من فقه الدعوة الإسلامية (3)
الاهتمام بترتيب الأولويات في الدعوة
الاهتمام بترتيب الأولويات وتعلم فقهها من أهم قواعد الانطلاق الدعوي الصحيح، والتخبط في هذا الباب، والاستهانة به، لا ريب أنه مخالف للنصوص الشرعية الواضحة من الكتاب والسنة، وعمل أهل العلم وسلف الأمة، كما أنه طريق بعيد عن الوصول إلى جنى الثمار الحقيقية للدعوة إلى الله تعالى، كما أنه بعد ذلك عقبة في طريق العمل الإسلامي وتقدمه.
والإشكال هنا أن كثيرًا من الناس عندما ينطلق في طريق الدعوة إلى الله، لا يلتفت كثيرًا إلى أهمية هذا الفقه ومكانته، ولا إلى العواقب والنتائج من وراء تركه، هذا من جانب، أما على الجانب الآخر فنجد فريقًا آخر قد احتفى بهذا الباب، وعني بها أيما عناية، إلا أنه حيزه إلى فكر بذاته، أو اتجاه دعوي بذاته، ثم ينزل في هذا الاتجاه بعد ذلك النصوص الواردة، والتي يرجوا منها أن تؤكد وجهته، وتدعم دعوته، وكلا الأمرين بهذا التصور العقلي والفكري طرفي نقيض.
والحق؛ أن الأمر لا يرجع إلا اجتهاد بشري، أو فكر دعوي، إنما مرجعه إلى الشرع، وإلى ما دلت عليه نصوص الشرع من الكتاب والسنة، لأن الدعوة إلى الله تعالى من الواجبات الشرعية المأمور بها، والتي بها تكون خيرية الأمة المسلمة دائمة، فلا بد إذًا أن يجتمع الدعاة إلى الله تعالى على هذه القاعدة، ثم بعدها نرى..
ونحن إذا تأملنا دعوة كل الأنبياء والرسل - عليهم السلام -، من خلال القصص الوارد عنهم في القرآن، ظهر لنا وبدون لف أو مواربة، أنهم جميعًا متفقون ابتداءً على الدعوة إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة، ثم بعد هذا الأمر ينطلق النبي والرسول بدعوة قومه بما هو أولى لهم، وأهم في واقعهم، لا في واقع غيرهم من الأمم والأقوام.
وقد قال تعالى في هذا عن دعوة جميع الأنبياء والرسل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
وقال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّن إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}[الأعراف: 65].
وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}[الأعراف: 73].
وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}[الأعراف: 85].
وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُون مِن دُونِ اللهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَّعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدوهُ واشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[العنكبوت: 17،16]، إلى غير ذلك من الآيات..
ثم بعد إقرار هذا الأصل العظيم من التوحيد لله تعالى، والتوجه له وحده بالعبادة دون ما سواه من الآلهة الباطلة، نجد أن كل نبي ينطلق في علاج أمراض أمته، وقضاياها المصيرية، فنجد على سبيل المثال نبي الله إبراهيم – عليه السلام - يرسخ قضية التوحيد ونبذ الشرك وعبادة الأصنام الباطلة المدعاة من دون الله، وكذلك كانت قضية نبي الله نوح – عليه السلام -، بينما نجد أن نبي الله شعيبًا – عليه السلام - قام يدعوا بعد العقيدة والتوحيد إلى تطهير المجتمع من داء الغش والتطفيف في البيع والشراء، ونجد نبي الله لوطًا – عليه السلام - يحذر قومه من الفواحش واللواط والشذوذ والمنكرات، وهكذا صارت دعوة كل الرسل - عليهم الصلاة والسلام - في طريقها.
فدعوتهم تقدم الأهم فالمهم، ولقد اتفقوا جميعًا على أصل الانطلاق الدعوي، نحو التغيير والإصلاح لأممهم وأقوامهم، ونحن لنا فيهم الأسوة الحسنة في ذلك ولا ريب.
وحسبنا هنا دعوة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، والتي كان عمادها أولًا على التأسيس على التوحيد والعقيدة، حيث وجدنا في سيرته - صلى الله عليه وسلم - أنه ظل في دعوة الناس من الكفار والمشركين فترة طويلة في مكة، تزيد على الثلاثة عشر عامًا، وكان القرآن ينزل ويؤكد هذا جليًا، ولهذا كانت السور القرآنية التي نزلت بمكة تزيد كثيرًا، على السور التي نزلت بالشرائع والأحكام بعد هذا في المدينة.
كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يؤكد هذا الأمر في تقديم الأهم فالمهم في دعوة الناس وتعليمهم شريعة الإسلام العظيمة، فقد روى أبو داود بسنده؛ عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذًا إلى اليمن فقال: "إنك تأتي قوما أهل كتاب؛ فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات، في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب".
فتأمل كيف علم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – معاذًا – رضي الله عنه - أصول الدعوة، وأولوياتها، وكيف أرشده إلى التدرج في الدعوة والتعليم مع الناس، وذلك حتى لا ينفروا من كثرة التعاليم عليهم، وحتى يكون أدعى لقبول الإسلام وتطبيقه في واقعهم.
ثم نجد خبرًا آخر في تقديم الإيمان والعمل به على غيره من شرائع الإسلام، كما جاء عن أبي هريرة – رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور". متفق عليه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها: قول لا إله إلا الله وأدناها، إماطة الأذى عن الطريق، والحياة شعبة من الإيمان". متفق عليه.
كما أن النبي – صلى الله عليه وسلم – يؤكد في مواقف كثيرة على مسائل الإيمان والعقيدة، وحتى في تعليم الناس والشباب كما جاء الحديث عن ابن عباس قال: كنت خلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يومًا فقال: "يا غلام إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف".رواه الترمذي، وقال هذا حديث حسن صحيح .
وكذلك التأكيد على أعمال القلوب من الخوف والرجاء والتوكل والخشية والصدق وغيرها، فعن أبي ثابتٍ، وقيل: أبي سعيدٍ، وقيل: أبي الوليد، سهل بن حنيفٍ، وهو بدريٌ، - رضي الله عنه - أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "من سأل الله - تعالى - الشهادة بصدقٍ بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه". رواه مسلم.
وعن عمر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "لو أنكم تتوكلون على الله حق وتوكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً". رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ.
وعن أبي عمروٍ، وقيل: أبي عمرة سفيان بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً، لا أسأل عنه أحداً غيرك. قال: "قل: آمنت بالله، ثم استقم". رواه مسلم.
إذًا هذا هو منهج النبوة في الدعوة إلى الله تعالى، والاهتمام بفقه الأولويات في مسار الدعوة والعمل الإسلامي المعاصر، لكن في ذات الوقت علينا أن نعلم؛ أننا لا نغفل مع هذا كما يقال كثيرًا من مسائل الواقع الأليم لحال الأمة الإسلامية اليوم، ولكن لكل حال مقال، ولكل واقع فقهه وأولوياته، وإن الإغراق في الواقع بعيدًا عن تأصيل العقيدة الصحيحة، والتربية الإسلامية الرشيدة، هو ضرب من التكلف والبعد عن منهاج النبوة، كما قال العلامة الألباني - رحمه الله تعالى -: "القول الوسط الحق في "فقه الواقع": فالأمر إذًا كما قال الله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا" [البقرة: 142] ففقه الواقع بمعناه الشرعي الصحيح؛ هو واجب بلا شك، ولكن وجوبًا كفائيًا، إذا قام به بعض العلماء سقط عن سائر العلماء، فضلًا عن طلاب العلم، فضلًا عن عامة المسلمين.
فلذلك يجب الاعتدال بدعوة المسلمين إلى معرفة "فقه الواقع". وعدم إغراقهم بأخبار السياسة وتحليلات مفكري الغرب وإنما الواجب دائمًا وأبدًا، الدندنة حول تصفية الإسلام مما علق به من شوائب، ثم تربية المسلمين: جماعات وأفرادا على هذا الإسلام المصفى، وربطهم بمنهج الدعوة الأصيل: الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة"([1]).
وليعلم كل داعية أننا لا نعارض الدعوة إلى الله تعالى بمواجهة الباطل، أو مقاومة المد التنصيري الجارف، أو الاهتمام بشؤون السياسة والاقتصاد وغيرها، كلا.. ثم كلا؛ لأننا نرى هذه الأمور وغيرها من الأهمية والضرورة بمكان، كما أنها من شرائع الدعوة وفقهها.
لكن الإشكال أن تتحول مثل هذه القضايا الكبيرة - ولا ريب – إلى أصول واهتمامات، تفوق حجمها وكمها، في حين أن كثيرًا من الناس لا يعلمون شيئًا عن ربهم ولا عن أسمائه الحسنى وصفاته العلى، بل ويقعون في صور وألوان من الشرك في الأقوال والأعمال، بل ولا يعملون للآخرة حساب إلا من رحم الله، وانشغلوا بالمال والدولار، وشؤون السياسة والاقتصاد، أكثر من تلاوتهم لآيات القرآن، والعمل بشريعته وأحكامه، كما انتشرت فيهم الكثير من البدع والخرافات في باب العقيدة والعبادة، وأيضًا مظاهر الانحراف الأخلاقي والسلوكي والفكري، واللهث وراء التقليد الأعمي للشرق والغرب، والاقتداء بمن ليسوا بأهل للقدوة في شيء.
إن الدعاة لا يغفلون عن مثل هذا، لكنهم لا يعالجون أعراض المرض، ولكنهم يعالجون أصوله وجذوره، فما من انحراف في العقيدة والعبادة والفكر والسلوك، إلا ومصدره ضعف الانتماء الصحيح لهذا الدين، والجهل الحقيقي بشرائعه وأحكامه من الكتاب والسنة، لكننا نغرم كثيرًا بالأفكار والاتجاهات العقلية والفكرية، والتي غالبًا لا تستمد منهجها وعملها من وحي الله، وسنة رسوله، وعمل السلف الصالح، وصدق الله تعالى إذ يقول: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [يوسف:108].
وبعد كل هذا لا يفوتنا أن نقول؛ إن فقه الأولويات باب عظيم ومهم، شريطة أن يلتزم الداعي إلى الله فيه منهاج النبوة، وفقه الدعوة الصحيح، من غير إفراط ولا تفريط.
كما أن هناك مسألة مهمة في هذا الباب من الأهمية بمكان؛ وهي أن الدعوة إلى العقيدة الصحيحة الصافية لا ينتقل منها إلى غيرها، كلا؛ إنما ينتقل معها إلى غيرها، لأن العقيدة هي الركن الأساس لجميع الشعائر والأخلاق والمنطلقات، فهي ثابتة في كل مرحلة، تأصيلًا وتدليلًا.
لكن يرد هنا أمر آخر، وهو أن يعتقد أحد بعد هذا التوجيه والتأصيل؛ أنه ما هو إلا ترف من النظر والفكر، ولا حاجة له في فقه الواقع، وهنا تكمن المشكلة في التصورات الخاطئة.
* * *