تسابيح ساجدة
لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
- إنضم
- 16 أكتوبر 2010
- المشاركات
- 8,111
- النقاط
- 38
- الإقامة
- المعهد
- احفظ من كتاب الله
- اللهم إجعلنا من العاملين به... آمين
- احب القراءة برواية
- حفص
- القارئ المفضل
- هم كُثر ,,,
- الجنس
- أخت
خبايا الخلوات ...
د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم
الحمد لله الذي يعلم السر وأخفى، وإليه منتهى كل شكوى، قدر فهدى، وأخرج المرعى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ذا الخشية الكبرى والشفاعة العظمى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أولي المكارم والنهى.
أيها المؤمنون!
إن للعبد مقامات بين يدي مولاه، يُمتحن فيها الإيمان، وتُبلى بها السرائر، وتبين عندها التقوى، وتَعظم بها الأجور والأوزار. وإن من أشد تلك المقامات امتحاناً مقام الخلوة، وغياب العبد عن ملاحظة العيون إلا عين الخالق جل وعلا. تلك الحال هي المحكُّ لتحقيق التقوى؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 48، 49]. حال رفعت أقواماً، ووضعت آخرين. وللقوم فيها أخبار وأسرار. فمنهم موفقون استحضروا مراقبة الله لهم، وأيقنوا باستواء السر والعلن في علمه: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾ [الرعد: 9، 10]، فكانت خلوتهم لهم مزادةَ برٍّ، ورفعةَ درجة، وتنوعَ قربة. يقول الإمام مالك: "كَانَ النَّاسُ يُحِبُّونَ الْخَلْوَةَ وَالانْفِرَادَ"، ويقول أبو بكر الوراق: "وَجَدْتُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي الْخَلْوَةِ وَالْعُزْلَةِ، وَوَجَدْتُ شَرَّهُمَا فِي الْكَثْرَةِ وَالِاخْتِلَاط".
معشر الإخوة!
الخلوة عند الصالحين موطن محاسبة النفس واستصلاح عيبها، فقد عنّف عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحدَ رعيته، ثم دخل بيته فافتتح الصلاة، فصلى ركعتين، ثم جلس، فقال: "يا ابن الخطاب، كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزّك الله، ثم حملك على رقاب المسلمين، لجأ رجل يستعديك فضربته، ما تقول لربك غداً إذا أتيته؟ "، يقول الأحنف بن قيس: فجعل يعاتب نفسه معاتبة ظننت أنه من خير أهل الأرض. رواه ابن عساكر. وسأل فَيْضُ بْنُ إِسْحَاقَ الْفُضَيْلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ مِنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 33]، قَالَ: "الْمُنِيبُ الَّذِي يَذْكُرُ ذَنْبَهُ فِي الْخَلْوَةِ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ". وفي الخلوات لذة المناجاة، يقول مسلم بن يسار: "مَا تَلَذَّذَ الْمُتَلَذِّذُونَ بِمِثْلِ الْخَلْوَةِ بِمُنَاجَاةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ"، ويقول محمد بن يوسف: "مَنْ أَرَادَ تَعْجِيلَ النِّعَمِ فَلْيُكْثِرْ مِنْ مُنَاجَاةِ الْخَلْوَة".
ودمعة الخشية في الخلوة سبب للاستظلال بظل الله سبحانه يوم القيامة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، ومنهم: "رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه". رواه البخاري ومسلم. وصدقة الخلوة أحرى ما يكون قبولها، كان علية بن زيد رجلاً من أصحاب النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلّم -، فلما حضّ على الصدقة جاء كلّ رجل منهم بطاقته وما عنده، فقال علية بن زيد: اللَّهمّ إنه ليس عندي ما أتصدّق به، اللَّهمّ إني أتصدّق بعرضي على من ناله من خلقك، فأمر رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلّم - منادياً، فنادى: أين المتصدق بعرضه البارحة؟ فقام علية، فقال: قد قبلت صدقتك. رواه ابن مردويه والبيهقي في الشعب بنحوه وله شاهد صحيح كما قال الحافظ. وتلاوة القرآن في الخلوة من أعظم ما يصلح القلب ويوفق لحسن الختام، لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا بَكْرٍ بْنَ عَيَّاشٍ الْوَفَاةُ بَكَتْ أُخْتُهُ، فَقَالَ: لَا تَبْكِ؛ انْظُرِي إِلَى تِلْكَ الْخَزَانَةِ أَوِ الزَّاوِيَةِ الَّتِي فِي الْبَيْتِ قَدْ خَتَمَ أَخُوكِ فِي هَذِهِ الزَّاوِيَةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفٍ خَتْمَةٍ. والحياء من الله من خصال المتقين في خلوتهم، فقد سأل معاوية بن حيدة رضي الله عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: "احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ"، فَقَالَ: الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ؟ قَالَ: "إِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ فَافْعَلْ"، قُلْتُ: وَالرَّجُلُ يَكُونُ خَالِيًا، قَالَ: "فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ": ". رواه الترمذي وحسنه. والعلم أنيس الخلوة، يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: " تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ؛ فَإِنَّ تَعْلِيمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةً وَطَلَبَهُ عِبَادَةً، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَعَالِمُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمَنَارُ سُبَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ الْأُنْسُ فِي الْوَحْشَةِ وَالصَّاحِبُ فِي الْغُرْبَةِ وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالسِّلَاحُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالزَّيْنُ عِنْدَ الْأَخِلَّاء "رواه ابن عبدالبر. والصلاة شعار الصالحين في خلواتهم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ، إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ ". رواه مسلم. كَانَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ إِذَا دَخَلَ فِرَاشَهُ كَانَ فِي فِرَاشِهِ بِمَنْزِلَةِ الْقَمْحَةِ فِي الْمِقْلَاةِ عَلَى النَّارِ وَكَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ النَّارَ مَنَعَتْ مِنِّي النَّوْمَ، فَيَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ فَيُصَلِّي حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى يَأْتِيَ الْفِرَاشَ حَبْوًا أَوْ زَحْفًا. وجمال أعمال الصالحين في خلوتهم اقترانها بالإخلاص بها إن انفكت من العجب؛ وذلك من أجلِّ مقاصدها يقول ذو النون: "لَمْ أَرْ شَيْئًا أَبْعَثَ لِلْإِخْلَاصِ مِنَ الْوَحْدَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا خَلَا لَمْ يَرَ غَيْرَ اللَّهِ، فَإِذَا لَمْ يَرَ غَيْرَ اللَّهِ لَمْ تُحَرِّكْهُ إِلَّا خَشْيَةُ اللَّهِ، وَمَنْ أَحَبَّ الْخَلْوَةَ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِعَمُودِ الْإِخْلَاصِ وَاسْتَمْسَكَ بِرُكْنٍ كَبِيرٍ مِنْ أَرْكَانِ الصِّدْقِ".
أيها المؤمنون!
بتقوى الله في الخلوة تتحقق المغفرة والأجر الكبير، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾[الملك: 12]، وبها يكسب العبد محبة مولاه، يقول رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ". رواه مسلم. وبهذه الخصلة يرتفع قدر العبد عند الخلق، وتوضع له المهابة، يقول الإمام أحمد: ما رفع الله ابن المبارك إلا بخبيئة بينه وبين الله. ويقول ابن القيم: "جَرَتْ عَادَةُ اللَّهِ الَّتِي لَا تُبَدَّلُ وَسُنَّتُهُ الَّتِي لَا تُحَوَّلُ: أَنْ يُلْبِسَ الْمُخْلِصَ مِنْ الْمَهَابَةِ وَالنُّورِ وَالْمَحَبَّةِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ وَإِقْبَالِ قُلُوبِهِمْ إلَيْهِ مَا هُوَ بِحَسَبِ إخْلَاصِهِ وَنِيَّتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ لِرَبِّهِ، وَيُلْبَسَ الْمُرَائِيَ اللَّابِسَ ثَوْبَيْ الزُّورِ مِنْ الْمَقْتِ وَالْمَهَانَةِ وَالْبِغْضَاء مَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ؛ فَالْمُخْلِصُ لَهُ الْمَهَابَةُ وَالْمَحَبَّةُ، وَلِلْآخَرِ الْمَقْتُ وَالْبَغْضَاءُ ". كَانَ حَبِيبٌ أَبُو مُحَمَّدٍ تَاجِرًا يَكْرِي الدَّرَاهِمَ، فَمَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ، فَإِذَا هُوَ بِصِبْيَانٍ يَلْعَبُونَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَدْ جَاءَ آكِلُ الرِّبَا، فَنَكَّسَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: يَا رَبِّ، أَفْشَيْتَ سِرِّي إِلَى الصِّبْيَانِ، فَرَجَعَ فَجَمَعَ مَالَهُ كُلَّهُ، وَقَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي أَسِيرٌ، وَإِنِّي قَدِ اشْتَرَيْتُ نَفْسِي مِنْكَ بِهَذَا الْمَالِ فَأَعْتِقْنِي، فَلَمَّا أَصْبَحَ تَصَدَّقَ بِالْمَالِ كُلِّهِ وَأَخَذَ فِي الْعِبَادَةِ، ثُمَّ مَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ بِأُولَئِكَ الصِّبْيَانِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اسْكُتُوا فَقَدْ جَاءَ حَبِيبٌ الْعَابِدُ، فَبَكَى وَقَالَ: يَا رَبِّ أَنْتَ تَذُمُّ مَرَّةً وَتَحْمَدُ مَرَّةً، وَكُلُّهُ مِنْ عِنْدِكَ.
بارك الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فاعلموا...
أيها المؤمنون!
وثمت قوم شقوا بالخلوات، فكانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها مغترين بستر الله وحلمه، حدّث عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا"، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا". رواه ابن ماجه وصححه البوصيري. وذنوب الخلوات المستمَرُّ عليها سبب الانتكاس وسوء الختام، يقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ". رواه البخاري ومسلم. يقول ابن رجب: "إنَّ خاتمة السُّوءِ تكونُ بسبب دسيسةٍ باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، إما من جهة عمل سيئ ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سُوءَ الخاتمة عند الموت ". وفي هذا العصر الذي سهلت فيه الخلوة بالمعصية وكثرت عبر أجهزة تقنية لا تتعدى حجم الكف تصنع وتنقل شراً مستطيراً لا عاصم منه إلا الله، وجب زرع وتعاهد وازع الخوف من الله ومحبته والحياء منه واستحضار مراقبته في نفوسنا ومن ولّانا الله أمره أو كلفنا بنصحه والمبادرة بالتوبة حال الزلل وإن تعدد عسى الله أن يحفظنا مما يسخطه ويرزقنا خشيته في الغيب والشهادة.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة
والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها
إن الذي خلق الظلام يراني
والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها
إن الذي خلق الظلام يراني
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع