أمة اللطيف
اللهم ألف بين قلوبنا
- إنضم
- 4 أكتوبر 2010
- المشاركات
- 954
- النقاط
- 16
- الإقامة
- الأردن
- احفظ من كتاب الله
- 21 جزء
- احب القراءة برواية
- حفص عن عاصم
- القارئ المفضل
- الحصري،السديس،سعد الغامدي
- الجنس
- أخت
الفصاحة
– لغة – تعني الظهور والبيان. نقول "أفصح فلان عن سره" أي أظهره. ونظرًا لكثرة استخدام لفظة "الفصاحة" مؤشرة للبراعة في اللغة ومعرفتها فإن هذه الدراسة تحاول أن تلقي ظلالا على اللفظة، وتذهب إلى أن لغة قريش ليست بالضرورة هي مقياس الفصاحة، ومن جهة أخرى إلى أن لغات/لهجات القبائل الأخرى ليست هي كذلك النموذج الأعلى لهذه الفصاحة.
وتصل الدراسة إلى الرأي الذي يرى أن الفصاحة هي في الشيوع والدوران على ألسنة من يوثق بهم من الشعراء والخطباء والكتاب، وذلك ابتداءً من الجاهليين ومنهم من هو من قريش، ومنهم من هو من سواها، وتتويجًا بلغة القرآن الكريم حيث تساوق إعجاز الألفاظ مع إعجاز المعاني، وحيث كان التحدي لأن يأتي أحد بمثله(1)، واستمرارًا بما ينطبق على كل شعر ونثر بسط نفوذه الأدبي.
ولعل سائلاً يسأل: ألم يتفق الرواة والعلماء على أن لهجة قريش هي الفصحى والمثلى(2)، فكيف يمكن أن ننكر على قريش هذا "المتفق عليه" وبين ظهرانَيها ولد الرسول وفي كنفها نشأ؟!
هناك من يعدد لغات القبائل التي نزل بها القرآن كالسيوطي(3) والزرقاني(4)، ومنها قريش وهذيل وتميم والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر وغيرها. وبالطبع فليس هنا تخصيص أو حصر لقريش. بل إن الحديث الشريف الذي يقول : "نزل القرآن على سبعة أحرف"(5)- برواياته المختلفة - ومهما اختلفت التفاسير- من شأنه أن يساوي بين لغات القبائل أو لهجاتها، ويجعل لقراءاتها نفس المكانة والأهمية(6). فالقول الفصل "هكذا أنزلت" في كل مرة يساوي بين القراءات المتباينة
.
(1) انظر سورة البقرة 24، الإسراء 88......
(2) انظر مثلا: السيوطي، المزهر ج1، ص209، ابن فارس، الصاحبي ص 28، ابن جني، الخصائص ج2، ص12. وقد أورد السيوطي قولا لثعلب "كانت قريش أجود العرب انتقادًا للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق وأحسنها مسموعًا وبهم اقتدي" (المزهر، ج1، ص211).
(3) السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، ج1 ص135.
(4) الزرقاني: مناهل العرفان في علوم القرآن، ج1، ص173.
(5) صحيح البخاري 6/185.
(6) ابن فارس: الصاحبي، ص29.
وقد أتى جواد علي على حجج وبيّنات تلتقي جميعها في دحض الرأي السائد بأن لغة قريش هي الفصحى بين اللغات(7)، فهو يرى أن القرآن نزل بلسان عربي مبين ، و"إنا إنزلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون" 8، ولم يذكر القرآن أنه نزل بلغة قريش بالذات وبالحصر، فلغة العرب تشمل المهاجرين والأنصار والبادين والحاضرين والقبائل ، والمنتشرة في أرجاء الجزيرة العربية وخارجها، بمعنى آخر قريش وسواها.
ثم إن قريش لم تكن لها السيادة على العرب حتى تسود لهجتها ، بدليل أن زعماءها كانوا يستعطفون و/ أو يُستقبلون في بلاط أقيال اليمن وملوك الحيرة وغيرهم، وما "الإيلاف" الذي عقدته قريش إلا نوع من الإتاوة تدفعها قريش للقبائل حتى تسلم تجارتها من الغزو. فما هو المبرر إذن لسيادة عُزِيت إليها في مضمار اللغة؟
يقول جواد علي كذلك: "إن القبائل التي كانت تجاور مكة كانت تتكلم بلهجاتها الخاصة بها، وإن أهل الطائف –أي ثـقيف- كان لهم لسانهم الخاص، وإن أهل الحجاز –أي قريش وغيرهم- كانوا يتكلمون بلهجات خاصة سماها علماء اللغة "لغة حجازية" ولم يسموها "قرشية".
ثم إن الأسواق التجارية الأدبية كعكاظ مثلا لم يكن لقريش فيها هيمنة لغوية، فالنابغة الذبياني الذي ضربت له قبة من أدم ليحكم بين الشعراء، وكذلك الخنساء وحسان بن ثابت ممن كانوا يتنافسون على القول ، فهؤلاء لم يكونوا من قريش، بل لا نعلم عن أي حَكَم قرشي في هذه الأسواق المختلفة.
وابن عباس كان يرى أن "الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي نزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه"(10)، وكتب التفسير حاشدة بالشواهد الشعرية، وندر منها ما كان لشاعر قرشي.
كذلك المعلقات –هذه التي علقت بالأذهان أو كانت كالعِلق، أو عُلقت في خزائن النعمان، أو على الافتراض البعيد انها علقت على أستار الكعبة – موطن قريش- فكيف يتأتى ألا يكون لقريش مشاركة في هذا الشرف الأدبي لو كانت قريش حقًا عنوان الفصاحة هذه.
(7) جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام، ج8، ص 624 – 671.
8 سورة يوسف 2، انظر كذلك الرعد 37، طه 113، الزمر 28، فصلت 3، الشورى 7، الأحقاف 12، الشعراء 195، النحل 103، الزخرف 3.
(9) جواد علي: المفصل... ج8، ص649.
(10) السيوطي، الإتقان، ج2 ص55.
يضاف إلى ذلك ما ورد في عيوب اللهجات القبلية المختلفة، فقد ذكروا عنعنة تميم وعجرفية قيس وكشكشة أسد و... ومع ذلك ذكروا ما يعيب قريش أيضًا وهو الغمغمة(11)- وهي عدم الإبانة في التعبير، كما رأى البعض أن في قريش التضجع(12).
ويستند الكثيرون في التدليل على فصاحة قريش ما نُسب إلى الرسول على أنه حديث – "أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، ورضعت في بني سعد بن بكر"(13).
فإذا صح "الحديث"، ولنفرض صحته، فإن الإشكال يتأتى كذلك في معنى (بيد)، فهل هناك ارتباط بين الجملتين ، أو هل هي شهادة على أن قريش هي فصحى العرب. فالحديث كما نرى جاء ليفيد التخصيص، وذلك ليؤكد الفصاحة في الرسول أولا وقبلا، وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال للرسول: "ما بالك أفصحنا، ولم تخرج من أظهرنا" بمعنى أنك لم تخرج من بيننا، ومع ذلك فأنت الأفصح(14).
وليس أدل على كون الفصاحة لم تكن قصرًا على قريش أو لم تكن قريش نموذجًا يُحتذى، أو أن لها اعتبارًا خاصًا أن النعمان بن المنذر قدم على كسرى، فأخذ كسرى يعيب على العرب طعامهم ومسكنهم ولباسهم، فرد عليه النعمان ردًا منافحًا قاطعًا، وحتى ينتصر بحكمة العرب وبلاغتهم ، كذلك صحب أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميين والحارث بن عُباد وقيس بن مسعود البكريين، وخالد بن جعفر وعلقمة وعامر بن الطفيل وهم من بني عامر، وعمر بن الشريد السلمي وعمرو بن معد يكَرِب الزُّبيدي والحارث بن ظالم المرّي، فخطب كل منهم خطبته التي كانت حجة في بيانها وفصاحتها(15).
(11) انظر الزبيدي، تاج العروس ج9/6 مادة غمم. ومن الطريف أن أذكر هنا أن ابن منظور في لسان العرب قد أورد ما ينفي الغمغمة عن قريش، وذلك في حديث جرى مع معاوية، فالغمغمة وردت هنا على أنها لقضاعة وليست لقريش (انظر مادة غمم).
(12) السيوطي، المزهر ج1 ص211، وقد صوب عبد السلام هارون كلمة "قريش" فجعلها "قيس" وذلك في شرحه لـِ مجالس ثعلب، القسم الاول، ص81 وقال عن (التضجع): "لم أجد من يفسره، ولكن اشتقاقها اللغوي يوحي بأن معناها الإحالة ، وفي لسان العرب – الإضجاع من الحركات مثل الإمالة والخفض".
(13) هذا المأثور لم أجده في كتـب الحديث الستة بهذا النص، بينما ورد في المزهر للسيوطي عن النص الأول أنه من غريب الحديث وقال:"ورووه أيضًا – أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش (المزهر، ج1، ص209) ويلاحظ الاختلاف بل التكلف في الصياغة في نحو "أفصح من نطق بالضاد". وقد ورد المأثور – في النص الذي ذكرناه أولا – في لسان العرب في مادتي (بَيْد) و (مَيْدَ) – وهي لغة في الاولى بمعنى غير، وقيل معناها (على أن) وفسرها بعضهم (من أجل أني) والمقصود (وإن كنت ) . أخلص إلى القول إن ثمة إرباكًا في صيغة النص أولا وفي المعنى ثانيًا.
(14) السيوطي، المزهر ج1، ص 209.
(15) انظر صفوت: جمهرة خطب العرب (ج1)، ص55 وما بعدها.
من هنا أصل إلى أن الفصاحة لم تكن لقريش حصرًا وقصرًا، وهذا لاينفي بالطبع أنها فصيحة - شأنها شأن القبائل الأخرى، فليس ثمة إثبات قاطع على أن القرآن نزل بلغة قريش بالذات.
وهذا القول يسوقنا إلى نفي الفصاحة المثلى كذلك لدى عرب البادية أو لدى القبائل المجاورة لمكة، مثلا، كبني سعد بن بكر. والاعتراض السائد الذي يذكر لتأكيد الفصاحة في البادية هو "الاسترضاع"، فالنبي عليه السلام كان قد استرضع في بني سعد بن بكر من هوازن. ونحن لو صدقنا أن هذا حديث مع أنه من الغريب –كما أشرت أعلاه- فمن قال إن الفصاحة كانت هدفًا في الاسترضاع؟ ويكتسب التساؤل شرعية إذا قرأنا سيرة ابن هشام، حيث نجد ان حليمة السعدية كانت قد جاءت إلى أم النبي بعد انقضاء فترة رضاعه الأولى، وقالت لها: "لو تركت بُني عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وبأ مكة"(16). من هنا فالاسترضاع كان بغية الوقاية الصحية(17)، إذ لو كانت الفصاحة هي المنشودة بعينها لترك الطفل حتمًا في البادية حتى يبلغ أشدّه ، وإلى فترة يكون فيها قادرًا على تصريف القول، وإلا فأية فصاحة يكتسبها طفل في السنتين الأوليين من حياته؟!
(16) ابن هاشم. السيرة النبوية ج1، ص 164.
(17) مما يشير إلى أن الاسترضاع في البادية كان بقصد نشدان الفصاحة ما استشهد به الجاحظ أن عبد الملك قال بعد أن لحن ابنه الوليد: "أضر بالوليد حبنا له، فلم نوجهه للبادية" (البيان والتبيين، ج2، ص205، لكن هذه الرواية وردت مغايرة في العقد الفريد ج2، ص439، والنص هو: "أضر بنا حبنا للوليد فلم نؤدبه، وكأن الوليد أدّبنا" وذلك دون الإشارة إلى البادية.
وهناك ماورد في الحديث "كان ابراهيم مسترضعًا في عوالي المدينة" ويشرح النووي (العوالي) على أنها القرى التي عند المدينة (صحيح مسلم ج15، ص75)، وهذه القرى بالضرورة تتأثر بلغة المدينة – في رأيي – أكثر مما تكون هي مقياسًا يُحتذى به ، ومثل هذا ما ورد على أن عبدالله بن الزبير الذي ولد في المدينة كان قد استرضع في بني مُزَينة – وهي لا تبعد عن المدينة مسافة كبيرة. فاللغة الحضرية هي اللغة المتداولة أكثر، وهي التي تجافي الغريب بسبب الضرورة أو طبيعة الاستعمال، فقد طالعنا مثلا ما روي عن علي بن الجهم من أنه مدح المتوكل – أولا بألفاظ خشنة هي من بيئة البداوة، فعذرَه الخليفة بسبب ذلك، وطلب من خاصته ان ينعّموا حياته، فيعيش في الترف والغضارة – الأمر الذي جعله يتخيّر اللفظ إلى أن كتب شعره الرقيق اللين الرائق. (انظر: ديوان علي بن الجهم، ص143).
ومع ذلك فإن ما ورد عن تجوال الرواة وتنقلهم بين القبائل للبحث عن معين اللغة إنما كان بسبب الجمع، ويبدو أن العرب كانوا يرون جمالا معينًا في أهل البادية، وذلك في طريقة عرضهم أو حافظتهم. قال الأصمعي – أخبرني أبو عمرو بن العلاء قال: قال لي ذو الرّمة "ما رأيت أفصح من أََمـَة بني فلان، قلت لها: كيف مطركم، فقالت: "غِثنا ما شئنا" (بمعنى سُقينا) – المزهر ج1 ص139 وكذلك في مادة (غيث) في لسان العرب، فهل هذه الاجابة كافية لهذه الشهادة ؟ ولكن يبدو أن إخراج الكلمات بصورة ما أو لكونها عديمة اللكنة كان كافيًا لهذا التعجب ؛ وعدم اللكنة له تبرير قرآني في نحو قوله تعالى: { وأخي هارون هو أفصح مني لسانًا } (القصص،34).
إذن، ليست منازل بني سعد بن بكر موئلا للفصاحة بالضرورة، فما ورد في الصحيحين "أنا أعربكم، أنا قرشي، استرضعت في بني سعد بن بكر" –الذي ذكرته أعلاه- لا يدل على فصاحة بني سعد، وانما هو إعلام أو مجرد إخبار فقط، ؛ وأنا لا أسأل هنا كذلك عن معنى (أعربكم) تمامًا، وهل هو بالضرورة يعني أفصحكم؟
وثمة مواقف مختلفة نلمح فيها هزء العرب من كلام الأعراب الذين هم "أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله" 18 ، فعيسى بن عمر مثلا يقول " لا آخذ من لغة تميم إلا الهمز، وما سواه من لغتها مرغوب عنه"(19)، وعبدالله بن الزبير يخاطب أعرابيًا "سلاحكم رث وحديثكم غث"(20).
وقد ورد في كتاب "جامع الأصول من أحاديث الرسول" قولا عن جابر هو "خرج علينا رسول الله ونحن نقرأ القرآن، وفينا الأعرابي والعجمي، فقال الرسول – اقرأ فكل حسن"(21). ونحن نلاحظ هنا هذا التساوي بين الأعرابي والعجمي في مستوى القراءة أو التقبل، فالرسول يجيز ذلك مع اعترافه أن ثمة قصورًا في مستوى التحصيل لدى كليهما.
وقد ذكر الفراء(22): "نجيز للأعرابي الذي لا يتخيّر السلام عليكِم (بكسر الكاف) ولا نجيز لأهل الحضر والفصاحة. كما أن القزاز القيرواني يذكر صراحة في "ضرائر الشعر" عن الإقواء "ولا يجوز لمن يكون مولدًا هذا، لأنه إنما جاء في شعر العرب على الغلط وقلة المعرفة به، وأنه يجاوز طبعه، ولا يشعر به"(23). فهو يستنكر على الحضري أن يلجأ إلى ضرورة شعرية فالمطلوب منه هو أكثر من المطلوب من سواه.
ثم إن الابتعاد عن الأعاجم ليس كافيًا للدلالة على فصاحة العربي، فهذه قريش كان لها اختلاط تجاري مع شعوب أخرى، وما أنكر عليها الفصاحة أحد، كما أن استعمال الغريب من الألفاظ لا يدل بحال على هذه الفصاحة فلفظة (صَهصَلِق) مثلا –بمعنى ذي صوت شديد- فيها صعوبة في النطق وتنافر في الحروف، فما هو وجه الفصاحة فيها؟
18 سورة التوبة، 97، والسؤال هو: هل يعقل أن يكون كلام هؤلاء النموذج الأعلى لاحتذاء الفصاحة، فحتى إمامتهم بأهل الحاضرة ممنوعة (في كثير من التفاسير) "ولا يؤم أحدهم وإن كان أقرأهم" (انظر تفسير القرطبي ج7-8، ص148).
يتبع /...
__________________
– لغة – تعني الظهور والبيان. نقول "أفصح فلان عن سره" أي أظهره. ونظرًا لكثرة استخدام لفظة "الفصاحة" مؤشرة للبراعة في اللغة ومعرفتها فإن هذه الدراسة تحاول أن تلقي ظلالا على اللفظة، وتذهب إلى أن لغة قريش ليست بالضرورة هي مقياس الفصاحة، ومن جهة أخرى إلى أن لغات/لهجات القبائل الأخرى ليست هي كذلك النموذج الأعلى لهذه الفصاحة.
وتصل الدراسة إلى الرأي الذي يرى أن الفصاحة هي في الشيوع والدوران على ألسنة من يوثق بهم من الشعراء والخطباء والكتاب، وذلك ابتداءً من الجاهليين ومنهم من هو من قريش، ومنهم من هو من سواها، وتتويجًا بلغة القرآن الكريم حيث تساوق إعجاز الألفاظ مع إعجاز المعاني، وحيث كان التحدي لأن يأتي أحد بمثله(1)، واستمرارًا بما ينطبق على كل شعر ونثر بسط نفوذه الأدبي.
ولعل سائلاً يسأل: ألم يتفق الرواة والعلماء على أن لهجة قريش هي الفصحى والمثلى(2)، فكيف يمكن أن ننكر على قريش هذا "المتفق عليه" وبين ظهرانَيها ولد الرسول وفي كنفها نشأ؟!
هناك من يعدد لغات القبائل التي نزل بها القرآن كالسيوطي(3) والزرقاني(4)، ومنها قريش وهذيل وتميم والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر وغيرها. وبالطبع فليس هنا تخصيص أو حصر لقريش. بل إن الحديث الشريف الذي يقول : "نزل القرآن على سبعة أحرف"(5)- برواياته المختلفة - ومهما اختلفت التفاسير- من شأنه أن يساوي بين لغات القبائل أو لهجاتها، ويجعل لقراءاتها نفس المكانة والأهمية(6). فالقول الفصل "هكذا أنزلت" في كل مرة يساوي بين القراءات المتباينة
.
(1) انظر سورة البقرة 24، الإسراء 88......
(2) انظر مثلا: السيوطي، المزهر ج1، ص209، ابن فارس، الصاحبي ص 28، ابن جني، الخصائص ج2، ص12. وقد أورد السيوطي قولا لثعلب "كانت قريش أجود العرب انتقادًا للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق وأحسنها مسموعًا وبهم اقتدي" (المزهر، ج1، ص211).
(3) السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، ج1 ص135.
(4) الزرقاني: مناهل العرفان في علوم القرآن، ج1، ص173.
(5) صحيح البخاري 6/185.
(6) ابن فارس: الصاحبي، ص29.
وقد أتى جواد علي على حجج وبيّنات تلتقي جميعها في دحض الرأي السائد بأن لغة قريش هي الفصحى بين اللغات(7)، فهو يرى أن القرآن نزل بلسان عربي مبين ، و"إنا إنزلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون" 8، ولم يذكر القرآن أنه نزل بلغة قريش بالذات وبالحصر، فلغة العرب تشمل المهاجرين والأنصار والبادين والحاضرين والقبائل ، والمنتشرة في أرجاء الجزيرة العربية وخارجها، بمعنى آخر قريش وسواها.
ثم إن قريش لم تكن لها السيادة على العرب حتى تسود لهجتها ، بدليل أن زعماءها كانوا يستعطفون و/ أو يُستقبلون في بلاط أقيال اليمن وملوك الحيرة وغيرهم، وما "الإيلاف" الذي عقدته قريش إلا نوع من الإتاوة تدفعها قريش للقبائل حتى تسلم تجارتها من الغزو. فما هو المبرر إذن لسيادة عُزِيت إليها في مضمار اللغة؟
يقول جواد علي كذلك: "إن القبائل التي كانت تجاور مكة كانت تتكلم بلهجاتها الخاصة بها، وإن أهل الطائف –أي ثـقيف- كان لهم لسانهم الخاص، وإن أهل الحجاز –أي قريش وغيرهم- كانوا يتكلمون بلهجات خاصة سماها علماء اللغة "لغة حجازية" ولم يسموها "قرشية".
ثم إن الأسواق التجارية الأدبية كعكاظ مثلا لم يكن لقريش فيها هيمنة لغوية، فالنابغة الذبياني الذي ضربت له قبة من أدم ليحكم بين الشعراء، وكذلك الخنساء وحسان بن ثابت ممن كانوا يتنافسون على القول ، فهؤلاء لم يكونوا من قريش، بل لا نعلم عن أي حَكَم قرشي في هذه الأسواق المختلفة.
وابن عباس كان يرى أن "الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي نزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه"(10)، وكتب التفسير حاشدة بالشواهد الشعرية، وندر منها ما كان لشاعر قرشي.
كذلك المعلقات –هذه التي علقت بالأذهان أو كانت كالعِلق، أو عُلقت في خزائن النعمان، أو على الافتراض البعيد انها علقت على أستار الكعبة – موطن قريش- فكيف يتأتى ألا يكون لقريش مشاركة في هذا الشرف الأدبي لو كانت قريش حقًا عنوان الفصاحة هذه.
(7) جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام، ج8، ص 624 – 671.
8 سورة يوسف 2، انظر كذلك الرعد 37، طه 113، الزمر 28، فصلت 3، الشورى 7، الأحقاف 12، الشعراء 195، النحل 103، الزخرف 3.
(9) جواد علي: المفصل... ج8، ص649.
(10) السيوطي، الإتقان، ج2 ص55.
يضاف إلى ذلك ما ورد في عيوب اللهجات القبلية المختلفة، فقد ذكروا عنعنة تميم وعجرفية قيس وكشكشة أسد و... ومع ذلك ذكروا ما يعيب قريش أيضًا وهو الغمغمة(11)- وهي عدم الإبانة في التعبير، كما رأى البعض أن في قريش التضجع(12).
ويستند الكثيرون في التدليل على فصاحة قريش ما نُسب إلى الرسول على أنه حديث – "أنا أفصح العرب بيد أني من قريش، ورضعت في بني سعد بن بكر"(13).
فإذا صح "الحديث"، ولنفرض صحته، فإن الإشكال يتأتى كذلك في معنى (بيد)، فهل هناك ارتباط بين الجملتين ، أو هل هي شهادة على أن قريش هي فصحى العرب. فالحديث كما نرى جاء ليفيد التخصيص، وذلك ليؤكد الفصاحة في الرسول أولا وقبلا، وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال للرسول: "ما بالك أفصحنا، ولم تخرج من أظهرنا" بمعنى أنك لم تخرج من بيننا، ومع ذلك فأنت الأفصح(14).
وليس أدل على كون الفصاحة لم تكن قصرًا على قريش أو لم تكن قريش نموذجًا يُحتذى، أو أن لها اعتبارًا خاصًا أن النعمان بن المنذر قدم على كسرى، فأخذ كسرى يعيب على العرب طعامهم ومسكنهم ولباسهم، فرد عليه النعمان ردًا منافحًا قاطعًا، وحتى ينتصر بحكمة العرب وبلاغتهم ، كذلك صحب أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميين والحارث بن عُباد وقيس بن مسعود البكريين، وخالد بن جعفر وعلقمة وعامر بن الطفيل وهم من بني عامر، وعمر بن الشريد السلمي وعمرو بن معد يكَرِب الزُّبيدي والحارث بن ظالم المرّي، فخطب كل منهم خطبته التي كانت حجة في بيانها وفصاحتها(15).
(11) انظر الزبيدي، تاج العروس ج9/6 مادة غمم. ومن الطريف أن أذكر هنا أن ابن منظور في لسان العرب قد أورد ما ينفي الغمغمة عن قريش، وذلك في حديث جرى مع معاوية، فالغمغمة وردت هنا على أنها لقضاعة وليست لقريش (انظر مادة غمم).
(12) السيوطي، المزهر ج1 ص211، وقد صوب عبد السلام هارون كلمة "قريش" فجعلها "قيس" وذلك في شرحه لـِ مجالس ثعلب، القسم الاول، ص81 وقال عن (التضجع): "لم أجد من يفسره، ولكن اشتقاقها اللغوي يوحي بأن معناها الإحالة ، وفي لسان العرب – الإضجاع من الحركات مثل الإمالة والخفض".
(13) هذا المأثور لم أجده في كتـب الحديث الستة بهذا النص، بينما ورد في المزهر للسيوطي عن النص الأول أنه من غريب الحديث وقال:"ورووه أيضًا – أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش (المزهر، ج1، ص209) ويلاحظ الاختلاف بل التكلف في الصياغة في نحو "أفصح من نطق بالضاد". وقد ورد المأثور – في النص الذي ذكرناه أولا – في لسان العرب في مادتي (بَيْد) و (مَيْدَ) – وهي لغة في الاولى بمعنى غير، وقيل معناها (على أن) وفسرها بعضهم (من أجل أني) والمقصود (وإن كنت ) . أخلص إلى القول إن ثمة إرباكًا في صيغة النص أولا وفي المعنى ثانيًا.
(14) السيوطي، المزهر ج1، ص 209.
(15) انظر صفوت: جمهرة خطب العرب (ج1)، ص55 وما بعدها.
من هنا أصل إلى أن الفصاحة لم تكن لقريش حصرًا وقصرًا، وهذا لاينفي بالطبع أنها فصيحة - شأنها شأن القبائل الأخرى، فليس ثمة إثبات قاطع على أن القرآن نزل بلغة قريش بالذات.
وهذا القول يسوقنا إلى نفي الفصاحة المثلى كذلك لدى عرب البادية أو لدى القبائل المجاورة لمكة، مثلا، كبني سعد بن بكر. والاعتراض السائد الذي يذكر لتأكيد الفصاحة في البادية هو "الاسترضاع"، فالنبي عليه السلام كان قد استرضع في بني سعد بن بكر من هوازن. ونحن لو صدقنا أن هذا حديث مع أنه من الغريب –كما أشرت أعلاه- فمن قال إن الفصاحة كانت هدفًا في الاسترضاع؟ ويكتسب التساؤل شرعية إذا قرأنا سيرة ابن هشام، حيث نجد ان حليمة السعدية كانت قد جاءت إلى أم النبي بعد انقضاء فترة رضاعه الأولى، وقالت لها: "لو تركت بُني عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وبأ مكة"(16). من هنا فالاسترضاع كان بغية الوقاية الصحية(17)، إذ لو كانت الفصاحة هي المنشودة بعينها لترك الطفل حتمًا في البادية حتى يبلغ أشدّه ، وإلى فترة يكون فيها قادرًا على تصريف القول، وإلا فأية فصاحة يكتسبها طفل في السنتين الأوليين من حياته؟!
(16) ابن هاشم. السيرة النبوية ج1، ص 164.
(17) مما يشير إلى أن الاسترضاع في البادية كان بقصد نشدان الفصاحة ما استشهد به الجاحظ أن عبد الملك قال بعد أن لحن ابنه الوليد: "أضر بالوليد حبنا له، فلم نوجهه للبادية" (البيان والتبيين، ج2، ص205، لكن هذه الرواية وردت مغايرة في العقد الفريد ج2، ص439، والنص هو: "أضر بنا حبنا للوليد فلم نؤدبه، وكأن الوليد أدّبنا" وذلك دون الإشارة إلى البادية.
وهناك ماورد في الحديث "كان ابراهيم مسترضعًا في عوالي المدينة" ويشرح النووي (العوالي) على أنها القرى التي عند المدينة (صحيح مسلم ج15، ص75)، وهذه القرى بالضرورة تتأثر بلغة المدينة – في رأيي – أكثر مما تكون هي مقياسًا يُحتذى به ، ومثل هذا ما ورد على أن عبدالله بن الزبير الذي ولد في المدينة كان قد استرضع في بني مُزَينة – وهي لا تبعد عن المدينة مسافة كبيرة. فاللغة الحضرية هي اللغة المتداولة أكثر، وهي التي تجافي الغريب بسبب الضرورة أو طبيعة الاستعمال، فقد طالعنا مثلا ما روي عن علي بن الجهم من أنه مدح المتوكل – أولا بألفاظ خشنة هي من بيئة البداوة، فعذرَه الخليفة بسبب ذلك، وطلب من خاصته ان ينعّموا حياته، فيعيش في الترف والغضارة – الأمر الذي جعله يتخيّر اللفظ إلى أن كتب شعره الرقيق اللين الرائق. (انظر: ديوان علي بن الجهم، ص143).
ومع ذلك فإن ما ورد عن تجوال الرواة وتنقلهم بين القبائل للبحث عن معين اللغة إنما كان بسبب الجمع، ويبدو أن العرب كانوا يرون جمالا معينًا في أهل البادية، وذلك في طريقة عرضهم أو حافظتهم. قال الأصمعي – أخبرني أبو عمرو بن العلاء قال: قال لي ذو الرّمة "ما رأيت أفصح من أََمـَة بني فلان، قلت لها: كيف مطركم، فقالت: "غِثنا ما شئنا" (بمعنى سُقينا) – المزهر ج1 ص139 وكذلك في مادة (غيث) في لسان العرب، فهل هذه الاجابة كافية لهذه الشهادة ؟ ولكن يبدو أن إخراج الكلمات بصورة ما أو لكونها عديمة اللكنة كان كافيًا لهذا التعجب ؛ وعدم اللكنة له تبرير قرآني في نحو قوله تعالى: { وأخي هارون هو أفصح مني لسانًا } (القصص،34).
إذن، ليست منازل بني سعد بن بكر موئلا للفصاحة بالضرورة، فما ورد في الصحيحين "أنا أعربكم، أنا قرشي، استرضعت في بني سعد بن بكر" –الذي ذكرته أعلاه- لا يدل على فصاحة بني سعد، وانما هو إعلام أو مجرد إخبار فقط، ؛ وأنا لا أسأل هنا كذلك عن معنى (أعربكم) تمامًا، وهل هو بالضرورة يعني أفصحكم؟
وثمة مواقف مختلفة نلمح فيها هزء العرب من كلام الأعراب الذين هم "أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله" 18 ، فعيسى بن عمر مثلا يقول " لا آخذ من لغة تميم إلا الهمز، وما سواه من لغتها مرغوب عنه"(19)، وعبدالله بن الزبير يخاطب أعرابيًا "سلاحكم رث وحديثكم غث"(20).
وقد ورد في كتاب "جامع الأصول من أحاديث الرسول" قولا عن جابر هو "خرج علينا رسول الله ونحن نقرأ القرآن، وفينا الأعرابي والعجمي، فقال الرسول – اقرأ فكل حسن"(21). ونحن نلاحظ هنا هذا التساوي بين الأعرابي والعجمي في مستوى القراءة أو التقبل، فالرسول يجيز ذلك مع اعترافه أن ثمة قصورًا في مستوى التحصيل لدى كليهما.
وقد ذكر الفراء(22): "نجيز للأعرابي الذي لا يتخيّر السلام عليكِم (بكسر الكاف) ولا نجيز لأهل الحضر والفصاحة. كما أن القزاز القيرواني يذكر صراحة في "ضرائر الشعر" عن الإقواء "ولا يجوز لمن يكون مولدًا هذا، لأنه إنما جاء في شعر العرب على الغلط وقلة المعرفة به، وأنه يجاوز طبعه، ولا يشعر به"(23). فهو يستنكر على الحضري أن يلجأ إلى ضرورة شعرية فالمطلوب منه هو أكثر من المطلوب من سواه.
ثم إن الابتعاد عن الأعاجم ليس كافيًا للدلالة على فصاحة العربي، فهذه قريش كان لها اختلاط تجاري مع شعوب أخرى، وما أنكر عليها الفصاحة أحد، كما أن استعمال الغريب من الألفاظ لا يدل بحال على هذه الفصاحة فلفظة (صَهصَلِق) مثلا –بمعنى ذي صوت شديد- فيها صعوبة في النطق وتنافر في الحروف، فما هو وجه الفصاحة فيها؟
18 سورة التوبة، 97، والسؤال هو: هل يعقل أن يكون كلام هؤلاء النموذج الأعلى لاحتذاء الفصاحة، فحتى إمامتهم بأهل الحاضرة ممنوعة (في كثير من التفاسير) "ولا يؤم أحدهم وإن كان أقرأهم" (انظر تفسير القرطبي ج7-8، ص148).
يتبع /...
__________________
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع