الرد على الموضوع

فإذا فرغ الحاج من الطواف والسعي إن كان متمتعاً بالعمرة تحلل من عمرته ؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل وأن يجعلها عمرة فيتحلل يقصر يأخذ من شعره ثم بعد ذلك يبقى إلى اليوم الثامن يوم التروية فيحرم بالحج تأسياً بالنبي-صلى الله عليه وسلم- حين كان معه الصحابة فإنهم أحرموا من مكة ، والسنة أن يقع إحرامه من مكة لا من مني ؛ لأن أصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم- أحرموا من مكة وهذه هي السنة أن يقع الإحرام من مكة قبل خروجهم إلى منى ؛ لأنهم غدوا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إلى منى وهم محرمون ، ولا يجب عليه أن يخرج إلى حدود الحرم فهو يحرم من موضعه بمكة ولا يشترط أن يأتي إلى المسجد نفسه ، ثم إن كان قارناً أو مفرداً فإن هذا السعي يقع عن حجه وحينئذٍ لا يجب عليه السعي يوم النحر ، ولذلك سعى النبي-صلى الله عليه وسلم- سعياً واحداً وجعله لحجه وعمرته والقارن كالمفرد فيكون سعيه هذا الذي ابتدأه قبل يوم عرفة سعي الحج وحينئذٍ يجزئه عن سعي الحج والعمرة إن كان قارناً وعن سعي حجه إن كان مفرداً .


ثم إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- خرج إلى منى في اليوم الثامن يوم التروية وسمي يوم التروية من الرَّيء لأنهم كانوا يحملون الماء فيه إلى عرفات من أجل سقي الحجاج فخرج-عليه الصلاة والسلام- فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر فبات بمنىٍ ، ومن هنا يسن للحاج أن يغدوا إلى منىٍ فيصلي فيها الظهر تأسياً برسول الله-صلى الله عليه وسلم- ، والذهاب لمنى يوم التروية سنة وليس بواجب إن تيسر فالحمد الله ، وإن لم يتيسر فلا حرج عليه .


والدليل على ذلك : أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال في حديث عروة بن مضرس-رضي الله عنه- لما قال : أقبلت من جبل طي أكللت راحلتي وأتعبت نفسي وما تركت جبلاً إلا وقفت عليه فقال-عليه الصلاة والسلام- : (( من صلى صلاتنا هذه )) يعني يوم النحر في الفجر بمزدلفة (( ووقف موقفنا هذا - بالمشعر - وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه )) فدل على أنه ليس بواجب ولا لازم ولا بركن في الحج يوم التروية .


ثم إن الصحابة-رضوان الله عليهم- غدوا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إلى عرفات فخرج-عليه الصلاة والسلام- إلى عرفات من طريق ضب وهو الطريق الذي بأسفل جمرة العقبة وخرج بعد صلاة للفجر بمنىٍ وكان من هديهم -رضي الله عنهم- مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أنهم خرجوا ذاكرين لله قال أنس-رضي الله عنه- : غدونا مع رسول الله-صلى الله عليه وسلم- إلى عرفات فمنا الملبي ومنا المهلل ومنا المكبر فلم يعب أحدٌ منا على الآخر ، فلما أتى-عليه الصلاة والسلام- إلى عرفات نزل بنمرة ، ونمرة هو : المنْبَسط الفسيح الذي بين حدود الحرم ووادي عرنة وهو يقرب من خمسائه متر نزل فيه-عليه الصلاة والسلام- فلم يدخل إلى عرفات قبل زوال الشمس ولا قبل صلاة الظهر ؛ وإنما نزل قبلها فضربت له القبه-صلوات الله وسلامه عليه- في هذا الموضع فنـزل فيه ، ثم إنه-عليه الصلاة والسلام- لما زالت الشمس حرك ناقته القصواء-صلوات الله وسلامه عليه- وأتى وادي عرنة وخطب الناس خطبته المشهورة التي تعرف بخطبة حجة الوداع وقد جمع فيها-صلوات الله وسلامه عليه- مقاصد الإسلام وكانت من أعظم المشاهد وأجلها لأن الله أقر فيها عين رسوله-صلى الله عليه وسلم- فقد اجتمع في هذا اليوم قال بعض العلماء : إنهم كانوا - أي الصحابة - قرابة مائة وعشرين ألف صحابي على القول بأنهم بلغوا هذا المبلغ ، وكان يوماً عظيماً لأن الناس كان كثير منهم حديث العهد بالإسلام وحديث العهد بشرائع الإسلام وهو بالأمس يُكَذَّب في مكة ويُؤْذَى أصحابه -صلوات الله وسلامه عليه- ، وإذ برب العزة والجلال الذي لا يُضَيِّع الحق وأهله والذي يعز جنده وينجز وعده ويصدق عبده إذا به يقر عينه بذلك المشهد العظيم فتصغي له الناس صغاراً وكباراً شباباً وشيباً وأطفالاً كلهم ينظرون إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وفتح الله له قلوبهم وفتح الله له أسماعهم وكانت خطبة جامعة نافعة أحل فيها الحلال وحرم فيها الحرام ، وقف فيها-عليه الصلاة والسلام- شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ،

وبين فيها المقاصد العظيمة ونبه المسلمين على أمور من الركائز التي ينبغي العناية بها وينبغي على كل داعية وكل معلم أن يعتني بها فأحياء ما اندرس من معالم الحنيفية وطمس معالم الشرك والوثنية والجاهلية ، وأذهب النعرات والعصيبة ، وبين الحلال والحرام فأحل حلال الله وحرم حرام الله ، وكان مما ذَكرَ الناس به مسألة الأُخوة واستشعار المسلم بحق أخيه المسلم ، وكان هذا من أجمع ما اعتنى به-عليه الصلاة والسلام- في ذلك اليوم لأنه سألهم أي يوم هذا ، وسألهم عن الزمان وسألهم عن المكان فلما أقروا بحرمته له-عليه الصلاة والسلام-

قال : (( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ألا هل بلغت اللهم فاشهد )) وكان يرفع أصبعه-عليه الصلاة والسلام- ثم ينكتها على الصحابة (( اللهم فأشهد )) أي اللهم فاشهد أني بلغت الرسالة وأديت الأمانة وأني ذَكَّرْت كل مسلم بحق أخيه المسلم ، وذكرت كل مسلم أن لا يستهين بعرض أخيه المسلم ، وألا يستهين بدمه وألا يستهين بماله ، ومن نظر إلى مظالم المسلمين مع بعضهم يجدها لا تخرج عن هذه الثلاثة ، إما اعتداء على دمه ، أو اعتداء على ماله ، أو اعتداء على عرضه ، ومن سلم من حقوق الناس في هذه الثلاثة فقد سلم من شر عظيم وبلاء وخيم ولقي الله خفيف الحمل من مظالم خلقه فَذكّر - صلوات الله وسلامه عليه- بحق المسلم على أخيه المسلم وأين الناس من استشعار هذا ؟! يقف في هذا الموقف الذي كان الموقف الوحيد الفريد في عمره-عليه الصلاة والسلام- الذي ما اجتمعت له الأمة ويركز على الإخوة ، ويركز على المعاني الإسلامية الهادفة التي هي سر عظمة هذه الأمة وقوتها وهيبتها وعزتها فكل من يشتت المسلمين فشتت الله شمله وفرق جمعه ؛ لأنه يناقض هذا الأصل وهذا المنهج ، ولذلك كل داعية وكل عالم يحرص على غرس المحبة بين المسلمين وتأليف قلوبهم وجمعها على كتاب الله وسنة النبي-صلى الله عليه وسلم- فإنه يأتسي برسول الأمة ويحرص على ما حرص عليه النبي-صلى الله عليه وسلم- في هذا اليوم (( أيها الناس )) خاطبهم كلهم وأعذر إلى الله وكان يقول : (( إلا هل بلغت )) أي إني بلغتكم حتى إنه-عليه الصلاة والسلام- كان يرفع أصبعه إلى السماء ويقول : (( اللهم )) ينادي ربه (( اللهم فاشهد )) أي يا الله أشهد عليهم أني بلغتهم أن دمائهم وأموالهم وأعراضهم عليهم حرام ثم قال-عليه الصلاة والسلام- : (( ألا فليبلغ الشاهد الغائب )) وبين-عليه الصلاة والسلام- عظيم الحرمات وكان مما بين حرمته حرمة الربا وقال : (( إن الربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا عمي العباس بن عبدالمطلب )) فرسم المنهج للداعية والمعلم والموجه أن يبدأ بنفسه قبل أن يبدأ بالناس وأن يبدأ بقرابته بشرط أن يكون القرابة مستجيبين له فلا عتب على الداعية إذا نصح القريب ولم ينتصح وأمره فلم يأتمر ونهاه فلم ينـزجر . ثم إن رسول الأمة-صلى الله عليه وسلم- أمر بلالاً فأذن ثم أمره فأقام الصلاة فصلى الظهر ثم صلى بعدها العصر جمع تقديم .

هنا وقفة : وهي أن المقصود من هذا اليوم التفرغ للدعاء وهو يوم عرفة .

ثانياً : أن فضل هذا اليوم وأفضل ما فيه آخره لأن الموقف يبدأ من بعد الصلاة لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- ما دخل عرفة إلا بعد صلاة الظهر والعصر ، ولذلك يحرص المسلم على أنه يهيء نفسه قبل الصلاة بحيث لا يأتي بعد الصلاة إلا وهو متفرغ تماماً للذكر والدعاء ، وخليق بكل مسلم يأتسي برسول الله-صلى الله عليه وسلم- أن ينظر في هديه حرك دابته القصواء-صلوات الله وسلامه عليه- ودخل إلى عرفات واستقبل القبلة وجعل حبل المشاة بين يديه ثم رفع يديه وما زال يتضرع ويدعو حتى غابت عليه الشمس-صلوات الله وسلامه عليه- صلى وفريضة تقدم على وقتها من أجل أن يتفرغ للدعاء ؛ لأن شرف هذا اليوم في الدعاء (( خير يومٍ طلعت عليه الشمس يوم عرفة ))

الإنسان لما يأتي إلى هذا اليوم يستشعر أولاً ما هي منـزلة هذا اليوم ، وماهي مكانته وما الذي ورد من النصوص في فضله وشرفه ، ولو لما يكن فيها إلا قول النبي-صلى الله عليه وسلم- : (( خير يوم طلعت عليه الشمس )) فما طلعت الشمس على يوم خيرٍ عند الله من ذلك اليوم (( وما من يومٍ أكثر من أن يعتق الله فيه الرقاب من يوم عرفة )) فلربما دخل فيه المسيؤن والظالمون وخرجوا منه كيوم ولدتهم أمهاتهم ؟! ولربما دخل العبد وهو خاشع القلب متخشع لربه متذلل متبذل يرجو رحمة الله ويخشى عذاب الله مؤمناً صادقاً دعا ربه من كل قلبه فأوجب الله له الجنة وحرمه على النار (( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه الرقاب من النار من يوم عرفة )) فهو يوم العتق من النار وكأن الإنسان يأتي إلى يوم عرفة كأن لسان حاله يقول : اللهم لا تحُلْ بيني وبين رحمتك بذنبي ، فيأتي وهو منكسر القلب وثق ثقةً تامة أن أسعد لحظة في كل وقت وفي كل حين هي اللحظة التي تخلو فيها بربك ، وأن الله أعز من أن تضيع هذه الساعات مع زيد وعمرو ، وأعز من أن تشتغل بالرفع والوضع ضعوا هذا وارفعوا وافعلوا كذا وأعز من أن تشتغل بأشياء تلهيك عن تجارة لن تبور فيها وعن سعادة ساعات اختارها الله من العام كله ولربما تكون هي ساعات العمر كلها بحيث أن الشخص ما يحج إلا مرة واحدة.


فما بال الإنسان يضيعه مع زيد وعمرو ؟! تأتي وأنت تحس أن كل ثانية فضلاً عن دقيقة فضل عن ساعة ينبغي أن تستنفذ في ذكر الله وشكره ، وأفضل ما يقال في ذلك اليوم أفضل ما يلهج به لسانك أن تكثر من قول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك له الحمد وهو على كل شيء قدير ، كان بعض العلماء يوصي ويقول : عجبت أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال : (( خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة )) ثم قال بعده : (( وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير )) وأعرف من بعض مشايخنا-رحمة الله عليه- أنه كان إذا جَمَع وصلى تضرع ولايزيد عن هذه الكلمة !! ما يزيد عن قوله لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، من عظمها وفضلها فهي أثقل كلمة ولا يثقل مع اسم الله شيء ولقي الله عبد له تسع وتسعون سجل كل سجل منها مد البصر من الذنوب والخطايا وجاء ببطاقة فيها لا إله إلا الله فطاشت بتلك السجلات كلها ولا يثقل مع اسم الله شيء ، فيحرص الإنسان على أنه بعد الصلاة لا يشتغل بشيء إلا ذكر الله-عز وجل- يرتب أموره ويرتب أحواله ويوصي من حوله ألاَّ يشغله عن ذكر الله والأفضل أن يأخذ بالسنن في الدعاء من أن يكون على أتم الأحوال وأكملها متطهراً مستقبل القبلة حاضر القلب خاشعاً يبكي على ذنبه .

كيف الدعاء ؟

أولاً : الدعاء بحضور قلب واستشعار لعظمة الله-جل جلاله- وما يدريك فلعلك أن تدعو بدعوة تصيب بها سعادة لا تشقى بعدها أبداً ! وما يدريك في هذا اليوم لعلك أن تقول كلمة تكون سبباً في نجاتك من الفتن ما ظهر منها وما بطن فهذا يوم السؤال ويوم الحاجة والتضرع .

كيف تدعوا ؟

أولاً : تختار الأحاديث الواردة عن النبي-صلى الله عليه وسلم- في جوامع دعائه مثل قوله : (( ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار )) يستكثر منها الإنسان .

ثانياً : قوله-عليه الصلاة والسلام- : (( اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر )) إذا دعوت تبدأ بنفسك ، ثم بقرابتك وأهلك وذويك ومن لهم حق عليك من القرابه { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } ، ثم بعد ذلك بعلماء المسلمين ومن له حق عليك ، ثم بعد ذلك تدعو للمسلمين عموماً .

كيف تدعو لنفسك تبدأ أول شيء بالدعاء في دنياك تسأل الله أن يعفو عما سلف ، وأن يحسن لك الخاتمة فيما بقي من عمرك وأجلك تركز على هذين الجانبين بكل اختصار كيف تدعوا تسأل الله أن يعفوا عما مضى وأن يحسن لك العاقبة فيما بقي .


ثانياً : تسأله أن يخرجك من هذه الدنيا وهو راضٍ عنك تسأله حسن الخاتمة والثبات على الحق إلى الممات وألا يزيغ قلبك بعد إذ هدك ، فإذا رزقت صلاح الدنيا ، بعد ذلك تسأله حسن الخاتمة فيها ثم تسأله أن يعيذك من عذاب القبر المرحلة الثانية بعد الدنيا القبر وأن يعيذك مما فيه من فتنه وأهواله ، ثم تنتقل إلى الآخرة وتأخذ مشاهد الآخرة فتسأل الله أن يجعلك من الذين يخرجون من قبورهم لا خوف عليهم ولاهم يحزنون تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ، تتلقاهم بأمن وأمان فتسأل الله أن تكون منهم ، ثم تسأل الله أن يلطف بك وأن يرحم في يوم العرض عليه ذل مقامك ، وذل موقفك وأن يهون عليك الحساب وأن ييسره عليك وأن يدخلك الجنة بدون حساب ولا عذاب ، ثم تسأله أن ينجيك من الصراط وأهواله ، ثم تسأله أن ينجيك من حقوق العباد ومظالم العباد تنتقل من مرحلة إلى مرحلة ، ثم تسأله الخير في الجنة وخير ما يسأل وهو الفردوس الأعلى من الجنة لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- أمر أن يسأل الفردوس من الجنة تسأله أن يعيذك من النار وأن يجيرك منها .


إذا انتهيت من نفسك بعد ذلك تسأل حوائجك في الدنيا التي تحتاجها مما تستعين بها على طاعة الله ومرضاته ثم بعد ذلك تبدأ بوالديك فإن كانا أمواتاً ترحمت عليهم وسألت الله أن يفسح لهم في قبورهم وأن يأمن خوفهم ، وأن يحسن إليهم ، وإن كانوا أحياء سألت الله لهم صلاح الدنيا وحسن الخاتمة وصلاح العمل وهكذا في القرابة تبدأ بهم تسمي الإخوان والأخوات فتصل رحمك في هذا اليوم فمن وصل رحمه وصله الله-عز وجل- ، ثم من له حق عليك من إخوانك ومشايخك ، ومن له حق عليك في الإحسان إليك وتربيتك ونحو ذلك حتى تستجمع الحسنات لأكثر المسلمين . 


اكتب معهد الماهر
أعلى