ابن عامر الشامي
وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
- إنضم
- 20 ديسمبر 2010
- المشاركات
- 10,237
- النقاط
- 38
- الإقامة
- المملكة المغربية
- احفظ من كتاب الله
- بين الدفتين
- احب القراءة برواية
- رواية حفص عن عاصم
- القارئ المفضل
- سعود الشريم
- الجنس
- اخ
أحكام الأمراض التي لا يرجى برؤها
د.أحمد محمد كنعان
تمهيد :
الحمد لله مقدر الموت والحياة ، من بيده وحده الشفاء ، والصلاة والسلام على رسوله الأمين الذي كانت رسالته هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور .
أما بعد : فإن مهنة الطب من أشرف المهن التي عرفها الإنسان ، وما يزال الناس عبر العصور يجلونها ويوقرون من يمارسها ، لما لها من مساس مباشر بحياة الإنسان وصحته النفسية والعضوية والعقلية ، وهذا ما أشار إليه الطبيب العربي الموسوعي ( ابن أبي أُصَيْبِعَة ) حين وصف مهنة الطب بأنها ( من أشرفِ الصَّنائِعِ ، وأربحِ البضائعِ ، وقد وَرَدَ تفصيلُها في الكتبِ الإلهيَّةِ ، والأوامرِ الشَّرعيَّةِ ، حتى جُعِلَ عِلْمُ الأبْدانِ قَريناً لعلمِ الأديانِ ) .
ونظراً لشرف هذه المهنة فقد تواضع الأطباء عبر العصور على جملة من الأعراف الأخلاقية التي ينبغي للطبيب أن يتحلى بها في تعامله مع مرضاه ، حتى أصبحت هذه الأعراف جزءاً لا يتجزأ من (القَسَم الطبي) الذي يؤديه الأطباء عند تخرجهم من كليات الطب ، ويقطعون به العهد على أنفسهم أن يلتزموا بهذه الأعراف .
ولا جدال بأن المريض يحتاج إلى رعاية خاصة ، طبية ونفسية واجتماعية ، لما يسببه المرض من أوجاع ، وضعف بالبدن ، وتدهور بالحالة النفسية للمريض ، فكيف إذا كان مصاباً بمرض لا يرجى برؤه ؟ لا شك بأنه يحتاج إلى رعاية أكبر ، لاسيما وأن هذه الأمراض تشكل تحدياً أخلاقياً كبيراً للطبيب ، والمريض ، وأهل المريض ، بل وللمجتمع أيضاً ، بسبب ما يترتب على هذه الأمراض من نتائج .
وقد تزايدت معدلات هذه الأمراض في عصرنا الراهن ، نتيجة لمجموعة من العوامل البيئية على رأسها التلوث البيئي المتهم بجملة واسعة من الأمراض الخطيرة مثل بعض الأورام ، وكذلك التحولات الوراثية التي أسفرت عن تحوُّر أنواع عديدة من العوامل المرضية السارية فجعلتها مقاومة للمضادات الحيوية ، هذا إلى جانب الكشوف الطبية الحديثة التي كشفت لنا طائفة واسعة من الأمراض الجديدة التي لم تكن معلاروفة في دنيا الطب ( السرطان ، الإيدز ، جنون البقر .. ) ، ناهيك عن التقنيات الطبية المتطورة ، وعلى رأسها وسائل الإنعاش الحديثة التي أصبح باستطاعتها اليوم أن تحافظ على حياة المصابين بإصابات بالغة ، بينما كانوا فيما مضى يقضون نحبهم سريعاً قبل استخدام هذه التقنيات ، إلا أن حياة هؤلاء ليست كحياة غيرهم ، بل هي حياة أقرب إلى الموت منها إلى الحياة ( الحياة الإنباتية مثلاً ) أو هي حياة الميت إن صح التعبير ( موت الدماغ مثلاً ) فهؤلاء في حكم من لا يرجى برؤهم ، وهكذا زادت هذه التقنيات من معدلات الحالات التي لا يرجى برؤها !
إن هذه التطورات التي شهدتها الساحة الطبية خلال العقود القليلة الماضية وأسفرت عن جملة واسعة من الأمراض المعندة ، جعلت الحاجة ملحة لوضع ضوابط أخلاقية جديدة للتعامل مع هذه الحالات المستجدة ، وهو هدفنا من هذا البحث الذي سوف نناقش فيه جملة من هذه الأمراض ، ونبين أبعاد التعامل الأخلاقي والشرعي معها ، وقد قسمنا البحث إلى اثني عشر مبحثاً ، هي :
1. تعريف أخلاق وأحكام التعامل مع الأمراض التي لا يرجى برؤها .
2. حرمة الحياة الإنسانية .
3. أمثلة من الأمراض التي لا يرجى برؤها .
• الحياة الإنباتية .
• موت الدماغ .
• الحامل المصابة بمرض لا يرجى برؤه .
• الجنين المشوه الذي لا يرجى برؤه .
• الوليد الخديج .
• اختناق الوليد .
• العقم .
• الجنون .
• مرض الموت .
• الإعدام .
4. مكاشفة المريض الذي لا يرجى برؤه .
5. تداوي من لا يرجى برؤه .
6. إنعاش من لا يرجى برؤه .
7. قطع ذرية من لا يرجى برؤه .
8. إنهاء حياة من لا يرجى برؤه .
9. تعمد نقل العدوى بأمراض لا يرجى برؤها .
10. رعاية من لا يرجى برؤه .
11. تمني الموت لمن لا يرجى برؤه .
12. شفاء من لا يرجى برؤه .
وكان اعتمادنا في هذا البحث أساساً على الكتاب والسنة ، ثم على المصادر الطبية المعتمدة ، والفتاوى التي صدرت عن المجامع الفقهية المعاصرة التي ناقشت هذه المسائل خلال العقود القليلة الماضية ، وانتهينا في الخاتمة إلى جملة من التوصيات التي نأمل أن تكون بمثابة مرشد عام في التعامل مع المصابين بالأمراض التي لا يرجى برؤها ، هذا مع التذكير أولاً وأخيراً بأن الشفاء بيد الله تعالى وحده .
المبحث الأول
تعريف أخلاق وأحكام التعامل مع الأمراض التي لا يرجى برؤها
أخلاق وأحكام التعامل مع الأمراض التي لا يرجى برؤها مصطلح مركب من ثلاثة أجزاء ، سوف نتناولها في ثلاثة مطالب :
المطلب الأول ـ تعريف الأخلاق :
الأخلاق : لغةً : جمع خُلُق ، وهو السَّجِيَّةُ والطَّبْعُ والمُرُوءَةُ والعادة ، وقد تعارف أهل الطب عبر العصور على مجموعة من الأخلاق التي أصبحوا يطلقون عليها وصف أخلاقيات الطب (Medical Ethics ) ، وهي مجموعة الضوابط الأخلاقية التي تحكم الممارسات الطبية (Practices Medical) وهي تعني كيفية التصرف الأخلاقي اللائق أثناء ممارسة الأنشطة الطبية المختلفة .
وقد سجَّل تاريخ الطب في البرديات المصرية القديمة ، والنقوش المسمارية الآشورية والبابلية ، والمدونات الإغريقية ، جملة من الأعراف الأخلاقية التي ينبغي للطبيب أن يتحلى بها ، ومنها ما ورد في القَسَم الطبي الذي وضعه الطبيب الإغريقي ( أبقراط ) الذي اشتهر باسمه ( قَسَم أبقراط ) وأصبح عرفاً من الأعراف الطبية يؤديه الأطباء عند تخرجهم من كليات الطب ، وهو يتضمن أخذ العهد على الأطباء أن يلتزموا بالأخلاق الفاضلة ، فلا يدخروا وسعاً في مساعدة مرضاهم ، وتخفيف المعاناة عنهم ، وعدم إفشاء أسرارهم ، وأن لا يجهضوا امرأة ، ولا يعطوا دواء محرماً .. إلى غير ذلك من الأخلاق التي تجعل ممارسة الطب ممارسة إنسانية نبيلة .
كما نَصَّت الدساتير الطبية المختلفة على ضرورة أن يتخلق الطبيب بالأخلاق الفاضلة التي تليق بشرف هذه المهنة ، وأن لا يسلك سلوكاً يخلُّ بالأخلاق ، وأن يكون حَسَن المظهر ، مراعياً للآداب الشرعية والأعراف العامة ، في حركاته وسكناته وتصرفاته ، لأن الناس يوقِّرون الطبيب ويعتبرونه مثلاً أعلى في المجتمع ، ولهذا وجب على الطبيب أن يتحلى بأحسن الأخلاق ، وأولها التواضع لله عزَّ وجلَّ الذي وفقه لأن يكون وسيلة من وسائل الشفاء وتخفيف الآلام والأوجاع .. ونصت الدساتير كذلك على أن لا يمنح الترخيص بمزاولة الطب لمن حُكِمَ عليه في جُرْمٍ مُخِلٍّ بالشَّرف أو الأمانة .
وقد تزايد الاهتمام بأخلاقيات الطب في عصرنا الحاضر من جراء الكشوف العلمية الحديثة التي فرضت على الأطباء ممارسات جديدة لم تكن معروفة في ما مضى ، وتأسست منظمات وهيئات وجمعيات عديدة ، وعقدت مؤتمرات عالمية ، من أجل ضبط هذه الممارسات ضبطاً أخلاقياً يحافظ على شرف هذه المهنة ، ويحفظ حقوق المرضى ، وكان للمجامع الفقهية الإسلامية إسهامات عديدة واسعة في هذا المجال ، كما سوف نلاحظ في ثنايا هذا البحث .
وبلغت العناية بأخلاقيات الطب في السنوات الأخيرة مبلغاً عظيماً ، حتى إن بعض الجامعات العريقة مثل الجامعات الكندية بادرت إلى خطوة تعد الأولى من نوعها ، فوضعت معايير جديدة لاختيار الطلاب الراغبين بدراسة الطب ، بغية إعدادهم علمياً واجتماعياً وإنسانياً لممارسة هذه المهنة الشريفة ، فلم تعد دراسة الطب تقتصر على التفوق العلمي وحده ، بل باتت تتطلب معايير إنسانية واجتماعية متميزة من أجل الحفاظ على مصداقية المهنة ، وحماية سمعتها لدى المجتمع ، وتأكيداً لهذا التوجه الجديد أصبح الطلاب الراغبين بدراسة الطب يخضعون لمقابلات شخصية واختبارات نفسية واجتماعية أمام لجنة تراجع سجلاتهم الدراسية أثناء المرحلتين المتوسطة والثانوية لاكتشاف مكامن الضعف والقوة عندهم ، ورصد ما لديهم من ميول وطموح ، وملاحظة خط نضوجهم العقلي والعاطفي ، وسبر أطوار الحس والانفعال والحِلم والغضب والاستجابة والتأثر والتأثير لديهم ، ووفقاً لهذه المعايير أصبح معدل النجاح المطلوب في امتحانات دخول كلية الطب مناصفة ما بين المعدلات العلمية والاعتبارات الإنسانية التي تحددها المقابلة الشخصية ، والهدف من هذا كله توسيع دائرة المعرفة الطبية وشمولها وإحاطتها الواعية بما يعانيه المرضى صحياً وإنسانياً واجتماعياً ، وتعزيز الثقة المتبادلة بينهم وبين الأطباء الذين يتولون معالجتهم .
وتعد الرسالات السماوية وما شرعته من قيم أخلاقية نبيلة هي المصدر الأساسي للأخلاق التي رسخت عبر العصور في المجتمعات البشرية ، ومنها استمد الأطباء أسس الأخلاق التي تواضعوا عليها في ممارساتهم الطبية ، إلى جانب بعض المصادر الأخرى الفلسفية والثقافية والاجتماعية التي ساهمت كذلك بترسيخ هذه القواعد الأخلاقية في الممارسات الطبية .
وقد كان للإسلام مساهمات جليلة في هذا الباب ، ومن المعروف أن كتب ( الطب النبوي ) حافلة بالعديد من نصوص الكتاب والسنة التي حددت معالم الأخلاق التي ينبغي أن تتوافر في من يمارس التطبيب ، ومنها الأمانة ، والإتقان ، وحفظ أسرار المرضى ، واحترام رأي المريض والحصول على موافقته أو ما يعرف بالإذن الطبِّي ( Medical Consent ) قبل تعريضه لأي إجراء طبي .
ولعل أبلغ من لخص أسس الأخلاق الطبية في الإسلام هو الطبيب صلاح الدين بن يوسف الكحال الحموي المتوفى في القرن السابع الهجري ، الذي أوصى أحد تلاميذه بعد أن أخذ عنه الطب قائلاً له : ( .. واعلمْ أنَّ هذهِ الصناعةَ منحةٌ من اللهِ تعالى يُعطيها لِمُسْتحِقِّها ، لأنهُ يصيرُ واسطةً بينَ المريضِ وبينَ الحقِّ سبحانه وتعالى في طلبِ العافيةِ لهُ ، حتى تجريَ على يديهِ ، فتحصلُ لهُ الحُرْمَةُ الجزيلةُ من الناسِ ، ويَمْثُل عندَهُم ، ويُشار إليهِ في صناعتهِ ، ويُطْمَأَنُّ إليهِ فيما يعتمدُهُ ، وفي الآخرةِ الأجرُ والمجازاةُ من ربِّ العالمين ، لأنَّ النفعَ المتعدِّي لخلقِ اللهِ عظيمٌ ، خصوصاً للفقراءِ العاجزين ، مع ما يحصلُ لنَفْسِكَ من كَمالِ الأخلاقِ ، وهو خُلُقُ الكَرَمِ والرَّحمةِ ، فيجب عليك حينئذٍ أنُ تلبس ثوبَ الطَّهارةِ والعفَّةِ والنَّقاءِ والرأفةِ ومراقبةِ اللهِ تعالى ، وخاصة في عبوركَ على حَريم الناسِ ، كتوماً لأسرارهم .. محباً للخيرِ والدِّينِ ، مُكباً على الاشتغالِ في العلومِ ، تاركاً للشَّهَواتِ البدنيَّةِ .. مُعاشراً للعلماءِ ، مواظباً للمرضى ، حريصاً على مداواتهم ، مُتَحَيِّلاً لجلبِ المنفعةِ لهم ، وإنْ أمكنكَ أن تُؤْثِرَ الضُّعفاءَ من مالِكَ فافعل ) .
ويجدر بنا أن نلاحظ هنا جملة من الفوارق الجوهرية ما بين أخلاقيات الطب التي شرعها الإسلام ، وأخلاقيات الطب المتعارف عليها في القوانين الوضعية ، ففي الإسلام تستمد هذه الأخلاقيات سماتها الأساسية من قواعد التشريع الإسلامي الحنيف الذي يعتبر الأخلاق الفاضلة جزءاً لا يتجزأ من الدين ، ويجعل الإنسان مسؤولاً عن سلوكه أمام الله عزَّ وجلَّ قبل أن يكون مسؤولاً أمام الناس ، فالشريعة الإسلامية لا تكتفي بتحميل الذين يمارسون الطب مسؤولية دنيوية عن أعمالهم ، كما هي حال الدساتير الطبية الوضعية ، بل تحملهم كذلك مسؤولية دينية يسألون عنها أمام الله عزَّ وجلَّ .
المطلب الثاني ـ تعريف الأحكام :
الأحكام : جمع حُكْم ، وهو لغةً : القضاء ، وأصل معناه : المنع . أما الحكم الشرعي عند جمهور الأصوليين فهو : خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييراً أو وضعا ، ولا غرو بأن الممارسات الطبية ـ مثلها مثل بقية أوجه النشاط الإنساني ـ تحكمها مجموعة من الأحكام الشرعية التي ينبغي للطبيب المسلم أن يراعيها في عمله ، لكي يكون عمله منسلكاً في إطار المقاصد الكلية للشريعة ، بريئاً من المخالفات الشرعية .
ومن المعلوم أن الإسلام قد أوجب على كل مسلم أن يلمَّ بالأحكام الشرعية التي لا غنى له عنها في شؤون حياته وفي مهنته التي يعتاش منها ، ولا جدال بأن الطبيب أحوج من غيره للعلم بالأحكام التي تتعلق بممارساته الطبية ، لما يتناوب على هذه الممارسات من أحكام شرعية عديدة ، ومنها على سبيل المثال : أحكام الطهارة ، والعورة ، والخلوة ، والرخصة ، والضرورة ، وغيرها كثير ، فينبغي للطبيب المسلم أن يحرص على تعلم هذه الأحكام ، كي لا يقع في المحظورات الشرعية ، أو يعرض مرضاه للوقوع بها .
وقد كان للمجامع الفقهية المعاصرة جهد واسع مشكور في صياغة العديد من الأحكام المتعلقة بالقضايا الطبية المعاصرة التي برزت على الساحة الطبية خلال العقود القليلة الماضية ، نتيجة التقدم الهائل الذي حصل في حقول الطب المختلفة ، كما كان لهذه المجامع جهد لا ينكر في إعادة صياغة بعض الأحكام التي قال بها الفقهاء قديماً لكي تتماشى مع ما استجد من حقائق طبية لم تكن معروفة من قبل ، وقد أوردنا في هذا البحث جملة غير قليلة من هذه الأحكام وتلك .
د.أحمد محمد كنعان
تمهيد :
الحمد لله مقدر الموت والحياة ، من بيده وحده الشفاء ، والصلاة والسلام على رسوله الأمين الذي كانت رسالته هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور .
أما بعد : فإن مهنة الطب من أشرف المهن التي عرفها الإنسان ، وما يزال الناس عبر العصور يجلونها ويوقرون من يمارسها ، لما لها من مساس مباشر بحياة الإنسان وصحته النفسية والعضوية والعقلية ، وهذا ما أشار إليه الطبيب العربي الموسوعي ( ابن أبي أُصَيْبِعَة ) حين وصف مهنة الطب بأنها ( من أشرفِ الصَّنائِعِ ، وأربحِ البضائعِ ، وقد وَرَدَ تفصيلُها في الكتبِ الإلهيَّةِ ، والأوامرِ الشَّرعيَّةِ ، حتى جُعِلَ عِلْمُ الأبْدانِ قَريناً لعلمِ الأديانِ ) .
ونظراً لشرف هذه المهنة فقد تواضع الأطباء عبر العصور على جملة من الأعراف الأخلاقية التي ينبغي للطبيب أن يتحلى بها في تعامله مع مرضاه ، حتى أصبحت هذه الأعراف جزءاً لا يتجزأ من (القَسَم الطبي) الذي يؤديه الأطباء عند تخرجهم من كليات الطب ، ويقطعون به العهد على أنفسهم أن يلتزموا بهذه الأعراف .
ولا جدال بأن المريض يحتاج إلى رعاية خاصة ، طبية ونفسية واجتماعية ، لما يسببه المرض من أوجاع ، وضعف بالبدن ، وتدهور بالحالة النفسية للمريض ، فكيف إذا كان مصاباً بمرض لا يرجى برؤه ؟ لا شك بأنه يحتاج إلى رعاية أكبر ، لاسيما وأن هذه الأمراض تشكل تحدياً أخلاقياً كبيراً للطبيب ، والمريض ، وأهل المريض ، بل وللمجتمع أيضاً ، بسبب ما يترتب على هذه الأمراض من نتائج .
وقد تزايدت معدلات هذه الأمراض في عصرنا الراهن ، نتيجة لمجموعة من العوامل البيئية على رأسها التلوث البيئي المتهم بجملة واسعة من الأمراض الخطيرة مثل بعض الأورام ، وكذلك التحولات الوراثية التي أسفرت عن تحوُّر أنواع عديدة من العوامل المرضية السارية فجعلتها مقاومة للمضادات الحيوية ، هذا إلى جانب الكشوف الطبية الحديثة التي كشفت لنا طائفة واسعة من الأمراض الجديدة التي لم تكن معلاروفة في دنيا الطب ( السرطان ، الإيدز ، جنون البقر .. ) ، ناهيك عن التقنيات الطبية المتطورة ، وعلى رأسها وسائل الإنعاش الحديثة التي أصبح باستطاعتها اليوم أن تحافظ على حياة المصابين بإصابات بالغة ، بينما كانوا فيما مضى يقضون نحبهم سريعاً قبل استخدام هذه التقنيات ، إلا أن حياة هؤلاء ليست كحياة غيرهم ، بل هي حياة أقرب إلى الموت منها إلى الحياة ( الحياة الإنباتية مثلاً ) أو هي حياة الميت إن صح التعبير ( موت الدماغ مثلاً ) فهؤلاء في حكم من لا يرجى برؤهم ، وهكذا زادت هذه التقنيات من معدلات الحالات التي لا يرجى برؤها !
إن هذه التطورات التي شهدتها الساحة الطبية خلال العقود القليلة الماضية وأسفرت عن جملة واسعة من الأمراض المعندة ، جعلت الحاجة ملحة لوضع ضوابط أخلاقية جديدة للتعامل مع هذه الحالات المستجدة ، وهو هدفنا من هذا البحث الذي سوف نناقش فيه جملة من هذه الأمراض ، ونبين أبعاد التعامل الأخلاقي والشرعي معها ، وقد قسمنا البحث إلى اثني عشر مبحثاً ، هي :
1. تعريف أخلاق وأحكام التعامل مع الأمراض التي لا يرجى برؤها .
2. حرمة الحياة الإنسانية .
3. أمثلة من الأمراض التي لا يرجى برؤها .
• الحياة الإنباتية .
• موت الدماغ .
• الحامل المصابة بمرض لا يرجى برؤه .
• الجنين المشوه الذي لا يرجى برؤه .
• الوليد الخديج .
• اختناق الوليد .
• العقم .
• الجنون .
• مرض الموت .
• الإعدام .
4. مكاشفة المريض الذي لا يرجى برؤه .
5. تداوي من لا يرجى برؤه .
6. إنعاش من لا يرجى برؤه .
7. قطع ذرية من لا يرجى برؤه .
8. إنهاء حياة من لا يرجى برؤه .
9. تعمد نقل العدوى بأمراض لا يرجى برؤها .
10. رعاية من لا يرجى برؤه .
11. تمني الموت لمن لا يرجى برؤه .
12. شفاء من لا يرجى برؤه .
وكان اعتمادنا في هذا البحث أساساً على الكتاب والسنة ، ثم على المصادر الطبية المعتمدة ، والفتاوى التي صدرت عن المجامع الفقهية المعاصرة التي ناقشت هذه المسائل خلال العقود القليلة الماضية ، وانتهينا في الخاتمة إلى جملة من التوصيات التي نأمل أن تكون بمثابة مرشد عام في التعامل مع المصابين بالأمراض التي لا يرجى برؤها ، هذا مع التذكير أولاً وأخيراً بأن الشفاء بيد الله تعالى وحده .
المبحث الأول
تعريف أخلاق وأحكام التعامل مع الأمراض التي لا يرجى برؤها
أخلاق وأحكام التعامل مع الأمراض التي لا يرجى برؤها مصطلح مركب من ثلاثة أجزاء ، سوف نتناولها في ثلاثة مطالب :
المطلب الأول ـ تعريف الأخلاق :
الأخلاق : لغةً : جمع خُلُق ، وهو السَّجِيَّةُ والطَّبْعُ والمُرُوءَةُ والعادة ، وقد تعارف أهل الطب عبر العصور على مجموعة من الأخلاق التي أصبحوا يطلقون عليها وصف أخلاقيات الطب (Medical Ethics ) ، وهي مجموعة الضوابط الأخلاقية التي تحكم الممارسات الطبية (Practices Medical) وهي تعني كيفية التصرف الأخلاقي اللائق أثناء ممارسة الأنشطة الطبية المختلفة .
وقد سجَّل تاريخ الطب في البرديات المصرية القديمة ، والنقوش المسمارية الآشورية والبابلية ، والمدونات الإغريقية ، جملة من الأعراف الأخلاقية التي ينبغي للطبيب أن يتحلى بها ، ومنها ما ورد في القَسَم الطبي الذي وضعه الطبيب الإغريقي ( أبقراط ) الذي اشتهر باسمه ( قَسَم أبقراط ) وأصبح عرفاً من الأعراف الطبية يؤديه الأطباء عند تخرجهم من كليات الطب ، وهو يتضمن أخذ العهد على الأطباء أن يلتزموا بالأخلاق الفاضلة ، فلا يدخروا وسعاً في مساعدة مرضاهم ، وتخفيف المعاناة عنهم ، وعدم إفشاء أسرارهم ، وأن لا يجهضوا امرأة ، ولا يعطوا دواء محرماً .. إلى غير ذلك من الأخلاق التي تجعل ممارسة الطب ممارسة إنسانية نبيلة .
كما نَصَّت الدساتير الطبية المختلفة على ضرورة أن يتخلق الطبيب بالأخلاق الفاضلة التي تليق بشرف هذه المهنة ، وأن لا يسلك سلوكاً يخلُّ بالأخلاق ، وأن يكون حَسَن المظهر ، مراعياً للآداب الشرعية والأعراف العامة ، في حركاته وسكناته وتصرفاته ، لأن الناس يوقِّرون الطبيب ويعتبرونه مثلاً أعلى في المجتمع ، ولهذا وجب على الطبيب أن يتحلى بأحسن الأخلاق ، وأولها التواضع لله عزَّ وجلَّ الذي وفقه لأن يكون وسيلة من وسائل الشفاء وتخفيف الآلام والأوجاع .. ونصت الدساتير كذلك على أن لا يمنح الترخيص بمزاولة الطب لمن حُكِمَ عليه في جُرْمٍ مُخِلٍّ بالشَّرف أو الأمانة .
وقد تزايد الاهتمام بأخلاقيات الطب في عصرنا الحاضر من جراء الكشوف العلمية الحديثة التي فرضت على الأطباء ممارسات جديدة لم تكن معروفة في ما مضى ، وتأسست منظمات وهيئات وجمعيات عديدة ، وعقدت مؤتمرات عالمية ، من أجل ضبط هذه الممارسات ضبطاً أخلاقياً يحافظ على شرف هذه المهنة ، ويحفظ حقوق المرضى ، وكان للمجامع الفقهية الإسلامية إسهامات عديدة واسعة في هذا المجال ، كما سوف نلاحظ في ثنايا هذا البحث .
وبلغت العناية بأخلاقيات الطب في السنوات الأخيرة مبلغاً عظيماً ، حتى إن بعض الجامعات العريقة مثل الجامعات الكندية بادرت إلى خطوة تعد الأولى من نوعها ، فوضعت معايير جديدة لاختيار الطلاب الراغبين بدراسة الطب ، بغية إعدادهم علمياً واجتماعياً وإنسانياً لممارسة هذه المهنة الشريفة ، فلم تعد دراسة الطب تقتصر على التفوق العلمي وحده ، بل باتت تتطلب معايير إنسانية واجتماعية متميزة من أجل الحفاظ على مصداقية المهنة ، وحماية سمعتها لدى المجتمع ، وتأكيداً لهذا التوجه الجديد أصبح الطلاب الراغبين بدراسة الطب يخضعون لمقابلات شخصية واختبارات نفسية واجتماعية أمام لجنة تراجع سجلاتهم الدراسية أثناء المرحلتين المتوسطة والثانوية لاكتشاف مكامن الضعف والقوة عندهم ، ورصد ما لديهم من ميول وطموح ، وملاحظة خط نضوجهم العقلي والعاطفي ، وسبر أطوار الحس والانفعال والحِلم والغضب والاستجابة والتأثر والتأثير لديهم ، ووفقاً لهذه المعايير أصبح معدل النجاح المطلوب في امتحانات دخول كلية الطب مناصفة ما بين المعدلات العلمية والاعتبارات الإنسانية التي تحددها المقابلة الشخصية ، والهدف من هذا كله توسيع دائرة المعرفة الطبية وشمولها وإحاطتها الواعية بما يعانيه المرضى صحياً وإنسانياً واجتماعياً ، وتعزيز الثقة المتبادلة بينهم وبين الأطباء الذين يتولون معالجتهم .
وتعد الرسالات السماوية وما شرعته من قيم أخلاقية نبيلة هي المصدر الأساسي للأخلاق التي رسخت عبر العصور في المجتمعات البشرية ، ومنها استمد الأطباء أسس الأخلاق التي تواضعوا عليها في ممارساتهم الطبية ، إلى جانب بعض المصادر الأخرى الفلسفية والثقافية والاجتماعية التي ساهمت كذلك بترسيخ هذه القواعد الأخلاقية في الممارسات الطبية .
وقد كان للإسلام مساهمات جليلة في هذا الباب ، ومن المعروف أن كتب ( الطب النبوي ) حافلة بالعديد من نصوص الكتاب والسنة التي حددت معالم الأخلاق التي ينبغي أن تتوافر في من يمارس التطبيب ، ومنها الأمانة ، والإتقان ، وحفظ أسرار المرضى ، واحترام رأي المريض والحصول على موافقته أو ما يعرف بالإذن الطبِّي ( Medical Consent ) قبل تعريضه لأي إجراء طبي .
ولعل أبلغ من لخص أسس الأخلاق الطبية في الإسلام هو الطبيب صلاح الدين بن يوسف الكحال الحموي المتوفى في القرن السابع الهجري ، الذي أوصى أحد تلاميذه بعد أن أخذ عنه الطب قائلاً له : ( .. واعلمْ أنَّ هذهِ الصناعةَ منحةٌ من اللهِ تعالى يُعطيها لِمُسْتحِقِّها ، لأنهُ يصيرُ واسطةً بينَ المريضِ وبينَ الحقِّ سبحانه وتعالى في طلبِ العافيةِ لهُ ، حتى تجريَ على يديهِ ، فتحصلُ لهُ الحُرْمَةُ الجزيلةُ من الناسِ ، ويَمْثُل عندَهُم ، ويُشار إليهِ في صناعتهِ ، ويُطْمَأَنُّ إليهِ فيما يعتمدُهُ ، وفي الآخرةِ الأجرُ والمجازاةُ من ربِّ العالمين ، لأنَّ النفعَ المتعدِّي لخلقِ اللهِ عظيمٌ ، خصوصاً للفقراءِ العاجزين ، مع ما يحصلُ لنَفْسِكَ من كَمالِ الأخلاقِ ، وهو خُلُقُ الكَرَمِ والرَّحمةِ ، فيجب عليك حينئذٍ أنُ تلبس ثوبَ الطَّهارةِ والعفَّةِ والنَّقاءِ والرأفةِ ومراقبةِ اللهِ تعالى ، وخاصة في عبوركَ على حَريم الناسِ ، كتوماً لأسرارهم .. محباً للخيرِ والدِّينِ ، مُكباً على الاشتغالِ في العلومِ ، تاركاً للشَّهَواتِ البدنيَّةِ .. مُعاشراً للعلماءِ ، مواظباً للمرضى ، حريصاً على مداواتهم ، مُتَحَيِّلاً لجلبِ المنفعةِ لهم ، وإنْ أمكنكَ أن تُؤْثِرَ الضُّعفاءَ من مالِكَ فافعل ) .
ويجدر بنا أن نلاحظ هنا جملة من الفوارق الجوهرية ما بين أخلاقيات الطب التي شرعها الإسلام ، وأخلاقيات الطب المتعارف عليها في القوانين الوضعية ، ففي الإسلام تستمد هذه الأخلاقيات سماتها الأساسية من قواعد التشريع الإسلامي الحنيف الذي يعتبر الأخلاق الفاضلة جزءاً لا يتجزأ من الدين ، ويجعل الإنسان مسؤولاً عن سلوكه أمام الله عزَّ وجلَّ قبل أن يكون مسؤولاً أمام الناس ، فالشريعة الإسلامية لا تكتفي بتحميل الذين يمارسون الطب مسؤولية دنيوية عن أعمالهم ، كما هي حال الدساتير الطبية الوضعية ، بل تحملهم كذلك مسؤولية دينية يسألون عنها أمام الله عزَّ وجلَّ .
المطلب الثاني ـ تعريف الأحكام :
الأحكام : جمع حُكْم ، وهو لغةً : القضاء ، وأصل معناه : المنع . أما الحكم الشرعي عند جمهور الأصوليين فهو : خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييراً أو وضعا ، ولا غرو بأن الممارسات الطبية ـ مثلها مثل بقية أوجه النشاط الإنساني ـ تحكمها مجموعة من الأحكام الشرعية التي ينبغي للطبيب المسلم أن يراعيها في عمله ، لكي يكون عمله منسلكاً في إطار المقاصد الكلية للشريعة ، بريئاً من المخالفات الشرعية .
ومن المعلوم أن الإسلام قد أوجب على كل مسلم أن يلمَّ بالأحكام الشرعية التي لا غنى له عنها في شؤون حياته وفي مهنته التي يعتاش منها ، ولا جدال بأن الطبيب أحوج من غيره للعلم بالأحكام التي تتعلق بممارساته الطبية ، لما يتناوب على هذه الممارسات من أحكام شرعية عديدة ، ومنها على سبيل المثال : أحكام الطهارة ، والعورة ، والخلوة ، والرخصة ، والضرورة ، وغيرها كثير ، فينبغي للطبيب المسلم أن يحرص على تعلم هذه الأحكام ، كي لا يقع في المحظورات الشرعية ، أو يعرض مرضاه للوقوع بها .
وقد كان للمجامع الفقهية المعاصرة جهد واسع مشكور في صياغة العديد من الأحكام المتعلقة بالقضايا الطبية المعاصرة التي برزت على الساحة الطبية خلال العقود القليلة الماضية ، نتيجة التقدم الهائل الذي حصل في حقول الطب المختلفة ، كما كان لهذه المجامع جهد لا ينكر في إعادة صياغة بعض الأحكام التي قال بها الفقهاء قديماً لكي تتماشى مع ما استجد من حقائق طبية لم تكن معروفة من قبل ، وقد أوردنا في هذا البحث جملة غير قليلة من هذه الأحكام وتلك .
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع