إدارة المعهد
لا إله إلا الله
- إنضم
- 30 ديسمبر 2010
- المشاركات
- 1,683
- النقاط
- 38
- الإقامة
- بلجيكا
- احب القراءة برواية
- ورش عن نافع عن طريق الازرق
- القارئ المفضل
- عبد الجليل خالد-القزابري
- الجنس
- أخ
همسة في أذن من أحب
همسة من محب
أخي الحبيب :
سلام من الله عليك ..
وأحمد الله تعالى إليك ..
وأصلي وأسلم على خير معلم, محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وعلى اله ومن سار على
نهجه واهتدى بهداه.
أما بعد: أيها الحبيب :
لك وحدك .. من بين هذا الوجود..
أبعث هذه الرسالة , ممزوجة بالحب مقرونة بالود مكللة بالصدق مجللة بالوفاء .
فافتح لي مغاليق قلبك.. وأرعني سمعك ..
حتى أهمس في أذنك ..
نصيحة محب صادق .. يحبك على قدر حبك لله وطاعتك له.. ويخشى عليك ـــــ كخشيته على نفسه ــ من التقحم في معاصي الله والتفريط في جنبه .
حبيبك من يغار إذا زللتا
ويغلط في الكلام متى أسأتا
يسر إذا اتصفت بكل فضل
ويحزن إن نقصت أو انتقصتا
ومن لايكثرث بك لا يبالي
أحدت عن الصواب أ ماعتدلتا [1]
اخترتك من بين الناس .. كل الناس ..!!
واصطفيتك من بين فئام البشر !!
لأنك ملء القلب ..
ملء السمع وملء البصر ..!!
فأنت تحمل بين ضلوعك إيمانا راسخا ويقينا صادقا , بالرغم من تقصيرك ..
وتحتوي جوانحك قلبا من الله مشفقا وبحبه خافقا وبتوحيد ناطقا , على الرغم من تفريطك ..
فها أنا ذا أمد يدي إليك ..
وأفتح قلبي بين يديك ..
وأضح كفى بكفك لنمشي سويا على صراط مستقيم . في سبيل الله رضاء الله عنا وحبه لنا وإقباله علينا , تحقيقا للوعد الصادق , ومن أصدق من الله قيلا ." من عمل حسنة , فله عشر أ مثالها وأزيد , ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها أوأغفر , ومن عمل قراب الأرض خطيئة , ثم لقيني لا يشرك بي شيئا جعلت له مثلها مغفرة, ومن اقترب إلي شبرا , اقتربت إليه ذراعا , ومن اقترب إلي ذراعا , اقتربت إليه باعا , ومن أتاني يمشي , أتيته هرولة " . [2]
جزيرة الهلاك
مثلي ومثلك في هذه الحياة الدنيا كمثل قوم كانوا في سفر .. قد كلوا وملوا من طول هذا السفر , فأراداوا أن يستوطنوا , فوجدوا لهم جزيرة بعد طول عناء وترادف شقاء.
فظلوا فيها ما شاء الله أن يظلوا , أنزلوا عن ظهورهم رواحل التعب , وخلعوا عن أجسادهم ظواهر النصب , ولكن كثرت بينهم الفتن ودبت فيما بينهم المحن ونشبت بينهم الإحن , وذلك لأنه ليس لهم أمير يأتمرون بأمر وينتهوم مذعنين عند نهيه , فيكون للخير دليلا وللسعادة سبيلا .
لايصلح الناس فوضى لاسراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا [3]
فاجتمع أمرهم على أن يتعين منهم أمير يتولى أمرهم , ويحكم بينهم , ويرعى مصالحهم , ويقوم على شؤونهم . من أهم الشروط التي يلزم العمل بها أن يظل في الأمارة خمس سنوات , ثم لابد له من أن ينقل في قارب صغير إلى جزيرة ثانية مشهورة معلومة بكثرة الهوام والسباع والضباع .
فالداخل فيها مفقود والخارج منها مولود... وأني له ذلك ؟!
أي أن الهلاك فيها خطر لابد منه ولا مهرب عنه ..!!
فتولى أمرهم أمير ظل فيهم وعليهم خمس سنوات أكل اخرهم أولها , فتلاشت من بين يديه وانطوت من تحت قدميه . وانتهت هذه السنوات ..
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثوان [4]
وحسب الاتفاق الذي أبرموه فيما بينهم لابد أن ينقل إلى تلك الجزيرة ( جزيرة المهالك)
وكذلك فعلوا ...
وجاء أمير ثان .... وثالث ...
وهاب الناس هذا الأمر وارتاعوا منه.. ثم أحجموا عنه.. ولم يقدم عليه أحد . يقول أحدهم لنفسه: أجزاء تمتعي بالولاية خمس سنوات ما أسرع ما تنقضي. وأعجل ما تنتهي ..
أنقل إلى تلك الجزيرة المسكونة بالمهالك بعيدا عن أهلي ومالي وكل مكتسباتي ومدخراتي .. لايعلم فيها حالي ولامالي ..؟!
فتركت الولاية .. وعادت الغواية..
ورجع الناس يعنون من فقد الأمير , لما يرون من ظلم واقع ليس له من دافع , وجرم
نازل ماله من منازل , وفوضى عارمة وبلوى جاثمة .
ومر بهم رجل عليه سيماء الخير وملامح الصلاح , فد دل مظهره على مخبره . فعرضوا عليه أمرهم وأخبروه بحالهم , فقال: أنا لها بإذن الله ..!!
فتولى الولاية عليهم خمس سنوات ما رأى الناس مثلها ولا عاشوا كصفوها في خيرها
وعدلها ..
إذا شئت أن تقتاس أمر قبيلة
وأحلامها فانظر إلى من يقودها [5]
وانتهت هذه السنوات كعقد انحل وثاقه فانفرطت حباته , وأزف التحويل .. فلم يبق سوى الرحيل ..!!
وجاء اليوم الموعود .. بكل الامه وأحزانه كعاصفة هوجاء قطعت كل أمل ورجاء في الخلود والبقاء ..
وأتت اللحظة الحاسمة لتشعل في القلب أحزان الفراق وتطوي صحائف اللقيا ونعيم التلاق ..
ودنت ساعة الصفر .. التي تتغير فيها الموازين .. وتنخلع من هولها القلوب .. وتذرف من حرقتها العيون , وينعصر من رهبتها الوجدان ..
وجيىء بهذا الأمير ليركب القارب الذي سينقله إلى جزيرة المهالك , ليواجه الأهوال وحده , ويقارع الخطوب بفرده , حيث لا معين ولا جليس ولا مغيث ولا أنيس .
طريق سلكه من قبل وسيعبره من بعده , فكم سار مثل هذا القارب بمثله من قبل .!!
وبينما كان الناس اسفين محزونين .. دموعهم تهراق حزنا على فراقه , وقلوبهم تتقطع ألما لفقده وبعاده , إذا به في بهجة وسرور وفرحة وحبور ..!!
فقالوا ـــ والعجب يأخذهم منهم كل مأخذ ـــ : عجبنا منك ومن حالك ..!!
نحن قلوبنا ألم بها الألم , ومسها السقم , وأمضها المرض , حزنا عليك وحبا فيك وألما
لفراقك ..
وانت في سعادة غامرة وفرحة ظاهرة ..!!
فما الذي دهاك ؟! وأي خطب اعتراك ؟!
قال : اسمعوا مني الخبر .. وافهموا مني الحكاية ..
أما إني علمت أني راحل عن هذه الجزيرة مفارق لها ومسافر عنها , مهما طال بي فيها المقام فأعددت العدة لهذا الرحيل وجهزت الزاد لهذا السفر الطويل ..!
في السنة الأولى أرسلت جزءا من عبيدي وغلمانا من غلماني إلى تلك الجزيرة فقتلوا
ما فيها من سباع وضباع ..
وفي السنة الثانية بعثت جمعا من عبيدي وغلمانا من غلماني إلى تلك الجزيرة فأهلكوا ما فيها من مهلكات وأفنوا ما يكتنفها من افات وأزالوا ما فيها من هوام وحشرات ..
وفي السنة الثالثة أرسلت حشدا من عبيدي وغلمانا من غلماني فأعدوا لي فيها القصور والدور ..
وفي السنة الرابعة وجهت فرقة من عبيدي وغلمانا من غلماني فأعدوا لي فيها المطايب والمشارب والمركب ..
وها أنا أنتقل في السنة الخامسة لا كمن سبقني .. ينتقلون من العمار إلى الخراب .. أنا أنتقل من العمار ... إلى العمار ..!![6]
هذا مثلي ومثلك ـــ أيها الحبيب ـــ في هذه الحياة الدنيا ..
ولدتك أمك يا بن ادم باكيا
والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا
في يوم موتك ضاحكا مسرورا
عقبات كؤود
أخي الحبيب :
نعيش أياما قلائل .. لحظات معدودات .. ثم لابد لنا من الرجوع إلى الله والوقوف بين يديه { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين } [7]
فنحن نهدم في أعمارنا ــ على قصرها ــ منذ استهل أحدنا صارخا من بطن أمه , وندنوا لحظة بعد ونفسا بعد نفس من صندوق العمل{ إن إليناإيابهم ثم إن علينا حسابهم }[8]
يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى : يا ابن ادم إنما أنت أيام فإذا ذهب يومك ذهب بعضك .
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي
( وفي رواية بمنكبي ) فقال : " يا عبدالله ! كن في الدنيا كأنك غريب , أو كأنك عابر سبيل , وعد نفسك من أهل القبور ".[9]
وكان ابن عمر يقول : إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء , وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك .[10]
حتى متى لا ترعوي يا صاحبي ؟
حتى متى؟ حتى متى؟ وإلى متى ؟
والليل يذهب والنهار , وفيهما
عبر تمر وفكرة لأولي النهى [11]
وأمامنا ــ أيها الحبيب ـــ في هذا السفر المكدود عقاب كؤود , ومصاعب عظيمة , ودواه جسيمة لايعلم مداها ولا منهتهاها إلا خالقها ومولاها ..!!
أمامنا الموت وسكرته , والقبر وظلمته, والصراط وحدته , والميزان ودقته , والحشر ورهبته , والصور وصعقته , والوقوف أمام الله وعظمته .
فواخجلتاه .. يوم العرض الأكبر على الله ..
ووا أسفاه .. على أعمار انقضت في غير طاعة الله .
وواحزناه .. على لحظات مرت .. كرت ففرت .. لم تملأ بما يقرب من الله ..
وواسوأتاه .. فبأي جواب وخطاب نعتذر من الله ..؟!
وواكربتاه .. لأهوال عظام وكربات جسام بين أيدينا في سفرنا ألى الله ...!!
فماذا أعددنا لهذه العقبات ؟!
وما الزاد الذي جهزناه لهذه المهلكات ؟!
يقول النبي صلى الله عليه وسلم " والله لو تعلمون ماأعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ,
وما تلذذتم بالنساء على الفرش , ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون " [12]
تــــزود للذي لابد منه
فإن الموت ميقات العباد
أترضى أن تكون رفيق قوم
لهم زاد وأنت بغير زاد ؟!
حيل بينهم وبين ما يشتهون
أيها الأخ الحبيب :أصحاب القبور مرتهنون بأعمالهم مجزيون بأفعالهم , قد أفضوا إلى ما قدموا , أمنية
أحدهم أن يعود إلى الدنيا ليفسح له في الأجل فيستأنف العمل , فيملأ كل لحظة بطاعة وكل ساعة بقربة وكل دقيقة بزلفى , تقربه من الله وترفع قدره عند خالقه ومولاه , وتبيض وجهه يوم لقاء الله , يوم تيبض وجوه المؤمنين بطاعة الله وتسود وجوه المجرمين بمعصية الله , ولكن { حيل بينهم وبين ما يشتهون } [13]
ضاعت الأيام في جمع الحطام , وجاء الموت ليخترم العمر ويلقي الدنيا بما فيها وعليها
خلف الظهر,
كمثل نملة صغيرة تجمع الحب في الصيف لتأكله في زمن الشتاء عندما يشتد البرد ويفتقد الغذاء , وفي يوم من الأيام أخذت النملة حبة في فمها لتكنزها في مخدعها , فجاء عصفور من السماء فأخذها والحبة معها , فلا ما جمعت أكلت ولا بكنزها تمتعت .
فما دمت ـــ أيها الحبيب ـــ في زمن العمل فدع التواني والكسل . وما زلت في إمكان البذر , فتنبه من هذا الرقاد فقد حصحص زمن الحصاد .
وما برحت الفرصة أمامك وميدان السباق بين يديك , ومضمار التنافس تحت قدميك ..
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " ارتحلت الدنيا مدبرة , وارتحلت الآخرة مقبلة , ولمل واحد منهما بنون , فكونوا ما أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا , فإن
اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل " . [14]
فالبدار ... البدار ...
والمسارعة ... المسارعة ...
قبل أن ينتهي زمن المهله ويحين وقت النقلة , فتنقل من القصور إلى القبور, ومن الدنيا الى الآخرة.. ومن فوق الأرض إلى تحتها .. ومن المشي عليها والسعي فيها إلى الحشر بين أطباقها . فأي عيش يطيب .. وليس للموت طبيب ؟!
وأي حياة ترجى .. وليس دون ارحيل منجى ؟!
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : اضطجع النبي صلى الله عليه وسلم على
الحصير , فأثر في جلده فقلت : بأبي وأمي يارسول الله ! لو كنت آذنتنا ففرشنا لك عليه شيئا يقيك منه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما أنا والدنيا ! إنما أنا والدنيا
كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها ".[15]
فاهتبل فرص العمل قبل أن يحيق بك التلف فتطوى الصحف وتعاين غطاءك الذي انكشف , فترجوا الرجوع ولا رجوع !!
{ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها
كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } . [16]
لمثل هذا فأعدوا
أيها الأخ الحبيب :
كان بعض السلف الصالح قد حفر لنفسه قبرا , فإذا فتر عن العمل نزل في قبره , فتمدد في لحده , ثم قال لنفسه : يا نفس قدري أني قد مت وصرت في لحدي : أي شيء كنت تتمنين ؟
قالت : أرد إلى الدنيا , فأعمل فيها صالحا .
فيقول لنفسه : قد بلغت أمنيتك , فقومي فاعملي صالحا . فيعود وقد زاد إيمانه فباشر قلبه وجنانه فانقاد للعمل جسمه وأركانه .
وإنما هي لحظة محاسبة للنفس ومعاتبة للحس فأخذ للعظة والدرس !!
والنفس كالطفل إن تهمله شب على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم [17]
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال :" بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بجماعة فقال : علام اجتمع عليه هؤلاء ؟ قيل : على قبر يحفرنونه , قال : ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم , فبدر بين يدي أصحابه مسرعا حتى انتهى إللا القبر فجثا عليه , قال : فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع , فبكى حتى بل الثرى من دموعه , ثم أقبل علينا , قال : أي إخواني ! لمثل اليوم فاعدوا ".[18]
يقول المرء فائدتي ومالي
وتقوى الله أفضل ما استفادا
فلا تك ياابن آدم في غرور
فقد قام المنادي صاح نادى
بأن الموت طالبكم فهبوا
لهذا الموت راحلة وزادا [19]
فماذا أعدت ـــ أيها الحبيب ـــ لذلك اليوم العصيب ؟ّ!
يوم تغمض عينك عن الدنيا لتفتحها بين يدي منكر ونكير ..؟!
يوم يتخلى عنك أقرب الناس منك , فيدبر عن قبرك الأهل والأصحاب , وتوضع لوحدك بين الجنادل والتراب ؟!
قال صلى الله عليه وسلم :" يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد , يتبعه أهله وماله وعمله , فيرجع أهله وماله , ويبقى عمله ". [20]
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني
وأين مكان البعد إلا مكانيا
غداة غدا يالهف نفسي على غد
إذا أدلجوا عني وأصبحت ثاويا [21]
فما دام أن العمل الصالح هو الرفيق الذي لا يخون فاكتنز منه واستكثر قبل نزول الموت وانقطاع الصوت , وفوت الفوت { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون }[22]
ولمثل تلك اللحظات المهلكات { فليعمل العاملون } [23]
عن ابن عمر رضي الله عنهما :" كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل من الأنصار , فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : يارسول الله ! أي المؤمنين
أفضل ؟ قال : " أحسنهم خلقا . قال : فأي المؤمنين أكيس [24] ؟ قال : أكثرهم للموت ذكرا , وأحسنهم لما بعده استعدادا . أولئك الأكياس ".[25]
قال إبراهيم التيمي رحمه الله تعالى : مثلت نفسي في الجنة مع حورها , وألبس من سندسها وإستبرقها وآكل من ثمارها , وأعانق أبكارها , وأتمتع بنعيمها , فقلت لنفسي : يا نفس أي شيء تتمنين ؟ فقالت : أرد إلى الدنيا , فأزداد من العمل الذي نلت به هذا .
ثم مثلت نفسي في النار أعالج أغلالها وسعيرها , وأحرق بجحيمها , وأجرع من حميمها , وأطعم من زقومها , فقلت لنفسي : أي شيء تتمنين ؟ فقالت : أرد إلى الدنيا
فأعمل عملا اتخلص به من هذا العذاب . فقلت لها : يا نفس فأنت في المنية فاعملي .
ونحن ما زلنا في المنية , فهل من يقظة واعتبار ؟
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
وانك لم ترصد لما كان أرصدا [26]
مزرعة الآخرة
أخي الحبيب :
فلتجعل الدنيا مطية للآخرة , ولتكن دنياك مزرعة لأخراك وانزع حبها من قلبك فإنها
ملهية مقسية غاوية غرارة !!
زواها الله عن أحب خلقه إليه وأكرمهم عليه محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم , ولو كانت خيرا لساقها إليه ولأسلمها ذليلة بين يديه , ولكن لكرامته عليه ولهوانها عنده حجبها عنه ونزعها منه, وهو صلى الله عليه وسلم القائل :" والله يا عائشه ! لو شئت لأجرى اللع معي جبال الذهب والفضة "[27] وبالرغم من ذلك كان يدعوا فيقول :" اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا " وفي رواية " كفافا " . [28]
ولذا كان يعتصره الجوع فلا يجد من القوت ما يسد جوعته وينهي مسغبته .
عن عمر بن الخطاب ـــ رضي الله عنه ــ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتلوى من الجوع . ما يجد من الّدقل [29] ما يملأ به بطنه . [30]
وقال خالد بن عمير , قال : خطبنا عتبة بن غزوان ـــ رضي الله عنه ـــ على المنبر فقال : لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــ ما لنا طعام نأكله إلا
ورق الشجر . حتى قرحت اشداقنا . [31]
وكان يؤم الضيف شطر بيته المبارك لتقصى حاجته وتغني فاقته فلا يملك بين جدران بيوته التسع ألا الماء !! وهل يسمن الماء أو يغني من جوع ؟!
عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم , فبعث إلى نسائه ؟ فقلن : ما معنا إلا الماء ( أقول : سبحان الله ! رسول الله ولا يجد من الغذاء هو وخير النساء في بيوته إلا الماء ؟! اللهم لا تبتلينا فتفضحنا فإنا ضعفاء ) , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يضم ( أو يضيف ) هذا ؟
فقال رجل من الأنصار [32] : أنا , فانطلق به إلى امرأته فقال : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقالت : ما عندنا إلا قوت للصبيان , فقال : هييء طعامك , وأصلحي سراجك ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء .
فهيأت طعامها , وأصلحت سراجها , ونومت صبيانها , ثم قامت كانها تصلح سراجها فأطفأته وجعلا يريانه أنهما يأكلان , وباتا طاويين , فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال : لقد ضحك الله ( أو عجب ) من فعالكما ؟ وأنزل الله :
{ ويؤثرو على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}[33] [34]
ومع أنه أحب خلق الله إلى الله إلاأن الجوع والفاقة تبلغ به مبلغا عظيما تضطره للخروج من بيته في وقت لايخرج فيه أحد, ولا يخرجه إلا بطنه الخاوي وكبه العطشي .
"خرجرسول الله صلى الله عليه وسلم في ساعة لايخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد , فأتاه أبو بكر فقال : ما جاء بك يا أبا بكر ؟ قال : خرجت ألقى رسول الله وأنظر في وجهه , والتسليم عليه . فلم يلبث أن جاء عمر , فقال : ما جاء بك يا عمر ؟ قال : الجوع يارسول الله ! قال صلى الله عليه وسلم : وانا قد وجدت بعض ذلك , فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم التيهان النصاري وكان رجلا كثير النخل والشاء . ولم يكن له خدم فلم يجدوه , فقالوا لامرأته : أين صاحبك ؟ فقالت : انطلق يستعذب لنا الماء . فلم يلبث أن جاء أبو الهيثم بقربة يزعبها فوضعها و ثم جاء يلتزم النبي صلى الله عليه وسلم ويفديه بأبيه وأمه , ثم
انطلق بهم إلى حديقته , فبسط لهم بساطا , ثم انطلق إلى نخلة , فجاء بقنو فوضعه , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أفلا تنقيت لنا من رطبه ؟ فقال : يارسول الله . إني أردت أن تختاروا أو تخيروا من رطبه وبسره .
فأكلوا وشربوا من ذلك الماء , فقال صلى الله عليه وسلم : هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسالون عنه يوم القيامه , ظل بارد ,ورطب طيب وماء بارد ".[35]
وقد سمع أنس بن مالك رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يردد مرارا :" والذي نفس محمد بيده , ما أصبح عند آل محمد صاع حب أو صاع تمر "[36] وإن له يومئذ لتسع نسوه [37] .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويا , وأهله لا يجدون عشاء , وكان أكثر خبزهم خبز الشعير [38] .
وليته عليه الصلاة والسلام قد شبع من خبز الشعير , تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين
حتى قبض [39] .
وتقول من قاست معه ألم الفقر والحاجة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لعروة رضي الله عنه : والله يا ابن أختي ! إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال , ثلاثة أهلة في شهرين , وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار قال : قلت : يا خالة فما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان التمر والماء [40] . وما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحدهما تمر .[41]
وكان بالرغم من منزلته العلية ومكانته السامية يربط الحجر على بطنه من الغرث [42] [43]
دار الغرور
أقبلت علينا الدنيا بزخارفها , وانظر حت كبغي بين أيدينا بزينتها , فأقبلنا نتهارش عليها ونتنافس على حطامها , وما أرانا أوتينا إلامن قبلها , فقد أشربت بحبها قلوبنا , وتعلقت بها جوارحنا , وامتزجت بمتعها أرواحنا , فأشغلت الكثير منا , فصدف عن التزود للآخرة منها , والتاع يلهث منها لها , ومن شهواتها ليتمتع بها , وينعم بما فيها , فهي تتزين بشهواتها , وتتحلى بملذاتها لكي تخدعه بفتنها وتضله بمغرياتها , فينسى بها لقاء الله , ويغفل بالاستكثار منها عن التزود لأخراه , وينشغل بها عن ما أعدهله بتركها خالقه ومولاه. فالله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لايحب ولا يهب الدين إلالمن يحب .
والعليم بها يحذرنا منها فيقول { فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور }[44]
احذر من الدنيا ولا تغتر بالعمر القصير
وانظر إلى آثارمن صرعته منا بالغرور
عمروا وشادوا ما تراه من المنازل والقصور
وتحولوا من بعد سكناها إلى سكنى القبور [45]
فواعجبا .. وليس ينتهي العجب ...!!
من إقبالنا نحوها , وتنافسنا عليها , بالرغم من مكرها بنا وتغريرها لنا !! مع أنه زهدنا
فيها من خلقها وسواها , فكيف ترغب بها قلوبنا ؟!
وحذرنا منها من هو أعلم منا بها , فكيف نأمن جانبها ونركن لها ونسلم قلوبنا إليها ؟!
وبين لنا ربنا بجلاء ليس فيه خفاء معايبها ومثالبها , فكيف تعمى أبصارنا عن مساويها وننسى دواهيها ؟!
تنبهوا يارقود إلى متى ذا الجمود ؟
فهذه الدار جمع يفني , ومال يــبــيــد
الخير فيها قليل والشر فــيهــــا عــتيــد
والعمر ينقص فيها وسيئـــاتـــي تـــزيــــد
فاستكثروا الزاد فيها إن الطـــريــق بـــعــــيد[46]
ولست لفرط تحذيري منها وتزهيدي لك فيها , أحرم عليك حلالها وأمنعك من المشي في مناكبها .
أمنية أهل الآخرة
الدنيا أمنية أهل الآخرة جميعا . فكل يرجو الرجوع إليها , لا ليستزيد من متاعها ويستكثر من زخارفها وحطامها , وإنما ليصحح الملة ويتوب من زلة ويتنافس في الخير كله .
أرأيت أهل الجنة في نعيمهم المقيم , وخيرهم العميم ,فيما لاعين رأت , ولاأذن سمعت , ولا خطر على قلب بشر في النعيم الذي لا يكدره سخط , والراحة التي لايشوبها عناء , والسعادة التي لا يخالطها شقاء , فيما تشتهيه النفس , وتلذ الأعين , وهم ـــ على الرغم من ذلك ـــ يتمنون أن يعودوا إلى الدنيا فيعملونا بالصالحات ليرتفعوا في المنازل والدرجات , قال صلى الله عليه وسلم :" إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكواكب الدري الغابر في الفق من المشرق أو المغرب , لتفاضل ما بينهم "[47] .
وتأمل ــ إن شئت ــ حال الشهداء الذين قدموا أرواحهم ودماءهم رخيصة لله رب الأرض والسماء , وأرواحهم في جوف طير خضر , لها قناديل معلقة بالعرش , تسرح من الجنة حيث شاءت , ثم تأوي إلى تلك القناديل وهم ـــ والحال ما علمت ـــ يتمنون لو
أن لهم كرة ثانية إلى الحياة الفانية فيعملون للحياة الباقية :" يارب نريد أن ترد ارواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ".[48]
فإن كانت هذه أمنية أهل الجنة , فما بالك بأماني أهل النار ؟! وهم الذين في جهنم يجشرون وعلى وجوههم يسحبون وفي الأغلال يصفدون , في الشقاء الذي لا سعادة معه والكدر الذي لا أنس فيه , ولا أمل في الخروج منه , وهم يصطرخون فيها :
{ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون}[49]
ربنا : أشقينا أنفسنا بالذنوب والخطايا والمعاصي والرزايا , فأرجعنا إلى الدنيا { نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل } [50] .
فيأتيهم الجواب الذي تتقطع لهوله القلوب ولحسرته الأفئدة :{ أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير } [51] .
فيا أيها الحبيب :
ما زلنا في الأمنية .. وما زالت الفرصة أمامنا , والطريق بين أيدينا , فلنجد المسير إلى
السميع البصير , ولنفق من هذا السبات قبل أن يخترمنا الممات ..
فقد دنا الرحيل .. والزاد قليل .. والسفر طويل .. والخطب جليل .. والله المستعان .
مـــلاك الأمـــر تـــقـــوى الله فاجــعــل
تــقــاه عـــــدة لــــصــــــلاح أمــــرك
وبادر نحـــو طاعــــــــــته بعــــــزم
فما تدري متى يـــــمــــضــــي بعمرك [52]
الخاتمة نسأل الله حسنها
وفي الختام .... وليس بيني وبينك ــــ أيها الحبيب ـــ ختام :
هذا ما جادت به القريحة وطاش به القلم وفاض به المداد .. أنشره ــ في حب ــ بين يديك
وابسطه ـــ في ود ـــ بين راحتيك ... لترمقه مقلتيك ..
دليل حبي لك .. وخوفي عليك ..
الرجا كل الرجا : ان أنال بها من الله الأجر وغفران الذنب والوزر , ثم أحضى منك بدعوة طيبة كطيب قلبك وصفاء نفسك ليجمعني بك الله إخوانا على سرر متقابلين في مقعد صدق عند مليك مقتدر !!!
وكتبه أفقر الخلق إلى الخالق :
عبداللطيف بن هاجس الغامدي
غفرالله له ولمن دعا له
[1] ابو عثمان بن لئون التجيبي .
[2] الهرولة في حق الله سبحانه معلومة والكيفية مجهولة والإيمان بها واجب والسؤال
[3] الأفوه الأودي .
[4] أحمد شوقي .
[5] عمر بن الحارث الطائي .
[6] فإن كان هذا حال الأمير مع علوا مكانته وسمو منزلته ما أغنى عنه ماله وهلك عنه سلطانه فما بالك بمن هو دونه؟ والعبرة بطيب العمل والبعد عن الخطأ والزلل والزاد الذي يحتمل !!
[7] سورة الأنعام آية( 62 )
[8] سورة الغاشية آية ( 26 )
[9] صحيح سنن ابن ماجه للألباني رقم ( 3322 ) ( 2/ 395 ) بسند صحيح
[10] صحيح البخاري رقم ( 6416 ) ( فتح 11/ 237 ) .
[11] أبو العتاهية .
[12] صحيح الجامع ( 1722 ) عن أبي ذر بسند صحيح
[13] سورة سبأ آية ( 54 ) .
صحيح البخاري ( فتح 239 / 11 ) كتاب الرقائق ــ باب الأمل وطوله .
[15] صحيح سنن ابن ماجه ( 3317 ) بسند صحيح .
[16] سورة المؤمنين آية ( 99 ــ 100 ) .
[17] محمد بن سعيد الصنهاجي .
[18] صحيح الجامع ( 1751 ) عن البراء بن عازب بسند حسن .
[19] تنسب لأبي الدرداء الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه .
[20] مختصر صحيح مسلم ( 2086 ) عن انس بن مالك .
[21] مالك بن الريب .
[22] سورة المطففين آية ( 26 ) .
[23] سورة الصافات آية ( 61 ) .
[24] الكيس : الفطن المتبصر في عاقبة أمره .
[25] صحيح سنن ابن ماجه ( 3435 ) بسند حسن .
[26] العشى ميمون .
[27] صحيح الجامع ( 2484 ) عن عائشه وهو صحيح .
[28] مختصر صحيح مسلم ( 2069 ) عن أبي هريرة .
[29] أردأ أنواع التمر .
[30] صحيح سنن ابن ماجه ( 3345 ) وهو صحيح .
[31] صحيح سنن ابن ماجه ( 3352 ) وهو صحيح .
[32] هو أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه كما صرح مسلم بذلك في صحيجه ( 6/ 128 ) .
[33] سورة الحشر آية ( 9 ) .
[34] ذكر البخاري في كتاب التفسير ( 65 ) باب ( 59 ) الحشر .
[35] مختصر الشمائل المحمدية للترمذي بتحقيق الألباني رقم _( 113 ) وأصله في مسلم ( 2038 ) وللحديث بقية فلتنظر فإن فيها عمر .
[36] صحيح الجامع ( 2404 ) عن أنس وهو صحيح .
[37] صحيح سنن ابن ماجه ( 3346 ) عن انس بسند صحيح .
[38] صحيح سنن الترمذي ( 1923 ) بسن حسن .
[39] صحيح سنن الترمذي ( 1920 ) بسن صحيح .
[40] مختصر صحيح مسلم ( 2070 ) عن عروة
[41] صحيح البخاري ( 6455 ) ( فتح 11/ 287 ) عن عائشة .
[42] أي الجوع .
[43] الصحيحة : ( 1615 ) عن أبي هريرة بسند حسن .
[44] سورة لقمان آية ( 33 ) .
[45] أسامة بن منقذ .
[46] عبدالرحمن البرعي .
[47] مختصر صحيح مسلم (1961 ) عن أبي سعيد الخدري .
[48] مختصر صحيح مسلم ( 1068 ) عن ابن مسعود .
[49] سورة المؤمنون آية ( 106 ) .
[50] سورة فاطر آية ( 37 )
[51] سورة فاطر آية ( 37 ) .
[52] ابن خاتمة الأندلسي .
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع