- إنضم
- 26 أغسطس 2010
- المشاركات
- 3,675
- النقاط
- 38
- الإقامة
- الامارات
- احفظ من كتاب الله
- القرءان كامل
- احب القراءة برواية
- بحميع الروايات
- القارئ المفضل
- الشيخ ابراهيم الأخضر
- الجنس
- أخت
سورة البلد
السورة اسمها سورة البلد ولا يُعرف لها اسم غير هذا، وإن كان الإمام الشوكاني -رحمه الله- في فتح القدير سمَّاها أيضًا سورة "لا أقسم"، ولكن هذا لم نجده في كتابٍ آخر، فالظاهر أن اسمها باسم تلك الكلمة التي وردت في أول آية وهي قوله: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ﴾، فهي سورة البلد.
والبلد بإجماع المفسرين هو: مكة، كما قال الله في سورة التين: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ﴾ [التين: 1-3 ].
وهنا قال: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ﴾، فنصُّ الآية يدل على أن المقصود به مكة.
وكانت تسمَّى عند العرب: البلد، والبلدة.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للصحابة وهم في مَجمَع مِنَى في يوم القرِّ وقد اجتمعوا حوله، فقال -عليه الصلاة والسلام: «أيُّ يومٍ هذا؟».
فقالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «أليس يوم القرّ؟».
ثم قال: «أيُّ شهرٍ هذا؟».
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «أليس شهر ذي الحجة؟».
قالوا: بلى.
قال: «أيُّ بلدٍ هذا؟».
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «أليست البلدة؟».
فكانت يُطلق عليها عند العرب البلدة والبلد.
هذه السورة سُميَت باسم هذه الكلمة التي وردت في أول آية من آياتها.
قال الله -عز وجل: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ﴾
{نزلت في مكة}.
﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ﴾، فهي إشارة إلى شيءٍ حاضر، إضافة إلى أن موضوعات هذه السورة هي موضوعات السور المكية، كما أن أسلوبها هو أسلوب السور المكية، ولهذا جماهير العلماء سلفًا وخلفًا على أنها سورة مكيَّة، ولم يُخالف في هذا إلا قلَّة من العلماء يرون أنها مدنيَّة، أو أن فيها آيات مدنيَّة.
ولكن الصحيح هو الذي عليه جمهور العلماء من أنها سورة مكيَّة.
عدد آياتها: عشرون آية، بلا خلاف بين العادِّين.
محور هذه السورة: محور هذه السورة في حال الإنسان وضعفه، وأنه قد أحاطت به المشاق والأنكاد، وأنه يجب عليه أن يقتحم العقبة ليُسلِّم رقبته من النار.
فمقصود هذه السورة أن تُبيِّن للإنسان ضعفه، وأنه مبتلى في هذه الحياة، وأن عليه أن ينجو، ﴿فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ﴾، وتبين له سبيل النجاة.
في سورة الفجر جاء ذِكر أعمال الكفار التي استحقوا بها الهلاك والعقوبة الدنيوية والأخروية.
﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ * وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ﴾ [الفجر: 15-20]، رأيتم؟ هذه أعمالهم، ولهذا استحقوا العقوبة. في سورة البلد يُبيِّن الله أن ابن آدم مبتلى وأنه مُكلَّف، وأن الشكر واجب عليه، ﴿فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ﴾.
كيف يشكر ويقتحم العقبة؟ ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾، هذه هي سبل النجاة.
فمن أراد أن يقتحم العقبة وينجو من النار عليه أن يقوم بهذا الأمر، وإلا فالإنسان قد أُنعِمَ عليه وقد نُغِّصَ عليه، فهذه الدار دار تنغيص وأنكاد، وليست دارَ نعيمٍ وراحة.
قيل للإمام أحمد: متى يجد المؤمن الراحة؟
قال: "إذا وضع أول قدمٍ له في الجنة".
يعني قبل ذلك ماذا؟ قبل ذلك كله تعب ومشقَّة.
فنسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يمنَّ علينا بتلك الخطوة التي نضع فيها أقدامنا في الجنة فنرتاح راحة لم نذقها قبل ذلك أبدًا.
مناسبة هذه السورة في سورة الفجر ذِكر لأعمال الكفار التي استحقوا بها العقوبة، وفي سورة البلد ذِكر للأسباب التي يخرج بها الإنسان من أعمال أهل النار، وينجو بها من الهلكة، وقد بيَّناها ستة أسباب سنمر عليها بعد قليل.
ثم أيضًا في آخر سورة الفجر قال: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر 27 -30]، كيف تدخل الجنة؟ وكيف تكون من النفوس المطمئنة؟
إذا فكَّ الرقبة، وإذا أطعم في: ﴿يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾.
ثم لمَّا ذكر أعزَّ شيءٍ في النفس قال: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ﴾ [الفجر: 27]، ذكر أعزَّ مكانٍ وهو البلد، فقال: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾.
السورة مقطعين:
المقطع الأول: ينتهي بقول: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾.
والمقطع الثاني: ينتهي بآخر السورة.
يقول الله -عز وجل: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ﴾.
﴿لا أُقْسِمُ﴾، هذا الأسلوب مرَّ بنا مرارًا في هذا الجزء الكريم، في قوله: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الجَوَارِ الكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ [التكوير 15-17]، وفي قوله: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾ [الانشقاق 16- 18].
السورة اسمها سورة البلد ولا يُعرف لها اسم غير هذا، وإن كان الإمام الشوكاني -رحمه الله- في فتح القدير سمَّاها أيضًا سورة "لا أقسم"، ولكن هذا لم نجده في كتابٍ آخر، فالظاهر أن اسمها باسم تلك الكلمة التي وردت في أول آية وهي قوله: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ﴾، فهي سورة البلد.
والبلد بإجماع المفسرين هو: مكة، كما قال الله في سورة التين: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ﴾ [التين: 1-3 ].
وهنا قال: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ﴾، فنصُّ الآية يدل على أن المقصود به مكة.
وكانت تسمَّى عند العرب: البلد، والبلدة.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للصحابة وهم في مَجمَع مِنَى في يوم القرِّ وقد اجتمعوا حوله، فقال -عليه الصلاة والسلام: «أيُّ يومٍ هذا؟».
فقالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «أليس يوم القرّ؟».
ثم قال: «أيُّ شهرٍ هذا؟».
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «أليس شهر ذي الحجة؟».
قالوا: بلى.
قال: «أيُّ بلدٍ هذا؟».
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «أليست البلدة؟».
فكانت يُطلق عليها عند العرب البلدة والبلد.
هذه السورة سُميَت باسم هذه الكلمة التي وردت في أول آية من آياتها.
قال الله -عز وجل: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ﴾
{نزلت في مكة}.
﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ﴾، فهي إشارة إلى شيءٍ حاضر، إضافة إلى أن موضوعات هذه السورة هي موضوعات السور المكية، كما أن أسلوبها هو أسلوب السور المكية، ولهذا جماهير العلماء سلفًا وخلفًا على أنها سورة مكيَّة، ولم يُخالف في هذا إلا قلَّة من العلماء يرون أنها مدنيَّة، أو أن فيها آيات مدنيَّة.
ولكن الصحيح هو الذي عليه جمهور العلماء من أنها سورة مكيَّة.
عدد آياتها: عشرون آية، بلا خلاف بين العادِّين.
محور هذه السورة: محور هذه السورة في حال الإنسان وضعفه، وأنه قد أحاطت به المشاق والأنكاد، وأنه يجب عليه أن يقتحم العقبة ليُسلِّم رقبته من النار.
فمقصود هذه السورة أن تُبيِّن للإنسان ضعفه، وأنه مبتلى في هذه الحياة، وأن عليه أن ينجو، ﴿فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ﴾، وتبين له سبيل النجاة.
في سورة الفجر جاء ذِكر أعمال الكفار التي استحقوا بها الهلاك والعقوبة الدنيوية والأخروية.
﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ * وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ﴾ [الفجر: 15-20]، رأيتم؟ هذه أعمالهم، ولهذا استحقوا العقوبة. في سورة البلد يُبيِّن الله أن ابن آدم مبتلى وأنه مُكلَّف، وأن الشكر واجب عليه، ﴿فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ﴾.
كيف يشكر ويقتحم العقبة؟ ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾، هذه هي سبل النجاة.
فمن أراد أن يقتحم العقبة وينجو من النار عليه أن يقوم بهذا الأمر، وإلا فالإنسان قد أُنعِمَ عليه وقد نُغِّصَ عليه، فهذه الدار دار تنغيص وأنكاد، وليست دارَ نعيمٍ وراحة.
قيل للإمام أحمد: متى يجد المؤمن الراحة؟
قال: "إذا وضع أول قدمٍ له في الجنة".
يعني قبل ذلك ماذا؟ قبل ذلك كله تعب ومشقَّة.
فنسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يمنَّ علينا بتلك الخطوة التي نضع فيها أقدامنا في الجنة فنرتاح راحة لم نذقها قبل ذلك أبدًا.
مناسبة هذه السورة في سورة الفجر ذِكر لأعمال الكفار التي استحقوا بها العقوبة، وفي سورة البلد ذِكر للأسباب التي يخرج بها الإنسان من أعمال أهل النار، وينجو بها من الهلكة، وقد بيَّناها ستة أسباب سنمر عليها بعد قليل.
ثم أيضًا في آخر سورة الفجر قال: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر 27 -30]، كيف تدخل الجنة؟ وكيف تكون من النفوس المطمئنة؟
إذا فكَّ الرقبة، وإذا أطعم في: ﴿يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾.
ثم لمَّا ذكر أعزَّ شيءٍ في النفس قال: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ﴾ [الفجر: 27]، ذكر أعزَّ مكانٍ وهو البلد، فقال: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾.
السورة مقطعين:
المقطع الأول: ينتهي بقول: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾.
والمقطع الثاني: ينتهي بآخر السورة.
يقول الله -عز وجل: ﴿لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ﴾.
﴿لا أُقْسِمُ﴾، هذا الأسلوب مرَّ بنا مرارًا في هذا الجزء الكريم، في قوله: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الجَوَارِ الكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ [التكوير 15-17]، وفي قوله: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾ [الانشقاق 16- 18].
أن "ما" للتأكيد. وهذا معروف عند العرب، كما قال الله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: 12]، أصلها قبل مجيء اللام: "ما منعك أن تسجد"، فـ "لا" مزيدة للتأكيد، ولذلك يُقال: "لا" زائدة زائدة، زائدة في اللفظ زائدة للمعنى.
ليست زيادة لا فائدة منها ولا حكمة؛ بل هي زيادة لفظية لها دلالة معنوية، وهي التأكيد.
وكذلك في قول الله -عز وجل- في سورة الحديد: ﴿لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الحديد: 29]، فـ "لا" هنا زائدة أيضًا، لكنها زائدة في اللفظ زائدة للمعنى.
ولذلك يتحاشى بعض العلماء أن يسمُّوها زائدة، فيقولون: "لا" مؤكدة، احترامًا للقرآن أن يُنسب إليه شيء من الزيادة.
ولكن نقول: هي زائدة يعني زائدة في اللفظ،زائدة للمعنى، بليغة، لا يتم المعنى ببلاغته إلا بها.
﴿لا أُقْسِمُ﴾، معناها أقسم وهذا عند جمهور المفسرين، وخصوصًا من السلف.
أما المتأخرون فقد اختلفوا:
فمنهم مَن قال: ﴿لا أُقْسِمُ﴾ أقسم بهذا البلدأن الأمر ليس كما تزعمون من أنه لا بعث .
وهذه الزيادة أو هذا التقدير يحتاج إلى دليل، فالأولى إجراؤها على ما ذكره السلف من أنها مؤكدة.
ومنهم مَن قال: أن "لا" نفي للقسم وليست إثباتًا له، فقالوا: لا أقسم بهذا البلد لأن الأمر لا يحتاج إلى قسم، فحملوا "لا" هنا على أنها نافية للقسم.
إذن عندنا ثلاثة أقوال:
1- "لا" مؤكدة للقسم.
2- و"لا" نافية لشيءٍ محذوف، ثم يأتي بعده القسم.
3- نفي للقسم؛ لأن الأمر أوضح من أن يُقسَم عليه.
والصحيح هو الأول، الذي عليه جمهور السلف؛ بل إني لا أعلم من السلف مَن خالف في ذلك، وإن كان من المتأخرين مَن ذكر الأقوال في هذا الأمر، والعبرة بما كان عليه السلف، فهم أعظم الناس فهمًا لكتاب الله، وأدرى الناس بكلام العرب.
فمعنى ﴿لا أُقْسِمُ﴾، أي أقسم.
ومما يؤكد ذلك: قوله في سورة الواقعة: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ﴾ [الواقعة 75، 76]، فجعل هذا قسَمًا مع أنه قال: ﴿لاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾.
قال: ﴿بِهَذَا البَلَدِ﴾، "هذا" إشارة إلى شيءٍ حاضر وهو مكة، والبلد هي مكة بالإجماع، لم يختلفوا في ذلك.
قال: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ﴾، الواو هنا ليست للقسم، ولكنها واو للحال، يعني: أقسم بهذا البلد حال كونك حلالًا بهذا البلد، لأن البلد يزداد شرفًا بحلول أو بأن يحلَّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لا يحلُّ لغيره.
ومعنى قول: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ﴾، هذه اختُلفَ فيها:
فمن العلماء مَن يقول: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ﴾ أي حلال بهذا البلد، وعلى هذا جمهور السلف، وبهذا تكون هذه الآية من الإعجاز الغيبي، لأنها مكية، ولم تحل مكة لرسول الله إلا في العام الثامن عندما فُتحت مكة، قال: «إنها أحلت في ساعة من النهار، وإنها عادت اليوم إلى حرمتها كما كانت بالأمس».
فالله أقسم بهذا البلد في الوقت الذي تكون فيه مكة حلالًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض المفسرين: ﴿حِلٌّ﴾، بمعنى: حالٌّ ومقيم، ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ﴾، أي حالٌّ ومقيم بهذا البلد؛ لأن شرف مكة يَزداد بوجود رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها.
والقول الثالث: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ﴾، أي وأنت حلال الدم في هذا البلد، عندما استحلَّ أهل مكة دمَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعلوا الجوائز على مَن يقتله -عليه الصلاة والسلام-، فأنقذه الله من بين أيديهم ثم عاد إليهم بعد سنين منصورًا فاتحًا قائمًا بالحق، بيده الشريفة تلك العصا والفأس يهدم بها الأصنام ويقول: ﴿وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾ [الإسراء: 81].
إذن، حلال الدم. هذا القول الثالث.
أي هذه الأقوال أصوب؟
ما عليه جمهور السلف هو الأصوب، مع أن هذه الأقوال لا تتعارض، فهي ككثير من أقوال السلف في التفسير، هي صالحة لأن تدخل في معنى الآية.
يعني فما الذي يمنع أن يُقال: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ﴾: أي حلال لك، قد أحلها الله، وأنت حالٌّ مقيم فيه، وأنت قد أُحلَّ دمك فيه؟ لا مانع، لكن أليقها باللفظ وأقربها هو الذي عليه جمهور السلف، بمعنى: وأنت حلال أي قد أحل الله لك هذا البلد، ويؤيده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد حصل له ذلك في فتح مكة.
وتكون هذه الآية من باب الإعجاز الغيبي، يعني أخبرت الآية بشيء فوقع ذلك كما أخبر به الله -سبحانه وتعالى-، وإلا مَن كان يتصوَّر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان طريدًا شريدًا ضعيفًا وحيدًا ومعه أصحابه الضعفاء، يأتي يوم يستحل فيه البلد الحرام بأمر الله -عز وجل- ويكون فاتحًا منصورًا؟! ما أحد يتوقع ذلك.
قال: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ﴾.
ثم جاء القسم الثاني: ﴿وَوَالِدٍ﴾.
والقسم الثالث: ﴿وَمَا وَلَدَ﴾.
فعندنا في هذه السورة ثلاثة أقسام :
هذا القسم الأول، وهذا القسم الثاني، وهذا القسم الثالث.
﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾، بأي شيءٍ أقسم الله هنا؟
قيل: ﴿وَوَالِدٍ﴾ والذي لم يلد، "ما" هنا نافية، يعني: ووالد وما لم يلد، يعني وكل شيء يلد، وكل شيء لا يلد، يقسم الله بكل شيء.
لأن الأشياء نوعان:
- شيء يلد.
- وشيء لا يلد.
وبهذا يكون هذا من الأقسام العامة كقوله: ﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ [الفجر: 3]، وقوله في سورة البروج: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ [البروج: 3]، ونحوها من الإقسامات العامة الشاملة.
هذا على القول بأن "ما" هنا نافية، يعني: ووالد وما لم يلد، يعني: وكل شيء يلد، وكل شيء عاقر لا يلد.
القول الثاني وعليه أكثر السلف: ﴿وَوَالِدٍ﴾، أي الذي يلد.
﴿وَمَا وَلَدَ﴾، وولده، يعني والذي ولد.
فـ "ما" هنا تكون موصولة بمعنى: ومَن ولد، ووالدٍ ومَن ولد.
وهل هي عامة أو مقصود بها شيء مُحدد؟
كثير من السلف يرون أنها إما أن تكون في آدم وولده، أو في إبراهيم وولده.
رجح الإمام الطبري أنه ما لم يدل على ذلك دليل ويكون هناك بيِّنة من خبر أو عقل؛ فإن الأولى حملها على العموم، فتكون قسَمًا عامًّا.
﴿وَوَالِدٍ﴾، يعني: أقسم بكل والد، وبكل مولود.
إذن، عندنا الآن ثلاثة أقسام:
- بهذا البلد.
- وبالوالد.
- وبالولد.
على أي شيء؟ أين جواب القسم؟
في سورة الفجر كان جواب القسم محذوفًا مقدرًا، هنا مذكورٌ بيِّنٌ، ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾.
أقسم الله على هذه الحقيقة التي تحتاج إلى تأكيد، لأن كثيرًا من الناس يتوقعون أنهم يُمكن أن يعيشوا بلا كبد، وهذا لا يسلم منه أحد، لا غني ولا فقير، ولا أمير ولا مأمور، ولا كبير ولا صغير، ولا ذكر ولا أنثى، ولا حر ولا عبد، كل الناس سيعيشون الكبد ويذوقونه، حتى الأنبياء والرسل. قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، ويُبتلى الرجل على قدر دينه».
قال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾، اختُلف في قوله ﴿كَبَدٍ﴾ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أي في تعبٍ وعناءٍ ومشقةٍ. وهذا القول عليه أكثر السلف وهو الظاهر، بهذا يكون مثل قول الله -عز وجل: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً﴾ [آل عمران: 186].
ومثل قول الله -عز وجل: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155].
فالله يُقسم على أن الإنسان لا بد أن يُبتلى، مؤمنًا كان أو كافرًا، وأنه لا بد أن يذوق الكبد والنكد، وتكون مثل الآية التي مرَّت بنا في جزء عم: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ﴾ [الانشقاق: 16-18].
فالإنسان في هذه الحياة تتقلب به الأحوال، صغير، ثم كبير، شاب، ثم هرم، ثم مريض، ثم صحيح وسليم، ثم في عافية وأمن، ثم في خوف، وهكذا، لا يمكن أن يستقر على حال إلا إذا دخل الجنة استقر على حال، شبابه لا يفنى، ويجد فيها اللذة الدائمة المستمرة التي لا كدر معها البتة.
إذن ﴿كَبَدٍ﴾ عند جمهور السلف بمعنى: تعبٍ وعناءٍ ومشقَّة.
ويرى بعض السلف أن معنى قوله: ﴿كَبَدٍ﴾: أي منتصب القائمة، وهذا قال به جماعة من السلف، وتكون بهذا مثل قول الله -عز وجل: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4].
بعض السلف أغرب في التفسير فقال: إن "كبد" بمعنى السماء، ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾، أي خلقنا الإنسان في السماء. وهذا قال به ابن زيد، ولم يقل به غيره. فهذا القول حقيقة غريب،
فلعل ابن زيد التبس عليه الأمر، فظنَّ أنه يُمكن إطلاقه على السماء، لكن لم يقل بهذا أحد غيره، ولذلك نعد هذا القول من الأقوال الشاذة، ولذلك كثير من المفسرين أعرض عنه ولم يذكره.
يبقى عندنا قولان أرجحهما : القول الأول الذي عليه جمهور السلف، وهو أن الإنسان خُلق في كبدٍ أي عناء ومشقة.
هذا أمر يستحق الإقسام، ولا بد أن ننظر إلى هذا المعنى، وهو: هل يستحق الأمر أن يُقسَم عليه أو لا؟
يظن كثير من الناس أنه يمكن يعيش بلا كدر ولا تنغيص ولا بأس، ولا مشقة ولا عناء؛ فيقول الله -عز وجل: لا، ما منكم من أحدٍ إلا سيذوق العناء.
قال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾، هنا مسألة: هل الإنسان هنا هو الإنسان الذي يأتي في عامة السور المكية ويُراد به الإنسان الكافر؟ أو الإنسان يُراد به عموم الناس؟
{عموم الناس}.
ممكن هذا، يُراد به عموم هذا، وإن كان للكافر منها نصيبٌ أشد، لأن البلاء الذي قد كُتب على سائر الخلق يُصيب المؤمن والكافر على حدٍّ سواء، فالمؤمن يُبتلى بالفقر وبالمرض، وبالتعب والخوف، وغير ذلك، وكذلك الكافر، لكن الكافر له قدر زائد من الكبد؛ لأنه لا يوجد عنده إيمانٌ بالله ولا بقدر الله، فهو يُعاني من شيء آخر وهو الفراغ الإيماني، ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 124]﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]، فالمؤمن صحيح أنه يُكابد ويتعب، وتصيبه اللَّأواء، لكنه في المقابل يركن إلى ركن شديد، يأوي إلى الله، يتضرَّع إليه، يطلب منه، يؤمن بقدره، يعلم أن له حكمة، يعلم أن ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه، يعلم أن ما أصابه لا بد وأن تكون عاقبته خيرًا، ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ [النساء: 19]، فيرتاح ويطمئن.
ولذلك نقول: الإنسان هنا لا مانع أن يُراد به الكافر بشكل خاص، خصوصًا إذا رأينا الآيات التي بعدها، وهي قوله: ﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً * أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾، إلى آخره.
وإذا حُمل على العموم فله وجه أيضًا، ولا مانع من ذلك.
قال الله -عز وجل: ﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾، يظن هذا الإنسان الضعيف الذي خُلق في الكبد وخُلق في المشقة أنه قد بلغ الغاية من القوة، ويظن أنه هو المتصرف في أموره، وأنه هو المدبِّر لكل ما يدور حوله، وأن الله لن يقدر عليه، والله هو المتصرف فيه، المالك له، المدبر لأمره، فلا تظنن أنك تستطيع تفلت من قبضة الله.
قال: ﴿يَقُولُ﴾ مفتخرًا ومتبجِّحًا عندما يكون له مال: ﴿أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً﴾، أي مالًا كثيرًا وأنفقت كذا، ولي قصر في المكان الفلاني، وقصر في المكان الفلاني.
الله ماأعطاك المال لتفعل به هذا ولتفاخر بإنفاقه وتتكثَّر به في المجالس كما قال الله: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾ [التكاثر: 1، 2].
قال: ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً﴾، أي مالًا كثيرًا، مأخوذ من اللُّبدة هذه،اللبدة التي تكون على رأس الأسد، الشعر الكثير الكثيف الذي بعضه فوق بعض.
قال: ﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾، يعني عندما يتحدَّث بها ويقوله ويفتخر به يظن أن الله لا يراه ولا يطلع على أفعاله فيه .
ثم يُذكره ربه -سبحانه وتعالى- فيقول: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، كان الواجب عليه أن يستعمل ذلك في طاعة الله، ويستثمر في العمل الذي ينفعه إذا بُعث بين يدي الله -سبحانه وتعالى.
فعلامَ يجعل هذه النِّعم مجالًا للفخر وللرياء، وللتعالي على الخلق، وللكبر، وللغطرسة، وللطغيان، وللتجافي عن الحق، والإعراض عن آيات الله عجبًا له!
ولذلك قال: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ﴾، يُبصر بهما الحق
﴿وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ﴾، ينطق بهما ويتكلم حتى يستبين له الحق، ويحاور مَن يجادله فيما هو عليه حتى يظهر له الحق.
﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، هديناه: أي دللناه سبيل الخير والشر، فالنجدان هما طريقا الحق والباطل، طريقا الخير والشر.
الله -سبحانه وتعالى- من رحمته بعباده قد أظهر لعباده طريق الخير وطريق الشر ظهورًا بيِّنـًا لا إشكال فيه .كلنا نعلم، لو لم تنزل الشرائع، ولو لم يُرسل الله الرسل، ولو لم يُنزل الله الكتب؛ نعلم أن هذا خير وهذا شر.
الذي يتصدق على الناس هل هو مثل الذي يأخذ أموال اليتامى ويمنع الناس حقوقهم؟
الذي يُحسن إلى زوجته وأبيه وأمه وأهله وولده، مثل الذي يظلمهم ويكذب عليهم ويقطع رحمه؟ لا يمكن.
هذا من هداية الله للعبد، ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، جعلنا طريق الخير واضحًا، وطريق الشر واضحًا لا لَبسَ فيه ولا غموض.
وجاءت الأنبياء وجاءت الرسل، وجاءت الكتب لتؤكد وتبيِّن وتفصِّل وتُنير الطريق بشكل لا يدع لذي عقلٍ إشكالًا، أو لا يدع لذي إشكالٍ إشكالًا في هذا الأمر، ولتزيد المحَجَّة وتظهر الحُجَّة.
ولذلك قال: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾.
بعض العلماء فسر "النجدين" هنا بأنهما الثديان، قالوا: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ أي هدينا الطفل عندما يولد إلى ثديي أمه يرضع منهما.
قالوا: لأنه جاء بعد قوله: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، ما الذي دله على ذلك حتى يرضع منهما؟
كان المفترض أن يخضع لدورة تدريبية حتى يتعلم كيف يمص الحليب من صدر أمه، ولكن الله هداه لأن يمصَّ بلا تعليم.
والمعنى الأول أظهر. لماذا؟ لأنها في باب إقامة الحجة على الخلق، قد جعل الله لك عينين تُبصر بهما الخير من الشر، والحق من الباطل، ﴿وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ﴾ تتكلم بهما وتنطق وتُبين عمَّا في نفسك، وتحاور، وتفهم.
﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، هذه حجة ثالثة يمتنُّ الله بها عليك ليُبيِّن أنه -سبحانه وتعالى- قد أقام الحجة على أوسع نطاق وعلى أكمل وجه، فليس لك حقٌ في أن تقول:اختلط عليَّ الحق والباطل، التبس عليَّ الأمر.
ومما يؤكد ذلك أنه في سورة الإنسان: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ [الإنسان 2، 3]، فجاء بهداية السبيل الدالة على أنها هي المناسبة للمقام.
وهذا مما يفسَّر به القرآن، أو مما يفسِّر القرآنُ به القرآن.
قال: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾.
ما المقابل لهذه النعمة؟ هذا يأتي في المقطع الثاني عندما يقول الله -سبحانه وتعالى: ﴿فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾، يعني عندما أعطيناه هذه النعم، وهديناه هذا السبيل، وأنعمنا عليه بالعينين واللسان والشفتين وغيرها من النعم، أفلا اقتحم العقبة؟
يعني: أفلا اقتحم طريق الطاعة الذي هو عقبة؛ لأن الطاعة شاقَّة على النفوس، الطاعة تخرج بها عن مشتهياتك وهواك، أنا أريد أنام في الليل ما أقوم إلا العاشرة صباحًا، يُقال لك: قم لصلاة الفجر، وأنت في دفء الفراش وفي لذة النوم تقوم، لماذا؟ لأن الله أمرك، ولا بد أن تقتحم هذه العقبة لتفوز.
إذن العقبة هي طريق الخير.
قال: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، النجدان: طريق خير وطريق شر.
طريق الشر: تنزل، والنزول في العادة لا يُكلف.
وطريق الخير: تصعد، والصعود في العادة يُكلف ويُتعب، الذي يُريد يصعد يحتاج إنه يصعد بمشقة، وقد يصعد أول الدرجات بسلاسة، لكنه بعد ذلك يبدأ النفس عنده يرتفع ويشتد ويرتفع ضغط الدم، وكل هذا من أجل أن يصعد للأدوار العليا.
لكن لو أراد ينزل، أبدًا، مع أي نافذة من النوافذ وفي ثواني يستطيع الوصول إلى الأرض، لكن ما النتيجة؟
النتيجة هنا أنه يصل إلى الأدوار العليا، وهنا يصل إلى أسفل سافلين. هذا هو الفرق بين طريق الخير وطريق الشر.
هذا المعنى نودُّ أن نجلِّيه لأنفسنا؛ لنعلم كم نحتاج من جُهد من أجل أن نصل إلى ما أراد الله أن نصل إليه، نحن خُلقنا ووضعنا في الجنة، هذا أبونا آدم، فعصى فأُهبِط عقوبة له على أكله من الشجرة وعلى عصيانه لربه، ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه: 121]، ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا﴾ [البقرة: 38]،، هبطنا.
قيل لنا: مَن أراد أن يعود إلى الدار الأولى فعليه أن يصعد، لأن الدار الأولى أين؟ في الجنة. وتحتاج إلى ماذا؟ إلى صعود.
كيف تصعد بمخالفة هواك، واقتحام العقبة، ما هي العقبة؟
العقبة هي الطريق الذي يكون بين جبلين، الطريق الذي يكون بين جبلين عقبة، وسلوكه والمشي فيه من أصعب مما يكون، فكذلك طريق الخير، لا تظن وأنت تذهب للمسجد أو تصوم أو تجاهد في سبيل أو تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر أو تقيم السنة أو تنهى عن البدعة أو تنصح عباد الله، أو...، أو...، أن هذا سيكون لطريق مفروش لك بالورود، ترى الكرامات، وترى الأموال، والزوجات، ويُفتح عليك، لا.
حُفَّت الجنة بالمكاره، ابتلاءً للعباد.
وحُفَّت النار بالشهوات.
هناك بعض الناس يقول: أنا لا أبغي شيئا يُتعب، نعم، إذا أردت شيئًا لا يُتعب فأنت ستصل في النهاية إلى المُتعب، صحيح ستمر بطريق مليء بالورود، لكن نهايته نارٌ تتلظَّى، والعكس أيضًا صحيح.
قال: ﴿فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾، لم يتجاوز هذه العقبة التي هي عقبة الطاعة وطريق الخير.
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ﴾، هذا أسلوب يُراد به التفخيم والتعظيم والتشويق والتهويل لهذه العقبة، وأنها شيءٌ كبير، مَن اقتحمه وتجاوزه فاز فوزًا لا خسار ولا هلاك بعده.
قال الله -عز وجل- مبيِّنًا ما هي العقبة التي يقتحمها الإنسان، وبأي شيء يقتحم، باأعمال صالحة شديدة على النفوس، قال الله فيها
﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ تفكُّ الرِّقاب.
﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾، أي ذي مجاعة، الطعام قليل، والأخبار تقول أنه لا يوجد محاصيل، والمستودعات ما فيها شيء، والطعام الذي عندك لا يكاد يكفيك للموسم، وتُطعم طلبًا لاقتحام العقبة.
تُطعم يتيمًا لا أب له.
﴿ذَا مَقْرَبَةٍ﴾، أي قريبًا منك.
﴿أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ﴾، قد لصق بالتراب من شدة الفقر.
﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾،أي إعتاقها، هذا أسلوب معروف أو جملة معروفة يُراد بها إعتاق الرقبة، لأن العادة كانت الرقبة تُغلُّ لمن كان رقيقًا، ففكها يعني حلُّ هذه العقدة عنها ليُصبح الإنسان طليقًا.
كيف يفك الإنسان الرقبة؟ بأن يأتي إلى إنسان قد استُعبِد، أو إنسان قد كان رقيقًا فيُعتقه لله -عز وجل.
قال: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾، هذا العمل الأول.
﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾، أي ذي مجاعة شديدة.
مَن يُطعم؟
﴿يَتِيماً﴾، واليتيم هو مَن؟ مات أبوه قبل البلوغ، ولا يُطلق على مَن ماتت أمه، لأن الإنسان يفقد السند الأعظم بموت أبيه، لأنه هو الذي يُغذِّيه، وهو الذي يجلب له الرزق، وهو الذي يحميه، صحيح أنه يفقد الحنان والبر والرحمة إذا ماتت أمه، لكن يبقى في مملكة أبيه، فإذا فقد أباه أصابه شيءٌ عظيم من البلاء.
قال: ﴿يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ﴾، أي صاحب قرابة، قريب منك، لأن اليتيم القريب له من الحق أكثر مما لليتيم البعيد عنك.
﴿أَوْ مِسْكِيناً﴾، والمسكين هو ذو المسكنة، وهو الفقير الذي بلغ به الذل مبلغه بسبب فقره، لأن قلة ذات اليد تجعل في الإنسان ذلًّا، فهو لا يستطيع يُجاري الناس، ولا يستطيع يدخل معهم، ولا يخرج معهم، ولا يُجالسهم خشية أن يُلزم بأشياء اجتماعية ما يستطيعها، فهو يصيبه لأجل ذلك مسكنة وذل.
﴿أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ﴾، أي قد لصق بالتراب من شدة الفقر.
قال: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
إذن عندنا:
1- ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾.
2- ﴿إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾. يتيمًا ذامقربة، أو مسكينًا ذا متربة.
3- ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
4- ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.
5- ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾.
هذه خمسة أسباب يُحصِّل بها الإنسان اقتحام العقبة ويكون من أهل الميمنة، ولذلك قال: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾،
لماذا كان من الذين آمنوا؟
لأن فعل الخيرات لا ينفع صاحبه في الدار الآخرة إلا بشرط الإيمان، ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ [الإسراء: 19]، لا بد من شرط الإيمان.
فإذا جاء الإنسان بسعيٍ طيب لكن من دون إيمان؛ فإنه يُكافَأ عليه في الدنيا، ولكن ليس له في الآخرة شيء، كما قال الله -عز وجل: ﴿لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ [النساء: 114].
فلا ينال الأجر العظيم والثواب الجزيل والجنة إلا من كان مؤمنًا بالله واليوم الآخر ويريد بذلك وجه الله في الدار الآخرة.
قال: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، وصَّى بعضُهم بعضًا بالصبر، الصبر على الفقر، الصبر على البلاء، الصبر على المحن، الصبر على هذه العقبة، تصوم في شدة النهار، تقوم في ظلمة الليل، تتوضأ بالماء البارد، تترك مشتهياتك، وتقاسي العذابات من أجل أن تُمسك بدينك حتى يكون القابض منهم على دينه كالقابض على الجمر من شدة البلاء، فيوصي بعضهم بعضًا بالصبر، اصبرعما قريب نلقى الأحبة محمدًا وصحبه، عما قريب يذهب ذلك العناء وينتهي هذا البلاء.
قال: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾، أيضًا مع الصبر يوصي بعضهم بعضًا بالرحمة.
بخلاف مَن كانوا في سورة الفجر، قال الله فيهم
قال: ﴿وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّماً * وَتُحِبُّونَ المَالَ حُباًّ جَماًّ﴾ [الفجر 18-20]، ما يهمهم شيء،
ثم أعطاهم هذه الشهادة وهي قوله: ﴿أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ﴾، هؤلاء هم أصحاب اليمين في الدار الآخرة، وهم الذين ينالون المكافأة العظمى الجنة وما فيها من خير، وأعظم ما فيها من الخير: رؤية الرب -سبحانه وتعالى- كما قال الله: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26].
ولما ذكر هذا الترغيب لأهل تلك العقبة التي لا بد من اقتحامها؛ ذكَّر بالمصير الآخر على طريقة القرآن في الاقتران بين الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، والجنة والنار، وسبيل المفلحين وسبيل الأشقياء الضالين، قال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا﴾، أي جحدوا بها ولم يؤمنوا.
﴿هُمْ أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ﴾، أي أصحاب الشمال وأصحاب طريق الشؤم على أنفسهم، فإنهم من سلكوا دربًا سهلًا وطريقًا منعَّمـًا، أغانٍ، وزنى، وخمور، ويفعلون ما يشاءون، ولا يقومون لصلاة، ولا يصومون يومًا في سبيل الله، ولا يجاهدون عدوًّا، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن منكر؛ فهؤلاء هم أصحاب الشؤم على أنفسهم، ومصيرهم كما قال الله -عز وجل: ﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ﴾.
كانوا في الدنيا منطلقين أحرارًا، يفعلون ما يشاءون، يتصرفون كما يريدون، كل ما يحلو لهم وكل ما يبتغون يفعلونه.
في الدار الآخرة ﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ﴾، كُبتت حرَّيتهم، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ [المجادلة: 5].
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يقينا هذا السبيل، وأن يكفينا هذا الشر .
ليست زيادة لا فائدة منها ولا حكمة؛ بل هي زيادة لفظية لها دلالة معنوية، وهي التأكيد.
وكذلك في قول الله -عز وجل- في سورة الحديد: ﴿لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ [الحديد: 29]، فـ "لا" هنا زائدة أيضًا، لكنها زائدة في اللفظ زائدة للمعنى.
ولذلك يتحاشى بعض العلماء أن يسمُّوها زائدة، فيقولون: "لا" مؤكدة، احترامًا للقرآن أن يُنسب إليه شيء من الزيادة.
ولكن نقول: هي زائدة يعني زائدة في اللفظ،زائدة للمعنى، بليغة، لا يتم المعنى ببلاغته إلا بها.
﴿لا أُقْسِمُ﴾، معناها أقسم وهذا عند جمهور المفسرين، وخصوصًا من السلف.
أما المتأخرون فقد اختلفوا:
فمنهم مَن قال: ﴿لا أُقْسِمُ﴾ أقسم بهذا البلدأن الأمر ليس كما تزعمون من أنه لا بعث .
وهذه الزيادة أو هذا التقدير يحتاج إلى دليل، فالأولى إجراؤها على ما ذكره السلف من أنها مؤكدة.
ومنهم مَن قال: أن "لا" نفي للقسم وليست إثباتًا له، فقالوا: لا أقسم بهذا البلد لأن الأمر لا يحتاج إلى قسم، فحملوا "لا" هنا على أنها نافية للقسم.
إذن عندنا ثلاثة أقوال:
1- "لا" مؤكدة للقسم.
2- و"لا" نافية لشيءٍ محذوف، ثم يأتي بعده القسم.
3- نفي للقسم؛ لأن الأمر أوضح من أن يُقسَم عليه.
والصحيح هو الأول، الذي عليه جمهور السلف؛ بل إني لا أعلم من السلف مَن خالف في ذلك، وإن كان من المتأخرين مَن ذكر الأقوال في هذا الأمر، والعبرة بما كان عليه السلف، فهم أعظم الناس فهمًا لكتاب الله، وأدرى الناس بكلام العرب.
فمعنى ﴿لا أُقْسِمُ﴾، أي أقسم.
ومما يؤكد ذلك: قوله في سورة الواقعة: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ﴾ [الواقعة 75، 76]، فجعل هذا قسَمًا مع أنه قال: ﴿لاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾.
قال: ﴿بِهَذَا البَلَدِ﴾، "هذا" إشارة إلى شيءٍ حاضر وهو مكة، والبلد هي مكة بالإجماع، لم يختلفوا في ذلك.
قال: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ﴾، الواو هنا ليست للقسم، ولكنها واو للحال، يعني: أقسم بهذا البلد حال كونك حلالًا بهذا البلد، لأن البلد يزداد شرفًا بحلول أو بأن يحلَّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لا يحلُّ لغيره.
ومعنى قول: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ﴾، هذه اختُلفَ فيها:
فمن العلماء مَن يقول: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ﴾ أي حلال بهذا البلد، وعلى هذا جمهور السلف، وبهذا تكون هذه الآية من الإعجاز الغيبي، لأنها مكية، ولم تحل مكة لرسول الله إلا في العام الثامن عندما فُتحت مكة، قال: «إنها أحلت في ساعة من النهار، وإنها عادت اليوم إلى حرمتها كما كانت بالأمس».
فالله أقسم بهذا البلد في الوقت الذي تكون فيه مكة حلالًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض المفسرين: ﴿حِلٌّ﴾، بمعنى: حالٌّ ومقيم، ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ﴾، أي حالٌّ ومقيم بهذا البلد؛ لأن شرف مكة يَزداد بوجود رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها.
والقول الثالث: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ﴾، أي وأنت حلال الدم في هذا البلد، عندما استحلَّ أهل مكة دمَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعلوا الجوائز على مَن يقتله -عليه الصلاة والسلام-، فأنقذه الله من بين أيديهم ثم عاد إليهم بعد سنين منصورًا فاتحًا قائمًا بالحق، بيده الشريفة تلك العصا والفأس يهدم بها الأصنام ويقول: ﴿وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾ [الإسراء: 81].
إذن، حلال الدم. هذا القول الثالث.
أي هذه الأقوال أصوب؟
ما عليه جمهور السلف هو الأصوب، مع أن هذه الأقوال لا تتعارض، فهي ككثير من أقوال السلف في التفسير، هي صالحة لأن تدخل في معنى الآية.
يعني فما الذي يمنع أن يُقال: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ﴾: أي حلال لك، قد أحلها الله، وأنت حالٌّ مقيم فيه، وأنت قد أُحلَّ دمك فيه؟ لا مانع، لكن أليقها باللفظ وأقربها هو الذي عليه جمهور السلف، بمعنى: وأنت حلال أي قد أحل الله لك هذا البلد، ويؤيده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد حصل له ذلك في فتح مكة.
وتكون هذه الآية من باب الإعجاز الغيبي، يعني أخبرت الآية بشيء فوقع ذلك كما أخبر به الله -سبحانه وتعالى-، وإلا مَن كان يتصوَّر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان طريدًا شريدًا ضعيفًا وحيدًا ومعه أصحابه الضعفاء، يأتي يوم يستحل فيه البلد الحرام بأمر الله -عز وجل- ويكون فاتحًا منصورًا؟! ما أحد يتوقع ذلك.
قال: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا البَلَدِ﴾.
ثم جاء القسم الثاني: ﴿وَوَالِدٍ﴾.
والقسم الثالث: ﴿وَمَا وَلَدَ﴾.
فعندنا في هذه السورة ثلاثة أقسام :
هذا القسم الأول، وهذا القسم الثاني، وهذا القسم الثالث.
﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾، بأي شيءٍ أقسم الله هنا؟
قيل: ﴿وَوَالِدٍ﴾ والذي لم يلد، "ما" هنا نافية، يعني: ووالد وما لم يلد، يعني وكل شيء يلد، وكل شيء لا يلد، يقسم الله بكل شيء.
لأن الأشياء نوعان:
- شيء يلد.
- وشيء لا يلد.
وبهذا يكون هذا من الأقسام العامة كقوله: ﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ [الفجر: 3]، وقوله في سورة البروج: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ [البروج: 3]، ونحوها من الإقسامات العامة الشاملة.
هذا على القول بأن "ما" هنا نافية، يعني: ووالد وما لم يلد، يعني: وكل شيء يلد، وكل شيء عاقر لا يلد.
القول الثاني وعليه أكثر السلف: ﴿وَوَالِدٍ﴾، أي الذي يلد.
﴿وَمَا وَلَدَ﴾، وولده، يعني والذي ولد.
فـ "ما" هنا تكون موصولة بمعنى: ومَن ولد، ووالدٍ ومَن ولد.
وهل هي عامة أو مقصود بها شيء مُحدد؟
كثير من السلف يرون أنها إما أن تكون في آدم وولده، أو في إبراهيم وولده.
رجح الإمام الطبري أنه ما لم يدل على ذلك دليل ويكون هناك بيِّنة من خبر أو عقل؛ فإن الأولى حملها على العموم، فتكون قسَمًا عامًّا.
﴿وَوَالِدٍ﴾، يعني: أقسم بكل والد، وبكل مولود.
إذن، عندنا الآن ثلاثة أقسام:
- بهذا البلد.
- وبالوالد.
- وبالولد.
على أي شيء؟ أين جواب القسم؟
في سورة الفجر كان جواب القسم محذوفًا مقدرًا، هنا مذكورٌ بيِّنٌ، ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾.
أقسم الله على هذه الحقيقة التي تحتاج إلى تأكيد، لأن كثيرًا من الناس يتوقعون أنهم يُمكن أن يعيشوا بلا كبد، وهذا لا يسلم منه أحد، لا غني ولا فقير، ولا أمير ولا مأمور، ولا كبير ولا صغير، ولا ذكر ولا أنثى، ولا حر ولا عبد، كل الناس سيعيشون الكبد ويذوقونه، حتى الأنبياء والرسل. قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، ويُبتلى الرجل على قدر دينه».
قال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾، اختُلف في قوله ﴿كَبَدٍ﴾ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أي في تعبٍ وعناءٍ ومشقةٍ. وهذا القول عليه أكثر السلف وهو الظاهر، بهذا يكون مثل قول الله -عز وجل: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً﴾ [آل عمران: 186].
ومثل قول الله -عز وجل: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155].
فالله يُقسم على أن الإنسان لا بد أن يُبتلى، مؤمنًا كان أو كافرًا، وأنه لا بد أن يذوق الكبد والنكد، وتكون مثل الآية التي مرَّت بنا في جزء عم: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ﴾ [الانشقاق: 16-18].
فالإنسان في هذه الحياة تتقلب به الأحوال، صغير، ثم كبير، شاب، ثم هرم، ثم مريض، ثم صحيح وسليم، ثم في عافية وأمن، ثم في خوف، وهكذا، لا يمكن أن يستقر على حال إلا إذا دخل الجنة استقر على حال، شبابه لا يفنى، ويجد فيها اللذة الدائمة المستمرة التي لا كدر معها البتة.
إذن ﴿كَبَدٍ﴾ عند جمهور السلف بمعنى: تعبٍ وعناءٍ ومشقَّة.
ويرى بعض السلف أن معنى قوله: ﴿كَبَدٍ﴾: أي منتصب القائمة، وهذا قال به جماعة من السلف، وتكون بهذا مثل قول الله -عز وجل: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4].
بعض السلف أغرب في التفسير فقال: إن "كبد" بمعنى السماء، ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾، أي خلقنا الإنسان في السماء. وهذا قال به ابن زيد، ولم يقل به غيره. فهذا القول حقيقة غريب،
فلعل ابن زيد التبس عليه الأمر، فظنَّ أنه يُمكن إطلاقه على السماء، لكن لم يقل بهذا أحد غيره، ولذلك نعد هذا القول من الأقوال الشاذة، ولذلك كثير من المفسرين أعرض عنه ولم يذكره.
يبقى عندنا قولان أرجحهما : القول الأول الذي عليه جمهور السلف، وهو أن الإنسان خُلق في كبدٍ أي عناء ومشقة.
هذا أمر يستحق الإقسام، ولا بد أن ننظر إلى هذا المعنى، وهو: هل يستحق الأمر أن يُقسَم عليه أو لا؟
يظن كثير من الناس أنه يمكن يعيش بلا كدر ولا تنغيص ولا بأس، ولا مشقة ولا عناء؛ فيقول الله -عز وجل: لا، ما منكم من أحدٍ إلا سيذوق العناء.
قال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾، هنا مسألة: هل الإنسان هنا هو الإنسان الذي يأتي في عامة السور المكية ويُراد به الإنسان الكافر؟ أو الإنسان يُراد به عموم الناس؟
{عموم الناس}.
ممكن هذا، يُراد به عموم هذا، وإن كان للكافر منها نصيبٌ أشد، لأن البلاء الذي قد كُتب على سائر الخلق يُصيب المؤمن والكافر على حدٍّ سواء، فالمؤمن يُبتلى بالفقر وبالمرض، وبالتعب والخوف، وغير ذلك، وكذلك الكافر، لكن الكافر له قدر زائد من الكبد؛ لأنه لا يوجد عنده إيمانٌ بالله ولا بقدر الله، فهو يُعاني من شيء آخر وهو الفراغ الإيماني، ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 124]﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]، فالمؤمن صحيح أنه يُكابد ويتعب، وتصيبه اللَّأواء، لكنه في المقابل يركن إلى ركن شديد، يأوي إلى الله، يتضرَّع إليه، يطلب منه، يؤمن بقدره، يعلم أن له حكمة، يعلم أن ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه، يعلم أن ما أصابه لا بد وأن تكون عاقبته خيرًا، ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ [النساء: 19]، فيرتاح ويطمئن.
ولذلك نقول: الإنسان هنا لا مانع أن يُراد به الكافر بشكل خاص، خصوصًا إذا رأينا الآيات التي بعدها، وهي قوله: ﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً * أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾، إلى آخره.
وإذا حُمل على العموم فله وجه أيضًا، ولا مانع من ذلك.
قال الله -عز وجل: ﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾، يظن هذا الإنسان الضعيف الذي خُلق في الكبد وخُلق في المشقة أنه قد بلغ الغاية من القوة، ويظن أنه هو المتصرف في أموره، وأنه هو المدبِّر لكل ما يدور حوله، وأن الله لن يقدر عليه، والله هو المتصرف فيه، المالك له، المدبر لأمره، فلا تظنن أنك تستطيع تفلت من قبضة الله.
قال: ﴿يَقُولُ﴾ مفتخرًا ومتبجِّحًا عندما يكون له مال: ﴿أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً﴾، أي مالًا كثيرًا وأنفقت كذا، ولي قصر في المكان الفلاني، وقصر في المكان الفلاني.
الله ماأعطاك المال لتفعل به هذا ولتفاخر بإنفاقه وتتكثَّر به في المجالس كما قال الله: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾ [التكاثر: 1، 2].
قال: ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً﴾، أي مالًا كثيرًا، مأخوذ من اللُّبدة هذه،اللبدة التي تكون على رأس الأسد، الشعر الكثير الكثيف الذي بعضه فوق بعض.
قال: ﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾، يعني عندما يتحدَّث بها ويقوله ويفتخر به يظن أن الله لا يراه ولا يطلع على أفعاله فيه .
ثم يُذكره ربه -سبحانه وتعالى- فيقول: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، كان الواجب عليه أن يستعمل ذلك في طاعة الله، ويستثمر في العمل الذي ينفعه إذا بُعث بين يدي الله -سبحانه وتعالى.
فعلامَ يجعل هذه النِّعم مجالًا للفخر وللرياء، وللتعالي على الخلق، وللكبر، وللغطرسة، وللطغيان، وللتجافي عن الحق، والإعراض عن آيات الله عجبًا له!
ولذلك قال: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ﴾، يُبصر بهما الحق
﴿وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ﴾، ينطق بهما ويتكلم حتى يستبين له الحق، ويحاور مَن يجادله فيما هو عليه حتى يظهر له الحق.
﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، هديناه: أي دللناه سبيل الخير والشر، فالنجدان هما طريقا الحق والباطل، طريقا الخير والشر.
الله -سبحانه وتعالى- من رحمته بعباده قد أظهر لعباده طريق الخير وطريق الشر ظهورًا بيِّنـًا لا إشكال فيه .كلنا نعلم، لو لم تنزل الشرائع، ولو لم يُرسل الله الرسل، ولو لم يُنزل الله الكتب؛ نعلم أن هذا خير وهذا شر.
الذي يتصدق على الناس هل هو مثل الذي يأخذ أموال اليتامى ويمنع الناس حقوقهم؟
الذي يُحسن إلى زوجته وأبيه وأمه وأهله وولده، مثل الذي يظلمهم ويكذب عليهم ويقطع رحمه؟ لا يمكن.
هذا من هداية الله للعبد، ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، جعلنا طريق الخير واضحًا، وطريق الشر واضحًا لا لَبسَ فيه ولا غموض.
وجاءت الأنبياء وجاءت الرسل، وجاءت الكتب لتؤكد وتبيِّن وتفصِّل وتُنير الطريق بشكل لا يدع لذي عقلٍ إشكالًا، أو لا يدع لذي إشكالٍ إشكالًا في هذا الأمر، ولتزيد المحَجَّة وتظهر الحُجَّة.
ولذلك قال: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾.
بعض العلماء فسر "النجدين" هنا بأنهما الثديان، قالوا: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ أي هدينا الطفل عندما يولد إلى ثديي أمه يرضع منهما.
قالوا: لأنه جاء بعد قوله: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، ما الذي دله على ذلك حتى يرضع منهما؟
كان المفترض أن يخضع لدورة تدريبية حتى يتعلم كيف يمص الحليب من صدر أمه، ولكن الله هداه لأن يمصَّ بلا تعليم.
والمعنى الأول أظهر. لماذا؟ لأنها في باب إقامة الحجة على الخلق، قد جعل الله لك عينين تُبصر بهما الخير من الشر، والحق من الباطل، ﴿وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ﴾ تتكلم بهما وتنطق وتُبين عمَّا في نفسك، وتحاور، وتفهم.
﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، هذه حجة ثالثة يمتنُّ الله بها عليك ليُبيِّن أنه -سبحانه وتعالى- قد أقام الحجة على أوسع نطاق وعلى أكمل وجه، فليس لك حقٌ في أن تقول:اختلط عليَّ الحق والباطل، التبس عليَّ الأمر.
ومما يؤكد ذلك أنه في سورة الإنسان: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ [الإنسان 2، 3]، فجاء بهداية السبيل الدالة على أنها هي المناسبة للمقام.
وهذا مما يفسَّر به القرآن، أو مما يفسِّر القرآنُ به القرآن.
قال: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾.
ما المقابل لهذه النعمة؟ هذا يأتي في المقطع الثاني عندما يقول الله -سبحانه وتعالى: ﴿فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾، يعني عندما أعطيناه هذه النعم، وهديناه هذا السبيل، وأنعمنا عليه بالعينين واللسان والشفتين وغيرها من النعم، أفلا اقتحم العقبة؟
يعني: أفلا اقتحم طريق الطاعة الذي هو عقبة؛ لأن الطاعة شاقَّة على النفوس، الطاعة تخرج بها عن مشتهياتك وهواك، أنا أريد أنام في الليل ما أقوم إلا العاشرة صباحًا، يُقال لك: قم لصلاة الفجر، وأنت في دفء الفراش وفي لذة النوم تقوم، لماذا؟ لأن الله أمرك، ولا بد أن تقتحم هذه العقبة لتفوز.
إذن العقبة هي طريق الخير.
قال: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، النجدان: طريق خير وطريق شر.
طريق الشر: تنزل، والنزول في العادة لا يُكلف.
وطريق الخير: تصعد، والصعود في العادة يُكلف ويُتعب، الذي يُريد يصعد يحتاج إنه يصعد بمشقة، وقد يصعد أول الدرجات بسلاسة، لكنه بعد ذلك يبدأ النفس عنده يرتفع ويشتد ويرتفع ضغط الدم، وكل هذا من أجل أن يصعد للأدوار العليا.
لكن لو أراد ينزل، أبدًا، مع أي نافذة من النوافذ وفي ثواني يستطيع الوصول إلى الأرض، لكن ما النتيجة؟
النتيجة هنا أنه يصل إلى الأدوار العليا، وهنا يصل إلى أسفل سافلين. هذا هو الفرق بين طريق الخير وطريق الشر.
هذا المعنى نودُّ أن نجلِّيه لأنفسنا؛ لنعلم كم نحتاج من جُهد من أجل أن نصل إلى ما أراد الله أن نصل إليه، نحن خُلقنا ووضعنا في الجنة، هذا أبونا آدم، فعصى فأُهبِط عقوبة له على أكله من الشجرة وعلى عصيانه لربه، ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [طه: 121]، ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا﴾ [البقرة: 38]،، هبطنا.
قيل لنا: مَن أراد أن يعود إلى الدار الأولى فعليه أن يصعد، لأن الدار الأولى أين؟ في الجنة. وتحتاج إلى ماذا؟ إلى صعود.
كيف تصعد بمخالفة هواك، واقتحام العقبة، ما هي العقبة؟
العقبة هي الطريق الذي يكون بين جبلين، الطريق الذي يكون بين جبلين عقبة، وسلوكه والمشي فيه من أصعب مما يكون، فكذلك طريق الخير، لا تظن وأنت تذهب للمسجد أو تصوم أو تجاهد في سبيل أو تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر أو تقيم السنة أو تنهى عن البدعة أو تنصح عباد الله، أو...، أو...، أن هذا سيكون لطريق مفروش لك بالورود، ترى الكرامات، وترى الأموال، والزوجات، ويُفتح عليك، لا.
حُفَّت الجنة بالمكاره، ابتلاءً للعباد.
وحُفَّت النار بالشهوات.
هناك بعض الناس يقول: أنا لا أبغي شيئا يُتعب، نعم، إذا أردت شيئًا لا يُتعب فأنت ستصل في النهاية إلى المُتعب، صحيح ستمر بطريق مليء بالورود، لكن نهايته نارٌ تتلظَّى، والعكس أيضًا صحيح.
قال: ﴿فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ﴾، لم يتجاوز هذه العقبة التي هي عقبة الطاعة وطريق الخير.
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ﴾، هذا أسلوب يُراد به التفخيم والتعظيم والتشويق والتهويل لهذه العقبة، وأنها شيءٌ كبير، مَن اقتحمه وتجاوزه فاز فوزًا لا خسار ولا هلاك بعده.
قال الله -عز وجل- مبيِّنًا ما هي العقبة التي يقتحمها الإنسان، وبأي شيء يقتحم، باأعمال صالحة شديدة على النفوس، قال الله فيها
﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ تفكُّ الرِّقاب.
﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾، أي ذي مجاعة، الطعام قليل، والأخبار تقول أنه لا يوجد محاصيل، والمستودعات ما فيها شيء، والطعام الذي عندك لا يكاد يكفيك للموسم، وتُطعم طلبًا لاقتحام العقبة.
تُطعم يتيمًا لا أب له.
﴿ذَا مَقْرَبَةٍ﴾، أي قريبًا منك.
﴿أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ﴾، قد لصق بالتراب من شدة الفقر.
﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾،أي إعتاقها، هذا أسلوب معروف أو جملة معروفة يُراد بها إعتاق الرقبة، لأن العادة كانت الرقبة تُغلُّ لمن كان رقيقًا، ففكها يعني حلُّ هذه العقدة عنها ليُصبح الإنسان طليقًا.
كيف يفك الإنسان الرقبة؟ بأن يأتي إلى إنسان قد استُعبِد، أو إنسان قد كان رقيقًا فيُعتقه لله -عز وجل.
قال: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾، هذا العمل الأول.
﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾، أي ذي مجاعة شديدة.
مَن يُطعم؟
﴿يَتِيماً﴾، واليتيم هو مَن؟ مات أبوه قبل البلوغ، ولا يُطلق على مَن ماتت أمه، لأن الإنسان يفقد السند الأعظم بموت أبيه، لأنه هو الذي يُغذِّيه، وهو الذي يجلب له الرزق، وهو الذي يحميه، صحيح أنه يفقد الحنان والبر والرحمة إذا ماتت أمه، لكن يبقى في مملكة أبيه، فإذا فقد أباه أصابه شيءٌ عظيم من البلاء.
قال: ﴿يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ﴾، أي صاحب قرابة، قريب منك، لأن اليتيم القريب له من الحق أكثر مما لليتيم البعيد عنك.
﴿أَوْ مِسْكِيناً﴾، والمسكين هو ذو المسكنة، وهو الفقير الذي بلغ به الذل مبلغه بسبب فقره، لأن قلة ذات اليد تجعل في الإنسان ذلًّا، فهو لا يستطيع يُجاري الناس، ولا يستطيع يدخل معهم، ولا يخرج معهم، ولا يُجالسهم خشية أن يُلزم بأشياء اجتماعية ما يستطيعها، فهو يصيبه لأجل ذلك مسكنة وذل.
﴿أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ﴾، أي قد لصق بالتراب من شدة الفقر.
قال: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
إذن عندنا:
1- ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾.
2- ﴿إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾. يتيمًا ذامقربة، أو مسكينًا ذا متربة.
3- ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
4- ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.
5- ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾.
هذه خمسة أسباب يُحصِّل بها الإنسان اقتحام العقبة ويكون من أهل الميمنة، ولذلك قال: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾،
لماذا كان من الذين آمنوا؟
لأن فعل الخيرات لا ينفع صاحبه في الدار الآخرة إلا بشرط الإيمان، ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ [الإسراء: 19]، لا بد من شرط الإيمان.
فإذا جاء الإنسان بسعيٍ طيب لكن من دون إيمان؛ فإنه يُكافَأ عليه في الدنيا، ولكن ليس له في الآخرة شيء، كما قال الله -عز وجل: ﴿لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ [النساء: 114].
فلا ينال الأجر العظيم والثواب الجزيل والجنة إلا من كان مؤمنًا بالله واليوم الآخر ويريد بذلك وجه الله في الدار الآخرة.
قال: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، وصَّى بعضُهم بعضًا بالصبر، الصبر على الفقر، الصبر على البلاء، الصبر على المحن، الصبر على هذه العقبة، تصوم في شدة النهار، تقوم في ظلمة الليل، تتوضأ بالماء البارد، تترك مشتهياتك، وتقاسي العذابات من أجل أن تُمسك بدينك حتى يكون القابض منهم على دينه كالقابض على الجمر من شدة البلاء، فيوصي بعضهم بعضًا بالصبر، اصبرعما قريب نلقى الأحبة محمدًا وصحبه، عما قريب يذهب ذلك العناء وينتهي هذا البلاء.
قال: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾، أيضًا مع الصبر يوصي بعضهم بعضًا بالرحمة.
بخلاف مَن كانوا في سورة الفجر، قال الله فيهم
قال: ﴿وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّماً * وَتُحِبُّونَ المَالَ حُباًّ جَماًّ﴾ [الفجر 18-20]، ما يهمهم شيء،
ثم أعطاهم هذه الشهادة وهي قوله: ﴿أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ﴾، هؤلاء هم أصحاب اليمين في الدار الآخرة، وهم الذين ينالون المكافأة العظمى الجنة وما فيها من خير، وأعظم ما فيها من الخير: رؤية الرب -سبحانه وتعالى- كما قال الله: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26].
ولما ذكر هذا الترغيب لأهل تلك العقبة التي لا بد من اقتحامها؛ ذكَّر بالمصير الآخر على طريقة القرآن في الاقتران بين الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، والجنة والنار، وسبيل المفلحين وسبيل الأشقياء الضالين، قال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا﴾، أي جحدوا بها ولم يؤمنوا.
﴿هُمْ أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ﴾، أي أصحاب الشمال وأصحاب طريق الشؤم على أنفسهم، فإنهم من سلكوا دربًا سهلًا وطريقًا منعَّمـًا، أغانٍ، وزنى، وخمور، ويفعلون ما يشاءون، ولا يقومون لصلاة، ولا يصومون يومًا في سبيل الله، ولا يجاهدون عدوًّا، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن منكر؛ فهؤلاء هم أصحاب الشؤم على أنفسهم، ومصيرهم كما قال الله -عز وجل: ﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ﴾.
كانوا في الدنيا منطلقين أحرارًا، يفعلون ما يشاءون، يتصرفون كما يريدون، كل ما يحلو لهم وكل ما يبتغون يفعلونه.
في الدار الآخرة ﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ﴾، كُبتت حرَّيتهم، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ [المجادلة: 5].
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يقينا هذا السبيل، وأن يكفينا هذا الشر .
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع