أبو منار عصام
مشرف
- إنضم
- 23 يونيو 2011
- المشاركات
- 2,069
- النقاط
- 38
- الإقامة
- مصر
- احفظ من كتاب الله
- القرآن كاملا
- احب القراءة برواية
- حفص
- القارئ المفضل
- الشيخ محمود خليل الحصري
- الجنس
- أخ
هتف العلم بالعمل.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعد أما بعد؛؛؛
فإن حديثنا عن ثمرة العلم وثمرة القول ، وهو العمل ، فإن العلم إذا لم يوافقه العمل كان حجة على صاحبه ، قال الله تعالى:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}[النساء: 66 ـ70]
و أخرج الترمذي (4/612 ، رقم 2417) وقال : حسن صحيح . وأبو يعلى (13/428 ، رقم 7434) ، وأبو نعيم في الحلية (10/232) وصححه الألباني عن أبي برزة الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه وعن علمه فيم فعل وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه .
وقد ذم الله تعالى أقواما تعلموا العلم ولم يعملوا به ، فقال تعالى:{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }[الجمعة:5] قال المفسرون :{ الذين حملوا التوراة } هم بنو إسرائيل الأحبار المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، و { حملوا } معناه : كلفوا القيام بأوامرها ونواهيها ، فهذا كمال حمل الإنسان الأمانة، وليس ذلك من الحمل على الظهر ، وإن كان مشتقاً منه ، وذكر تعالى أنهم { لم يحملوها }، أي لم يطيعوا أمرها ، ويقفوا عند حدها حين كذبوا بمحمد عليه الصلاة والسلام، و { التوراة } تنطق بنبوته ، فكان كل حبر لم ينتفع بما حمل كمثل حمار عليه أسفار.
وقال الحسن البصري - رحمه الله -: ( العالم الذي وافق علمه عمله، ومن خالف علمه عمله فذلك راوية سمع شيئاً فقاله) .
وقال الثوري: (العلماء إذا علموا عملوا ، فإذا عملوا شُغِلوا).
وقال: (العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل)
وقال الله تعالى:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) }[ الأعراف/175 ـ179]
قال ابن مسعود رضي الله عنه: [ إذا سمعت الله يقول: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) فأرعها سمعك -أي: استمع لها- فإما خير تؤمر به, وإما شر تنهى عنه].
نعم العمل الذي هو ركن من أركان الإيمان عند أهل السنة والجماعة ، ولذلك لا تجد فصلاً في الكتاب أو في سنة النبي عليه الصلاة والسلام بين الإيمان وبين القول والعمل.
فالله قال لآل داود:{ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }سبأ/13.
وقال جل شأنه: { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }[التوبة/ 105]
وقال جل شأنه:{ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } سورة العصر
فجعل الله الفوز وعدم الخسران متوقف ومشروط بالعمل مع الإيمان.
والعمل هو الذي به ثقل الحسنات قال الله تعالى: { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم } [ الأعراف : 9 ] ، لأن الموازين هي معايير الأعمال كما تقدم { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] .
وقال تعالى :{ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) }[ سورة القارعة]
وأخرج أحمد في المسند بإسناد حسن عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ.
وجاء في الزهد لأبي داود(ح 249)وفي جامع بيان العلم(635) أن أبا الدرداء قال : من يزدد علما يزدد وجعا ، ولا أخاف أن يقال لي : يا عويمر ماذا علمت ؟ ولكني أخاف أن يقال لي : يا عويمر ماذا عملت فيما علمت ؟ .
وأخرج الدارمي في السنن(260) عن معاذ بن جبل أنه قال: اعملوا ما شئتم بعد ان تعلموا فلن يأجركم الله بالعلم حتى تعملوا .
وقال سفيان الثوري رحمه الله : « لو لم أعلم كان أقل لحزني » جامع بيان العلم(635).
فتعالوا بنا أحبتي لنرى صورا لتلقي الصحابة رضوان الله عليهم للوحي وللعلم وللأمر وللنهي.
الصحابة الذين إذا أمروا امتثلوا ،وإذا نهوا انتهوا ،وإذا نصحوا انتصحوا، وإذا قالوا عملوا ، وإذا عملوا أتقنوا، قوم تعلموا العلم والعمل .
إني رضيت عليا قدوة علما كما رضيت عتيقا صاحب الغار
وقد رضيت أبا حفص وشيعته وما رضيت بقتل الشيخ في الدار
كل الصحابة عندي قدوة علم فهل علي بهذا القول من عار
إن كنت تعلم أني لا أحبهم إلا لوجهك فاعتقني من النار
(1) ها هي الصحابية بريرة رضي الله عنها لما أعتقتها عائشة رضي الله عنها وكانت زوجة تحت عبد يقال له مغيث فلما أعتقت خيرت فاختارت فراقه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليشفع له كما أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس : أن زوج بريرة عبد أسود يقال له مغيث كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته فقال النبي صلى الله عليه و سلم لعباس ( يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثاً ) . فقال النبي صلى الله عليه و سلم ( لو راجعته) . قالت يا رسول الله تأمرني ؟ قال ( إنما أنا أشفع ) . قالت لا حاجة لي فيه .
والشاهد أن بريرة قالت : تأمرني ؟ لأنه لو كان أمرا لرجعت إليه ، طاعة لله ولرسوله ، فلما علمت أنها مجرد شفاعة اختارت نفسها.
(2) ذكر الطبري في تفسير قول الله تعالى:{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) }الأحزاب.
ذكر أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش حين خطبها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على فتاه زيد بن حارثة، فامتنعت من إنكاحه نفسها. فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسوله (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ....) إلى قوله(ضَلالا مُبِينًا) قالت: قد رضيته لي يا رسول الله مَنكحًا؟ قال: "نعم" قالت: إذن لا أعصي رسول الله، قد أنكحته نفسي.
(3) أخرج أبو داود (4/369 ، رقم 5272) ، والطبراني (19/261 ، رقم 580) . وأخرجه أيضًا : البيهقي في شعب الإيمان (6/173 ، رقم 7822) وحسنه الألباني في الصحيحة(856) عن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء : استأخرن ؛ فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق ؛ عليكن بحافات الطريق . فكانت المرأة تلتصق بالجدار ؛ حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به .
(4) أخرج البخاري وأبو داود عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا.
(5) أخرج البخاري(2464) ومسلم(1980) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ ساقي الْقَوْمِ يَوْمَ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ في بَيْتِ أَبِى طَلْحَةَ وَمَا شَرَابُهُمْ إِلاَّ الْفَضِيخُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ. فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِى فَقَالَ اخْرُجْ فَانْظُرْ فَخَرَجْتُ فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِى أَلاَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ - قَالَ - فَجَرَتْ في سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لي أَبُو طَلْحَةَ اخْرُجْ فَاهْرِقْهَا. فَهَرَقْتُهَا فَقَالُوا أَوْ قَالَ بَعْضُهُمْ قُتِلَ فُلاَنٌ قُتِلَ فُلاَنٌ وَهِىَ في بُطُونِهِمْ - قَالَ فَلاَ أَدْرِى هُوَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [المائدة / 93 ]
(6) لما نزل الأمر بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في قوله تعالى: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ إِلَى قَوْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } يخرج لنا البخاري(4494) ومسلم(526) في صحيحيهما عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ :بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْقِبْلَةِ.
وهو في الصحيحين أيضاً من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه
(7) وأخرج البخاري (1461) ومسلم(998) في صحيحيهما عن أَنَس بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.
وجاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي(658) وأحمد(16226) سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (صَدَقَتُكَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ).
(8) أخرج أبو داود (462 و571) وصححه الألباني عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:لَوْ تَرَكْنَا هَذَا الْبَابَ لِلنِّسَاءِ.
قَالَ نَافِعٌ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ.
(9) أخرج البخاري(457)(2418) ومسلم (1558)عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى يَا كَعْبُ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَيْ الشَّطْرَ قَالَ لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ قُمْ فَاقْضِهِ.
(10) أخرج الحاكم في المستدرك (4917) وقال صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه وبن حبان في صحيحه (7025) والبيهقي في الكبرى(7062) وقال شعيب الأرنؤوط : حديث صحيح عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه : عن جده قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : وقد كان الناس انهزموا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى انتهى بعضهم إلى دون الأعراض إلى جبل بناحية المدينة ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد كان حنظلة بن أبي عامر التقى هو وأبو سفيان بن حرب فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود فعلاه شداد بالسيف حتى قتله وقد كاد يقتل أبا سفيان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إن صاحبكم حنظلة تغسله الملائكة فسلوا صاحبته ) فقالت : خرج وهو جنب لما سمع الهائعة ،فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( فذاك قد غسلته الملائكة ) .
مسألة: في وعيد من يأمر بالمعروف ولا يفعله أو ينهى عن المنكر ويفعله:
الواجب على كل من الآمر والمأمور اتباع الحق المأمور به، وقد ورد الوعيد الشديد والتوبيخ والزجر البليغ على من يخالف قوله فعله من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فمن ذلك:
1- قول الله تعالى: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } البقرة .
وقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ }الصف .
2- قول الله تعالى حكاية عن شعيب -عليه السلام-: { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ } .
3- ودلت السنة الصحيحة على أن من يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله أنه حمار من حمر جهنم، يجرّ أمعاءه فيها، فأخرج الشيخان في صحيحهما من حديث أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّاِر فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ، فَيَدُورُ بِهَا فِي النَّارِ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ، مَا أَصَابَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ » ومعنى تندلق أقتابه: تتدلى أمعاؤه والعياذ بالله، كما دل القرآن على أن المأمور إذا أعرض عن التذكرة كحمار أيضًا، قال تعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ . كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ . فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } سورة المدثر آية: 49-51.
4- و أخرج الإمام أحمد وابن أبي شيبة عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ،كُلَّمَا قُرِضَتْ رَجَعَتْ، فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ،كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ».
وقال رجلٌٌ لابنِ عباسٍ: أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فقال له ابن عباس: إن لم تخش أن تفضحك هذه الآيات الثلاث فافعل، وإلا فابدأ بنفسك، ثم تلا { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ }[البقرة:44].
وقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ }[الصف:3].
وقوله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام: { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان
ولقد أحسن أبو الأسود الدؤلي حين قال:
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليمُ
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيمُ
ونراك تصلح بالرشاد عقولنا أبداً وأنت من الرشاد عديمُ
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
فهناك يقبل ما وعظت ويقتدى بالعلم منكَ وينفعُ التعليمُ
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيمُ
وقال أبو العتاهية:
يا واعظ الناس قد أصبحت متهما** إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها
كلابس الثوب من عري وعورته *** للناس بادية ما إن يواريها
وأعظم الذنب بعد الشرك تعلمه ** في كل نفس عماها عن مساويها
عرفانها بذنوب الناس تبصرها *** منهم ولا تعرف العيب الذي فيها
وقال أيضاً:
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقي ** وريح الخطايا من ثيابك يسطع
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليلة أسري بي مررت على ناس تقرض شفاههم بمقارض من نار، فقلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء
الخطباء من أهل الدنيا، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون".
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم يجرون قُصْبَهم في نار جهنم، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير وننسى أنفسنا".
ولكن على المرء أن يدعو ويصلح نفسه:
قال بعض أهل العلم : لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا أن تعملوا بأحسن ما تسمعون منا .
وقال بعضهم : لا تنظر إلى عمل العالم ولكن اسأله يصدقك .
ووقف رجلٌ على ابن عيينة وهو يعظ الناس فأنشد :
وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس وهو مريض
فأنشده ابن عيينة :
اعمل بعلمي وإن قصرتُ في عملي ... ينفعك علمي ولا يضرُرْك تقصيري
" فيجب على الإنسان أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله، وتقصيره في دينه ليس عذراً له في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، ولو لم يعظ إلا معصوم من الزلل لم يعظ الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد لأنه لا عصمة لأحد بعده.
لئن لم يعظ العاصين من هو مذنب *** فمن يعظ العاصين بعد محمد
قيل للحسن: إن فلاناً لا يعظ ويقول: أخاف أن أقول ما لا أفعل، فقال الحسن: وأينا يفعل ما يقول، ود الشيطان أنه ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر.
وقال مالك عن ربيعة: قال سعيد بن جبير: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر، قال مالك: وصدق! ومن ذا الذي ليس فيه شيء.
من ذا الذي ما ساء قط *** ومن له الحسنى فقط .
خطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله يوماً فقال في موعظته: إني لأقول هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، فأستغفر الله وأتوب إليه.
وكتب إلى بعض نوابه على بعض الأمصار كتاباً يعظه فيه وقال في آخره: وإني لأعظك بهذا وإني لكثير الإسراف على نفسي، غير محكم لكثير من أمري، ولو أن المرء لا يعظ أخاه حتى يحكم نفسه إذاً لتواكل الخير، وإذاً لرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذاً لاستحلت المحارم، وقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة في الأرض.
وهذا محمول منهم رضي الله عنهم على هضم أنفسهم؛ وإلا فقد كانوا أئمة هدى ومصابيح دجى، ونحن علينا أن نسدد ونقارب، ونحاول أن نكون قدوة لغيرنا، فإن غلبتنا أنفسنا وظفر الشيطان منا ببعض الأمور فليس ذلك عذراً لترك الدعوة إلى الله. والله أعلم .
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعد أما بعد؛؛؛
فإن حديثنا عن ثمرة العلم وثمرة القول ، وهو العمل ، فإن العلم إذا لم يوافقه العمل كان حجة على صاحبه ، قال الله تعالى:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}[النساء: 66 ـ70]
و أخرج الترمذي (4/612 ، رقم 2417) وقال : حسن صحيح . وأبو يعلى (13/428 ، رقم 7434) ، وأبو نعيم في الحلية (10/232) وصححه الألباني عن أبي برزة الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه وعن علمه فيم فعل وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه .
وقد ذم الله تعالى أقواما تعلموا العلم ولم يعملوا به ، فقال تعالى:{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }[الجمعة:5] قال المفسرون :{ الذين حملوا التوراة } هم بنو إسرائيل الأحبار المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، و { حملوا } معناه : كلفوا القيام بأوامرها ونواهيها ، فهذا كمال حمل الإنسان الأمانة، وليس ذلك من الحمل على الظهر ، وإن كان مشتقاً منه ، وذكر تعالى أنهم { لم يحملوها }، أي لم يطيعوا أمرها ، ويقفوا عند حدها حين كذبوا بمحمد عليه الصلاة والسلام، و { التوراة } تنطق بنبوته ، فكان كل حبر لم ينتفع بما حمل كمثل حمار عليه أسفار.
وقال الحسن البصري - رحمه الله -: ( العالم الذي وافق علمه عمله، ومن خالف علمه عمله فذلك راوية سمع شيئاً فقاله) .
وقال الثوري: (العلماء إذا علموا عملوا ، فإذا عملوا شُغِلوا).
وقال: (العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل)
وقال الله تعالى:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) }[ الأعراف/175 ـ179]
قال ابن مسعود رضي الله عنه: [ إذا سمعت الله يقول: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) فأرعها سمعك -أي: استمع لها- فإما خير تؤمر به, وإما شر تنهى عنه].
نعم العمل الذي هو ركن من أركان الإيمان عند أهل السنة والجماعة ، ولذلك لا تجد فصلاً في الكتاب أو في سنة النبي عليه الصلاة والسلام بين الإيمان وبين القول والعمل.
فالله قال لآل داود:{ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }سبأ/13.
وقال جل شأنه: { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }[التوبة/ 105]
وقال جل شأنه:{ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } سورة العصر
فجعل الله الفوز وعدم الخسران متوقف ومشروط بالعمل مع الإيمان.
والعمل هو الذي به ثقل الحسنات قال الله تعالى: { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم } [ الأعراف : 9 ] ، لأن الموازين هي معايير الأعمال كما تقدم { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] .
وقال تعالى :{ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) }[ سورة القارعة]
وأخرج أحمد في المسند بإسناد حسن عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي قَالَ حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ.
وجاء في الزهد لأبي داود(ح 249)وفي جامع بيان العلم(635) أن أبا الدرداء قال : من يزدد علما يزدد وجعا ، ولا أخاف أن يقال لي : يا عويمر ماذا علمت ؟ ولكني أخاف أن يقال لي : يا عويمر ماذا عملت فيما علمت ؟ .
وأخرج الدارمي في السنن(260) عن معاذ بن جبل أنه قال: اعملوا ما شئتم بعد ان تعلموا فلن يأجركم الله بالعلم حتى تعملوا .
وقال سفيان الثوري رحمه الله : « لو لم أعلم كان أقل لحزني » جامع بيان العلم(635).
فتعالوا بنا أحبتي لنرى صورا لتلقي الصحابة رضوان الله عليهم للوحي وللعلم وللأمر وللنهي.
الصحابة الذين إذا أمروا امتثلوا ،وإذا نهوا انتهوا ،وإذا نصحوا انتصحوا، وإذا قالوا عملوا ، وإذا عملوا أتقنوا، قوم تعلموا العلم والعمل .
إني رضيت عليا قدوة علما كما رضيت عتيقا صاحب الغار
وقد رضيت أبا حفص وشيعته وما رضيت بقتل الشيخ في الدار
كل الصحابة عندي قدوة علم فهل علي بهذا القول من عار
إن كنت تعلم أني لا أحبهم إلا لوجهك فاعتقني من النار
(1) ها هي الصحابية بريرة رضي الله عنها لما أعتقتها عائشة رضي الله عنها وكانت زوجة تحت عبد يقال له مغيث فلما أعتقت خيرت فاختارت فراقه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليشفع له كما أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس : أن زوج بريرة عبد أسود يقال له مغيث كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته فقال النبي صلى الله عليه و سلم لعباس ( يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثاً ) . فقال النبي صلى الله عليه و سلم ( لو راجعته) . قالت يا رسول الله تأمرني ؟ قال ( إنما أنا أشفع ) . قالت لا حاجة لي فيه .
والشاهد أن بريرة قالت : تأمرني ؟ لأنه لو كان أمرا لرجعت إليه ، طاعة لله ولرسوله ، فلما علمت أنها مجرد شفاعة اختارت نفسها.
(2) ذكر الطبري في تفسير قول الله تعالى:{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) }الأحزاب.
ذكر أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش حين خطبها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على فتاه زيد بن حارثة، فامتنعت من إنكاحه نفسها. فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسوله (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ....) إلى قوله(ضَلالا مُبِينًا) قالت: قد رضيته لي يا رسول الله مَنكحًا؟ قال: "نعم" قالت: إذن لا أعصي رسول الله، قد أنكحته نفسي.
(3) أخرج أبو داود (4/369 ، رقم 5272) ، والطبراني (19/261 ، رقم 580) . وأخرجه أيضًا : البيهقي في شعب الإيمان (6/173 ، رقم 7822) وحسنه الألباني في الصحيحة(856) عن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء : استأخرن ؛ فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق ؛ عليكن بحافات الطريق . فكانت المرأة تلتصق بالجدار ؛ حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به .
(4) أخرج البخاري وأبو داود عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا.
(5) أخرج البخاري(2464) ومسلم(1980) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ ساقي الْقَوْمِ يَوْمَ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ في بَيْتِ أَبِى طَلْحَةَ وَمَا شَرَابُهُمْ إِلاَّ الْفَضِيخُ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ. فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِى فَقَالَ اخْرُجْ فَانْظُرْ فَخَرَجْتُ فَإِذَا مُنَادٍ يُنَادِى أَلاَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ - قَالَ - فَجَرَتْ في سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لي أَبُو طَلْحَةَ اخْرُجْ فَاهْرِقْهَا. فَهَرَقْتُهَا فَقَالُوا أَوْ قَالَ بَعْضُهُمْ قُتِلَ فُلاَنٌ قُتِلَ فُلاَنٌ وَهِىَ في بُطُونِهِمْ - قَالَ فَلاَ أَدْرِى هُوَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) [المائدة / 93 ]
(6) لما نزل الأمر بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في قوله تعالى: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ إِلَى قَوْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } يخرج لنا البخاري(4494) ومسلم(526) في صحيحيهما عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ :بَيْنَمَا النَّاسُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِقُبَاءٍ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْقِبْلَةِ.
وهو في الصحيحين أيضاً من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه
(7) وأخرج البخاري (1461) ومسلم(998) في صحيحيهما عن أَنَس بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.
وجاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي(658) وأحمد(16226) سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (صَدَقَتُكَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ).
(8) أخرج أبو داود (462 و571) وصححه الألباني عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:لَوْ تَرَكْنَا هَذَا الْبَابَ لِلنِّسَاءِ.
قَالَ نَافِعٌ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ.
(9) أخرج البخاري(457)(2418) ومسلم (1558)عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى يَا كَعْبُ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَيْ الشَّطْرَ قَالَ لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ قُمْ فَاقْضِهِ.
(10) أخرج الحاكم في المستدرك (4917) وقال صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه وبن حبان في صحيحه (7025) والبيهقي في الكبرى(7062) وقال شعيب الأرنؤوط : حديث صحيح عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه : عن جده قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : وقد كان الناس انهزموا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى انتهى بعضهم إلى دون الأعراض إلى جبل بناحية المدينة ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد كان حنظلة بن أبي عامر التقى هو وأبو سفيان بن حرب فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود فعلاه شداد بالسيف حتى قتله وقد كاد يقتل أبا سفيان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إن صاحبكم حنظلة تغسله الملائكة فسلوا صاحبته ) فقالت : خرج وهو جنب لما سمع الهائعة ،فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( فذاك قد غسلته الملائكة ) .
مسألة: في وعيد من يأمر بالمعروف ولا يفعله أو ينهى عن المنكر ويفعله:
الواجب على كل من الآمر والمأمور اتباع الحق المأمور به، وقد ورد الوعيد الشديد والتوبيخ والزجر البليغ على من يخالف قوله فعله من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فمن ذلك:
1- قول الله تعالى: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } البقرة .
وقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ }الصف .
2- قول الله تعالى حكاية عن شعيب -عليه السلام-: { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ } .
3- ودلت السنة الصحيحة على أن من يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله أنه حمار من حمر جهنم، يجرّ أمعاءه فيها، فأخرج الشيخان في صحيحهما من حديث أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّاِر فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ، فَيَدُورُ بِهَا فِي النَّارِ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ، مَا أَصَابَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ » ومعنى تندلق أقتابه: تتدلى أمعاؤه والعياذ بالله، كما دل القرآن على أن المأمور إذا أعرض عن التذكرة كحمار أيضًا، قال تعالى: { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ . كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ . فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } سورة المدثر آية: 49-51.
4- و أخرج الإمام أحمد وابن أبي شيبة عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ،كُلَّمَا قُرِضَتْ رَجَعَتْ، فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ،كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ».
وقال رجلٌٌ لابنِ عباسٍ: أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فقال له ابن عباس: إن لم تخش أن تفضحك هذه الآيات الثلاث فافعل، وإلا فابدأ بنفسك، ثم تلا { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ }[البقرة:44].
وقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ }[الصف:3].
وقوله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام: { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان
ولقد أحسن أبو الأسود الدؤلي حين قال:
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليمُ
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيمُ
ونراك تصلح بالرشاد عقولنا أبداً وأنت من الرشاد عديمُ
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
فهناك يقبل ما وعظت ويقتدى بالعلم منكَ وينفعُ التعليمُ
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيمُ
وقال أبو العتاهية:
يا واعظ الناس قد أصبحت متهما** إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها
كلابس الثوب من عري وعورته *** للناس بادية ما إن يواريها
وأعظم الذنب بعد الشرك تعلمه ** في كل نفس عماها عن مساويها
عرفانها بذنوب الناس تبصرها *** منهم ولا تعرف العيب الذي فيها
وقال أيضاً:
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقي ** وريح الخطايا من ثيابك يسطع
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليلة أسري بي مررت على ناس تقرض شفاههم بمقارض من نار، فقلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء
الخطباء من أهل الدنيا، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون".
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم يجرون قُصْبَهم في نار جهنم، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير وننسى أنفسنا".
ولكن على المرء أن يدعو ويصلح نفسه:
قال بعض أهل العلم : لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا أن تعملوا بأحسن ما تسمعون منا .
وقال بعضهم : لا تنظر إلى عمل العالم ولكن اسأله يصدقك .
ووقف رجلٌ على ابن عيينة وهو يعظ الناس فأنشد :
وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس وهو مريض
فأنشده ابن عيينة :
اعمل بعلمي وإن قصرتُ في عملي ... ينفعك علمي ولا يضرُرْك تقصيري
" فيجب على الإنسان أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله، وتقصيره في دينه ليس عذراً له في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، ولو لم يعظ إلا معصوم من الزلل لم يعظ الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد لأنه لا عصمة لأحد بعده.
لئن لم يعظ العاصين من هو مذنب *** فمن يعظ العاصين بعد محمد
قيل للحسن: إن فلاناً لا يعظ ويقول: أخاف أن أقول ما لا أفعل، فقال الحسن: وأينا يفعل ما يقول، ود الشيطان أنه ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر.
وقال مالك عن ربيعة: قال سعيد بن جبير: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر، قال مالك: وصدق! ومن ذا الذي ليس فيه شيء.
من ذا الذي ما ساء قط *** ومن له الحسنى فقط .
خطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله يوماً فقال في موعظته: إني لأقول هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، فأستغفر الله وأتوب إليه.
وكتب إلى بعض نوابه على بعض الأمصار كتاباً يعظه فيه وقال في آخره: وإني لأعظك بهذا وإني لكثير الإسراف على نفسي، غير محكم لكثير من أمري، ولو أن المرء لا يعظ أخاه حتى يحكم نفسه إذاً لتواكل الخير، وإذاً لرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذاً لاستحلت المحارم، وقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة في الأرض.
وهذا محمول منهم رضي الله عنهم على هضم أنفسهم؛ وإلا فقد كانوا أئمة هدى ومصابيح دجى، ونحن علينا أن نسدد ونقارب، ونحاول أن نكون قدوة لغيرنا، فإن غلبتنا أنفسنا وظفر الشيطان منا ببعض الأمور فليس ذلك عذراً لترك الدعوة إلى الله. والله أعلم .
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع