تعريف الطلاق :
والطلاق هو التخلية. قال الصاحب بن عباد: "والطَّلاقُ: تَخْلِيَةُ سَبِيلها، طَلَقَتْ تَطْلَقُ وطَلقَتْ تَطْلُقُ، وهي طالِقٌ، وطالِقَةٌ غَداً. ورَجُلٌ مِطْلِيْقٌ ومِطْلاقٌ: كثيرُ الطَّلاقِ للنَساء"(2)، وقال ابن دريد: "وطلّق الرجلُ امرأتَه تطليقاً، والاسم الطَّلاق؛ وطَلُقَتِ المرأةُ فهي طالق، وطُلِّقت فهي مطلَّقة. وأطلقتُ الأسيرَ إطلاقاً، إذا فَكَكْتَه"(3).
تعريف الغضب:
الغضب ضد الرضا. قال ابن دريد: "والغَضَب: ضد الرِّضا. ورجل غُضبَّة، إذا كان كثير الغَضَب. ورجل غُضاب، إذا كان غليظ الجلد"(4). يقال: غضِب عليه غَضَباً، ومَغْضَبَة، وأغْضَبْتُهُ أنا فتغَضب. ورجل غَضْبانُ وامرأة غَضْبى، ولغة في بني أسد غَضْبانَة ومَلآنةٌ وأشباههما. وقومٌ غَضبى وغَضابى. قال الأصمعيّ: رجل غضبَّة، بتشديد الباء، أي يغضب سريعاً.(5) قال الأمير الصنعاني: "وحقيقة الغضب حركة النفس إلى خارج الجسد لإرادة الانتقام"
أقسام طلاق الغضبان عند ابن القيم:
قسَّم ابن القيم طلاق الغضبان على ثلاثة أقسام، كالآتي:
1. أن يحصل له مبادئ الغضب، بحيث لا يتغير عقله، ويعلم ما يقول ويقصده.
2. أن يبلغ الغضب منتهاه، حتى أصبح لا يعلم ما يقول ولا ما يريده.
3. أن يتوسط حاله بين هاتين المرتبتين، بحيث لم يَصِرْ كالمجنون، كما أنه ليس في كامل عقله.
قال رحمه الله تعالى: "وحينئذ فنقول الغضب ثلاثة أقسام: أحدها: أن يحصل للإنسان مبادئه وأوائله، بحيث لا يتغير عليه عقله ولا ذهنه، ويعلم ما يقول وما يقصده، فهذا لا إشكال في وقوع طلاقه وعتقه وصحة عقوده، ولا سيما إذا وقع منه ذلك بعد تردده فكره. القسم الثاني: أن يبلغ به الغضب نهايته، بحيث ينغلق عليه باب العلم والإرادة، فلا يعلم ما يقول ولا ما يريده، فهذا لا يتوجه خلاف في عدم وقوع طلاقه، كما تقدم، والغضب غول العقل، فإذا اغتال الغضب عقله، حتى لم يعلم ما يقول، فلا ريب أنه لا ينفذ شيء من أقواله في هذه الحالة، فإن أقوال المكلف إنما مع علم القائل بصدورها منه ومعناها وإرادته للتكلم بها... القسم الثالث: من توسط في الغضب بين المرتبتين، فتعدى مبادئه، ولم ينته إلى آخره، بحيث صار كالمجنون، فهذا موضع الخلاف ومحل النظر، والأدلة الشرعية تدل على عدم نفوذ طلاقه وعتقه وعقوده التي يعتبر فيها الاختيار والرضا، وهو فرع من الإغلاق كما فسره به الأئمة"(15).
حكم طلاق الغضبان:
إذا أوقع الغضبان -وهو من لم يبلغ به الغضب منتهاه، كما أنه ليس في قواه العقلي الكاملة- الطلاق، فللعلماء نظر في طلاقه، كالآتي:
أولاً: القول بوقوع طلاق الغضبان:
ذهب جماهير أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة إلى وقوع طلاق الغضبان. قال الدسوقي المالكي: "يلزم طلاق الغضبان ولو اشتد غضبه، خلافاً لبعضهم"(18)، وبمثله قال الصاوي(19).
وقال في فتح المعين من كتب الشافعية: "واتفقوا على وقوع طلاق الغضبان، وإن ادعى زوال شعوره بالغضب"(20)، وقال في إعانة الطالبين: "واتفقوا على وقوع طلاق الغضبان"(21)، وقد سئل الشمس الرملي عن الحلف بالطلاق حال الغضب الشديد المخرج عن الإشعار: هل يقع الطلاق أم لا؟ وهل يصدق الحالف في دعواه شدة الغضب وعدم الإشعار؟. فأجاب: بأنه لا اعتبار بالغضب فيها. نعم: إن كان زائل العقل عُذِر.(22)
وقال في مطالب أولي النهى من كتب الحنابلة: "ويقع الطلاق ممن غضب ولم يزل عقله بالكلية... قال ابن رجب في شرح الأربعين النووية: ما يقع من الغضبان من طلاق وعتاق أو يمين، فإنه يؤاخذ بذلك كله بغير خلاف"(23). ثم ذكر أن ابن القيم من الحنابلة مال إلى القول بعدم وقوع طلاق الغضبان.(24)
كما أفتى شيخنا العلامة: محمد بن إسماعيل العمراني حفظه الله، بمثل ما أفتى به الجماهير من أهل العلم، كما تقدم، ولا يزال يقول دائماً، كلما جاءه هذا السؤال: الإنسان لا يطلق دائماً، إلا في حالة الغضب، ولم نسمع يوماً أن أحداً طلق امرأته، وهو يضحك أو أنه طلقها، وهو في حال الفرح والمرح معها (وهو يرقص معها)، فالطلاق -غالباً- يقع في حال الغضب.
أدلة القائلين بوقوع طلاق الغضبان:
إستدل القائلون بوقوع طلاق الغضبان بأدلة، منها:
1. حديث(25) خولة بنت ثعلبة -امرأة أوس بن الصامت- قالت: والله فيَّ وفي أوس بن صامت أنزل الله -عز وجل- صدر سورة المجادلة. قالت: كنت عنده وكان شيخاً كبيراً، قد ساء خلقه وضجِر. قالت: فدخل علي يوماً، فراجعته بشيء، فغضب، فقال: أنت علي كظهر أمي. وفيه أمره صلى الله عليه وسلم: «بعتق رقبة، ثم بصيام شهرين متتابعين، ثم بإطعام ستين مسكيناً»الحديث(26).
2. واستدلوا(27) بحديث أبي موسى -رضي الله عنه- قال: «أرسلني أصحابي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسأله الحُملان لهم، إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك، فقلت: يا نبي الله! إن أصحابي أرسلوني إليك؛ لتحملهم، فقال: والله لا أحملكم على شيء، ووافقته وهو غضبان، ولا أشعر... الحديث»(28)، وفي رواية «فقلنا: يا رسول الله! إنا استحملناك، فحلفت أن لا تحملنا، فظننا أنك نسيت يمينك، فقال: إن الله هو حملكم. إني والله -إن شاء الله- لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها، إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها»(29).
3. واستدلوا بعدم وجود مخالف لهذا القول في عهد الصحابة، فكان إجماعاً سكوتياً. قال البيهقي: "وأفتى به جمع من الصحابة، ولا مخالف لهم منهم"(30).
4. واستدلوا بأنه مكلف في حال غضبه بما يصدر منه من: كفر، وقتل نفس، وأخذ مال بغير حق، وغير ذلك، والطلاق مثل ذلك.(31)
5. واستدلوا بأن الغضب نابع من باطن الإنسان، كالمحبة الحاملة على الزنا، فإذا كان المرء مؤاخذ بزناه، فكذا ينبغي أن يؤاخذ بطلاقه الواقع في حال الغضب.(32)
ثانياً: القول بعدم وقوع طلاق الغضبان:
هذا القول هو الذي مال إليه ابن القيم كما تقدم(33). قال رحمه الله تعالى: "والأدلة الشرعية تدل على عدم نفوذ طلاقه وعتقه وعقوده، التي يعتبر فيها الاختيار والرضا، وهو فرع من الإغلاق كما فسره به الأئمة"(34).
وأما المعاصرون فقد قال كثيرون بمثل ما قاله ابن القيم، حيث أفتى جاد الحق علي جاد الحق أن الغضب إذا بلغ بالزوج نهايته وقت الطلاق فلا يعلم ما يقوله ولا ما يريده. وكذا إذا كان لا يبلغ هذه الغاية، ولكن يغلب عليه الخلل والاضطراب في أقواله وأفعاله، فإن الطلاق غير واقع في هاتين الحالتين وإلا وقع(35).
أدلة القائلين بعدم وقوع طلاق الغضبان:
استدل ابن القيم(40) إلى ما ذهب إليه من عدم وقوع طلاق الغضبان بأدلة كثيرة، منها:
1. قوله تعالى: ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾[البقرة: 225]، فإذا كان الله سبحانه لا يؤاخذ على اللغو في اليمين، فالطلاق مثله.
2. وقوله سبحانه: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ﴾ [يونس: 11،12]. فالغضب قد منع كون الدعاء سبباً؛ لأن الغضبان لم يقصده بقلبه... فاقتضت رحمة العزيز العليم أن لا يؤاخذه بذلك، ولا يجيب دعاءه؛ لأنه عن غير قصد منه، بل الحامل له عليه الغضب، الذي هو من الشيطان.(41)
3. وقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف: 150]، ووجه الاستدلال من الآية: أن موسى صلوات الله عليه لم يكن ليلقي الألواح فيكسرها اختياراً منه لذلك، ولا كان فيه مصلحة لبني اسرائيل، ولذلك جرّ لحية أخيه ورأسه، وإنما حمله على ذلك الغضب، فعذره الله سبحانه به، ولم يعتب عليه بما فعل، إذ كان مصدره الغضب الخارج عن قدرة العبد واختياره، فالمتولد عنه غير منسوب إلى اختياره ورضاه به. يوضح ذلك أنه سبحانه عدل عن قوله "سكن" إلى قوله "سكت" تنـزيلاً للغضب منـزلة السلطان الآمر الناهي، وعليه لم يكن ما جرى على لسانه في هذا الحال منسوباً إلى اختياره ورضاه، فلا يتم عليه أثره.(42)
4. وقوله تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنـزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ﴾ [الأعراف: 200]، والغضب من الشيطان وأثره منه، وعليه فليس هو من اختيار العبد، فلا يترتب عليه حكمه.(43)
5. واستدل من السنة(44) بحديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا طلاق، ولا عتاق في إغلاق»(45). قال ابن القيم: "وقد اختلف في الإغلاق، فقال أهل الحجاز: هو الإكراه، وقال أهل العراق: هو الغضب، وقالت طائفة: هو جمع الثلاث بكلمة واحدة. حكى الأقوال الثلاثة صاحب كتاب مطالع الأنوار"(46). وقال في موضع آخر: "ويدخل فيه الغضب؛ لأن الإغلاق له معنيان: أحدهما: الإكراه. والآخر ما دخل عليه مما ينغلق به رأيه عليه. وهذا مقتضى تبويب البخاري، فإنه قال في صحيحه: باب الطلاق في الإغلاق، والكُره، والسكران، والمجنون. يفرق بين الطلاق في الإغلاق، وبين هذه الوجوه، وهو أيضاً مقتضى كلام الشافعي، فإنه يسمي نذر اللجاج والغضب: يمين الغلق ونذر الغلق"(47). وأيد ذلك بأن الإمام أحمد فسر الإغلاق بالغضب. قال ابن مفلح: "قال في رواية حنبل: يريد به الغضب، ذكره أبو بكر ولم يذكر خلافه. وقال أبو داود: أظنه الغضب"(48).
6. وحديث عمران بن حصين قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين»(49). ووجه الاستدلال به أنه ألغى وجوب الوفاء بالنذر إذا كان في حال بالغضب مع أن الله سبحانه وتعالى أثنى على الموفين بالنذور، مع أمره صلى الله عليه وسلم الناذر لطاعة الله بالوفاء بنذره.(50)
7. وحديث أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:«لا يقضين حكم بين اثنين، وهو غضبان»(51)، ولولا أن الغضب يؤثر في قصده وعلمه، لم ينهه عن الحكم حال الغضب.(52)
الخلاصة: مما سبق يتبين لنا أن العلماء قد اختلفوا على قولين، في حكم طلاق الغضبان، وهو الذي طلق في حالٍ لم يبلغ معها الغضب منتهاه، كما أنه ليس في قواه العقلي الكاملة، وذلك كالآتي:
1. وقوع طلاقه، وهذا ما قاله الجماهير من أهل العلم وأئمة المذاهب.
2. عدم وقوع طلاقه، وهو ما قاله ابن القيم، ومال إليه كثير من المعاصرين.
الترجيح:
من خلال عرض أدلة كل من الفريقين، يتبين لنا أن القول الراجح، هو قول جماهير أهل العلم؛ للآتي:
1. أن الأدلة التي استدلوا بها أقرب إلى بيان الحكم الشرعي في هذه المسألة من أدلة القول الثاني.
2. أن أدلة القول الثاني يمكن انتقادها في دلالتها على ما أرادوا.
===========================================
فاتن زاهر
الغَضَبُ: هو ثورَانُ دم القلب لقصد الانتقام (2) .
وقال الجرجاني: (الغَضَبُ: تغير يحصل عند غليان دم القلب، ليحصل عنه التشفي للصَّدر) (3) .
وقيل: (هو غليانُ دم القلب، طلبًا لدفع المؤذي عند خشية وقوعه، أو طلبًا للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعد وقوعه) (4) .
لا شك أن للغضب أمورسلبية منها :
في نفس الغاضب: في مظهره، وفي لسانه؛ بأن ينطق كل قبيح، وله آثاره السيئة على المجتمع الذي من حوله.
(ومن آثار هذا الغَضَب في الظاهر، تغير اللون، وشدَّة رعدة الأطراف، وخروج الأفعال عن الانتظام، واضطراب الحركة والكلام، حتى يظهر الزَّبد على الأشداق، وتشتد حمرة الأحداق، وتنقلب المناخر، وتستحيل الخلقة، ولو يرى الغَضَبان في حال غضبه صورة نفسه، لسكن غضبه حياءً من قبح صورته، لاستحالة خلقته، وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره، فإنَّ الظَّاهر عنوان الباطن، إذ قبح ذاك إنما نشأ عن قبح هذا، فتغيُّر الظاهر ثمرة تغير الباطن، هذا أثره في الجسد.
وأما أثره في اللسان: فانطلاقه بالقبائح، كالشتم، والفحش، وغيرهما، مما يستحي منه ذَوُو العقول مطلقًا، وقائله عند فتور غضبه على أنَّه لا ينتظم كلامه، بل يتخبَّط نظمه، ويضطرب لفظه.
وأما أثره في الأعضاء،:فالضرب فما فوقه إلى القتل عند التمكن، فإن عجز عن التشفي رجع غضبه عليه، فمزَّق ثوبه، وضرب نفسه وغيره، حتى الحيوان والجماد - بالكسر - وغيره، وعدَا عدو الواله السكران، والمجنون الحيران، وربما سقط وعجز عن الحركة، واعتراه مثل الغشية، لشدة استيلاء الغَضَب عليه.
وقال ابن رجب: (وينشأ من ذلك أي من الغَضَب :كثير من الأفعال المحرمة، كالقتل والضربِ، وأنواعِ الظلم والعُدوان، وكثير من الأقوال المحرَّمة، كالقذفِ والسبِّ والفحش، وربما ارتقى إلى درجة الكفر3) ، وكطلاق الزوجة الذي يُعقِب الندمَ) (4) .
طلاق الغضبان
إختلف أهل العلم في طلاق الغضبان :
فذهب جماهير أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة إلى وقوع طلاق الغضبان. قال الدسوقي المالكي: "يلزم طلاق الغضبان ولو اشتد غضبه، خلافاً لبعضهم"
وقال في فتح المعين من كتب الشافعية: "واتفقوا على وقوع طلاق الغضبان، وإن ادعى زوال شعوره بالغضب"، وقال في إعانة الطالبين: "واتفقوا على وقوع طلاق الغضبان"، وقد سئل الشمس الرملي عن الحلف بالطلاق حال الغضب الشديد المخرج عن الإشعار: هل يقع الطلاق أم لا؟ وهل يصدق الحالف في دعواه شدة الغضب وعدم الإشعار؟. فأجاب: بأنه لا اعتبار بالغضب فيها. نعم: إن كان زائل العقل عُذِر. ومما استدل به هذا الفريق حديث: خولة بنت ثعلبة -امرأة أوس بن الصامت- قالت: والله فيَّ وفي أوس بن صامت أنزل الله -عز وجل- صدر سورة المجادلة. قالت: كنت عنده وكان شيخاً كبيراً، قد ساء خلقه وضجِر. قالت: فدخل علي يوماً، فراجعته بشيء، فغضب، فقال: أنت علي كظهر أمي. وفيه أمره صلى الله عليه وسلم: «بعتق رقبة، ثم بصيام شهرين متتابعين، ثم بإطعام ستين مسكيناً» رواه أحمد وقال الألباني : صحيح
_و ذُكر أن ابن القيم من الحنابلة ومال إلى القول بعدم وقوع طلاق الغضبان. قال رحمه الله تعالى: "والأدلة الشرعية تدل على عدم نفوذ طلاقه وعتقه وعقوده، التي يعتبر فيها الاختيار والرضا، وهو فرع من الإغلاق كما فسره به الأئمة"
استدل ابن القيم إلى ما ذهب إليه من عدم وقوع طلاق الغضبان بأدلة كثيرة، منها:
1. قوله تعالى: ﴿لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [البقرة: 225]، فإذا كان الله سبحانه لا يؤاخذ على اللغو في اليمين، فالطلاق مثله.
2. وقوله سبحانه: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ﴾ [يونس: 11،12]. فالغضب قد منع كون الدعاء سبباً؛ لأن الغضبان لم يقصده بقلبه... فاقتضت رحمة العزيز العليم أن لا يؤاخذه بذلك، ولا يجيب دعاءه؛ لأنه عن غير قصد منه، بل الحامل له عليه الغضب، الذي هو من الشيطان.
3. وقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف: 150]، ووجه الاستدلال من الآية: أن موسى صلوات الله عليه لم يكن ليلقي الألواح فيكسرها اختياراً منه لذلك، ولا كان فيه مصلحة لبني اسرائيل، ولذلك جرّ لحية أخيه ورأسه، وإنما حمله على ذلك الغضب، فعذره الله سبحانه به، ولم يعتب عليه بما فعل، إذ كان مصدره الغضب الخارج عن قدرة العبد واختياره، فالمتولد عنه غير منسوب إلى اختياره ورضاه به. يوضح ذلك أنه سبحانه عدل عن قوله "سكن" إلى قوله "سكت" تنـزيلاً للغضب منـزلة السلطان الآمر الناهي، وعليه لم يكن ما جرى على لسانه في هذا الحال منسوباً إلى اختياره ورضاه، فلا يتم عليه أثره.
4. وقوله تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنـزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ﴾ [الأعراف: 200]، والغضب من الشيطان وأثره منه، وعليه فليس هو من اختيار العبد، فلا يترتب عليه حكمه.
5. واستدل من السنة بحديث عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا طلاق، ولا عتاق في إغلاق». قال ابن القيم: "وقد اختلف في الإغلاق، فقال أهل الحجاز: هو الإكراه، وقال أهل العراق: هو الغضب، وقالت طائفة: هو جمع الثلاث بكلمة واحدة. حكى الأقوال الثلاثة صاحب كتاب مطالع الأنوار". وقال في موضع آخر: "ويدخل فيه الغضب؛ لأن الإغلاق له معنيان: أحدهما: الإكراه. والآخر ما دخل عليه مما ينغلق به رأيه عليه. وهذا مقتضى تبويب البخاري، فإنه قال في صحيحه: باب الطلاق في الإغلاق، والكُره، والسكران، والمجنون. يفرق بين الطلاق في الإغلاق، وبين هذه الوجوه، وهو أيضاً مقتضى كلام الشافعي، فإنه يسمي نذر اللجاج والغضب: يمين الغلق ونذر الغلق". وأيد ذلك بأن الإمام أحمد فسر الإغلاق بالغضب. قال ابن مفلح: "قال في رواية حنبل: يريد به الغضب، ذكره أبو بكر ولم يذكر خلافه. وقال أبو داود: أظنه الغضب".
6. وحديث عمران بن حصين قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين». ووجه الاستدلال به أنه ألغى وجوب الوفاء بالنذر إذا كان في حال بالغضب مع أن الله سبحانه وتعالى أثنى على الموفين بالنذور، مع أمره صلى الله عليه وسلم الناذر لطاعة الله بالوفاء بنذره.
7. وحديث أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا يقضين حكم بين اثنين، وهو غضبان»، ولولا أن الغضب يؤثر في قصده وعلمه، لم ينهه عن الحكم حال الغضب.
الخلاصة:
مما سبق يتبين لنا أن العلماء قد اختلفوا على قولين، في حكم طلاق الغضبان، وهو الذي طلق في حالٍ لم يبلغ معها الغضب منتهاه، كما أنه ليس في قواه العقلية الكاملة، وذلك كالآتي:
1. وقوع طلاقه، وهذا ما قاله الجماهير من أهل العلم وأئمة المذاهب.
2. عدم وقوع طلاقه، وهو ما قاله ابن القيم، ومال إليه كثير من المعاصرين.
المراجع : الدرر لسنية ،
ومن حكم طلاق الغضبان لعلي بن عبد الرحمن بن علي دبيس، بتصرف
سعدية أم أمين ((ام حياة)