الرد على الموضوع

من فقه الدعوة (2)


التزود من سير الدعاة والصالحين على طريق الدعوة


الداعية إلى الله تعالى ليس في الميدان وحيدًا، ولا يسير في الطريق وحده، وإنما هو واحد من كثير من السابقين على الطريق، فعليه أن يأخذ الزاد ممن سبق، وأن ينظر في سيرهم، ويلتمس العبرة في منهجهم ودعوتهم، وأخلاقهم وعبادتهم، وأن يتزود من معينهم، ويعمل كما عملوا، ويصبر كما صبروا "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" [يوسف: 111].


وفي نظر الداعية الصادق إلى السابقين دروس وعبر، من التبليغ للرسالة، والصبر على الكيد والمكر، وسعة الصدر للناس، وسعة الأفق في التعامل في الأحداث الجارية، والتخلق بآداب وأخلاق الدعاة الموفقين من الله تعالى.


ولو تأملنا بعضًا من سور القرآن لوجدنا المثل الأعلى لكل داعية إلى الله على طريق الدعوة، وهذا المثل الجليل يتمثل في "أنبياء الله ورسله عليهم السلام"، وهم ولا ريب أول الدعاة إلى طريق الله وعبادته وتوحيده، فلكم دعوا إلى توحيد الله تعالى أقوامهم، ولكم أوذوا في سبيل الله، ولاقوا من الصدود والكيد، وصنوف الإيذاء والإعراض.


فهذا أول رسل الله إلى قومه نوح - عليه السلام -، يأمره الله بدعوتهم، وتبليغهم، وإخراجهم من عبادة الأوثان والأصنام، إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومكث فيهم قرابة الألف عام، يدعوا بكل السبل في السر والجهر، في الليل والنهار، في النوادي والمجتمعات حتى جاء وعد الله كما قال تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ" [العنكبوت: 14].


وهذا إبراهيم - عليه السلام -، يدعوا قومه ويأخذ بيدهم إلى الله، ويحمل دعوته بهمة عالية، حتى أنه أجهز على أصنامهم فحطمها، وجعلها جذاذًا، وتعرض للحرق في النار، ومع ذلك صبر وجاهد كما قال تعالى: "وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" [العنكبوت: 17،16].


وهذا يوسف  - عليه السلام -، ولكم تعرض إلى صنوف من الابتلاءات والمحن منذ صغره، فلقد ألقي في الجب، وبيع مملوكًا، ودخل السجن في محنة امرأة العزيز، فما كلّ ولا ملّ، لكنه دعا إلى الله وهو في سجنه إلى توحيد الله تعالى وعبادته دون ما سواه كما قال تعالى: "يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [يوسف: 40،39].


وهذا موسى - عليه السلام -، يتعرض لكثير من الإيذاء من بني إسرائيل، ويرى ألوانًا من عنتهم وشدتهم، ومع ذلك صبر كثيرأ كما قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا" [الأحزاب: 69]. وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر".


وهذا النبي - محمد صلى الله عليه وسلم -، سيد الدعاة والمصلحين، صاحب المثل الأعلى الفريد، يدعوا إلى توحيد الله تعالى وعبادته، فيواجه من قريش وكفارها بصنوف وألوان من الكيد والعنت، والمكر والصد، حتى تآمر القوم – كما روت لنا كتب السير – على قتله، والاستراحة منه ومن دعوته، لكن الله تعالى كان في كل موقف مؤيده ونصيره، حتى مكن الله له ولصحابته الكرام، وهاجروا إلى المدينة، وقامت لهم الدولة والخلافة، بعد صبر وجهاد ويقين، وكم بين الله ذلك في كتابه العزيز كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ" [المدثر: 1-7]. وقال تعالى: "وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" [القصص: 88،87].


ولا ينسى الداعية بعد هذا أن ينظر في عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ليأخذ منها خير زاد، فلقد كان يقوم من الليل حتى تورمت قدماه، ويصلي ويطيل القراءة والقيام والركوع والسجود، وكان كثير الصيام والذكر، والسعي لحوائج الناس والضعفاء، ولا يرد سائلًا، ولا ينهر مخالفا، وقد قال تعالى له في كتابه: "أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا * وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا" [الإسراء: 78-80]. وقال أيضأ: "يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا" [المزمل: 1-4].


فهذا بعض من أمرهم ودعوتهم، يجب على الداعية أن يطالعه ويقف معه طويلًا، على طول الطريق، عندها تهون عليه شدائد الطريق وآلامه، ويعلم أن العاقبة له لا لأعدائه، وأنه مؤيد منصور، لأنه على درب الأنبياء والمرسلين يسير، ومن قصصهم يأخذ الزاد والعبرة؛ "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ".


اكتب معهد الماهر
أعلى