- إنضم
- 26 أغسطس 2010
- المشاركات
- 3,675
- النقاط
- 38
- الإقامة
- الامارات
- احفظ من كتاب الله
- القرءان كامل
- احب القراءة برواية
- بحميع الروايات
- القارئ المفضل
- الشيخ ابراهيم الأخضر
- الجنس
- أخت
سورة عبس
هذه السورة الكريمة مكية .
سبب النزول
سبب نزول هذه السورة وهو أن عبد الله بن أم مكتوم، كان ممن أسلم قديمًا، فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يُريد أن يتزكى، ويُريد أن يتعلمَ دينه، وجاء مُقبلًا وهو أعمى، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان مشغولًا بدعوة آخرين من كُفار مكة.
في تلك اللحظة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو هؤلاء وهم معرضون عنه، وكان -عليه الصلاة والسلام- يتمنى لو أن عبد الله بن أم مكتوم لم يأتِ في ذلك الوقت لأنه -عليه الصلاة والسلام- ولا يمكن أن يحقر أحدًا من المؤمنين، أو يتأخر عن إجابة طلبه، ولكن الموازنة كانت عند رسول الله في تلك اللحظة تقتضي بمقتضى ما عنده من الحِكمة، أن يقدم شأن هؤلاء الذين يرجو بدخولهم إلى الإسلام نفع الإسلام، وعز المسلمين، ولكن الله عاتبه وقال: يا محمد، إياك أن تُقبل على مَن أعرض عنك، وتدعَ من أقبل إليك.
نستفيد من هذه القصة :ألا يذهب الإنسان لمن يعرض عنه في الوقت الذي يَترك فيه من يُقبل عليه، فالذي يُقبل هو الأحقُّ، ولا تنظر يا محمد إلى المقاييس البشرية الأرضيةِ، أن هؤلاء ذوو عزةٍ وأصحاب مكانة ورِفعة، هذا لا مكانة له عندنا، العز كله عند الله، ﴿وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[المنافقون: 8].
النبي -صلى الله عليه وسلم- اجتهد، ولكن الله عاتبه على ذلك، ولما عاتبه؛ ربَّانا -سبحانه وتعالى- على ما هو مقام محمد -صلى الله عليه وسلم- عنده، فلمَّا عبر بالعبارات التي قد يُستوحش منها قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبَّر بعبارات لطيفة على قلبه، وخفيفة على نفسه. فماذا قال؟
قال: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [عبس: 1]، الحديث هنا عن رسول الله.
فـ﴿عَبَسَ﴾: أي قطَّب وجهه.
و﴿وَتَوَلَّى﴾: أي أعرض عن هذا الذي جاءه يريد أن يسترشده ويسأله.
عبَّر بضمير الغائبلم يقل: "عبست وتوليت"؟ قال: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾؟{لها احتمالان:
1- هو أنه أراد ألا يُوحش صدره بالخطاب لأنَّ الخطاب له هجوم على النفس، وأثر ثقيل عليها، فكأنه يتحدث عن شخص غائب فيقول: عبس هو، وتولى هو، أن جاءه الأعمى، فلما ذهبت هذه الوحشة بدأ بالخطاب، فقال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى﴾.
﴿عَبَسَ﴾: أي قطَّب بوجهه و﴿وَتَوَلَّى﴾: أي أعرض ببدنه لأنه لما أقبل ابن أم مكتوم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ كره النبي -صلى الله عليه وسلم- مجيئه، ولما جاء يسألُ أو يُريد من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُرشده إلى ما أراده أعرض عنه وانشغل بهؤلاء من صناديد قريش فعاتبه الله -عز وجل-.
ثم قال: ﴿أَن جَاءَهُ الأَعْمَى﴾ [عبس: 2]: أي بسبب أن جاءه الأعمى.
عبَّر عن هذا الصحابي بالأعمى أليس في هذا تعييرًا لهذا الصحابي؟ لماذا لم يقل: أن جاءه عبد الله بن أم مكتوم مثلًا؟
لأسباب منها:
أولًا: ليُبيِّن عذر هذا الرجل الذي جاء إلى رسول الله، هذا الرجل الذي جاء إليك يا محمد له عذر، وهو أنه أعمى، هو لا يدري أنت مشغول أو غير مشغول، وهو صاحب حاجةٍ، فكان يَنبغي لك أن تقضيَ حاجته وأن تعذره لأنه لم يطلع على ما أنت مشغول به.
ثانيًا: ليُرققَ قلبَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه وعلى نُظرائِه. وهذه الآية حجة في التلطف مع ذوي الاحتياجات الخاصة وإعطائهم من الرفق واللين والرحمة أكثر مما يُعطى غيرهم؛ بسبب ما هم فيه من البلاء، فصاحب البلاء يُرحم أكثر من صاحب العافية .
قال الله -عز وجل- مُعاتبًا رسولَه بعد أن كان بأسلوبٍ الْـغَـيبة جاء إلى أسلوب الخطاب، قال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾.
﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾، هذا التلطُّف من الرب -سبحانه وتعالى- مع الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- يُربينا فيه ربُّنا على مكانة رسول الله عند الله، وأن له منزلةً عالية، والله -عز وجل- يُبين لنا عِظم هذه المنزلة التي لرسول الله فيقول: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى﴾، لو قال له: عبست وتوليت ما ضرَّ ذلك ربنا -سبحانه وتعالى- ولكن الله أرادَ أن يُبين لنا كيف يكون الأدبُ مع الكبارِ، وذوي الشرف والمنزلة والمكانة، وذوي الفضل على أهل الإيمان، والفضل على الخلق، وما يَخفى عليكم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو أعظم الناس حقًّا علينا، ولا يصحُّ إيمان عبد حتى يؤمن به -عليه الصلاة والسلام- ويحبه أشدَّ من نفسه.
ومن نظائر هذا الأسلوب في القرآن - قول الله -عز وجل- في سورة التوبةِ: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 43]،
في الآية قدَّم العفو. لئلا يستوحش قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويصيبه جائحة من الخوف؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- يُريد أن تكون الصلة بالله -عز وجل- أعظم صلة، ولا يرتاح -عليه الصلاة والسلام- أن يكون التأنيب نازلًا عليه من السماء، ولذلك طمأنه الله، ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ﴾، ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ﴾، وهذا من الدلائل على مقام رسول الله عند ربه -صلوات ربي وسلامه عليه-
قال الله -عز وجل-: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾: أي شيء يدرك لعل هذا الأعمى الذي جاءك يتزكى، وقوله (زكى) أدغمت التاء في الزاي فصارت ﴿يَزَّكَّى﴾، وأصلها: يتزكى.
﴿أَوْ يَذَّكَّرُ﴾ أو يتذكر ﴿فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى﴾ [عبس: 4]: هنا ذكر شيئين:
الأول: يزَّكى، الثاني: يذَّكر.
قال العلماء: إن هذا من باب تقديم التخلية على التحلية، فإما أن يتطهرَ من ذنوبه ﴿يَزَّكَّى﴾، وإما أن ينتفع بشيءٍ مما جئتَ به من الوحي والخيرِ والعلم النافع، إما أن يحصل له هذا أو يحصل له هذا، ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى﴾.
قال الله -عز وجل-: ﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى﴾، أما هذا المستغني الذي لا يرغب في سماع ما عندك يا محمد، وليس عنده الرغبة في أن يُؤمن، ولا أن يتلقى، بل إنه راغب في فراقك، فما الذي يحملك على أن تَتصدى له؟ ﴿فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى﴾، أصله: تتصدى، حذفت التاء الأولى تخفيفًا، وهذا سائغ في لغة العرب، خصوصًا إذا كان فيها شيء من الثقل على اللسان.
قال: ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى﴾: معناها يختلف باختلاف "ما".
﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى﴾، يمكن أن تكون "ما" نافية، أي: ليس عليك شيء في ألا يزكى، في ألا يتزكى، يعني: إذا لم يتزكَّ يا محمد؛ فليس عليك شيء، لن ينالك من الله -عز وجل- لا عقوبة ولا عتاب؛ لأنك قد أديت ما عليك، وهو الذي أعرض بنفسه، فليس عليك شيء إذا لم يتزكَّ.
المعنى الثاني: أن تكون "ما" ماذا؟ استفهامية.
أي شيء عليك إذا لم يتزك الآن "ما" جاءت نافية واستفهامية ولكن المعنى في النهاية واحد، أي شيء عليك إذا لم يتزك؟ لا شيء عليك إذا لم يتزك.
قال: ﴿وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى﴾، الذي جاءك يسعى عبد الله بن أم مكتوم.
قال: ﴿جَاءَكَ﴾، فجاء بنفسه. أما أولئك فأنت جئت إليهم، وذهبتَ إليهم، وتصديت لهم، هذا جاءك طالبًا للهُدى، فالحقُّ أن يُقبل على مَن أقبل، وألا يُؤبَهَ بمن أعرض، هذا هو الأصل، العدل أنك مَن أقبل عليك تُقبل عليه، ومن أعرض فلست مُحاسبًا لو أنه أعرض وتركته.
قال: ﴿وَأَمَّا مَن جَاءَكَ﴾، هو جاءك، الثاني: ﴿يَسْعَى﴾ أيضًا هذا المجيء مجيء بإقبال ورغبة ﴿جَاءَكَ يَسْعَى﴾؛ أي جاء مهتمًّا حريصًا مقبلًا.
والسعي فضيلة ينبغي للمسلم أن يتصف بها، وهي أنه إذا شَرَع في أمر من الخير يُقبل عليه ويحرص عليه،وصف الله المنافقين في أمر الصلاة قال: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ [النساء: 142]، ووصف المؤمنين في آية أخرى قال: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ [الإسراء: 19]، فحريٌّ بالمؤمن دائمًا إذا أقدم على عمل من الخير أن يُقدم عليه بهمَّة وبحرص وإرادة تامة دون تردد.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَهُوَ يَخْشَى﴾، هذه الصفة الثالثة، جاء ويسعى وأيضًا عنده خشية حَمَلتْه على أن يسأل، وليس سؤاله مجرد استعلام أو تزوُّد من العلم فقط، أو لمجردِ تزجية الوقت، أو لأجل الكلام مع رسولِ الله فقط، كما يفعل بعض المحبين لرسول الله، يريد أن يتحدث مع رسول الله بأي كلام، حمله على السؤال خشيته من الله -عز وجل- يريد أن يعمل ويريد أن ينفذ.
الفرق بين الخشية والخوف :
هذه السورة الكريمة مكية .
سبب النزول
سبب نزول هذه السورة وهو أن عبد الله بن أم مكتوم، كان ممن أسلم قديمًا، فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يُريد أن يتزكى، ويُريد أن يتعلمَ دينه، وجاء مُقبلًا وهو أعمى، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان مشغولًا بدعوة آخرين من كُفار مكة.
في تلك اللحظة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو هؤلاء وهم معرضون عنه، وكان -عليه الصلاة والسلام- يتمنى لو أن عبد الله بن أم مكتوم لم يأتِ في ذلك الوقت لأنه -عليه الصلاة والسلام- ولا يمكن أن يحقر أحدًا من المؤمنين، أو يتأخر عن إجابة طلبه، ولكن الموازنة كانت عند رسول الله في تلك اللحظة تقتضي بمقتضى ما عنده من الحِكمة، أن يقدم شأن هؤلاء الذين يرجو بدخولهم إلى الإسلام نفع الإسلام، وعز المسلمين، ولكن الله عاتبه وقال: يا محمد، إياك أن تُقبل على مَن أعرض عنك، وتدعَ من أقبل إليك.
نستفيد من هذه القصة :ألا يذهب الإنسان لمن يعرض عنه في الوقت الذي يَترك فيه من يُقبل عليه، فالذي يُقبل هو الأحقُّ، ولا تنظر يا محمد إلى المقاييس البشرية الأرضيةِ، أن هؤلاء ذوو عزةٍ وأصحاب مكانة ورِفعة، هذا لا مكانة له عندنا، العز كله عند الله، ﴿وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾[المنافقون: 8].
النبي -صلى الله عليه وسلم- اجتهد، ولكن الله عاتبه على ذلك، ولما عاتبه؛ ربَّانا -سبحانه وتعالى- على ما هو مقام محمد -صلى الله عليه وسلم- عنده، فلمَّا عبر بالعبارات التي قد يُستوحش منها قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبَّر بعبارات لطيفة على قلبه، وخفيفة على نفسه. فماذا قال؟
قال: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [عبس: 1]، الحديث هنا عن رسول الله.
فـ﴿عَبَسَ﴾: أي قطَّب وجهه.
و﴿وَتَوَلَّى﴾: أي أعرض عن هذا الذي جاءه يريد أن يسترشده ويسأله.
عبَّر بضمير الغائبلم يقل: "عبست وتوليت"؟ قال: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾؟{لها احتمالان:
1- هو أنه أراد ألا يُوحش صدره بالخطاب لأنَّ الخطاب له هجوم على النفس، وأثر ثقيل عليها، فكأنه يتحدث عن شخص غائب فيقول: عبس هو، وتولى هو، أن جاءه الأعمى، فلما ذهبت هذه الوحشة بدأ بالخطاب، فقال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى﴾.
﴿عَبَسَ﴾: أي قطَّب بوجهه و﴿وَتَوَلَّى﴾: أي أعرض ببدنه لأنه لما أقبل ابن أم مكتوم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ كره النبي -صلى الله عليه وسلم- مجيئه، ولما جاء يسألُ أو يُريد من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُرشده إلى ما أراده أعرض عنه وانشغل بهؤلاء من صناديد قريش فعاتبه الله -عز وجل-.
ثم قال: ﴿أَن جَاءَهُ الأَعْمَى﴾ [عبس: 2]: أي بسبب أن جاءه الأعمى.
عبَّر عن هذا الصحابي بالأعمى أليس في هذا تعييرًا لهذا الصحابي؟ لماذا لم يقل: أن جاءه عبد الله بن أم مكتوم مثلًا؟
لأسباب منها:
أولًا: ليُبيِّن عذر هذا الرجل الذي جاء إلى رسول الله، هذا الرجل الذي جاء إليك يا محمد له عذر، وهو أنه أعمى، هو لا يدري أنت مشغول أو غير مشغول، وهو صاحب حاجةٍ، فكان يَنبغي لك أن تقضيَ حاجته وأن تعذره لأنه لم يطلع على ما أنت مشغول به.
ثانيًا: ليُرققَ قلبَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه وعلى نُظرائِه. وهذه الآية حجة في التلطف مع ذوي الاحتياجات الخاصة وإعطائهم من الرفق واللين والرحمة أكثر مما يُعطى غيرهم؛ بسبب ما هم فيه من البلاء، فصاحب البلاء يُرحم أكثر من صاحب العافية .
قال الله -عز وجل- مُعاتبًا رسولَه بعد أن كان بأسلوبٍ الْـغَـيبة جاء إلى أسلوب الخطاب، قال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾.
﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾، هذا التلطُّف من الرب -سبحانه وتعالى- مع الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- يُربينا فيه ربُّنا على مكانة رسول الله عند الله، وأن له منزلةً عالية، والله -عز وجل- يُبين لنا عِظم هذه المنزلة التي لرسول الله فيقول: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى﴾، لو قال له: عبست وتوليت ما ضرَّ ذلك ربنا -سبحانه وتعالى- ولكن الله أرادَ أن يُبين لنا كيف يكون الأدبُ مع الكبارِ، وذوي الشرف والمنزلة والمكانة، وذوي الفضل على أهل الإيمان، والفضل على الخلق، وما يَخفى عليكم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو أعظم الناس حقًّا علينا، ولا يصحُّ إيمان عبد حتى يؤمن به -عليه الصلاة والسلام- ويحبه أشدَّ من نفسه.
ومن نظائر هذا الأسلوب في القرآن - قول الله -عز وجل- في سورة التوبةِ: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 43]،
في الآية قدَّم العفو. لئلا يستوحش قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويصيبه جائحة من الخوف؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- يُريد أن تكون الصلة بالله -عز وجل- أعظم صلة، ولا يرتاح -عليه الصلاة والسلام- أن يكون التأنيب نازلًا عليه من السماء، ولذلك طمأنه الله، ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ﴾، ﴿لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ﴾، وهذا من الدلائل على مقام رسول الله عند ربه -صلوات ربي وسلامه عليه-
قال الله -عز وجل-: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾: أي شيء يدرك لعل هذا الأعمى الذي جاءك يتزكى، وقوله (زكى) أدغمت التاء في الزاي فصارت ﴿يَزَّكَّى﴾، وأصلها: يتزكى.
﴿أَوْ يَذَّكَّرُ﴾ أو يتذكر ﴿فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى﴾ [عبس: 4]: هنا ذكر شيئين:
الأول: يزَّكى، الثاني: يذَّكر.
قال العلماء: إن هذا من باب تقديم التخلية على التحلية، فإما أن يتطهرَ من ذنوبه ﴿يَزَّكَّى﴾، وإما أن ينتفع بشيءٍ مما جئتَ به من الوحي والخيرِ والعلم النافع، إما أن يحصل له هذا أو يحصل له هذا، ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى﴾.
قال الله -عز وجل-: ﴿أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى﴾، أما هذا المستغني الذي لا يرغب في سماع ما عندك يا محمد، وليس عنده الرغبة في أن يُؤمن، ولا أن يتلقى، بل إنه راغب في فراقك، فما الذي يحملك على أن تَتصدى له؟ ﴿فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى﴾، أصله: تتصدى، حذفت التاء الأولى تخفيفًا، وهذا سائغ في لغة العرب، خصوصًا إذا كان فيها شيء من الثقل على اللسان.
قال: ﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى﴾: معناها يختلف باختلاف "ما".
﴿وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى﴾، يمكن أن تكون "ما" نافية، أي: ليس عليك شيء في ألا يزكى، في ألا يتزكى، يعني: إذا لم يتزكَّ يا محمد؛ فليس عليك شيء، لن ينالك من الله -عز وجل- لا عقوبة ولا عتاب؛ لأنك قد أديت ما عليك، وهو الذي أعرض بنفسه، فليس عليك شيء إذا لم يتزكَّ.
المعنى الثاني: أن تكون "ما" ماذا؟ استفهامية.
أي شيء عليك إذا لم يتزك الآن "ما" جاءت نافية واستفهامية ولكن المعنى في النهاية واحد، أي شيء عليك إذا لم يتزك؟ لا شيء عليك إذا لم يتزك.
قال: ﴿وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى﴾، الذي جاءك يسعى عبد الله بن أم مكتوم.
قال: ﴿جَاءَكَ﴾، فجاء بنفسه. أما أولئك فأنت جئت إليهم، وذهبتَ إليهم، وتصديت لهم، هذا جاءك طالبًا للهُدى، فالحقُّ أن يُقبل على مَن أقبل، وألا يُؤبَهَ بمن أعرض، هذا هو الأصل، العدل أنك مَن أقبل عليك تُقبل عليه، ومن أعرض فلست مُحاسبًا لو أنه أعرض وتركته.
قال: ﴿وَأَمَّا مَن جَاءَكَ﴾، هو جاءك، الثاني: ﴿يَسْعَى﴾ أيضًا هذا المجيء مجيء بإقبال ورغبة ﴿جَاءَكَ يَسْعَى﴾؛ أي جاء مهتمًّا حريصًا مقبلًا.
والسعي فضيلة ينبغي للمسلم أن يتصف بها، وهي أنه إذا شَرَع في أمر من الخير يُقبل عليه ويحرص عليه،وصف الله المنافقين في أمر الصلاة قال: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾ [النساء: 142]، ووصف المؤمنين في آية أخرى قال: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ [الإسراء: 19]، فحريٌّ بالمؤمن دائمًا إذا أقدم على عمل من الخير أن يُقدم عليه بهمَّة وبحرص وإرادة تامة دون تردد.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَهُوَ يَخْشَى﴾، هذه الصفة الثالثة، جاء ويسعى وأيضًا عنده خشية حَمَلتْه على أن يسأل، وليس سؤاله مجرد استعلام أو تزوُّد من العلم فقط، أو لمجردِ تزجية الوقت، أو لأجل الكلام مع رسولِ الله فقط، كما يفعل بعض المحبين لرسول الله، يريد أن يتحدث مع رسول الله بأي كلام، حمله على السؤال خشيته من الله -عز وجل- يريد أن يعمل ويريد أن ينفذ.
الفرق بين الخشية والخوف :
{الخشية أعلى من الخوف}.
الخوف فيكون خوفًا من شيء عامةً أن تسمع صوتًا مفزعًا تخاف، ما تدري ما هذا الصوت، هل هو صوت رعد يأتي بعده المطر، أما الخشية فتكون لمن علم؛ ولذلك جاء في الآية: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾.
ومادة خشي (الخاء والشين والياء) في اللغة العربية دائمًا تدل على الشيء الأكثر، الأبلغ أو الأقوى في المعنى، طيب.. قال: ﴿يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾، جاء ويسعى، وهو يخشى، ومع ذلك تلهيت عنه، وسمى إعراض النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه تلهيًا؛ لأنك تركت ما يليق بك مع من أقبل عليك، وذهبت إلى من أعرض عنك، وليس مستمعًا لك، ولا منتفعًا بما عندك، فسمَّاه "تلهيًا".
قال: ﴿فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾، و﴿تَلَهَّى﴾ أصله: تتلهى، لكن حذفت التاء تخفيفًا.
الدرس المستفاد هنا :
أنه عند تقديمنا للدعوة، وبذلنا للعلم وللدين، ما ننظر إلى قضية مراتب الناس الأرضية، بل من أقبل على العلم، أقبل على الدعوة، جاء إلينا، يجب علينا أن نُقدم له هذه الدعوة، وأن نمدَّ له يد العون والمساعدة، وأن نهديه سبيل الرشاد، وألا ننظر إلى أصله أو فصله أو نسبه أو غناه، أو حاله أو جاهه أو سمعته، أو أي شيء من هذه الموازين الأرضية. هذه فائدة عظيمة جدًا ينبغي أن نستفيدها من هذه الآيات.
قال الله -عز وجل-: ﴿كَلاَّ﴾، كلا هنا قلنا بالأمس أنها تأتي بمعنيين:
- إما أن تكون بمعنى الردع والزجر.
- وقد يعبر عنها بعض العلماء كابن جرير الطبري -رحمه الله-: (ليس الأمر كذلك)، كتعبير أخف من كلمة الردع والزجر.
- وإما أن تكون بمعنى: حقًّا.
تكون بمعنى "حقًّا" إذا لم يسبقها كلام يُردُّ عليه، وتكون بمعنى الردع والزجر أو النفي إذا كان قبلها كلام يُنفى، أو كلام يُرد على صاحبه.
هنا قوله: ﴿كَلاَّ﴾ يُراد بها: رد هذا الأمر، يعني ليس الأمر كما فعلت، أو تحتمل أن تكون بمعنى "حقًّا" لتكون متصلة بما بعدها، حقًّا إنها تذكرة.
طيب.. ﴿إِنَّهَا﴾يعود على الآيات السابقة أو القصة، هذه القصةُ تذكرةٌ وعظةٌ لك يا محمد ولأمتِك من بَعدِك.
﴿فَمَن شَاء ذَكَرَهُ﴾، إما أن يكون الضميرُ هنا عائدًا على الله، فمن شاء ذكر الله، وإما أن يكون عائدًا على القرآن الذي منه تلك القصة، أو منه تلك الآيات. وهذا أَوْلَى، أن يعود على القرآن؛ لأن الحديث بعد هذه الآية هو عن القرآن.
قال الله -عز وجل-: ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ﴾، أي هذا موضوع في صحف مكرمة قد أعلى الله شأنها وكرَّمها.
﴿مَّرْفُوعَةٍ﴾؛ أي قد رفعت رفعًا حسيًّا، ورفعًا معنويًّا، ولذلك يستفيد العلماء من هذا أن كتاب الله ينبغي أن يكون دائمًا مرفوعًا. عندما يكون مع الكتب يُرفَع، لما يكون في الأدراج، يوضع في الرف الأرفع تقديرًا له وتعظيمًا، كما أنه في اللوح المحفوظ -أيضًا- مرفوع فوق كل كلام، وكل شيء موجود في ذلك اللوح.
﴿مُّطَهَّرَةٍ﴾؛ أي لا يصيبها شيء من الدنس، ولا يصيبها شيء من الزيادة أو النقص أو التحريف أو التبديل أو التغيير.
ثم ذكر مَن الذي يَلُونَ هذه الصحف المكرمة، قال: ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾، {الملائكة}.
الملائكة، هذا قول جمهور المفسرين؛ لأن هذا الوصف قد جاء بهذه الصورة للملائكة في الحديث النبوي، قال: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران».
وقال بعض العلماء: إن السفرة هم أصحاب رسول الله، أو كُـتَّاب الوحي.
والظاهر: هو الأول، لمجيء هذا الحديث الذي يدل على ذلك، وأيضًا لأن المؤمنين إذا وصفوا في القرآن لا يوصفون بقوله: ﴿بَرَرَةٍ﴾، وإنما يوصفون بماذا؟ الأبرار. أما البررة فهي خاصة بالملائكة.
قال الله -عز وجل-: ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾، سُمي الملائكة سفرةً؛ لأنهم يقومون بالسفارة بين اللهِ وبين خَلْقه، فكل الأعمالِ تُوكَل إلى الملائكةِ حتى قبض الأرواحِ، والنزول بالوحيِ، الذي ينزل به الملائكة، ورفع الأعمال إلى الله -عز وجل-، الذي يرفعها ويقوم بذلك هم الملائكة، فسُموا من أجل ذلك "سَفَرَة".
قال: ﴿كِرَامٍ﴾، سُموا كرامًا أو وصفوا بأنهم كِرامٌ؛ لأن الكريم في لغة العرب هو الشريف في جنسه؛ أي شيء شريف في جنسه يسمى كريمًا، حتى الأحجار منها كريمة وغير كريمة، إذا كانت شريفة في جنسها عالية القدر قيل: كرام، وقيل: هذه أحجار كريمة، فالملائكة لكرمِهم، وعِظم منزلتِهم، ونفاستِهم في مخلوقاتِ ربهم -سبحانه وتعالى- قيل: كرام؛ لأنهم لا يَعصون الله ما أَمَرَهم ويفعلون ما يؤمرون.
﴿بَرَرَةٍ﴾؛ أي كثير البر والإحسان وفعل الخير، فالبر مأخوذ من السعة، ولذلك يُقال للبادية أو يقال لغير المدن: بر لأنها متسعة.
وكذلك من يُكثر من فعل الخير يقال له: برٌّ، ويقال لهم: أبرار؛ لأنهم يتوسعون في فعل الخير.
بعد أن انتهى من هذا بدأ في ذكر أمر وهو: كيف أن الإنسان يجحد هذا الخير، ويكفر به من دون حجة ولا برهان، فقال: {قُتِلَ الإِنسَانُ}، طبعًا الإنسان هنا لا يمكن أن يحمل على جنس الناس، وإنما يُراد به الكافر، ونستدل على ذلك بأن هذه الآيات آيات مكيَّة، وغالب ما يرد من وصف الإنسان في الآيات المكيَّة إنما يراد به الكافر، ﴿بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ [القيامة: 14]، ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ﴾ [الإنسان: 1]، إذا ذُكر الإنسان في الغالب يراد به: الإنسان الكافر، وليس هذا شيئًا لازمًا، ولكنه يختلف باختلاف السياق.
قوله: ﴿قُتِلَ﴾، العلماء يقولون: ﴿قُتِلَ﴾ دعاء عليه بالقتلِ، وهي بمعنى: لُعن عند كثير من المفسرين.
﴿قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾، "ما" هذه إما أن تكون نافية أو تكون استفهامية.
وهنا: ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾، "ما"
﴿قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾، "ما" هنا تعجبية، يعني: عجبًا له كيف يكفر؟
والتعجب هنا أليق بالسياق، ما أكفره يعني ما أشد كفره! وبالفعل، الإنسان إذا كفر لا شيء من المخلوقات يمكن أن يزيد عليه في الكفر.
قال الله -عز وجل-: ﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾، يبين الله حقيقة هذا الإنسان الذي كفر، وأنه ضعيف، وأن إمكاناته محدودة، وأنه محتاج إلى الله، ومع ذلك يكفر ويستعلي ويكذب بالله وبرسله، ويرد آيات الله -سبحانه وتعالى-.
قال: ﴿مِن نُّطْفَةٍ﴾، هذا الإنسان مخلوق من نطفة، والنطفة هي: الماء القليل، وهو هذا الماء الذي خلق منه الإنسان، وهو ماء قليل، قذر، خُلق الإنسان منه، فما الذي جعله يتكبر!
﴿مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾، جاء بالفاء ليدل على أن النطفة من حين ما تقع في الرحم يبدأ عملية التقدير، الفاء هنا للدلالة على الترتيب والتعقيب.
قال: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾، جاء بـ "ثم"؛ لأن بين التقدير وبين الخروج من بطن الأم فترةً زمنيةً تستحقُّ "ثم" الدالة على التراخي.
السبيل: اسم لأكثر من معنى، يمكن أن يكون طريق الخير والشر، ويمكن أن يكون طريق الخروج، ويمكن أن يكون الطريق العام، ولأجل ذلك اختلف العلماء في قوله: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾، هل معناها:
يسر له طريق الخير والشر؟ فالإنسان يرى من نفسه الآن طريق الخير والشر أمامه مفتوحان يفعل ما يشاء.
ويمكن أن يكون: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾، ثم طريق خروجه من بطن أمه يسره.
{يظهر من السياق أن الراجح من أقوال المفسرين أن الله -عز وجل- يسر طريق خروجه من بطن أمه}.
لماذا؟
{لأنه ذكر قبل ذلك النطفة}.
هل هناك مانع من أن تحتمل الآية المعنيين؟
{ليس ثمة أي مانع، ليس ثمة تعارض بينهما}.
كِلا القولين مقبول، لكن أليقهما بالسياق، ولذلك نجد الشوكاني -رحمه الله- في تفسيره يعبر دائمًا بعبارة: والأول أَوْلَى.
لماذا يقول: أولى؟ لأن القول الثاني لا يمكن نفيه، الآية تحتمله و تستوعبه، فهذا القول صحيح وهذا القول صحيح، لكن أليقهما بالسياق وبالدلائل التي تحف هذا المعنى هو القول الأول، ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ﴾؛ أي طريق خروجه من بطن أمه ﴿يَسَّرَهُ﴾.
﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ﴾؛ لأن بين خروجه من بطن أمه وموته في العادة وقتًا طويلًا، عشرًا، أو عشرين، أو ثلاثين، أو ستين سنة.
﴿أَمَاتَهُ﴾؛ أي قدر عليه الموت.
﴿فَأَقْبَرَهُ﴾، لماذا عبر بعد الموت بالفاء، قال: ﴿فَأَقْبَرَهُ﴾؟
لُيبين أن الإقبار يكون بعد الموت مباشرة، ولهذا ممكن نأخذ من هذه حكمًا شرعيًّا وهو استحباب الإسراع بدفن الميت وتجهيزه بعد موته، وعدم التأخر بذلك كما يفعل الناس في هذا الزمان.
قال: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾، أقبره ليس معناها قَبَرَه؛ لأن الله لا يقبر الناس، وإنما أقبره: هيأ له مكانًا يُقبر فيه، ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾.
قال: ﴿ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ﴾، لما كان ما بين القبر والنشر وقت طويل لا يعلمه إلا الله -سبحانه وتعالى- جاء بـ " ثُمَّ "، وهذا يدلنا على أن القرآن لا يمكن أن يضع حرفًا أو كلمة إلا في مكانها،
نلاحظ هنا "فاء""ثُمَّ" ما جاءت هكذا عبثًا، جاء كل واحد منها في مكانه، كان بالإمكان أن يسوِّي فيقول: "خلقه من نطفة ثم قدره ثم السبيل يسره ثم أماته ثم أقبره ثم إذا شاء أنشره"، ويكون المعنى المراد به التعاطف.
لكن الآيات تأتي مرة بهذا، ومرة بهذا، ومرة بهذا، وفي الآية الواحدة قد نجد الاثنين، "ثم" و"الفاء"، ليبين لنا أن كل حرف استُعمل في مكانه، وهكذا سائر القرآن.
قال الله -عز وجل-: ﴿كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾، ﴿كَلاَّ﴾ ردع لهذا الإنسان الكافر، ﴿لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾ يعني لم يفعل ما أمر به.
قال مجاهد: "يعني ما من أحدٍ يمكن أن يفعلَ كل ما أُمرَ به، بل لا بد أن يُقصِّر الإنسان، وهذا من طبع الإنسان؛ «كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون»".
قال الله -عز وجل-: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾، هنا بعدما انتهى من ذكر كفر الإنسان بالرسالة التي أوحيت إليه وأنزلت عليه، انتقل إلى ذكر دلائل القدرة، وأيضًا دلائل النعمة، نعمة الله على عبده التي تدعوه إلى أن يدع هذا الكفر، وأيضًا دلائل القدرة التي تدل الإنسان على أن الله قادر على الشيء الذي ينكره الإنسان، وهو البعث بعد الموت؛ لأن هذه قضية من أهم قضايا جزء عمَّ.
قال الله -عز وجل-: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾، يعني لينظر كل واحد منكم أيها الناس إلى هذا الطعام الذي بين يديه، من أين هو؟ ما دورك في هذا الطعام الذي عندك؟ هل أنت صنعته وكوَّنته؟ هل أنت أخرجته وفعلت به هذه الصفة التي هو عليها؟ وضعت فيه هذا الطعْم الذي هو فيه؟ لا إنما أنت فعلت شيئًا أمرك الله به، وليس هو في الحقيقة هو المؤثرَ، بل التأثير كله من قِبل الله.
قال: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا﴾، نحن أنزلنا الماء مصبوبًا من السماء، ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا﴾، شققنا الأرض بالنبات، تكون البذرة داخل جوف الأرض، ثم ما تزال -بضعفها- تقاوم وتدخل تدخل حتى تخرج على ظهر الأرض، ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا﴾، بدأ بالحب كما في سورة عمَّ.
قال في سورة عمَّ: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًا﴾ [النبأ 14، 15]، وبدأ بالحَبِّ{لشدة حاجة الناس للحَبِّ قبل النبات}.
لأن به أقواتهم، فقوتنا بهذا الحب، يستطيع الانسان أن يستغنيَ عن الخس والكراث، والجزر، والبرتقال، والتفاح، لكن يشق علينا أن نستغني عن القمح، والأرز، والذرة، والدخن، وغيرها من الحبوب التي هي أقوات لبني آدم.
قال: ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًا * وَعِنَبًا﴾، ذكر العنب، لأنه من أحسن الفواكه وأعظمها أثرًا على صحة الإنسان، وأكثرها لذة، وأكثرها أيضًا سهولة في جنيه وفي أكله، فكروم العنب عندما تأتي إليها تقطفها هكذا ثم تضعها في فمك مباشرة، وتجد حلاوتها من أيسر ما يكون، وطعمها من ألذِّ ما يكون، ومضغها واستساغتها من أيسر ما يكون.
فالله -عز وجل- يُبين كيف أن الله يسر لنا هذه النعمة، وهيَّأ لنا هذا الطعام، فما الذي يدعوك أيها الانسان إلى الكفر؟ ما الذي يجعلك تستكبر وتستعلي؟
قال الله -عز وجل-: ﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا﴾، ﴿وَقَضْبًا﴾ العلماء يقولون: القضْب هو ما يُقضَب يعني يُقطَع، فكل النباتات التي تُقطَع ثم تعود تسمى قضبًا، فمنه مثلًا: الخس، والكراث، والقت الذي يُوضع للبهائمِ يُسمى القت أيضًاكله من القضب.
كلمة "قضب" معروفة في العربية بمعنى القطع، «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يرى شيئًا فيه تصليب إلا قضبه». يعني ما يرى مكانًا فيه صليب ظاهر إلا قطع ذلك الصليب؛ لأنه شعار النصارى.
﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا﴾، الزيتون معروف، سواء الزيتون في حَبِّه، أو الزيتون فيما يُعصَر منه ويخرج من زيت.
﴿وَنَخْلًا﴾، هذه النخلة المعروفة التي فيها هذه الثمرة العجيبة، التي تجمع بين خمسة أشياء: فهي حلوى، وغذاء، وقوت، وفاكهة، ودواء. وهذا قلَّ أن يجتمع في شيء من النبات، إما أن تجد النبات طعامًا مثلًا، وإما أن يكون دواء، وإما أن يكون غذاءً، وإما أن يكون قوتًا.
أما التمرة أو ما يخرجُ من النخلة؛ فهو يجمع هذه الخمسة أشياء، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتحدث عن أثر هذه التمرة يقول: «بيت ليس فيه تمر أهله جياع»؛ لأن التمرة تغني عن كثير من حاجات الإنسان، أو عن كل حاجات الإنسان إلا ما ندر.
قال: ﴿وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا﴾، الحدائق: جمع حديقة، والحديقة عند العرب هي ما يُحدق بالشيءِ، يَعني يطيف به ويُحوِّط عليه، فتُسمى حديقة، فالحديقةُ عن العرب هي: ما أُحدِقَ عليه بشجرٍ أو شيء يحوطه.
﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا﴾؛ أي وأشجار غُلب، يقول العلماء: الغُلب: هي ذات الجذوع العريضة، والأفنان الملتفة، تسمى غلب، يعني الأشجار العظيمة.
﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً﴾، هذا يدخل فيه جميع ما يَتفكَّه به الإنسان، برتقال، والموز، والتفاح، وغيرها.
﴿وَأَبًّا﴾ ، قال العلماء: الأبُّ هو ما تنبته الأرض من الكلأ مما ترعاه البهائم، وقد ورد عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "قد عرفنا الفاكهة، فما الأبُّ؟"، ثم قال: "إن هذا لهو التكلُّف يا عمر"، وثبت هذا عن عمر بإسناد صحيح. فعلى أي شيء نحمله؟
قال العلماء: يحمل على أن عمرَ أراد أن يعرفَ أيَّ نوعٍ من الأبِّ، وإلا فمعنى الأب معروف عند العرب، لا يخفى على عربيٍّ أصلًا.
فقال: "إنَّ هذا لهو التكلُّف" يعني يكفيك أن تفهم المعنى العام يا عمر وهو كلأ الأرض، دون أن تعرف شيئًا معيّنًا من هذا الكلأ.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًا﴾، أما ما رُويَ عن أبي بكر أنه لما سئل عن الأب، قال: "أي سماء تظلني، وأي أرض تُقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم"، فهذا إسناده ضعيف عن أبي بكر -رضي الله تعالى عنه-.
بعد أن بيَّن هذه الدلائل انتقل إلى ذكر يوم القيامة الذي سيقت هذه الدلائل من أجل بيان أن ذلك اليوم ممكن وحاصل ولا مشقة فيه على الله -سبحانه وتعالى- الذي خلق كل شيء، وبيده كل شيء، وأمره ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس: 82].
قال: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ﴾{من أسماء يوم القيامة}.
وقد سُميَت في القرآن بالحاقة، والطامة، والصاخة، وغيرها من الأسماء.
سميت بالصاخة
بمعنى تصخ الآذان وتصمُّها من شدة صريرها وقوَّة صوتها.
قال: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ﴾، في ذلك اليوم الذي يُسمع فيه صوت القيامة بشدة ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾، من شدة الهول يفر الإنسان من كل أحد حتى من أقرب الناس إليه.
قال: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾، فهؤلاء هم أقرب الناس إلى الإنسان، أخوك، وأمك، وأبوك، وصاحبتك، وبنوك، فأنت تفر منهم.
إذن فرارك من غيرهم من باب أولى؛ لأن هؤلاء أنت تُدلي عليهم، تقول: يا أخي، يا أبي، يا أمي، يا زوجتي، يا أولادي، نفعتكم، أعطيتكم، حبوتكم، ومع ذلك هو يفر منهم لئلا يطلبوا منه شيئًا، ولئلا يسألوه شيئًا.
قال: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾؛ أي كل واحد منهم مشغول بنفسه قد اغتنى بما عنده من الحال، فهو مذهول، ولذلك لما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أهل القيامة يأتون حفاة عراة غرلًا، قالت عائشة وهي تتخوف على عورتها،؛ لأنها امرأة عفيفة طاهرة، قالت: "يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟!". قال: «يا عائشة، الأمر أعظم من ذلك». يعني كل واحد مشغول بنفسه، ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾.
قال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ﴾؛ أي مضيئة ضاحكة؛ لأنها مقبلة على خير، مستبشرة يعني قد استبشرت به بما بشرت به من فضل الله ونعمته، ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾، قد علتها هذه الغبرة التي أظلمت وجوهها.
﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾؛ أي ظلمة وكلوح .
﴿أَوْلَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ﴾؛ أي هؤلاء أصحاب هذه الوجوه كفرة فجرة.
والفرق بين الوصفين: أن الكفر قلبي، والفجور عملي.
فجمع لهم بين الوصفين فقال: ﴿أَوْلَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ﴾.
الخوف فيكون خوفًا من شيء عامةً أن تسمع صوتًا مفزعًا تخاف، ما تدري ما هذا الصوت، هل هو صوت رعد يأتي بعده المطر، أما الخشية فتكون لمن علم؛ ولذلك جاء في الآية: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾.
ومادة خشي (الخاء والشين والياء) في اللغة العربية دائمًا تدل على الشيء الأكثر، الأبلغ أو الأقوى في المعنى، طيب.. قال: ﴿يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾، جاء ويسعى، وهو يخشى، ومع ذلك تلهيت عنه، وسمى إعراض النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه تلهيًا؛ لأنك تركت ما يليق بك مع من أقبل عليك، وذهبت إلى من أعرض عنك، وليس مستمعًا لك، ولا منتفعًا بما عندك، فسمَّاه "تلهيًا".
قال: ﴿فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾، و﴿تَلَهَّى﴾ أصله: تتلهى، لكن حذفت التاء تخفيفًا.
الدرس المستفاد هنا :
أنه عند تقديمنا للدعوة، وبذلنا للعلم وللدين، ما ننظر إلى قضية مراتب الناس الأرضية، بل من أقبل على العلم، أقبل على الدعوة، جاء إلينا، يجب علينا أن نُقدم له هذه الدعوة، وأن نمدَّ له يد العون والمساعدة، وأن نهديه سبيل الرشاد، وألا ننظر إلى أصله أو فصله أو نسبه أو غناه، أو حاله أو جاهه أو سمعته، أو أي شيء من هذه الموازين الأرضية. هذه فائدة عظيمة جدًا ينبغي أن نستفيدها من هذه الآيات.
قال الله -عز وجل-: ﴿كَلاَّ﴾، كلا هنا قلنا بالأمس أنها تأتي بمعنيين:
- إما أن تكون بمعنى الردع والزجر.
- وقد يعبر عنها بعض العلماء كابن جرير الطبري -رحمه الله-: (ليس الأمر كذلك)، كتعبير أخف من كلمة الردع والزجر.
- وإما أن تكون بمعنى: حقًّا.
تكون بمعنى "حقًّا" إذا لم يسبقها كلام يُردُّ عليه، وتكون بمعنى الردع والزجر أو النفي إذا كان قبلها كلام يُنفى، أو كلام يُرد على صاحبه.
هنا قوله: ﴿كَلاَّ﴾ يُراد بها: رد هذا الأمر، يعني ليس الأمر كما فعلت، أو تحتمل أن تكون بمعنى "حقًّا" لتكون متصلة بما بعدها، حقًّا إنها تذكرة.
طيب.. ﴿إِنَّهَا﴾يعود على الآيات السابقة أو القصة، هذه القصةُ تذكرةٌ وعظةٌ لك يا محمد ولأمتِك من بَعدِك.
﴿فَمَن شَاء ذَكَرَهُ﴾، إما أن يكون الضميرُ هنا عائدًا على الله، فمن شاء ذكر الله، وإما أن يكون عائدًا على القرآن الذي منه تلك القصة، أو منه تلك الآيات. وهذا أَوْلَى، أن يعود على القرآن؛ لأن الحديث بعد هذه الآية هو عن القرآن.
قال الله -عز وجل-: ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ﴾، أي هذا موضوع في صحف مكرمة قد أعلى الله شأنها وكرَّمها.
﴿مَّرْفُوعَةٍ﴾؛ أي قد رفعت رفعًا حسيًّا، ورفعًا معنويًّا، ولذلك يستفيد العلماء من هذا أن كتاب الله ينبغي أن يكون دائمًا مرفوعًا. عندما يكون مع الكتب يُرفَع، لما يكون في الأدراج، يوضع في الرف الأرفع تقديرًا له وتعظيمًا، كما أنه في اللوح المحفوظ -أيضًا- مرفوع فوق كل كلام، وكل شيء موجود في ذلك اللوح.
﴿مُّطَهَّرَةٍ﴾؛ أي لا يصيبها شيء من الدنس، ولا يصيبها شيء من الزيادة أو النقص أو التحريف أو التبديل أو التغيير.
ثم ذكر مَن الذي يَلُونَ هذه الصحف المكرمة، قال: ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾، {الملائكة}.
الملائكة، هذا قول جمهور المفسرين؛ لأن هذا الوصف قد جاء بهذه الصورة للملائكة في الحديث النبوي، قال: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران».
وقال بعض العلماء: إن السفرة هم أصحاب رسول الله، أو كُـتَّاب الوحي.
والظاهر: هو الأول، لمجيء هذا الحديث الذي يدل على ذلك، وأيضًا لأن المؤمنين إذا وصفوا في القرآن لا يوصفون بقوله: ﴿بَرَرَةٍ﴾، وإنما يوصفون بماذا؟ الأبرار. أما البررة فهي خاصة بالملائكة.
قال الله -عز وجل-: ﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ﴾، سُمي الملائكة سفرةً؛ لأنهم يقومون بالسفارة بين اللهِ وبين خَلْقه، فكل الأعمالِ تُوكَل إلى الملائكةِ حتى قبض الأرواحِ، والنزول بالوحيِ، الذي ينزل به الملائكة، ورفع الأعمال إلى الله -عز وجل-، الذي يرفعها ويقوم بذلك هم الملائكة، فسُموا من أجل ذلك "سَفَرَة".
قال: ﴿كِرَامٍ﴾، سُموا كرامًا أو وصفوا بأنهم كِرامٌ؛ لأن الكريم في لغة العرب هو الشريف في جنسه؛ أي شيء شريف في جنسه يسمى كريمًا، حتى الأحجار منها كريمة وغير كريمة، إذا كانت شريفة في جنسها عالية القدر قيل: كرام، وقيل: هذه أحجار كريمة، فالملائكة لكرمِهم، وعِظم منزلتِهم، ونفاستِهم في مخلوقاتِ ربهم -سبحانه وتعالى- قيل: كرام؛ لأنهم لا يَعصون الله ما أَمَرَهم ويفعلون ما يؤمرون.
﴿بَرَرَةٍ﴾؛ أي كثير البر والإحسان وفعل الخير، فالبر مأخوذ من السعة، ولذلك يُقال للبادية أو يقال لغير المدن: بر لأنها متسعة.
وكذلك من يُكثر من فعل الخير يقال له: برٌّ، ويقال لهم: أبرار؛ لأنهم يتوسعون في فعل الخير.
بعد أن انتهى من هذا بدأ في ذكر أمر وهو: كيف أن الإنسان يجحد هذا الخير، ويكفر به من دون حجة ولا برهان، فقال: {قُتِلَ الإِنسَانُ}، طبعًا الإنسان هنا لا يمكن أن يحمل على جنس الناس، وإنما يُراد به الكافر، ونستدل على ذلك بأن هذه الآيات آيات مكيَّة، وغالب ما يرد من وصف الإنسان في الآيات المكيَّة إنما يراد به الكافر، ﴿بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ [القيامة: 14]، ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ﴾ [الإنسان: 1]، إذا ذُكر الإنسان في الغالب يراد به: الإنسان الكافر، وليس هذا شيئًا لازمًا، ولكنه يختلف باختلاف السياق.
قوله: ﴿قُتِلَ﴾، العلماء يقولون: ﴿قُتِلَ﴾ دعاء عليه بالقتلِ، وهي بمعنى: لُعن عند كثير من المفسرين.
﴿قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾، "ما" هذه إما أن تكون نافية أو تكون استفهامية.
وهنا: ﴿مَا أَكْفَرَهُ﴾، "ما"
﴿قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾، "ما" هنا تعجبية، يعني: عجبًا له كيف يكفر؟
والتعجب هنا أليق بالسياق، ما أكفره يعني ما أشد كفره! وبالفعل، الإنسان إذا كفر لا شيء من المخلوقات يمكن أن يزيد عليه في الكفر.
قال الله -عز وجل-: ﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾، يبين الله حقيقة هذا الإنسان الذي كفر، وأنه ضعيف، وأن إمكاناته محدودة، وأنه محتاج إلى الله، ومع ذلك يكفر ويستعلي ويكذب بالله وبرسله، ويرد آيات الله -سبحانه وتعالى-.
قال: ﴿مِن نُّطْفَةٍ﴾، هذا الإنسان مخلوق من نطفة، والنطفة هي: الماء القليل، وهو هذا الماء الذي خلق منه الإنسان، وهو ماء قليل، قذر، خُلق الإنسان منه، فما الذي جعله يتكبر!
﴿مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾، جاء بالفاء ليدل على أن النطفة من حين ما تقع في الرحم يبدأ عملية التقدير، الفاء هنا للدلالة على الترتيب والتعقيب.
قال: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾، جاء بـ "ثم"؛ لأن بين التقدير وبين الخروج من بطن الأم فترةً زمنيةً تستحقُّ "ثم" الدالة على التراخي.
السبيل: اسم لأكثر من معنى، يمكن أن يكون طريق الخير والشر، ويمكن أن يكون طريق الخروج، ويمكن أن يكون الطريق العام، ولأجل ذلك اختلف العلماء في قوله: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾، هل معناها:
يسر له طريق الخير والشر؟ فالإنسان يرى من نفسه الآن طريق الخير والشر أمامه مفتوحان يفعل ما يشاء.
ويمكن أن يكون: ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾، ثم طريق خروجه من بطن أمه يسره.
{يظهر من السياق أن الراجح من أقوال المفسرين أن الله -عز وجل- يسر طريق خروجه من بطن أمه}.
لماذا؟
{لأنه ذكر قبل ذلك النطفة}.
هل هناك مانع من أن تحتمل الآية المعنيين؟
{ليس ثمة أي مانع، ليس ثمة تعارض بينهما}.
كِلا القولين مقبول، لكن أليقهما بالسياق، ولذلك نجد الشوكاني -رحمه الله- في تفسيره يعبر دائمًا بعبارة: والأول أَوْلَى.
لماذا يقول: أولى؟ لأن القول الثاني لا يمكن نفيه، الآية تحتمله و تستوعبه، فهذا القول صحيح وهذا القول صحيح، لكن أليقهما بالسياق وبالدلائل التي تحف هذا المعنى هو القول الأول، ﴿ثُمَّ السَّبِيلَ﴾؛ أي طريق خروجه من بطن أمه ﴿يَسَّرَهُ﴾.
﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ﴾؛ لأن بين خروجه من بطن أمه وموته في العادة وقتًا طويلًا، عشرًا، أو عشرين، أو ثلاثين، أو ستين سنة.
﴿أَمَاتَهُ﴾؛ أي قدر عليه الموت.
﴿فَأَقْبَرَهُ﴾، لماذا عبر بعد الموت بالفاء، قال: ﴿فَأَقْبَرَهُ﴾؟
لُيبين أن الإقبار يكون بعد الموت مباشرة، ولهذا ممكن نأخذ من هذه حكمًا شرعيًّا وهو استحباب الإسراع بدفن الميت وتجهيزه بعد موته، وعدم التأخر بذلك كما يفعل الناس في هذا الزمان.
قال: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾، أقبره ليس معناها قَبَرَه؛ لأن الله لا يقبر الناس، وإنما أقبره: هيأ له مكانًا يُقبر فيه، ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾.
قال: ﴿ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ﴾، لما كان ما بين القبر والنشر وقت طويل لا يعلمه إلا الله -سبحانه وتعالى- جاء بـ " ثُمَّ "، وهذا يدلنا على أن القرآن لا يمكن أن يضع حرفًا أو كلمة إلا في مكانها،
نلاحظ هنا "فاء""ثُمَّ" ما جاءت هكذا عبثًا، جاء كل واحد منها في مكانه، كان بالإمكان أن يسوِّي فيقول: "خلقه من نطفة ثم قدره ثم السبيل يسره ثم أماته ثم أقبره ثم إذا شاء أنشره"، ويكون المعنى المراد به التعاطف.
لكن الآيات تأتي مرة بهذا، ومرة بهذا، ومرة بهذا، وفي الآية الواحدة قد نجد الاثنين، "ثم" و"الفاء"، ليبين لنا أن كل حرف استُعمل في مكانه، وهكذا سائر القرآن.
قال الله -عز وجل-: ﴿كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾، ﴿كَلاَّ﴾ ردع لهذا الإنسان الكافر، ﴿لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾ يعني لم يفعل ما أمر به.
قال مجاهد: "يعني ما من أحدٍ يمكن أن يفعلَ كل ما أُمرَ به، بل لا بد أن يُقصِّر الإنسان، وهذا من طبع الإنسان؛ «كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون»".
قال الله -عز وجل-: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾، هنا بعدما انتهى من ذكر كفر الإنسان بالرسالة التي أوحيت إليه وأنزلت عليه، انتقل إلى ذكر دلائل القدرة، وأيضًا دلائل النعمة، نعمة الله على عبده التي تدعوه إلى أن يدع هذا الكفر، وأيضًا دلائل القدرة التي تدل الإنسان على أن الله قادر على الشيء الذي ينكره الإنسان، وهو البعث بعد الموت؛ لأن هذه قضية من أهم قضايا جزء عمَّ.
قال الله -عز وجل-: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾، يعني لينظر كل واحد منكم أيها الناس إلى هذا الطعام الذي بين يديه، من أين هو؟ ما دورك في هذا الطعام الذي عندك؟ هل أنت صنعته وكوَّنته؟ هل أنت أخرجته وفعلت به هذه الصفة التي هو عليها؟ وضعت فيه هذا الطعْم الذي هو فيه؟ لا إنما أنت فعلت شيئًا أمرك الله به، وليس هو في الحقيقة هو المؤثرَ، بل التأثير كله من قِبل الله.
قال: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا﴾، نحن أنزلنا الماء مصبوبًا من السماء، ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا﴾، شققنا الأرض بالنبات، تكون البذرة داخل جوف الأرض، ثم ما تزال -بضعفها- تقاوم وتدخل تدخل حتى تخرج على ظهر الأرض، ﴿ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا﴾، بدأ بالحب كما في سورة عمَّ.
قال في سورة عمَّ: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًا﴾ [النبأ 14، 15]، وبدأ بالحَبِّ{لشدة حاجة الناس للحَبِّ قبل النبات}.
لأن به أقواتهم، فقوتنا بهذا الحب، يستطيع الانسان أن يستغنيَ عن الخس والكراث، والجزر، والبرتقال، والتفاح، لكن يشق علينا أن نستغني عن القمح، والأرز، والذرة، والدخن، وغيرها من الحبوب التي هي أقوات لبني آدم.
قال: ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًا * وَعِنَبًا﴾، ذكر العنب، لأنه من أحسن الفواكه وأعظمها أثرًا على صحة الإنسان، وأكثرها لذة، وأكثرها أيضًا سهولة في جنيه وفي أكله، فكروم العنب عندما تأتي إليها تقطفها هكذا ثم تضعها في فمك مباشرة، وتجد حلاوتها من أيسر ما يكون، وطعمها من ألذِّ ما يكون، ومضغها واستساغتها من أيسر ما يكون.
فالله -عز وجل- يُبين كيف أن الله يسر لنا هذه النعمة، وهيَّأ لنا هذا الطعام، فما الذي يدعوك أيها الانسان إلى الكفر؟ ما الذي يجعلك تستكبر وتستعلي؟
قال الله -عز وجل-: ﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا﴾، ﴿وَقَضْبًا﴾ العلماء يقولون: القضْب هو ما يُقضَب يعني يُقطَع، فكل النباتات التي تُقطَع ثم تعود تسمى قضبًا، فمنه مثلًا: الخس، والكراث، والقت الذي يُوضع للبهائمِ يُسمى القت أيضًاكله من القضب.
كلمة "قضب" معروفة في العربية بمعنى القطع، «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يرى شيئًا فيه تصليب إلا قضبه». يعني ما يرى مكانًا فيه صليب ظاهر إلا قطع ذلك الصليب؛ لأنه شعار النصارى.
﴿وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا﴾، الزيتون معروف، سواء الزيتون في حَبِّه، أو الزيتون فيما يُعصَر منه ويخرج من زيت.
﴿وَنَخْلًا﴾، هذه النخلة المعروفة التي فيها هذه الثمرة العجيبة، التي تجمع بين خمسة أشياء: فهي حلوى، وغذاء، وقوت، وفاكهة، ودواء. وهذا قلَّ أن يجتمع في شيء من النبات، إما أن تجد النبات طعامًا مثلًا، وإما أن يكون دواء، وإما أن يكون غذاءً، وإما أن يكون قوتًا.
أما التمرة أو ما يخرجُ من النخلة؛ فهو يجمع هذه الخمسة أشياء، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتحدث عن أثر هذه التمرة يقول: «بيت ليس فيه تمر أهله جياع»؛ لأن التمرة تغني عن كثير من حاجات الإنسان، أو عن كل حاجات الإنسان إلا ما ندر.
قال: ﴿وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا﴾، الحدائق: جمع حديقة، والحديقة عند العرب هي ما يُحدق بالشيءِ، يَعني يطيف به ويُحوِّط عليه، فتُسمى حديقة، فالحديقةُ عن العرب هي: ما أُحدِقَ عليه بشجرٍ أو شيء يحوطه.
﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا﴾؛ أي وأشجار غُلب، يقول العلماء: الغُلب: هي ذات الجذوع العريضة، والأفنان الملتفة، تسمى غلب، يعني الأشجار العظيمة.
﴿وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً﴾، هذا يدخل فيه جميع ما يَتفكَّه به الإنسان، برتقال، والموز، والتفاح، وغيرها.
﴿وَأَبًّا﴾ ، قال العلماء: الأبُّ هو ما تنبته الأرض من الكلأ مما ترعاه البهائم، وقد ورد عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "قد عرفنا الفاكهة، فما الأبُّ؟"، ثم قال: "إن هذا لهو التكلُّف يا عمر"، وثبت هذا عن عمر بإسناد صحيح. فعلى أي شيء نحمله؟
قال العلماء: يحمل على أن عمرَ أراد أن يعرفَ أيَّ نوعٍ من الأبِّ، وإلا فمعنى الأب معروف عند العرب، لا يخفى على عربيٍّ أصلًا.
فقال: "إنَّ هذا لهو التكلُّف" يعني يكفيك أن تفهم المعنى العام يا عمر وهو كلأ الأرض، دون أن تعرف شيئًا معيّنًا من هذا الكلأ.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًا﴾، أما ما رُويَ عن أبي بكر أنه لما سئل عن الأب، قال: "أي سماء تظلني، وأي أرض تُقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم"، فهذا إسناده ضعيف عن أبي بكر -رضي الله تعالى عنه-.
بعد أن بيَّن هذه الدلائل انتقل إلى ذكر يوم القيامة الذي سيقت هذه الدلائل من أجل بيان أن ذلك اليوم ممكن وحاصل ولا مشقة فيه على الله -سبحانه وتعالى- الذي خلق كل شيء، وبيده كل شيء، وأمره ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس: 82].
قال: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ﴾{من أسماء يوم القيامة}.
وقد سُميَت في القرآن بالحاقة، والطامة، والصاخة، وغيرها من الأسماء.
سميت بالصاخة
بمعنى تصخ الآذان وتصمُّها من شدة صريرها وقوَّة صوتها.
قال: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ﴾، في ذلك اليوم الذي يُسمع فيه صوت القيامة بشدة ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾، من شدة الهول يفر الإنسان من كل أحد حتى من أقرب الناس إليه.
قال: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾، فهؤلاء هم أقرب الناس إلى الإنسان، أخوك، وأمك، وأبوك، وصاحبتك، وبنوك، فأنت تفر منهم.
إذن فرارك من غيرهم من باب أولى؛ لأن هؤلاء أنت تُدلي عليهم، تقول: يا أخي، يا أبي، يا أمي، يا زوجتي، يا أولادي، نفعتكم، أعطيتكم، حبوتكم، ومع ذلك هو يفر منهم لئلا يطلبوا منه شيئًا، ولئلا يسألوه شيئًا.
قال: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾؛ أي كل واحد منهم مشغول بنفسه قد اغتنى بما عنده من الحال، فهو مذهول، ولذلك لما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أهل القيامة يأتون حفاة عراة غرلًا، قالت عائشة وهي تتخوف على عورتها،؛ لأنها امرأة عفيفة طاهرة، قالت: "يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟!". قال: «يا عائشة، الأمر أعظم من ذلك». يعني كل واحد مشغول بنفسه، ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾.
قال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ﴾؛ أي مضيئة ضاحكة؛ لأنها مقبلة على خير، مستبشرة يعني قد استبشرت به بما بشرت به من فضل الله ونعمته، ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾، قد علتها هذه الغبرة التي أظلمت وجوهها.
﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾؛ أي ظلمة وكلوح .
﴿أَوْلَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ﴾؛ أي هؤلاء أصحاب هذه الوجوه كفرة فجرة.
والفرق بين الوصفين: أن الكفر قلبي، والفجور عملي.
فجمع لهم بين الوصفين فقال: ﴿أَوْلَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ﴾.
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع