانةَ بذلك على القيام بحق الله وقيامه بالواجبات والمستحبات، واستصحَب هذه النية الصالحة في أكله وشربه، ونومه وراحته ومكاسبه؛ انقلبت عاداته عبادات، وبارك الله للعبد في أعماله، وفتح له من أبواب الخير والرزق أموراً لا يحتسبها ولا تخطر له على بال، ومن فاتته هذه النية الصالحة - لجهله أو تهاونه – فقد فاته خير كثير جداً" (13).




وبما تقدم - أيها الإخوة - يتبين أن هذه القاعدة جامعة لأمور الخير كلها، فحقيق بالمؤمن الذي يريد نجاة نفسه ونفعها: أن يفهم معنى هذه القاعدة، وأن يكون العمل بها نُصب (14) عينيه في جميع أحواله وأوقاته.



ولنختم بجميل من قول السلف - وهو قول سهلِ بن عبد الله التُّستَري رحمه الله -: ليس على النَّفس شيءٌ أشقُّ مِنَ الإخلاصِ؛ لأنَّه ليس لها فيه نصيبٌ". (15)



اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا..


_____________
(1) البخاري(1)، ومسلم(1907)بلفظ: "إنما الأعمال بالنية".
(2) جامع العلوم والحكم: (ص11).
(3) بهذا اللفظ أخرجه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم 4/298 في البيوع: باب النجش، ومسلم(1718).
(4) بهجة قلوب الأبرار: ص6.
(5) جامع العلوم والحكم: (ص10).
(6) صحيح مسلم (2245).
(7) البخاري: (123)، مسلم: (1904).
(8) جامع العلوم والحكم: (ص13).
(9) البخاري: (2834).
(10) البخاري: (4161).
(11) جامع العلوم والحكم: (ص13).
(12) البخاري: (2257).
(13) ينظر: البهجة.
(14) قال ثعلب والقتيبي: نُصْبَ عيْنِي، بالضَّمِّ، أَي بِمَعْنى مفعول، أَي منصوبها، أَي: مَرْئِيّها، رؤيَةً ظَاهِرَة بحيثُ لَا يُنْسَى، وَلَا يُغفَلُ عَنهُ، وَلم يُجْعَلْ بظَهْرٍ. انظر: تاج العروس (4/ 279).
(15) جامع العلوم والحكم: (ص17).


 
إنضم
23 يونيو 2011
المشاركات
2,069
النقاط
38
الإقامة
مصر
احفظ من كتاب الله
القرآن كاملا
احب القراءة برواية
حفص
القارئ المفضل
الشيخ محمود خليل الحصري
الجنس
أخ
قوآعد نبويه [3/50] د. عمر بن عبد الله المقبل ..


القاعد النبوية الثانيــــــــــــــــــــة


"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه هو رد "



الحمد لله رب العالمين، حمداً دائماً بدوامه سبحانه، على نعمه وآلائه وفواضله، والصلاة والسلام على من آتاه ربه جوامع الكلم في أقواله، وعظيم الأخلاق في أفعاله.

أما بعد:


فمرحباً بكم -أيها القراء الكرام- في حلْقة جديدة من سلسلتكم المباركة: "قواعد نبوية"؛ لنتذاكر في هذه الحلقة قاعدة من القواعد النبوية المحكمة التي دلّ عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم -في حديث عائشة المتفق عليه-:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"وفي لفظ لهما - أيضاً -:"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".



هذا الحديث العظيم، من أعظم قواعد الشرع، بل قال بعض الأئمة:إن هذا الحديث يمثل نصف الدين، إذ الأعمال: إما ظاهرة أو باطنة، فحديث النية حاكم على الأعمال الباطنة، وهذا الحديث حاكم على جميع الأعمال الظاهرة.



"يقول أبو عبيد رحمه الله قال:جمع النبي صلى الله عليه وسلم جميع أمر الآخرة في كلمة واحدة "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"، وجمع أمر الدنيا كله في كلمة واحدة "إنما الأعمال بالنيات" يدخلان في كل باب". (1)


وقال النووي: "هو صريح في رد كل البدع والمخترعات" (2) أي في الدين.
وقال أيضاً: "هذا الحديث مما ينبغي أن يُعتنى بحفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به". (3)


أما ما يخص معناها، فيمكن توضيحه باختصار، بأن يقال:
إن قوله: "من أحدث في أمرنا هذا": أي في شريعة الإسلام التي بعث الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم.


"ما ليس منه": أي لم يشرعه الله تعالى، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
"فهو رد z : "أي: مردود، ومعناه: فهو باطل غير معتد به" (4)، حتى وإن كان صاحبه مخلصاً، مجتهداً في عمله هذا؛ لأن العبادة -في الشرع- لا تقبل إلا إذا تحقق فيها الشرطان: الإخلاص، والمتابعة.


كما أن المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم لا تحقق إلا إذا وافقت العبادة الشرعَ في ستة أمور:
وليعلم أن المتابعة لا تتحقق إلا إذا كان العمل موافقاً للشريعة في أمور ستة: سببه، وجنسه، وقدره، وكيفيته، وزمانه، ومكانه.


أولاً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في سببه: وذلك بأن يفعل الإنسان عبادة لسبب لم يجعله الله تعالى سبباً مثل: لو أن أحداً أحدث عيداً لانتصار المسلمين في بدر، فإنه يرد عليه، لأنه ربطه بسبب لم يجعله الله ورسوله سبباً.


ثانياً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في الجنس، فلو تعبّد لله بعبادة لم يشرع جنسها فهي غير مقبولة، مثال ذلك: لو أن أحداً ضحى بفرس - ولو كانت تساوي ملايين -، فإن ذلك مردود عليه لأن الأضاحي لا تصح إلا ببهيمة الأنعام.


ثالثاً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في القدر: فلو تعبد شخص لله عزّ وجل بقدر زائد على الشريعة لم يقبل منه، كمن يزيد في عدد ركعات الصلاة، أو يزيد على العدد المحدد شرعاً لذكر من الأذكار، بحيث يكون العدد فيه مقصوداً، وكمن يغسل أعضاء الوضوء أربع مرات.


رابعاً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في الكيفية: كمن يسجد قبل أن يركع، فصلاته باطلة مردودة، أو ينكس في رمي الجمار، ونحو ذلك، فعبادته مردودة؛ لأنها لم توافق الشريعة في الكيفية.


خامساً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في الزمان: فلو صلى الصلاة قبل دخول وقتها، أو وقف في عرفة في يوم العيد مثلاً، فعمله هذا غير مقبول؛ لأنه في غير الزمن الذي حدده الشرع.


سادساً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في المكان: فلو أن أحداً اعتكف في غير المساجد - كأن يعتكف في البيت - فإن اعتكافه لا يصح؛ لأنه لم يوافق الشرع في مكان الاعتكاف، وهي المساجد (5).


وهذا الذي سبق تقريره من كون المتابعة لا تتحقق إلا بستة أمور، لا يختص بالعبادات فحسب، بل هو شامل للمعاملات والعقود -أيضاً-: فعقود البيوع والأنكحة وغيرها مما يخالف الشريعة، كلها مردودة، ولا يصح إمضاء شيء منها إلا ما دلّ الدليل على إمضائه، وإلا كان إمضاؤها مضادةً لله ورسوله في حكمه.


أخي الموفَّق:
إن من دلالات عظمة هذه القاعدة: امتدادها عبر الزمان؛ لتكون سيفاً قاطعاً لكل بدعة في هذا الدين، وإذا ضممت إلى هذه القاعدةِ القاعدةَ الأخرى -التي تلتقي مع قاعدتنا هذه- "إياكم ومحدثات الأمور"؛ عرفتَ وأدركتَ حرص الشرع، وعظيم تأكيده على وأد البدعة في مهدها، بل قبل ولادتها.


وكما دلّ الدليل الشرعي على بطلان ما يحدثه الناس من عقائد وعبادات لم تأت بها الشريعة؛ فإن العقل دالٌّ على ذلك أيضاً:
فإن الله تعالى أكمل الدين بموت النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"[المائدة: 3]

فيقال لمن ابتدع بدعة في الدين: وهل بعد الكمال إلا النقص؟
ويقال -أيضاً-: هل هذا الذي فعلته واستحسنته من الدين أم لا؟
فإن قال: هو من الدين؛ فيقال: هل علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وبقية صحابته الكرام؟ فإن قال: نعم، فيقال: ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ )وإن قال: لا! فيقال: شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته أتعلمه أنت؟! وإن قال: لم يعلموه، ظهر ضلاله وجهله، وانقطع عذره.


يقول الشاطبي رحمه الله: "فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله: إن الشريعة لم تتم، وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها; لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه; لم يبتدع، ولا استدرك عليها، وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم"ا.هـ (6).



وقال الإمام مالك رحمه الله: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله يقول: "اليوم أكملت لكم دينكم"[المائدة: 3] ، فما لم يكن يومئذ دينا، فلا يكون اليوم دينا" (7).


وبمثل هذه القاعدة :"من أحدث في أمرنا هذا..."، وبمثل هذه الحجة التي ذكرناها آنفاً، كان السلف يحاجون ثم يخصمون كل من يحدث في الدين بدعةً من البدع، سواءٌ كانت متعلقة بالعقائد، أم بالعبادات المحضة، أم بغيرها.


وعلى هذا الأصل اعتمد الأئمة في ردّ بدع أهل الكلام، وما أحدثه الناس من بدع في المساجد أو المقابر، أو ما يخص الموالد، وغيرها من البدع المحدثة (8).


أيها الإخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــوة:
إذا تبيّن معنى هذه القاعدة - "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" -، فإن الواجب على العبد أن يفتش في أفعاله وأقواله، وينظر في مطابقتها للشريعة؛ وأن يعلم العبد أنه العبرة بمطابقة العمل لمراد الشارع، وليس بكثرته، ولا بمجرد الذوق، ولا الاستحسان القلبي، فإن الشريعة لم تجعل لهذه الأمور مجالاً في مقام التشريع؛ وإلا لأصبح دين الله ملعبة، ومرتعاً لكل ذوقٍ.


ومما يتصل من المعاني بهذه القاعدة المحكمة، أمور، منها:
1 - أن هذه القاعدة كما ترد العمل المُبْتَدَعَ في أصله، فكذلك ترد ما أضيف على العمل ما ليس منه، فزيادته مردودةٌ عليه، كمن يزيد على العدد المقصود لذاته في الذِكْر، أو يزيد في أشواط الطواف والسعي على السبع، وهكذا، وقد يعود ذلك على أصل العمل كلِّه بالإبطال.



2 - مفهوم هذه القاعدة: أن من عمل عملاً، عليه أمر الله ورسوله فعمله مقبول، وسعيه مشكور، وإن كان قليلاً في نظر بعض الناس؛ فالعبرة بما وافق السنة، وليست العبرة بالكثرة. وأختم حديثنا في هذه القاعدة: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" بوصية متينة من خليفة راشد، هو الإمام الجليل عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، في وصيته لعدي بن أرطاة حين سأله عن القدر:


"أما بعد: فأوصيك بتقوى الله عز وَجل والاقتصاد فِي أمره، وَاتِّبَاع سنة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَترك مَا أحدث المحدثون بَعْدَمَا جرت سنته، وَكُفوا مؤونته، فَعَلَيْك بِلُزُوم السّنة فَأَنَّهَا لَك بِإِذن الله عصمَة، فارض لنَفسك مَا رَضِي بِهِ الْقَوْم لأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُم عَن علم وقفُوا، وببصرٍ نافدٍ كفُّوا..." (9).



اللهم ارزقنا التمسك بدينك، والعمل بسنة نبيك ظاهراً وباطناً


وإلى لقاء قريب - بمشيئة الله - في قاعدة جديدة

___________
(1) جامع العلوم والحكم: (ص9).
(2) شرح النووي على مسلم: (12/ 16).
(3) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: (1/ 236).
(4) شرح النووي على مسلم: (12/ 16).
(5) ينظر: شرح الأربعين لشيخنا العثيمين رحمه الله: (98-101).
(6) الاعتصام: (1/64).
(7) المصدر السابق.
(8) ينظر: الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة رحمه الله.
(9) الإبانة لابن بطة: (2/ 232).

 
إنضم
23 يونيو 2011
المشاركات
2,069
النقاط
38
الإقامة
مصر
احفظ من كتاب الله
القرآن كاملا
احب القراءة برواية
حفص
القارئ المفضل
الشيخ محمود خليل الحصري
الجنس
أخ
قوآعد نبويه [4/50] د. عمر بن عبد الله المقبل ..
قواعـــد نبويـــــــــــــة [4/50]
د. عمر بن عبد الله المقبل

القاعدة النبوية الثالثة:
الدين النصيحة (1)

الحمد لله رب العالمين، حمداً دائماً بدوامه سبحانه، على نعمه وآلائه وفواضله، والصلاة والسلام على من آتاه ربه جوامع الكلم في أقواله، وعظيم الأخلاق في أفعاله.
أما بعد: فمرحباً بكم - أيها القراء الأعزاء - في سلسلتكم المباركة: "قواعد نبوية"؛ لنتذاكر في حلْقة قاعدة من القواعد النبوية المحكمة التي دلّ عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم:"الدين النصيحة".

أيها الإخوة القراء:
إن نبينا صلى الله عليه وسلم حين قرر هذه القاعدة: "الدين النصيحة"، - وكررها ثلاثاً (2) - كما في بعض طرق الحديث عند أهل السنن - اهتماماً بشأنها، تساءل أصحابه رضي الله عنهم - وهم أحرص الناس على الخير -:لمن؟ فبين ذلك فقال:"لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم".
وبالنظر في مادة "نصح" من جهة اللغة فإنا نجد أنها تدور على معان منها:
الملاءمة بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَإِصْلَاحهُمَا، والنُّصْحُ وَالنَّصِيحَةُ: خِلَافُ الْغِشِّ، وَنَصَحْتُهُ أَنْصَحُهُ، ويوصف العامل بأنه ناصح إذا كان مخلصاً، ومنه: التَّوْبَةُ النَّصُوحِ، كَأَنَّهَا صَحِيحَةٌ لَيْسَ فِيهَا خَرْقٌ وَلَا ثُلْمَةٌ (3).


وهكذا هو المعنى ههنا؛ فإن المطلوب من المؤمن أن يمحض النصح لمن خصّهم النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر، وأن يقصد بذلك وجه الله تعالى، ليفلح وينجح في مراده.
الوقفــــــــــــــــة الأولى:
مع ما تضمنته هذه الجملة المختصرة "الدين النصيحة" من الإعجاز والإيجاز:
يقول الخطابي رحمه الله:"وهي من وجيز الكلام، بل ليس في الكلام كلمة مفردة تستوفى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة، وهذا الحديث من الأحاديث التي قيل فيها أنها أحد أرباع الدين"(4)ا.هـ.


وَقَالَ الإمام الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ: هَذَا حَدِيثٌ لَهُ شَأْنٌ.
وصدق الإمامان رحمة الله عليهما؛ فإن من تأمل دلالة هذا التركيب، علم حق العلم أن الدين كله - ظاهره وباطنه - منحصر في النصيحة! وهي القيام التام بهذه الحقوق الخمسة(5).


الوقفة الثانيــــــــــــة:
في معنى النصيحة لمن ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العظيم:


أما النصيحة لله: فبتحقيق التوحيد الخالص في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، والقيام بعبوديته ظاهراً وباطناً، والإنابة إليه كل وقت، والخضوع له: رغبة ورهبة، مع التوبة والاستغفار الدائم؛ لأن العبد لا بد له من التقصير في شيء من واجبات الله، أو التجرؤ على بعض المحرمات، وبالتوبة الملازمة والاستغفار التام ينجبر نقصه، ويتم عمله وقوله (6).

وأما النصيحة لكتاب الله: فبحفظه وتدبره، وتعلم ألفاظه ومعانيه، والاجتهاد في العمل به في نفسه وفي غيره، وكثرة تلاوته، ونشره بين الخلق، والجهاد به، فإنه الجهاد الكبير، كما قال تعالى:"وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا" [الفرقان:52].

وأما النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم: فهي الإيمان به ومحبته، وتقديمه فيها على النفس والمال والولد، واتباعه في أصول الدين وفروعه، وتقديم قوله على قول كل أحد، والاجتهاد في الاهتداء بهديه، والنصر لدينه.

مما يدخل في النصيحة له صلى الله عليه وسلم: بَيَان حال من غلط فِي الرِوَايَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو تعمد الْكَذِب عَلَيْهِ أَو على من ينْقل عَنهُ الْعلم، وهذا الحديث وأمثاله، هو الذي حمل أئمة السنة على الرحلة في طلب الحديث، وتصنيف الكتب في الجرح والتعديل.

وفي هذا القصة المشهورة التي رواها أبو بكر بن خلاد، قال: قيل ليَحْيَى بْن سعيد الْقطَّان، فيمَ تركت حَدِيثه من رُوَاة الحَدِيث، أما تخَاف إِن يخاصموك عِنْد اللَّه تَعَالَى؟ فقَالَ: لِأَن يَكُونُوا خصومي فِي هَذَا الْمَعْنى، أحب إِلَيّ من أَن يكون خصمي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُول لي:لم رويت عني حَدِيثا ترى أَنه كذب؟ (7).

وأما النصيحة لأئمة المسلمين- وهم ولاتهم، من الإمام الأعظم إلى الأمراء والقضاة إلى جميع من لهم ولاية عامة أو خاصة-:فباعتقاد ولايتهم، والسمع والطاعة لهم بالمعروف، وإن نُقِصَ أمرُ دنياه، وعدم الخروج على الولاة، وحث الناس على هذا الأصل المهم، وبذل ما يستطيعه من إرشادهم، وتنبيههم إلى كل ما ينفعهم بالحكمة، وكذا القيام بما يجب لهم.

ومما يدخل في النصيحة لأئمة المسلمين من أهل العلم:بَيَان من غلط في رَأْي رَآهُ فِي أَمر الدّين من الْمسَائِل العلمية والعملية، لكن على من أراد البيان أن يتفقد نيته، وأن يكون حكيماً في بيانه بما يقتضيه المقام من شدة ورفق، ومن هذا الباب نشأت كتب الردود منذ وقت مبكر في نهايات القرن الثاني.
وأما النصيحة لعامة المسلمين: فبأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويسعى في ذلك بحسب الإمكان؛ فإن من أحبَّ شيئاً سعى له، واجتهد في تحقيقه وتكميله.(8)

الوقفة الثالثــــــــــــــة:
يلاحظ في هذه القاعدة النبوية المحكمة:أنه صلى الله عليه وسلم "بدأ أولاً باللّه؛ لأن الدين له حقيقةً، وثنىّ بكتابه الصادع ببيان أحكامه المعجز ببديع نظامه، وثلّث بما يتلو كلامه في الرتبة وهو رسوله الهادي لدينه، الموقف على أحكامه، المفصل لجُمَل شريعته، وربّع بأولي الأمر، الذين هم خلفاء الأنبياء القائمون بسنتهم، ثم خمّس بالتعميم" (9).

الوقفة الرابعـــــــــــــــــة:
مما يدخل في عموم هذه القاعدة النبوية العظيمة: "الدين النصيحة"، أمور:
1- إنها: أن لا يرضى بمعصية العاصي من إخوانه، بل يحبُّ طاعة من أطاع الله ورسوله.

2-ومن دقائق معاني النصيحة الداخلة تحت هذه القاعدة النبوية: أن لا يرضى بالمعصية لنفسه، بل يجب عليه كراهية المعصية، وهذا معنى قول بعضهم: "يجب على من بيده الكأس أن ينكر على الجلاس" (10).
3- ومنها: أن النصيحة حق للمنصوح ولو لم يطلبها بلسان المقال، فإن لسان الحال كافٍ في استحقاقه للنصح، لكن يراعى في ذلك التوقيت المناسب لتقديم النصيحة (11).
4- من المهم مراعاة مقامات الناس في النصيحة: فمنزلة الأئمة في الحكم أو العلم، ومنزلة الوجهاء وكبار القوم، ليست كمنزلة غيرهم، وحال الجاهل ليس كحال العالم، وحال المخطئ لأول مرة ليست كحال المعاند.
5- نبّه الإمام الشافعي -رحمه الله- لأدب مهم من آداب النصيحة، يغفل بعض الناس عنها، مما يترتب عليه عكس قصد الناصح، وقد ضمنها أبياته المشهورة:
تعمدْني بنصحِكَ في انفرادي ** وَجَنِّبني النصيحةَ في الجماعةْ
فإِن النصحَ بين الناسِ نوعٌ ** من التوبيخِ لا أرضى استماعَهْ

وإِن خالفتني وعصيتَ قولي ** فلا تجزعْ إِذا لم تُعْطِ طاعهْ


6-على المنصوح أن يتسع صدره للنصح، فإن النصيحة مُرّة إلا على قلوب العقلاء، ذلك أن حقيقة النصيحة هي - في الغالب -: بيان عيب وخطأ، أو إرشاد إلى كمال، وكثير من النفوس تكره ما يشعرها بنقصها، ولا يفرح بالنصح إلا أصحاب النفوس الكبيرة، والعاقل من أفاد من نصح الناصحين - بغض النظر عن مقاصدهم -، ومن جميل ما يؤثر عن الأصمعي قوله:
النصحُ أرخصً ما باع الرجالُ فلا ** ترددْ على ناصحٍ نُصْحاً ولا تَلُمِ

إ
ن النصائحَ لا تخفى مَناهِجُها ** على الرجالِ ذوي الألبابِ والفهمِ

بل العاقل من استفاد من تتبع أعدائه لزلاته ليجتنبها، كما قال الأول:

عُداتي لهم فضلٌ عليَّ ومنةٌ ** فلا أبعدَ الرحمنُ عني الأعاديا

هم كشفوا عن زلتي فاجتنبتها ** وهم نافسوني فاكتسبْتُ المعاليا




الوقفة الخامســــــــــــــــة:
ما أجمل أن نعيش معنى هذا الحديث واقعاً معاشاً، كما عاشه ذلك الصحابي الجليل جرير ين عبدالله البجلي رضي الله عنه، قال:"بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم" (12).
وإليك هذا المثل التطبيقي من واقع هذا الصحابي الجليل، وذلك فيما رواه الطبراني في "المعجم الكبير" من طريق إبراهيم بن جرير البجلي، عن أبيه، قال:
غدا أبو عبد الله إلى الكُنَاسَة(13) ليبتاع منها دابة، وغدا مولى له فوقف في ناحية السوق، فجعلت الدواب تمر عليه، فمر به فرس فأعجبه، فقال لمولاه: انطلق فاشتر ذلك الفرس؛ فانطلق مولاه، فأعطى صاحبه به ثلاثمائة درهم، فأبى صاحبه أن يبيعه! فماكسه، فأبى صاحبه أن يبيعه! فقال:هل لك أن تنطلق إلى صاحب لنا ناحية السوق؟ قال:لا أبالي! فانطلقا إليه، فقال له مولاه: إني أعطيت هذا بفرسه ثلاثمائة درهم فأبى، وذكر أنه خير من ذلك! قال صاحب الفرس:صدق- أصلحك الله- فترى ذلك ثمناً؟ قال:لا، فرسك خيرٌ من ذلك، تبيعه بخمسمائة حتى بلغ سبعمائة درهم أو ثمانمائة، فلما أن ذهب الرجل أقبل على مولاه، فقال له: ويحك انطلقتَ لتبتاعَ لي دابة، فأعجبتْني دابةُ رجل؛ فأرسلتُك تشتريها، فجئتَ برجلٍ من المسلمين يقوده، وهو يقول: ما ترى ما ترى! وقد "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم؟!"
(14).




والسؤال: ما الذي ستفعله لو كنتَ مكان جرير بن عبد الله رضي الله عنه؟!


اللهم اجعلنا من عبادك المتناصحين فيك ومن أجلك



وإلى لقاء قريب -بمشيئة الله - في قاعدة جديدة


_________
(1)قال المازري النصيحة مشتقة من نصحت العسل إذا صفيته، أو مشتقة من النصح وهي الخياطة، ومنه التوبة النصوح كأن الذنب يمزق الدين والتوبة تخيطه". فتح الباري: (1/ 138) بتصرف يسير.
وفي نوابغ الكلم: ما منع قول الناصح أن يروقك، وهو الذي ينصح خروقَك؟!. ربيع الأبرار: (1/ 470).
(2) تراجع الرواية من حيث السند، فالذي في صحيح مسلم بلا تكرار.
(3)ينظر: مقاييس اللغة: (5/ 435).
(4)فتح الباري: (1/ 138)بتصرف يسير.
(5)ينظر: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب: (1/ 33).
(6)ينظر: جامع العلوم والحكم: (ص79).
وفي هذا الموضع نقل عن عبد العزيز بن رفيع: قال الحواريون لعيسى عليه الصلاة و السلام: ما النصح لله؟ قال: أن تبدأ بحق الله قبل حق الناس، وإن عرض لك أمران، أحدهما لله تعالى والآخر للدنيا؛ بدأت بحق الله تعالى.
(7)تعليقات الدارقطني على المجروحين لابن حبان: (72).
(8)ينظر: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب: (1/ 35).
(9)مصابيح التنوير على صحيح الجامع الصغير للألباني: (1/ 107).
(10)ينظر: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب: (1/ 35).
(11)ينظر: منهاج السنة النبوية: (5/145).
(12)أخرجه البخاري(57)، ومسلم(56).
في سير أعلام النبلاء: (11/500) تعليق جميل للذهبي على هذه القاعدة، حيث يقول رحمه الله:
"فتأمل هذه الكلمة الجامعة، وهي قوله :"الدين النصيحة" فمن لم ينصح لله وللأئمة وللعامة؛ كان ناقص الدين، وأنت لو دعيت يا ناقص الدين لغضبت! فقل لي: متى نصحت لهؤلاء؟ كلا والله، بل ليتك سكت ولا تنطق، أوْ لا تُحَسِّن لإمامك الباطل، وتُجرّؤه على الظلم وتغشه؛ فمن أجل ذلك سقطت من عينيه ومن أعين المؤمنين، فبالله قل لي: متى يفلح من كان يسره ما يضره؟! ومتى يفلح من لم يراقب مولاه؟! ومتى يفلح من دنا رحيله وانقرض جيله وساء فعله وقيله؟! فما شاء الله كان، وما نرجو صلاح أهل الزمان، لكن لا ندع الدعاء لعل الله يلطف وأن يصلحنا. آمين".
(13)لعلها المحلة التي بالكوفة.
(14)المعجم الكبير": (2/ 334).

 
أعلى