أبو منار عصام
مشرف
- إنضم
- 23 يونيو 2011
- المشاركات
- 2,069
- النقاط
- 38
- الإقامة
- مصر
- احفظ من كتاب الله
- القرآن كاملا
- احب القراءة برواية
- حفص
- القارئ المفضل
- الشيخ محمود خليل الحصري
- الجنس
- أخ
سمعت الوحي.. فهل استجبت أم أعرضت؟!
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن السمع نعمة عظيمة جليلة امتن الله -تعالى- بها على عباده؛ فقال -سبحانه-: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78]، وقال -تعالى-: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23].
قوله -تعالى-: {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}: أي: "وما أقل شكركم لله على ما أنعم به عليكم" (تفسير ابن كثير 5/488. ط/ دار طيبة، ط2).
وقال -عز وجل-: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
قوله -تعالى-: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: "أي: تعرفون حقوق نعمه الجليلة فتقومون بأدائها بالطاعة والتوحيد" (تفسير أبي السعود 5/103. ط/ إحياء التراث).
فشُكر نعمة السمع يكون باستخدامها للتوصل لرضى الله -عز وجل-، وليس بالاقتصار على الشكر باللسان فقط، ومما يعين العبدَ على ذلك أن يوقن أنه مسئول عن نعمة السمع ماذا عمل فيها؛ كما قال الله -تعالى-: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36]؛ "أي: سيُسأل العبد عنها يوم القيامة، وتُسأل عنه وعما عمل فيها" (تفسير ابن كثير 5/75).
«كنا عند رسول الله فضحك فقال: "هل تدرون مما أضحك؟"، قال قلنا: "الله ورسوله أعلم". قال: "من مخاطبة العبد ربه.. يقول: "يا رب، ألم تجرني من الظلم؟"، قال يقول: "بلى". قال فيقول: "فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني". قال فيقول: طكفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا"، قال فيختم على فيه، فيقال لأركانه: "انطقي". قال فتنطق بأعماله، قال ثم يخلى بينه وبين الكلام، قال فيقول: "بعدا لكن وسحقا، فعنكن كنت أناضل"» [رواه مسلم].
والمُتدبر للقرآن الكريم يلحظ ورود آيات كثيرة تتكلم عن حال الناس في شكر هذه النعمة، ويظهر الفرق جليًّا عند سماعهم الوحي، وردِّ فعلهم إزاء ذلك السماع؛ مما يجعل الحصيف يسأل نفسه عن حاله عند سماع الوحي؛ من أي فريق هو؛ هل من فريق المعرضين؟، أم من فريق المُقبلين؟، أم تمده مادتان؟!، وهل أدى شكر هذه النعمة العظيمة أم لا؟
إن السمع يأتي ويراد به أربعة معان:
أحدهما: سمع إدراك ويتعلق بالأصوات. ومنه قول الله -تعالى-: {قد سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1].
الثاني: سمع فـَهم وعقل، ويتعلق بالمعاني، ومنه قوله -تعالى-: {لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104]؛ ليس المراد سمع مجرد الكلام، بل سمع الفهم والعقل.
الثالث: سمع إجابة وإعطاء ما سئل، ومنه قول المصلِّي: "سمع الله لمن حمده". أي: أجاب.
الرابع: سمع قبول وانقياد؛ ومنه قوله -تعالى-: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 41]، أي: قابلون له ومنقادون غير منكرين له" (باختصار مِن بدائع الفوائد، لابن القيم، 2/308. ط نزار الباز).
فالمؤمنون يدركون ويفهمون ويعقلون ويجيبون نداء الوحي ويقبلونه وينقادون له، أما الكفار فيدركون الصوت فحسب؛ قال الله -تعالى-: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون} [البقرة: 171].
فهُم كما قال عكرمة -رحمه الله-: "مثل البعير أو مثل الحمار، تدعوه فيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول" "تفسير الطبري 3/308. ط مؤسسة الرسالة".
وفيما يلي عرْضٌ لحال مَنْ م عندما يسمعون الوحي، وإظهار مدى استجابتهم له، بعكس الذين سخط الله عليهم.
أولاً: حال مَنْ م عندما يسمعون الوحي:
1- الطاعة والتسليم وعدم الاستكبار: قال الله -تعالى-: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير} [البقرة: 285].
{وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}: "أي: سمعنا قولك يا ربنا وفهمناه، وقمنا به وامتثلنا العمل بمقتضاه" (تفسير ابن كثير 1/736).
و"قولهم: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} إقرار منهم بركني الإيمان الذي لا يقوم إلا بهما: وهُما السمع المتضمن للقبول؛ لا مجرد سمع الإدراك المشترك بين المؤمنين والكفار؛ بل سمع الفهم والقبول، والثاني: الطاعة المتضمنة لكمال الانقياد وامتثال الأمر، وهذا عكس قول الأمة الغضبية: "سمعنا وعصينا"؛ فتضمنت هذه الكلمات كمال إيمانهم وكمال قبولهم وكمال انقيادهم" (مجموع الفتاوى لابن تيمية 14/136).
وقال -تعالى- عن المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران: 193].
وقد قيل: إن المنادي هو القرآن. وقيل: إنه النبي --، و"تأويل الآية: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ}، أي: إلى التصديق بك، والإقرار بوحدانيتك، واتباع رسولك -صلى الله عليه وسلم-، وطاعته فيما أمرنا به، ونهانا عنه مما جاء به من عندك؛ {فَآمَنَّا رَبَّنَا}: فصدقنا بذلك يا ربنا؛ {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}: أي: فاستر علينا خطايانا، ولا تفضحنا بها في القيامة على رءوس الأشهاد، بعقوبتك إيانا عليها، ولكن كفـّرها عنا، وسيئات أعمالنا: فامحها بفضلك ورحمتك إيانا، {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ}: أي واقبضنا إليك في عداد الأبرار، واحشرنا محشرهم ومعهم" (تفسير الطبري، 7/482).
"وقال الله -تعالى- عن مؤمني الجن: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} [الجن: 13].
{فَلا يَخَافُ بَخْسًا}: أي نقصانًا من عمله وثوابه. {وَلا رَهَقًا}: أي ظلمًا أو مكروهًا" (معالم التنزيل، للبغوي 8/240. ط/ دار طيبة، ط4).
وقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73]، "قال قتادة -رحمه الله-: "لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه، فهم والله قوم عقلوا عن الله وانتفعوا بما سمعوا من كتابه" (تفسير ابن كثير6/132).
2- التأثـّر والبكاء وزيادة الخشوع: قال -عز وجل-: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ﴿١٠٧﴾ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ﴿١٠٨﴾ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107-109].
وقال -سبحانه-: {أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَـٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58].
"أي: إذا سمعوا كلام الله المتضمن حُجَجه ودلائله وبراهينه؛ سجدوا لربهم خضوعًا واستكانة، وحمدًا وشكرًا على ما هم فيه من النعم العظيمة" (تفسير ابن كثير 5/242).
3- الدعوة إلى الله وتبليغ الناس الخير: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ﴿٢٩﴾ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 29-31].
4- الوجل من الله وزيادة الإيمان: قال الله -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَاتُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
وقال -تعالى-: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الحج: 35].
قال الطبري -رحمه الله-: "ليس المؤمن بالذي يخالف الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويترك اتباع ما أنزله إليه في كتابه من حدوده وفرائضه والانقياد لحكمه؛ ولكن المؤمن هو الذي إذا ذكِر الله وَجِل قلبه، وانقاد لأمره، وخضع لذكره، خوفًا منه، وفَرَقًا من عقابه" (تفسير الطبري 13/385).
وقال -عز وجل-: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ} [الزمر: 23].
5- الاطمئنان: قال -تعالى-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب} [الرعد: 28].
ثانيًا: حال مَن سَخط الله عليهم عندما يسمعون الوحي:
1- التحريف: قال الله -تعالى-: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثمَّ يُحَرِّفونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75].
والمقصودون هم اليهود الذين عمدوا إلى "التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها، يجعلون الحلال فيها حرامًا، والحرام فيها حلالاً، والحق فيها باطلاً، والباطل فيها حقـًّا؛ إذا جاءهم المُحق برشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المُبطِل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب، فهو فيه محق، وإن جاءهم أحد يسألهم شيئـًا ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق؛ فقال الله لهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] (تفسير ابن كثير 1/308).
2- الإعراض والتكبر: قال الله -تعالى-: {وَإِذَا تُتلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أذنَيْهِ وَقرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 7].
وقال -سبحانه-: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴿٧﴾ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّـهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية: 7-8].
" {ولَّى مُسْتَكْبِرًا} أي: أدبر عنها واستكبر استكبارًا، وأعرض عن سماع الحقِّ والإجابة عنه. {كأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كأنَّ فِي أُذُنَيهِ وَقْرًا} أي: ثِقَلاً لا يطيق من أجله السماع (الطبري 20/131).
وقال -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93].
أي: "سمعنا قولك، وعصينا أمرك" (الطبري 2/357).
3- الجحود وإلقاء الشبهات: قال -تعالى-: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26].
وقال -عز وجل-: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ: 43].
وقال -تعالى-: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47].
"يخبر -تعالى- نبيه -صلوات الله وسلامه عليه- بما تناجى به رؤساء كفار قريش وبما قالوا من أنه رجل مسحور حين جاءوا يستمعون قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرًّا من قومهم" (تفسير ابن كثير 5/83).
4- الاشمئزاز:
قال الله -تعالى-: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45].
"{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ}: أي: إذا قيل: لا إله إلا الله؛ {اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ}، قال مجاهد: {اشْمَأَزَّتْ} انقبضت. وقال السدي: نفرت. وقال قتادة: كفرت واستكبرت... {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أي: من الأصنام والأنداد... {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}: أي: يفرحون ويسرون" (تفسير ابن كثير 7/102).
هذا، وقد جرت سنة الله -تعالى- أن الجزاء من جنس العمل، وأن من عاش على شيء مات عليه؛ فيوم القيامة يندم المسخوط عليهم أشد الندم، ويتمنون أن لو عادوا إلى الدنيا؛ ليسمعوا ويطيعوا ويعملوا صالحًا؛ قال الله -تعالى-: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12].
وقال -تعالى- عنهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].
وسيجعلهم اللهُ المجرمين في الآخرة يسمعون، ولكنه سمع عذاب؛ قال الله -تعالى-: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12].
"وقوله: {إِذَا رَأَتْهُمْ}: أي جهنم {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} يعني: في مقام المحشر. قال السدي: من مسيرة مائة عام. {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} أي: حنقـًا عليهم؛ كما قال -تعالى-: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الفرقان: 12]؛ أي: يكاد ينفصل بعضها من بعض؛ من شدة غيظها على من كفر بالله" (تفسير ابن كثير 6/96).
في حين أن المؤمنين عندما شكروا نعمة السمع واستجابوا لله -تعالى- وقالوا سمعنا وأطعنا أدخلهم -سبحانه- الجنة برحمته وفضله وجازاهم -تعالى- مِن جِنس عملهم؛ فهم في الجنة {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25]، و {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا} [النبأ: 35]، وهم بعيدون عن النار {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 102].
فمِن أيهما تحب أن تكون أخي؟! وبأذن مَن تسمع؟!
نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن السمع نعمة عظيمة جليلة امتن الله -تعالى- بها على عباده؛ فقال -سبحانه-: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78]، وقال -تعالى-: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23].
قوله -تعالى-: {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}: أي: "وما أقل شكركم لله على ما أنعم به عليكم" (تفسير ابن كثير 5/488. ط/ دار طيبة، ط2).
وقال -عز وجل-: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
قوله -تعالى-: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}: "أي: تعرفون حقوق نعمه الجليلة فتقومون بأدائها بالطاعة والتوحيد" (تفسير أبي السعود 5/103. ط/ إحياء التراث).
فشُكر نعمة السمع يكون باستخدامها للتوصل لرضى الله -عز وجل-، وليس بالاقتصار على الشكر باللسان فقط، ومما يعين العبدَ على ذلك أن يوقن أنه مسئول عن نعمة السمع ماذا عمل فيها؛ كما قال الله -تعالى-: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36]؛ "أي: سيُسأل العبد عنها يوم القيامة، وتُسأل عنه وعما عمل فيها" (تفسير ابن كثير 5/75).
«كنا عند رسول الله فضحك فقال: "هل تدرون مما أضحك؟"، قال قلنا: "الله ورسوله أعلم". قال: "من مخاطبة العبد ربه.. يقول: "يا رب، ألم تجرني من الظلم؟"، قال يقول: "بلى". قال فيقول: "فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني". قال فيقول: طكفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا"، قال فيختم على فيه، فيقال لأركانه: "انطقي". قال فتنطق بأعماله، قال ثم يخلى بينه وبين الكلام، قال فيقول: "بعدا لكن وسحقا، فعنكن كنت أناضل"» [رواه مسلم].
والمُتدبر للقرآن الكريم يلحظ ورود آيات كثيرة تتكلم عن حال الناس في شكر هذه النعمة، ويظهر الفرق جليًّا عند سماعهم الوحي، وردِّ فعلهم إزاء ذلك السماع؛ مما يجعل الحصيف يسأل نفسه عن حاله عند سماع الوحي؛ من أي فريق هو؛ هل من فريق المعرضين؟، أم من فريق المُقبلين؟، أم تمده مادتان؟!، وهل أدى شكر هذه النعمة العظيمة أم لا؟
إن السمع يأتي ويراد به أربعة معان:
أحدهما: سمع إدراك ويتعلق بالأصوات. ومنه قول الله -تعالى-: {قد سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1].
الثاني: سمع فـَهم وعقل، ويتعلق بالمعاني، ومنه قوله -تعالى-: {لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104]؛ ليس المراد سمع مجرد الكلام، بل سمع الفهم والعقل.
الثالث: سمع إجابة وإعطاء ما سئل، ومنه قول المصلِّي: "سمع الله لمن حمده". أي: أجاب.
الرابع: سمع قبول وانقياد؛ ومنه قوله -تعالى-: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 41]، أي: قابلون له ومنقادون غير منكرين له" (باختصار مِن بدائع الفوائد، لابن القيم، 2/308. ط نزار الباز).
فالمؤمنون يدركون ويفهمون ويعقلون ويجيبون نداء الوحي ويقبلونه وينقادون له، أما الكفار فيدركون الصوت فحسب؛ قال الله -تعالى-: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون} [البقرة: 171].
فهُم كما قال عكرمة -رحمه الله-: "مثل البعير أو مثل الحمار، تدعوه فيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول" "تفسير الطبري 3/308. ط مؤسسة الرسالة".
وفيما يلي عرْضٌ لحال مَنْ م عندما يسمعون الوحي، وإظهار مدى استجابتهم له، بعكس الذين سخط الله عليهم.
أولاً: حال مَنْ م عندما يسمعون الوحي:
1- الطاعة والتسليم وعدم الاستكبار: قال الله -تعالى-: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير} [البقرة: 285].
{وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}: "أي: سمعنا قولك يا ربنا وفهمناه، وقمنا به وامتثلنا العمل بمقتضاه" (تفسير ابن كثير 1/736).
و"قولهم: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} إقرار منهم بركني الإيمان الذي لا يقوم إلا بهما: وهُما السمع المتضمن للقبول؛ لا مجرد سمع الإدراك المشترك بين المؤمنين والكفار؛ بل سمع الفهم والقبول، والثاني: الطاعة المتضمنة لكمال الانقياد وامتثال الأمر، وهذا عكس قول الأمة الغضبية: "سمعنا وعصينا"؛ فتضمنت هذه الكلمات كمال إيمانهم وكمال قبولهم وكمال انقيادهم" (مجموع الفتاوى لابن تيمية 14/136).
وقال -تعالى- عن المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران: 193].
وقد قيل: إن المنادي هو القرآن. وقيل: إنه النبي --، و"تأويل الآية: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ}، أي: إلى التصديق بك، والإقرار بوحدانيتك، واتباع رسولك -صلى الله عليه وسلم-، وطاعته فيما أمرنا به، ونهانا عنه مما جاء به من عندك؛ {فَآمَنَّا رَبَّنَا}: فصدقنا بذلك يا ربنا؛ {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}: أي: فاستر علينا خطايانا، ولا تفضحنا بها في القيامة على رءوس الأشهاد، بعقوبتك إيانا عليها، ولكن كفـّرها عنا، وسيئات أعمالنا: فامحها بفضلك ورحمتك إيانا، {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ}: أي واقبضنا إليك في عداد الأبرار، واحشرنا محشرهم ومعهم" (تفسير الطبري، 7/482).
"وقال الله -تعالى- عن مؤمني الجن: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} [الجن: 13].
{فَلا يَخَافُ بَخْسًا}: أي نقصانًا من عمله وثوابه. {وَلا رَهَقًا}: أي ظلمًا أو مكروهًا" (معالم التنزيل، للبغوي 8/240. ط/ دار طيبة، ط4).
وقال -تعالى-: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73]، "قال قتادة -رحمه الله-: "لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه، فهم والله قوم عقلوا عن الله وانتفعوا بما سمعوا من كتابه" (تفسير ابن كثير6/132).
2- التأثـّر والبكاء وزيادة الخشوع: قال -عز وجل-: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ﴿١٠٧﴾ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ﴿١٠٨﴾ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107-109].
وقال -سبحانه-: {أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَـٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58].
"أي: إذا سمعوا كلام الله المتضمن حُجَجه ودلائله وبراهينه؛ سجدوا لربهم خضوعًا واستكانة، وحمدًا وشكرًا على ما هم فيه من النعم العظيمة" (تفسير ابن كثير 5/242).
3- الدعوة إلى الله وتبليغ الناس الخير: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ﴿٢٩﴾ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 29-31].
4- الوجل من الله وزيادة الإيمان: قال الله -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَاتُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].
وقال -تعالى-: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الحج: 35].
قال الطبري -رحمه الله-: "ليس المؤمن بالذي يخالف الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويترك اتباع ما أنزله إليه في كتابه من حدوده وفرائضه والانقياد لحكمه؛ ولكن المؤمن هو الذي إذا ذكِر الله وَجِل قلبه، وانقاد لأمره، وخضع لذكره، خوفًا منه، وفَرَقًا من عقابه" (تفسير الطبري 13/385).
وقال -عز وجل-: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ} [الزمر: 23].
5- الاطمئنان: قال -تعالى-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب} [الرعد: 28].
ثانيًا: حال مَن سَخط الله عليهم عندما يسمعون الوحي:
1- التحريف: قال الله -تعالى-: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثمَّ يُحَرِّفونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75].
والمقصودون هم اليهود الذين عمدوا إلى "التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها، يجعلون الحلال فيها حرامًا، والحرام فيها حلالاً، والحق فيها باطلاً، والباطل فيها حقـًّا؛ إذا جاءهم المُحق برشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المُبطِل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب، فهو فيه محق، وإن جاءهم أحد يسألهم شيئـًا ليس فيه حق ولا رشوة ولا شيء أمروه بالحق؛ فقال الله لهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] (تفسير ابن كثير 1/308).
2- الإعراض والتكبر: قال الله -تعالى-: {وَإِذَا تُتلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أذنَيْهِ وَقرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 7].
وقال -سبحانه-: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴿٧﴾ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّـهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية: 7-8].
" {ولَّى مُسْتَكْبِرًا} أي: أدبر عنها واستكبر استكبارًا، وأعرض عن سماع الحقِّ والإجابة عنه. {كأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كأنَّ فِي أُذُنَيهِ وَقْرًا} أي: ثِقَلاً لا يطيق من أجله السماع (الطبري 20/131).
وقال -تعالى-: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93].
أي: "سمعنا قولك، وعصينا أمرك" (الطبري 2/357).
3- الجحود وإلقاء الشبهات: قال -تعالى-: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26].
وقال -عز وجل-: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ: 43].
وقال -تعالى-: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا} [الإسراء: 47].
"يخبر -تعالى- نبيه -صلوات الله وسلامه عليه- بما تناجى به رؤساء كفار قريش وبما قالوا من أنه رجل مسحور حين جاءوا يستمعون قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرًّا من قومهم" (تفسير ابن كثير 5/83).
4- الاشمئزاز:
قال الله -تعالى-: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45].
"{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ}: أي: إذا قيل: لا إله إلا الله؛ {اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ}، قال مجاهد: {اشْمَأَزَّتْ} انقبضت. وقال السدي: نفرت. وقال قتادة: كفرت واستكبرت... {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أي: من الأصنام والأنداد... {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}: أي: يفرحون ويسرون" (تفسير ابن كثير 7/102).
هذا، وقد جرت سنة الله -تعالى- أن الجزاء من جنس العمل، وأن من عاش على شيء مات عليه؛ فيوم القيامة يندم المسخوط عليهم أشد الندم، ويتمنون أن لو عادوا إلى الدنيا؛ ليسمعوا ويطيعوا ويعملوا صالحًا؛ قال الله -تعالى-: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12].
وقال -تعالى- عنهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].
وسيجعلهم اللهُ المجرمين في الآخرة يسمعون، ولكنه سمع عذاب؛ قال الله -تعالى-: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12].
"وقوله: {إِذَا رَأَتْهُمْ}: أي جهنم {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} يعني: في مقام المحشر. قال السدي: من مسيرة مائة عام. {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} أي: حنقـًا عليهم؛ كما قال -تعالى-: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الفرقان: 12]؛ أي: يكاد ينفصل بعضها من بعض؛ من شدة غيظها على من كفر بالله" (تفسير ابن كثير 6/96).
في حين أن المؤمنين عندما شكروا نعمة السمع واستجابوا لله -تعالى- وقالوا سمعنا وأطعنا أدخلهم -سبحانه- الجنة برحمته وفضله وجازاهم -تعالى- مِن جِنس عملهم؛ فهم في الجنة {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25]، و {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا} [النبأ: 35]، وهم بعيدون عن النار {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 102].
فمِن أيهما تحب أن تكون أخي؟! وبأذن مَن تسمع؟!
نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع