ابن عامر الشامي
وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
- إنضم
- 20 ديسمبر 2010
- المشاركات
- 10,237
- النقاط
- 38
- الإقامة
- المملكة المغربية
- احفظ من كتاب الله
- بين الدفتين
- احب القراءة برواية
- رواية حفص عن عاصم
- القارئ المفضل
- سعود الشريم
- الجنس
- اخ
صلاة الاستسقاء
مفهوم، وأسباب، وأنواع، وآداب، وآيات، وحِكَمٌ، وأحكامٌ
في ضوء الكتاب والسنة
تأليف الفقير إلى الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في: ((صلاة الاستسقاء)) وما يتعلق بها من أحكام، بيَّنت فيها بفضل الله تعالى: مفهوم الاستسقاء، وحكمه، وأسباب القحط وحبس المطر، وأنواع الاستسقاء، وآدابه التي ينبغي للمسلمين أن يلتزموا بها في الاستسقاء، وبيّنت كيفية صلاة الاستسقاء، وموضع خطبة الاستسقاء، وأن السنة في الدعاء المبالغة في رفع اليدين، ثم ذكرت أدعية نبوية ثبتت في الاستسقاء، وأن السنة تحويل الرداء في آخر خطبة الاستسقاء واستقبال القبلة، وبيَّنت أن الاستسقاء بالكواكب والأنواء من أمور الجاهلية، ثم ذكرت الآداب المختصة بالمطر، وختمت بذكر آيات من آيات الله تعالى: الرعد، والبرق، والصواعق، والزلازل، فذكرت كلام أهل العلم على ذلك.
وقد استفدت كثيرًا من تقريرات، وترجيحات شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز، رحمه الله تعالى.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل القليل: مباركًا، نافعًا، خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي، وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه خير مسؤول وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أبو عبد الرحمن
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
حرر في ضحى يوم السبت 20/3/1423هـ
أولاً: مفهوم الاستسقاء:
الاستسقاء طلب السقيا، كالاستصحاء: طلب الصحو، وهو استفعال من أسقيت( )، قـال ابن منظـــور – رحمه الله تعالى -: ((ذكر الاستسقاء في الحديث، وهو استفعال من طلب السقيا: أي إنزال الغيث على البلاد والعباد، يقال: استسقى، وسقى الله عباده الغيث، وأسقاهم، والاسم: السُّقيا بالضم، واستسقيت فلانًا: إذا طلبت منه أن يسقيك))( ).
ولكن في عرف الفقهاء إذا قالوا: صلاة الاستسقاء إنما يعنون استسقاء الرب لا استسقاء المخلوق( ).
قال الجرجاني – رحمه الله تعالى -: ((الاستسقاء: هو طلب المطر عند طول انقطاعه))( )، أي: من الله .
ثانيًا: حكم الاستسقاء: الاستسقاء سنة مؤكدة إذا أجدبت الأرض وقحط المَطَر( ).
قال الإمام ابن قدامة – رحمه الله تعالى -: ((صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة ثابتة بسنة رسول الله ، وخلفائه ))( ).
وقال الإمام ابن عبد البر – رحمه الله -: ((وأجمع العلماء على أن الخروج إلى الاستسقاء، والبروز، والاجتماع إلى الله خارج المصر: بالدعاء، والضراعة إلى الله تبارك اسمه في نزول الغيث عند احتباس ماء السماء وتمادي القحط: سنة مسنونة سنها رسول الله ، لا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك( )))( ).
ثالثًا: أسباب القحط وحبس المطر: معصية الله تعالى ورسوله ؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله فقال: ((يا معشر المهاجرين: خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن:
لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلاَّ فشا فيهم الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مَضَوا.
ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجَوْر السلطان عليهم.
ولم يَمْنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطروا.
ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم.
وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم))( ).
وهذا الحديث فيه من الفوائد: أن نقص المكيال والميزان سبب للجدب وشدة المؤونة وجور السلاطين، وفيه أن منع الزكاة من الأسباب الموجبة لمنع قطر السماء، وأن نزول الغيث مع وجود المعاصي إنما هو رحمة من الله تعالى للبهائم( ).
وقد قال الإمام البخاري – رحمه الله – في صحيحه: ((بابُ انتقام الرب من خلقه بالقحط إذا انتُهِكَتْ محارمُه))( ).
وقد جاء عن مجاهد – رحمه الله تعالى – أن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا أجدبت الأرض، ذكر ذلك الإمام ابن كثير – رحمه الله تعالى – في تفسير قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالـْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ ( ).
فقوله تعالى: أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ قال ابن كثير: ((يعني دواب الأرض..وقال عطاء بن أبي رباح:كل دابة،والجن،والإنس،وقال مجاهد:إذا أجدبت الأرض قالت البهائم:هذا من أجل عُصاة بني آدم،لعن الله عُصاة بني آدم.وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة(ويلعنهم اللاعنون)) يعني:تلعنهم الملائكة والمؤمنون،وقد جاء في الحديث أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر( )،وجاء في هذه الآية:أن كاتم العلم يلعنه الله،والملائكة،والناس أجمعون، واللاعنون أيضًا:وهو كل فصيح،وأعجمي،إما بلسان المقال، أو الحال،أن لو كان له عقل ويوم القيامة والله أعلم))( ).
وقد بيّن الله أن الابتعاد عن المعاصي والقيام بالواجبات من أعظم أسباب إنزال البركات، فقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ الْقَوْمُ الـْخَاسِرُونَ ( ). ذكر الله أن أهل القرى لو آمنوا بقلوبهم إيمانًا صادقًا صدَّقَتْه الأعمال، واستعملوا تقوى الله تعالى ظاهرًا وباطنًا، بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات السماء والأرض، فأرسل السماء عليهم مدرارًا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيش وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نَصَب، ولكنهم لم يؤمنوا ولم يتقوا،
فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ بالعقوبات والبلايا، ونزع البركات، وكثرة الآفات، وهي بعض جزاء أعمالهم، وإلا فلو أخذهم بجميع ما كسبوا ما ترك عليها من دابة( ). كما قال : وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ( ). وكما قال : وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ( ).وكما قال : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ).
وقد أوضح الله أن أهل الكتاب لو قاموا بأوامر التوراة والإنجيل وابتعدوا عن نواهيهما، لأدرّ الله عليهم الرزق، ولأمطر عليهم السماء وأنبت لهم الأرض( )، فقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ( ).
ولا شك أن الناس قد يحرمون الأرزاق بالذنوب يصيبونها؛ لأن من لم يتق الله لا يجعل الله له مخرجًا ولا يرزقه من حيث لا يحتسب، وما استجلب رزق بمثل ترك المعاصي( )؛ لمفهوم قول الله تعالى: وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ ( ).
ومعلوم أن المعاصي تُزيل النعم وتُحِلُّ النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلَّت به نقمة إلا بذنب، كما ذُكِرَ عن علي بن أبي طالب أنه قال: ((ما نزل بلاء إلا بذنب،ولا رُفع إلا بتوبة))( )،قال الله : وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ( )، وقال : ذَلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( )، فلا يغيِّر الله تعالى نعمته التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يُغَيِّرُ ما بنفسه، فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غيَّر غُيِّر عليه جزاءً وفاقًا، وما ربُّك بظلام للعبيد.
مفهوم، وأسباب، وأنواع، وآداب، وآيات، وحِكَمٌ، وأحكامٌ
في ضوء الكتاب والسنة
تأليف الفقير إلى الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في: ((صلاة الاستسقاء)) وما يتعلق بها من أحكام، بيَّنت فيها بفضل الله تعالى: مفهوم الاستسقاء، وحكمه، وأسباب القحط وحبس المطر، وأنواع الاستسقاء، وآدابه التي ينبغي للمسلمين أن يلتزموا بها في الاستسقاء، وبيّنت كيفية صلاة الاستسقاء، وموضع خطبة الاستسقاء، وأن السنة في الدعاء المبالغة في رفع اليدين، ثم ذكرت أدعية نبوية ثبتت في الاستسقاء، وأن السنة تحويل الرداء في آخر خطبة الاستسقاء واستقبال القبلة، وبيَّنت أن الاستسقاء بالكواكب والأنواء من أمور الجاهلية، ثم ذكرت الآداب المختصة بالمطر، وختمت بذكر آيات من آيات الله تعالى: الرعد، والبرق، والصواعق، والزلازل، فذكرت كلام أهل العلم على ذلك.
وقد استفدت كثيرًا من تقريرات، وترجيحات شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز، رحمه الله تعالى.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل القليل: مباركًا، نافعًا، خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي، وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه خير مسؤول وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أبو عبد الرحمن
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
حرر في ضحى يوم السبت 20/3/1423هـ
أولاً: مفهوم الاستسقاء:
الاستسقاء طلب السقيا، كالاستصحاء: طلب الصحو، وهو استفعال من أسقيت( )، قـال ابن منظـــور – رحمه الله تعالى -: ((ذكر الاستسقاء في الحديث، وهو استفعال من طلب السقيا: أي إنزال الغيث على البلاد والعباد، يقال: استسقى، وسقى الله عباده الغيث، وأسقاهم، والاسم: السُّقيا بالضم، واستسقيت فلانًا: إذا طلبت منه أن يسقيك))( ).
ولكن في عرف الفقهاء إذا قالوا: صلاة الاستسقاء إنما يعنون استسقاء الرب لا استسقاء المخلوق( ).
قال الجرجاني – رحمه الله تعالى -: ((الاستسقاء: هو طلب المطر عند طول انقطاعه))( )، أي: من الله .
ثانيًا: حكم الاستسقاء: الاستسقاء سنة مؤكدة إذا أجدبت الأرض وقحط المَطَر( ).
قال الإمام ابن قدامة – رحمه الله تعالى -: ((صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة ثابتة بسنة رسول الله ، وخلفائه ))( ).
وقال الإمام ابن عبد البر – رحمه الله -: ((وأجمع العلماء على أن الخروج إلى الاستسقاء، والبروز، والاجتماع إلى الله خارج المصر: بالدعاء، والضراعة إلى الله تبارك اسمه في نزول الغيث عند احتباس ماء السماء وتمادي القحط: سنة مسنونة سنها رسول الله ، لا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك( )))( ).
ثالثًا: أسباب القحط وحبس المطر: معصية الله تعالى ورسوله ؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله فقال: ((يا معشر المهاجرين: خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن:
لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلاَّ فشا فيهم الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مَضَوا.
ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجَوْر السلطان عليهم.
ولم يَمْنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطروا.
ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم.
وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم))( ).
وهذا الحديث فيه من الفوائد: أن نقص المكيال والميزان سبب للجدب وشدة المؤونة وجور السلاطين، وفيه أن منع الزكاة من الأسباب الموجبة لمنع قطر السماء، وأن نزول الغيث مع وجود المعاصي إنما هو رحمة من الله تعالى للبهائم( ).
وقد قال الإمام البخاري – رحمه الله – في صحيحه: ((بابُ انتقام الرب من خلقه بالقحط إذا انتُهِكَتْ محارمُه))( ).
وقد جاء عن مجاهد – رحمه الله تعالى – أن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا أجدبت الأرض، ذكر ذلك الإمام ابن كثير – رحمه الله تعالى – في تفسير قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالـْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ ( ).
فقوله تعالى: أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ قال ابن كثير: ((يعني دواب الأرض..وقال عطاء بن أبي رباح:كل دابة،والجن،والإنس،وقال مجاهد:إذا أجدبت الأرض قالت البهائم:هذا من أجل عُصاة بني آدم،لعن الله عُصاة بني آدم.وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة(ويلعنهم اللاعنون)) يعني:تلعنهم الملائكة والمؤمنون،وقد جاء في الحديث أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر( )،وجاء في هذه الآية:أن كاتم العلم يلعنه الله،والملائكة،والناس أجمعون، واللاعنون أيضًا:وهو كل فصيح،وأعجمي،إما بلسان المقال، أو الحال،أن لو كان له عقل ويوم القيامة والله أعلم))( ).
وقد بيّن الله أن الابتعاد عن المعاصي والقيام بالواجبات من أعظم أسباب إنزال البركات، فقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ الْقَوْمُ الـْخَاسِرُونَ ( ). ذكر الله أن أهل القرى لو آمنوا بقلوبهم إيمانًا صادقًا صدَّقَتْه الأعمال، واستعملوا تقوى الله تعالى ظاهرًا وباطنًا، بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات السماء والأرض، فأرسل السماء عليهم مدرارًا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيش وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نَصَب، ولكنهم لم يؤمنوا ولم يتقوا،
فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ بالعقوبات والبلايا، ونزع البركات، وكثرة الآفات، وهي بعض جزاء أعمالهم، وإلا فلو أخذهم بجميع ما كسبوا ما ترك عليها من دابة( ). كما قال : وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ( ). وكما قال : وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ( ).وكما قال : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ).
وقد أوضح الله أن أهل الكتاب لو قاموا بأوامر التوراة والإنجيل وابتعدوا عن نواهيهما، لأدرّ الله عليهم الرزق، ولأمطر عليهم السماء وأنبت لهم الأرض( )، فقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ( ).
ولا شك أن الناس قد يحرمون الأرزاق بالذنوب يصيبونها؛ لأن من لم يتق الله لا يجعل الله له مخرجًا ولا يرزقه من حيث لا يحتسب، وما استجلب رزق بمثل ترك المعاصي( )؛ لمفهوم قول الله تعالى: وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ ( ).
ومعلوم أن المعاصي تُزيل النعم وتُحِلُّ النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلَّت به نقمة إلا بذنب، كما ذُكِرَ عن علي بن أبي طالب أنه قال: ((ما نزل بلاء إلا بذنب،ولا رُفع إلا بتوبة))( )،قال الله : وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ( )، وقال : ذَلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( )، فلا يغيِّر الله تعالى نعمته التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يُغَيِّرُ ما بنفسه، فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غيَّر غُيِّر عليه جزاءً وفاقًا، وما ربُّك بظلام للعبيد.
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع