ترجمة الشيخ عبد السلام بن مشيش

طباعة الموضوع

فجر الدعوة

احسن الله خاتمتها
إنضم
4 أكتوبر 2010
المشاركات
1,324
النقاط
36
الإقامة
المغرب
احفظ من كتاب الله
10اجزاء
احب القراءة برواية
حفص
القارئ المفضل
الحذيفي
الجنس
أخ
ترجمة الشيخ عبد السلام بن مشيش :



إعداد الدكتور بدر العمراني




بسم الله الرحمن الرحيم



كم نصاب باليأس عندما نلج باب الترجمة ، و كم نحس بالضيق إذا هممنا بالتعريف بشخصية مغربية ، و السبب في ذلك قلة المراجع و المصادر ، و ضحالة المادة المودعة في تلك الدفاتر، كل هذا لخصه الشيخ العربي الفاسي في كتابه مرآة المحاسن بقوله : و وسموا المغاربة بالإهمال ، ودفنهم فضلاءهم في قبري تراب و إخمال ، فكم فيهم من فاضل نبيه ، طَوَى ذِكْرَهُ عدم التنبيه ، فصار اسمه مهجورا، كأن لم يكن شيئا مذكورا[1] .

و لهذا القول أمثلة تصدقه و تدعمه ، من ذلك :

- أبو الربيع سليمان ابن سبع السبتي صاحب شفاء الصدور في السيرة النبوية (من أهل القرن الخامس الهجري) .

- أبو الفضل السجلماسي (من أهل القرن السابع الهجري) ، صاحب كتاب تحصيل ثلج اليقين ، بحل معقدات التلقين .

- علي بن محمد بن علي بن باق صاحب زهرة الروض في تلخيص تقدير الفرض (عاصر أواخر القرن السابع و بداية القرن الثامن الهجريين)[2] .

- محمد بن أحمد بن يعلى الشريف الحسني(من أهل القرن الثامن هـ) أول شارح للأجرومية .

- قاسم بن محمد أبي البركات بن أحمد بن عبد الملك بن مخلص (من أهل القرن الثامن الهجري) شارح الشمائل النبوية .

- أحمد بن عبد الله بن أحمد ، أبو العباس و أبو جعفر الأنصاري الشهير بالبقني (من أهل القرن التاسع الهجري) شارح البردة .

- عبد الكريم بن محمد القيسي البسطي (توفي في منتصف القرن التاسع الهجري) .



و أبرز مثال صادق عدا هؤلاء : الشيخ العارف العابد الزاهد مولاي عبد السلام بن مشيش الذي طبقت شهرته الآفاق ، على مدى الدهور و العصور ، دون أن توجد له ترجمة علمية شاملة لمراحل حياته ، ومستوعبة لأخباره و سيرته ، و لأجل هذا حاولت استكناه المصادر التاريخية الأولى خلال القرون الثلاثة الموالية لعصره ، ثم تحليل مادتها الترجمية ، مع تسليط الضوء على بعض الإشكالات المطروحة . و كل هذا حاولت تقريبه في هذا العرض عبر محورين اثنين و خاتمة . و الله الموفق للخير و الهادي إليه .





المحور الأول : مصادر الترجمة و مادتها :

1- لطائف المنن في مناقب أبي العباس المرسي و شيخه أبي الحسن ؛ للشيخ أحمد ابن عطاء الله السكندري (ت 709 هـ) . الكتاب مطبوع[3] و متداول بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود.

و صاحب الكتاب تلميذ تلميذ (أبي العباس المرسي) تلميذ (أبي الحسن الشاذلي) الشيخ مولاي عبد السلام بن مشيش ، و لما عرف بأبي الحسن الشاذلي ، لم يعرف بشيخه و إنما ذكره عرضا ، في موضعين ، هما :

قال في الباب الأول المفرد للتعريف بالشيخ أبي الحسن : و طريقته رضي الله عنه تنتسب إلى الشيخ عبد السلام بن مشيش ، و الشيخ عبد السلام ينتسب إلى الشيخ عبد الرحمن المدني ، ثم واحد عن واحد إلى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه[4] .

و قال عند ذكر مجربات و مكاشفات شيخه أبي العباس المرسي : قال رضي الله عنه : طالعت مقام الرحمة فإذا قائل يقول لي : و الله ليكونن من رحمة الله يوم القيامة ما ينال منها ابن أبي الطواجن ، و كان ابن أبي الطواجن هذا قد قتل الشيخ القطب عبد السلام بن مشيش شيخ الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنهما[5] .

2- سبك المقال لفك العقال للشيخ عبد الواحد محمد ابن الطواح التونسي (ت بعد 718 هـ).

و هذا الكتاب أفرده صاحبه للتعريف بمجموعة من الأعلام و العلماء من القرنين السابع و الثامن الهجريين[6] ، و كان من بينهم الشيخ أبو الحسن علي الشاذلي الذي لا يذكر إلا مقرونا بشيخه مولاي عبد السلام بن مشيش ؛ حيث قال عنه أثناء سرد ترجمة تلميذه :

كثيرا ما يحكي عن جده سندا و كشفا ، و ذوقا و وصفا ، شيخه الإمام العارف المسلك ، الولي الذائق الأوحد ، المجتهد المحقق ، السُّني السَّني : أبو محمد عبد السلام بن مشيش –رضي الله عنه- عند عزمه على التوجه من المَغرب ، الذي طلع به سنا بدره المُغرب ، أوصاه ، و قال له : يا علي ، الله الله ، و الناس الناس ، نزه لسانك عن ذكرهم ، و قلبك عن التماثيل من قبلهم ، وعليك بحفظ الجوارح ، و أداء الفرائض ، و قد تمت ولاية الله عليك ، و لا تذكرهم إلا بواجب حق الله عليك ، و قل : اللهم اغنني بخيرك عن خيرهم ، و قني شرهم ، و تولني بالخصوصية من بينهم ، إنك على كل شيء قدير[7] .

و هذا أسنده أبو جعفر أحمد الوادآشي في ثبته قال : قال أبو القاسم الفهري : و أوصيتهم –أي: أبو جعفر أحمد و أخواه- بما حدثني به شيخي أبو إسحاق البدوي رضي الله عنه إجازة و إذنا ، قال : حدثني الفقيه الحافظ المصنف الخطيب المحدث أبو زكريا يحيى بن محمد بن عبد الرحمن بن منصور الأصبحي كتابة ، قال : حدثني الشيخ أبو الحسن محمد البطرني قال : حدثني الشيخ الصوفي ماضي بن سلطان إجازة ، قال : حدثني شيخي الولي القطب و الشريف الشهير أبو الحسن علي المعروف بالشاذلي رضي الله عنه ، قال : قلت لشيخي عبد السلام بن مشيش : أوصني ، فقال : يا علي ، الله الله …[8]

3- مرآة الجنان و عبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان للشيخ عفيف الدين عبد الله بن أسعد بن علي اليافعي (768 هـ) . وهو : كتاب ملخص اقتصر فيه على معرفة المهم ، وأخذ تراجم الأعيان من ( وفيات ابن خلكان ) ، وشيئا من ( تاريخ ابن سمرة ) ، وأطنب في ذكر الصوفيين بحيث التزم (الجواب ) للذهبي . و مما جاء فيه :

قال الشيخ الإمام العارف بالله تاج الدين بن عطاء الله : قيل للشيخ أبي الحسن : من هو شيخك يا سيدي ؟ فقال : كنت أنتسب إلى الشيخ عبد السلام بن مشيش . بالشين المعجمة المكررة وبينهما مثناة من تحت ، وفتح الميم في أوله، ثم قال : وأنا الآن لا أنتسب لأحد بل أعوم في عشرة أبحر. خمسة من الآدميين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وخمسة من الروحانيين جبرائيل وميكايل، وعزرائيل، وإسرافيل،والروح[9].



4- التعريف بأبي الحسن الشاذلي للشيخ عبد النور بن محمد العمراني (ت خلال ق 8 هـ) .

هذا الكتاب وضعه صاحبه للتعريف بالشيخ الإمام أبي الحسن علي الشاذلي ، و هو لا يزال مخطوطا ، منه نسخة محفوظة بخزانة علال الفاسي بالرباط تحت رقم : 633ع . يتكون من مقدمة ، و ستة أبواب : الباب الأول في معرفة نسبه و ابتداء أمره و معرفة انتفاعه بشيخه ولي الله تعالى أبي محمد عبد السلام بن مشيش بجبل العلام ، و ذكر أشياء من كلام سيدي أبي محمد عبد السلام المذكور . الباب الثاني في ظهوره بإفريقية و ما ظهر له بها من الكرامات و بعض ما صدر عنه من مقالاته الدالة على ما ترقت إليه أحواله في نهاياته . الباب الثالث : في ذكر شيء من كلامه المنبئ بأعلا مقامه . الباب الرابع في ذكر رسائل كتب بها إلى بعض أصحابه أو جاوب بها بعض الأولياء ممن كتب إليه من إخوانه . الباب الخامس : في أوراده و أحزابه و شيء من أذكاره و أدعيته . الباب السادس في ذكر فضائل بعض أصحابه .

و أما ما يتعلق بالشيخ عبد السلام في هذا الكتاب فمضمن في الباب الأول ، و إليك نصه ، قال:

قال الشيخ أبو العباس : قال لي سيدي أبو عبد الله بن سلطان رضي الله عنه : قال سيدي أبو الحسن: كنت في ابتداء أمري أُدَبِّر ما أصنع من الطاعات و أنواع الموافقات ، فتارة أقول : الزم البرارري والقفار ، و تارة أقول : ارجع إلى المنازل و الديار ، لصحبة العلماء و الأخيار، فوصف لي ولي من أولياء الله تعالى بجبل بمقربة من سبتة ، يعرف الجبل باعْلام ، ويعرف الولي بأبي محمد عبد السلام بن مشيش من الشرفاء الساكنين بالجبل المذكور ، فسرت إليه و وصعدت إليه ليلا، فكرهت أن أدخل إليه في ذلك الوقت ، فسمعته و هو يقول في مناجاته: اللهم إن قوما سألك أن تسخر لهم خلقك ، فأعطيتهم ذلك ، فرضوا منك بذلك ، اللهم إني أسألك اعوجاج خلقك علي حتى لا يكون ملجأ إلا إليك . فقلت : يا نفسي ، انظري من أي بحر يغترف هذا الشيخ ، فلما أصبح دخلت عليه ، فقلت: يا سيدي ، كيف حالك ؟ فقال : أشكو إلى الله تعالى من برد الرضى والتسليم ، كما تشكو أنت من حر التدبير والاختيار. فقلت : يا سيدي ، أما شكواي من حر التدبير و الاختيار فقد ذقته ، و أنا الآن فيه ، و أما شكواي من برد الرضا و التسليم فلم أفهمه ، فقال لي : يا بني أخاف أن تشغلني حلاوتهما عن الله تعالى[10] ، فقلت : يا سيدي ، سمعتك البارحة تقول في مناجاتك: اللهم إن قوما ، الكلام المتقدم إلى آخره . قال : فتبسم ثم قال : يا بني ، إذا أردت أن تقول : يارب سَخِّرْ لِي خلقك، فقل : يا رب ، كن لي ، إذا كان لك يفوتك شيء !؟ … وبالسند المذكور : قال : قلت يوما بين يدي سيدي أبي محمد عبد السلام المذكور : اللهم اغفر لي يوم لقائك، فقال لي : هو أقرب إليك من ليلك و نهارك ، و لكن الظلم أوجب الضلال ، و سبق القضا حكم بالزوال عن درجة الأنس ، و بيان منازل الوصال و المظالم يوم لا يرتاب فيه و لا يحتال ، و السابق قد وصل في الحال ، أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [مريم :38] .

و بالسند المذكور قال سيدي أبو الحسن : سألت سيدي أبا محمد المذكور يوما عن قول النبي صلى الله عليه و سلم : المومن لا يذل نفسه[11] . فقال لي : يا علي ، لِهَواه ، و لكن يذلهما لمولاه ، قال: وقلت له يوما : يا سيدي ، أوصني ، فقال لي : يا علي ، ليكن هروبك من خير الناس أكثر من هروبك من شرهم ؛ لأن خيرهم يصيبك في قلبك ، و شرهم يصيبك في بدنك ، و لأن تصاب في بدنك خير من أن تصاب في قلبك .

قال الشيخ أبو العباس : يعني أن خيرهم إذا أصابه ركن إليهم بقلبه فتأذى بذلك في دينه ، و إذا أصابه شرهم هرب منهم إلى الله تعالى فسلم دينه .

قال سيدي أبو الحسن : و رأيته ليلة في منامي و هو واقف مع قائمة من قوائم العرش ، فقال لي : يا علي، لم ترني، إنما رأيت مقامك الذي ورثته مني ، يا علي ، من يكن مع الله تعالى بلا أين يرى . قال : و قال لي : يا علي ، أنت تنزل إفريقية ، و تنزل بها بلدا و تسمى بها ، فقلت له : يا سيدي أوصني ، فقال لي : يا علي ، الله الله ، و الناس الناس ، نزه لسانك عن ذكرهم ، و قلبك عن التماثيل من قبلهم ، وعليك بحفظ الجوارح ، و أداء الفرائض ، و قد تمت ولاية الله عليك ، و لا تذكرهم إلا بواجب حق الله عليك ، و قل : اللهم اغنني بخيرك عن خيرهم ، و قني شرهم ، و تولني بالخصوصية من بينهم، إنك على كل شيء قدير.

و قال : و أوصاني يوما أن خف من الله خوفا تأمن به من كل شيء ، و احذر قلبك أن يأمن من الله في كل شيء ، فلا معنى للخوف من شيء و لا للأمن من الله تعالى في شيء وحده ، انظر ببصر إيمانك تجد الله في كل شيء ، و عند كل شيء ، و مع كل شيء ، و تحت كل شيء ، و فوق كل شيء ، و قريبا من كل شيء ، و محيطا بكل شيء ، بقرب هو وصفه و بإحاطة هي نعته ، و عد عن الظرفية و الحدود ، و عن الأماكن و الجهات ، و عن الصحبة و القرب في المسافات ، و عن الدور بالمخلوقات ، و امحق الكل بوصفه : الأول و الآخر و الظاهر و الباطن ، و هو هو هو كان الله و لا شيء معه ، و هو الآن على ما عليه كان . و صلى على سيدنا محمد و آله و سلم تسليما[12] .



5- مناقب أبي يعقوب الزهيلي البادسي (ت 734 هـ) للقاضي أبي محمد عبد الله بن محمد الأوربي (ت 782 هـ) . هذا كتاب في مناقب أكبر الأولياء و آخرهم بالمغرب حسب شهادة ابن خلدون ، و حسب شهادة لسان الدين ابن الخطيب كما في نفاضة الجراب : ولي الله تعالى ، الإمام الكبير ، و العارف الشهير ، أبي يعقوب يوسف بن محمد الزهيلي رحمه الله ، جمعها قاضي الجماعة بفاس العلامة المفتي عبد الله بن محمد الأَوَرْبي . و الكتاب منشور ضمن الجزء الأول[13] للأستاذ أحمد البوعياشي حرب الريف التحررية و مراحل النضال .

و الكتاب تضمن بعض الاستطرادات ، منها كلامه عن الشيخ عبد السلام بن مشيش حكاية عن تلميذه أبي الحسن ، قال : قال الشيخ أبو الحسن عن شيخه سيدي عبد السلام بن مشيش : سلك الشيخ سيدي عبد السلام الطريق و هو ابن سبع سنين ، و ظهر له من الكشف أمثال الجبال ، ثم خرج إلى السياحة ، و أقام بها ستة عشر سنة ، قال : فدخل عليه يوما شيخ في مغارته ، فقال له : من أنت ؟ فقال له : أنا شيخك ، قد كنت ابن سبع سنين ، و كل ما كان يصلك من المنازلات فهو مني ، و هي كذا و كذا ، فحدثه بجميع ما جرى له من الأحوال ، وكان سكناه بالمدينة على ساكنها السلام ، و كان يجيء إليه و يعلمه و يفيده ، فقلت له : يا سيدي ، كان يأتيك طيا أو سفرا ، قال : في ساعة يأتي و يروح ، فقلت له : يا سيدي كنت أنت تروح إليه ، قال : نعم[14] .

6- شرح الصلاة المشيشية[15] للشيخ محمد بن أحمد بن محمد بن داود التونسي المعروف بابن زغدان أو زغران (ت 882 هـ)[16]



هذا كل ما ذكر عن الشيخ عبد السلام ابن مشيش –حسب علمي- في الكتب و المصادر خلال القرون الثلاثة : السابع و الثامن و التاسع من التاريخ الهجري . و للأسف العلامة المؤرخ عبد الرحمن ابن خلدون الحضرمي (ت 808 هـ) ، لم يعرج على ذكره في تاريخه المسمى : كتاب العبر ، وديوان المبتدإ و الخبر ، في أيام العرب والعجم والبربر ، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر . مع العلم أنه تحدث عن قبيلة غمارة و ما دار فيها من الفتن ، و ذكر مقتل ابن أبي الطواجن بها ، دون أن يذكر ما وقع له قبيل ذلك مع الشيخ عبد السلام بن مشيش ، قال : ولما فشل أمر بني عبد المؤمن وذهب ريحه وكثر الثوار بالقاصية ثار فيهم محمد بن محمد الكتامي سنة خمس وعشرين ، كان أبوه من قصر كتامة منقبضا عن الناس ، وكان ينتحل الكيميا ، وتلقنه عنه ابنه محمد هذا ، وكان يلقب أبا الطواجن ، فارتحل إلى سبتة ، ونزل على بني سعيد ، وادعى صناعة الكيميا ، فاتبعه الغوغاء ، ثم ادعى النبوة ، وشرع شرائع ، وأظهر أنواعا من الشعبذة ، فكثر تابعه ، ثم اطلعوا على خبثه ، ونبذوا إليه عهده ، وزحفت عساكر سبتة إليه ، ففر عنها ، وقتله بعض البرابرة غيلة ، ثم غلب بنو مرين على بسائط المغرب وأمصاره سنة أربعين وستمائة ، واستولوا على كرسي الأمر بمراكش سنة ثمان وستين[17] .

المحور الثاني : مادة الترجمة و مضمونها : تحليل و نقد

1- مادة الترجمة :

أولا ما معنى الترجمة لغة و اصطلاحا ، و ما هي أصنافها ؟

لغة : قال ابن منظور[18] : الترجمان هو الذي يترجم الكلام ؛ أي : ينقله من لغة إلى أخرى ، والجمع: تراجم .

اصطلاحا : ترجم للمسألة عنون لها ، و من ثم يقال : تراجم الإمام البخاري ؛ أي : عناوين المسائل، أما ترجم للشخص فتعني عرفه و ذكر سيرته ، و من ثم يقال : تراجم الأشخاص ؛ أي : سِيَرَهُمْ ، وكتب التراجم ؛ أي : كتب السِّيَر ، و لذلك سمى الذهبي كتابه الفذ في التاريخ: سير أعلام النبلاء، ومنه سيرة النبي صلى الله عليه و سلم[19] .

و هذا الفن أولاه العلماء عموما ، و المؤرخون و النسابون و المحدثون خصوصا ، عناية تستحق الاحتفال و التنويه ؛ حيث ألفوا التآليف في صنف من العلماء و غيرهم ، يجمعهم وصف خلقي ، أو علمي، أو مكاني ، أو غير ذلك .

أما فيمن جمعهم الوصف العلمي ؛ فألفوا طبقات المفسرين ، و القراء ، والمحدثين ، و الثقات ، والمجروحين ، و القضاة ، و المفتين ، و الفقهاء ، والأصوليين ، و المؤرخين، و المتكلمين ، والنحويين، و اللغويين ، والبلاغيين ، و الأدباء ، و الشعراء ، والخطاطين ، و سواهم ، و الكتب المؤلفة في هذا الوجه كثيرة لا تحصى .

و أما فيمن جمعهم وصف مكاني ، فألفوا في تاريخ البلدان ، و ذكروا في تاريخ كل بلد من نشأ بها ، أو انتقل إليها و توطن ، أو مرّ بها و عبرها ، وفي ذلك أيضا كتب كثيرة لا تعدّ و لا تحصى .

و أما فيمن جمعهم وصف خَلْقي ، فألفوا في العميان ، و العُوران ، والحُولان، والحُدْبان، والبُرْصان ، و الصُّمّان ، و العُرْجان ، و السُّودان، والثُّرْم –أي : مكسوري الأسنان - ، والمعمرين، و عقلاء المجانين ، والمُرْدَفات –و هن النساء اللائي تعاقب عليهن عدد من الأزواج- ، و غير ذلك من الصفات التي تقع في الخلقة لزمرة من الناس، يشتركون فيها ويتصفون بها .

و أبرز المصنفات المشهورة في هذا الباب تأليف أبي عمرو الجاحظ ، المسمى: كتاب البرصان و العرجان و العوران و الحولان ، و هو مطبوع ، و قد تعرض فيه لسواهم ممن جمعهم وصف خَلْقي أيضا .

و من الكتب المشهورة في هذا الموضوع كتاب نكت الهِمْيان في نكت العُمْيان للصلاح الصفدي ، و هو مطبوع ، و له كتاب الشُّعور بالعُور، وله كتاب في العُمْش ، و كتاب في الحُدْبان ، و للحافظ الذهبي كتاب المعمَّرين ؛ سماه من جاوز المائة ، و هو مطبوع أيضا . و للمؤرخ النسابة أبي الحسن علي بن محمد المدائني ( 135 هـ – 225هـ) كتاب المردفات من قريش و هو مطبوع أيضا[20] .

و هكذا تكاثرت كتب التراجم و تنوعت ، و تباينت أهدافها و تلونت ، حتى صارت المكتبة الإسلامية و العربية بها زاخرة .

و من أبرز أصنافها ما رتبه الدكتور عبد الله المرابـط الترغي بأوائل تحقيقه لكتاب أعلام مالقة ، وهي :

1- صنف الترجمة العلمية العامة : و هي الترجمة التي تستهدف أساسا التعريف بالرجل في إطار انتمائه إلى صنف العلماء أو طبقة من طبقات الممارسين للعلم . وميزتها أن المؤلف يستقي موادها من الوثائق و المصادر التي تتيسر بين يديه . ويمثلها عموما نص الترجمة الوارد في كتب تواريخ الرجال و الطبقات و كتب الوفيات .

2- صنف الترجمة البرنامجية : و هي الترجمة التي يصوغها الرجل لأشياخه خاصة ، فيستقي موادها من مواقفه الخاصة و من معايشته للمترجم به و مشاهداته له في العموم . و تمثل هذه الترجمة بشكل عام نصوص الترجمات الواردة في كتب الفهارس و الأثبات و البرامج و المشيخات ومعاجم الشيوخ .

3- صنف الترجمة البلدانية : و هي الترجمة التي يصوغها المؤلف لأجل التعريف بالرجل باعتبار شرط انتمائه إلى البلد الذي قامت عليه تراجم الكتاب ، أو لمجرد إقامته أو مروره به فقط . و تبنى الترجمة هنا على طريقة الترجمة العلمية العامة ، غير أنه يراعى في ذلك شرط الانتماء إلى البلد المعني بالأمر ، بذكره و التنصيص عليه . و يمثل هذا الصنف من التراجم : كتب تـاريـخ بغداد و ذيوله ، و تواريخ : مدينة دمشق ، و حلب ، و القاهرة ، و غرناطة ، و فاس ، و غيرها من بقية التواريخ البلدانية الخاصة بتراجم رجالها و الطارئين عليها .

4- صنف الترجمة الأدبية : و هي الترجمة التي يبنيها المؤلف بقصد تهيئة الظروف لعرض ما أنتجه المترجم به من نماذج أدبية . و لا يستهدف منها تقديم معلومات حول المترجم به أو عرض أحوالـه أو ذكـر وفاة و غيرها . و غالبا ما تصاغ هذه الترجمة بطريقة أدبية يتأنق الكاتب في لغتها بالأسجاع و المحسنات ليجعلها مدخلا لعرض أعمال الأدب . من هذه الترجمات ما ضمه كتاب قلائد العِقْيان للفتح ابن خاقان ، و ما ضمه كتاب ريحانة الألبا للشهاب الخفاجي ، وغيرهما .

5- صنف الترجمة الصوفية : و هو يمثل الترجمة التي يصوغها المؤلف بقصد تقريب المترجم به و هو في إطار انتمائه إلى رجال التصوف أو ممارسته له . فتركز موادها على ذكر الكرامات و المناقب و تعرض سلـوك المتصـوف و عبـادتـه ومواقفه و أقواله و معاملته للشيوخ و المريدين . ويمثل هذا الصنف التراجم الواردة في كتب طبقات الصوفية و المناقب مثل : طبقات الصوفية للسلمي ، وكتاب التشوف إلى رجال التصوف للتادلي ، و غيرهما[21] .

ثانيا في أي الأصناف توضع ترجمة الشيخ عبد السلام بن مشيش ؟

من المعلوم أن الشيخ مولاي عبد السلام بن مشيش لم يدرج في أي صنف من الأصناف المذكورة سابقا ، و أن ترجمته خلال القرون المذكورة لم تستو على ساقها ، و لم تحتو على المكونات المطلوبة في الترجمة من : تاريخ الميلاد ، و ظروف النشأة و التربية ، مراحل التعلم ، أسماء الشيوخ والأساتذة، أطوار الرحلة و الانتقال ، و التلامذة و المريدين ، و الآثار و الوظائف و الأعمال ، ثم تاريخ الوفاة بالضبط و التحديد .

جل هذا يفتقر إليه في ترجمة هذا الشيخ العارف ، و ما يعرف عنه خلال هذه الفترة سوى نتف تتعلق بمحاورات وقعت بينه و بين تلميذه و مريده أبي الحسن ، تتمثل فيما يلي وفق ما سبق :

- ترقيه في معراج التربية و السلوك من طريق السر عن شيخ مدني يأتيه طيا .

- ليس له إلا تلميذ واحد هو : الشيخ أبو الحسن الشاذلي .

- مكان خلوته و تعبده .

- مقتله من قبل ابن أبي الطواجن .

- وصاياه و أقواله المأثورة ، سوى الصلاة المشيشية التي لم تعرف إلا في أواخر القرن التاسع مع ابن زغدان التونسي شارحها .

و بهذا فهي خالية من : تاريخ الميلاد ، و ظروف و أحوال النشأة و التعلم ، و تاريخ الوفاة أيضا الذي لم يعرف بالتحديد ، و إنما استنتج تقريبا من تاريخ اغتيال ابن أبي الطواجن .

2- نقد المضمون :

مما سبق ذكره ، و حسب الأخبار الواردة على ندرتها ، فإنها خضعت لمنهج النقد ، و يتجلى ذلك في :

- سند الطريق : نقل الشيخ العربي الفاسي في مرآة المحاسن عن النبذة المفيدة لسبط الشاذلي تقي الدين أبي عبد الله محمد الإسكندري ، قال : قال الشيخ أبو العباس المرسي في هذه الطريقة : إنها متصلة بالأقطاب ، و معنعنة برجل عن رجل إلى الحسن بن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه و سلم . فلما اطلعت على هذا الكلام ؛ أمعنت الفحص عن معرفة بقية هذا الطريق ، فلم أجد سوى أن الشيخ أبا محمد عبد الرحمن المدني أخذ عن عارف وقته الشيخ القطب تقي الدين الفقير ؛ الذي لقب نفسه بِتُقَي الفُقَيِّر (بالتصغير فيهما) ، وذلك من أرض العراق . و هو عن القطب فخر الدين عن القطب نور الدين أبي الحسن علي عن القطب تاج الدين عن القطب شمس الدين بأرض الترك عن القطب زين الدين القزويني عن القطب أبي محمد فتح السعود عن القطب سعيد الغزواني عن القطب جابر عن أول الأقطاب أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سبط سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . و اعلم أنني ظفرت بهذه السلسة و اتصالها –بعد الفحص الكبير- وجدتها منقولة عند الشيخ تاج الدين ابن عطاء الله صاحب الشيخ أبي العباس المرسي، و مطابقة لقول المرسي: إن طريق المدني متصلة بالأقطاب . ففي هذا إشعار بصحة هذه الطريق و اتصال سلسلتها ، و إن كنت لم أجزم فيها إلا بالشيخ الشاذلي و شيخه ابن مشيش ، وشيخه المدني ، ثم بالحسن بن علي . فمجموعها على قسمين ؛ منها : ما هو قطعي ، و منها ما هو ظني . و أما قولهم فيها : فلان الدين ، و لم تذكر له شهرة بحيث وجدت ذلك هنا ؛ فاعلم أني نقلته كذلك ، فحكيته على ما وجدته[22] .

- ترقيه في معراج التربية و السلوك من طريق السر عن شيخ مدني يأتيه طيا ، حسب ما يحكيه الأوربي في مناقب البادسي ، و هذا أنكره الشيخ عبد الله كنون رحمه الله حينما تحدث عن مراحل تعلمه و سلوكه ، فقال : فعلومه كانت كسبية على العادة ، و إن كانت نشأته على التقوى من أول يوم ، و انقطاعه إلى الأعمال الصالحة من العلم و العبادة و الجهاد أورثته من العلوم الوهبية ما يصدق عليه قوله : تعالى : و اتقوا الله و يعلمكم الله . و قد غفل كثير من مترجميه عن هذه الحقيقة فأوقعوا في أوهام غيرهم من العوام أن الشيخ منذ صباه انقطع إلى العبادة و وقع له جذب كان يتلقى أثناءه من العلوم الغيبية ما أغناه عن الطلب والتحصيل، و ذلك مخالف لما قدمناه من حفظه للقرآن في سن الثانية عشرة ثم إقباله على طلب العلم من طرقه المعروفة حسبما يشير إليه المحققون من المعرفين به[23] !!

- سكوت المصادر عن سبب قتل الشيخ عبد السلام بن مشيش من قبل ابن أبي الطواجن : وظل هذا الصمت إلى غاية القرن العاشر على عهد السلطان المولى إسماعيل حيث صرح به الفقيه المكناسي أحمد الفلاح لأحد الرهبان ، النص المنبئ عن هذا الأمر اكتشفه الأستاذ ابن عزوز حكيم في كتاب طوماس كرسيا فيكيراس المسمى : مولاي أحمد الريسوني : الشخصية البارزة في المغرب المعاصر ، يقول : هناك أيضا روايات عديدة عن كرامات و معجزات وليهم هذا ، كما أن هناك عدة روايات عن أسباب اغتياله ، و قد ذكر لي الفقيه المكناسي سيدي أحمد الفلاح الذي لي صلة به هنا ، أن مقتل مولاي عبد السلام كان بإيعاز من الحاكم الموحدي على مدينة سبتة و ذلك انتقاما منه على ما كان يقوم به من الدعاية بين سكان النواحي الجبلية ضد السلطان إدريس المامون الموحدي للأسباب التالية : كان إدريس المامون هذا يحكم مدينة إشبيلية عندما توفي أخوه السلطان عبد الله العادل بمراكش سنة 1228 فعزم على الالتحاق بهذه المدينة ليحل محل أخيه على عرش المغرب ، غير أنه لم يكن يتوفر على القوات العسكرية التي تساعده على فرض نفسه على ابن أخيه يحيى الذي استبد بالحكم في مراكش . و هذا ما جعل المامون يستنجد بملك قشتالة فيرناندو الثالث الذي وضع تحت تصرفه جيشا يتكون من اثنتي عشرة ألف محارب من المحاربين النصارى الذين ساعدوه على الاستيلاء على العاصمة المغربية في شهر ديسمبر من سنة 1228 م . و لم يكن قد سبق للمغاربة أن رأوا سلطانا لهم يأتي بجنود من النصارى إلى أرضهم لمقاتلة المسلمين ، الشيء الذي أثار غضب الشعب المغربي و أتاح لرجال دينهم الفرصة لإثارة مشاعر الجماهير ضد الملك الموحدي الجديد الذي أباح للنصارى قتلهم للمسلمين و التحكم في رقابهم في عقر دارهم . و كان وليهم مولاي عبد السلام على رأس رجال الدين الذين طافوا في البلاد منددين بالعمل الشنيع في نظرهم الذي قام به السلطان المامون ، خصوصا بعد سماحه للجنود النصارى ببناء كنيسة مسيحية لهم بالعاصمة المغربية ، طبقا للاتفاق الذي كان بينه و بين ملك قشتالة من أن تكون أهم كنيسة عمومية يقيمون فيها شعائرهم الحنيفة بكل حرية ينادى فيها للصلوات بواسطة النواقيس[24] .

- الصلاة المشيشية : يشكل الانقطاع و الإهمال الذي طال هذه الصلاة ، بحيث لم تعرف مدونة و منسوبة لصاحبها إلا في القرن التاسع مع الشارح ابن زغدان التونسي (ت 882 هـ) . و هذا يثير تساؤلا كبيرا ، و إشكالا مثيرا ، يتمثل في : عدم معرفتها من قبل التلميذ الوحيد : أبي الحسن الشاذلي ، عدم معرفتها من طرف المغاربة ممن كتبوا في الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم كالشيخ محمد بن سليمان الجزولي (ت 870 هـ) ، ندرة أسانيد الاتصال بها و وهاءها .

و بالنسبة للأسانيد فإني قد بحثت عنها كثيرا فلم أجد منها سوى سندين :

- السند الأول : ذكره الشيخ عبد الحي الكتاني خلال ترجمة الشيخ أحمد بن أحمد بن جمعة البجيرمي (ت 1197 هـ) قال : أخذ الصلاة المشيشية عن والده عن عيد النمرسي عن النخلي والبصري[25] . و هذا إسناد منقطع ، فالشيخ عبد الله بن سالم البصري (ت 1134 هـ) أي في القرن 12 الهجري ، بينه و بين القرن السابع مفاوز ، خصوصا و أن البصري في فهرسته الإمداد في معرفة علو الإسناد ، لم يورد الصلاة المشيشية ضمن أسانيد الأحزاب المروية عنده.

- السند الثاني : مروي من طريق العجيمي قال : .. فأخبرني بها جماعة منهم : صاحبنا الشيخ الفاضل الصالح الكامل مولانا السيد محمد بن أحمد الحسني الإدريسي قراءة عليه، قال : أنبأنا بها والدي أحمد عن والده محمد بن عمر بن عيسى بن عبد الوهاب بن محمد بن إبراهيم بن يوسف بن عبد الوهاب بن عبد الكريم بن محمد بن القطب سيدي عبد السلام برواية كل عمن فوقه إليه، ثم ساقها. هكذا ذكره الشيخ عبد الحي الكتاني في فهرس الفهارس[26] قائلا : ومما استغربت في الثبت المذكور السلسل المعين في السلاسل الأربعين[27] روايته للصلاة المشيشية من طريق العجيمي .

قلت : و مما يدل على أن هذا السند مفتعل ، أنه يمر على الشيخ أبي حفص عمر بن عيسى بن عبد الوهاب الشريف الحسني الذي كان السبب في شرحها من قبل الشيخ محمد بن علي الخروبي الطرابلسي (ت 1006 هـ)[28] ، و ما ذكره الخروبي ، و لو عرف عنه لاحتفى به و نوه بقيمته خصوصا و أنه مسلسل بالأشراف إلى مولاي عبد السلام . و الله أعلم .

خاتمة

و بعد هذا السكوت و الإجحاف المطبق عن تفاصيل أخبار مولاي عبد السلام بن مشيش خلال القرون الثلاثة ، كان حظ القرون الموالية اختلاق و افتعال أخبار لا تمت إلى الحقيقة بسبب ، من ذلك :

- أخذ أحمد البدوي و إبراهيم الدسوقي عن مولاي عبد السلام ابن مشيش : قال الشيخ أحمد بن الصديق في المؤذن : و ذكر بعضهم أن من الآخذين عنه سيدي أحمد البدوي و سيدي إبراهيم الدسوقي ، و هو باطل ، فإن الثاني ولد بعد وفاة ابن مشيش ، و أبطل منه قول من زعم أن ابن مشيش خال سيدي إبراهيم الدسوقي[29] .

- المبالغة في ذكر بعض الكرامات : (ذكر أبو زيان الغريسي في طبقاته عن سيدي أحمد العربي الزروالي أنه قال : ذكر الطرطوشي أن القطب الأكبر مولانا عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه ذاب له مريدان تصرفت فيهما النورانية حسا) . قال الشيخ أحمد بن الصديق في المؤذن : و ينبغي أن يكون هذا النقل عن غير الطرطوشي أبي الوليد المشهور ، فإنه مات قبل ولادة ابن مشيش بزمان طويل لأن وفاته كانت سنة عشرين و خمسمائة ، و مات ابن مشيش بعد هذا التاريخ بأزيد من مائة عام ؛ بل القرائن ، تعطي أنه ولد بعد منتصف القرن السادس ، فيكون ولد بعد وفاة الطرطوشي بنحو الثلاثين ، و الله أعلم[30] .

و في الختام ، أتساءل محاولا إيجاد الجواب عن سبب هذا السكوت و الإهمال في باب تراجم المغاربة عامة ، و ترجمة مولاي عبد السلام بالخصوص ، فأقول : يمكن إرجاع ذلك لأمور ، منها :

- سكنى البادية ، فمن سكنها جُفِي و نُفي . و في ذلك قال الشيخ عبد الله التليدي مجيبا عن الإشكال السابق : و الجواب أن مولانا عبد السلام رضي الله تعالى عنه كان يعيش في جبل العلم بعيدا عن العمران و القرى فضلا عن المدن و الحواضر ، و كان كما يظهر مهملا عند الناس ، خاملا لا يعرفه أكثرهم ، و لم تكن له زاوية رسمية ، و لا أتباع خاصون حتى يشتهر و يقصده الناس للزيارة و الأخذ عنه ، ثم إن تلك النواحي الجبلية البدوية لم يكن بها رجال من أهل العلم مؤهلون للاعتناء بالتاريخ و الكتابة ، و من لهم عناية بهذا الموضوع من أهل الحواضر و هم قليلون في مغربنا لم يكونوا يعرفون عن تلك الناحية شيئا لبعدها عنهم و عن طريقهم في أسفارهم و رحلاتهم لمدن المغرب ، ولولا أن ثورة ابن أبي الطواجن كانت مشهورة لقرب موقعها من تطوان و ذيوع مقتل الشيخ على يده لما أشار إليه ابن خلدون في العبر . و ما لنا نذهب بعيدا و إننا نرى -في كل عصر من العصور حتى عصرنا هذا- كثيرا من أكابر العارفين و الصالحين مهملين مجهولين لا يعرفهم إلا آحاد الناس وهم الحالة هذه بالحواضر بين المثقفين و الأدباء و المؤرخين و الباحثين ، فكيف بالبادية في رأس جبل العلم الذي يبعد عن سطح المستوى من الأرض بأربع ساعات في غابة عظيمة مع وعر شديد و عقبة كئود من كل النواحي[31]

- عدم اهتمام المغاربة بتدوين الولادات متأثرين بما روي عن الإمام مالك رحمه الله : من مروءة الرجل ألا يخبر بسنه ؛ لأنه إن كان صغيرا استحقروه ، و إن كان كبيرا استهرموه[32] . و لهذا المعنى كان أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد القاضي ينشد :

احفظ لسانك لا تبح بثلاثة * سن و مال –ما استطعت- و مذهب

فعلى الثلاثـة تبتلى بثلاثة * بمكفـر و بحاسـد و مكــذب[33]

و هذا له تأثير على العلاقة الرابطة بين التلميذ و الشيخ بحيث تكسبها نوعا من المهابة بل و القداسة تمنع التلميذ من سؤال شيخه أو أستاذه عن أحواله و ظروف نشأته و تعلمه ، و لذلك نجد مراحل النشأة و الطلب الأولى مجهولة في أغلب تراجم الأعلام بالمغرب .

- إهمال التلامذة لمشايخهم : لا يسطع نجم الشيخ إذا لم يعتن به وُرّاثه من بعده ، أعني بهم : تلامذته و أصحابه ، و من لم يلق العناية التامة ، كان أمره إلى خمول و إهمال ، كما وقع لليث بن سعد الذي قال عنه الإمام الشافعي : الليث بن سعد أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به



و كما هو الشأن بالنسبة للشيخ عبد السلام بن مشيش الذي لم يخلف من التلامذة و المريدين سوى أبي الحسن الشاذلي ، و هذا الأخير لم يحك عن شيخه شيئا يذكر .

- خلو المكتبة الإسلامية و العربية من آثار للمترجم : من المعلوم أن كتابات المترجم تلقي الضوء على مجموعة من المعالم المنبئة عن الأحوال و الظروف الشخصية و النفسية ؛ بحيث إذا انتفت العوامل الأخرى كانت خير معين للتعرف على صاحبها ، و من أمثلة ذلك نجد الشيخ أبا عبد الله محمد بن محمد بن علي بن أحمد بن سعود العبدري الحاحي من أهل القرن السابع الذي لا يعرف عنه شيء سوى رحلته الحجازية التي خلفها و سطرها ببنانه[1] قد أعطانا صورة مجملة عن عصره و تكوينه وأحواله … أما إذا عدمت الآثار و الأعمال ، فيكون الأمر عسيرا كما هو الحال بالنسبة للشيخ أبي محمد .

- الفتن و اضطراب نظام الدولة سبب في التهميش و الإهمال ، و هو سبب مباشر بالنسبة للشيخ عبد السلام بن مشيش ، لأنه عايش أواخر الدولة الموحدية و في آخر حياته قامت على أنقاضها الدولة المرينية .

- دعاء مولاي عبد السلام بن مشيش و طلبه من الله عز و جل اعوجاج الخلق عنه حتى لا يكون له ملجأ إلا إليه . قال ابن زكري : و قد استجاب الله تعالى دعاءه فبلغه من الجفا مراده حتى لم يعرفه إلا الشيخ أبو الحسن الشاذلي ، و من أجل ذلك لازم قنة الجبل مبالغة في الانفراد عن الأغيار ، و استجاب له أيضا في انسحاب الرحمة التي رحمه بها على أتباعه وأصحابه حتى صارت الطريقة تنسب لتلميذه الذي تخرج على يديه[2] .

هذا ما تيسر رقمه و تسطيره ، و من الله نستمد العون و التيسير ، إنه على كل شيء قدير . و الحمد لله رب العالمين .


في طنجة : 23 ذي الحجة 1428 هـ
يتوجب عليك تسجيل الدخول او تسجيل لروئية الموضوع
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاكم الله خيرا
 

سناء أم محمد

عضو مميز
إنضم
23 مارس 2012
المشاركات
99
النقاط
6
الإقامة
المغرب
احفظ من كتاب الله
ما تيسر لي
احب القراءة برواية
ورش
القارئ المفضل
عبد العلي أعنون
الجنس
أخت
أحسن الله إليكم كان يستوقفني هداالاسم كثيرا حيث كني معهد باسمه في القنيطرة و لم اكن اعرف عنه شيئا فجزاك الله خيرا على هدا التنوير
 

تسابيح ساجدة

لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
إنضم
16 أكتوبر 2010
المشاركات
8,111
النقاط
38
الإقامة
المعهد
احفظ من كتاب الله
اللهم إجعلنا من العاملين به... آمين
احب القراءة برواية
حفص
القارئ المفضل
هم كُثر ,,,
الجنس
أخت
بوركت يا حبيبه
كتب الباري سبحانه اجرك ونفع بك جل شأنه
وجزاك جل وعلا كل الخير
 
إنضم
23 يونيو 2011
المشاركات
2,069
النقاط
38
الإقامة
مصر
احفظ من كتاب الله
القرآن كاملا
احب القراءة برواية
حفص
القارئ المفضل
الشيخ محمود خليل الحصري
الجنس
أخ
،،،،،،
جزاكم الله خير الجزاء

بارك الله فيكم

وزادكم الله من فضله ومنه وكرمه
 

طالب الماهر

مدير عام
إنضم
15 مارس 2012
المشاركات
946
النقاط
16
الإقامة
غرف الماهر الصوتية
الموقع الالكتروني
www.qoranona.com
احفظ من كتاب الله
.
احب القراءة برواية
ورش عن نافع من طريق الأزرق
القارئ المفضل
المنشاوي - الحصري
الجنس
أخ
بارك الله فيكم على التراجم للمشايخ والأعلام

الذي في حد علمي أن لهذا الشيخ أتباع ولهم طريقة

كالشاذلية والدرقاوية والبوتشيشية والتيجانية

لكن عقيدة الشيخ لا عليم لي بها وهل هو بريئ من هذا

فلعل المشرفين أن يفيدونا ومن كان له علم فليتفضل مشكورا
 
أعلى