رحلة الشيخ بوخبزة المغربي للمشرق ولقاؤه بالعلماء

طباعة الموضوع

طالب الماهر

مدير عام
إنضم
15 مارس 2012
المشاركات
946
النقاط
16
الإقامة
غرف الماهر الصوتية
الموقع الالكتروني
www.qoranona.com
احفظ من كتاب الله
.
احب القراءة برواية
ورش عن نافع من طريق الأزرق
القارئ المفضل
المنشاوي - الحصري
الجنس
أخ
السير و السرى ، إلى طيبة و أم القرى
(ملامح من رحلاتي الحجازية)

بسم الله الرحمن الرحيم:
قال الشيخ بعد الحمدلة و الصلاة و السلام على النبي المصطفى:
كانت رحلتي الأولى بَرّاً عام 1382 هـ ق 1962 م ضمن وفد من بني بلدي في سيارة مشتركة ، زرنا خلالها الجزائر و تونس و ليبيا و مصر ، ثم امتطينا طيارة لضيق الوقت إلى جدة ،وبعد انتهاء الحج عدنا بحرا إلى الأردن ثم زرنا سورية و لبنان ، و منه بحرا إلى الإسكندرية فبرشلونة فالمغرب.


و كانت رحلة طيبة طالت ثلاثة أشهر و نصف لولا ما شابها من ضياع سيارتنا بمصر حيث استـولى عليها المصريون بميناء الإسكندرية ظلما و عدوانا بحيلة مفتعلة ، و تفصيل ماجريات الرحلة و وصف المنازل و الديار و الأخلاق و العادات و المشاهد يطول جدا ، و يحتاج إلى وقت ، والمقصود الآن الإشارة إلى ما تم لنا من لقاء بعض أهل العلم ، و ما استفدناه من هذا اللقاء ، و زيارة بعض مشاهد مشاهير أهل العلم للاتعاظ و الاستذكار .
فأول ذلك بعد خروجنا من المغرب زيارة مدينة تلمسان الجميلة الوادعة ، و قد صلينا بها صلاة الجمعة بالجامع الكبير الذي هو أثر من آثار المغاربة بصحنه و نافورته و صومعته المربعة المزخرفة بالزليج المغربي ، و من كتابة منقوشة على الجدار القبلي من المسجد علمت أن بمقصورته خزانة كتب و ضريح أحد ملوك تلمسان المشهورين من بني زيان ؛ أظنه : يغمراسن ، لم يتح لي الوقوف على الكتب و لا القبر ، و كان خطيب الجمعة الشيخ العربي الحصار (و للتاريخ فإن أولاد الحصار هؤلاء هجر منهم إلى المغرب فكان منهم بتطوان إلى عهد قريب و انقرضوا[1] ، و مازال منهم إلى الآن بسلا)، و كان الرجل يخطب و يُطَعِّم كلامه باللهجة الدارجة للإفهام ، و ربما عبر خلالها باللغة الفرنسية لزيادة البيان ؛ أننا لاحظنا أول ما لاحظنا أن الجزائريين حتى المتعلمين منهم يخللون كلامهم بالفرنسية، و هذا من أثر الاستعمار الفرنسي الذي طال و استطال قرابة قرن و نصف ، و لولا ما من الله به عليهم من قيام جمعية العلماء المسلمين بهمة و عناية العالمين الشيخين عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي الذين إليهما بعد الله تعالى يرجع الفضل في بقاء القرآن و اللغة العربية بينهم و لا سيما في بعض المدن و المراكز التي كان نشاط العلماء جديا بها رغم اضطهاد الفرنسيين لهم و محاربة التعليم الإسلامي و اللغة العربية ، إضافة إلى الصوفية و زواياهم الجادة في تخدير أعصاب الشعب وأمره بالاستسلام للحكام و عدم مناهضة سياستهم ، ثم صعدنا جبل العباد مارين بمقبرة به ضريح الشيخ محمد بن يوسف السنوسي صاحب العقائد ، و بمصلى الجبل –و هو عامر بالمباني و السكان- تقع مدرسة أبي عنان المريني و مسجده الذي بناه قرب ضريح أبي مدين الأندلسي رحمه الله ، و قد دخلنا المسجد و هو مغربي في هندسته و صومعته التي تضارع صوامع فاس .
و قد زرنا بالجزائر مدنا كثيرة منها : ابن العباس ، و تلمسان ، و قسنطينة و الجزائر العاصمة ، و سطيف ، و عنابة ، و غيرها . و مكثنا أياما جميلة بالعاصمة ، زرت خلالها ضريح الشيـخ عبـد الرحمن الثعالبي الفقيه المشهور صاحب التآليف العديدة كتفسيره "الجواهر الحسان" ، و "العلوم الفاخرة" ، و غيرها ، و كضريح مولاي محمد ، و قد لاحظت من مظاهر التغريب الغريبة اللافتة للنظر : كتابة الرخامات على القبور بالفرنسية مع صورة المقبور بشكل كتاب مفتوح ، وكان نزولنا بفندق قريب من جامع كتشاوة القريب من ساحة الشهداء حيث الجامع الحنفي الشهير الذي تحمل صومعته المغربية ساعة كبرى وسطه ، و هو مبني على الطراز التركي ، و قريبا منه يقوم الجامع الكبير الذي هو من بناء المرابطين ، و ما زال شكله و هندسته و صومعته المربعة القصيرة ، أما جامع كتشاوة فقد كان من المساجد التي حولها الفرنسيون إلى كنائس ، فلما نصر الله الجزائريين عليهم وأجلوهم عن الوطن أعادوا هذه المساجد إلى وضعها الإسلامي ، و أزالوا الصلبان من أبوابها و قبابها و أبراجها ، و كانت أول جمعة أقيمت بعد إعلان الاستقلال بهذا المسجد الفخم ، و خطب به فيها الشيخ البشير الإبراهيمي خطبة نارية بأسلوبه العجيب و لهجته الصادقة . و ما زالت نبراته ترن في آذاننا و قد أذيعت يومها بالراديو . و لذلك كان من أهم مقاصد الرحلة الاتصال بمثل هذا الشيخ والأخذ عنه . فسألت عنه كثيرا ، و من عجب أنني لم أجد من يعرفه –و هو أشهر عالم جزائري عم صيته المغرب و المشرق قديما و حديثا ، و مواقفه في مناهضة الاستعمار ما زالت ماثلة في آثاره خصوصا جريدة "البصائر" التي كانت تعتبر بالمغرب و الجزائر و تونس بمثابة قنبلة قوية المفعول يحاكم و يعاقب من ضبطت عنده ، فكان الناس يتواصون بقراءتها ، و يبذلون ما شاء الله للحصول عليها خصوصا بعد ظهور طلائع الأزمة السياسية بالمغرب التي انتهت بنفي الملك محمد الخامس و خلفه ، فكان الشيخ البشير رحمه الله يتصدى لكشف المخطط الفرنسي و فضح سياسة فرنسا و عملائها كعبد الحي الكتاني و التهامي الكلاوي ، و كان نصيب الكتاني من حملاته كبيرا نظرا إلى مركزه العلمي و شهرته بالمشيخة[2] ، و معرفة الشيخ البشير به- قلت : و ظللت أسأل عنه غير يائس إلى أن لمحت شابا وسيما يتأبط كتبا و جرائد فتوسمت فيه المعرفة و سلمت عليه و سألته عن أحوال البلد وما جرت به العادة ، ثم سألته عن الشيخ ، فأخبرني أنه يعرفه و أن سكناه بحي حيدرة ، و هو بعيد وأشار عليّ أن أركب الحافلة رقم كذا ، و بعد الوصول إلى الحي و هو كبير واسع اسأل الشرطة ، فشكرته و امتطيت الحافلة إلى الحي و قصدت الشرطة فلم أجد عندهم خبرا عنه ، و لما رأوا حيرتي وتعجبي أمرني أحدهم أن أتصل بمحطة البنزين قائلا : إن جميع أهل الحي يمرون بسياراتهم عليها و أصحابها يعرفونهم ، فقصدتها و سألتهم فأفادوني أن رجلا أشيب أعرج يمر أحيانا قليلة عليهم ، و أنه يسكن بمفترق الطرق القريب ، و أشاروا إليه ، فذهبت و وجدت دكانا للمأكولات ثمة فسألت صاحبه ، فأشار إلى فيلا صغيرة فقصدتها و طرقت بابها مرارا إلى أن عزمت على الانصراف آيسا ، فإذا بالشيخ يطل ملتفتا خارج الباب فتقدمت و سلمت ، فسأل عني فتعرفت إليه فرحب ، و استدعاني للدخول خلفه ، و لأول مرة رأيت الشيخ عيانا و علامة الهرم و الإعياء بادية عليه ، و عاهة العرج كبيرة ، فجلسنا في حجرة متواضعة لا أثاث فيها و لا فراش إلا بساطا متواضعا و منضدة صغيرة جدا عليها جرائد و مجلات و عصا الشيخ ، و بعد حديث قصير اعتذر الشيخ عن خلو البيت قائلا بأن أثاثه وكتبه و أهله ما زالوا بالقاهرة ، و أن الإخوان (يقصد الحكام من جبهة التحرير : ابن بلة و رفاقه) لم يخصصوا له مكانا مناسبا واسعا يسعه ، و تحدث بمرارة عن جفوتهم له ، و أنهم لم يمنحوه إذنا بزيارة المغرب للاتصال بإخوانه من معارفه من زعماء المغرب و علمائه ، و سمى لي عددا منهم ما زلت أذكر : ابن العربي العلوي و كنون و داود و علالا الفاسي و غيرهم ، قال : و ما زال يطالبهم و يلح عليهم و هم يسوفون ، كما تحدث الشيخ عن بعض ذكرياته بالشرق كالحرمين و دمشق و العراق ومصر ، و عن نشاطه الصحفي و التعليمي ، و كنت أحب أن أدون ذلك لو كان الظرف يسمح ، و لم يكن متيسرا إذ ذاك اقتناء آلة تسجيل ، و أخيرا طلب مني الشيخ أن لا أنساه من دعاء صالح من مظان الإجابة بالحرمين ، و أن أزوره في العودة ليأنس بي رحمه الله و جزاه خيرا ، و لم يكتب لي أن أزوره لأنني عدت إلى وطني عن طريق إسبانيا ، و كنت سألت الشيخ عمن أزوره بتونس فسمى لي شيخا كتبيا بالقرب من جامع الزيتونة ؛ لعل اسمه : صالح الثميني ، و قد زرته و جلست معه ، و هو من علماء الإباضية ، ثم ودعت الشيخ البشير و خرجت ناسيا نظارتي الشمسية بمنزله و لم أعد إليها رغم اعتيادي لُبسها ، و اشتريت أخرى ، و ذلك لبعد الحي و إعجال السفر ، و لم أكن عرفت السبب في إضراب الشيخ البشير عن ذكر علماء تونس كابن عاشور و ابنه و الشاذلي النيفر و حسن حسني عبد الوهاب ، حتى اقتنيت مجموعة آثاره المختارة فقرأت ردوده على الشيخ الطاهر ابن عاشور ، و من سار على نهجه في موقفهم من محنة التجنيس الذي فرضه الفرنسيون على التونسيين فكان مثار أخذ و رد و سبب امتحان عسير لكثير من العلماء و الكتاب ، و كان موقف الشيخ الطاهر غير مشرف ، و هو شيخ الإسلام و كبير علماء الزيتونة ، رحمه الله و سامحه ، وحاولت الاتصال بالسيد توفيق المدني صاحب "تاريخ الجزائر" فلم أفلح كما سألت عن الشاعر محمد العيد ، فقيل بأنه يسكن ببلدة تبعد عن العاصمة بألف كيلومتر ، و في مرورنا بمدينة سطيف دخلت مسجدا على الطريق فوجدت بها حلقة كبيرة و وسطها رجل ملتح كبير فأردت الجلوس بها فنظروني شزرا فخرجت و علمت بعد ذلك أنهم إباضية ؛ أي من بقايا الخوارج و يسمونهم هناك الخوامس ؛ أي : أصحاب المذهب الخامس .
و بعد أيام ودعنا الجزائر و دخلنا التراب التونسي ، و وصلنا العاصمة ليلا و نزلنا بحي شعبي، و في الصباح خرجت و سألت عن ضريح كبير ذي قباب و مسجد قريب من الفندق تظهر عليه علامة القدم ، فلم أجد من يعرفني كما ينبغي حتى اتصلت بالشيخ الفاضل ابن عاشور رحمه الله فأخبرني بأن الضريح هو لسيدي مُحرز الذي سأل عبد الله بن أبي زيد القيرواني أن يؤلف له رسالته المشهورة في الفقه المالكي لأنه كان مدررا يقرئ الصبيان ، فألف له الشيخ الرسالة ليحفظها النساء والصبيان ، أما المسجد فيعرف بمسجد (سبحان الله) ، قال : و هو من المساجد العتيقة بتونس مر على بنائه نحو ألف سنة ، و قضينا بتونس أياما طيبة زرنا فيها عددا من الأحياء و قصور الباي (سلطان تونس) التي حول أحدهما إلى متحف كبير ، و صعدنا إلى تل مشرف على المدينة مكسو بالأشجار الوارفة الظلال و على قمة التل بناء غاية في الإتقان و الجمال ، قيل لنا بأنه منتزه البايات ، كما زرنا جامع الزيتونة و صلينا به جمعة و شاهدنا من تقاليدهم المبتدعة في ذلك ما قضينا منه العجب ، و من كيفية خروج الإمام و كان وقتها من الأشراف الذين يتوارثون الخطابة بها (سماه الشيخ الفاضل و نسيت لطول العهد) فخرج من المقصورة نحو أربعة أفراد لابسين ثوبا خاصا مزخرفا يمشون الهوينا و خلفهم الخطيب الذي صعد المنبر بحركات متزنة ، و صعد أحدهم معه إلى منتصف درج المنبر و جلس إلى النهاية ، و هؤلاء هم الذين يؤذنون و يقيمون الصلاة بصوت واحد بشكل مستغرب منغوم كأنهم يؤدون أغنية ، و أخبرني الشيخ الفاضل أن ذلك تقليد من أيام الأتراك و عليه أحباس لا يستطيعون الخروج منه ، و زرنا بعد ذلك جامع القصبة حيث القصور السلطانية و دواوين الحكام ، و بالقرب منها يرقد علي بن زياد أحد تلامذة الإمام مالك و رواة موطئه ، و هو أول من أدخلها إلى إفريقية ، و من ذلك زيارتنا لجامع (مولى الطايع) و هو أمير تركي ، و جامعه في غاية الفخامة و الجمال و قبره متصل به ، و بالقرب منه مدرسة الطلاب ، و أذكر أنني وجدت بالجامع حلقا لتلاوة القرآن و التدريب على أدائها و لفت نظري أنهم يقرأون في نفس واحد متصل دون وقف ، فوقفنا نستمع مستغربين أنا و الفقيه الحاج أحمد ابن تاويت ، و أردنا أن ننبههم إلى الخطأ في ذلك فلم يفرغوا من القراءة ، و كنا أثرنا هذه المسألة مع الشيخ الفاضل فاعترف بعدم لياقتها إلا أنه اعتذر بحاجة التعليم في التلقين كذلك كما نفعل نحن مع الأطفال فيما نسميه (بالتهجي) في الكتاتيب إلا أن هذا عندنا قاصر على الأطفال أما عندهم فعام ، و عند زيارتنا للمدرسة الصادقية للسؤال عن الشيخ ابن عاشور لم نجده و وجدنا أحد كتابه الذي أخبرنا بأنه في رخصة ، و أنه لن يحضر إلا بعد أيام ، و أبدينا له رغبتنا في زيارته فكلمه بالهاتف فرحب بنا ، و نزلنا إليه بسيارتنا مسترشدين بوصف الكاتب إلى أن وصلنا إلى قصره الفخم بحي المرسى مارين بحلق الوادي ، فاستقبلنا الشيخ الفاضل ببشاشته المعهودة و أدبه الجم و دخلنا إلى صالون كبير مزدان بستور و ثريات و لوحات فنية، و وجدنا به صحافيا مصريا و بعض الأساتذة و بعد التعارف تحدثنا مع الشيخ الفاضل حديثا أنسانا الأهل و الأولاد لحلاوة المنطق و دماثة الأخلاق و الإلقاء بشكل سليم سريع لا يستطيع الكاتب المتروي أحسن منه ، و بعد هنيهة خرج و عاد مصحوبا بوالده الشيخ الطاهر فشاهدنا شيخا وقورا عليه مهابة العلم و السن تتلى في وجهه آيات الفضل و الجد ، و قد تبادلنا معه أحاديث كان منها حديث مطول عن مدونة الأحوال الشخصية و ما تم فيها من تغيير و اختيار مسائل خارجة عن مذهب مالك ، و كان منها مسألة الطلاق المجموع في كلمة واحدة ، و كيف اعتبر طلقة واحدة بائنة ، فأشار الشيخ إلى اجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه المعلوم في المسألة و أنه أمضاه على الناس لينزجروا ، قال الشيخ (و ما زلت أذكر صوته و قد جهر به) : و مع ذلك لم ينزجروا . وكنت رأيت بالمكاتب بعض أجزاء مطبوعة بتونس من تفسير الشيخ فهممت بشرائها إلا أني لم أفعل ، ولقد ندمت الساعة على ذلك ؛ لأنني كنت أستطيع أن أقدمها للشيخ ليناولنيها فأستأذنه في الرواية عنه مناولة ، و لكني قلت و قد فاتتني هذه المنقبة : ألا أستأذن الشيخ في الرواية العامة ، و إن كان من الصعب أن أكلف الشيخ الكتابة و حالته لا تسمح بها كما أن ظروف الزيارة و حضور الناس يحول دون ذلك ، و عند وداعه سلمت عليه و سألته فأنعم و فرحت بذلك لأني بالرواية عنه مشافهة شاركت بعض شيوخي الآخذين عنه كالشيخ أحمد ابن الصديق ، و عندما ودعت الشيخ الفاضل بمدخل القصر سألنا عن منزلنا فأخبرناه و لم نعرف مقصوده . و بعد وصولنا إلى الفندق بمديدة حضر الشيخ الفاضل بسيارته الفخمة فعلمنا سبب سؤاله و لقيناه و صعد معنا إلى الغرفة المتواضعة في فندق شعبي غير لائق و صنعنا له شايا مغربيا و حمل إلينا الشيخ تمورا طيبة و حلويات قدمها إلينا معتذرا عن التقصير راغبا ملحا أن يكون مرورنا في العودة علينا أحسن ليتمكن من الإكرام اللازم ، يقول هذا بأسلوب تتخلله لطائف التعبير و يضمخه طيب الشمائل و الأخلاق رحمه الله و أكرمه ، و في مثل هذا الرجل يحسن إنشاد قول أبي العلاء :
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة و هم بعد الممات جمال الكتب و السير
و في أثناء الحديث أشار علي الشيخ بزيارة السيد الصاحب (أبي زمعة البلوي رضي الله عنه) بالقيروان، و ابن غانم و سحنون و ابن أبي زيد و القابسي و أبي عمران الفاسي ، و فعلا عند وصولنا إلى القيروان زرنا هذه المشاهد كلها بعد مسجد عقبة بن نافع الذي هو أعظم و أقدم الآثار الإسلامية بشمال أفريقية ، و قد طفنا بأبهاء المسجد و بلاطاته الناطقة بجلال القدم و التقوى و صعدت المنبر الذي هو من آثار بني الأغلب فيما يقال ، و نزلنا إلى قبر سحنون و هو في سبخة و وجدنا به ناسا يعملون على مرمات لنسيج البز الذي اشتهرت به القيروان و على دربوز القبر ورقة كتب عليها هذا قبر فلان المتوفى سنة كذا، و وقفنا على فِسْقِيّة بني الأغلب ، و هي كبيرة مستديرة لتجميع مياه المطر، و شاهدنا بقية تافهة من آثار مدينة رمادة المشهورة ، ثم عدنا إلى العاصمة ، و صعدنا إلى زاوية للشاذلية بمقبرة الزلاج و هي أقدم مقبرة بها ، و رأيت حرص الشيخ أحمد ابن تاويت على الوقوف على قبر الفقيه ابن عرفة و ابن عبد السلام التونسي و الأُبي و قد دلّه عليهم مرشدنا المتطوع ويسمّى: خُميّس والْباني ، و وصلنا الزاوية و هي بأعلى المقبرة و دخلنا و هي متينة البناء و وجدنا بها آثار احتفال من بسط كثيرة و أثاث و أواني طبخ كبيرة و أفادنا المرشد بأن الصوفية يحيون بها ليالي المواسم و كان أحدها قريبا ، و هذه الزاوية مبنية على مغارة تحت الأرض ضيقة جدا لا تسع أكثر من شخصين ، قيل بأنها متعبد الشيخ أبي الحسن الشاذلي الشيخ الغماري المغربي الشهير النسبة إلى قرية (شاذلة) بتونس ، و هو مغربي صميم و إنما أقام طويلا بالقرية المسماة ، و ما زلت أذكر أن بالمغارة صورة محراب منقور بالصخر ، و قد حضر الفقيه ابن تاويت خشوع كبير و جلس و دعا وتأسف كثيرا لعدم وضوئه فكان يصلي ثمة ركعات ، و عجبت لصنيعه هذا مع اشتهاره بالسلفية .
و في رحلة لاحقة لتونس زرت من أعلامها الشيخ الشاذلي النيفر رحمه الله (توفي مؤخرا عام 1418) بمكتبته بالعاصمة ، و هي مكتبة ضخمة فتحها لعموم الباحثين بحفل رسمي ، و تضم كتبا قيمة و مخطوطات نادرة ، و هي و مكتبة الشيخ الطاهر ابن عاشور يمثلان أنفس و أكبر المكاتب الخاصة بتونس ، و تليهما مكتبة حسن حسني عبد الوهاب و قد نقلت إلى المكتبة الوطنية بوصية منه ، وعلى ذكر هذا الرجل فإنني كنت حريصا على زيارته و سألت عن منزله فعرفته و استأذنت عليه ، فاعتذر لي شاب –لعله من تلاميذه- عنه بأنه مريض لا يستطيع مقابلة أحد ، و أذكر أن مما دار بيني و بين الشيخ الشاذلي من حديث حرصه البالغ على اقتناء تاريخ تطوان لمحمد داود الذي طبع منه حتى الآن ثماني مجلدات و هو النصف من الأصل ، و كان الشيخ وقف على بعضه ، و أعجبه ، و حدثته عن كتاب شيخنا و شيخ الأستاذ داود (عمدة الراوين في تاريخ تطاوين) في عشرة أجزاء في خمسة مجلدات للشيخ أحمد بن محمد الرهوني التطواني ، فكان يتعجب من حديثي و لسان حاله ينشد[3] :
كَيفَ الوصولُ إِلى سُعاد وَدونَها قُلَلُ الجِبالِ وَدونَهُنَّ حُتوفُ
و تواعدنا أن يكاتبني في هذا الشأن لتدبير شأن الإرسال و التصوير ، و لكنه لم يفعل ، و لعله كان يحب لقائي بالمغرب لإنجاز العمل ، و لكن لم تتح له هذه الزيارة إلى أن توفي رحمه الله . و ما رأيت من يحاكيه في إيثار الحديث عن الكتب و المخطوطات إلا القليل كشيخينا عبد الحي الكتاني و أحمد ابن الصديق إلا أنه يفارقهم بضنانته بأعلاقه و نوادره فلا يسمح بتصوير و لا إعارة بينما الأولان سخيان بما عندهما ، و لله في خلقه شؤون ، و كان مما يصب في هذا الاتجاه من حديث الشيخ أنه أخبرني عن والده و غيره من علماء الزيتونة كيف كانوا يتتبعون حركة النشر للكتب بالمطابع الحجرية بفاس و يحرصون على شرائها و اقتنائها و يوصون بها و كيف كان الطلبة يتهافتون على آثار الشيخ المهدي الوزاني من شروحه و حواشيه و نوازله الفقهية الكبرى و الصغرى مع كتب النوازل والفتاوى الكثيرة التي أخرجتها المطابع الحجرية بفاس .
و من العلماء و المدرسين الذين لقيتهم و أنست بهم الشيخ عز الدين سلام ، و هو خطيب ومدرس بأحد مساجد العاصمة و متميز بإتقانه علم الحساب و الفرائض عرفني به تلميذه الأثير الشاب الصالح العالم المقرئ المتقن الأستاذ فتحي العبيدي أحد أساتذة جامعة الزيتونة في علوم القراآت ، الذي عرفته هو الآخر بواسطة شيخه أخينا الفاضل الباحث المعتني الدكتور محمد أبو الأجفان التميمي القيرواني خريج جامع الزيتونة و الأستاذ بكلية الشريعة فيها ، و الذي يعمل حاليا بجامعة أم القرى بمكة المكرمة ، و كان هذا الرجل الفاضل زارني منذ أكثر من عشرين سنة بالمكتبة العامة بتطوان وأهداني من تحقيقاته فهرست المجاري و فهرست القلصادي ، ثم توطدت الصلة بيننا من يومئذ و لا أبالغ إذا قلت بأن رسائله إلي تناهز المائتين و كلها تدور على العلم و النشر و الكتب والمخطوطات بارك الله في جهوده التي أثمرت الآن ما يجاوز الخمسين عملا بين تأليف و تحقيق .
ثم غادرنا تونس العاصمة و مررنا بمدينة صفاقص التي لم نقف بها طويلا و شاهدنا بها مساجد قديمة و أسواقا تونسية أصيلة بدكاكينها و سيما أهلها و ملابسهم و شاراتهم ، و وقفنا عند ضريح الإمام اللخمي صاحب التبصرة الشهيرة في الفقه المالكي التي هي من مصادر الشيخ خليل بن إسحاق الجندي في مختصره المشهور ، و أشار إليه في خطبته و أنه يعتمد اختياراته على تفصيل له في ذلك ، و معلوم أن اختياراته أثارت جدلا طويلا بين متأخري المالكية ، و من اللطائف قول بعضهم في انتقادها من أبيات :
لقد مزّقت قلبي بسهْم[4] جفونها كما مزّق اللخميّ مذهب مالك
و كان من أهداف الزيارة الاتصال بالشيخ محمد محفوظ توفي قريبا فلا تسل عن أسفي لفوت هذه الفرصة ، و ذلك لما امتاز به الشيخ رحمه الله من اطلاع و تحقيق و هو مؤلف "معجم المؤلفين التونسيين" ، و كنت اقتنيت منه نسخة و قرأتها و علقت على هوامشها ملاحظات كنت سأحاوره في شأنها لو شاء الله لقاءنا في الدنيا و نرجو أن يتحقق لقاءنا في دار كرامته بفضله و منه ، كما كنت أود اطلاع الشيخ على وجود نسخة تامة من كتاب "الأربعين البلدانية" للإمام البكري الذي حققه الشيخ تحقيقا علميا و طبعته دار الغرب للناشر التونسي الحبيب اللمسي عن نسخة سقيمة بها بياضات ، و كنت عثرت على نسخة ثانية جيدة تامة من كتب المكتبة الزيدانية التي أضيفت للخزانة الملكية بالرباط .
ثم خرجنا من مدينة صفاقص إلى مدينة قابس التي توصف بأنها جنة الدنيا و دخلناها في يوم عابس ذي ريح عاصف و غبار كثير و مررنا على قبور لجماعة من الصحابة فيما يقال لا أدري أسماءهم ، و لم ألق فيها أحدا من أهل العلم ، و غادرناها متجهين نحو الحدود الليبية فدخلناها خائفين من اكفهرار الجو و زمجرة الرياح ، و شاهدنا عواصف رملية كنا نقف بسيارتنا بعيدين في انتظار مرورها سوداء في شكل عمود ضخم متحرك ، و بعد ساعات عصيبة و صلنا إلى مدينة مصراطة و استرحنا ، و كنت أعلم أن بهذه المدينة مرقد الشيخ أحمد زروق الفاسي فسألت عنه فعرفت أنه خارج المدينة ، فخرجنا إليه فوجدنا مدرسة بها طلاب يحفظون القرآن و آخرون يتعانون حفظه على الطريقة المعهودة عندنا بكتابته في ألواح خشبية اطلعت على بعضها ، و وقفت على ضريح الشيخ و معه آخر[5] . و لم أجد ثمة عالما أسأله .
ثم مررنا على مدينة نسيت اسمها (و لعله المرجة أو المرج) كان أصابها زلزال دمر كثيرا منها شاهدنا آثار التدمير بها نسأل الله العافية ، ثم زرنا مدينة اطرابلس و معرضها السنوي و كان لا بأس به و البلد حديث عهد بالاستقلال ، و لم يكن البترول ظهر بها . ثم زرنا مدينة بنغازي و هي لا تمتاز عن العاصمة إلا بمزيد من الفقر ؛ إلا أنني وقفت بها على قبر الشهيد عمر المختار رحمه الله ، و عليه بناء حديث فخم و فوق قبره رسمت بطلاء ذهبي قصيدة أحمد شوقي الشاعر المصري في رثائه و هي بديوانه[6] ، و بينما أنا أتجول في شوارعها بعد أن تغدينا بسوق الظلام ، و هو سوق طويل مسقف بقبو، في مطعم شعبي ما زلت أذكر صاحبه شيخا يسمى : حمادة الطرابلسي أخبرنا أنهم يعانون من كساد قاتل ، وصلت إلى مكان أنكرت ما شاهدت فيه من نساء كثيرات جالسات على أبواب بيوتهن وهن متزينات مكتحلات متنمصات محمرات الشفاه و الخدود ، و بعضهن يدخن السجاير والكيف ، ومنهن من كن ينظرن إلي بشوق فأسرعت الخطى إذ علمت أن المكان (بُرْدِيل) للبغاء والبغـايا ، نسأل الله العافية .
و بعد نحو يومين خرجنا فمررنا على عدد من القرى و المدن منها درنة و بها قبور بعض الصحابة كما رأيت مكتوبا عليها كعبد الله الزلام الأنصاري القاضي (كذا) و قيس بن زهير البلوي و غيرهم إلى نحو سبعين قبرا في بيت مستطيل و لم تذكر أسماؤهم إلا هذين ، و هذه المدينة تقع في سفح الجبل الأخضر المشهور الذي كان من معاقل الجهاد و حصون عمر المختار و أصحابه الذين ساموا الطليان به و بغيره سوء العذاب ، و قد صعدنا الجبل بعد خروجنا من البلدة فإذا هو أخضر دائما لنبات أشجار لا يسقط ورقها ، و زرنا بلد الزاوية البيضاء ، و بها ضريح الشيخ السنوسي الكبير جد الملك إدريس السنوسي و عليه قبة فخمة و بالمدينة معهد علمي ، و قد رأيت أساتذة و طلبة يلبسون الجباب المصرية كالأزهريين ، و أذكر أنني رأيت بمدخل المدينة مسجدا حديثا ذا منارة مصرية طويلة و وسطه قبة كتب على مدخله أنه ضريح رويفع بن ثابت الأنصاري الصحابي رضي الله عنه ، وقرب الضريح مقبرة لفت نظري فيها شواهد قبور بها أسماء البقالي بكثرة ، فلا أدري هل هؤلاء الموتى من البقاليين المغاربة ، و مما مررنا عليه مدينة أجدابية ، و هي صغيرة متواضعة ذكرت باسمها أبا إسحاق ابن الأجدابي العالم اللغوي الشهير صاحب كتيب "كفاية المتحفظ و نهاية المتلفظ" الذي قرأته درسا بالجامع الكبير بتطوان لأنه كان مقررا لطلبة القسم الابتدائي ، و لكنني لم أعرف بها أحدا ، و لا زرت بها عالما و لا ميتا ، و كل ما أذكر أنني صليت بها الجمعة بمسجد متواضع و خطب يومها خطيب أعمى لعله مصري ، كما مررت بقرية سرت –هكذا بالسين المهملة- و هي قرية كبيرة نوعا، يقال بأن أولاد الشَّرْتِي[7] التطوانيين ينحدرون منها كما سمعت منهم ، و وقفت بها على طلل واطئ قيل لنا بأنه أصل منارة مسجد مغربي بني هناك أيام حكم المرابطين أو الموحدين ، ثم مررنا على مدينة طبرق ، و هي بليدة عالية طيبة الهواء . و مررنا على قرية سواكن و صلينا بمسجدها الذي علمنا بعد أنه لإباضية إلا أننا كنا صلينا وحدنا لطول انتظارنا للجماعة ، و قد علمت بعد ذلك أن هذه النحلة الباقية من الخوارج الذين كان المغرب من مراكزهم الأولى توجد هنا بليبيا بهذه القرية وغيرها ، وبتونس بجزيرة جربة ، و بالجزائر ببني مزاب . هذا بشمال إفريقية و يوجدون بطانزانيا ومعلوم أن لهم الآن دولة و قوة بسلطنة عمان و بلاد الخليج العربي الغنية بالنفط و غيره من المعادن ، و لهم الآن صحف و مجلات و دور نشر تطبع من تراثهم الكثير ، و هم مبتدعة معتزلة في العقائد يحطون على علي بن أبي طالب و أهل بيته و بعض الصحابة نسأل الله العافية ، ثم انحدرنا في طريق جبلي طويل انتهى بنا إلى قرية السلوم التي هي على الحدود بين ليبيا و مصر ، و قد تعبنا في النزول لسوء حالة الطرق في ليبيا ؛ لأنها ما زالت محفورة من أثر معارك الحرب العالمية الثانية التي دار كثير منها بها . و دخلنا التراب المصري مقتربين من البحر الأبيض حتى وصلنا أول بلد به و هو مرسى مطروح، و هو مصيف جميل تغدينا به ، ثم واصلنا السير إلى الإسكندرية التي أقمنا بها أياما بفندق جميل مطل على ميدان نُصب بوسطه تمثال من البرونز لسعد زغلول يشير بيده ، و الإسكندرية بلد غني عن التعريف و يحتاج من يتعرف عليه إلى أيام عديدة ؛ إلا أنه ما لا يدرك كله لا يترك قله ، من ذلك زيارتنا لقصر التين و هو قصر عجيب ، و منه حمل الملك فاروق بن أحمد فؤاد الأرناؤط آخر ملوك مصر ، معزولا منفيا . وقد تجولنا فيه ، و فيه مصعد كهربائي لشهود طبقاته ، و كان مازال على الحال التي تركها عليه الملـك حتى يومية الشهر ما زالـت كما هي و خزائن الملابس المختلفـة حتى الأحذية و البرانيـط و الطرابيش و العصي و أنابيب التدخين ، كل هذا محفوظ كما تركه صـاحبه في خزائن زجاجية في غاية الإتقان و الصون و الحفظ ، و اللوحات معلقة بالجدران تكاد تنطق ، و منها لوحة رسمها للملك رسام أوربي رائعة ، لاحظ المرشد المصري طول وقوفنا عندها فقال (شَكْلُو حِلْو مِشْ كِذا) . و في تجولي بشوارع الإسكندرية زرت مسجد أبي العباس المرسي وهو شامخ البناء ذو منارات مصرية الشكل ، ووجدت الضريح غاصا بالزائرين و الزائرات يتمسحون بالتابوت ، و يلصقون به بطونهم و ظهورهم ووجوههم و يزمزمون في شكل ينافي أدب الإسلام في الزيارة الشرعية ، و بالقرب منه ضريح البوصيري صاحب البردة و الهمزية ، و كلاهما من أصل مغربي ، و أذكر أنني رأيت قصيدته الميمية البردة مكتوبة بخط رائع بالصفر بقبته ، و هناك بالقرب قبر يقال إنه لأبي الدرداء الصحابي و هذا غير صحيح ، و المتسولون و المعتوهون هناك بالعشرات يلحفون بالسؤال و هم في غاية الفقر والخصاصة، و الأسواق غاصة و المدينة مزدحمة ، وهناك قلعة قايتباي على البحر لم أصل إليها ، و بعد أيام غادرناها في طريق جميل تحفه الحقول الخضراء من اليمين و الشمال بخلاف طريق الإسماعيلية و السويس ، فإنه طريق صحراوي قاحل . ومررنا في ذهابنا للقاهرة على جرجا و سيدي جابر و طنطا و منارة مسجد البدوي تظهر من بعيد وعلى رأسها مصباح يضيء ليلا و لم نقف بها و مساءً دخلنا القاهرة و قصدنا عنوان الأخ محمد مولاطو التطواني و هو مثوى متواضع قريب من مسجد الكيخيا . و قد قضينا في القاهرة أكثر من 15 يوما ، و صادف يوم دخولنا القاهرة مرور موكب جنازة كبيرة فوقفت أنظر فسمعت رنة صوت لنادبة و عرفت وجوها لعدد من الممثلين المصريين ، فسألت فأخبرت أن الجنازة لمامون الشناوي الشاعر الذي كان من أبرز مذيعي إذاعة القاهرة و عرف بأشعار له رقيقة لحنت و غني بها ، و كان من أهداف الرحلة كما قلت الاتصال بأهل العلم إلا أننا بعد مضي أيام على إقامتنا بالقاهرة علمنا أن المواصلات مقطوعة بين مصر و السعودية في البر والبحر فسقط في يدنا و أخذنا نبحث عن طريقة للسفر إلى جدة لإنجاز ما رحلنا لأجله و هو الحج ، فسافرنا إلى السويس فلم نجد باخرة و علمنا أنه لا يسمح لا بحرا و لا جوا و لا برا بالسفر إلى السعودية ، و إذاعة القاهرة جادة في حملاتها على الملك سعود و الثورة المصرية في فجر عهدها .
يتوجب عليك تسجيل الدخول او تسجيل لروئية الموضوع
 

طالب الماهر

مدير عام
إنضم
15 مارس 2012
المشاركات
946
النقاط
16
الإقامة
غرف الماهر الصوتية
الموقع الالكتروني
www.qoranona.com
احفظ من كتاب الله
.
احب القراءة برواية
ورش عن نافع من طريق الأزرق
القارئ المفضل
المنشاوي - الحصري
الجنس
أخ
في أول جمعة لنا بمصر رأيت جمال عبد الناصر مارا لصلاة الجمعة بالأزهر مع ضيفه رئيس جمهورية الهند داكر حسين ، و الطرق مزدانة بالأعلام و غاصة بالناس ، و صليت الجمعة بالأزهر ، وزرت الكثير من مساجد القاهرة كمسجد الحسين ، و المؤيد ، و الحاكم ، و عمرو بن العاص ، وابن طولون ، و مدرسة السلطان حسن ، و زاوية الرفاعي قبالته ، و مسجد محمد علي بالقلعة و فيه ضريحه ، و زرت متاحف القاهرة كالمتحف الفرعوني و الفن الإسلامي و متحف القلعة ، و دار الكتب المصرية ، و صعدت برج القاهرة ، و زرت حديقة الحيوان ، و القناطر الخيرية ، و الحديث المفصل عن هذا كله يطول ، كما زرت ضريح الإمام الشافعي و الليث و القرافة و المقطم حيث ضريح عمر ابن الفارض ، و زرت ضريح شيخي أحمد بن الصديق ، و كان قريب العهد بالوفاة بعد هجرته إلى مصر فارا من الاستقلاليين بالمغرب ، كما زرت منزل شقيقه عبد الله الذي كان معتقلا بتهمة الجاسوسية ، و حكم عليه بالإعدام ، ثم خفف إلى المؤبد ، ثم سرح من السجن بشفاعة الملك الحسن الثاني لأنور السادات بعد وفاة جمال .
قلت : و في غمرة هذه الأحداث اشتغلنا بقضية السفر و الوقت ضاق فلم نتمكن من زيارة أحد ، فقد دللنا على ترجمان من أصل تركي له وكالة أسفار مهمة ليدبر لنا أمر السفر ، فاتصلنا به و أخبرنا بأن هناك طائرة ستسافر قريبا إلى الظهران بالسعودية لنقل بعض العمال و الخبراء، فحجز لنا فيها و علم بذلك عدد من الحجاج الجزائريين ففعلوا مثلنا ، و تمت قضية السفر جوا ، ولله الحمد ، و كان لهذا الترجمان ولد و بنت كان يحضر إليهما يوميا يلقنهما دروسا في العربية والدين الشيخ أحمد الشرباصي الخطيب المشهور ، فلقيته في مبنى الوكالة ، و سلمت عليه ، و سألني عن بعض العلماء المغاربة منهم البشير الابراهمي ، كما لقيت بمكتبة محمد علي صبيح الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد الشهير بتحقيقاته و جالسته قليلا فرأيته يدخن بشراهة ، و سألني أسئلة تدل على عدم إلمامه بالمغرب و أهله .
ثم سافرنا بعون الله إلى جدة فوصلناها ليلا ، و منها سافرنا في السيارات إلى المدينة المنورة حيث قضينا أياما تشرفنا خلالها بالسلام على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و صاحبيه ، وزيارة حرمه الشريف و الصلاة فيه في معظم الأوقات ، ثم زيارة البقيع و مسجد قباء ، و تجولنا ما شاء الله بأحياء المدينة و خرجنا لمشاهدة أحد و ميدان المعركة و الوقوف على قبور شهدائها و على رأسهم سيدهم حمزة رضي الله عنهم أجمعين . و كان نزولنا بدار قديمة قريبة من الحرم اكتريناها من صاحبها الذي ذكر أنه من أولاد بري المغربي الأصل ، و كانت تجاهها دار أخرى يملكها مغربي نزل المدينة قديما و جاور بها و تزوج ، و وجدناه طريح الفراش طاعنا في السن و له قرابة بالحاج العياشي الصُغَيَّر كما ذكر ابنه الفقيه العدل السيد محمد ، و كان جو المدينة حارا لأننا كنا في شهر يونيه فكنا ندخل الدار للأكل و قضاء الحاجة أما النوم فكنا ننام بالمناخة ، و هي ساحة كبيرة يرابط بها الحمالون و المكارون بحميرهم ، و بها مقاهي تقليدية و مراحض تحت الأرض ، فكنا ندخل بعد صلاة العشاء نسمر و ننام بعد أن نَصِفَّ الشِّبْرَيات في شكل مربع و لا ندع لها مدخلا فننام ، وأذكر أنني كنت أدخل زعبولتي الجلدية و هي صغيرة في سراويلي عند النوم احتياطا .
و بعد أيام سمعت الفقيه ابن تاويت و قد جاء متأخرا يذكر أنه حضر حفلا كبيرا لإنهاء الدراسة في الجامعة الإسلامية و كانت في عامها الأول أو الثاني و رئيسها الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ و نائبه الشيخ عبد العزيز ابن باز ، و ذكر أنه سمع تدخل الشيخ ناصر الألباني ملاحظا على بعض الطلبة المتفوقين الذين ألقوا خطبا بالمناسبة ، فاسترعى حديثه انتباهي ، ذلك لأنني كنت سمعت بالمغرب ثناء حسنا من شيخي أبي الفيض أحمد ابن الصديق على الألباني قائلا بأنه خير من يشتغل بعلوم الحديث الآن و يتقنها ، و هي شهادة قلما يسخو بمثلها الشيخ ، ثم كان الفقيه اعجولو التطواني ، و كان جاري في السكن ، يطلعني على بعض المجلات الشرقية التي كان يطلعه عليها تلميذه محمد الجُحْرَة صاحب مجلة "الأنيس" ، و كانت تصله بحكم التبادل الثقافي ، و منها مجلة "التمدن الإسلامي" التي كانت تصدر بدمشق لصاحبها أحمد مظهر العظمة ، فكنت أجد فيها بين الحين و الحين مقالات و فتاوى حديثية للشيخ الألباني الذي قدمه للقراء صاحب المجلة في مناسبة بأنه فتى أرناؤطي هاجر مع والديه و أهله إلى دمشق فاستوطنوها ، و كان هذا الفتى عصاميا فاعتمد على نفسه على فتاء سنه (9 سنوات) يعمل في البناء و النجارة و الكهرباء ، ثم تعاطى صناعة إصلاح الساعات و فتح دكانا لذلك ما زال إلى الآن يعمل فيه ولده عبد اللطيف . و شدا شيئا من النحو والفقه ، ثم حبب إليه الحديث فكان يستعير من بعض الكتبيين كتبه و يقرأها بنهم ، ثم أخذ يتردد على المكتبة الظاهرية و بمضي الزمن اكتسب ملكة في هذا العلم لفتت أنظار المسؤولين فوضعوا ثقتهم فيه و خصصوا له بيتا ، و أذنوا له في البحث و تناول المخطوطات و خدمتها بالترقيم والإصلاح و التعريف و البحث في الخروم لإتمام البتر ، فتم على يده من ذلك ما شاء الله مما عم نفعه و عظم وقعه، و هو الذي وضع فهرس مخطوطات الحديث و ما إليه .
قلت و الحديث ذو شجون : لما سمعت الفقيه ابن تاويت يذكر هذا تاقت نفسي لرؤية الشيخ و الاجتماع به فأخبرني الفقيه أنه يصلي بالحرم باستمرار ، فاتفقت معه على إرشادي إليه في صلاة العشاء ، و هكذا تم اللقاء بحمد الله على باب عبد المجيد ، فرأيت كهلا طوالا أصهب كأنه من رجال الإنجليز فسلمت عليه و رحب بي و استدعاني فخرجنا و امتطينا سيارته و قد امتلأت بأطفاله . وأضافنا ببيته على الماء و البطيخ الأحمر (الحَبْحَب) معتذرا بسفر زوجته . و قد قضيت معه ساعات مباركة في المذاكرة ، و الفقيه ابن تاويت و شقيق الشيخ و اسمه منير ، نائمان يُهَوِّمان جالسين . وناولني الشيخ في أثناء المذاكرة مخطوطة فهرسه لكتب حديث الظاهرية الذي طبع منتخبه بعد ذلك بدمشق ، و رسالته في الصلاة ، و أخرى في صلاة التراويح ، و كان قال لي بأنه لا رواية له ، و أنه يعتبر ذلك شيئا لا طائل تحته ، و أن الشيخ راغب الطباخ الحلبي أجازه بدون طلب ، فأشرت له بالإذن بالمناولة التي تمت بيننا - و هي من أنواع الرواية و التحمل - فوافق جزاه الله خيرا .
و بعد نحو أسبوع أو عشرة أيام غادرنا المدينة و أحرمنا من ذي الحليفة قاصدين مكة المكرمة، و كان إحرامي بالتمتع ، و أبى الشيخ ابن تاويت إلا الإفراد رغم محاورتي له في لزوم التمتع إلا لضرورة قصوى فلم ينصت .
و نزلنا بمكة بمحلة الشامية عند المطوف عبد المعطي مرداد ، و هو من عائلة مكية منها علماء و وجهاء ، و كان هو نفسه قاضيا هناك . و لم يكن يومئذ بالحرمين آلات تكييف و لا مراوح كهربائية كافية و لا ثلاجات كثيرة ، و المياه طبيعية دافئة تصل إلى البيوت على يد عمال يمنيين و غيرهم ، يأتي أحدهم حاملا صطلين كبيرين على كتفيه بخشبة معترضة يسعى بها سعيا لا يتأوه و لا يشكو ، و تباع أحيانا قطع ثلج ليست بذاك .
و بالجملة فمن قارن حال الحرمين يومئذ بما آلت اليوم بعد نيف و ثلاثين سنة عجب من التطور السريع الذي مرت به ، فأصبحت اليوم في فنادقها و عماراتها الشاهقة و أسواقها و شوارعها و مظاهر العمران الآخذة في الارتفاع و الاتساع من أحدث البلاد و أرقاها في هذه الماديات ، وأشفق مما تستتبعه هذه من مخاطر التقليد و البذخ و التفرنج و الاستغراب ، و قد بدأت بعض هذه الآثار المدمرة للدين و الأخلاق و الروح نسأل الله السلامة .
و من الجدير بالذكر أننا عندما دخلنا مكة وجدنا أعمال البناء قائمة لتوسعة الحرم التوسعة ما قبل الأخيرة ، و هي أكبر و أوسع توسعة عرفها الحرم الشريف ، و كانت على أيام الملك سعود ابن عبد العزيز الذي استقر في عهده إنتاج البترول بعد اكتشاف حقوله و آباره المتعددة المتدفقة ، مما دفع بالبلاد بعد ذلك مع سائر دول الخليج العربي التي كانت أفقر دول الأرض ، إلى أرقى درجات الغنا و الترف لو عرف أهلها كيف يستغلون هذا الفيء العام لصالح الإسلام و المسلمين …
و مثله ما تم هذه السنوات 14-15-16-17-1418 من توسعة الملك فهد للحرمين فقد حدثني رجل رآني أصعد النظر و أصوبه في القباب العالية و السواري الضخمة و البوابات و الأقواس والقواعد و النوافذ الخ بأن الأسطوانية الرخامية الواحدة تكلف اثني عشر ألف دولار ، و قال الرجل بعدها : "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون" ، فذهبت لحالي و لم أقل شيئا لجهلي بالمصير .
و قد مكثنا بمكة نحو عشرة أيام زرنا خلالها مساجد و أسواقا و مكاتبا ، و بمكتبة الحرم المكي لقيت رجلا ذا سمت جميل و لحية مهابة فسألته عن شيء نسيته فأخبرني ، و بعد مدة علمت أنه الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليمني ، و هو عالم مشهور بتحقيقه و كتبه ، و عدت إليه فلم أجده ، فندمت على فوات الفرصة .
و مرت أعمال الحج على أحسن ما يرام و رأيت كثيرا من العلماء يملون الدروس بمختلف اللغات على كراسيهم في الحرمين و منهم من الهند و مصر و الشام ، و لكني لم أستطع التعرف عليهم لضيق الوقت و زحمة الأشغال ، و مما يستحق التدوين أننا و قد أنهينا الوقوف بعرفات في أحسن حال، و أذكر أن الطيب بنونة - و لعله كان يومئذ سفيرا للمغرب في إيران – حج و زارنا في خيمتنا بعرفات و أخذ لنا صورة جماعية ، و صورة للفقيه ابن تاويت و هو نائم في لباس إحرامه .
و بتنا بمزدلفة و في الإسفار دفعنا و التقطنا الجمرات ، و رمينا جمرة العقبة ، و نزلنا دارا قديمة فلاحظت أن الفقيه ابن تاويت يحتفظ بالجمرات و هي حصيات غليظة نوعا ، فراجعته و أريته ما عندي منها و ما سألتقطه مما يعدو حصا الخذف كفول الباقلا ؛ كما يقول الفقهاء ، فقال لي : هذا حصا اللعب .
و في أيام التشريق و بعد الحلق و الذبح و طواف الإفاضة كنا نرمي الجمرات فجاء السيد عبد الكريم أشرقي و عبد الخالق السكيرج و كلاهما من تطوان بلدنا يسألان عن النيابة : الأول عن أمه ، و الثاني عن عمته ، و هما مريضتان في رمي الجمار ، فأفتاهما الفقيه بجواز النيابة عنهما إلا أنه لا بد من فدية نسك ؛ أي : الذبح ، فأجابا بأنه لا يمكنهما ذلك لغلاء الماشية ، فقلت لهما : نوبا عن المرأتين المريضتين و لا شيء عليكما ، فغضب الفقيه و أخرج من حقيبته ملازم من شرح الدردير لمختصر خليل و كتاب بداية المجتهد ، و أخذ يقرأ و هو يقول لي : كيف تقول ما لا علم لك به ، وكان المسؤولون بالحرم المكي يوزعون بعض الكتيبات على الحجاج و منها أحكام الحج و العمرة لعبد العزيز ابن باز ، و لم أكن قرأته فتذكرته و أخرجته من قرابي ، و سرعان ما وقفت فيه على المقصود، و هو : جواز النيابة في الرمي عن العاجز دون أن يلزمه شيء لقوله تعالى[8] : "فاتقوا الله ما استطعتم" .
و مثل هذا كان حصل لي مع الفقيه و نحن بمكة عندما ناظرته فيما فعل من إحرامه بالإفراد مع ثبوت الأحاديث الصحيحة الصريحة في أمره صلى الله عليه و سلم من أحرم بالحج وحده أن يفسخه و يجعله عمرة ، و سؤال سراقة له عليه السلام على الملأ : هل هذا دائما أو في تلك المرّة فقط ؟ فقال r : بل للأبد ، بل لأبد الأبد ، و شبك بين أصابعه ، و قال : دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة[9] ، فقال الفقيه : إنه r قال : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سُقت الهدي ولجعلتها عمرة[10] ، فعجبت منه كيف يرد هذا بهذا مع أنه يؤيده ، ثم ذكر فعل الشيخين أبي بكر و عمر، و ذكر نصا لابن رشد ، فكان الجواب أن لا اجتهاد مع الرسول r ، و الخليفتان خالفهما علي بن أبي طالب و ابن عباس و غيرهما ، أما ابن رشد فليس من أهل الحديث ، فغضب الفقيه و احتد والتفت إلي يقول بلهجة شديدة : و هل أنت مثل ابن رشد ؟ فهدأته و خففت من ثورته ، و السيد محمد السداتي يثيره بضحكه و يقول له : الحق مع (بو خبزة) .
و بالجملة فإنا كنا نسمع و نحن بتطوان أن الفقيه ابن تاويت ، و هو النجل الأكبر لشيخنا الذي حفظنا عليه القرآن بكتاب الاترنكات : الفقيه محمد بن عمر ابن تاويت الودراسي رحمه الله ، لا يقلد تقليدا أعمى ، و لذلك تشجع و أفتى بحرمة الصلاة في المقابر و زوايا تطوان المدفونة ، فقامت قيامة فقهاء تطوان ، و على رأسهم شيخ الجماعة و شيخه الفقيه الزواق ، و رد عليه في جريدة النهار، فأخذ الفقيه الجريدة و ذهب إلى جامع السوق الفوقي حيث يصلي الفقيه الزواق إماما وجلس على الكرسي و أخذ يقرأ الجريدة و يرد على ما جاء فيها ، و الفقيه يسمع خلف الاسطوانة المقابلة للمحراب ، و كتب بعد ذلك رسالة في بضع صفحات سماها "إخراج الخبايا في تحريم البناء على القبور و الصلاة بالزوايا" .
أقول : كنت أظن أن الفقيه ابن تاويت –و قد وقف هذا الموقف و أعلن عن رأيه المخالف لما جرى به العمل عملا بالأحاديث الواردة في الموضوع- أنه ينتهج هذا المنهج السلفي القويم ، فإذا به لا يكاد يخرج عن المشهور في المذهب إلا في هذه المسألة فقط ، و قد ناظرته في مسائل عدة فتبين لي ما قلته ، و لله في خلقه شؤون .
و في أثناء تلك الأيام زرنا مدينة جدة للاجتماع بعين أعيانها الشيخ محمد نصيف فاجتمعنا بداره الكبرى فرحب بنا و أكرمنا و أعطانا مما كان يطبع أو يساهم في طبعه من الكتب السلفية ، وأذكر أنه أعطانا : الفوائد المجموعة للشوكاني ، و مجموع السنة في جزئين ، و هو مجموع رسائل ومقالات في الرد على الروافض ، و سألنا الشيخ عن بعض علماء المغرب ، كما سألنا عن كيفية صنع الكسكس فأخبره الحاج أحمد اطوبي -و كان معنا- بذلك . قال الشيخ : إنه يعجبه كثيرا و لا يجد هناك من يتقن صنعه ، و رجا منا أن نبعث له أدوات الصنع ففعلنا بعد الرجوع ، و وقفنا بعد خروجنا من عنده على القبر الطويل المنسوب لأمنا حواء و كان عليه بناء كبير و قبته عجيبة فهدمت، كما إني سألت الشيخ عن مسجد رأيته في أحد شوارع جدة و على بابه كتب الزاوية القنفدية ، فدخلته فلم أر فيه شيئا مما يوجد عادة في الزوايا ، قال الشيخ : إن ذلك المسجد كان في الأصل زاوية لطريقة صوفية ، و لكنه بعد القضاء على الطرق و الزوايا و تحويلها إلى مساجد بقيت بعض الكتابات التاريخية كتلك ، و كان الواجب إزالتها .
و بعد أيام من إنهاء المناسك عزمنا على الرجوع ، فتذاكرنا الوسيلة : هل البر أو البحر أو الجو ؟ فانقسمنا إلى فريقين ، ذلك أن الفقيه و مصطفى الشاوي و اطوبي فضلوا أن يذهبوا إلى الشام براً و رأوا شاحنات واقفة بساحة في انتظار أصحابها للرجوع بهم إلى الشام عن الطريق الصحراوي ، فكلوا أصحابها فوافقوا ، و اتفق أن علم بعض ضباط الشرطة بذلك فحذروهم من السفر في هذه الشاحنات لخطورة الطريق و هبوب العواصف الرملية علاوة على سوء أحوالها و ركابها ، و قد شاهدنا ذلك و راجعنا الإخوان فأصروا . ثم حدث ما أوجب الإقلاع عن هذا كله و ذلك أننا في رجوعنا إلى مدينة الحجاج ركبنا حافلة صغيرة من تلك الحافلات الحرة التي يقدم بها أصحابها من مختلف أنحاء المملكة للارتزاق بنقل الحجاج في جدة . و كان الوقت ليلا بعد العشاء ، و نزلنا من الحافلة و ذهب ، و عندما وصلنا إلى البيت الذي كنا فيه افتقد الحاج السداتي حقيبته اليدوية ، وكان يحمل فيها جوازات السفر لجميع أفراد الجماعة التسعة علاوة على أنواع العملة الصعبة له ولغيره وبعض الهدايا الذهبية ، فعلمنا أنها بقيت في الحافلة الذاهبة و الوقت ليل و لم نعرف رقم الحافلة و لا سائقها و لا اتجاهها ، و سقط في يدنا ، و قامت قيامة السداتي ، و خرج بعض الجماعة للبحث والسؤال ، و ترددوا مرارا على إدارات الشرطة دون جدوى ، و كلفوني التردد على مستودع الأمانات بين الفينة و الأخرى عسى أن يظهر أثر للضالة ، و بتنا شر ليلة .
و في الصباح استأنفنا العمل بالبحث و السؤال إلى أن يئسنا ، و اتفقنا على الذهاب إلى سفارة المغرب بجدة ، و كان السفير يومئذ الفقيه غازي المكناسي الاستقلالي ، و كاتبه الأستاذ الناصري ، لاستصدار أوراق السفر فيمكننا الرجوع بها إلى بلدنا ، و لم نفكر ساعته في سيارتنا الباقية في القاهرة ، و لا في شيء إلا السفر على نفقة الدولة على أن نسدد المصاريف في وطننا ، وفعلا ذهبنا إلى السفارة ، و هناك حدثت الكرامة ، فعند استقبالنا للسيد الناصري بادرنا بقوله : أين كنتم يا إخوان ؟ لقد بحثنا عنكم كثيرا لأن صاحب حافلة خاصة جاءنا بحقيبة قال : إنه وجدها بحافلته ، و لما فتحها وجد بها جوازات سفر و أوراقا لمغاربة ، فجاء بها إلينا و دفعها لنا بوصل أمانة أحصى فيه كل ما كان بالحقيبة من مال و أوراق و هدايا ، و أخذ نسخة الوصل بعدما أدلى بعنوانه الكامل لاستدعائه إذا ضاع شيء ، فعجبنا لأمانته و حرصه على رد الحق لأهله مع أن الواقع يساعده على التنكر و الهرب و الجحود و لا أحد يعرفه ، و هذا بلا شك من أثر الحكم الإسلامي و إقامة الحدود الشرعية .
و في اليوم التالي وجدنا باخرة صغيرة دانماركية راسية في الميناء تجمع الناس للسفر إلى العقبة بالأردن ، فاتفقنا على السفر بها لرخص ثمنها و وعد المكلفين بها –و هم نصارى- أن عندهم طعاما و شرابا فلا نحتاج إلى شراء شيء ، و ركبناها و أقلعت باسم الله مجراها و مرساها ، و ما هي إلا ساعات -و قد وجدنا الباخرة مكتظة بالحجاج من الأردن و سورية- حتى تغير الجو و أخذ البحر في الاضطراب و كان هذا من عجيب صنع الله ، فإنه لم يكن عند القوم أكل و لا شرب إلا زجاجات معدودة من الكوكا كولا ، و لكنا لم نفكر في الطعام بعد تزايد اضطراب البحر و إصابة الإخوان كلهم بالدوخة ؛ إلا الفقيه ابن تاويت و كاتب الحروف فقد بقينا محتفظين بوعينا ، و مرت علينا ثلاثة أيام بلياليها لم نذق فيها راحة و لا نوما و لا طعاما .
و صعدت مرة إلى سطح الباخرة مارا على الحجاج فلم أر إلا طريحا يئن و آخر يقيء ما في بطنه ، و آخر فاقد الوعي لا يشعر بما يجري . و شاهدت من عظيم قدرة الله ما قف له شعري وخفت من اكتساح الأمواج العاتية لي و الباخرة كقشرة صغيرة تتقاذفها الأمواج ، و أيقنت بالخطر، و لجأت إلى الله داعيا ضارعا . و في صباح اليوم الثالث أخذ البحر يهدأ ، و الجو يصحو و يروق ، و بعد ساعات أخذت الجبال تظهر من بُعْد ، ثم تَبَيَّنا البر .
و بعد منتصف النهار وصلنا بحمد الله ميناء العقبة ، و امتطينا حافلة عمومية قديمة تقلنا إلى عمان ، فوصلناها مساء و أكلنا و استرحنا و قضينا بها يومين أو ثلاثة ، و صلينا الجمعة بالمسجد الحسيني ، و رأيت الملك حسين عاهل الأردن جاء المسجد بسيارة واحدة فنزل و معه عسكري ودخل المسجد و تقدم إلى الصف الأول قرب المنبر ، و لم يقم له أحد ، و لم تحدث جلبة ، و بعد الصلاة خرج و ركب سيارته و ذهب ، و كان إمام المسجد رجلا كبير السن شجي الصوت طيب النغمة بكتاب الله .
و قد كتب لي زيارة عمان بعد ذلك مرتين فرأيت الفرق العظيم في تغير الأحوال و تطور العمران ، فقد كانت البلدة يومئذ متواضعة و مبانيها صغيرة و شوارعها ضيقة ، و مساحة البلد أضيق بكثير مما هي عليه الآن ، و خرجنا منها إلى دمشق الفيحاء التي قضينا فيها أكثر من أسبوع زرنا فيها معالمها و أسواقها و منتزهاتها ، و نزلنا فندقا قريبا من ساحة المرجة ، و غير بعيد عنه تكية السلطان سليم العثماني ، و هي مسجد جميل محاط بأشجار و أزهار و ورود و صحن كبير بوسط صهريج و نافورة و قرب المسجد شبه مدرسة بها بيوت متراصة، لعلها كانت معدة لسكنى الصوفية ، و هذا ما يفهم من لفظ (تكية) التركية التي هي بمعنى الزاوية ، و وجدناها اليوم محتلة من الجنود ، والتكية تطل على نهر (بَرَدى) الذي هو نهر صغير ، و لم أكن أعرف اسمه ، و لما سألت عنه تذكرت قول شوقي في رثاء دمشق حينما ضربها الفرنسيون بالمدافع :
سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ
و تجولت كثيرا بشوارع دمشق و دخلت المسجد الأموي و زرت المدرسة الظاهرية ، ودخلت قبة الملك الظاهر المشحونة بالمخطوطات ، و وسط القبة قبران محاطان بدواليب خشبية زجاجية عرضت فيها نوادر المخطوطات التي هي بخطوط مؤلفيها و لا سيما منهم أهل دمشق و ما حولها ، فرأيت فيها خطوط ابن تيمية و ابن القيم و الذهبي و ابن كثير و ابن عساكر و غيرهم كثير، و أصبت في تلك الأيام بمغص حاد ذهبت بسببه إلى حمام الملك الظاهر و هو بالقرب من مدرسته ، وهو حمام عجيب ، ثم رأيت هناك مشهدا للسيدة رقية بنت الحسين بن علي رضي الله عنهما و عليه دربوز من فضة ، و الشيعة يترددون عليه و على قبور السيدة زينب و غيرها ، و مشهد هذه أفخم ، و يقيمون المناحات عليهم ، و زرت خلف المسجد الأموي ضريح صلاح الدين الأيوبي في الكلاسة و معه قبر آخر ، كما زرت البيمارستان النوري و مدرسة نور الدين الشهيد و غيرها من المدارس والمشاهد مما يطول ذكره و وصفه ، و صعدت حي الصالحية و زرت بها قبر ابن العربي الحاتمي و معه قبر الأمير عبد القادر محيي الدين الذي نقل بعد ذلك إلى الجزائر بعد استقلالها .
و سألت عن الشيخ محمد بهجة البيطار فدللت على بيته بحي المهاجرين فذهبت إليه و استقبلني بتواضع جم و جالسني أكثر من ساعة و استفدت منه فوائد ، و هو يومئذ أشهر علماء دمشق ، وأخبرني أنه مشتغل بتحقيق كتاب جده[11] : "حلية البشر في تراجم أعيان القرن الثالث عشر" الذي طبع بعد ذلك ، و أذكر أنه سألني أول ما لقيته فأخبرته بأنني مغربي من مدينة تطوان قائلا : أظن الشيخ سمع باسم المدينة !؟ فقال : نعم ، كيف لا أعرفها ، و هي تذكر في أناشيدنا الوطنية ، و قرأ :
بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان و من نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان
كما كنت أجالس شيخا يؤم بمسجد درويش باشا القريب من فندق بني أمية حيث نزلنا ، رأيته ببيت قبالة باب المسجد الذي بالصحن فقصدته و سلمت عليه ، فرد و رحب ، و وجدت عنده كتبا ويتردد عليه بعض الطلبة و الفقراء الصوفية لشرب الشاي و المذاكرة ، و ربما ترنموا بأشعار الصوفية بنغمة أهل الشام التي سمعتها منهم فأعجبني سماعها ، و وجدت الشيخ مرة يلقي درسا داخل القبة في الفقه ، و لعله حنفي المذهب ، و اسم هذا الشيخ عبد الوكيل الدروبي ، ، و أعطاني رسالة طبعها على نفقته لشيخ يسمى : عبد الله الحبشي الهرري فر من بلده و نزل دمشق ، و كان متصوفا متعصبا، أردت الاجتماع به فأخبرني الدروبي أنه مريض بالمستشفى ببيروت ، و وجدت له صيتا هناك ؛ لأنه يرد دائما على الألباني ، و قد رد عليه هذا مع آخرين يتبادلون الردود في المساجد ويؤلفون رسائل في هذا بدمشق و حلب و حماة و غيرها ، و فرق كبير بينهم و بين عدوهم الألباني الذي يفحمهم بردوده العلمية و قوة حجاجه ، و قد أَمِرَ أَمْرُ الشيخ الحبشي بعد ذلك فأصبح زعيم نحلة الأحباش الذين تجاوزوا الآلاف ببيروت و أوربا ، و لهم أناشيد و مساجد و مراكز و دعاة يؤلفون لهم الكتب في الرد على أعدائهم و على رأسهم الوهابية السعوديون ، و الحبشي أخطرهم في هذا الباب لجهله العظيم و جرأته على الله ، و قد ألف في كشف فضائحهم و أعمالهم عبد الرحمن دمشقية مجلدا ضخما رأيته .
و مررت ليلة على مسجد يسمى : يَلبُغَا الكبير ، و في جانب من صحنه الواسع تقف شاحنات و سيارات ، و وجدت شيخا يلقي درسا فاستمعت إليه ، و هو بهي الطلعة ذو لحية كبيرة سوداء و لهجة شامية حلوة ، و قد ألقى درسا و أجاب عقبه على أسئلة كثيرة قدمت إليه مكتوبة في أوراق وضعت على منضدة مع كوب ماء ، و عنه أخذت هذا التقليد و نقلته إلى مسجد بتطوان حيث ألقي دروسي في التفسير و الحديث ، و شاعت عني هذه العادة ؛ أعني : تقديم الأسئلة مكتوبة، و الجواب عنها بعد الفراغ من الدرس ، و قد سألت عن هذا الشيخ فقيل لي : بأنه الشيخ أحمد كُفتارو ، الذي أصبح بعد ذلك مفتيا لجمهورية سورية ، و رأيته بالمغرب قد حضر مناسبات ، و لم أجتمع به و إنما رأيته في التلفاز ، و مما يستحق الذكر أن بالفندق الذي نزلته كان يعمل رجل كهل في التنظيف و كان متوددا يبادر بالسلام و السؤال ، و لاحظت أن بوجهه خموشا ، فسألته ، فقال : إنه من أثر اعتداء المشايخ الذين يراودونه عن نفسه ، و يعني بهم : مشايخ الشيعة الروافض ، و قد رأيتهم هناك مرارا بعمائمهم السود و جبابهم السوداء الواسعة ، و أخبرني العامل –و لم يكن ذا جمال و فتاء يشتهى من اللوطية- : أن هذه عادتهم و أنهم يستحلون اللواط بأهل السنة !؟ فعجبت لهذا الانحراف المخزي .
و قد زرت فيما زرت مقبرة الباب الصغير و على بابها يرقد الإمام ابن القيم رحمه الله في بيت عار ، ألصقت فوقه رخامة باسمه ، و قربه قبر الصحابي أوس بن أوس الأنصاري ، و بالمقبرة كثير من القباب لعدد من الصحابة و أمهات المومنين ، الله أعلم بصحة ذلك ، و بكلية الطب و قفت على قبر الإمام ابن تيمية و معه الحافظ ابن كثير تلميذه في روضة مزهرة ، و كان هذا المكان في القديم مقبرة فدرست المقبرة و بني فوقها .
و من تلك المباني الجامعة و بها مسجد صغير يصعد إليه بدرج ، و هو المسجد الذي ألف الألباني في جوابه عن أسئلة لجنته رسالته : الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة .
و بعد أيام ذهبنا إلى بيروت و وقفنا على معالمها و أسواقها ، و نزلنا بفندق قريب من ساحة الشهداء و بأحد ميادينها رأينا تمثالا لرياض الصلح ، و هو ولد لمياء التي تزوجها بعــد ذلك الأمير عبد الله أخ الملك الحسن الثاني ، و صلينا بالمسجد العمري و هو أقدم المساجد ببيروت فيما قيل ، وزرت قبر الإمام الأوزاعي و هو في بيت متواضع قريب من البحر ، و سألنا عن المواصلات فعلمنا بمرور باخرة تركية فخمة منها إلى برشلونة بتاريخ كذا ، فعزمنا على السفر ، و كلفنا أحدنا و هو السداتي بالسفر مع أحمد الفاسي – و هو سائق سيارتنا التي تركناها بالقاهرة ، و كان حجه على نفقتنا – إلى القاهرة لإخراج السيارة و القدوم بها إلى بيروت للعودة بها من طريق أوربا ، و كان هذا السائق أسر في نفسه سوءً بسبب ما سمع و نحن بعرفات عما جرى ببلدية تطوان من تغيير فخاف على وظيفته في السياقة و هو حديث العهد ، و تمنى لو يجد السبيل إلى الرجوع إلى المغرب في أقرب وقت ، و كان يعلم أننا قررنا العودة من طريق أوربا و هذا يطول ، فأضمر في نفسه أن يكيدنا بتمزيق أوراق السيارة أو رميها أو حرقها ، و كذلك فعل ، فأبرق إلينا و نحن ببيروت بما وقع فلم نجد بدا من إلغاء السفر ، و أبرقنا إليهما أن ينتظرانا بميناء الإسكندرية يوم كذا على الساعة كذا لشحن السيارة و قد حجزنا لهما و للسيارة ، و ركبنا الباخرة التركية و عند وصولنا إلى ميناء الإسكندرية صعد أحد النصابين المصريين و ادعى أنه وكيل الوكالة و طلب تذكرة السيارة فدفعت إليه و اختفى ، فعلمنا أنه لص ، أما السيارة فقد زعم رجال الجمارك أنها تسجل باسم فؤاد بوهلال بينما عندنا في الأوراق التي منحتها لنا سفارتنا بالقاهرة أن صاحبها يسمى : الطيب بوهلال ، وأطلعوا الإخوان على ذلك ، فقلنا لهم بأن الخطأ جاء من رجال الجمارك بالسلوم ، فهم الذين أخطأوا ، و أخيرا امتنعوا من تسليم السيارة و كانت مؤامرة خسيسة و نصب و احتيال ، و قد أذنت الباخرة بالإقلاع فلم يسعنا إلا السفر تاركين وراءنا سيارة (فاركونيطا) من نوع فُلْسفاكن الألمانية ، اشتريناها شركة من طنجة ، فذهبت ضحية التآمر و الطيش و الكيد من السائق الشاب الوسيم الذي توسمنا فيه الخير و قبلنا أن يحج على نفقتنا فسعى في ضياعنا ، و منا فقراء صالحون مثل: الحاج أحمد أطوبي ، الذي ما فتئ يدعو على من فعل هذا ، فكان من قدر الله و عدله أن السائق الفاسي عزل من وظيفته و سافر للعمل بأوربا و لم يمر عليه وقت طويل حتى بلغنا أنه أصيب ببصره ، و لم نره منذ ذلك الوقت إلى الآن ، و لا ندري ما فعل الله به .
و من عجيب أمر هذه السيارة أنني رأيت عنها رؤيا عجيبة و نحن بالسعودية و القوم يشترون البضائع و يستكثرون و قد نبهتهم مرارا بأن هذه الأثقال لا يمكن أن تحملها سيارة واحدة لأن حمولتها القانونية محدودة فلم يكن القوم يبالون ، فرأيت و أنا بمكة أو بجدة أننا راكبون هذه السيارة و سائرون في طريق جيد معبد ، فاستقبلتنا قنطرة كبرى على واد ملآن ماء فانحرفت السيارة عن الطريق و نزلت الهوينا ، و أنا أصيح على السائق ، على يمين القنطرة في طريق منحدر ضيق حتى دخلت في الماء شيئا فشيئا ، و قد استطعت الخروج منها و أخذ ما أمكن أخذه ، و وقفنا على شاطئ النهر نشاهد غرقها إلى أن غرقت و لم يبق ظاهرا منها شيء ، و كأني أنظر إليها الساعة و هي تغرق، و لما استيقظت لم أحدث الإخوان بالرؤيا المزعجة و استعذت بالله من شرها ، و لم يقع تأويلها إلا بعد : مكيدة السائق ، و تآمر رجال الجمارك ، و نصب اللص المصري الذي أخذ تذكرتها . و لا حول ولا قوة إلا بالله .
و بعد رحلة طيبة في الباخرة التركية استغرقت ثلاثة أيام أو أربعة أيام مارين بإيطاليا التي شاهدنا مساءً أحد براكينها المشهور و هو يرمي بشرر ، و نزلنا مدينة (نابولي) الجميلة و مكثنا بها ساعات ، كما نزلنا بمدينة (مرسيليا) الفرنسية و رأينا الجسر المفتوح الذي يرفع و يخفض لمرور البواخر ، و وصلنا إلى برشلونة التي رأينا من اتساعها و حدائقها و مبانيها و معاملها ما يدهش الألباب .
و قد صلينا مرة في إحدى حدائقها الرائعة جماعة و الإسبان ينظرون متعجبين ، ثم مررنا على عدة مدن و قرى إلى أن وصلنا إلى غرناطة ؛ حيث مكثنا يومين زرنا خلالها قصر الحمراء ، و زرنا إشبيلية و زرنا بها قصورها و صعدنا منارة يعقوب المنصور الموحدي (الخِرالدا) ، و تجولنا بحدائقها الساحرة ، و وقفنا على النهر الكبير الذي طالما تغنّى به الشعراء :
وَأَينَ حمص وَما تَحويِهِ مِن نُزَهٍ وَنَهرُها العَذبُ فَيّاضٌ وَمَلآنُ[12]
ثم زرنا مالقة و بتنا بها ليلتين زرنا خلالها ما تبقى من قصر العرب و شواهد قبور و بقايا أسوار و المسجد الجامع و منارته و قد حول كنيسة ، و أخيرا وصلنا الجزيرة الخضراء ، و لم نبت بها، و ركبنا بحر الزقاق إلى مدينة سبتة الأسيرة فك الله أسرها مع أخواتها الأندلسيات ، و أعاد إليهن كلمة التوحيد ، و ما ذلك على الله بعزيز .
و وجدنا بالميناء أقاربنا و هم ولدي الأكبر أويس وهو طفل ، و ركبنا السيارات إلى الباب السعيدة حيث وجدنا جموعا من المستقبلين ، أذكر منهم : الأستاذ محمد داود ، و الحاج محمد بنونة ، و غيرهم من الأحبة .
و الحمد لله الذي جمع الشمل ، و حقق الأمل ، و أعادنا إلى بلدنا و أهلينا ، و هو المسؤول سبحانه أن يمن بالقبول و أن يتجاوز عنا و يغفر لنا ذنوبنا و إسرافنا في أمرنا ، إنه غفور رحيم ، جواد كريم .
و قد بذلنا جهودا كبيرة لتخليص السيارة من أيدي المصريين ، و اتصلنا بالسفير الطريس ، وكتب لنا إلى السفير ابن المليح الفاسي ، كما كتب رسائل إلى هذا الأخير و غيره ، و بعثنا بما يلزم من مال لشحن السيارة بواسطة موظف السفارة ابن المفتي ، و ذهب الأخ محمد مولاطو إلى السفارة بنفسه و كان طالبا هناك بالقاهرة فوجد أن المال ضاع ، و أن السفير لم يفعل شيئا ، و أخبرنا بعد ذلك أن المصريين باعوا السيارة لما استحق عليها من أجرة الأرض بالميناء ، و هكذا تحققت الرؤيا المشار إليها ، و أيسنا من أمر السيارة ، و العوض على الله ، و لا حول و لا قوة إلا بالله . و صلى الله على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم تسليما .
و بعد رجوعنا إلى الوطن فكرت في تدوين هذه الرحلة و المعلومات ماثلة في الذاكرة ، والأحداث قريبة العهد ، و الأوراق متوفرة ، و كنت حدثت الفقيه ابن تاويت عن ذلك ، و أخبرته أنني سأسمي الرحلة بعد كتابتها : (السير و السرى ، إلى طيبة و أم القرى) ، فأمرني أن أزيد في اسمها: مواصلة السير بالسرى ، و كان العزم أن أفيض في وصف الطرق و المنازل و المدن و القرى مع ذكر ملخصات عن تاريخها ، و أن أثبت كل ما تم الاطلاع عليه من كتب و رسائل و تراجم الرجال الذين اجتمعت بهم أو زرت ضرائحهم ، مع تفصيل القول في الحج و المناسك بذكر الدلائل والفوائد و الحكم في تركيز كاف ، و توثيق معتبر ؛ إلا أن الشواغل و العمل الإداري لتأمين العيش للأولاد ومعاكسة الظروف كانت تحول بيني و بين ذلك ، حتىّ منّ الله عليّ و قد لزمت الفراش في أيام عيد الأضحى من عام 1418 هـ فأمضيت الوقت في استذكار ما مضى مما بقي في الذاكرة عالقا يلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد ، و في النية إن شاء الله تعالى أن أعود إليها لتدارك ما يمكن من ذلك بحول الله .
و كتب هذه الأوراق على عجل و مع معاناة مرض في يومي السبت و الأحد 14-15 ذي الحجة الحرام عام 1418 هـ عبيد ربه أبو أويس محمد بن الأمين بو خبزة الحسني عفا الله عنه بمنزله بحي سيدي طلحة الدريج الأنصاري بمحروسة تطوان قاعدة شمال المغرب الأقصى .
 
أعلى