- إنضم
- 26 أغسطس 2010
- المشاركات
- 3,675
- النقاط
- 38
- الإقامة
- الامارات
- احفظ من كتاب الله
- القرءان كامل
- احب القراءة برواية
- بحميع الروايات
- القارئ المفضل
- الشيخ ابراهيم الأخضر
- الجنس
- أخت
و رهبانيّة ابتدعوها
خلق الله تعالى الخلق ليعبدوه ، و أمرهم أن يوحّدوه ؛ فالعبادة هي الغاية المحبوبة لله ، فمِن أجلها فطرهم ، و بسببها أوجدهـم ، قال الله تعالى : و ما خلقتُ الجنّ و الإنس إلاّ ليعبدون [ الذّاريات : 56 ] . و بالعبادة أرسل الله تعالى جميع الرّسل ، كما قال كلٌّ مِن نوح و هود و صالح و شعيب و غيرهم - عليهم السّلام - لقومهم : اعبدوا الله ما لكم مِن إله غيره [ الأعراف : 59 ] .
و لمّا أمرهم بعبادته وحده لا شريك له ، نهاهم عن عبادة غيره ، فقال سبحانه : و لقد بعثنا في كلّ أمّة رسولا أن اعبدوا الله و اجتنبوا الطّاغوت [ النّحل : 36 ] .
و العبادة لها أصلان : أنْ لا يُعبد إلاّ الله ، و أنْ يُعبد بما أمر و شرع . قال الفضيل بن عيّاض - في قوله تعالى : ليبلوكم أيّكم أحسـن عملا [ هود : 7 ، الملك : 2 ] - قال : " أَخْلَصُه و أَصْوَبُه . قالوا : يا أبا عليّ ، ما أخلصه و أصوبه ؟ قال : العمل إذا كان خالصا و لم يكن صوابا : لم يُقبل ، و إذا كان صوابا و لم يكن خالصا : لم يُقبل ، حتّى يكون خالصا صوابا . و الخالص أنْ يكون لله ، و الصّواب أنْ يكون على السّنة " [ " حلية الأولياء " لأبي نعيم : 8 / 95 ] .
و كَمْ هم كثير الذين لم يحقّقوا شَرْطَيْ قبول العبادة - الإخلاص و المتابعة - و سأكتفي - هنا - بذكر صِنف واحد مـن هؤلاء العُبَّاد ، الذين لم يقبل الله تعالى عبادتهم ، و هم الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدّنيا و هم يحسبون أنّهم يُحسنون صنعا ، و هـذا ليحذرهم مَـن لا يعرفهم على حقيقتهم ، و لا يغترّ بصنيعهم مَن أُعجب بظاهرهم ؛ إنّهم النّصارى .
و هذه بعض مجالات تعبّدهم المنحرف :
1 - غلوّهم في الصّالحين - من العلماء و الأولياء - و هو أعظم سبب لعبادتهم إيّاهم من دون الله ، قال تعالـى : اتّخذوا أحبارهـم و رهبانهم أربابا مِن دون الله و المسيح ابن مريم و ما أمروا إلاّ ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون [ التّوبة : 31 ]
فاتخاذهم أحبارهم أربابا يحلّلون و يحرّمون ، و يتصرّفون في الكون ، و يُدعون في دفع الضّرّ أو جلب النّفع ، هذا من مظاهر عبادتهم لهم .
و لمّا غلا النّصارى في طاعة أحبارهم و رهبانهم : حرّموا على أنفسهـم أكل الطّيّبات مِن الرّزق ، و تركوا زينة الله التي أخرج لعبـاده ، قال تعالى : قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده و الطّيبات مِن الرّزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدّنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصّل الآيات لقوم يعلمون [ الأعراف : 32 ] .
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ وَ فِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ ، فَقَـالَ :" يَا عَدِيُّ ، اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ " وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِـي سُورَةِ ( بَـرَاءَةٌ ) : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ [ فَقُلْتُ : إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ ] .قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَ لَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ ، وَ إِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ [ فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ ] " [ التّرمذي : 309 ، و البخاري في " التّاريخ " ( 4/1/106 ) و الزّيادتان له ؛ و الحديث في " سلسلة الأحاديث الصّحيحة " : ( 3293 ) ] .وعلى هذا دلّ قوله سبحانه و تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [ المائدة : 87 ] .
2 - غلوّهم في الأنبياء و المرسلين - عليهم السّلام - قال تعالى : يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم و لا تقولوا على الله إلاّ الحقّ إنّما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه فآمنوا بالله و رسله و لا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنّما الله إلـه واحد سبحانه أنْ يكون له ولد [ النّساء : 171] .
و قد أخبرنا الله تعالى أنّه سيوبّخ النّصارى و ذلك بسبب عبادتهم للمسيح - عليه السّلام - الذي يتبرّأ مِن عُبّاده ، و يقول لربّ العزّة : مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِـمْ وَ أَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [ المائدة : 117 ] .
و عبادة النّصارى للمسيح - عليه السلام - كان سببها : الغلوّ في التّعظيم ، و الإطراء ؛ و لهذا حذّر النّبيّ أمّته من إطرائه ، خوفا من أن يقعوا فيما وقع فيه مَن قبلهم ؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنّه سَمِعَ عُمَرَ يَقُولُ - عَلَى الْمِنْبَرِ - : سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُـولُ : " لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَ رَسُولُهُ " . [ البخاري : 3445 ] . إنّ أعظم مدح لـه أنْ نقول فيه ما قال ربّنا عزّ وجلّ : إنّه عبده و رسوله ، فتلك أكبر تزكية له و ليس فيها إفراط و لا تفريط ، و لا غلوّ و لا تقصير .
و إذا كانت عبادة هؤلاء لعيسى ابن مريم شِرْكاً ، و هو من الأنبياء المرسلين ، فكيف بعبادة غيره ممّن هو دونه كالأولياء و الصّالحين ؟!
3 – دعاؤهم غير الله تعالى ، حيث يتعبّدون بإشراك أحبارهم و رهبانهم في دعاء الله تعالى و عبادتـه ، و يظنّون أنّ ذلك ممّا يحبـه الله ،
و يزعمون أنّ هؤلاء شفعاؤهم عند الله ، جاعلين بين الله و بين خلقه وسائط ما أنزل الله بها مِن سلطان ، قال تعالى: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [ يونس : 18] . و هذا لأنّ الدّعاء عبادة ، ذمّ الله المستكبرين عنها فقال - سبحانـه- : و قال ربّكم ادعوني أستجب لكم إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين [ غافر : 60 ]
4 – تنزيهم أنفسهم عمّا نسبوه لخالقهم ، فيتعبّدون بترك الزّواج الذي أحلّه الله تعالى ، و يحرّمه أحبارهم على أنفسهـم ، بحجّة أنّ ذلك منقصة في حقّهم ، و يتنزّهون عن الولد و الزّوجة ، و يقولون : إنّ تحصيل الكمال لا يكون إلاّ بالتّرفّع عن دناءة التّمتّع بالنّساء ، و هذا اقتداء منهم بالمسيح - عليه السّلام - كما يدّعون و يزعمون . و لكن ترك المسيح التّزوّج ، لعلّه كان لعارض آخر ، الله تعالى أعلم به ، و ليس ترك التّزوّج مِن صفات النّبوّة ، إذْ كان لجميع الأنبياء أزواج و ذريّة . قال شيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه الله- : " الإعراض عن الأهل و الأولاد ليس فيما يحبّه الله و رسوله ، و ليس هو دين الأنبياء و الرّسل ، فقد قال الله تعالـى : وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَ ذُرِّيَّةً [ الرّعد : 38 ] " . ( مجموع الفتاوى : 10 / 642 ) .
فانظر - رحمك الله - إلى سخافة العقول ، و دناءة التّفكير ، وما قادهم إليه ضلالهم ، حتّى حرّموا على أنفسهـم ما أباحه الله لهـم مٍن الطّيّبات ، و نسبوا لخالقهم ما برّؤوا به أنفسهم ، إذ جعلوا لله تعالى الولد ، كما أخبر ربّ العزّة عنهم : وَ قَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [ التّوبة : 30 ] و الله تعالى منزّه عن الصّاحبة والولد بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ الأنعام 101] . وَ أَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَ لاَ وَلَدًا [ الجنّ : 3 ] .
5 – اتّخاذهم قبور أنبيائهم و صالحيهم مساجد ، و بسبب ذلك استحقّوا اللّعنة من الله تعالى ، و قد حذّر النّبيّ أمّته مِن ذلك في غير موطن ، حتّى في وقت مفارقته الدّنيا ، ففي الصّحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : قَالَ رَسُول اللَّهِ - فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُـمْ مِنْهُ - : " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَ النَّصَارَى ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِـدَ " لَوْ لاَ ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ - أَوْ خُشِيَ- أَنَّ يُتَّخَـذَ مَسْجِدًا " . [ البخاري : 554 ، مسلم : 530 ] . و عن عَائِشَةَ وَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالاَ : " لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ ، فَقَالَ - وَ هوَ كَذَلِكَ - : " لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُـودِ وَ النَّصَارَى ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ " يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا " . [ البخاري : 425 ، مسلم : 1215] .
وروى سعيد بن منصور - في سننه- و ابن أبي شيبة - في المصنّف- عن المعْرُور بن سُوَيْد قال : خرجنا مع عمر فـي حجّة حجّها ، فقرأ بنا في الفجر بـ : ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل و لإيلاف قريش في الثّانيـة ، فلمّا رجع مِن حجّته رأى النّاس ابتدروا المسجد ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : مسجدٌ صلّى رسول الله فيه ، فقال : " هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم ، اتّخذوا آثار أنبيائهم بِيَعاً مَن عرضت له منكم الصّلاة فيه فَلْيُصَلِّ ، و مَن لم تعرض له الصّلاة فَلْيَمْضِ " [ " مصنّف ابن أبي شيبة : 7550 ، و صحّحه الألبـاني في : " تحذير السّاجد مِن اتّخاذ القبور مساجد " ص : 82 ] .
فقد أنكر أمير المؤمنين عمر على النّاس اتّخاذ مُصلّى النّبيّ عِيدا ، و بيّن لهم علّة هذا الإنكار ، وهو أنّ أهل الكتاب إنّما هلكـوا بمثل هذا الصّنيع ، حيث كانوا يتّبعون آثار أنبيائهم ، و يتّخذونها أماكن للعبادة - كنائس و بِيَعاً - .
6 - اتّخاذهم قبور أنبيائهم أعيادا ، يقصدونها في أوقات معيّنة ، و مواسم معروفة ، للتّعبّد عندها ، و قد نهى نبيّنا عن التّشبّه بهـم ؛ روى أحمد - في مسنده - عَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " لاَ تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا ، وَ لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا ، وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَصَلُّوا عَلَيَّ ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي " [ المسند :8790 ، وأخرجه أبو داود : 1/319 و صحّحه الألباني في صحيح أبي داود: 1796 ] قال شيخ الإسلام ابن تيميّة : " و وجه الدّلالة : أنّ قبر النّبيّ أفضل قبر على وجه الأرض ، و قد نهى عن اتّخاذه عيدا ، فقبر غيـره أولى بالنّهي كائنا مَن كان ، ثمّ قرن ذلك بقوله : " ولا تتّخذوا بيوتكم قبورا " أي : لا تعطّلوها عن الصّلاة فيها ، و الدّعاء و القراءة فتكون بمنزلة القبور . فأَمَرَ بتحرّي العبادة في البيوت ، و نهى عن تحرّيها عند القبور ، عكس ما يفعله المشركون مِن النّصارى و مَن تشبّه بهم " . ( " اقتضاء الصّراط المستقيم " ص : 323 ) .
و اعلم أنّ العيد : اسم لما يعود و يتكرّر ، و قيل مأخوذ من العادة ، وكأنّهم اعتادوه . و قد يختصّ العيد بمكان بعينه ، و إذا جُعـل اسما للمكان ، فهو المكان الذي يُقصد الاجتماع فيه و إتيانه للعبادة عنده ، أو لغير العبادة ؛ فإنّ اعتياد قصد المكان المعيّن ، في وقت معيّـن ، عائد بعود السّنة أو الشّهر أو الأسبوع : هو بعينه معنى العيد . و يدلّ على هذا ما رواه أبو داود عن ثَابِت بْن الضَّحَّاكِ قَالَ : نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةَ ، فَأَتَى النَّبِىَّ فَقَالَ : إِنِّى نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةَ . فَقَالَ النَّبِىُّ " هَلْ كَانَ فِيها وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ ؟ " قَالُوا : لاَ . قَالَ : " هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ ؟ " قَالُوا : لاَ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :" أَوْفِ بِنَذْرِكَ ، فَإِنَّهُ
لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، وَ لاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ ". [ سنن أبي داود : 3313 ، و هو في صحيح أبي داود: 2834 . بُوانَـة : هَضْبَة وراء يَنْبُع ] .
7 – تعظيمهم الصّور التي في كنائسهم ، و جعلها على صورة مَن يعبدونه بالباطل ، ثمّ عبادتهم لها من دون الله تعالى ؛ و بصنيعهم هـذا كانوا شرّ البريّة ؛ ففي الصّحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنّ أمّ سلمة و أمّ حبيبة رضي الله عنهما ذَكَرَتَا لرسول الله كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها : ( مارية ) و ذَكَرَتَا مِن حسنها و تصاوير فيها ، فقال رسول الله : " أولئك قوم إذا مات فيهم العبـد الصّالح أو الرّجل الصّالح بَنَوا على قبره مسجدا ، و صوّروا فيه تلك الصّور ، أولئك شرار الخلق عند الله [ يوم القيامة ] ". [ البخاري : 3660 ، مسلم : 528 ] .
8 – إحداثهم لرهبانيّة ما فرضها الله عليهم ، و لا شَرَعَها لهم ، و لا تعبّدهم بها ، و لكنّهـم التزموها مِن تلقاء أنفسهم . وابتداع أمّـة النّصارى لها كان بدافع طلب رضوان الله - زعموا - و مع ذلك لم يقوموا بها ، و لكنّهم بدّلوا ، و خالفوا دين الله الذي بعث به عيسى عليه السّلام ، فتنصّروا و تهوّدوا ؛ قال تعالى: ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَ قَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ آَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَ جَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَ رَحْمَةً وَ رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [ الحديد : 27 ] .
و قوله : وَ رَهْبَانِيَّةً ليس معطوفا على ما قبله : رَأْفَةً وَ رَحْمَةً ، وإنّما انتصب بفعل مُضمر ، فكأنّه قيل: ( و ابتدعوا رهبانيّـةً ) أي : جاءوا بها مِن قِبَل أنفسهم ، لم يأمرهم الله بها . و الاستثناء في قوله : مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ : استثناء منقطع ، و التّقدير : " ما كتبناها عليهم ، و لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله " ( تفسير القرطبي : 17 / 263 ) .
عن قتادة قال - في قوله تعالى : وَ جَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً - فهاتـان : مِن الله ، و الرّهبانيّة : ابتدعها قـوم مِن أنفسهم و لم تُكتب عليهم ، و لكن ابتغوا بذلك و أرادوا رضوان الله ، فما رعوها حقّ رعايتها ؛ ذُكر لنا : أنّهم رفضوا النّساء ، واتخذوا الصّوامع " . ( تفسير الطّبري : 23 / 203 ) .
و ليس في الآية القرآنيّة السّابقة ثناءٌ و لا مدحٌ لأولئك القوم ، بل هي ذمّ لهم مِن وجهين :
أحدهما : في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله .
و الثّاني : في عدم قيامهم بما التزموه ، ممّا زعموا أنّه قربة ، يقرّبهم إلى الله عزّ و جلّ . ( تفسير ابن كثير : 8 / 29 ) .
و هذه الحال : هي الغالب مِن أحوالهم . ( تفسير السّعدي : 842 ) .
و الرّهبانيّة - لغةً - : من الرّهبة ، و هي الخوف مِن غير طمع ، و الفزع مع تحرّزٍ و اضطرابٍ ، و منها الرّاهب : وهو المتعبّد في صومعةٍ من النّصارى ، يتخلّى عن أشغال الدّنيا و ملاذها ، زاهدًا فيها ، معتزلاً أهلها . ( الموسوعة الفقهيّة : 2 / 8093 ) .
قال ابن الأثير : " هي مِن رهْبَنَة النّصارى ، و أصلُها : من الرَّهْبة : الخَوفِ ؛ كانوا يترَهَّبون بالتَّخلّي مِن أشْغال الدُّنْيا ، و تَرْكِ مَلاَذهـا و الزُّهْد فيها ، و العُزْلة عن أهْلها ، و تعمُّد مشاقِّها ، حتّى إنّ منهم مَن كان يَخْصي نفسَه ، و يضعُ السِّلْسِلة في عُنُقه ، وغير ذلك مِـن أنواعِ التَّعذيب ، فنفاَها النّبيّ عن الإسلام ، و نهَى المُسْلمين عنها " . ( النّهاية في غريب الحديث و الأثر : 2 / 669 ) .
و المراد مِن الرّهبانيّـة : ترهُّبُهم في الجبال ، وتعبُّدهم في الغيرانِ و الكهوف ، بزعم الفرار مِن الفتنة في الدّين ، محمّلين أنفسهم ألوانا من المشاقّ ، و متحمّلين كلفاً زائـدة على العبادات التي كانت واجبـة عليهم : مِن الخلـوة و اعتزال النّاس ، و لُبس الخَشِن من الثّياب و ارتداء المسوح ، و الامتناع مِن المطعم الطيّب و أكل اللّحم ، و تحريم النّكاح المباح باعتزال النّساء ، و المبالغـة في العبادة بمواصلـة الصّوم ؛ و هذا كلّه بحجّة الزّهد في متاع الحياة الدّنيا . ( تفسير البغوي : 8 / 42 ) .
و في هذه التّصرّفات : تعذيب لأبدانهم ؛ وفي عزوفهم عن الطّعام و النّوم : رهبانيّة ، لا تُمَثِّلُ روح الدّين و لا تَمْتَثِلُ له ؛ و مِن نتائجها السيّئة , وآثارها المذمومة : أنْ يُنحل الجسم ، و يُضعف القوّة ، فيقعد أحدهم عن العمل ، فلا يضرب في الأرض بالسّعي طلبـا للرّزق و المعاش ، متظاهرا بالتّنسّك والتّعبّد ، مدّعيا التّزهّد في الدّنيا ، حيث يصبح عالة على غيره ، فيمدّ يده بالسّؤال ، تردّه اللّقمة و اللّقمتان و أمّا عن تركهم للزّواج ، فيقال لهم : لو لم يكن فيه إلاّ تحصين الفرج ، و طلب الولد الصّالح الذي يدعو لوالديه بعد وفاتهما ، و يقـوم عليهما في حياتهما : لكان ذلك كافياً .
و هؤلاء الذين حرّموا على أنفسهم الطّيّبات ، و منعوها من الملاذ ، و ما فُطرت عليه مِن الزّواج ، و طيّب الملبس و المأكل ، ينظـرون إلى هذه المباحات على أنّها رِجْس من عمل الشّيطان يجب اجتنابه ؛ و يرون الجسد سجنًا للرّوح ، يحول بينها و بين أشواقها العالية ، لذا قاموا على إرهاقه و تعذيبه بألوان من العذاب ، حتّى تحوّل إلى شبح هزيل ، يسكن المغاور و الكهوف ، و ينفر مِن كلّ الصِّلات الإِنسانية و بسبب إفراطهم و غلوّهم : ضلّوا عن سواء السّبيل . ( " الوسطيّة في ضوء القرآن الكريم " لناصر بن سليمان العمر . ص : 326 ) .
و قد كان النّبيّ يكره مشابهة أهل الكتاب في هذه الآصار و الأغلال ، و زجر أصحابه عن التّبتّل ، و قال فيما يعيب أهـل الكتاب ، و يحذّر موافقتهم : " لا تشبّهوا باليهود و لا بالنّصارى " [ أخرجه الترمذي : 2696 ، انظر الصّحيحة : 2194 ] وقال : " إنّي لـم أُومر بالرهبانيّة " [ أخرجه الدّارمي : 2 / 132 ، و هو في الصّحيحة : 394 ] .
و مِن ذلك تحذيره من اتّباعهم في ترك الزّواج ، كما في حديث أبي أمامة - مرفوعا- : " تزوّجوا فإنّي مُكاثر بكم الأمم يوم القيامة ، و لا تكونوا كرهبانيّة النّصارى " . [ البيهقي في " السّنن الكبرى " ( 7 / 78 ) و هو في السّلسلة الصّحيحة : 1782 ] .
ومِن ذلك : نهيه عن تقليدهم في التّشدّد في الدّين ، إذْ قال : " لا تُشدّدوا على أنفسكـم ، فإنّما هلك مَن قبلكم بتشديدهم علـى أنفسهم ، و ستجدون بقاياهم في الصّوامع و الدّيارات " [ أخرجه البخاري في " التاريخ " و هو في " الصّحيحة " : 3124 ] .
ففي هذا الحديث : نهي النّبيّ عن التّشدّد في الدّيـن ، بالزّيادة على المشروع . و التّشديد ، تارة يكون : باتّخاذ ما ليس بواجب و لا مستحب بمنزلة الواجب و المستحبّ في العبادات ؛ و تارة باتّخاذ ما ليس بمحرّم ولا مكـروه بمنزلة المحرّم و المكروه في الطّيّبات ؛ و علّل ذلك بأنّ الذين شدّدوا على أنفسهم - مِن النّصارى - شدّد الله عليهم لذلك ، حتّى آل الأمـر إلى ما هم عليه مِن الرّهبانيّة المبتدعة .
( اقتضاء الصّراط المستقيم ص : 248 ) .
و مِن ذلك - أيضا - ما في الصّحيحين عن أنس بن مالك قال : " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النّبيّ يسألون عن عبادة النّبيّ فلمّا أُخبروا كأنّهم تقالّوها ، فقالوا : و أين نحن مِن النّبيّ وقد غَفَر له الله ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ؟ فقال أحدهم : أما أنا فأصلّـي اللّيل أبدا . و قال الآخر : أنا أصوم الدّهر أبدا . وقال الآخر : أنا أعتزل النّساء ، فلا أتزوّج أبدا [ هذا لفظ البخاري ، ورواية مسلم : " سألوا أزواج النّبيّ عن عمله في السّرّ ، فقال بعضهم : لا أتزوّج النّساء ، و قال بعضهم : لا آكل اللّحم . وقال بعضهم : لا أنـام على فراش " ] فجاء رسول الله إليهم فقال : " أنتم الذين قلتم كذا و كذا ؟ أمَا و الله إنّي لأخشاكم لله و أتقاكم له ، و لكنّي أصوم و أفطر ، و أصلّي و أرقد ، و أتزوّج النّساء ، فَمَنْ رغب عن سنّتي فليس منّي " . [ البخاري : 5063 ، و مسلم : 1401 ] .
و الأحاديث الموافقة لهذه كثيرة في بيان أنّ سنّته الاقتصاد في العبادة ، و ترك الشّهوات ؛ و هي خير من رهبانيّة النّصارى ، التي فيها ترك عامّة الشّهوات - مِن النّكاح و غيره - و الغلوّ في العبادات - صوما و صلاة - . ( اقتضاء الصّراط المستقيم :250 - 251 ) .
و رهبانيّة الإسلام : هي الجهاد في سيبل الله تعالى ، لما أخرجه أحمد عن أبي سعيد الخدري : أنّ رجلا جاءه فقال : أَوْصِني ، فقال : سألتَ عمّا سألتُ عنه رسولَ الله مِن قبلك ، فقال : " أوصيك بتقوى الله : فإنّه رأس كلّ شيء ، و عليك بالجهاد : فإنّه رهبانيّة الإسلام ،
و عليك بذكر الله و تلاوة القرآن : فإنّه روحك في السّماء ، و ذكرك في الأرض " . [ المسند ( 3 / 82 ) وهو في الصّحيحة : 555 ]
و هذه الرّهبانيّة التي نذرها النّصارى لله بالانقطاع عن اللّذائذ ، و إعنات النّفس ، و الامتناع عن كثير مـن الطّيّبات ، وإحداث أمـور جعلوها من الدّين ؛ اعتبرت هذه التّصرّفات كلّها عبادات ، و ذلك لأنّ أصحابها إنّما يفعلونها بقصد التّقرّب إلى الله زعموا . قال شيـخ الإسلام ابن تيميّة - رحمة الله عليه - : " كما أنّ النّصارى يفعلون مثل هـذا السّماع في كنائسهم على وجه العبادة و الطّاعة ، لا على وجه اللّهو و اللّعب ... و مِن المعلوم أنّ الدّين له أصلان : فلا دين إلاّ ما شرع الله ، و لا حرام إلاّ ما حرّمه الله ؛ و الله تعالى عاب على المشركين أنّهم حرّموا ما لم يحرّمه الله ، و شرعوا دينا لم يأذن به الله . ولو سئل العالم عمّن يَعْدُو بين الجبلين ، هل يُباح له ذلك ؟ قـال : نعم ، فإذا قيل : إنّه على وجه العبادة كما يسعى بين الصّفا و المروة ؟ قال : إنْ فعله على هذا الوجه : فهو حرام مُنكـر، يُسْتَتَاب فاعله فإنْ تاب و إلاّ قتل . و لو سئل عن كشف الرّأس ، و لُبس الإزار و الرّداء ؟ أفتى بأنّ هذا جائز . فإذا قيل : إنّه يفعله على وجه الإحرام كما يحرم الحاجّ ؟ قال : إنّ هذا حرام منكر . ولو سئل عمّن يقوم في الشّمس ؟ قال : هذا جائز. فإذا قيل : إنّه يفعله على وجه العبادة ؟ قال : هذا منكر ، كما روى البخاري عن ابن عبّاس أنّ رسول الله رأى رجلا قائما في الشّمس فقال : " مَن هذا ؟ " قالوا : هذا أبو إسرائيل ، نذر أنْ يقوم في الشّمس ، و لا يقعد ، ولا يستظل ، ولا يتكلّم ، فقال النّبيّ : " مُرُوه فليتكلّم ، و ليجلس ، و ليستظل و ليتمّ صومه " [ صحيح البخاري : 6326 ] . فهذا لو فعله لراحة ، أو غرض مباح : لم يُنْهَ عنه ، لكن لما فعله على وجه العبادة : نُهي عنه " . ( مجموع الفتاوى : 11 / 631 - 632 ) .
و هذه الرّهبانيّة تشدّد ، و غلوّ في الدّين ، و قد نهى رسولنا أمّته عن ذلك ، و أمرهم بما جاءت به الحنيفيّة : مِن مخالفة اليهود فيمـا أصابهم مِن القسوة عن ذكر الله و عمّا أُنزل ، ومخالفة النّصارى فيما هم عليه مِن الرّهبانيّة المبتدعة ؛ فعن أبي العالية قـال : " قال لي ابن عبّاس رضي الله عنهما : قال لي رسول الله - غداة العقبة- : " هاتِ اُلْقُطْ لي حَصَيَات مِن حَصَى الخَذْف " فلمّا وُضعن في يده قال : " بأمثال هؤلاء ، بأمثال هؤلاء ، و إيّاكم و الغلوّ في الدّين ، فإنّما هلك مَن كان قبلكم بالغلوّ في الدّين " . [ أخرجه ابن خزيمة : 2867 و الحاكم في المستدرك : 1711 وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشّيخين و لم يخرجاه . و هو مخرّج في " الصّحيحة " : 1283 ]
قوله : " إيّاكم و الغلوّ في الدّين " و سبب هذا اللّفظ العام : رمي الجمار ، و هو داخل فيه ، فالغلوّ فيه : مثل الرّمي بالحجارة الكبار بناء على أنّه أبلغ مِن الحصى الصّغار . و النّهي هنا - و إن كان سببه خاصّا - : فهو نهيٌ عن كلّ غلوّ ، أي : نهي عامّ عن جميع أنـواع الغلوّ ، في الاعتقاد و الأعمال ، لأنّ " العبرة بعموم اللّفظ ، لا بخصوص السّبب " .
و الغلوّ : مجاوزة الحدّ ، بأنْ يُزاد الشّيء في حمده أو ذمّه ، على ما يستحقّ . و النّصارى أكثر غلوّا في الاعتقادات و الأعمال مِن سائـر الطّوائف ، و إيّاهم نهى الله عن الغلوّ في القرآن ، في قوله تعالى : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [ النّساء : 171 ] . ( اقتضاء الصّراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ص : 253 - 254 ) .
خلق الله تعالى الخلق ليعبدوه ، و أمرهم أن يوحّدوه ؛ فالعبادة هي الغاية المحبوبة لله ، فمِن أجلها فطرهم ، و بسببها أوجدهـم ، قال الله تعالى : و ما خلقتُ الجنّ و الإنس إلاّ ليعبدون [ الذّاريات : 56 ] . و بالعبادة أرسل الله تعالى جميع الرّسل ، كما قال كلٌّ مِن نوح و هود و صالح و شعيب و غيرهم - عليهم السّلام - لقومهم : اعبدوا الله ما لكم مِن إله غيره [ الأعراف : 59 ] .
و لمّا أمرهم بعبادته وحده لا شريك له ، نهاهم عن عبادة غيره ، فقال سبحانه : و لقد بعثنا في كلّ أمّة رسولا أن اعبدوا الله و اجتنبوا الطّاغوت [ النّحل : 36 ] .
و العبادة لها أصلان : أنْ لا يُعبد إلاّ الله ، و أنْ يُعبد بما أمر و شرع . قال الفضيل بن عيّاض - في قوله تعالى : ليبلوكم أيّكم أحسـن عملا [ هود : 7 ، الملك : 2 ] - قال : " أَخْلَصُه و أَصْوَبُه . قالوا : يا أبا عليّ ، ما أخلصه و أصوبه ؟ قال : العمل إذا كان خالصا و لم يكن صوابا : لم يُقبل ، و إذا كان صوابا و لم يكن خالصا : لم يُقبل ، حتّى يكون خالصا صوابا . و الخالص أنْ يكون لله ، و الصّواب أنْ يكون على السّنة " [ " حلية الأولياء " لأبي نعيم : 8 / 95 ] .
و كَمْ هم كثير الذين لم يحقّقوا شَرْطَيْ قبول العبادة - الإخلاص و المتابعة - و سأكتفي - هنا - بذكر صِنف واحد مـن هؤلاء العُبَّاد ، الذين لم يقبل الله تعالى عبادتهم ، و هم الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدّنيا و هم يحسبون أنّهم يُحسنون صنعا ، و هـذا ليحذرهم مَـن لا يعرفهم على حقيقتهم ، و لا يغترّ بصنيعهم مَن أُعجب بظاهرهم ؛ إنّهم النّصارى .
و هذه بعض مجالات تعبّدهم المنحرف :
1 - غلوّهم في الصّالحين - من العلماء و الأولياء - و هو أعظم سبب لعبادتهم إيّاهم من دون الله ، قال تعالـى : اتّخذوا أحبارهـم و رهبانهم أربابا مِن دون الله و المسيح ابن مريم و ما أمروا إلاّ ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون [ التّوبة : 31 ]
فاتخاذهم أحبارهم أربابا يحلّلون و يحرّمون ، و يتصرّفون في الكون ، و يُدعون في دفع الضّرّ أو جلب النّفع ، هذا من مظاهر عبادتهم لهم .
و لمّا غلا النّصارى في طاعة أحبارهم و رهبانهم : حرّموا على أنفسهـم أكل الطّيّبات مِن الرّزق ، و تركوا زينة الله التي أخرج لعبـاده ، قال تعالى : قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده و الطّيبات مِن الرّزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدّنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصّل الآيات لقوم يعلمون [ الأعراف : 32 ] .
عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ وَ فِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ ، فَقَـالَ :" يَا عَدِيُّ ، اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ " وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِـي سُورَةِ ( بَـرَاءَةٌ ) : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَ رُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ [ فَقُلْتُ : إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ ] .قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَ لَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ ، وَ إِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ [ فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ ] " [ التّرمذي : 309 ، و البخاري في " التّاريخ " ( 4/1/106 ) و الزّيادتان له ؛ و الحديث في " سلسلة الأحاديث الصّحيحة " : ( 3293 ) ] .وعلى هذا دلّ قوله سبحانه و تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [ المائدة : 87 ] .
2 - غلوّهم في الأنبياء و المرسلين - عليهم السّلام - قال تعالى : يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم و لا تقولوا على الله إلاّ الحقّ إنّما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه فآمنوا بالله و رسله و لا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنّما الله إلـه واحد سبحانه أنْ يكون له ولد [ النّساء : 171] .
و قد أخبرنا الله تعالى أنّه سيوبّخ النّصارى و ذلك بسبب عبادتهم للمسيح - عليه السّلام - الذي يتبرّأ مِن عُبّاده ، و يقول لربّ العزّة : مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِـمْ وَ أَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [ المائدة : 117 ] .
و عبادة النّصارى للمسيح - عليه السلام - كان سببها : الغلوّ في التّعظيم ، و الإطراء ؛ و لهذا حذّر النّبيّ أمّته من إطرائه ، خوفا من أن يقعوا فيما وقع فيه مَن قبلهم ؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنّه سَمِعَ عُمَرَ يَقُولُ - عَلَى الْمِنْبَرِ - : سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُـولُ : " لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَ رَسُولُهُ " . [ البخاري : 3445 ] . إنّ أعظم مدح لـه أنْ نقول فيه ما قال ربّنا عزّ وجلّ : إنّه عبده و رسوله ، فتلك أكبر تزكية له و ليس فيها إفراط و لا تفريط ، و لا غلوّ و لا تقصير .
و إذا كانت عبادة هؤلاء لعيسى ابن مريم شِرْكاً ، و هو من الأنبياء المرسلين ، فكيف بعبادة غيره ممّن هو دونه كالأولياء و الصّالحين ؟!
3 – دعاؤهم غير الله تعالى ، حيث يتعبّدون بإشراك أحبارهم و رهبانهم في دعاء الله تعالى و عبادتـه ، و يظنّون أنّ ذلك ممّا يحبـه الله ،
و يزعمون أنّ هؤلاء شفعاؤهم عند الله ، جاعلين بين الله و بين خلقه وسائط ما أنزل الله بها مِن سلطان ، قال تعالى: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [ يونس : 18] . و هذا لأنّ الدّعاء عبادة ، ذمّ الله المستكبرين عنها فقال - سبحانـه- : و قال ربّكم ادعوني أستجب لكم إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين [ غافر : 60 ]
4 – تنزيهم أنفسهم عمّا نسبوه لخالقهم ، فيتعبّدون بترك الزّواج الذي أحلّه الله تعالى ، و يحرّمه أحبارهم على أنفسهـم ، بحجّة أنّ ذلك منقصة في حقّهم ، و يتنزّهون عن الولد و الزّوجة ، و يقولون : إنّ تحصيل الكمال لا يكون إلاّ بالتّرفّع عن دناءة التّمتّع بالنّساء ، و هذا اقتداء منهم بالمسيح - عليه السّلام - كما يدّعون و يزعمون . و لكن ترك المسيح التّزوّج ، لعلّه كان لعارض آخر ، الله تعالى أعلم به ، و ليس ترك التّزوّج مِن صفات النّبوّة ، إذْ كان لجميع الأنبياء أزواج و ذريّة . قال شيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه الله- : " الإعراض عن الأهل و الأولاد ليس فيما يحبّه الله و رسوله ، و ليس هو دين الأنبياء و الرّسل ، فقد قال الله تعالـى : وَ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَ ذُرِّيَّةً [ الرّعد : 38 ] " . ( مجموع الفتاوى : 10 / 642 ) .
فانظر - رحمك الله - إلى سخافة العقول ، و دناءة التّفكير ، وما قادهم إليه ضلالهم ، حتّى حرّموا على أنفسهـم ما أباحه الله لهـم مٍن الطّيّبات ، و نسبوا لخالقهم ما برّؤوا به أنفسهم ، إذ جعلوا لله تعالى الولد ، كما أخبر ربّ العزّة عنهم : وَ قَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [ التّوبة : 30 ] و الله تعالى منزّه عن الصّاحبة والولد بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ الأنعام 101] . وَ أَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَ لاَ وَلَدًا [ الجنّ : 3 ] .
5 – اتّخاذهم قبور أنبيائهم و صالحيهم مساجد ، و بسبب ذلك استحقّوا اللّعنة من الله تعالى ، و قد حذّر النّبيّ أمّته مِن ذلك في غير موطن ، حتّى في وقت مفارقته الدّنيا ، ففي الصّحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : قَالَ رَسُول اللَّهِ - فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُـمْ مِنْهُ - : " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَ النَّصَارَى ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِـدَ " لَوْ لاَ ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ - أَوْ خُشِيَ- أَنَّ يُتَّخَـذَ مَسْجِدًا " . [ البخاري : 554 ، مسلم : 530 ] . و عن عَائِشَةَ وَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالاَ : " لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ ، فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ ، فَقَالَ - وَ هوَ كَذَلِكَ - : " لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُـودِ وَ النَّصَارَى ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ " يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا " . [ البخاري : 425 ، مسلم : 1215] .
وروى سعيد بن منصور - في سننه- و ابن أبي شيبة - في المصنّف- عن المعْرُور بن سُوَيْد قال : خرجنا مع عمر فـي حجّة حجّها ، فقرأ بنا في الفجر بـ : ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل و لإيلاف قريش في الثّانيـة ، فلمّا رجع مِن حجّته رأى النّاس ابتدروا المسجد ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : مسجدٌ صلّى رسول الله فيه ، فقال : " هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم ، اتّخذوا آثار أنبيائهم بِيَعاً مَن عرضت له منكم الصّلاة فيه فَلْيُصَلِّ ، و مَن لم تعرض له الصّلاة فَلْيَمْضِ " [ " مصنّف ابن أبي شيبة : 7550 ، و صحّحه الألبـاني في : " تحذير السّاجد مِن اتّخاذ القبور مساجد " ص : 82 ] .
فقد أنكر أمير المؤمنين عمر على النّاس اتّخاذ مُصلّى النّبيّ عِيدا ، و بيّن لهم علّة هذا الإنكار ، وهو أنّ أهل الكتاب إنّما هلكـوا بمثل هذا الصّنيع ، حيث كانوا يتّبعون آثار أنبيائهم ، و يتّخذونها أماكن للعبادة - كنائس و بِيَعاً - .
6 - اتّخاذهم قبور أنبيائهم أعيادا ، يقصدونها في أوقات معيّنة ، و مواسم معروفة ، للتّعبّد عندها ، و قد نهى نبيّنا عن التّشبّه بهـم ؛ روى أحمد - في مسنده - عَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " لاَ تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا ، وَ لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا ، وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَصَلُّوا عَلَيَّ ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي " [ المسند :8790 ، وأخرجه أبو داود : 1/319 و صحّحه الألباني في صحيح أبي داود: 1796 ] قال شيخ الإسلام ابن تيميّة : " و وجه الدّلالة : أنّ قبر النّبيّ أفضل قبر على وجه الأرض ، و قد نهى عن اتّخاذه عيدا ، فقبر غيـره أولى بالنّهي كائنا مَن كان ، ثمّ قرن ذلك بقوله : " ولا تتّخذوا بيوتكم قبورا " أي : لا تعطّلوها عن الصّلاة فيها ، و الدّعاء و القراءة فتكون بمنزلة القبور . فأَمَرَ بتحرّي العبادة في البيوت ، و نهى عن تحرّيها عند القبور ، عكس ما يفعله المشركون مِن النّصارى و مَن تشبّه بهم " . ( " اقتضاء الصّراط المستقيم " ص : 323 ) .
و اعلم أنّ العيد : اسم لما يعود و يتكرّر ، و قيل مأخوذ من العادة ، وكأنّهم اعتادوه . و قد يختصّ العيد بمكان بعينه ، و إذا جُعـل اسما للمكان ، فهو المكان الذي يُقصد الاجتماع فيه و إتيانه للعبادة عنده ، أو لغير العبادة ؛ فإنّ اعتياد قصد المكان المعيّن ، في وقت معيّـن ، عائد بعود السّنة أو الشّهر أو الأسبوع : هو بعينه معنى العيد . و يدلّ على هذا ما رواه أبو داود عن ثَابِت بْن الضَّحَّاكِ قَالَ : نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةَ ، فَأَتَى النَّبِىَّ فَقَالَ : إِنِّى نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةَ . فَقَالَ النَّبِىُّ " هَلْ كَانَ فِيها وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ ؟ " قَالُوا : لاَ . قَالَ : " هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ ؟ " قَالُوا : لاَ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :" أَوْفِ بِنَذْرِكَ ، فَإِنَّهُ
لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، وَ لاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ ". [ سنن أبي داود : 3313 ، و هو في صحيح أبي داود: 2834 . بُوانَـة : هَضْبَة وراء يَنْبُع ] .
7 – تعظيمهم الصّور التي في كنائسهم ، و جعلها على صورة مَن يعبدونه بالباطل ، ثمّ عبادتهم لها من دون الله تعالى ؛ و بصنيعهم هـذا كانوا شرّ البريّة ؛ ففي الصّحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنّ أمّ سلمة و أمّ حبيبة رضي الله عنهما ذَكَرَتَا لرسول الله كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها : ( مارية ) و ذَكَرَتَا مِن حسنها و تصاوير فيها ، فقال رسول الله : " أولئك قوم إذا مات فيهم العبـد الصّالح أو الرّجل الصّالح بَنَوا على قبره مسجدا ، و صوّروا فيه تلك الصّور ، أولئك شرار الخلق عند الله [ يوم القيامة ] ". [ البخاري : 3660 ، مسلم : 528 ] .
8 – إحداثهم لرهبانيّة ما فرضها الله عليهم ، و لا شَرَعَها لهم ، و لا تعبّدهم بها ، و لكنّهـم التزموها مِن تلقاء أنفسهم . وابتداع أمّـة النّصارى لها كان بدافع طلب رضوان الله - زعموا - و مع ذلك لم يقوموا بها ، و لكنّهم بدّلوا ، و خالفوا دين الله الذي بعث به عيسى عليه السّلام ، فتنصّروا و تهوّدوا ؛ قال تعالى: ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَ قَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ آَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَ جَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَ رَحْمَةً وَ رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [ الحديد : 27 ] .
و قوله : وَ رَهْبَانِيَّةً ليس معطوفا على ما قبله : رَأْفَةً وَ رَحْمَةً ، وإنّما انتصب بفعل مُضمر ، فكأنّه قيل: ( و ابتدعوا رهبانيّـةً ) أي : جاءوا بها مِن قِبَل أنفسهم ، لم يأمرهم الله بها . و الاستثناء في قوله : مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ : استثناء منقطع ، و التّقدير : " ما كتبناها عليهم ، و لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله " ( تفسير القرطبي : 17 / 263 ) .
عن قتادة قال - في قوله تعالى : وَ جَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً - فهاتـان : مِن الله ، و الرّهبانيّة : ابتدعها قـوم مِن أنفسهم و لم تُكتب عليهم ، و لكن ابتغوا بذلك و أرادوا رضوان الله ، فما رعوها حقّ رعايتها ؛ ذُكر لنا : أنّهم رفضوا النّساء ، واتخذوا الصّوامع " . ( تفسير الطّبري : 23 / 203 ) .
و ليس في الآية القرآنيّة السّابقة ثناءٌ و لا مدحٌ لأولئك القوم ، بل هي ذمّ لهم مِن وجهين :
أحدهما : في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله .
و الثّاني : في عدم قيامهم بما التزموه ، ممّا زعموا أنّه قربة ، يقرّبهم إلى الله عزّ و جلّ . ( تفسير ابن كثير : 8 / 29 ) .
و هذه الحال : هي الغالب مِن أحوالهم . ( تفسير السّعدي : 842 ) .
و الرّهبانيّة - لغةً - : من الرّهبة ، و هي الخوف مِن غير طمع ، و الفزع مع تحرّزٍ و اضطرابٍ ، و منها الرّاهب : وهو المتعبّد في صومعةٍ من النّصارى ، يتخلّى عن أشغال الدّنيا و ملاذها ، زاهدًا فيها ، معتزلاً أهلها . ( الموسوعة الفقهيّة : 2 / 8093 ) .
قال ابن الأثير : " هي مِن رهْبَنَة النّصارى ، و أصلُها : من الرَّهْبة : الخَوفِ ؛ كانوا يترَهَّبون بالتَّخلّي مِن أشْغال الدُّنْيا ، و تَرْكِ مَلاَذهـا و الزُّهْد فيها ، و العُزْلة عن أهْلها ، و تعمُّد مشاقِّها ، حتّى إنّ منهم مَن كان يَخْصي نفسَه ، و يضعُ السِّلْسِلة في عُنُقه ، وغير ذلك مِـن أنواعِ التَّعذيب ، فنفاَها النّبيّ عن الإسلام ، و نهَى المُسْلمين عنها " . ( النّهاية في غريب الحديث و الأثر : 2 / 669 ) .
و المراد مِن الرّهبانيّـة : ترهُّبُهم في الجبال ، وتعبُّدهم في الغيرانِ و الكهوف ، بزعم الفرار مِن الفتنة في الدّين ، محمّلين أنفسهم ألوانا من المشاقّ ، و متحمّلين كلفاً زائـدة على العبادات التي كانت واجبـة عليهم : مِن الخلـوة و اعتزال النّاس ، و لُبس الخَشِن من الثّياب و ارتداء المسوح ، و الامتناع مِن المطعم الطيّب و أكل اللّحم ، و تحريم النّكاح المباح باعتزال النّساء ، و المبالغـة في العبادة بمواصلـة الصّوم ؛ و هذا كلّه بحجّة الزّهد في متاع الحياة الدّنيا . ( تفسير البغوي : 8 / 42 ) .
و في هذه التّصرّفات : تعذيب لأبدانهم ؛ وفي عزوفهم عن الطّعام و النّوم : رهبانيّة ، لا تُمَثِّلُ روح الدّين و لا تَمْتَثِلُ له ؛ و مِن نتائجها السيّئة , وآثارها المذمومة : أنْ يُنحل الجسم ، و يُضعف القوّة ، فيقعد أحدهم عن العمل ، فلا يضرب في الأرض بالسّعي طلبـا للرّزق و المعاش ، متظاهرا بالتّنسّك والتّعبّد ، مدّعيا التّزهّد في الدّنيا ، حيث يصبح عالة على غيره ، فيمدّ يده بالسّؤال ، تردّه اللّقمة و اللّقمتان و أمّا عن تركهم للزّواج ، فيقال لهم : لو لم يكن فيه إلاّ تحصين الفرج ، و طلب الولد الصّالح الذي يدعو لوالديه بعد وفاتهما ، و يقـوم عليهما في حياتهما : لكان ذلك كافياً .
و هؤلاء الذين حرّموا على أنفسهم الطّيّبات ، و منعوها من الملاذ ، و ما فُطرت عليه مِن الزّواج ، و طيّب الملبس و المأكل ، ينظـرون إلى هذه المباحات على أنّها رِجْس من عمل الشّيطان يجب اجتنابه ؛ و يرون الجسد سجنًا للرّوح ، يحول بينها و بين أشواقها العالية ، لذا قاموا على إرهاقه و تعذيبه بألوان من العذاب ، حتّى تحوّل إلى شبح هزيل ، يسكن المغاور و الكهوف ، و ينفر مِن كلّ الصِّلات الإِنسانية و بسبب إفراطهم و غلوّهم : ضلّوا عن سواء السّبيل . ( " الوسطيّة في ضوء القرآن الكريم " لناصر بن سليمان العمر . ص : 326 ) .
و قد كان النّبيّ يكره مشابهة أهل الكتاب في هذه الآصار و الأغلال ، و زجر أصحابه عن التّبتّل ، و قال فيما يعيب أهـل الكتاب ، و يحذّر موافقتهم : " لا تشبّهوا باليهود و لا بالنّصارى " [ أخرجه الترمذي : 2696 ، انظر الصّحيحة : 2194 ] وقال : " إنّي لـم أُومر بالرهبانيّة " [ أخرجه الدّارمي : 2 / 132 ، و هو في الصّحيحة : 394 ] .
و مِن ذلك تحذيره من اتّباعهم في ترك الزّواج ، كما في حديث أبي أمامة - مرفوعا- : " تزوّجوا فإنّي مُكاثر بكم الأمم يوم القيامة ، و لا تكونوا كرهبانيّة النّصارى " . [ البيهقي في " السّنن الكبرى " ( 7 / 78 ) و هو في السّلسلة الصّحيحة : 1782 ] .
ومِن ذلك : نهيه عن تقليدهم في التّشدّد في الدّين ، إذْ قال : " لا تُشدّدوا على أنفسكـم ، فإنّما هلك مَن قبلكم بتشديدهم علـى أنفسهم ، و ستجدون بقاياهم في الصّوامع و الدّيارات " [ أخرجه البخاري في " التاريخ " و هو في " الصّحيحة " : 3124 ] .
ففي هذا الحديث : نهي النّبيّ عن التّشدّد في الدّيـن ، بالزّيادة على المشروع . و التّشديد ، تارة يكون : باتّخاذ ما ليس بواجب و لا مستحب بمنزلة الواجب و المستحبّ في العبادات ؛ و تارة باتّخاذ ما ليس بمحرّم ولا مكـروه بمنزلة المحرّم و المكروه في الطّيّبات ؛ و علّل ذلك بأنّ الذين شدّدوا على أنفسهم - مِن النّصارى - شدّد الله عليهم لذلك ، حتّى آل الأمـر إلى ما هم عليه مِن الرّهبانيّة المبتدعة .
( اقتضاء الصّراط المستقيم ص : 248 ) .
و مِن ذلك - أيضا - ما في الصّحيحين عن أنس بن مالك قال : " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النّبيّ يسألون عن عبادة النّبيّ فلمّا أُخبروا كأنّهم تقالّوها ، فقالوا : و أين نحن مِن النّبيّ وقد غَفَر له الله ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ؟ فقال أحدهم : أما أنا فأصلّـي اللّيل أبدا . و قال الآخر : أنا أصوم الدّهر أبدا . وقال الآخر : أنا أعتزل النّساء ، فلا أتزوّج أبدا [ هذا لفظ البخاري ، ورواية مسلم : " سألوا أزواج النّبيّ عن عمله في السّرّ ، فقال بعضهم : لا أتزوّج النّساء ، و قال بعضهم : لا آكل اللّحم . وقال بعضهم : لا أنـام على فراش " ] فجاء رسول الله إليهم فقال : " أنتم الذين قلتم كذا و كذا ؟ أمَا و الله إنّي لأخشاكم لله و أتقاكم له ، و لكنّي أصوم و أفطر ، و أصلّي و أرقد ، و أتزوّج النّساء ، فَمَنْ رغب عن سنّتي فليس منّي " . [ البخاري : 5063 ، و مسلم : 1401 ] .
و الأحاديث الموافقة لهذه كثيرة في بيان أنّ سنّته الاقتصاد في العبادة ، و ترك الشّهوات ؛ و هي خير من رهبانيّة النّصارى ، التي فيها ترك عامّة الشّهوات - مِن النّكاح و غيره - و الغلوّ في العبادات - صوما و صلاة - . ( اقتضاء الصّراط المستقيم :250 - 251 ) .
و رهبانيّة الإسلام : هي الجهاد في سيبل الله تعالى ، لما أخرجه أحمد عن أبي سعيد الخدري : أنّ رجلا جاءه فقال : أَوْصِني ، فقال : سألتَ عمّا سألتُ عنه رسولَ الله مِن قبلك ، فقال : " أوصيك بتقوى الله : فإنّه رأس كلّ شيء ، و عليك بالجهاد : فإنّه رهبانيّة الإسلام ،
و عليك بذكر الله و تلاوة القرآن : فإنّه روحك في السّماء ، و ذكرك في الأرض " . [ المسند ( 3 / 82 ) وهو في الصّحيحة : 555 ]
و هذه الرّهبانيّة التي نذرها النّصارى لله بالانقطاع عن اللّذائذ ، و إعنات النّفس ، و الامتناع عن كثير مـن الطّيّبات ، وإحداث أمـور جعلوها من الدّين ؛ اعتبرت هذه التّصرّفات كلّها عبادات ، و ذلك لأنّ أصحابها إنّما يفعلونها بقصد التّقرّب إلى الله زعموا . قال شيـخ الإسلام ابن تيميّة - رحمة الله عليه - : " كما أنّ النّصارى يفعلون مثل هـذا السّماع في كنائسهم على وجه العبادة و الطّاعة ، لا على وجه اللّهو و اللّعب ... و مِن المعلوم أنّ الدّين له أصلان : فلا دين إلاّ ما شرع الله ، و لا حرام إلاّ ما حرّمه الله ؛ و الله تعالى عاب على المشركين أنّهم حرّموا ما لم يحرّمه الله ، و شرعوا دينا لم يأذن به الله . ولو سئل العالم عمّن يَعْدُو بين الجبلين ، هل يُباح له ذلك ؟ قـال : نعم ، فإذا قيل : إنّه على وجه العبادة كما يسعى بين الصّفا و المروة ؟ قال : إنْ فعله على هذا الوجه : فهو حرام مُنكـر، يُسْتَتَاب فاعله فإنْ تاب و إلاّ قتل . و لو سئل عن كشف الرّأس ، و لُبس الإزار و الرّداء ؟ أفتى بأنّ هذا جائز . فإذا قيل : إنّه يفعله على وجه الإحرام كما يحرم الحاجّ ؟ قال : إنّ هذا حرام منكر . ولو سئل عمّن يقوم في الشّمس ؟ قال : هذا جائز. فإذا قيل : إنّه يفعله على وجه العبادة ؟ قال : هذا منكر ، كما روى البخاري عن ابن عبّاس أنّ رسول الله رأى رجلا قائما في الشّمس فقال : " مَن هذا ؟ " قالوا : هذا أبو إسرائيل ، نذر أنْ يقوم في الشّمس ، و لا يقعد ، ولا يستظل ، ولا يتكلّم ، فقال النّبيّ : " مُرُوه فليتكلّم ، و ليجلس ، و ليستظل و ليتمّ صومه " [ صحيح البخاري : 6326 ] . فهذا لو فعله لراحة ، أو غرض مباح : لم يُنْهَ عنه ، لكن لما فعله على وجه العبادة : نُهي عنه " . ( مجموع الفتاوى : 11 / 631 - 632 ) .
و هذه الرّهبانيّة تشدّد ، و غلوّ في الدّين ، و قد نهى رسولنا أمّته عن ذلك ، و أمرهم بما جاءت به الحنيفيّة : مِن مخالفة اليهود فيمـا أصابهم مِن القسوة عن ذكر الله و عمّا أُنزل ، ومخالفة النّصارى فيما هم عليه مِن الرّهبانيّة المبتدعة ؛ فعن أبي العالية قـال : " قال لي ابن عبّاس رضي الله عنهما : قال لي رسول الله - غداة العقبة- : " هاتِ اُلْقُطْ لي حَصَيَات مِن حَصَى الخَذْف " فلمّا وُضعن في يده قال : " بأمثال هؤلاء ، بأمثال هؤلاء ، و إيّاكم و الغلوّ في الدّين ، فإنّما هلك مَن كان قبلكم بالغلوّ في الدّين " . [ أخرجه ابن خزيمة : 2867 و الحاكم في المستدرك : 1711 وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشّيخين و لم يخرجاه . و هو مخرّج في " الصّحيحة " : 1283 ]
قوله : " إيّاكم و الغلوّ في الدّين " و سبب هذا اللّفظ العام : رمي الجمار ، و هو داخل فيه ، فالغلوّ فيه : مثل الرّمي بالحجارة الكبار بناء على أنّه أبلغ مِن الحصى الصّغار . و النّهي هنا - و إن كان سببه خاصّا - : فهو نهيٌ عن كلّ غلوّ ، أي : نهي عامّ عن جميع أنـواع الغلوّ ، في الاعتقاد و الأعمال ، لأنّ " العبرة بعموم اللّفظ ، لا بخصوص السّبب " .
و الغلوّ : مجاوزة الحدّ ، بأنْ يُزاد الشّيء في حمده أو ذمّه ، على ما يستحقّ . و النّصارى أكثر غلوّا في الاعتقادات و الأعمال مِن سائـر الطّوائف ، و إيّاهم نهى الله عن الغلوّ في القرآن ، في قوله تعالى : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [ النّساء : 171 ] . ( اقتضاء الصّراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ص : 253 - 254 ) .
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع