عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين

طباعة الموضوع

أم هنا وريهام

مشرف عام
إنضم
6 يناير 2012
المشاركات
873
النقاط
16
الإقامة
المنصوره
احفظ من كتاب الله
ماتيسر من القران
احب القراءة برواية
حفص
القارئ المفضل
المنشاوى
الجنس
اخت


عمرو بن العاص .. القُرشي السَّهْمي

أهلـه وقـومــه

هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعَيد بن سَهْم بن عمرو ابن هُصَيْص بن كَعْب بن لُؤَي بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النَّضر ابن كِنَانة بن خُزَيْمة، وفِهْر بن مالك بن النضر هو قريش، ومن لم يَلد فِهْرٌ فليس من قريش.

أبو عمرو هو العاص بن وائل، أحد أشراف قريش في الجاهلية، وقائـد بني سَـهْم من قُريش في حــرب الفِجَـــار الثاني، قبل بعثـــــــة النبي صلى الله عليه و سلم، وكان يوم الفِجَــار الثاني، بعد عــام الفيــل بعشـــرين سنة(591م).

وقد أدرك الإسلام، ولكنه لم يُسْلم، إذ مات بمكة المكرمة في السنة الأولى من الهجرة، وكان أحد سادات قريش الذين مشوا إلى أبي طـــــالب، يسألونه أن يكف عنهم رســــول الله صلى الله عليه و سلم، فقال لهـــــم أبو طالب قولاً رفيقًا، وردَّهم ردًًا جميلاًً، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما هو عليه: يُظهر دين الله، ويدعو إليه.

وكان أحد زعماء قريش، الذين حاولوا صدَّ النبي صلى الله عليه و سلم عن دعوته، وعرضوا عليه كل المغريات ليكفَّ عنهم، فلم يفلحوا في محاولتهم، فعرضوا عليه أن يعبد آلهتهم سنة: اللات والعُزى، ويعبدوا إلهه سنة، فنزل قوله تعالى: (قُل يا أيها الكافرون لا أعبدُ ما تعبُدون )(الكافرون:1-6)، وأنزل الله عز وجل: (قُل أفغيرَ اللهِ تَأْمُرونِّي أعبد أيها الجاهلون ) إلى قوله: (بلِ اللهَ فاعْبُد وكُن من الشاكرين )(الزمر:64-66).

ومشى مرة مع عُصبة من أشراف قريش إلى النبي صلى الله عليه و سلم فدعاهم إلى التوحيد، فرفضوا دعوته، فأنزل الله عز وجل: (وانطلقَ الملأُ منهم أن امْشُوا واصبروا على آلهتِكُم إنَّ هذا لشيء يُراد ) إلى قوله: (إلا ّ اختلاق )(ص:6-7).

وكان أحدَ المستهزئين بالنبي صلى الله عليه و سلم، وهو الذي كان إذا ذُكر النبيُصلى الله عليه و سلم قال: (دعوه، فإنما هو رجلٌ أبْتَر لا عَقِبَ له، لو قد مات، لقد انقطـــع ذِكْــرُهُ، واسْتَرَحْتُم منه). فأنزل الله في ذلك قولــه الكــريم: (إنَّا أعْطَيْنَاك الكَوْثَر فَصَلِّ لرَبِّك وانْحَرْ إنَّ شانِئَكَ هو الأبْتَر )(الكوثر:1-3) مما هو خير من الدنيا وما فيها.. والكوثر: العظيم. وهو الذي قال للنبي صلى الله عليه و سلم: (لو جُعل معك يا محمد مَلَك يُحَدِّث عنك الناس، ويُرى معك)، فأنزل الله تعــــــالى: (وقالوا لَوْلا أُنزلَ عليه مَلَك ولو أنزلنا مَلَكًا لقُضيَ الأمْرُ ثم لا يُنظَرون ولو جعلناه مَلَكًا لجعلناه رجلاً ولَلَبَسْنَا عليهم ما يَلْبِسُون )(الأنعام:8-9).

وكان خَبَّابُ بنُ الأَرَتِّ صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم قَيْنًا بمكة يعمل السيوف، وكان قد باع من العاص بن وائل سيوفًا، عملها له، حتى إذا كان له عليه مال، فجاء يتقاضاه، فقال له: (يا خَبَّابُ! أليس يزعم محمد، صاحبكم هذا، الذي أنت على دينه، أن في الجنة ما ابتغى أهلُها من ذَهَب أو فِضة أو ثياب أو خدم؟ قال خباب: (بلى)، قال: (فأنْظِرْني إلى يوم القيامة يا خباب; حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقك، فوالله، لا تكون أنت وأصحابك يا خَبَّابُ، آثر عند الله مني، ولا أعظم حظًا في ذلك). فأنزل الله تعالى فيه: (أَفَرَأيتَ الذي كَفَرَ بآياتنا وقالَ لأُوتَيَنَّ مالاً وولَدًا أطَلَعَ الغيب ) ، إلى قوله تعالى: (ونَرِثُهُ ما يقولُ ويأتينا فردًا )(مريم:77-80).

ومع ذلك فقد كان العاص يحترم حرية الرأي، فقد زجر الذين أرادوا سوءًا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه من قريش، حين أعلن عمر إسلامه على الملأ، فقال العاص للذين أرادوا الاعتداء على عُمَر لإِسلامه: (رجل اختار لنفسه أمرًا، فماذا تريدون؟! أترون بني عَدِي يسلِّمون لكم صاحبهم هذا؟! خَلُّوا على الرجل) وهذا يدل على أنه كان عاقلاً، يتسم ببعد النظر، بالإضافة إلى تمسكه بحرية الرأي.

وكان العاص من أغنياء قريش، يلبس الحُلَّة، ويرتدي الديباج مزوَرًا بالذهب، فهو من المترفين حقًا، وذو ثراء عريض.

وكان مشهورًا بالكرم وحسن الوفادة، ومعاونة المحتاج، وقد مات العاص بن وائل، بين مكة والأبواء، والمدينة بالأبواء في رواية، وهو ما نرجحه، لوجود هذا النص عليه، وهو قول الشاعر:

يا رُبَّ زِقٍ كالحمار وجَفْنَـــــــةِ

كُفِيَتْ خِلافَ الرَّكبِ مَدْفَعَ أرْثَد

* وفي العاص بن وائل، يقول الزِّبَعْرى:

أصاب ابنُ سَلْمى خُلَّةً من صديقـــه

ولولا ابنُ سَلْمى لم يكن لك راتِقُ

فآوى وَحيـــــــَّا إذ أتــــــــاه بِخُلَّــــــةٍ

وأعرض عنه الأقربون الأصــــــــــادقُ

فإِما أُصِبْ يومًا من الدَّهر نُصـــــــــــــرةً

أتَتْك وإني بابن سَلْمى لصـــــــــادقُ

وإلا تكُنْ إلا لســـــــــــاني فإنَّـــــــه

بِحُسن الذي أسْديتَ عني لنَاطِـقُ

ثِمَــــــالٌ يعيشُ المُقْتِـــــــــرون بفضله

وسَيْبُ ربيعٍ ليس فيه صواعقُ

وأم العاص بن وائل: سَلْمى البَلَويَّة، من بَلِيّ من قُضاعة.

لقد كان العاص من أشراف قريش المتميزين.

وأم عمرو بن العاص هي: سَلْمى بنت حَرْمَلة، تُلَقَّب بالنابغة من بني عَنَزَة، أصابتها رماح العرب، فبيعت بسوق عُكَاظ، فاشتراها الفاكهة بن المغيرة، ثم اشتراها عبد الله بن جُدْعَان، ثم صارت إلى العاص بن وائل، فأنجبت عَمْرًا وإخوته لأمّه: عُرْوة بن أُثََاثَة العَدَوي، كان من مهاجرة الحبشة، وأَرْنبُ بنت عَفِيف بن العاصي، وعُقبة بن نافع بن عبد القيس بن لَقِيط من بني الحارث بن فِهْر القرشي.

وفي رواية ثانية، أن أم عمرو بن العاص حبشية، والرواية الأولى متواترة في المصادر المعتمدة، لذلك نرجحها على الرواية الثانية.

وعمرو من بني سَهْم، وهم بطن من عشرة أبطن من قُريش، انتهى إليها الشرف قبل الإسلام هم: هاشم، وأمية، ونَوفل، وعبد الدار، وتَيْم، وأسد، ومخزوم، وعَدِي، وجُمَح، وسَهْم، وكان لكلِّ بطن من هذه البطون واجب خاص، فكان بنو سَهْم أصحاب الحكومة في قريش، والحكومة عمل يشبه القضاء، بحيث كان يحتكم القرشيون وغيرهم، ممن يفد على مكة من العرب، إلى زعماء بني سهم، فيما يقع بينهم من الخصومات، وهذا يدل على أنهم كانوا أصحاب رأي وحِلْم ودهاء واتِّزان وحصافة.

وكان لبني سَهْم أيضًا، الرئاسة على الأموال الخاصة بآلهة قريش، وهي أشبه شيء بالأوقاف العامة.. وفي قبضة صاحب هذا العمل الأموال المحجّرة -كما كانوا يسمونها- يتصرّف فيها حسب ما تقتضيه القواعد التي جَرَوْا عليها في العمل بأموال أوثانهم وأصنامهم.

وقد اشتهر بنو سَهْم بالغزو، والشرف، والشِّعر، وفَصْل الخصومات، واليسار، فنشأ عمرو في هذه البيئة الحَضَرية بمكة، التي لم تنقطع صلتها بالبداوة في التربية، والناحية الاجتماعية، والاقتصادية، والدينية، وترعرع في رعاية والده، رئيس بني سَهْم، وأحد رجالات قريش، وزعمائها، ورؤسائها، وأشرافها البارزين، الذي كان معروفًا برجاحة العقل، وبُعْد النظر، وسعة الأفق، والكفاية القيادية، والتجارب العملية، والثراء، وبرعاية والدته الذكية القوية، ويكفي دليلاً على تجاربها في الحياة وذكائها وصلابتها، أنها أم عمرو، وأم عقبة بن نافع، وهما من أعظم قادة الفتح الإسلامي، ومن أبرز الولاة والإداريين والأمراء.

لقد كانت بيئة عمرو التي نشأ فيها وترعرع، صالحة لتنشئة القادة والإداريين.
في الجاهليــــة
سفارة عمرو إلى النجاشي
كان عمرو، وكان أبوه العاص بن وائل، من المجاهرين بالظلم لرسول الله صلى الله عليه و سلم، ولكل مَن آمَن به.
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم، ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، لمكانته من عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها مَلِكًا لا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أحدٌ، وهي أرضُ صِدْقٍ، حتى يجعلَ اللهُ لكم فَرَجًا مما أنتم فيه)، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، من مكة إلى أرض الحبشة، مَخافة الفتنة، وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام، وهي الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة، في السنة الخامسة، من النبوة.
ولما رأت قريش أن المسلمين المهاجرين، قد اطمأنوا بأرض الحبشة، وأَمِنوا، وأن النجاشي قد أحسن صحبتهم، ائتمروا بينهم، فبعثوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، ومعهما هدية إليه، وإلى أعيان أصحابه، فسارا حتى وصلا إلى أرض الحبشة، فحملا إلى النجاشي هديته، وإلى أصحابه هداياهم، وقالا لهم: (إن ناسًا من سفهائنا، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دين الملك، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد أرسَلَنَا أشرافُ قومِنا إلى الملك; ليردهم إليهم، فإذا كلمنا المَلِك فيهم، فأشيروا عليه، بأن يرسلهم معنا، من غير أن يكلمهم)، وخافا إنْ يسمع النجاشيُ كلامَ المسلمين أن لا يسلِّمهم، فوعدهما أصحاب النجاشي المساعدة على ما يريداه.
ثم إنهما حضرا عند النجاشي، فأعلماه بالذي جاءا من أجله، إلى أرض الحبشة، فأشار أصحابه بتسليم المسلمين إليهما. وغضب المَلِك من ذلك، وقال: (لا والله لا أسلم قومًا جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على مَن سواي، حتى أدعوهم، وأسألهم، عما يقول هذان الرجلان، فإن كانا صادقين، سلمتهم إليهما، وإن كانا على غير ما يذكر هذان الرجلان، منعتهم وأحسنت جوارهم).
وأرسل النجاشي إلى أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم، فدعاهم فحضروا، وقد أجمعوا على صدقه فيما سَرّه وسَاءه، وكان المتكلم عنهم جعفـر بن أبي طالب، فقال لهم النجاشي: (ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا دين أحد من المِلَل؟! فقال جعفر: (أيها الملك! كُنَّا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا منّا رسولاً، نعرف نسبَه، وصدقَه، وأمانتَه، وعفافَه، فدعانا لتوحيد الله، وأن لا نُشرك به شيئًا، ونخلع ما كنّا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة، والصيام)، وعدّد عليه أمور الإسلام، قال: (فآمَنَّا به وصدقناه، وحرّمنا ما حرّم علينا، وحلّلنا ما أحل لنا، فتعدّى علينا قومُنا، فعذّبونا، وفتنونا عن ديننا; ليردُّونا إلى عبادة الأوثان، فلما قهرونا، وظلمونا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورجونا ألا نُظلم عندك، أيها الملك!)
وقال النجاشي: (هل معك مما جاء به عن الله شيء؟! فقال له جعفر: (نعم)، فقال له النجاشي: (فاقرأه عليّ)، فقرأ عليه صدرًا من سورة (كهيعص)، فبكى النجاشي، حتى اخضلَّت لحيته، وبكت أساقفته، حتى أخْضَلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال النجاشي: (إنّ هذا، والذي جاء به عيسى، ليخرجُ من مشكاةٍ واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلّمهم إليكما ولا يُكادون).
وخرج عمرو وصاحبه، من عند النجاشي، فقال عمرو لصاحبه: (والله لآتينَّه غدًا، بما أستأصل به خَضْراءهم)، فقال عبد الله بن أبي ربيعة -وهو الذي أوفدته قريش، مع عمرو، إلى النجاشي، وليس عبد الله بن أبي أمية الذي ذكره قسم من المؤرخين خطأ، بأنه كان مع عمرو في سفارته القرشية إلى النجاشي، لأنه لم يسافر إلى النجاشي مع عمرو، بل الذي رافقه بسفره هذا هو عبد الله بن أبي ربيعة، وكـــان عبـد الله بن أبي ربيعة، أتقى الرجلين: عمــرو، وعبــد الله بن أبي ربيعـــة-: (لا تفعــل، فإن لهم أرحـــامًا، وإن كانوا خالفــونا)، فقال عمرو: (والله لأخبرنَّه، أنهم يزعمون، أن عيسى بن مريم عبدٌ).
وغدا عمرو على النجاشي من الغد، فقال: (أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيمًا، فأرسلْ إليهم فَسَلْهم عما يقولون فيه).
وأرسل النجاشي إلى المسلمين المهاجرين إلى أرض الحبشة، فسألهم عن قولهم في المسيح، فقال جعفر بن أبي طالب: (نقول فيه الذي جاءنا به نبينا: هو عبد الله، ورسوله، وروحه، وكلمته، ألقاها إلى مريم العذراء البتول)، فأخذ النَّجَاشِيُّ عُودًا من الأرض، وقـــــال: (ما عدا عيسى ما قلتَ هذا العود)، فنَخَرتْ بَطَارِقَتُه، فقال: (وإن نخرتم)، وقال للمسلمين: (اذهبوا فأنتم آمنون، ما أُحبُّ أن لي جَبَلاً من ذهب، وأنني آذيت رجلاً منكم)، وردَّ هدية قريش، فخرج عمرو وصاحبه، مقبوحَيْن، مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقام المسلمون معه بخير دار مع خير جار.
وكان أبو طالب عم النبي صلى الله عليه و سلم، حين علم أن قريشًا بعثوا عمرو بن العاص وصاحبه إلى النجاشي، قد بعث أبياتًا من الشعر للنجاشي، يحضه على حسن جوار المسلمين المهاجرين، والدفع عنهم، جاء فيها:
ألا لَيْتَ شِعْري كيفَ في النَّأي جعفرُ
وعمرو وأعداء العدُوِّ الأقاربُ
فهل نالَ أفعالُ النجاشي جعفــــرًا
وأصحابُه أو عاق ذلك شَاغِبُ
تَعَلَّمْ أبيتَ اللَّعْنَ أنك ماجـــــد
كريم فلا يَشْقى لديك المُجَانِبُ
تَعَلَّْم بأنَّ اللهَ زادكَ بَسْطـــةً
وأسبابَ خيرٍ كُلُّها بِك لازبُ
وأنَّك فَيْضٌ ذو سِجَالٍ غزيــرةٍ
يَنَالُ الأعادي نَفْعُها والأقاربُ
ولما عاد عمرو وصاحبه إلى مكة خائِبَيْن، ورأت قريش أنّ الإسلام يفشو ويزيد، ائتَمَروا في أن يكتبوا بينهم كتابًا، يتعاقدون فيه، على ألا يُنكِحُوا بني هاشم، وبني المطَّلب، ولا يَنْكِحُوا إليهم، ولا يبيعوهم، ولا يبتاعون منهم شيئًا، فكتبوا بذلك صحيفة، وتعاهدوا على ذلك، ثم عَلَّقوا الصحيفة في جوف الكعبة، توكيدًا لذلك الأمر على أنفسهم.. فلما فعلت قريش ذلك، انحازت بنو هاشم، وبنو المطلب، إلى أبي طالب، فدخلوا فيه في شِعْبِه واجتمعوا، فأقاموا على ذلك سنتين، أو ثلاثًا، حتى جهدوا، لا يصل إلى أحد منهم شيء إلا سرًا، حتى نقض الصحيفة نَفَر من قريش.
لقد أخفق عمرو، في سفارته لمشركي قريش، إلى النجاشي، إخفاقًا كاملاً، بالرغم من أنه بذل كل ما يستطيعه بَشَرٌ متميز، من أجل تحقيق هدفه، وكان إخفاقه لأنه كان على الباطل، ولأن المسلمين كانوا على الحق، ولأن النجاشي كان حاكمًا عادلاً منصفًا.

.
يتوجب عليك تسجيل الدخول او تسجيل لروئية الموضوع
 

أم هنا وريهام

مشرف عام
إنضم
6 يناير 2012
المشاركات
873
النقاط
16
الإقامة
المنصوره
احفظ من كتاب الله
ماتيسر من القران
احب القراءة برواية
حفص
القارئ المفضل
المنشاوى
الجنس
اخت
في حرب المسلمين
1- في غزوة بدر الكبرى
كان عمرو تاجرًا في الجاهلية، وكان يختلف بتجارته إلى مصر، وهي الأَدَم والعِطْر، كما كان يختلف بتجارته إلى بلاد الشام أيضًا، وإلى اليمن، وأرض الحبشة، في رحلتي الشتاء والصيف.
وكان جزارًا أيضًا، ويبدو أنه كان يتخذ هذه الحرفة، حين يستقر في مكة، ولا تشغله رحلاته التجارية، صيفًا أو شتاءً، إلى مختلف الأقطار عن هذه الحرفة، وبخاصة، وأن أعماله التجارية، تشغله كثيرًا من أيام السنة، فإذا انقضت تلك الأيام، عاود مزاولة حرفته الأصلية، التي يبدو أنها كانت مربحة.
وكان عمرو مع قافلة أبي سُفيان التجارية، العائدة من بلاد الشام، إلى مكة، وهي القافلة، التي ندب النبي صلى الله عليه و سلم المسلمين إليها، وكان المسلمون، يترصدون غدوها ورواحها، ويعرفون تفاصيل حركتها، من مكة إلى بلاد الشام، ومن بلاد الشام إلى مكة، فخرج المسلمون إلى موقع بدر، بين المدينة ومكة، وكان خروجهم في شهر رمضان من السنة الثانية الهجرية.
ولكنّ أبا سفيان بن حَرْب، استطاع أن يبتعد بالقافلة، عن طريق بَدْر، ويتساحل في طريق عودته إلى مكة، حتى أنقذ القافلة من المسلمين.
إلا أن المشركين من قريش وحلفائهم، قصدوا موقع بَدْر، واشتبكوا بالمسلمين في غزوة بدر الكبرى، حيث انتصر المسلمون على المشركين، انتصارًا حاسمًا، فكانت هذه الغزوة من معارك المسلمين الحاسمة(2).
ولم يشهد عمرو هذه المعركة مع مشركي قريش، لأنه كان مع قافلتهم التجارية، وكانت مهمته الأولى، إنقاذ هذه القافلة من المسلمين.
2- في غزوة الأحزاب
شهد عمرو غزوة الأحزاب (الخندق) التي كانت في شهر شوال، من السنة الخامسة، مع المشركين على المسلمين أيضًا.
وقد ذكر جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، فقال: (لقد رأيتني أحرس الخندق، وخيل المشركين تُطيِف بالخندق وتطلب غِرَّة ومَضِيقًا من الخندق، فتقتحم فيه، وكان عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، هما اللذان يفعلان ذلك، يطلبان الغفلة من المسلمين).
وقرّر رؤساء الأحزاب وزعماؤهم، اقتحام الخندق، وكان عمرو من بين أولئك الرؤساء والزعماء، فطلبوا مضيقًا يقتحمونه، إلى النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه، فانتهوا إلى مكان أغفله المسلمون في الخندق، فجعلوا يُكْرِهُون خيلهم، ويقولون: (هذه المكيدة ما كانت العرب تصنعها، ولا تكيدها!)، فقيل لهم: (إنَّ معه رجلاً فارسيًا، فهو الذي أشار عليه بهذا!) فعبر قسم منهم، ولكنهم أخفقوا في عبورهم، فعادوا إلى قواعدهم هاربين.
وحين أزمع المشركون، أن يرحلوا عن المدينة خائبين، بعث النبي صلى الله عليه و سلم حُذيفة بن اليَمَان، ليستطلع موقف المشركين، ويكتشف نيَّاتهم، فتغلغل بالعمق، في حشود المشركين ليلاً، وكانت الرِّيح تفعل بهم ما تفعل: ما تُقِرُّ لهم قِدْرًا ولا بناءً. وأقبل حُذيفة، حتى جلس على نار من نيران الأحزاب، مع قوم من المشركين، فقام أبو سفيان بن حرب فقال: (احذروا الجواسيس والعيون، ولينظر كل رجل جليسه)، فالتفت حُذيفة إلى أقرب رجل منه، وقال له: (مَن أنت؟) فقال: (عمرو بن العاص).
وأمر أبو سفيان بالرحيل، فجعل الناس، يرتحلون، وهو قائم، حتى خَفَّ العسكر. ثم قال لعمرو بن العاص: (يا أبا عبد الله! لابدَّ لي ولك، أن نقيم في جريدة من خيل، بإزاء محمد وأصحــابه، فإنَّــــا لا نأمن، أن نُطلب، حتى ينفذ العسكر)، فقال عمرو: (أنا أقيم). وقال لخالد بن الوليد: (ما تَرى يا أبا سليمان؟) فقال: (أنا أيضًا أقيم)، فأقام عمرو، وخالد، في مائتي فارس، وسار العسكر، إلا هذه الجريدة على متون الخيل.
 

أم هنا وريهام

مشرف عام
إنضم
6 يناير 2012
المشاركات
873
النقاط
16
الإقامة
المنصوره
احفظ من كتاب الله
ماتيسر من القران
احب القراءة برواية
حفص
القارئ المفضل
المنشاوى
الجنس
اخت
عمرو .. في صراعه النفسي
لقد كان عمرو من فرسان قريش وأبطالهم في الجاهلية، مذكورًا بذلك فيهم، وكان شاعرًا نظم الشعر، متشفيًا بهزيمة المسلمين في غزوة أُحُـد، وفي أغــراض أخــرى، وكان أشدّ النـــاس على رســول الله صلى الله عليه و سلم، وعلى الإسلام والمسلمين.
وكان فوق ذلك معروفًا بالدّهاء، وحسن التصرف بين رجالات قريش، مما أدّى إلى إرساله سفيرًا إلى أرض الحبشة مرتين، لإقناع النجاشي، بتسليم المهاجرين من المسلمين إلى أرض الحبشة، للمشركين من قريش، ولكنه أخفق في سفارتيه إخفاقًا كاملاً، ولم يحقق شيئًا يُذكر لمشركي قريش، الذين اختاروه سفيرًا لهم، بل كان من ثمرات سفارتيه تعلق النجاشي بالمسلمين المهاجرين إلى بلاده، وإصراره على الدفاع عنهم، وإعجابه بعقيدتهم وبمنطقهم الصادق السليم.
وقد كان أمام عمرو -أسوة بغيره من قريش- مسلكان، لا ثالث لهما:
المسلك الأول: هو البقاء على عقيدة الآباء والأجداد، عقيدة الشرك.
والمسلك الثاني: اعتناق الإسلام، عقيدة التوحيد.
وقد كان إصرار عمرو على عقيدته إصرارًا إيجابيًا، إذ دافع عنها في بلاده مهبط الوحي، وخارج بلاده في أرض الحبشة، وأرض الشام، ومصر، وتحدى الإسلام والمسلمين في السلم والحرب، وبذل قصارى جهده، ليحقق نجاحًا للمشركين في ميدان القتال، وفي ميدان السياسة، فما حقق غير الإخفاق المطبق، والخيبة والقنوط.
ولعل إخفاقه الكامل في سلوكه المسلك الأول، بالرغم من جهوده المتواصلة، لإحراز شيء من النجاح، هو الذي حمله على سلوك المسلك الثاني، فقطع صلته نهائيًا بالشرك والمشركين، ويمم شطر الإسلام والمسلمين، وكان تحوّله من عبادة الأوثان، إلى عبادة الواحد الأحد، نتيجة تجاربه العملية الطويلة، فكان تحوّله تحوّل اقتناع، لا تحول عاطفة; تحول القائد القدير، الذي لم ينتصر على المسلمين أبدًا، وتحوّل السياسي الحصيف، الذي لم يوفق قط، وما انهزم القائد الفذّ، ولا أخفق السياسي البارع، ولكن أخفقت نفسه الخاوية من العقيدة السليمة، فاستسلم القائد، واقتنع السياسي، باندحار العقيدة السقيمة، في مواجهة العقيدة السليمة.. والهزيمة تلحق بالمرء، لا بسبب قلة أشيائه، بل بسبب ضحالة أفكاره، لأن (المادة) وحدها لا ترفع المعنويات، والعقيدة السليمة وحدها ترفع المعنويات، والمهزوم في نفسه، لا ينتصر في الحرب، ولا ينجح في السلام.

مـــع الـنبــي صلىالله عليه وسلم
1- إسلامــــــه
كانت الحرب بين المسلمين والمشركين، قد حجزت بين الناس، وانقطع الكلام، وإنما كان القتال حيث التقوا، فلما كانت هُدنة الحُدَيْبية، في ذي القعدة، من السنة السادسة الهجرية، وضعت الحربُ أوزارَها، وأَمِنَ الناسُ بعضُهم بعضًا، فلم يكن أحد تكلم بالإسلام يعقل شيئًا، إلا دخل في الإسلام، حتى دخل في تلك الهُدنة صناديد المشركين، الذين يقومون بالشرك والحرب: عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وأشباه لهم، وإنما كانت الهُدنة، حتى نقضوا العهد، اثنين وعشرين شهرًا، دخل فيها مثل ما دخل في الإسلام، قبل ذلك وأكثر، وفشا الإسلام في كل ناحية من نواحي العرب.
ولم يحضر عمرو الحُديبية، ولا صُلْحَها، إذ قصد أرض الحبشة في سفارته القرشية الثانية إلى النجاشي، وقد أسلم عمرو، قبل سرية مُؤتة -بَعْثُ الأمراء إلى الشام- التي كانت في شهر جُمادى الأولى، من السنة الثامنة الهجرية، وبعد هُدنة الحديبية، وغزوة خيبر، التي كانت في شهر محرم من السنة السابعة الهجرية، أي أنه أسلم قبل عُمرة القضاء، التي كانت في شهر ذي القعدة، من السنة السابعة الهجرية، وقيل: أسلم بعد عُمرة القضاء، فقد أسلم عمرو، وخالد ابن الوليد، وعثمان بن طلحة، في شهر صفر من السنة الثامنة الهجرية في هُدنة الحُديبية.
لقد كان عمرو، يفكّر باعتناق الإسلام، قبل إعلان إسلامه، ولكنه أعلن إسلامه سرًا، على يدي النجاشي، ومن الواضح، أنه كان يراود نفسه على الإسلام، قبل إعلانه سرًا للنجاشي، فأعلنه للنجاشي، تحقيقًا لتطلعاته الشخصية، وموافقةً للنجاشي لإرضائه، دون أن يناقض نفسه، في هذه الموافقة، فما كان مضطرًا لإعلان إسلامه للنجاشي، في حال من الأحوال.
وكان عمرو، قد هَمَّ بالإقبال إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم، بالمدينة المنورة، في حين انصرافه من أرض الحبشة، بعد عودته في سفارته الثانية، ثم لم يعزم له، حتى سنة ثمان الهجرية.
وقد ذكر عمرو، قصة إسلامه، فقال: (... ثم خرجتُ عامدًا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم، فلقيت خالد بن الوليد، وذلك قُبيل الفتح -فتح مكة الذي كان في رمضان من السنة الثامنة الهجرية- وهو مُقْبِل من مكة، فقلت: أين يا أبا سليمان؟! قال: والله لقد استقام المَنْسِم، وإن الرجل لنبي، أذهبُ والله فأُسْلِم، فحتى متى؟ قلت: والله ما جئتُ إلا لأُسلم، فقدمنا المدينة، على رسول الله صلى الله عليه و سلم، فتقدم خالد بن الوليد فأسلم، وبايع، ثم دنوتُ فقلتُ: يا رسول الله! إني أبايعك، على أن يُغفر لي ما تَقَدَّمَ من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (يا عمرو! بايعْ، فإن الإسلام، يَجُبُّ ما كان قبله، وإن الهجرة تَجُبُّ ما كان قبلها ). قال: فبايعته، ثم انصرفتُ).
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه و سلم، قال: (فإن الإسلام يَحُتُّ ما كان قبله، وإن الهجرة تَحُتُّ ما كان قبلها )، وكان عثمان بن طلحة مع عمرو وخالد بن الوليد.
وكان النبي صلى الله عليه و سلم، حين رأى عمرًا وصاحبيه، قد قال لأصحابه: (ألقتْ إليكم مكة أفلاذ كبدها ) يعني أنهم وجوه أهل مكة.
وأصبح عمرو بعد إسلامه، موضع ثقة النبي صلى الله عليه و سلم، لكفاياته المتميّزة، وحسن إسلامه، قال عمرو واصفًا هذه الثقة الغاليـة: (... فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه و سلم، وبخالد بن الوليد أحدًا من أصحابه في أمر حَزَبَه، منذ أسلمتُ.
وقد سأل رجل عمرو بن العاص، في يوم من الأيام: (ما أبطأ بك عن الإسلام، وأنت في عقلك ؟) قال: (إنا كنا مع قوم، لهم علينا تقدّم، وكانوا ممّن توازي حلومهم الجبال، فلما بُعث النبي صلى الله عليه و سلم، فأنكروا عليه، فلذنا بهم، فلما ذهبوا، وصار الأمر إلينا، نظرنا، وتدبرنا، فإذا حقٌ بَيِّنٌ، فوقع في قلبي الإسلام، فعَرَفَتْ قريش ذلك مني، من إبطائي عمّا كنتُ أسرع فيه من عونهم عليه، فبعثوا إليّ فتى منهم، فناظرني في ذلك، فقلتُ: أنشدُك اللهَ، ربَّك وربَّ مَن قَبْلك، ومَن بَعْدك! أنحنُ أهدى أم فارس والروم؟ قال: نحن أهدى! قلتُ: فنحن أوسع عيشًا أم هم؟ قال: هم! قلتُ: فما يَنْفَعُنَا فَضْلُنا عليهم، إن لم يكن لنا فضل إلا في الدنيا، وهم أعظم منا فيها أمرًا في كل شيء؟ وقد وقع في نفسي، أن الذي يقوله محمد، عن أن البعث بعد الموت، ليُجْزَى المحسنُ بإحسانه، والمسيء بإساءته حق، ولا خير في التمادي في الباطل).
قال عمرو: (ثم جعل الإسلام في قلبي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم، أُبايعه، فقلتُ: ابْسُطْ يمينَكَ أبايعك يا رسولَ الله! فبسط يده، ثمّ إني قبضتُ يدي، فقال: (مالك يا عمرو؟!) فقلتُ: أردتُ أن أشترط! فقال: (تشترط ماذا؟) فقلتُ: أشترط أن يُغفر لي! فقال: (أما علمتَ يا عمرو، أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهـدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله فقد رأيتُني، ما من أحد أحب إليّ من رسول الله صلى الله عليه و سلم، ولا أجلّ في عيني منه، ولو سُئلتُ أن أَنْعَتَه ما أطقتُ، لأني لم أكن أطيق، أن أملأ عيني منه، إجلالاً له).
لقد أسلم عمرو بعد تفكير طويل، لذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم عن إسلامه: (أسلم الناسُ وآمن عمرو بن العاص).
وهذا الوصف النبوي الوجيز، لإسلام عمرو، يُجزي من أبلغ المطولات، وأوضحها وأشملها، ولما فتح النبي صلى الله عليه و سلم مكة المكرمة، في شهر رمضان، من السنة الثامنة الهجرية، وألقى خطابه من على باب الكعبة المشرَّفة، وعفا عن قريش، وطاف بالكعبة سبعًا، ودخلها، فاجتمع الناس لبيعة رسول اللهصلى الله عليه و سلم على الإسلام، فكان يبايعهم على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، فكانت هذه بيعة الرجال.
وأما بيعة النساء، فإنه لما فرغ من الرجال بايع النساء، فأتاه نساء من قريش، وكان من بين النساء المبايعات، رَيطَة بنت مُنَبِّه بن الحجاج.
وكان عبد الله بن عمرو بن العاص، قد أسلم قبل أبيه، فاستكملت عائلة عمرو، وجمع شملها تحت لواء الإسلام.
2 ـ في سرية ذات السلاسل
كانت هذه السرية في شهر جُمادى الآخرة، من السنة الثامنة الهجرية، وكان سبب إرسال هذه السرية، أن النبي صلى الله عليه و سلم، بلغه أن جمعًا من بَلِيٍّ، وقُضاعة، قد تجمعوا، يريدون أن يدنوا إلى أطراف رسول الله صلى الله عليه و سلم، فدعا رسولُ الله صلى الله عليه و سلم عمرو بن العاص، فعقد له لواءً أبيض، وجعل معه راية سوداء، وبعثه في سُراة المهاجرين والأنصار، في ثلاثمائة مجاهد، وأمره أن يستعين بمن مرَّ به من العرب، وهي بلاد بَلِيّ وعُذْرَة وبَلْقِين، وذلك أن عمرو بن العاص، كان ذا رحم بهم، إذ كانت أم العاص بن وائل بَلَوِيَّة، فأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم، أن يتألَّفهم بعمرو. وسار عمرو، وكان يكمُن النهار، ويسير الليل، وكانت معه ثلاثون فرسًا، فلما دنا من القوم، بلغه أن لهم جَمْعًا كثيرًا، فنزل قريبًا منهم عِشَاءً وهم شاتون، فجمع أصحابه الحَطَب يريدون أن يَصْطلوا -وهي أرض باردة- فمنعهم عمرو، فشقّ ذلك عليهم، حتى كلّمه في ذلك بعض المهاجرين فغالظه، فقال عمرو: (أُمِرتَ أن تسمع لي وتُطيع!) قال: (فأفعل).
وبعث عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم، رافعَ بن مَكِيث الجُهَني، يخبره، أن لهم جمعًا كثيرًا، ويستمدّه بالرجال، فبعث أبا عبيدة بن الجراح، وعقد له لواءً، وبعث معه سَراة المهاجرين -أبي بكر وعمر ابن الخطاب، رضي الله عنهما- والأنصار، وأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم، أن يلحق عمرو بن العاص، فخرج أبو عبيدة، في مائتين من المجاهدين، وأمره أن يكونا جميعًا ولا يختلفا، فساروا حتى لحقوا بعمـرو. وأراد أبو عبيدة، أن يؤمَّ الناسَ، ويتقدم عَمْرًا، فقال له عمـــرو: (إنما قَدِمتَ عليّ مــددًا لي، وليــس لك أن تَؤُمَّني، وأنـا الأميــــر، وإنما أرســلك النبي صلى الله عليه و سلم إلىَّ مددًا)، فقال المهاجرون: (كلاّ، بل أنت أمير أصحابك، وهو أمير أصحابه!) فقال عمرو: (لا، بل أنتم مَددٌ لنا!)
ولما رأى أبو عُبيدة الاختلاف، وكان حسنَ الخُلُقِ، ليِّنَ الشَكيمةِ، قال: (لتطمئن يا عمرو! وتعلمنَّ أن آخر ما عَهِدَ إلي رسول الله صلى الله عليه و سلم، أن قال: (إذا قَدِمتَ على صاحبك، فتطاوعا ولا تختلفا)، وإنك والله إن عَصْيتني لأُطيعنّك!)، فأطاع أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس.
وأصبح مجموع رجال عمرو خمسمائة مجاهد، فسار الليل والنهار، حتى وَطيء بلاد بَلِيّ، ودوّخها، وكلما انتهى إلى موضع، بلغه أنه كان بهذا الموضع جمع، فلما سمعوا به تفرّقوا، حتى انتهى إلى أقصى بلاد بَلِيّ وعُذْرَة وبَلْقين، ولقي في آخر ذلك جمعًا، ليس بالكثير، فقاتلوا ساعة وتراموا بالنَّبْل، فحمل المسلمون عليهم، فهربوا، وأعجـزوا هربًا في البلاد، وتَفَرَّقـُـوا، ودوخ عمرو ما هناك. أقــام أيامــــًا لا يسمع لهم بجَمْع، ولا بمكان صاروا فيه، فكان يبعث أصحاب الخيل، فيأتون بالشاء والنَّعَم، وكانوا ينحرون ويذبحون.
وكان عمرو بن العاص في طريق عودته إلى المدينة، قد احتلم في ليلة باردة، كأشد ما يكون من البرد، فقال لأصحابه: (ما ترون؟ قد والله احتلمت، وإن اغتسلت مُتُّ)، فدعا بماء فتوضأ، وغسل فرجه، وتيمم، ثمّ قام فصلى بهم. ولما قدم عمرو على النبي صلى الله عليه و سلم، سأله عن صلاته، فقال: (والذي بعثك بالحق، لو اغتسلتُ لَمُتُّ، ولم أجد قطُّ بردًا مثله، وقد قال الله: (ولا تقتلوا أنفُسَكُم إنّ اللهَ كان بكم رحيمًا )(النساء:29)، فضحك النبي صلى الله عليه و سلم، ولم يقل شيئًا.
ولما هزم المسلمون أعداءهم طمعوا فيهم، فأرادوا مطاردتهم، فحال عمرو بينهم وبين ما يريدون. ثم أرادوا أن يوقدوا نارًا، يصطلون عليها من البرد -كما ذكرنا- فمنعهم عمرو من ذلك أيضًا، فشق على المسلمين هذا المنع، ولم يحتملوا تلك الشدة التي تصل إلى التهديد، بقذف مَنْ يوقد النار فيها، فشكوه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم، فكلّمه في ذلك، فقال له عمرو: (كرهتُ أن آذن لهم، أن يوقدوا نارًا، فيرى عدوُّهم قلّتهم، وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مَدَد)، فأعجب به رسول الله صلى الله عليه و سلم، أيما إعجاب، وحمد له رأيه، كما أقره النبي صلى الله عليه و سلم في اجتهاده بالتيمّم، مع وجود الماء، خوف الضرر.
وحين علم النبي صلى الله عليه و سلم بما كان بين أبي عُبيدة، وعمرو من اختلاف، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (يرحم الله أبا عبيدة بن الجراح)، تقديرًا لموقف أبي عبيدة السليم، وتصرّفه الحكيم.
وقد أثبت عمرو في هذه السرية، أنه قائد مكيث غير متهوّر، متين الضبط، قوي الشخصية، يهتم بأمن رجاله كثيرًا، فهو يقاتل بسيفه، كما يقاتل بعقله، بمهارة فائقة، لهذا استطاع تحقيق نتائج باهرة في سريته، فنال إعجاب النبي صلى الله عليه و سلم وتقديره.
3- هدم سُوَاع وفي الغزوات
أ- بعث النبي صلى الله عليه و سلم في شهر رمضان سنة ثمان الهجرية، حين فتح مكة، عمرو بن العاص، قائدًا لسرية، واجبها هدم سُواع صنم هُذَيْل. قال عمرو: (فانتهيت إليه، وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ قلتُ: أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم، أن أهدمه، فقال: لا تقدر على ذلك، فقلتُ: لِمَ؟ فقال: تُمْنَع! فقلتُ: حتى الآن أنت في الباطل! ويحك، هل يَسْمَع، أو يُبصر! فدنوت منه فكسرته، وأمرتُ أصحابي، فهدموا بيت خزانته، فلم يجدوا فيه شيئًا، ثم قلتُ للسادن: (كيف رأيت؟) فقال: (أسلمتُ لله).
ب- وكان عمرو، قد شهد غزو الفتح، مع رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقاد سريته بعد الفتح -فتح مكة المكرمة، الذي كان في شهر رمضان من السنة الثامنة الهجرية- لهدم سُواع، فنهض بمهمته على أحسن وجه، وأدّى واجبه على ما يرام، ثم عاد إلى مكة المكرمة.
وشهد عمرو مع النبي صلى الله عليه و سلم، غزوة حُنين، في شوال من السنة الثامنة الهجرية، فلما هرب المشركون، وتفرقوا في كلِّ وجه، بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم نفرًا من أصحابه في الطلب (المطاردة)، فبعث خالد بن الوليد في وَجْه، وبعث عمرو بن العاص في وَجْه، وبعث غيرهما في وجوه أخرى.
وشهد عمرو مع النبي صلى الله عليه و سلم حصار مدينة الطائف، الذي كان في شهر شوال من السنة الثامنة الهجرية أيضًا، بعد غزوة حُنين مباشرة، فلما ثبت بنو ثَقِيف، أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالرحيل عن الطائف، فأثنى عُيَيْنَة بن حِصْن على ثبات ثقيف قائلاً عنهم: (مَجَدَة كِرام)، فقال عمرو: (قاتلك الله، تمدح قومًا مشركين بالامتناع من رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد جئتَ تنصره؟).
وهكذا نال عمرو شرف الجهاد تحت لواء النبي صلى الله عليه و سلم.
4- السفير إلى عُمَان
بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم، عمرو بن العاص، في شهر ذي القعدة سنة ثمان الهجرية، إلى جَيْفَر وعَبْدٍ ابنيّ الجُلُنْدَي، وهما من الأَزْد، والملك منهما جَيْفَر، يدعوهما إلى الإسلام، وكتب معه إليهما كتابًا، وختم الكتاب. قال عمرو: (فلما قَدمتُ عُمان، عهدت إلى عَبْدٍ، وكان أحلم الرجلين، وأسهلهما خُلُقًا، فقلتُ: إني رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه و سلم إليك، وإلى أخيك)، فقال: (أخي المقدّم عليّ بالسنّ والمُلْك، وأنا أوصلك إليه، حتى يقرأ كتابك)، فمكثتُ أيامًا ببابه، ثم إنه دعاني، فدخلتُ عليه، فدفعتُ الكتاب إليه مختومًا، ففضّ خاتمه، وقرأه، حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه، فقرأه مثل قراءته، إلا أني رأيت أخاه أرقّ منه، فقال: (دعني يومي هذا، وارجع إليّ غدًا)، فلما كان الغد، رجعتُ إليه، قال: (إنّي فكرتُ، فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أَضعف العرب، إذا ملّكْتُ رجلاً ما في يديّ!) قلتُ: (فإني خارج غدًا). فلما أيقن بمخرجي، أصبح فأرسل إليّ، فدخلتُ عليه، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعًا، وصدّقا بالنبي صلى الله عليه و سلم، وخليا بيني وبين الصدقة، وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونًا على مَنْ خالفني، فأخذتُ الصدقة من أغنيائهم، فرددتها على فقرائهم. فلم أزل مقيمًا، حتى بَلَغَنَا وفاةُ رسول الله صلى الله عليه و سلم ، إذ ولاّه النبي صلى الله عليه و سلم على عُمَان وأعمالها، فعاد إلى المدينة المنورة، بعد انتقال النبي صلى الله عليه و سلم إلى الرفيق الأعلى.
وهكذا استطاع عمرو، أن يضمّ عددًا ضخمًا من العرب إلى الإسلام، وأن يضم بلادًا شاسعة إلى بلاد المسلمين.
لقد نال عمرو شرف الصحبة، وشرف الجهاد، تحت لواء النبي صلى الله عليه و سلم، وشرف قيادة بعض فصائله التعْبويّة، وشرف قيادة قسم من سراياه، وكان أحد سفرائه، وأحد عماله أيضًا، وأحد عماله على الصدقة.
 

أم هنا وريهام

مشرف عام
إنضم
6 يناير 2012
المشاركات
873
النقاط
16
الإقامة
المنصوره
احفظ من كتاب الله
ماتيسر من القران
احب القراءة برواية
حفص
القارئ المفضل
المنشاوى
الجنس
اخت
في ميـــدان الجهــاد
1 ـ في حرب الرِدَّة
مات النبي صلى الله عليه و سلم، وعمرو عاملاً لرسول الله صلى الله عليه و سلم ،على عُمَان، فأقبل بعد التحاقه عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى، حتى انتهى إلى البَحْرين، فوجد المنذر بن سَوى في الموت. وخرج عمرو عن البحرين، إلى بلاد بني عامر، فنزل بِقُرَّة بن هُبَيْرة، وقُرَّة يقدِّم رِجْلاً ويؤخر أخرى إلى الرِّدة، ومعه عسكر من بني عامر، فذبح له، وأكرم مثواه، فلما أراد عمرو الرَّحيل عن ديار قُرَّة، خلا به قُرّة وقال: (يا هذا! إنّ العرب لا تطيب لكم نفسًا بالإتاوة، فإن أعفيتموها من أخذ أموالها، فتسمع لكم، وتُطيع، وإن أبيتم فلا تجتمع عليكم!) فقال له عمرو: (أكفرتَ يا قُرَّة؟! أتخوفنا بالعرب؟ فوالله لأوطئن عليك الخيل في حِفْش) والحِفْش: بيت تنفرد به النُّفَسَاء.
ومَرَّ عمرو في طريق عودته بمُسَيْلَمَة الكَذَّاب، فأعطاه الأمان، فقال له عمرو: (أعرض لي ما تقول)، فذكر مسيلمة بعض كلامه، فقال عمرو: (والله إنّك لتعلم أنّك من الكاذبين)، فتوعّده مسيلمة.
وقدم عمرو على المسلمين بالمدينة، فأخبرهم بما رآه، وسمعه، في طريق عودته، من عُمان إلى المدينة، وكان مما أخبرهم به أن العساكر معسكرة من (دَبَا) إلى المدينة، فتفرّقوا وتحلّقوا حلقًا، وأقبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يريد التسليم على عمرو، فمرّ على حلقة فيها عليّ بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وطَلحَة بن عُبيد الله، والزُّبير بن العَوَّام، وعبد الرحمن بن عَوْف، وسعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهم، فلما دنا عمر منهم سكتوا، فقال: (فِيمَ أنتم؟) فلم يجيبوه، فقال لهم: (إنكم تقولون: ما أخوفنا على قريش من العرب!) قالوا: صدقت! قال: (فلا تخافوهم، أنا والله منكم على العرب، أخوف مني من العرب عليكم، والله لو تدخلون معاشر قريش جُحْرًا، لدخلته العرب في آثاركم، فاتقوا الله فيهم)، ومضى عمرو.
فلما قُدِمَ بِقُرَّة بن هُبيرة، على أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، أسيرًا، استشهد بعمرو على إسلامه، فأحضر أبو بكر عَمْرًا فسأله، فأخبره بقول قُرَّة، إلى أن وصل إلى ذكر الزكاة، فقال قُـــرَّة: (مهــلاً يا عمرو!) فقال: (كلا، والله لأخبرنّه بجميعه)، فعفا أبو بكر عنه، وقَبِل إسلامه.
ولما عقد أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، أحد عشر لواءً، لقادة حرب أهل الردة، عقد لواءً لعمرو، وأرسله إلى قُضاعة، ففصلت الأمراء من (ذي القَصَّة)، ولحق بكلِّ أمير جنده، وعهد إلى كُلِّ أمير، وكتب إلى جميع المرتدين نسخة واحدة، يأمرهم بمراجعة الإسلام، ويُحذِّرهم، وسيّر الكتب إليهم مع رسله.
وكانت قُضاعة، قد ارتدّت بعد التحاق النبي صلى الله عليه و سلم بالرفيق الأعلى، وكان عمرو، قد حاربها في حياة النبي صلى الله عليه و سلم، في سرية ذات السلاسل، كما ذكرنا ذلك، فلما أنفذ أبو بكر إلى قُضاعة جيشًا بقيادة عمرو، سار عمرو على رأس جيشه في الطريق، الذي سلكه من قبل، حتى وصل إلى بلاد قُضاعة، فأَعْمَلَ السيفَ في رقابهم، وغلبَهم على أمرهم، فعادوا إلى الإسلام، وعاد عمرو إلى المدينة المنورة حاملاً لواء النصر، وكان ذلك في السنة الحادية عشرة الهجرية.
ولا نعرف شيئًا عن تَعْداد جيش عمرو، ولا عن تَعداد مقاتلي قُضاعة، ويبدو أن التفوّق العددي، كان إلى جانب المرتدين، ولكن جيش عمرو كان منظمًا، له هدف واضح، وتسيطر عليه عقيدة واحدة، وقيادة واحدة.. والجيش المنظم القليل، الذي يتحلّى بالعقيدة الراسخة، التي تشيع الانسجام الفكري في صفوفه، ينتصر دومًا على الجيش الكبير، غير المنظم، الذي لا يتحلّى بالعقيدة، ويخلو من الانسجام الفكري. لقد كان موقف عمرو في حرب الردة متميزًا.
2 ـ في أرض الشـام
أ ـ ردَّ أبو بكر الصديق رضي الله عنه، عمرو بن العاص إلى عمله، الذي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ولاّه إياه في عُمان، فلما أراد إرسال الجيوش، لفتح أرض الشام، كتب إلى عمرو: (إنّى كنت قد رددتك على العمل، الذي ولاّك رسول الله صلى الله عليه و سلم مرة، ووعدك به أخرى، إنجازًا لمواعيد رسول الله صلى الله عليه و سلم، وقد وليته، وقد أحببتُ أن أُفرغك، لما هو خير لك في الدنيا والآخرة، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحبّ إليك).
ولما تسلّم عمرو رسالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان يومئذ أميرًا على عُمان، كتب إلى أبي بكر جوابًا على كتابه: (إني سهم من سهام الإسلام، وأنت بعد الله الرامي بها، والجامع لها، فانظر أشدّها، وأخشاها، وأفضلها، فارم به شيئًا، إن جاءك من ناحية من النواحي).
وبدأ أبو بكر بحشد العرب، وأمر عمرًا أن يجمع العرب، فأرســـــل أبو بكر إلى عمرو، بعض مَن اجتمع إليه، وأمَّره على فلسطين، وأوصاه بهذه الوصية: (اتَّق الله في السر والعلانية، فإنه من يتّق الله يجعل له مخرجًا، ويرزُقْه من حيث لا يحتسب، ومن يتَّق الله يُكَفِّر عنه سيئاته، ويُعْظم له أجرًا، فإن تقوى الله خير ما تَوَاصى به عباد الله، إنّك في سبيل من سُبل الله، لا يَسَعُك فيه الإذهان، والتفريط، والغفلة، عما فيه قِوام دينكم، وعصمة أمركم فلا تَنِ ولا تَفْتُر)، وكان عقد لواء عمرو، في يوم الخميس، لمستهل شهر صفر من سنة ثلاث عشرة الهجرية.
وأمَرَ أبو بكر عمرًا، أن يسلك طريق (أيْلَة) عامدًا لفلسطين، وكان العقد لكل أمير من أمراء الشام، في بدء الأمر، ثلاثة آلاف رجل، فلم يـزل أبو بكر، يتبعهم الإمداد، حتى صار مع كُلِّ أمير، سبعة آلف وخمسمائة.. وكان جيش عمرو مؤلفًا من أهل مكة، والطائف، وهَوازن، وبني كِلاب. وقال أبو بكر لعمرو: (لقد وليّتك هذا الجيش، فانصرف إلى أرض فِلَسْطين، وكاتِبْ أبا عُبيدة، وانجدْه إذا أرادك، ولا تقطعْ أمرًا إلا بمشورته)، فأقبل عمرو على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال له: (يا أبا حَفْص! أنت تعلم شِدَّتي على العدو، وصبري على الحرب، فلو كَلَّمتَ الخليفة، أن يجعلني أميرًا على أبي عُبيدة، وقد رأيتَ منزلتي عند رسول الله صلى الله عليه و سلم، وإني لأرجو أن يفتح الله على يديّ البلاد، ويهلك الأعداء)، فقال عمر بن الخطاب: (ما كنتُ بالذي أكلِّمه في ذلك، فإنه ليس على أبي عبيدة أمير، ولأَبو عبيدة أفضل منزلة منك، وأقدم سابقة منك، والنبي صلى الله عليه و سلم قال فيه: (أبو عبيدة أمين هذه الأمة)، فقال عَمرو: (ما ينقص من منزلته إذا كنتُ واليًا عليه ?!) فقال عُمَر: (ويلك يا عَمْرو! إنّك ما تطلب بقولك هذا، إلا الرياسة والشرف، فاتّق الله، ولا تطلب إلا شرفَ الآخرة، ووجه الله تعالى)، فقال عَمْرو: (إن الأمرَ كما ذكرتَ).
وولَّى أبو بكر الأُرْدن شُرَحْبِيل بن حَسَنَة، ويزيد بن أبي سفيان دِمشق، وقال للأمــــراء: (إذا اجتمعتم على قتال، فأميركـــم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجرّاح الفِهْري، وإلا فيزيد بن أبي سفيان)، وقال: (إذا كان بكم قتال، فأميركم الذي تكونون في عمله)، أي إذا كان القتال في فلسطين، كان القائد العام عمرو، لأنه قائد فلسطين، وإذا كان القتال في الأردن، كان القائد العام شُرَحبيل.... وهكذا.
أما إذا اجتمع القادة في مكان واحد، فالقائد العام هو أبو عبيدة.
ولما وصل الأمراء أرض الشام، نزل عمرو (العَرَبة)، فبلغ الروم ذلك، فكتبوا إلى هِرَقْل وكان بالقُدس، فقال: أرى أن تصالحوا المسلمين، فوالله، لأن تصالحوهم على نصف ما يحصل من الشام، ويبقى لكم نصفه، مع بلاد الروم، أحب إليكم من أن يغلبوكم على الشام، ونصف بلاد الروم)، فتفرقوا عنه وعصوه، فجمعهم وسار بهم إلى حِمْص، فنزلها، وأعدّ الجنود والعساكر، وأراد إشغال كل طائفة من المسلمين، بطائفة من عسكره لكثرة جنده، لتضعف كل فرقة من المسلمين عمّن بإزائه، فأرسل تَذَارِق أخاه لأمه وأبيه في تسعين ألفًا، وبعث القادة الآخرين مع قوّاتهم، ليكون كل قائد منهم، بمواجهة أحد قادة المسلمين، فهابهم المسلمون، وكتبوا إلى عمرو يسألونه الرأي، فأجابهم: (إن الرأي لمثلنا الاجتماع، فإنَّ مثلنا إذا اجتمعنا، لا نُغلب من قِلة، فإن تفرّقنا لا يقوم كل فرقة له بمن استقبلها، لكثرة عدوّنا).. وكتب أمراء المسلمين في أرض الشــام إلى أبي بكر الصديق يسألونه أيضًا، فأجابهم مثل جواب عمرو، وقال: (إنّ مثلكم لا يُؤتى من قِلة، وإنما يؤتى العشرة آلاف من الذنوب، فاحترسوا منها، فاجتمعوا باليرموك متساندين، وليُصَلِّ كل واحد منكم بأصحابه).
وباجتماع جيوش المسلمين في اليرموك، فَوَّتوا على الروم فرصة ضرب كل جيش من جيوشهم على انفراد، دون أن تستطيع تلك الجيوش التعاون الوثيق بينها، كما ينبغي.
واجتمع المسلمون باليرموك، والروم كذلك، فنزل الروم (الوَاقُوْصَة) وهي على ضفة اليرموك، وصار الوادي خندقًا لهم، وهو لِهْبٌ لا يُدرَك، وإنما أراد قائد الروم يستثبت الروم، ويأنسوا بالمسلمين، وترجع إليهم أفئدتهم، طِيَرَتَها، فقد كانت معنويات الروم منهارة.
وانتقل المسلمون عن معسكرهم الأول، ونزلوا بحذاء الروم، على طريقتهم، وليس للروم طريق إلا على المسلمين، فقال عمرو: (أيها الناس! أبشروا، حُصِرَت الروم، وقلّما جاء محصور بخير).
وأقام المسلـمون بإزاء الروم، أواخر شهــر صفـر، وشَهريْ ربيــع، لا يقدرون من الروم على شيء، ولا يخلصُون إليهم: الوَاقُوْصَة من ورائهم، والخندق من أمامهم، ولا يخرجون خرجة إلا أديل المسلمون منهم، حتى إذا سلخوا شهر ربيع الأول، من سنة ثلاث عشرة الهجرية، استمدوا أبا بكر، في شهر صفر، فكتب إلى خالد بن الوليد ليلحق بهم، ويأمره بالمسير إليهم، وبالحث، وأن يأخذ نصف الناس، ويستخـلف على النصـف الآخـــــر المُثنَّى بن حــــارثـــة الشيبــاني، ولا يأخذن مَنْ فيه نجدة، إلا ويترك عند المثنى مثله، وإذا فتح الله عليهم، رجع خالد وأصحابه إلى العراق.
ولما تكامل جمع المسلمين باليرموك، خرج الروم للقتال، في جُمادى الآخرة، فأراد المسلمون الخروج لقتال الروم متساندين، فاقترح خالد لتحقيق تساند المسلمين، أن يتولى الأمراء الإمارة بالتعاقب، وأن يسمحوا له بتولّى القيادة العامة أولاً، فأمَّروه، وهم يرون أنها لن تطول.
وخرجت الروم، في تعبية لم يَرَ الراؤون مثلها قط، وخرج خالد في تعبية، لم تُعبِّها العرب قبل ذلك، فخرج في ستة وثلاثين كُردوسًا إلى الأربعين: فجعل القلب كراديس، وأقام فيه أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس، وعليها عمرو بن العاص، وشُرَحْبيل بن حَسَنة، وجعل الميسرة كراديس، وعليها يزيد بين أبي سفيان، وجعل على كل كردوس رجلاً من الشجعان، فكان لعمرو أثر كبير في انتصار المسلمين على الروم، في هذه المعركة الحاسمة التي فتحت أبواب أرض الشام، للفاتحين المسلمين.
وشهد عمرو فتح دِمشق بقيادة أبي عبيدة بن الجرّاح، فنزل بجيشه في ناحية باب (تُوما) أحد أبواب دمشق، وكان فتح دمشق سنة ثلاث عشرة الهجرية.
ولما فُتحت دمشق، سار أبو عبيدة إلى (فِحْل)، واستخلف على دمشق، يزيد بن أبي سفيان، وبعث خالدًا على المقدّمة، وعلى الناس شُرَحْبيل بن حَسَنة، وكان على الجنبتين، أبو عبيدة، وعمرو بن العاص، فانتصر المسلمون، على الروم أيضًا، وكان لعمرو أثر كبير في إحراز هذا الانتصار، وقد دارت هذه المعركة، سنة ثلاث عشرة الهجرية.
وسبب تولّي شُرحبيل القيادة العامة، في هذه المعركة، هو أنه كان قائد منطقة الأُردن، والمعركة جرت في منطقته، فهو يتولى القيادة العامة، تنفيذًا لأوامر أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، التي أصدرها لقادة فتح أرض الشام، والتي مرّ ذكرها.
وشهد عمرو مع شُرَحْبِيل فتح (بَيْسَــان) و(طَبَرِيَّة)، وصالَحَا أهل الأُردن.
ب ـ وعلم عمرو، أن الروم حشدوا جيوشهم، وعلى رأسها قائد فلسطين للرُّوم، أرطبون (أريطيون) في (أَجْنَادِين). فسار عمرو، ومعه شُرحبيل بن حَسَنة، واستخلف على الأردن، أبا الأعور السُّلَميّ.. وكان الأرطبون أدهى الروم، وأبعدها غورًا، قد وضع بـ (الرَّملة) جندًا عظيمًا وبـ (إيليَاء) جندًا عظيمًا، فلمّا بلغ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه الخبر، قال: (رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب -يريد عَمْرًا- فانظروا عمّا تنفرج). وكان معاوية بن أبي سفيان قد شغل أهل (قَيْسَاريَّة) عن عمرو.. كما جعل عمرو، على قتال إيلياء، عَلْقَمة بن حَكِيم الفِرَاسي ومَسْرُوق العَكِّي، فشغلوا مَن به عنه، وجعل أيضًا أبا أيوب المالكي، على مَنْ بالرَّمْلة من الرُّوم، فشغلهم عنه، وشاغل هؤلاء القادةُ المسلمون القواتِ الروميةَ عن قوات عمرو الأصلية.
وأقام عمرو على أَجْنَادِين، لا يقدر على الأرطبون، ولا تشفيه الرسل، فسار إليه بنفسه، ودخل عليه كأنه رسول، ففطن به الأرطبون، وقال: (لا شك أنّ هذا هو الأمير أو مَنْ يأخذ الأميرُ برأيه)، فأمر رجلاً أن يقعد على طريقه، ليقتله إذا مر به، وفطن عمرو إلى غدر الأرطبون، فقال: (قد سمعتَ مني، وسمعتُ منك، وقد وقع قولك مني موقعًا، وأنا واحد من عشرة، بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالي لنكانفه، ويشهدنا أموره، فأرجع فآتيك بهم الآن، فإن رأوا في الذي عرضت، مثل الذي أرى، فقد رآه أهل العسكر والأمير، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم، وكنتَ على رأس أمرك)، فقال الأرطبون: (نعم)، وردّ الرجل، الذي أمره بقتل عمرو، وخرج عمرو من عند الأرطبون، فعلم الرومي، بأن عمرًا خدعه، فقال: (خدعني الرجل! هذا أدهى الخلق).
وبلغت خديعةُ عمرو، مسامعَ عمر بن الخطاب، فقال: (لله دَرُّ عمرو!)
وعرف عمرو من استطلاعه الشخصي، هذا الذي ذكرناه، نقاط الضعف، ومواطن القوة، في مواضع الروم، فهاجم جيش الروم في أجنادِين، واشتبك معهم في قتال مرير، كقتال يوم اليرموك، حتى كَثُرت القتلى بين الطرفين، ولكن الأرطبون انهزم، فآوى إلى مدينة (إيلياء)، وأفرج المسلمون الذين يحصرون بيت المقدس لأرطبون، ومَن معه من المنهزمين، فدخل إيلياء، وأزاح المسلمين عنه إلى عمرو في أجنادين، حيث استقر عمرو، ومن معه من المسلمين، في هذه المدينة، للاستعداد لقتال جديد، وانضم عَلْقَمة بن حَكيم، ومسروق العَكِّي، وأبو أيوب المالكي، ومَن معهم، من قوات ثانوية، إلى قوات عمرو الأصلية، في أجنادين، وكان ذلك سنة خمس عشرة الهجرية.
ولما دخل الأرطبون مدينة إيلياء (بيت المقدس)، فتح عمرو (غَــزَّة)، و(سَبَسْطِيــة)، و(نَـابُلُــس)، و(اللُّـــد)، و(يَبْنَى)، و(عَمْوَاس)، و(بيت جِبْرين)، و(يَافا)، و(رَفَح)، كما فتح (مُرج عيون).
وقدم أبو عبيدة على عمرو، وهو محاصِر بيت المَقْدس، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب: (إني أعالج عدوًا شديدًا، وبلادًا قد ادّخرت لك، فرأيك؟) فعلم عُمَرُ أنّ عَمْرًا، لم يقل ذلك إلا بشيء سمعه، فسار عُمر عن المدينة.
وقيل: كان سبب قدوم عمر بن الخطاب، إلى الشام، أن أبا عبيدة حاصر بيت المقدس، فطلب أهله منهم أن يصالحهم، على صلح أهل مدن الشام، وأن يكون المتولي للعقد عمر بن الخطاب، فكتب إليه بذلك، فسار عمر عن المدينة، واستخلف عليها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
وسار عمر بن الخطاب، فقدم (الجَابِيَة)، وكان المدافعون عن بيت المقدس، قد شجوا عَمْرًا وأشجاهم، ولم يَقْدر عليها، ولا على (الرَّملة).
وقدم قسم من أهل بيت المقدس، إلى عُمَر في الجابية، وصالحوه على الجزية، وفتحوها له، وكان الذي صالحه العَوَامُ، لأن الأرطبون هرب إلى مصر. وأرسل عمر بن الخطاب، إلى أهل بيت المقدس، والرَّملة بالأمان، وجعل عَلْقَمة بن حَكيم، على نصف فلسطين، وأسكنه الرملة، وجعل عَلْقَمة بن مُجَزِّز، على نصفها الآخر، وأسكنه بيت المقدس، فنزل كل واحد في عمله في الجنود التي معه، وضمّ عَمْرًا وشُرحبيل إليه بالجابية، فلما انتهيا إلى الجابية، وافَقَا عمر ابن الخطاب راكبًا، فقبَّلا ركبتيه، وضم عمر كل واحد منهما مُحْتَضِنًا، وكان هذا الفتح سنة خمس عشرة الهجرية، وقيل سنة ست عشرة الهجرية، والأول أصوب.
وكان نصّ معاهدة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مع أهل بيت المقدس، والذي كان عمرو، أحد الشهود على هذه الوثيقة :
( بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى، عبدُ الله عُمَرُ أميرُ المؤمنين، أهلَ إيلياء، من الأمان.. أعطاهم أمانًا لأنفسهم، وأموالهم، ولكنائسهم، وصلبـناهم، وسقيمها، وبريئها، وسائـر ملتها، أنه لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها، ولا من حَيِّزِها، ولا من صليبهم، ولا من شيءٍ من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.. وعلى أهل إيلياء، أن يعطوا الجزية، كما يُعْطِي أهل المدائن، وعليهم أن يُخرجوا منها الرُّوم واللّصوت، فمن خرج منهم، فإنه آمِن، وعليــــــه مثـــــل ما على أهل إيلياء من الجزية.. ومَن أحبّ من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الرُّوم، ويخلّي بِيَعهم، وصُلُبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم، وعلى بِيَعِهم وصُلُبِهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومَن كان بها من أهل الأرض، قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعد، وعليه مثـــــــل ما على أهل إيلياء، من الجزية، ومَن شاء سار مع الروم، ومَن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يُحصد حصـــادهم، وعلــــى ما في هذا الكتاب، عهد الله، وذمة رسوله، وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.
شهد على ذلك: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب وحضر سنة خمس عشرة الهجرية.
وحاصر عمرو (قَيْسَارية) بعد فتح بيت المقدس، ولكنّه خرج إلى مصر، فتولّى فتحها، معاوية بن أبي سفيان.
وقد نقض أهل طَبَرية العهد، الذي كان شُرحبيل بن حَسَنة، قد عقده معهم، بعد فتح مدينتهم صلحًا، وكان نقضهم في خلافة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذ اجتمع مع أهل طبرية قوم من الروم وغيرهم، فأمر أبو عبيدة بغزوهم عمرو بن العاص، فسار إليهم في أربعة آلاف، فاستعاد فتحها، على مثل صُلْح شُرَحبيل، ويقال: بل فتحها شُرَحبيل ثانية.
لقد شهد عمرو، أكثر معارك فتح أرض الشام، كما كان فتح أكثر فلسطين، على يديه، وأبلى في فتوح أرض الشام، أحسن البلاء.
3 ــ فتح مصـــر
أ ـ كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إلى عمرو، حين فرغ من الشام كلها، أن يسير إلى مصر بجُنده.
وفي رواية: أن عمرو بن العاص، كان يحاصر قَيْسارية، فاستخلف عليها ابنه ومضى إلى مصر، من تِلقاء نفسه في ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل من المسلمين، فغضب عمر بن الخطاب لذلك، وكتب إليه يوبخه ويعنِّفه على افتتانه عليه برأيه، وأمره بالرجوع إلى موضعه، إن وافاه كتابه، دون مصر، فورد الكتاب عليه، وهو بـ (العَرِيْش).
وقيل أيضًا: إن عمر بن الخطاب، كتب إلى عمرو، يأمره بالشخوص إلى مصر، فوافاه كتابه، وهو محاصر قَيْسارية.
وفي رواية أن عمر بن الخطاب، أقام بإيلياء (بيت المقدس) بعدما صالح أهلها، ودخلها أيامًا، فأمضى' عمرو بن العاص إلى مصر، وأمَّره عليها إن فتح الله عليه، فخرج عمرو بن العاص إلى مصر، بعد ما رجع عمر بن الخطاب إلى المدينة المنورة.
وفي رواية: أن عمر بن الخطاب، حين قدم الجابية، خلا به عمرو ابن العاص، فاستأذنه في المسير إلى مصر، وكان عمرو قد دخل مصر في الجاهلية، وعرف طرقها، ورأى كثرة ما فيها، وقال: (يا أمير المؤمنين! ائذن لي أن أسير إلى مصر)، وحرّضه عليها، وقال له: (إنك إن فتحتها، كانت قوة للمسلمين، وعونًا لهم، وهي أكثر الأرض أموالاً، وأعجزها عن القتال والحرب)، فتخوّف عمر بن الخطاب على المسلمين، وكره ذلك، فلم يزل عمرو يعظّم أمرها عند عمر بن الخطاب، ويخبره بحالها، ويهوِّن عليه فتحها، حتى ركن لذلك، فعقد له على أربعة آلاف رجل، كلهم من (عكٍّ)، ويقال: بل ثلاثة آلاف وخمسمائة، ثُلُثُهم من غافق، وثُلُثَاهم من عَكٍّ، وغافِق من عَكٍّ أيضًا، فهو غافق بن الشاهد بن عَلْقَمة بن عك.
وفي رواية : أن عمر بن الخطاب، قال لعمرو، بعد أن استأذنه، بالمسير إلى مصر: ( سِرْ وأنا مستخير الله في سيرك، وسيأتيك كتابي سريعًا، إن شاء الله، فإن أدركك كتابي، آمرك فيه بالانصراف عن مصر، قبل أن تدخلها، أو شيئًا من أرضها، فانصرف، وإن أنت دخلتها، قبل أن يأتيك كتابي، فامض لوجهك، واستعن بالله واستنصره).. فسار عمرو في جوف الليل، ولم يشعر به أحد من الناس، واستخار عمرُ ا$َ، فكأنه تخوّف على المسلمين في وجههم ذلك، فكتب إلى عمرو، أن ينصرف بمن معه من المسلمين، فأدرك الكتاب عمرًا وهو بـ (رَفَح)، فتخوف عمرو، إن هو أخذ الكتاب، وفتحه، أن يجد فيه الانصراف، كما عهد إليه عمَر، فلم يأخذ الكتاب من الرسول، ودافعه، وسار حتى نزل قرية فيما بين رَفَح والعَريش، فسأل عنها فقيل: إنها من مصر، ودعا عمرو بالكتاب، فقرأه على المسلمين، فقال لمن معه: (ألستم تعلمون أن هذه القرية من مصر ?) فوافقوه على أنها من مصر، فقال لهم: فإنّ أمير المؤمنين عهد إليّ، وأمرني، إن لحقني كتابه ولم أدخل أرض مصر، أن أرجع، ولم يلحقني كتابه، حتى دخلنا مصر، فسيروا، وامضوا على بركة الله).
وليس من المعقول، ولا من المنطق في شيء، أن يمضي عمرو لفتح مصر من تلقاء نفسه، وبدون استشارة عمر بن الخطاب، وأخذ موافقته على هذا الفتح، ولا أن يُقْدِم عمرو، على المغامرة بفتح مصر، خلافًا لرغبة عمر بن الخطاب، وموافقته الكاملة الصريحة، وعمرو أعقل وأدهى، وأَبْعد نظرًا، من أن يتحدّى رغبات عمر بن الخطاب، ويخالفه، ويعصي أوامره، فيغضب عمر، ويكتب إليه موبِّخًا معنِّفًا، وعمر بن الخطاب، أقوى وأصلب من أن يفسح المجال لعامل من عُماله، أن يخالف رغباته، ويتحدَّى' أوامره، ويخرج عن طاعته، فلابد أن عمرو بن العاص، أقنع عمر بن الخطاب، على فتح مصر، فكانت موافقة عمر بن الخطاب على فتح مصر، موافقة صريحة لا لَبْس فيها ولا غموض.
ولكن متى وأين أخذ عَمرو موافقة عُمَر، على فتح مصر؟
كان مسير عمرو إلى مصر في سنة تسع عشرة الهجرية، وفتحت مصر سنة عشرين، وقيل سنة ست عشرة.. وبالجملة، فينبغي أن يكون فتحها، قبل عام الرمادة، لأن عمرو بن العاص، حمل الطعام في بحر القُلْزم من مصر إلى المدينة، في عام الرَّمادة، الذي كان سنة ثماني عشرة الهجرية، أو سنة سبع عشرة، أي أن الفتح كان سنة ست عشرة الهجرية.
ولم يكن المسلمون، قد استكملوا فتح أرض الشام، في تلك السنة، وقد كان عمرو بأرض الشام سنة ثماني عشرة الهجرية في طاعون (عَمْواس)، فلما مات أبو عبيدة بن الجراح، استُخلف على الناس معاذ بن جَبَل، فلما مات مُعاذ بالطاعون أيضًا، استُخلف على الناس عمرو بن العاص، فخرج بالناس إلى الجبال، فلم يكره عمر ابن الخطاب ذلك من عمرو.
وقد التقى عمرو بعمر بن الخطاب بـ (الجابية)، فخلا عمرو بعُمَر، وفاتحه بفتح مصر.. وعمر بن الخطاب قدم الجابية أربع مرات; الأولى: قُبيل فتح بيت المقدس، والثانية: بعد فتح بيت المقدس، والثالثة: في أيام طاعون عَمواس، ولكنه عاد أدراجه إلى المدينة لانتشار الوباء في المنطقة، والرابعة: بعد الطاعون سنة ثماني عشرة الهجرية، ومعنى هذا أن عمرو بن العاص، كان في أرض الشام، حتى نهاية سنة ثماني عشرة الهجرية.
ويبدو أن عمرو بن العاص، سار إلى مصر سنة تسع عشرة الهجرية، ولكنه فتحها سنة عشرين الهجرية، وبذلك يمكن التوفيق، بين ما جاء في المصادر المعتمدة، عن تاريخ فتح مصر، مع استبعاد ما جاء عن فتح مصر في تلك المصادر، قبل سنة تسع عشرة، لأن ذلك يناقض، ما جاء في أحداث التاريخ.
وقد استطاع عمرو، إقناع عمر بن الخطاب بفتح مصر، في لقاء الرجلين، سنة ثماني عشرة الهجرية بالجَابية، وكان عمر بن الخطاب حَرِيًَّا بالاقتناع، حتى لا تكون أرض الشام، معرّضة لخطر مهاجمتها من الروم شمالاً من بلاد الروم، وجنوبًا من مصر، على طريق سيناء البريّ، وغربًا من بحر الروم، وبخاصة أن أرطبون قائد الروم في فلسطين، لحق بمصر قُبيل استسلام بيت المقدس للمسلمين، ولابد أن يكون مع أرطبون (أريطيون) الذي هرب من بيت المقدس إلى مصر، جيش من جيوش الروم، وأنه كان يحشد جنود الروم، في مصر، لقتال المسلمين في حالة محاولة المسلمين فتح مصر، أو يحاول استعادة فلسطين، إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، فرأى عمرو بن العاص أن على المسلمين، ألاَّ يضيّعوا الوقت سُدى، دون مسوِّغ، وأن يوقعوا بالأرطبون، وقوات الروم، قبل أن يستفحل أمرهم، وأيّده عمر بن الخطاب، المعروف بتفكيره الحصيف المتميّز.
ومن المعروف، أن الذين يسيطرون على أرض الشام، وكانت لديهم القوات الكافية للسيطرة على مصر، فإنهم لا يترددون في الاستيلاء على مصر، وأحداث التاريخ القديم والحديث خير شاهد على ذلك.
وقد كان المسلمون حينذاك في أوج قوتهم، وقد فتحوا أرض الشام، فلابد من فتح مصر، بعد استكمالهم فتح أرض الشام.
وتقدم عمرو، على رأس جيشه، البالغ ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل، فلما بلغ المقوقس قدوم عمرو إلى مصر، توجّه إلى (الفُسْطاط)، فكان يُجهِّز على عمرو الجيوش، وكان على القصر (يعني قصر الشَّمع الذي بمصر القديمة في القاهرة) رجل من الروم يقال له: (الأُعَيْرج) واليًا عليه، وكان تحت يد المقوقس، واسمه جُرَيْج بن مِينا (جورج).. وأقبل عمرو، حتى إذا كان بالعريش، فكان أول موضع قُوتل فيه (الفَرَما) قاتله الروم قتالاً شديدًا، نحوًا من شهر، ولكنهم هُزِموا، وكان عبد الله بن سَعْد على ميمنة عمرو، منذ خروجه من قَيسارية، إلى أن فرغ من حربه، ومضى عمرو لا يُدافع إلا بالأمر الأخف، حتى نزل (القَوَاصر)، فلم يجد هناك مقاومة تُذْكَر.. وتقدّم عمرو، نحو مصر، لا يُدافع إلا بالأمر الخفيف، حتى أتى (بُلْبَيْس)، فقاتله الروم بها نحوًا من شهر، ففتحها عمرو، وانهزم الروم، ومضى عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف، حتى أتى (أم دُنَيْن)، فقاتلوا مَنْ بها قتالاً شديدًا، ولكن الفتح أبطأ عليه، فكتب إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يستمده، فأمده بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف مع عمرو، فوصلوا إليه أرْسَالاً، يتبع بعضهم بعضًا، على كلِّ ألفِ رجلٍ منهم رجل مقام الألف، وهم الزبير بن العوام، والمِقْدَاد بن الأسود، وعُبادة بن الصَّامِت، ومَسْلَمة بن مُخَلَّد، في قول، وقيل: خَارِجَة بن حُذَافَة، الرابع، لا يعدون مَسْلَمة، وقال عمر بن الخطاب لعمرو: (اعلم أن معك اثني عشر ألفًا، ولن تُغلب اثنا عشر ألفًا من قِلَّة).
وفي رواية أخرى، أن الزبير ورد على عمرو، في عشرة آلاف، ويقال في اثني عشر ألفًا، فيهم خارجة بن حُذافة العَدَويّ، وعُمَيْر بن وَهْب الجُمَحِي، وكان الزُبير، قد همّ بالغزو، وأراد إتيان (أَنْطَاكِية)، فقال له عمر: (يا أبا عبد الله! هل لك في ولاية مصر؟)، فقال: (لا حاجة لي فيها، ولكني أخرج مجاهدًا، وللمسلمين معاونًا، فإن وجدتُ عَمْرًا قد فتحها، لم أعرض لعمله، وقصدتُ إلى بعض السَّواحل، فرابطتُ به، وإن وجدته في جهاد كنتُ معه)، فسار على ذلك.
وحاصر المسلمون حصن بَابِليُون حصارًا شديدًا، وكان به جماعة من الروم، وأكابر القبط ورؤسائهم، وعليهم المقوقس، فقاتلوهم شهرًا، فلما رأى القوم الجد في المسلمين على فتحه، ورأوا من صبرهم على القتال، ورغبتهم فيه، خافوا أن يظهروا عليهم، فتنحّى المقوقس، وجماعة من أكابر الأقباط وخرجوا من باب القصر القبلي، وتركوا به جماعة يقاتلون المسلمين، فلحقوا بالجزيرة، وأمروا بقطع الجسر، الذي هو على نهر النيل، وزُعم أن الأعَيْرج (جورج قائد حرس الحصن، وقد بقي في الحصن حتى يَقْضِي على ما يُشاع من خروج قيرس) كان قد تخلّف في الحصن، بعد المقوقس، فلما خاف فتح الحصن، ركب هو وأهل القوة والشرف، وكانت سفنهم ملصقة بالحصن، ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة.
وبعث المقوقس إلى عمرو، أن ابعثوا إلينا رسلاً منكم، نعاملهم، ونتداعى نحن وهم، إلى ما عساه أن يكون فيه صلاح لنا ولكم.. وبعث عمرو إلى المقوقس، عشرة نفر من المسلمين، أحدهم عُبَادة بن الصامت، فلم تنجح المفاوضات بين الجانبين، ولم يبق غير القتال، لفتح حصن بابليون.
واستمر الحصار سبعة أشهر، فرأى الزبير بن العوام، خللاً في سور الحصن، فنصب سلمًا، وأسنده إلى الحصن، وقال: (إني أهب نفسي لله تعالى، فمن شاء أن يتبعني، فليفعل)، فتبعه جماعة حتى أوفى على الحصن، فكبّر وكبّروا، فلما رأى الروم أن المسلمين قد ظفروا بالحصن، انسحبوا، ففتحت الفُسطاط أبوابها للمسلمين.
ولما فتح عمرو حصن بابليون -وكانت معركة فتح هذا الحصن، من المعارك الإسلامية الحاسمة، في الفتح الإسلامي، فتحت أبواب مصر على مصراعيها للفاتحين المسلمين، كما فتحت معركة القَادِسِية الحاسمة، أبواب العراق، ومعركة اليَرْمُوك الحاسمة، أبواب أرض الشام، ومعركة نَهَاوَنْد الحاسمة (معركة فتح الفتوح)، أبواب بلاد فارس، للفاتحين المسلمين- بدأ عمرو بمعارك استثمار الفوز، التي تَعْقُبُ عادة كل معركة حاسمة، فوجّه عبدَ الله بن حُذافة السَّهْمي إلى (عَيْن شَمْس)، فغلب على أرضها، وصالح أهل قراها، على مثل صلح الفُسطاط.
كما وجّه خارجة بن حُذافة العَدَوي إلى (الفَيُّوم)، و(الأشْمُونين)، و(إخْمِيم)، و(البَشَرُودات)، وقرى (الصَّعِيد)، فصالحها أيضًا، على مثل صلح الفُسطاط.
كما وجّه عُمَيَر بن وَهْب الجُمَحي إلى (تِنِّيس)، و(دِمْياط)، و(تُونَة)، و(دَمِيرة)، و(شَطَا)، و(دَقَهلة)، و(بَنَا)، و(بُوصِير)، فصالحها، على مثل صلح الفسطاط أيضًا.
ووجّه عُقبة بن عامر الجُهَني، ويقال مولاه وَرْدَان، مولى عمرو، إلى سائر قرى أسفل مصر، ففعل مثل ذلك.. وبذلك، استجمع عمرو، فتح مصر، فصارت أَرْضُها، أرضَ خَرَاج.
ب ــ لما نزل عمرو على عَين شمس، وكان الملك بين القِبْط والنُّوَب، ونزل معه الزبير عليها، قال أهل مصر لمليكهم: ما تُريد إلى قوم، فلُّوا كسرى، وقيصر، وغلبوهم في بلادهـم! صَالِح القومَ، واعْتَقِدْ منهم، ولا تَعْرض لهم -وذلك في اليوم الرابع- فأبى، وناهدوهم وقاتلوهم، وارتقى الزبير سورها، فلما أحسوه، فتحوا الباب لعمرو، وخرجوا إليه مصالحين، فقبل منهم، ونزل الزبير عليهم عَنْوة، حتى خرج على عمرو، من الباب معهم، فاعتقدوا بعد ما أشرفوا على الهَلَكَة، فأجروا ما أخذوا عَنْوة، مجرى ما صالح عليه، فصاروا ذمة، وكان صلحهم:
( بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى عمرو بن العاص، أهلَ مصر، من الأمان، على أنفسهم، وملّتهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصُلُبهم، وبرّهم، وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك، ولا ينتقص، ولا يساكنهم النُّوَب.. وعلى أهل مصر، أن يُعطوا الجزية، إذا اجتمعوا على هذا الصُّلح، وانتهت زيادة نهرهم، خمسين ألف ألف، عليهم ما جنى لُصوتُهم، فإن أبى أحدٌ منهم أن يجيب، رفع عنهم من الجِرَاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم عن غايته، إذا انتهى، رُفع عنهم بقدر ذلك. ومَن دَخَل في صلحهم من الروم والنُّوَب، فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم ، مَن أبى واختار الذهاب، فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثلاثًا، في كل ثلث جِباية ثُلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب، عهد الله وذمته، وذمة رسوله، وذمة الخليفة أمير المؤمنين، وذمم المؤمنين، وعلى النُّوبة، الذين استجابوا، أن يُعينوا بكذا وكذا رأسًا، وكذا وكذا فرسًا، وعلى ألا يُغْزَوا، ولا يُمْنَعوا من تجارة، صادرة، ولا واردة).
شهد الزبير، وعبد الله ومحمد ابناه، وكتب وردانُ وحضر.
جـ ـ ولما فتح عمرو مصر، أقام بها، ثم كتب إلى عمر بن الخطاب، يستأمره في الزَّحف إلى الإسكندرية، فكتب إليه يأمره بذلك. وسار إليها من الفُسطاط، واستخلف على مصر خارجة بن حُذافة العَدَوي، وكان مَن دون الإسكندرية، من الروم والقبط، قد تجمّعوا له، وقالوا: نغزوه بالفسطاط، قبل أن يبلغنا، ويروم الإسكندرية).
وكان مع جيش عمرو، جماعة من رؤساء القبط، فأصلح القبط الطرق، وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصارت القبط لجيش المسلمين أعوانًا، على ما أرادوا، من قتال الروم، الذين استعدوا للقاء المسلمين، وقدمت عليهم مراكب كثيرة، من أرض الروم، فيها جَمْعٌ من الروم عظيم، بالعُدّة والسلاح.
ولم يلق عمرو من الروم أحدًا في طريقه إلى الإسكندرية حتى (تَرْنُوْط)، حيث لقي بها طائفة من الروم، فقاتلوه قتالاً خفيفًا، ثم انهزموا باتجاه الإسكندرية.
ويبدو أن عَمْرًا ابتدأ زحفه نحو هدفه الأصلي: الإسكندرية، على الضفة الغربية للنيل، من ناحيـة الصحراء، لأن فيها مجالاً أوسع لخيله، لا يعوقها فيه ما يعترض أرض الدلتا، من الترع الكثيرة، وقنوات الري المزدحمة.
وعبر عمرو النِّيل إلى الغرب، ومضى بمن معه نحو الإسكندرية، فأرسل شَرِيْك بن سُمَيَّ في آثار الروم المنهزمين، فلحقت طلائع المسلمين بالروم، عند موضع على ستة عشر ميلاً إلى الشمال من تَرْنُوط. واستطاع الروم أن يثبتوا للمسلمين، فأنفذ شريكٌ رسولاً إلى عمرو، يطلب المدد، ولما بلغ الروم مجيء الأمداد، فروا هاربين، وقد سُمِّي هذا الموضع باسم القائد، وهو معروف حتى اليوم باسم: (كَوم شَريك) قرية من قرى كَوْم حمادة، وكَوم حمادة مركز من أعمال محافظة البحيرة، بمصر في الوقت الحاضر.
ثم التقى المسلمون بالروم وحلفائهم بـ(سُنـْطْيس)، فاقتتلوا بها قتالاً شديدًا، فانهزم الروم.
والتقوا بـ(الكِرْيَون)، فاقتتلوا بضعة عشر يومًا، وكان عبد الله ابن عمرو بن العاص، على المقدمة، وحامل اللواء يومئد وَرْدان مولى عمرو، فأصابت عبد الله بن عمرو جراحات، فصبر صبرًا جميلاً، وصلّى عمرو يومئذ بجيش المسلمين، صلاة الخوف: بكل طائف ركعة وسجدتين، وتكبّد الطرفان خسائر فادحة، وقَتَل المسلمون من الروم مقتلة عظيمة، وطارد المسلمون الروم، حتى بلغوا الإسكندرية.
وكان للروم في الإسكندرية حصون مبنية لا تُرام، حصن دون حصن، فنزل المسلمون ما بين (حُلْوة) إلى (قصر فارس) إلى ما وراء ذلك، ومعهم رؤساء القِبط، يمدونهم بما احتاجوا إليه، من الأطعمة، والعلوفة.
وبقي عمرو بحُلْوة شهرين، ثم تحوّل إلى (المَقْس)، وتُصَوِّرُ هذه الرواية، رغبة عمرو في القفول إلى حصن بابليون، ليعلم أهل الدلتا بقربه، ويشعرهم شوكته، بعد أن عز عليه اقتحام أسوار الإسكندرية، فترك حولها جيشًا كافيًا لحصار الإسكندرية.
وأخرج الروم، على قوات المسلمين، التي تحاصر الإسكندرية، الخيل من ناحية البحيرة، مستترة بالحصن فاشتبكوا بالمسلمين، وقتلوا منها اثني عشر رجلاً.
وكانت رسل ملك الروم، تختلف إلى الإسكندرية في المراكب بمادة الروم، وكان ملك الروم يقول: (لئن ظهرت العرب على الإسكندرية، إنّ ذلك انقطاع مُلك الروم وهلاكهم، لأنه ليس للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية). ولما فتح المسلمون أرض الشام، قال الملك: (لئن غلبونا على الإسكندرية، لقد هلكت الروم وانقطع ملكها)، وأمر بجهازه ومصلحته للخروج إلى الإسكندرية، حتى يباشر قتالها بنفسه، إعظامًا لها، وأمر ألا يتخلف عنه أحد من الروم، وقال: (ما بقاء الروم بعد الإسكندرية، فلما فرغ من جهازه، مات سنة عشرين الهجرية، وفيها فتحت قَيْسارية الشام.
وأقام عمرو محاصرًا الإسكندرية أشهرًا، فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب، قال: (ما أبطأوا في فتحها، إلا لـِمَا أحدثوا).
ولـَمَّا أَبْطَأَ عَلَى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ فَتْحُ مِصْـرَ، كَتَبَ إلى عَمْرو بن العَاص:
(أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ عَجِبْتُ لإبْطَائِكُمْ فِي فَتْحِ مِصْـرَ! إنَّكُمْ تُقَاتِلُونَهُمْ مُنْذُ سَنَتَيْنِ، وَمَا ذَاكَ إلاَّ لـِمَا أَحْدَثْتُمْ، وَأَحْبَبْتُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَا أحبَّ عَدُوُّكُمْ، وَإنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالى' لا يَنْصُرُ قَوْمًا إلاَّ بِصِدْقِ نِيَّاتِهِمْ.. وَقَدْ كُنْتُ وَجَّهْتُ إليكَ أربعةَ نَفَــرٍ، وأَعْلَمْتُــكَ أَنَّ الرَّجُــلَ مِنْهُمْ مقَامَ أَلْفِ رجــلٍ، عَلى' مَا كُنْتُ أَعْرِفُ، إلاَّ أَنْ يكُون غَيَّرَهُم ما غَيَّرَ غَيْرَهُم، فإذا أَتَاكَ كِتَابي هذا، فَاخْطُبِ النَّاسَ وَحُضّهُم عَلَى' قِتَالِ عَدُوِّهِم، وَرَغِّبْهُمْ في الصَّبْرِ والنِّيَّة، وَقَدِّمْ أولئكَ الأربعةَ في صُدُورِ النَّاسِ، ومُرِ النَّاسَ جَميعًا أن يكونَ لَهُمْ صَدْمَةٌ كَصَدْمَةِ رَجُلٍ واحدٍ، وليكنْ ذلكَ عِنْدَ الزَّوالِ يومَ الـجُمُعَة، فإنَّها ساعةُ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَوَقتِ الإجابةِ، وَلْيَعُجَّ النَّاسُ إلى' اللهِ، ويسألُوه النَّصْرَ على' عَدُوِّه).
ولما أتى عمرًا كتابُ عُمَر، جمع الناس، وقرأ عليهم كتاب عمر، ثم دعا أولئك النفر، فقدّمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهّروا، ويصلّوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله عز وجل، ويسألوه النصر.
وأرسل المقوقس إلى عمرو، يسأله الصلح والمهادنة إلى مدة، فأبى عمرو ذلك.
وأمر المقوقس النساء أن يقمن على سور المدينة، مقبلات بوجوههن إلى داخله، وأقام الرجال بالسلاح مقبلين بوجوههم إلى المسلمين ليرهبهم بذلك، فأرسل إليه عمرو: (إنّا قد رأينا ما صنعت، وما بالكثرة غلبنا مَن غلبنا، فقد لقينا هرقل ملككم، فكان من أمره ما كان). فقال المقوقس لأصحابه: (قد صدق هؤلاء القوم! أخرجوا مَلِكَنا من دار مملكته، حتى أدخلوه القسطنطينية، فنحن أولى بالإذعان). فأغلظ له أصحابه القول، وأَبَوْا إلا القتال، فقاتلهم المسلمون قتالاً شديدًا، وحصروهم ثلاثة أشهر، ففتحها عمرو بالسيف، واستخلف عمرو على الإسكندرية، عبد الله بن حُذَافة السهمي، في رابطة من المسلمين، وانصرف إلى الفُسطاط.
وكان فتح الإسكندرية سنة إحدى وعشرين الهجرية، وفي رواية أنها فُتحت سنة عشرين الهجرية، وفي رواية أنها فُتحت سنة خمس وعشرين الهجرية.
وأُرجِّح الرواية الأولى; أي أن الإسكندرية فُتحت سنة إحدى وعشرين الهجرية، لأن عمرو بن العاص، فتح مصر عدا الإسكندرية سنة عشرين الهجرية، فقد فتح في هذه السنة بعض مصر، لا كلها، ومن المعروف أن الإسكندرية، كانت آخر أصقاع مصر فتحًا، فلم يستطع عمرو إكمال فتح مصر كلها سنة عشرين الهجرية، فأتمّ فتحها سنة إحدى وعشرين الهجرية .
أما الذين ذكروا أن الإسكندرية فُتحت سنة خمس وعشرين الهجرية، فقد خلطوا بين فتحها الأول سنة إحدى وعشرين الهجرية، واستعادة فتحها، بعد انتقاضها سنة خمس وعشرين الهجرية، فقد انتقض أهل الإسكندرية، سنة خمس وعشرين الهجرية، فاستعاد عمرو فتحها، في هذه السنة أيضًا، كما سيرد ذلك وشيكًا. وفي رواية أن عُبادة بن الصامت، هو الذي فتح الإسكندرية.
د ـ ولما فتح عمرو الإسكندرية بالسيف، غنم ما فيها، واستبقى أهلها، ولم يقتل، ولم يَسْبِ، وجعلهم ذمّة كأهل الفُسطاط، وكتب إلى عمر بن الخطاب بالفتح، مع معاوية بن حُدَيج الكِنْدِي ثم السَّكُوني، وبعث إليه معه بالخُمس. ويقال: إن المقوقس صالَحَ عمرًا، على ثلاثة عشر ألف دينار، على أن يخرج من الإسكندرية مَن أراد الخروج، ويقيم بها من أحب المقام، وعلى أن يُفرض على كل حالم من القبط دينارين، فكتب عمرو لهم بذلك كتابًا.
واستخلف عمرو على الإسكندرية عبد الله بن حُذافة في رابطة من المسلمين، وانصرف إلى الفُسطاط.
وكان الروم قد عظم عليهم فتح المسلمين الإسكندرية، وظنوا أنهـــم لا يمكنهم المقام ببلادهم، بعد خروج الإسكندرية من ملكهم، فكاتبوا مَن كان فيها من الروم، ودعوهم إلى نقض الصلح، فأجابوهم إلى ذلك.
كما أن الروم، الذين بقوا في الإسكندرية، كتبوا إلى قُسْطَنطين بن هِرَقْل، الذي كان ملك الروم في القسطنطينية يومئذ، يخبرونه بقلّة من عندهم من المسلمين، وبما هم فيه من الذلة، وأداء الجزية، فبعث رجلاً من أصحابه يقال له: مَنُويل في ثلاثمائة مركبٍ مشحونةٍ بالمقاتلة، فدخل الإسكندرية، وقتل مَن فيها من روابط المسلمين، إلا من تَمَلَّصَ منهم، فنجا من القتل، وكان ذلك سنة خمس وعشرين الهجرية.
وبلغ عمرو بن العاص الخبر، فسار إليهم في خمسة عشر ألفًا، فوجد مقاتلي الروم قد خرجوا، يعيثون فيما يلي الإسكندرية، من قُرى مصر، فلقيهم المسلمون، ورشقوهم بالنشَّاب ساعة، والمسلمون متترسون، ثم هاجموهم بعنف، فالتحمت بينهم الحرب، واقتتلوا قتالاً شديدًا، وانهزم الروم، ولم يتوقفوا في هزيمتهم إلا في الإسكندرية، فتحصّنوا بها، ونصبوا العرَّاداَت، فقاتلهم عمرو على الإسكندرية أشد قتال، ونصب المجانيق فَحَطَّمَتْ جُدُرَها، وألحّ عمرو بالحرب، حتى دخل الإسكندرية بالحرب عَنْوة، فقتل المقاتلة، وسبى الذرية، وهرب بعض سكانها من الروم، إلى بلاد الروم، وقُتل مَنُويل قائد الروم، وهدم عمرو والمسلمون جدارَ الإسكندرية، وكان عمرو نذر، لئن فتحها، ليفعلن ذلك.
ولم يوافق المقوقس أهل الإسكندرية في انتقاضهم، فأقرّه عمرو بعد استعادة فتح الإسكندرية، على أمره الأول.
وكان الروم، لما خرجوا من الإسكندرية، إلى القرى التي حولها، قد أخذوا أموال أهل تلك القرى، مَن وافقهم، ومَن خالفهم، فلما ظفر بهم المسلمون، جاء أهل القرى، الذين خالفوا الذين انتقضوا من الروم، وبقوا على ولائهم للمسلمين، فقالوا لعمرو بن العاص: (إنّ الروم أخذوا دوابنا وأموالنـا، ولم نخــالف نحن عليكم، وكنا على الطاعــة)، فــردَّ عليهـم ما عرفوا من أموالهم بعد إقامة البينة.
لقد كان أهل مصر الأصليين مع المسلمين على الروم، وكما قال المقوقس لعمرو: (... وأن لا تنقض بالقِبْط، فإن النقض لم يأت من قِبَلِهم).. (وقد تم صلح القبط فيما بينك وبينهم، ولم يأت من قِبَلهم نقض، وأنا متمّم لك على نفسي، والقبط متمّمون لك الصلح، الذي صالحتهم عليه، وعاهدتهم، وأما الروم، فأنا منهم بريء...)، وصارت القبط للمسلمين أعوانًا على الروم.
هـ ـ ومهما قيل في تَعداد جيش المسلمين الذي فتح مصر، فبدأ بأربعة آلاف رجل، أو ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل، وانتهى بعد وصول المدد من المدينة المنورة، بقيادة الزبير بن العوام، بثمانية آلاف، فيما إذا صحّ أن تعداد المدد أربعة آلاف رجل، وخمسة عشر ألفًا، فيما إذا صحّ أن تعداد المدد اثنا عشر ألفًا، فإنّ تعداد هذا الجيش الفاتح كان قليلاً للغاية، بالنسبة لتحقق هدف العمليات، وهو فتح مصر، وبالنسبة لتعداد المقاتلين من الروم، ومن أهل مصر، الذين نهضوا بمهمة الدفاع عن مصر، فقد ورد بكتاب ملك الروم الموجه إلى المقوقس: (إنما أتاك من العرب اثنا عشر ألفًا، وبمصر مَن بها من كثرة عدد القبط ما لا يُحصى، فإن كان القبط كرهوا القتال، وأحبوا أداء الجزية إلى العرب، واختاروهم علينا، فإن عندك بمصر من الروم بالإسكندرية، ومَن معك، أكثر من مائة ألف، معهم العُدَّة، والقُوة، والعرب وحالهم وضعفهم، على ما قد رأيت...).
والادّعاء بأن فتح مصر كان نزهة ترفيهية للفاتحين، بحجة أن الأقباط كانوا للمسلمين عونًا على الروم بصورة مطلقة، وأن الروم لم يقاتلوا كما ينبغي، ادّعاء متهافت، يدلّ على الجهل المطبق، أو على التحيّز والتعصب المقيت، فقد قاوم الروم وأهل البلاد المصريون، الفاتحين مقاومة شديدة، وأعانتهم طبيعة بعض المواقع، كحصن بابليون وأسوار الإسكندرية، على تلك المقاومة، وقد خندقوا خندقًا حول حصن بابليون، وجعلوا له أبوابًا، وبثّوا أفنيتها حَسَك الحديد، وثبتوا في كثير من مواضعهم الدفاعية، ثباتًا عنيدًا، امتدّ أيامًا، وأسابيع، وأشهرًا، وأكمل المسلمون فتح مصر خلال سنتين، وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدل على ثبات المدافعين، واستقتال الفاتحين.
لقد كان المدافعون عن مصر، متفوقين على المسلمين الفاتحين، تفوقًا ساحقًا، بالعَدد والعُدَد، وكانوا يقاتلون دفاعًا عن بلادهم وعقيدتهم، وكانوا أكثر خبرة بفنون القتال التعبوية، من أولئك القادمين من الصحراء، وكانت قواعدهم قريبة منهم، وقواعد المسلمين بعيدة عنهم، وكانوا أغنى من المسلمين في المواد التموينية وأوفر حظًا، وكانت مزية اختيار المواضع القتالية بأيديهم، وهذه المواضع المناسبة، تساعدهم على الدفاع عنها، وتعرقل مهمة الهجوم عليها، وكانت طرق المواصلات البرية والبحرية، مفتوحة للمدافعين عن مصر، فكانت تردهم الإمدادات بالمراكب، من قواعد الروم المتقدمة والرئيسة، في بلاد الروم الأصلية، ولم تكن المواصلات البحرية مفتوحة، ولا متيسّرة للمسلمين، بأي شكل من الأشكال.
كل هذه المزايا القتالية كانت إلى جانب المدافعين عن مصر، ولكنّ المسلمين الفاتحين، أحرزوا النصر المؤزّر، بالإقدام والتضحية والفداء، وبالشهداء.
لقد كان المسلمون متفوقين على المدافعين عن مصر بالمعنويات العالية، فكان أحد هؤلاء المدافعين، يتمنى أن يموت صاحبه قبله، وكان أحد الفاتحين يتمنى أن يموت قبل صاحبه، فانتصرت الفئة القليلة على الفئة الكثيرة; بالمعنويات العالية، التي كانت نتيجة من نتائج أثر الإسلام في النفوس والعقول معًا.
عاد رسل المقوقس من عند عمرو، إلى المقوقس قبل فتح حصن بابليون، وكان المقوقس يومئذ في جزيرة الروضة، فقال المقوقس لرسله: (كيف رأيتموهم؟) فقالوا: (رأينا قومًا، الموت أحبّ إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليه من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة، ولا نهمة، إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على رُكبهم، وأجيرهم كواحد منهم، ما يُعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيّد منهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد منهم، يغسلون أطرافهم بالماء، ويتخشعون بصلاتهم).
ووصف المقوقس المسلمين الفاتحين فقال: (والله إنهم على قلّتهم وضعفهم -يريد المسلمين- أقوى وأشد منا، على كثرتنا وقوتنا .. إن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا، وذلك أنهم قوم الموت أحبّ إلى أحدهم من الحياة، يقاتل الرجل منهم وهو مستقْتِل، يتمنى ألا يرجع إلى أهله ولا بلده، ويرون أن لهم أجرًا عظيمًا، فيمن قَتَلوا منا، ويقولون إنهم إن قُتلوا، دخلوا الجنة، وليس لهم لذة في الدنيا ولا رغبة، إلا قدرُ بُلْغَة العيش من الطعام واللباس، ونحن قوم نكره الموت، ونحبّ الحياة ولذتها، فكيف نستقيم نحن وهؤلاء ? وكيف صَبْرُنَا معهم؟
ومهما يُقال في تأييد هذين القولين: قول رسل المقوقس، وقول المقوقس، في وصف المسلمين الفاتحين، تصديقًا، أو تشكيكًا، فإن أفعال المسلمين الفاتحين، تصدّق هذين القولين، والأفعال أبلغ وأصدق من الأقوال وأجدى، فالتطبيق العملي للفتح هو الحكم الفصل في تصديق هذين القولين، وغيرهما من أمثالهما من الأقوال، والسيف أصدق إِنْبَاءً من الكُتب.
لقد انتصر العرب بالإسلام، ولن ينتصروا بغيره في يوم من الأيام، والتاريخ خير دليل على ذلك، وكانت انتصارات المسلمين الفاتحين انتصارات عقيدة بدون شك، جعلت من المجتمع الإسلامي الأول، مجتمعًا يضمّ قادة متميزين، وجنودًا متميزين، ولم يكونوا كذلك، قبل أن يعتنقوا هذه العقيدة، ويتمسكوا بتعاليمها، كما هو معروف، فلما أبطــــأ علـــــى عمـر بن الخطاب فتح مصر، عزا سبب الإبطاء إلى تغيير الفاتحين ما بأنفسهم.
وقد كان القِبْط لعمرو أعوانًا، أو كان أكثرهم على أقل تقدير، وخرج معه لفتح الإسكندرية، جماعة من رؤساء القِبط، فأصلحوا للفاتحين الطرق، وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصارت لهم القبط أعوانًا على ما أرادوا من قتال الروم، ولم ينقض القبط، ولا المقوقس الصلح، الذي عقدوه بينهم وبين الفاتحين، كما نقض الروم.
وليس موقف القبط بالنسبة للفاتحين، إلا استنكارًا لظلم الروم، وإعجابًا بعدل المسلمين، فأخلصوا للذين عدلوا، وكرهوا الذين ظلموا، ومصادر القِبط القديمة خير شاهد على ذلك.
4- فـي ليبيــــا
أ ـ أراد عمرو القضاء على سلطان الروم في المنطقة الواقعة غربيّ الديار المصرية، ليتخلص من تعرّض الروم بمصر من الغرب، إذ كان الروم يحتلون تلك المناطق، ويشكّلون تهديدًا بريًّا خطرًا لمصر، فسار يخترق الصحراء، حتى بلغ (بَرْقة).
وكانت بَرْقة، قبل الفتح الإسلامي، تابعة للإسكندرية، تحت حكم الرُّوم، وكانت أخبار فتح المسلمين لمصر، قد انتشرت في كلِّ البلاد المجاورة، وقد اشتملت تلك الأخبار على ما أظهره المسلمون من شجاعة وإقدام، وعلى ما طبقوه من عدل ومساواة، واحترام معابد المغلوبين، وأملاكهم، وأعراضهم، فكانت هذه الأخبار مطمئنة لنفوس أهل بَرْقة.
وقد انتهى عمرو من فتح الإسكندرية الأول في ذي القعدة من سنة إحدى وعشرين الهجرية، الموافق النصف الأخير من شهر أيلول (سبتمبر) من سنة (642م)، فسار بجيشه إلى برقة لفتحها، ففتحها عمرو، وصالح أهلها على الجزية، وكان ذلك سنة اثنتين وعشرين الهجرية.. وفي رواية أخرى: أن فتحها كان سنة إحدى وعشرين الهجرية.
وفَتْحُها سنة اثنتين وعشرين الهجرية أصح، لأنه من المعقول أن يبقى عمرو في الإسكندرية بعد فتحها، حتى تستقر أمورها، ويسيطر عليها سيطرة كاملة، فإذا كانت المسافة بين الإسكندرية وبَرْقة لا تُقطع إلا بعشرين يومًا على الأقل، سيرًا على الأقدام، وعلى الدواب، اتضح لنا أن المدة الباقية من شهري ذي القعدة، وذي الحجة، لا تكفي لاستقرار الأمور في الإسكندرية، وإكمال التنقل بين الإسكندرية وبَرْقة، لذلك يبدو أن القول بفتحها سنة اثنتين وعشرين الهجرية، أقرب إلى الصحة، ويتفق مع المنطق السليم.
وقد صالَحَ عمرو أهل بَرْقة على ثلاثة عشر ألف دينار، ولم يكن يدخل بَرْقَة يومئذ جابي خراج، إنما كانوا يبعثون بالجزية إذا جاء وقتها، فكان أهل برقة يبعثون بخراجهم إلى والي مصر، من غير أن يأتيهم حاثّ أو مُستحثّ، فكانوا أَخْصَبَ قوم بالمغرب، ولم يدخلها فتنـــة، وكــــان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: (لولا مالي بالحجاز، لنزلت بَرْقة، فما أعلم منزلاً أسلم، ولا أعزل منها).
وقد هدم المسلمون أسوار مدن بَرقة، خوفًا من ارتداد أهلها، ومحاربة المسلمين من وراء الأسوار، أو خوفًا من عودة الروم إليها، والدفاع عنها، بالاستفادة من تلك الأسوار.
ومن بَرقة بعث عمرو إلى (زَوِيلَة) عُقبة بن نافع الفِهْري، فافتتح زَوِيلَة صُلْحًا، وكان فتحها سنة اثنتين وعشرين أيضًا.
ومن الواضح أن سبب بعث هذه القوة بقيادة عقبة، هو لترصين فتح بَرْقة من الجنوب والجنوب الغربي، بالسيطرة على سكان زويلة، وحرمانهم من التعرّض بالمسلمين الفاتحين في بَرْقة، ولتأمين عمق سَوْقِيّ للفتح في برقة، ولتأمين طريق مواصلات جيش عمرو، المتجه من برقة نحو الغرب.
وكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بعد فتح زَوِيلَة، يُعْلِمُه أنه قد ولَّى عقبةَ بن نافعٍ الفِهْري المغربَ، فبلغ زَوِيلَة، وأن مَن بين زويلة وبرقة سَلَّمَ كلُّهم حسنةَ طاعتهم، قد أدّى مسلمهم الصدقة، وأقرّ معاهدهم بالجزية، وأنه قد وضع على أهل زويلة، ومَن بينه وبينها، ما رأى أنهم يطيقونه، وأمر عماله أن يأخذوا الصدقة من الأغنياء، فيردُّوها في الفقراء، ويأخذوا الجزية من الذمّة، فتحمل إليه بمصر، وأن يؤخذ من أرض المسلمين العُشر ونصف العشر، ومن أهل الصُّلْحِ صُلْحَهم.
وقد فرض عمرو على أهل زويلة ثلاثمائة رأسٍ من العبيد، وفرضَ عليهم ما يطيقونه، وهو ما يتفق مع وضع البلد حينذاك، إذ كانوا يتاجرون بالرقيق، يستوردونه من الجنوب، ويصدّرونه إلى الشمال.
وهكذا فتحت برقة وشطر فَزان.
ب ـ وتوجّه عمرو إلى طرابلس على طريق الساحل، وهو آمن من أن يُؤتى' من الجنوب، لوجود عقبة في الجنوب، كما أمن عقبة أن يؤتى من الشمال لوجود عمرو في الشمال.
ومرّ عمرو في طريقه إلى طرابلس بمدينة (سُرْت)، ففتحها، ولم يجد عناء في فتحها، ولم يذكر أحد أنها فتحت عَنْوة أو صلحًا، مما يدل على أنها لم تكن ذات خطر، فاكتفى منها المسلمون بالاستسلام، وسار المسلمون في طريقهم إلى طرابلس، ومروا في طريقهم إليها بـ (لَبْدَة)، فوجدوها خرابًا مهدّمة، وحواليها قليل من السكان، وهم خليط من البربر والروم، ولم ينقل أحد من المؤرخين، أنهم وجدوا فيها أي مقاومة.
ونزل عمرو (أطْرَابُلُس) سنة اثنتين وعشرين الهجرية، فنزل القبة التي على الشَرَف، من شرقيها، وحاصر المدينة فامتنع أهلها عن التسليم، وتحصّنوا داخل السور، وكان سور طرابلس من المناعة بحيث لم يقدر المسلمون أن يتسوّروه، كما لم يقدروا أن يقتحموا أبوابه، وكان السور يحيط بالمدينة من جهة الشرق والغرب والجنوب، ولم تكن المدينة مسوّرة من الشمال بينها وبين البحر.
وبقي المسلمون على حصارها، نحو شهر، لا يقدرون منها على شيء.
وفي ذات صباح، ذهب سبعة من المسلمين للاستطلاع، أو للصيد، وكانوا مسلّحين بسيوفهم، ورماحهم، فساروا حتى وصلوا إلى جهة السوّر الغربية الشمالية، فوجدوا السور غير متّصل بالبحر، لأنها لم تكن مسوّرة من الناحية الشمالية كما ذكرنا، وقد يكون البحر في حالة جزر، مما زاد في اتساع الطريق بين نهاية السور والبحر، ورأوا أنه من الممكن الوصول إلى داخل المدينة من هذه الفجوة، فدخلوها من فورهم، من ناحية الكنيسة القديمة، وهو مكان مرتفع يقع في الشمال الغربي من المدينة، وقد أعملوا سيوفهم في رقاب الروم، وعلت أصواتهم بالتهليل والتكبير، وسمع عمرو، وبقية المسلمين، تكبير إخوانهم داخل السور، فأسرعوا إليهم، وتكاثر المسلمون، وعلت سيوفهم رقاب الروم، فذهلوا وذعروا، فلم يسعهم إلا الفرار، وتدافعوا إلى الطرقات المؤدية إلى السفن الراسية على شاطيء المدينة، ناجين بأنفسهم إلى عرض البحر، ففتح المسلمون المدينة، وغنموا كل ما فيها، وكانت غنائم كثيرة، باعها عمرو، وفرّق ثمنها على المسلمين.
ولم يذكر أحد من المؤرخين أن الروم قاوموا المسلمين، حين اقتحموا عليهم المدينة، ويبدو أن سبب ذلك هو أثر مباغتة المسلمين للروم في دخول المدينة من مكان لا يتوقعونه، وفي زمان لا يتوقعونه، فاستسلموا للمسلمين بدون مقاومةٍ تُذْكَر.
وقد هدم المسلمون سور المدينة، لأنهم خافوا من انتقاض الروم.
وكان أهل حصن (سَبْرة) قد تحصّنوا، لما نزل عمرو على طرابلس، فلما امتنعوا عليه بطرابلس، أمنوا واطمأنوا، فلما فُتحت طرابلس، جنّد عمرو عسكرًا كثيفًا، وسيّره إلى سَبْرة، فصبّحوها، وقد فتح أهلها الباب، وأخرجوا مواشيهم لتسرح، لأنهم لم يكن بلغهم خبر فتح طرابلس، فوقع المسلمون عليهم، ودخلوا البلد مكابــرة، وغنمـــــوا ما فيه، وعادوا إلى عمرو.
وكان الجند، الذي جرّده عمرو لفتح سَبرة، من الخيل الكثيفة، التي بعثها من ليلته، لذلك استفاد فرسان عمرو من سرعة الحركة، فباغتوا أهل سبرة بالزمان، إذ وصلوا إلى المدينة قبل أن يتسامعوا بفتح طرابلس، فانهارت معنوياتهم، ولم يكن أمامهم مسلك يسلكونه غير الاستسلام.
لقد سبقت خيلُ عمروٍ الأخبارَ، فباغت فرسانه المدافعين عن سبرة، وشلّوا تفكيرهم، وأجبروهم على الاستسلام، وكان الفرسان فاتحو سبرة بقيادة عبد الله بن الزبير بن العوام.
ولا شك في أن أخبار حصار المسلمين لطرابلس وصلت إلى أهل سبرة (صبراتة)، وليس من المعقول أن يبقى المسلمون محاصرين لطرابلس نحو شهر، ولا تصل أخبارهم إليها، خصوصًا لما بينها وبين طرابلس من الروابط الوثيقة، ويظهر أنه لما طال حصار المسلمين لطرابلس، ظنّ أهل صبراتة أنهم لا يقدرون على فتحها، فاستكانوا لهذا الظن وأمنوا، وإذا عجز المسلمون عن فتح طرابلس -في ظنهم- فهم أعجز عن فتح صبراتة، لأن سورها أقوى من سور طرابلس، وسكانها أكثر من سكان طرابلس، فلم يهتموا لأمر المسلمين كثيرًا، ولم يعملوا على وقاية مدينتهم من إغارة المسلمين، فاستهانوا بالمسلمين، فكلّفتهم هذه الاستهانة غاليًا.
جـ ـ ولما انتهى المسلمون من فتح صبراتة، ساروا إلى (شَروس)، وهي أكبر عواصم البربر القديمة في جبل (نَفُوْسة)، التي كانت موجودة زمن الفتح الإسلامي، وما زالت خرائبها إلى اليوم، وكانت إحدى عواصم الجبل، وكانت تحتوي على نحو ثلاثمائة قرية، والعاصمة الأخرى هي (جادو).
وما زال المسلمــون يحاولون فتح شَروس حتى فتحـــوها، ولكننــا لا ندري هل فتحت صلحًا أو عَنْوة ؟ إذ لم يتطرّق إلى ذلك أحد المؤرخين وغيرهم.
وقبل أن يغادر عمرو مدينة سَرُوس (شَروس)، كتب إلى عمر بن الخطاب في المدينة المنورة، يستأذنه في فتح إفريقية (تونس): (إنا قد بلغنا طرابلس، وبينها وبين إفريقية تسعة أيام، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لنا في غزوها، فعل). فلم يوافقه عمر، وردّ عليه بكتاب هذا نصه: (لا، إنها ليست بإفريقيـة، ولكنها المفرِّقـــة، غادرة مغدور بهــا، لا يغزوها أحد ما بقيتُ).
وذلك أن أهلها كانوا يؤدون إلى ملك الروم شيئًا، فكانوا يغدرون به كثيرًا، وكان ملك الأندلس صالحهم ثم غدر بهم، وكان خبرهم قد بلغ عمر.
د ـ ولما أنجز عمرو فتح طرابُلس -بضم الباء واللام، أو بضم الباء وسكون اللام- وجّـــــــه بُسْــرَ بن أبي أرطأة العَامـــري القُرشي إلى (وَدَّان). وذلك في سنة ثلاث وعشرين الهجرية، فصالح أهلها على ثلاثمائة رأس وستين رأسًا من العبيد.
وبعد أن غادرهم بُسر، ارتدوا وبقوا على ردّتهم، إلى أن فتحهم عُقبة بن نافع سنة ست وأربعين الهجرية.
لقد فتح عمرو ليبيا: من بَرقة إلى صبراته، ومن بلاد الجنوب شَروس وزويلة، وودَّان، واستغرقت أعمال الفتح من سنة اثنتين وعشرين الهجرة إلى سنة ثلاث وعشرين الهجرية، وقد فتحت هذه البلاد عَنوة (بالحرب) إلا بَرقة وزويلة، فإنهما فُتحتا صلحًا.
وكان هدف فتح بَرْقة حماية البلاد المصرية، من تعرّض الروم برًا من الغرب، وكان هدف فتح زويلة هو حماية بَرقة من تعرّض الروم وحلفائهم الليبيين برًا من الجنوب والجنوب الغربي، وكان هدف فتح منطقة طرابلس هو حماية بَرْقة، من تعرّض الروم برًا من الغرب، وحماية منطقة زويلة من تعرّض الروم برًا من الغرب، وحماية منطقة زويلة من تعرّض الروم برًا من الشمال والشمال الغربي، وكان الهدف من فتح منطقة ودَّان، هو حماية منطقة طرابلس من الجنوب والجنوب الشرقي من تعرّض الروم وحلفائهم الليبيين بالمسلمين.
ولكن لم يكن فتح عمرو لليبيا فتحًا مستدامًا، بل انتقض كثير من أجزائها، فاستعاد المسلمون فتحها من جديد، ولكن الفضل الأول في فتحها كان لعمرو بن العاص.
وكان عمرو قبل مغادرته مصر، قد اتفق مع المقوقس أن يخبره بكـل ما يحدث بعده في مصر من حوادث مصيرية.. وبعد أن انتهى عمرو من فتح شَروس، وقبل أن يرتحل عنها، أتاه كتاب من المقوقس، يذكر له فيه أن الروم يريدون نكث العهد، ونقض ما كان بينهم وبينه، وكان عمرو قد عاهد المقوقس ألا يكتمه أمرًا يحدث، فانصرف عمرو راجعًا مبادرًا لما أتاه، وعاد إلى مصر قبل مقتل عمر بن الخطاب في (27 ذي الحجة) من سنة ثلاث وعشرين الهجرية، وترك عقبة بن نافع في زويلة، ليُتِمَّ فتحها سنة ثلاث وعشرين الهجرية، ووصل برقة قبل مقتل عمر بن الخطاب.
5 ــ في النُّوبَــة
لما فتح المسلمون مصر، غزوا النُّوبَة، فقفل المسلمون بالجراحات، وذهاب الحَدَق من جودة الرّمي، فسمّوا رماة الحَدَق، فقد أراد عمرو أن يؤمِّن مصر من الجنوب، فبعث عُقبة بن نافع الفهري، فدخلت خيول المسلمين النوبة، كما تدخل صوائف الروم، فلقي المسلمون بالنوبة قتالاً شديدًا. لقد لاقاهم النوبيون، فرشقوهم بالنّبل، حتى جرح عامتهم، فانصرفوا بجراحات كثيرة، وحَدَق مفقوءة، فسمي النوبيون (رماة الحَدَق)، ولم يصالحهم عمرو، ودأب على مهاجمتهم بين حين وآخر، حتى عُزل عن مصر، وولي عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، فصالحهم، فكانت بينهم وبين المسلمين هُدنة، يعطيهم المسلمون شيئًا من القمح والعدس، ويعطيهم النوبيون رقيقًا.
وقد ذكر شيخ من حِمْيَر قال: (شهدت النوبة مرتين، في ولاية عمر بن الخطاب، فلم أر قومًا أحَدّ في حرب منهم! لقد رأيت أحدهم يقول للمسلم: أين تحبّ أن أضع سهمي منك ? فربما عبث الفتى منّا، فقال: في مكان كذا! فلا يخطئه!! كانوا يكثرون الرمي بالنبل، فما يكاد يُرى من نبلهم في الأرض شيء! فخرجوا إلينا ذات يوم فصافُّونا، ونحن نريد أن نجعلها حملة واحدة بالسيوف، فما قدرنا على معالجتهم; رمونا حتى ذهبت الأعين، فعُدّت مائة وخمسين عينًا مفقوءة، فقلنا: ما لهؤلاء خير من الصلح، إن سلبهم لقليل، وإنّ نكايتهم لشديدة، فلم يصالحهم عمرو، ولم يزل يكالبهم حتى نُزع، وولي عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، فصالحهم.
وقد فُتحت مصر سنة عشرين الهجرية، كما ذكرنا، والتعرّض بالنوبة الأول بقيادة عقبة بن نافع، لابد أن يكون بعد فتح الصعيد، فمن الواضح أن التعرض الإسلامي بالنوبة كان سنة إحدى وعشرين الهجرية، لأن عقبة بعد ذلك أصبح ميدان جهاده في ليبيا، كما ذكرنا، ولم يعد إلى مصر قائدًا، بل تولّى إفريقية، واقتصر نشاطه العسكري على تلك المناطق والأصقاع. وهكذا كان عمرو أول من فكّر في فتح النوبة، ومهد لفتحها.
6 ــ في إفـريقيــة
تولى عثمان بن عفان الخلافة بعد مقتل عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، وذلك سنة أربع وعشرين الهجرية.
وكان عمرو قد استأذن عمر بن الخطاب في غزو إفريقية، فلم يوافق عمر على فتحها كما ذكرنا، وكان عمرو قد بعث بعثًا قبل سنة خمس وعشرين الهجرية إلى المغرب، فأصابوا غنائم، فكتب إلى عثمان يستأذنه في الغزو إلى إفريقية، فأذن له، أي أن هذا البعث إلى إفريقية كان سنة أربع وعشرين الهجرية كما يبدو، أي بعد تولية عثمان الخلافة.
وفي سنة خمس وعشرين الهجرية، سيّر عمرو بن العاص إلى أطراف إفريقية عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح غازيًا بأمر عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وكان عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح من جند مصر، ولما ســـار عبد الله إليها، أمدَّه عمرو بالجنود، فغنم هو وجنده، وعاد عبد الله إلى مصر، فكتب إلى عثمان، يستأذنه في غزو إفريقية، فأذن له في ذلك.
وكانت قوة عبد الله بن سعد بن أبي سرح على الخيل، أي أنها كانت مؤلفة من الفرسان سريعي الحركة، فكانت غزوته هذه غزوة استطلاعية، مهّدت له السبيل لفتح إفريقية، بعد أن تولّى مصر، خلفًا لعمرو بن العاص، سنة خمس وعشرين الهجرية، أو في سنة ست وعشرين الهجرية، أو في سنة سبع وعشرين الهجرية.
وقد ذكرنا من قبل، أن عمرو بن العاص، كان أول من فكّر بفتح إفريقية من القادة المسلمين، وذلك لحماية ليبيا من تعرّض الروم وحلفائهم، بالمسلمين الذين فتحوا طرابلس والبلاد التي حولها من جهة إفريقية، لأن الروم حينذاك كانوا هناك، وكان المسلمون يخشون تعرضًا بريًا من الغرب باتجاه طرابلس، لاستعادة ليبيا من المسلمين، ولكن عمر بن الخطاب، كان يحرص غاية الحرص على أرواح المسلمين، ولا يحب أن يعرّض المسلمين للأخطار.
إلا أن الأحداث بعد مقتل عمر بن الخطاب، وتولي عثمان بن عفان الخلافة، فرضت نفسها على المسلمين، نظرًا لمحاولة الروم وحلفائهم استرداد ليبيا بمهاجمتها برًا وبحرًا، فسمح عثمان للمسلمين بفتح إفريقية.
 

أم هنا وريهام

مشرف عام
إنضم
6 يناير 2012
المشاركات
873
النقاط
16
الإقامة
المنصوره
احفظ من كتاب الله
ماتيسر من القران
احب القراءة برواية
حفص
القارئ المفضل
المنشاوى
الجنس
اخت
الإنـســـــــان
1 ـ الـوالــي

لما أسلم عمرو، قرّبه النبي صلى الله عليه و سلم، لمعرفته، وشجاعته، وولاّه غُزاة ذات السلاسل، واستعمله على عُمان، فمات النبي صلى الله عليه و سلم، وهو أميرها، قال عمرو: بعث إليّ النبي صلى الله عليه و سلم، فقال: (خذ عليك ثيابك وسلاحك، ثم ائتني). فأتيته، فقال: (إني أريدُ أن أَبْعَثَك على' جيش، فَيُسَلِّمَك ا$ُ، ويُغْنِمَك، وأرغبُ لك من المال رغبةً صالحة). فقلتُ: يا رسولَ الله! ما أسلمتُ من أجل المال، بل أسلمتُ رغبةً في الإسلام. فقال: (يا عمرو! نَعِمًا بالمالِ الصالح ِللمرءِ الصالح).
وكان النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، يقول عن عمرو: (عمرو ابن العاص من صالحي قريش)، فقد أسلم عمرو وحسن إسلامه، وأخلص لدينه، وكان إيمانه راسخًا، حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم في عمرو: (أسلم الناسُ وآمن عمرو بن العاص).
ولما قُبض رسول الله صلى الله عليه و سلم، بعثه أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، أميرًا من أمراء الشام، فشهد معارك فتح الشام في أيام أبي بكر الصديق، قائدًا وإداريًا.
وولاّه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فلسطين، والأردن، ثم كتب إليه أن يسير إلى مصر، ففتحها عمرو، فولاّه مصر، إلى أن مات عمر بن الخطاب.
لقد كان عمر، إذا استعمل عاملاً، كتب عليه كتابًا، وأشهد عليه رَهْطًا من الأنصار، أن لا يركب بِرْذَوْنًا، ولا يأكل نقيًّا، ولا يلبس رقيقًا، ولا يغلق بابه دون حاجة المسلمين.. وكان يكتب إلى أمراء الأمصار: (بأنّ لكم معاشر الولاة، حقًا على الرعيّة، ولهم مثل ذلك، فإنه ليس من حلمٍ أحبّ إلى الله، ولا أعمّ نفعًا، من حِلم إمام ورِفْقِه، وأنه ليس جهل أبغض إلى الله، ولا أعم ضررًا، من جَهْل إمام وخُرْقِه، وإنه مَنْ يطلب العافية فيمن بين ظهرانيه، يُنزل ا$ُ عليه العافيةَ من فوقه).
وكان عمر يقول: (مَن استعمل رجلاً لمودّة أو لقرابة، لا يُشغله إلاَّ ذاك، فقد خان ا$َ ورسولهَ والمؤمنين)، وكان يقول: (أيّما عامل لي ظَلَمَ أحدًا، فبلغني مظلمتُه، فلم أغيّرْها، فأنا ظلمتُه).
عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: (كنّا عند عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذ جاء رجل من أهل مصر، فقال: ىا أمير المؤمنين! هذا مقام العائذ بك. قال: وما لك؟ قال: أجرى عمرو بن العاص الخيل بمصر، فأقبلت فرس لي، فلمّا ترا آها الناس، قام محمد بن عمرو فقال: فرسي، وربّ الكعبة! فلما دنا مني عرفته، فقلتُ: فرسي وربّ الكعبة! فقام يضربني بالسوط، ويقول: خذها .. خذها .. وأنا ابن الأكرمين! فوالله ما زاد عُمَرُ على' أن قال: اجلس! ثم كتب إلى عمرو: (إذا جاءك كتابي هذا، فأَقْبِل، وأَقْبِل معك بابنك محمد. فدعا عمرو ابنه فقال: أحدثت حَدَثًا؟! أَجَنَيتَ جِناية؟! قال: لا. قال: فما بَالُ عُمَر يكتب فيك ? فقدما على عُمَر، فوالله إنّا لعند عمر بـ (مِنَى)، إذ نحن بعمرو، وقد أقبل في إزارٍ ورداء، فجعل عمر يلتفت، هل يرى ابنه، فإذا هو خلف أبيه، فقال: أين المصري ? فقال: ها أنا ذا. قال: دونك الدِّرَّة، اضربْ بها ابن الأكرمين .. اضربْ بها ابن الأكرمين.. اضرب بها ابن الأكرمين.. فضربه، حتى أثخنه، ثم قال: أجِلْها على صَلْعَة عمرو، فوالله، ما ضربك إلا بفضل سلطانه. فقال: يا أمير المؤمنين! لقد ضربتُ مَن ضَرَبَني. فقال: أما والله لو ضربته، ما حُلْنَا بَيْنَك وبينه، حتى تكون أنت الذي تدعــــــــه! يا عمرو! متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أحرارًا أُمُّهُم؟؟ ثم التفت إلى المصري فقال: انصرف راشدًا، فإن رابك ريبٌ فاكتب إليّ).
بل حاسب عمر بن الخطاب عَمْرًا، وقاسمه ماله، فقد كتب إلى عمرو: (من عبدِ الله عُمَرَ بن الخطاب، إلى عمرو بن العاص. سلام عليك. أما بعد، فإنه بلغني أنك فشت لك فاشيةٌ من خيلٍ، وإبل، وغَنَم، وعبيد، وعهدي بك قبل ذلك أن لا مال عندك، فاكتب إليَّ مِن أين أصل هذا المال، ولا تكتُمْه).
فكان جواب عمرو: (من عمرو بن العاص، إلى عبد الله عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين. سلام عليك. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنه أتاني كتاب أمير المؤمنين، يذكر فيه ما فشا لي، وأنه يعرفني قبل ذلك، لا مال لي. وإني أُعْلِم أميرَ المؤمنين، أني ببلدٍ السِّعر به رخيص، وأني أُعالج من الحِرْفَة والزراعة ما يعالجه أهله، وليس في رزق أمير المؤمنين سَعَة، وبالله لو رأيت خيانتك حلالاً، ما خُنتُك، فأَقْصِر أيها الرجل، فإن لنا أحسابًا، هي خير من العمل لك، إن رجعنا إليها، عشنــا بها، ولَعَمْـري! إن عنــدك من يَذُمّ معيشتـــه، ولا تُذَمّ له. وذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين، مَنْ هو خير مني، فأنَّى كان ذلك، ولم نَفْتَح قُفْلَك، ولم نَشْرِكْك في عملك).
فكتب إليه عمر: (أما بعد، فإني والله ما أنا من أساطيرك التي تُسَطِّر، ونَسْقك الكلام في غير مَرجع، وما يُغني عنك أن تُزَكِّي نَفْسَك، وقد بعثتُ إليك محمد بن مسلمة، فشاطِرْه مالك، فإنّكم أيها الأمراء جلستم على عيون المال، ثم لم يُعوزكم عُذْر، تجمعون لأبنائكم، وتُمَهِّدون لأنفسكم، أما إنّكم تجمعون العار، وتُوَرِّثون النار، والسلام).
فلما قدم عليه محمد بن مسلمة، صنع له طعامًا كثيرًا، فأبى' محمد بن مَسْلَمة أن يأكل منه شيئًا، فقال له عمرو: (اتحرِّمون طعامنا؟) فقال: (لو قَدَّمتَ إليّ طعامَ الضَّيف أكلتُه، ولكنّك قدّمتَ إليّ طعامًا هو تَقْدمة شرٍ! والله لا أشربُ عندك الماءَ، فاكتُبْ لي كُلَّ شيءٍ هو لك، ولا تكْتُمه)، فشاطره ماله بأجمعه، حتى بقيت نعلاه، فأخذ إحداهما وترك الأخرى.. وقد قاسم عمر بن الخطاب أموال كثير من عماله، ممن هو أفضل من عمرو إيمانًا وسابقة، ولم يقتصر على مقاسمة عمرو وحده.
لقد كان عمـــر بن الخطاب، إذا نظــر إلى عمـــرو يمشـــي يقـول: (ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرًا).
وكان عمر بن الخطاب، إذا استضعف رجلاً في رأيه وعقله، قال: (أشهد أن خالقك، وخالق عمرو واحد)، يريد خالق الأضداد.
وكان عمر بن الخطاب، إذا رأى الرجل يتلجلج، يقول: (أشهد أن خالقَ هذا وخالقَ عمرو بن العاص واحد).
ولعل في ذكر بعض إنجازاته العظيمة في مصر، ما يسوِّغ اختياره واليًا من عمر بن الخطاب على مصر، وهو المعروف بحرصه الشديد على اختيار الرجل المناسب للعمل المناسب.
فقد فتح عمرو مصر كلها، وفتح ليبيا كلها، كما ذكرنا، وليس هذا الفتح الواسع بقليل، وقد بنى' مدينة الفسطاط.. ولسبب تسمية مصر بالفسطاط أقوال كثيرة، منها: أن عَمرًا لما أراد التوجه لفتح الإسكندرية أمر بنزع فسطاطه (خيمته)، فإذا فيه يمامة قد فَرخت، فقال عمرو: (لقد تحرّم منّا بمتحرّم)، فأمر به، فأُقِرَّ كما هو، وأوصى به صاحب القصر، فلما قفل المسلمون من الإسكندرية قالوا: أين ننزل؟، قالوا: الفُسطاط -يعنون فسطاط عمرو، الذي خلّفه بمصر، مضروبًا لأجل اليمامة، فغلب عليه ذلك.
ولما رجع عمرو من الإسكندرية سنة إحدى وعشرين الهجرية، نزل موضع فسطاطه، وتنافست القبائل بعضها مع بعض في المواضع، فولَّى' عمرو معاويةَ بن حُديج وغيره على الخطط، وكانوا هم الذين نزّلوا الناس، وفصلوا بين القبائل، وذلك في سنة إحدى' وعشرين الهجرية.
كما بنى عمرو جامع عمرو بن العاص بالفُسطاط، وكان موضعه خانًا، فلما رجعوا من الإسكندرية بعد فتحها، سأل عمرو صاحبه أن يجعله مسجدًا، فقال له صاحبه: (إني أتصدّق به على المسلمين)، وسلّمه إليهم، فبُني الجامع سنة إحدى وعشرين الهجرية، وكان طوله خمسين ذراعًا في عرض ثلاثين ذراعًا، ويقال: إنه وقف على إقامة قِبْلَتِه ثمانون رجلاً من الصحابة. ولم يكن لهذا المسجد محراب مجوّف، فجُعل له محراب مجوّف بعد عمرو. وكان للمسجد بابان يقابلان دار عمرو بن العاص، وبابان في بحريّه، وبابان في غربيّه، وكان الخارج من شارع القناديل، يجد ركن الجامع الشرقيّ محاذيًا لرُكْنِ دار عمرو الغربيّ، وكان طُولُه من القِبْلَة إلى البحريّ مثلَ طولِ دار عمرو، وسقْفُه مطأطأ جدًا، ولا صَحْنَ له، وكان الناس يصطفون بفنائه، وكان بينه وبين دار عمرو سبعة أذرع، وكان الطريق محيطًا به من جميع جوانبه، وكان عمرو قد اتخذ منبرًا، فكتب إليه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يَعْزم عليه في كسره، ويقول: (أما بحسبك أن تقوم قائمًا، والمسلمون تحت عَقِبَيْك)، فكسره عمرو.
وجعل عمرو أهل مصر، أهل ذمة، فوضع عليهم الجزية في رقابهم، والخراج في أرضهم، وكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب. فأجازه، ولم يقسم الأرض بأمر عمر، الذي كتب إليه: (أقرّها حتى يغزو منها حَبَلُ الحَبَلة).
وجمع عمرو الفَعَلة، واحتفر الخليج، الذي بحاشية الفسطاط، الذي يقال له: خليج أمير المؤمنين، فساقه من النيل إلى (القُلْزُم)، فلم يأت الحول، حتى جرت به السُّفن، فحمل فيه ما أراد من الطعام إلى المدينة ومكة، ثم لم يزل يُحمل فيه الطعام، حتى حمل فيه بعد عمر بن عبد العزيز، ثم ضيّعته الولاة بعد ذلك، فتُرِكَ وغَلب عليه الرمل، فانقطع، فصار مُنْتَهَاه إلى ذنب (التِمْساح)، من ناحية (طحا) القُلْزُم.
ولكن أهم ما أنجزه عمرو في المجالات الإدارية وغيرها،، هو إدخال العربية لغة، والإسلام دينًا، في مصر وليبيا.. وفي غير هذين القُطْرين العربيّين المسلمَيْن، مما فتح من الأقطار شرقًا وغربًا، امتدت من عُمان على الخليج العربي شرقًا إلى بلاد الشام على البحر الأبيض المتوسط غربًا، فكان فَتْحُهُ فَتْحًا مُسْتَدَامًا من أيامه الأولى'، حتى' اليوم، وسيبقى كذلك حتى' يَرِثَ ا$ُ الأرضَ ومَنْ عليها، لأنه كان فتح مبادئ، يعتمد اللغة والدين، ولم يكن استعبادًا، يعتمد السيف والقهر.
فقد أسر المسلمون في مصر من الروم والقبط، فأمر عمرو بردّهم إلى قراهم، وصيّرهم أهل ذمة، على أن يخيّروهم بين الإسلام وبين دينهم، فإن أسلم فهو من المسلمين له ما لهم، وعليه ما عليهم، وإن اختار دينه فيُعاد إلى قريته.
ولما انتهى المسلمون إلى (بَلْهيب)، في طريقهم بعد فتح الإسكندية، أرسل صاحب الإسكندرية إلى عمرو: (إني كنتُ أخرج الجزية إلى مَن هو أبغض إليّ منكم معشر العرب، لفارس والروم، فإن أحببتَ أن أعطيك الجزية، على أن ترد ما أصبتم من سبايا أرضي، فعلتُ).
وبعث إليه عمرو: (إن ورائي أميرًا لا أستطيع أن أضع أمرًا دونه، فإن شئت أن أمسك عنك، وتُمسك عني، حتى أكتب إليه بالذي عرضتَ عليّ، فإن قبل ذلك منك قبلتُ، وإن أمرني بغير ذلك مضيتُ لأمره)، فوافق صاحب الإسكندرية.
وكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب، وكان لا يُخفون على الجند كتابًا كتبوا به، يذكر له الذي عرض عليه صاحبُ الإسكندرية، وقال: (... وفي أيدينا بقايا من سَبْيهم). وجاء جواب عمر، وفيه: (أما بعد. فإنه جاء في كتابك تذكر أن صاحب الإسكندرية عرض أن يعطيك الجزية، على أن تردّ عليه ما أصيب من سبايا أرضه، ولَعمري لَجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين، أحبّ إلينا من فَيءٍ يُقسم، ثم كأنه لم يكن، فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية، على أن تُخيِّروا مَن في أيديكم مِن سَبْيهم، بين الإسلام، وبين دين قومه، فمن اختار منهم الإسلام، فهو من المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومَنْ اختار دين قومه، وُضع عليه من الجزية ما يُوضع على أهل دينه...).
وجمع المسلمون ما بأيديهم من السبايا، واجتمعت النصارى'، فيتقدم الرّجل من السبايا، ويُخيّر بين الإسلام والنصرانية، فإذا اختار الإسلام كبّر المسلمون، ثم يضمّه المسلمون إلى صفوفهم، وإذا اختار النصرانية، نخرت النصارى، ثم حازوه إليهم، وقد كان بين السبايـا، أبو مريم عبد الله بن عبد الرحمن، الذي اختار الإسلام، فأصبح عريف زُبَيْد، فقد عرض المسلمون عليه الإسلام، وعرض عليه النصارى النصرانية، وأبوه وأمه وإخوته في النصارى، فاختار الإسلام.
وحين حاصـر عمـرو حصـن بابليـون، أرسـل إلى حُماة الحصــن: (لا تعجِّلونا لنعذر إليكم، وترون رأيكم بعد)، فكَفُّوا أصحابهم، وأرسل إليهم عمرو: (إني بارز، فليبرز إليّ أبو مريم وأبو مريام)، فأجابوه إلى ذلك، وآمن بعضهم بعضًا، فقال لهم عمرو: (أنتما راهبا هذه البلدة، فاسمعا: إن الله عز وجل بعث محمدًا صلى الله عليه و سلم بالحق، وأمره به، وأمرنا به محمد صلى الله عليه و سلم، وأَدَّى' إلينا كل الذي أُمر به، ثم مضى صلوات الله عليه ورحمته، وقد قضى' الذي عليه، وتركنا على الواضحة، وكان ممّا أمرنا به الإعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومَن لم يجبنا عَرَضنا عليه الجزية، وبذلنا له المنعة، وقد أَعْلَمَنَا أنَّا مُفْتَتِحُوكُم، وأوصانا بكم حِفْظًا لرَحِمنا فيكم، وإنَّ لكم إن أجبتمونا بذلك ذمَّةً إلى ذمَّةً. ومما عهد إلينا أميرنا: استوصوا بالقِبْطِيِّين خيرًا، فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم أوصانا بالقبطيِّين خيرًا، لأن لهم رَحمًا وذمة).. فما تمّ الفتح، أوكاد، إلا وكان من أهل مصر في جيش عمرو جنود، بلغ قسم منهم رتبة عريف على إخوانه العرب الأقحاح المسلمين.
فلا عجب أن يكون القِبط لعمرو أعوانًا، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط لفتح الإسكندرية، فعاونوا المسلمين معاونات عسكرية وإدارية، ساعدتهم على الفتح، ولم ينقض القبط ولا المقوقس الصلح، الذي عقدوه بينهم وبين الفاتحين، كما نقض الروم، لأن القبط أعجبوا بعدل المسلمين بقدر كُرههم لظلم الروم، وهذا ما يقرره المؤرخون المسلمون، والأقباط القُدامى'، ولا عبرة لادعاءات غير المنصفين من المستشرقين والمؤرخين الأجانب المحدثين، فوراء ادعاءاتهم تحيّز للنصرانية، يناقض الموضوعية وحوادث التاريخ.
والحق أن عَمْرًا أثبت كفاية إدارية فذة في ولايته لمصر، ولو كانت محاسبة عمر بن الخطاب لعمرو على المال، كما ذكرنا، لخيانة عمرو في أمانته على المال، لما أبقاه لحظة واحدة على مصر، وقد حاسب عمر بن الخطاب كل عماله أشد الحساب على المال، ومنهم مَن هو أفضل من عمرو سابقة، وتدينًا، وورعًا، وتقوى، ولكن عُمر كان يحب أن يبقى' عماله مثلاً رفيعًا في النقاء، والبعد عن الشبهات، حتى يكونوا موضع ثقة رعيتهم الكاملة المطلقة، فهو يحاسبهم حرصًا عليهم ورغبة في استكمال سيطرتهم على رعيتهم، وتبادل الثقة الكاملة المطلقة، بين الحكام والمحكومين.. والثقة المتبادلة، أهم كثيرًا من المال، وأجدى للحاكم والمحكوم.
وأقره عثمان بن عفان، رضي الله عنه، على مصر أربع سنين، أو نحوها، ثم عزله عنها، وولاّها عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح العامري، فقد بويع عثمان بالخلافة، في شهر المحرّم لثلاث مضين منه، سنة أربع وعشرين الهجرية.. وعزل عثمان عن مصر عَمْرًا سنة سبع وعشرين الهجرية، فقد عُزل عمرو عن خَرَاج مصر سنة سبع وعشرين الهجرية، واستُعمل عليه عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، وكان أخا عثمان من الرضاعة، فتباغيا، وكتب عمــرو إلى عثمــان يقـول: (إن عبد الله قد كسر عليّ مكيدة الحرب)، وكتب عبد الله بن سعد إلى عثمان: (إن عَمرًا كسر عليّ الخراج)، فعزل عثمان عمرًا، واستقدمه، واستعمل بدله عبد الله على حرب مصر وَخَرَاجها.
ولم يعد إلى مصر من جديد حتى سنة ثمان وثلاثين الهجرية، فقد سيّره معاوية بن أبي سفيان إلى مصر، فاستنقذها من محمد بن أبي بكر الصديق، عامل عليّ بن أبي طالب على مصر، فاستعمله معاوية عليها إلى أن مات.
لقد عمل عمرو على مصر لعمر بن الخطاب سنتين، ولعثمان بن عفان أربع سنين إلا شهرين، ولمعاوية بن أبي سفيان سنتين إلا شهرًا، ثم مات عمرو، فانتهت بموته حياة فاتح من أعظم الفاتحين، وإداري من ألمع الإدرايين، بعد أن نهض بواجبه في الفتح والإدارة على أحسن وجه، إذ لا يمــاري أحــد في أهميـة فتوحــاته، وبقــائهـا على الدهــر، ولا يجادل عاقل في قابليته الإدارية الفذّة، وقد سجّل عمرو صفحات ناصعة في تاريخ الإسلام، فاتحًا وإداريًا، كما أن صفحاته مشرقة في سائر تواريخ الأمم الأخرى، شرقية وغربية، وقديمًا وحديثًا
2 ـ العَـالِــم
كان عمرو، عالمًا من علماء الدين الحنيف، قدّمه في العلم -على الرغم من تأخر إسلامه- ذكاؤه، وحرصه على' التعلّم من النبي صلى الله عليه و سلم، وأصحابه العلماء، وإتقانه القراءة والكتابة، وكان إتقانهما في أيامه نادرًا في أمة تفشّت فيها الأمية، فقد كان عمرو أحد كتاب النبي صلى الله عليه و سلم.

وقد رَوى' عن النبي صلى الله عليه و سلم تسعةً وثلاثين حديثًا، أو سبعةً وثلاثين حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة أحاديث، ولمسلم حديثان، وللبخاري بعض حديث، وروى عنه أبو عثمان النَّهدي، وقيس بن أبي حازم، وعروة بن الزبير، وعبد الرحمن بن شَماسة (بفتح الشين وضمّها)، كما روى عنه ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص، ومولاه أبو قيس، وعلي بن رَباح اللَّخْمي، ومحمد بن كعب القُرظي، وعمارة بن خُزيمة بن ثابت، وغيرهم، وروى عن عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها.
وكان متفقهًا في الدين، يدل على ذلك معاملته للأسرى والسبايا، وفرضه الجزية والخراج، كما تدل على ذلك نصوص العهود، التي عقدها مع أهل البلاد المفتوحة، وبخاصة في مصر، ومعاملته أهل الذمة، وعرضه تعاليم الفتح في الإسلام: الإسلام، أو الجزية، أو القتال.
وكان مجتهدًا في الدين; اجتهد على عهد النبي صلى الله عليه و سلم، واجتهد بعد التحاق النبي عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى.
ومن اجتهاده على عهد النبي صلى الله عليه و سلم، ما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، قال عمرو: (احتلمت في ليلة باردة، شديدة البرد، فأَشْفَقْتُ إن اغْتَسَلْتُ أن أَهْلِك، فتيمَّمْتُ، ثم صليتُ بأصحابي صلاةَ الصُّبْح، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم، ذكرتُ ذلك له، فقال: (ياعمرو! صليتَ بأصحابك وأنت جُنُب) فقلتُ: نعم يا رسولَ الله! إني احتلمتُ في ليلةٍ باردةٍ، شديدةٍ البَرْدِ، فأشفقتُ إن اغتسلتُ أن أهلك، وذكرتُ قول الله عز وجل: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا )(النساء:29)، فتيمّمتُ ثم صليت! فضحك رسولُ الله صلى الله عليه و سلم، ولم يقلْ شيئًا)، وكان ذلك في سرية ذات السلاسل، التي كان من جنودها أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، رضي الله عنهم.
وكان عمرو يقول: (عَقِلْتُ عن رسولِ الله صلى الله عليه و سلم ألفَ مَثَل).
أما اجتهاد عمرو بعد التحاق النبي صلى الله عليه و سلم بالرفيق الأعلى، ففي سنة ثماني عشرة الهجرية، كان طاعـون عَمْواس، فلما اشتعل قام أبو عبيدة في الناس خطيبًا، فقال: ( أيها الناس إنّ هذا الوَجَع رحمةُ رَبِّكُم، ودعوةُ نَبِيِّكُم محمد صلى الله عليه و سلم، وموتُ الصالحين قَبْلَكُم، وإن أبا عبيدة، يسألُ اللهَ أن يقسم له منه حظّه)، فطُعن، فمات. واستُخلف على الناس مُعاذ بن جبل بعده، فقام خطيبًا، فقال: (أيها الناس! إنّ هذا الوَجَع رحمةُ ربكم، ودعوةُ نبيكم، وموتُ الصالحين قَبْلَكم، وإنّ معاذًا يسأل الله أن يقسم لآل معاذ منه حظهم)، فطُعــن ابنه عبد الرحمن ابن معاذ، فمات، ثم قام فدعا به لنفسه، فطُعن في راحته، فلقد رأيته ينظر إليها، ثم يُقَبِّل ظهر كفّه، ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيكِ شيئًا من الدنيــا)، فلما مــات; استُخـلف على الناس عمـــرو ابن العاص، فقام خطيبًا في الناس فقال: (أيها الناس! إن هذا الوجع إذا وقع، فإنما يشتعــل اشتعال النــار، فتجبَّلوا منه في الجبــال)، فقــال أبو وائلة الهُذَلي: (كَذَبْتَ، والله لقد صحبتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم، وأنت شر من حماري هذا)، قال عمرو: (والله ما أردّ عليك ما تقــول! وأيمُ الله لا نقيم عليه)، ثم خرج، وخرج الناس فتفرّقوا، ورفعه الله عنهم، فبلغ ذلك عمــر بن الخطاب من رأي عمــرو بن العـاص، فــوالله ما كرهه.
وقد اختلف هؤلاء الصحابة الكرام في اجتهادهم، ولكن عمر بن الخطاب أقرّ عمرًا على اجتهاده.
وقد كان عمرو يروي عن النبي صلى الله عليه و سلم، أنه قال: (إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم واجتهد، ثم أخطأ، فله أجر ).
وعن عمرو بن العاص، قال: (جاء رسولَ الله صلى الله عليه و سلم خصمان يختصمان، فقال لعمرو: (اقض بينهما يا عمرو!) فقال: أنت أولى بذلك مِني يا رسول الله! قال: (وإن كان ). قال: فإذا قضيتُ بينهما فما لي؟ قال: (إن أنت قضيتَ بينهما، فأصبتَ القضاء، فلك عَشْرُ حسنات، وإن أنت اجتهدتَ فأخطأتَ، فلك حَسَنَة). وتكليفه بالقضاء من النبيصلى الله عليه و سلم، دليل على متانته في الفقه، وذكائه، وحصافته.
وكان عمرو من أصحاب الفُتيا من الصحابة، وكفى بذلك دليلاً على علمه.
وقد وصفه رجلٌ فقال: (صحبتُ عمرو بن العاص، فما رأيتُ رجلاً أبينَ قرآنًا، ولا أكرمَ خُلُقًا، ولا أشبهَ سريرة بعلانية منه).
لقد كان عمرو عالمًا من علماء الدين، تلقّى علمه من النبي صلى الله عليه و سلم، وكان قارئًا للقرآن الكريم، محدثًا، فقيهًا، مجتهدًا في الدين، من أصحاب الفتيا من الصحابة، ومن قضاة المسلمين الأولين.
3 ـ الكـاتـب
كان عمرو كاتبًا بليغًا، في نثره ونظمه، ولعلّ كتابه إلى عمر بن الخطاب يصف فيه مصر بعد فتحها، يُعدّ من أبلغ الرسائل، ليس في العربية فقط، بل في كل لغات العالم.
فقد كتب عمر بن الخطاب، إلى عمرو: (أنْ صِفْ لي مصر)، فكتب إليه عمرو: (ورد كتابُ أمير المؤمنين -أطال الله بقاءه- يسألني عن مصر: اعلم يا أمير المؤمنين! أن مصر قرية غَبْراء، وشجرة خضراء، طولُها شهر، وعَرْضها عَشْر، يكنُفُها جَبَل أغْبر، ورَمْل أعْفَر، يخطُّ وسَطَها نيلٌ مباركُ الغُدُوات، ميمونُ الرَّوْحات، تجري فيه الزيادة والنقصان، كجَرْي الشمس والقمر، له أوانٌ يدرُّ حِلابُهُ ، ويكثر فيه ذُبابه، تمدّه عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا ما اصْلَخَمَّ عَجَّاجُه، وتعظّمت أمواجُه، فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلّص من القُرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب، وخِفاف القوارب، وزَوَراق كأنهنّ في المخايل وُرْقُ الأصائل، فإذا تكامل في زيادته نَكَص على عَقِبيه كأول ما بدأ في جَرْيته، وطَمَا في دِرَّته، فعند ذلك تخرج أهلُ مِلَّة محقورة، وذمّة مخفورة، يحرثون في الأرض، ويبذرون في الحَبِّ، يرجون بذلك النّماء من الرّب، لغيرهم ما سَعَوا من كدِّهم، فناله منهم بغير جِدّهم، فإذا أحدق الزرع وأشرق، سقاه النّدى، وغذاه من تحته الثّرى'، فبينما مصرُ يا أميرَ المؤمنين لؤلؤة بيضاء، إذا هي عَنْبَرة سوداء، فإذا هي زُمُرُّدة خضراء، فإذا هي ديباجة رَقْشَاء، فتبارك ا$ُ الخالق لما يشاء، والذي يُصلحُ هذه البلاد وينمّيها، ويُقرّ قاطنيها فيها، أَلاَّ يُقْبَل قول خسيسها في رئيسها، وألاَّ يُسْتَأدى خراجُ ثمرة إلا في أوانها، وأن يُصرْف ثلثُ ارتفاعها في عمل جسورها وتُرعها، فإذا تقرّر الحال مع العمّال على هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال، واللهُ تعالى يوفّق في المبدأ والمآل). فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: (لله دَرُّك يا ابن العاص! لقد وصفت لي خبرًا، كأني أشاهده).
وليست هذه الرسالة أبلغ رسائل عمرو، ولكنّها من أبلغها، وأمثالها من رسائله كثير.
وفي سنة ثمان وعشرين الهجرية، فتح معاوية بن أبي سفيان جزيرة (قُبْرُس) المعروفة في البحر الأبيض المتوسط، وكان معاوية قد لجّ على عمر بن الخطاب في غزو البحر، وقرب الروم من مدينةِ حِمْصٍ، وقال: (إن قرية من قرى حِمص ليسمع أهلها نُباح كلابهم، وصياح دجاجهم)، حتى كاد ذلك يأخذ بقلب عمر، فكتب إلى عمرو بن العاص: (صف لي البحر وراكبه، فإنّ نفسي تنازعني إليه)، فكتب عمرو إلى عمر: (إني رأيت خَلْقًا كبيرًا يركبه خلْقٌ صغير، إن رَكُن خَرَق القلوب، وإن تحرّك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قِلَّة، والشكّ كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غَرِق، وإن نجا بَرِق)، فلما قرأه عمر، كتب إلى معاوية: (لا والذي بعث محمدًا بالحق، لا أحمل فيه مسلمًا أبدًا).
إنّ بلاغته مؤثِّرة في العقول والقلوب معًا، ولو اقتصر همّ عمرو على النثر الفني، لكان له شأن عظيم من كتاب العربيّة اللامعين.
4 ـ الشاعـــر
رُويت لعمرو آثار في الشعر، تسلكه بين الشعراء، قال في يوم أُحُد، وكان يومئذ مُشركًا:
خَرَجْنا من الفَيْفَا عليهم كأنّنا
مع الصُّبْحِ من رَضْوَى الحَبِيكُ المُنَطَّقُ
تَمَنَّتْ بنو النَّجَّار جَهْلاً لقاءَنَا
لَدى جَنْبِ سَلْـعٍ والأَمانِيّ تَصْـــدُقُ
فما راعَهُمْ بالشرِّ إلا فُجَاءَةً
كرادِيْسُ خَيْـــــلٍ في الأزِقّة تَمْــــرُقُ
أرادوا لِكَيْما يَسْتَبِيْحُوا قِبَابنا
وَدُونَ القِبَــابِ اليــــــومَ ضَرْبٌ مُحَـــــرِّقُ
وكانت قِبَابًا أُومِنَــــت قَبْلَ ما تَرى
إذا رَامَــهَا قَـــــوْمٌ أُبِيْحُـــوا وأُحْنِقُــــوا
كـــــأنّ رُءوسَ الخَزْرَجِيِّيـــن غُــدْوةً
وأيمانـَهـــــم بالمَشْـــرَفيَّـــة بَــرْوَقُ
* وقال في يوم أُحُد أيضًا:
لمَّا رأيتُ الحَرْبَ يَنْزو شَرُّها بالرَّضْفِ نَــــزْوَا
تَنازَلَتْ شَهْبَاءُ تَلْحُو الناسَ بالضَّرَّاءِ لَحْـوَا
أَيْقَنْتُ أنّ المــوتَ حَـقٌ والحيــاةُ تكــونُ لَغْـــوَا
حَمَّلْتُ أثوابي على عَتَدٍ يَبُذُّ الخَيْلَ رَهْوَا
سلِسٍ إذا نَكَّبْنَ في البيداء يَعْلُو الطَّرْفَ عُلْوا
وإذا تَنَزَّلَ ماؤُهُ من عِطْفِهِ يَزْدَادُ زَهـــوا
رَبِذٍ كَيَعْفُورِ الصَّرِيمَةِ رَاعَهُ الرَّامونَ دَحْــوا
شَنِجٍ نَسَاهُ ضابِطٍ للخَيْل إِرْخَـــاءً وَعَـــدْوا
فِفِدًى لَهُمْ أُمِّي غَداة الرَّوع إذ يَمشُون قَطْوا
سَيْرًا إلى كَبْشِ الكتيبة إذْ جَلَتْهُ الشَّمْسُ جَلْوا
* وكان عُمارة بن الوليد، مع عمرو في أرض الحبشة، وعُمارة أخو خالد بن الوليد، فاختلف عمرو وعُمارة، فقال عمرو:
تَعَلَّمْ عُمَارُ أنّ من شرِّ شُبْهَةٍ
لِمِثلِكَ أنْ يُدْعى ابن عَمٍ له انتمى
لئن كُنتَ ذا بُرْدَيْنِ أحْوى مرجَّلاً
فلستَ براءٍ لابن عَمك مُحرما
إذا المرء لم يتركْ طعامًا يُحبّهُ
ولم يَنْهَ قلبًا هائمًا حيث يَمَّما
قَضَى وَطَرًا منه وغادر سُبَّةً
إذا ذُكِرَتْ أمثالُها تملأ الفَما
* وقال عمرو في حرب صّفِّين:
شُبّتِ الحربُ فأعددتُ لها
مفرغَ الحارك مَحْبوكَ السَّبَجْ
يَصِـــــلُ الشَّـدَّ بشـــدٍّ فـــإذا
وَفَتِ الخيل من الشدِّ مَعَجْ
جُرْشَــــــعٌ أَعْظَمُــــــهُ جَفْرَتُـــــــهُ
فإذا ابتلَّ من الماءِ حَدَج
* وكتب عمرو إلى معاوية بن أبي سفيان:
مُعاويَ لا أُعطيك دِيني ولم أَنَلْ
به منك دُنْيا فانْظُرَنْ كيف تَصْنَعُ؟
وما الدِّينُ والدنيا سواءٌ وإنّني
لآخـــذ ما تُعطــــي ورأســـــي مُقَنَّـــــــعُ
فإنْ تُعطني مِصْرًا فَأَرْبِحْ بِصَفْقةٍ
أخذتَ بها شيخًا يَضُرّ ويَنْفَعُ
* ومما يُعزى إلى عمرو قوله:
وأُغْضي على أشياءَ لو شِئتُ قُلْتُها
ولو قُلْتُها لم أُبْقِ للصُّلحِ موضِعا
فإنْ كان عُودِي من نُضارٍ فإنني
لأَكْرهُ يومًا أَنْ أُحطِّمَ خِرْوَعا
تلك نماذج قليلة من شعره، تدلّ على قابليته الشعرية المتميزة، وثراء رصيده اللّغوي بالكلمات العربية الفصحى الأصيلة، ولعّله لو تفرّغ للشعر، ولم تشغله حوادث الأيام بالحرب، والسياسة، والإدارة، لكان له شأن مرموق بين الشعراء الفحول.
وكان يَروي الشعر، ويلقيه على الأسماع، حين يجد إلى ذلك سبيلاً، ومن مَنقُوله لا من مَقُوله، ما ذكره لمعاوية بن أبي سفيان، أن بكّارة الهلالية، قالت:
يا زيدُ دونك فاسْتَشِرْ من دارنا
سَيْفًا حُسَامًا في التراب دَفِينا
قد كنتُ أَذْخَرُه ليومِ كريهةٍ
فاليوم أَبْرَزَهُ الزَّمانُ مَصُونا
ومن النادر أن يقول المرء شعرًا، إلا إذا حفظ كثيرًا من الشعر ورواه
 

أم هنا وريهام

مشرف عام
إنضم
6 يناير 2012
المشاركات
873
النقاط
16
الإقامة
المنصوره
احفظ من كتاب الله
ماتيسر من القران
احب القراءة برواية
حفص
القارئ المفضل
المنشاوى
الجنس
اخت
5 ـ الخطــيب
كان عمرو خطيبًا مصقعًا، من ألمع خطباء الصحابة، رضي الله عنهم، وقد شهد أحدهم خطبة لعمرو، فقال: (رحتُ أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة تهجيرًا، وذلك آخر الشتاء بعد حَميم النصارى بأيام يسيرة، فأطلنا الركوع، إذ أقبل رجال بأيديهم السِّياط، يزجرون الناس، فَذُعِرْتُ! فقلت: يا أبتِ! مَن هؤلاء؟! فقال: يا بُنيّ! هؤلاء الشُّرَط. فأقام المؤذنون الصلاة، فقام عمرو بن العاص على المنبر، فرأيت رجلاً رَبْعَةً، قصير القامة، وافر الهامة، أَدْعَج، أَبْلَج، عليه ثياب موشِيّة، كأن به العِقْيَان يأتلق، عليه حُلَّة وعمامة وجُبَّة، فحمد الله وأثنى عليه حمدًا موجزًا، وصلى على النبي صلى الله عليه و سلم، ووعظ الناس، وأمرهم ونهاهم، فسمعته يحضّ على الزكاة، وصِلَة الأرحام، ويأمر بالاقتصاد، وينهى عن الفُضول، وكثرة العيال، وقال في ذلك: (يا معشر الناس! إياكم وخلالاً أربعة، فإنها تدعو إلى النَّصَب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السَّعة، وإلى المذلّة بعد العزة، إياكم وكثرة العيال، وإخفاض الحال، وتضييع المال، والقِيل بعد القــال، في غيــر دَرَك ولا نوال، ثم إنّه لابد من فراغ يؤول إلىه المرء في توديع جسمه، والتدبير لشأنه، وتخليته بين نفسه وبين شهواتها، ومَن صار إلى ذلك، فليأخذ بالقَصْد والنّصيب الأقل، ولا يُضيع المرء في فراغه نصيب العلم من نفسه، فيحُور من الخير عاطلاً، وعن حلال الله وحرامه غافلاً.
(يا معشر الناس! إنه قد تدلّت الجوزاء، وذَكَتِ الشِّعْرى، وأقلعت السماء، وارتفع الوباء، وقلّ الندى، وطاب المَرْعى، ووضعت الحوامل، ودرجت السّخائل، وعلى الرّاعي بحسن رعيته حُسنُ النظر، فحَيَّ لكم على بركة الله إلى ريفكم، فنالوا من خيره، ولبنه، وخِرافِه، وصيده، وأَرْبِعوا خيلكم، وأسمنوها، وصونوها، وأكرموها، فإنها جُنَّتَكم من عدوكم، وبها مغنامكم، وأنفالكم، واستوصوا بمن جاورتموه من القِبط خيرًا، وإياكم والمشمومات والمعسولات، فإنهن يُفْسدن الدِّين، ويُقصِّرنَ الهِمم).
والذي يقرأ هذا الخطاب بإمعان، يتلمس بالإضافة إلى بلاغته وبيانه المشرق، وإيجازه، ووضوح مقاصده، اهتمام عمرو برعيّته، وتوجيههم إلى الصلاح والخير، واهتمامه بالناحيتين الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، فهو بحق رجل دولة بكل معنى الكلمة، يأمر الناس بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويشعر بمسؤولياته في توجيههم، توجيهًا سليمًا، يفيدهم في دنياهم وآخرتهم.
ومن نماذج خطبه في الحرب، خطبته في صِفِّين، فقد أراد معاوية ابن أبي سفيان أن يخطب بصِفِّين، فقال له عمرو: (دعني أتكلم، فإن أتيتُ على ما تريد، وإلا كنتَ من وراء ذلك)، فأذن له، وتكلّم عمرو بكلمات، قال: (قدِّموا المُسْتَلْئِمَة، وأخِّروا الحُسَّر.. كونوا مِقَصَّ الشَّارب.. أعيرونا أيديكم ساعة.. قد بلغ الحقُّ مَفْصِلَهُ، إنما هو ظالم، أو مظلوم).
ولا أعرف خطابًا في مثل هذا الموقف، أوضح بيانًا، وأجزل عبارة، وأوجز كلامًا، وأصحّ منطقًا، مثل هذا الخطاب، الذي اختصر به تعبية الميدان بكلمات معدودات.
6 ـ الداهيـــة
كان الإمام الشعبي رحمه الله يقول: دُهاة العرب أربعة: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمُغيرة بن شُعبة، وزياد. فأما معاوية فللحلم والأناة، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللكبير والصغير).
وقالوا: (الدُّهاة أربعة: معاوية للرَّوِيَّّة، وعمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة للمُعضلات، وزياد لكل صغيرة وكبيرة).
وكان من دهائه، دخوله على الأرطبون، وتخلّصه منه، بعد أن انكشف أمره للأرطبون، فلما سمع عمر بن الخطاب بخديعة عمرو للأرطبون، قال: (لله دَرُّ عمرو)، كما قال عنه الأرطبون: (هذا أدهى الخَلْق).
ولما فتح عمرو قيسارية من أرض فلسطين، سار حتى نزل غزة، فبعث إليه عِلْجُها: (أن ابعث إليّ رجلاً أكلمه)، وفكّر عمرو، فقال: (ما لهذا أحد غيري).
وخرج عمرو، حتى دخل على العِلْج، فكلّمه، فسمع كلامًا لم يسمع قط مثله، فقال العِلْج: (حدِّثني، هل في أصحابك أحد مثلك؟! قال: (لا تسأل عن هذا، إنّي هيّن عليهم، إذ بعثوا بي إليك، وعرّضوني لما عرّضوني له، ولا يَدْرون ما تصنع بي!) فأمر له بجائزة وكُسْوة، وبعث إلى البوّاب: (إذا مرّ بك، فاضرب عُنُقَه، وخذ ما معه).
وخرج عمرو من عنده، فمرّ برجل من نصارى غَسَّان، فعَرفه، فقال: (يا عمرو! قد أحسنت الدّخول، فأحسن الخروج).. ففطن عمرو لما أراده، فرجع، وقال له الملك: (ما ردّك إلينا) فقال: (نظرت فيما أعطيتني، فلم أجد ذلك يَسع بني عمّي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم، تعطيهم هذه العَطِية، فيكون معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد)، فقال: (صدقت! اعْجَل بهم)، وبعث إلى' البوّاب: (أن خلِّ سبيله)، وخرج عمرو، وهو يلتفت، حتى إذا أَمِــنَ، قــال: (لا عُدْتُ لمثلها أبدًا).. فلما صالحه عمرو، ودخل عليه العِلْج، قال له
frown.gif
أنت هو!!) قال: (نعم، على ما كان من غَدْرك).

وكرّر عمرو هذه العملية مرة ثالثة في أيام فتح مصر، فحين استعصى عليه فتح حِصن بابليون، أقدم على دخول الحصن، ودخل على صاحبه، فتناظرا في شيء مما هم فيه، فقال عمرو: (أَخْرُجُ أستشير أصحابي).
وكان صاحب الحِصن أوصى الذي على الباب، إذا مَرَّ به عمرو، أن يُلْقي عليه صخرة فيقتله، فمرّ عمرو وهو يريد الخروج برجل من العرب، فقال له: (قد دخلت، فانظر كيف تخرج).
ورجع عمرو إلى صاحب الحصن، فقال له
frown.gif
إني أريد أن آتيك بنفرٍ من أصحابي، حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعتُ)، فقال العِلْج في نفسه: (قَتْلُ جماعة أحبّ إليّ من قَتْلِ واحد)، فأرسل إلى الذي كان أَمَرَهُ بما أَمَرَهُ من قتل عمرو: (ألا تَعْرِضْ له)، رجاء أن يأتيه بأصحابه فيقتلهم.

وخرج عمرو، وتخلّص من موتٍ أكيدٍ بِدَهَائه.
ومهما قيل في إثبات هذه المحاولات الثلاث، أو نفيها، فإنها تدل على ما عُرف عنه من دهاء، إذ لم تنسب مثل هذه الحالات لغيره من القادة والولاة.
وخطب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أم كُلثوم ابنة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، فقالت أم كلثوم: (لا حاجة لي فيه، إنّه خَشِنُ العيش، شديد على النساء)، وأرسلت عائشةُ أم المؤمنين إلى عمرو، فقال: (أنا أكفيك).
وأتــى' عُمَـــرَ، فقــــال: (بلغنـــي خبــر أعيــــذك بالله منه)، قــال: (ما هو؟!) قال: (خطبتَ أُمَّ كلثوم بنت أبي بكر قال: (نعم أفرغبتَ بي عنها، أم رغبت بها عني؟!) قال: (ولا واحدة، ولكنها حَدَثَة نشأت تحت كَنف أمير المؤمنين في لينٍ ورفق، وفيك غِلـظة، ونحن نَهَابُك، وما نقدر أن نردَّك عن خُلُق من أخلاقك، فكيف بها إن خالفتك في شيء، فسطوتَ بها، كنتَ قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحقّ عليك)، فقال: (وكيف بعائشة، وقد كلّمتها) قال: (أنا لك بها، وأدلّك على خيرٍ منها، أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، تعلق بها بسبب من رسول الله صلى الله عليه و سلم)، وهكذا حقَّقَ رغبةَ أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق بدهائه، من غير أن يزعج عمر بن الخطاب.
وقد قال معاوية بن أبي سفيان يومًا لعمرو: (ما بلغ عقلك؟)، فقال: (ما دخلتُ في شيء قط إلا خرجتُ منه)، وفي رواية أنه قال: (لم أدخل في أمر قطّ، فكرهته، إلا خرجتُ منه)، وكان يقول: (ليس العاقل، الذي يعرف الخير من الشر، ولكنّه الذي يعرف خير الشرّين).
لقد كان عمرو بحق: أحد الدُّهاة المقدّمين في المكر والرأي، وكان من شجعان العرب، وأبطالهم، ودُهاتهم.
7 ـ الحكيــــم
الحِكمة هي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، وهي العلم والتفقه، وفي التنزيل العزيز: (ولقد آتينا لُقْمانَ الحِكمة )(لقمان:12)، وهي الكلام الذي يَقِلُّ لفظه، وَيَجِلُّ معناه.. والحكيم هو ذو الحِكْمة.
وقد كان عمرو حكيمًا حقًا في أقواله وتصرفاته.
ومن أقواله الحكيمة: (لا سلطان إلا بالرجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل)(1).
وقيل لعمرو: ما العَقْل ? ، فقال: (الإصابة بالظن، ومعرفة ما يكون بما قد كان)(2).
وقال: (ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، إنما العاقل الذي يعرف خير الشرين)(3).
وكان يقول: (اعمل لدُنياك عَمل من يعيش أبدًا، واعمل لآخرتك عمل من يموت غدًا)(4).
وقال: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا)(1).
وسمع عمرو رجلاً يقول: (الرُّجلة(2) قطعة من العذاب)، فقال له: (لم تُحْسن، بل العذاب قطعة من الرُّجْلة)(3).
وكان يقول: (ثلاثة لا أناة فيهن: المبادرة بالعمل الصالح، ودفن الميِّت، وتزويج الكُفء)(4).
وكان يقول: (ثلاثة لا أَمَلُّهم: جليــسي ما فَهِـــمَ عني، ودابَّتــــي ما حملت رحلي، وثوبي ما سترني) وزاد آخر: (وامرأتي ما أحسنت عِشْرتي)(5).
وقال معاوية بن أبي سفيان لعمرو: (ما بقي من لذَّة الدنيا تلذُّه ?) قال: (محادثة أهل العلم، وخبرٌ صالح يأتيني من ضَيْعتي)(6).
وكان يقول: (ما استودعتُ رجلاً سِرًا، فأفشاه، فلُمْته، لأني كنت أضيق صدرًا منه، حين استودعته إياه، حتى أفشاه)(7).
وقال عمرو: (أكثروا الطعام، فوالله ما بَطُنَ(8) قوم قط، إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضت عَزْمَةُ رجلٍ بات بطينًا)(1).
وقد ذكرنا أن خَصْمَين جاءا النبيَ صلى الله عليه و سلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه و سلم: (اقضِِ بينهما يا عمرو!)(2)
وكان بين طَلْحة بن عُبيد الله (3)، والزبير بن العوام، مداراة في وادٍ بالمدينة، فقالا: (نجعل بيننا عمرو بن العاص)، فأتياه، فقال لهما: (أنتما في فضلكما، وقديم سوابقكما، ونعمة الله عليكما، تختلفان! وقد سمعتما من رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل ما سمعتُ، وحضرتما من قوله مِثْل الذي حضرتُ، فيمن اقتطع شِبرًا من أرض أخيه بغير حق، أنه يطوّقه من سبع أرضين! والحَكَم أحوج إلى العدل من المحكوم عليه، وذلك لأن الحَكَم إذا جار رُزئ دينُه، والمحكوم عليه إذا جِير عليه، رُزئ عَرَض الدنيا. إن شئتما فأدليا بحجتكما، وإن شئتما فأصلحا ذات بينكما)، فاصطلحا، وأعطى كلُّ واحدٍ منهما صاحبه الرضا(4).
وهكذا يقضي عمرو بين الخصوم، من دون أن يقضي، فيحلّ المشاكل بينهم والمعضلات، ويزيل مِن بينهم سوءَ التفاهم والخلافات، بأسلوب من الحكمة فريد.
وقال يومًا لمعاوية: (إنَّ الكريمَ يَصُولُ إذا جَاع، واللئيمَ يَصُولُ إذا شَبِع، فَسُدَّ خَصَاصَةَ (حاجة) الكريمِ، واقمع اللئيم).
وقال معاوية لعمرو: (مَن أبلغ الناس ؟) قال: (مَن كان رَأْيُهُ ردًّا لهواه)، فقال: (مَن أسخى الناس ؟) فقال: (مَن بَذَلَ دُنْيَاهُ في صلاح دينه)، قال: (مَنْ أَشْجَعُ النَّاس ؟) قال: (مَن ردَّ جَهْلَهُ بِحِلْمِه).
ومن غُرر أقواله: (مَوتُ أَلْفٍ من العِلْيَةِ، أَقَلُّ ضَرَرًا من ارتفاعِ واحدٍ مِنَ السّفلة).
وقال: (إذا أنا أفشيتُ سِرِّي إلى صديقي، فأذاعه فهو في حلٍّ)، فقيل له: وكيف ذلك ?! فقال: (أنا كنت أحق بصيانته).
وما أصدق جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، في قوله: (صحبتُ عمر بن الخطاب، فما رأيت أقرأ لكتاب الله منه، ولا أفقه في دين الله منه، ولا أحسن مداراةً منه. وصحبتُ طلحة بن عبيد الله، فما رأيتُ رجلاً أعطى للجزيل منه من غير مسألة. وصحبتُ معاوية، فما رأيتُ رجلاً أحلم منه، وصحبتُ عمرو بن العاص، فما رأيتُ رجلاً أبين، أو قال: أنصعَ ظرفًا منه، ولا أكرم جليسًا، ولا أشبه سريرة بعلانية منه، وصحبتُ المغيرة بن شُعبة، فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب، لا يُخْرَجُ منها إلا بمكر، لخرج من أبوابها كلّها).
وقد ذكرنا من أقواله الحكيمة، وتصرفاته المتزنة، وأفكاره الحصيفة، عند الحديث على دهائه، فالتفريق بين الداهية والحكيم بالنسبة لعمرو وأضرابه صعب، وقد فرّقت بينهما لغرض إلقاء الضوء على شخصيته العمليّة الناضجة، لا لغرض الفصل بين الخصلتين اللتين هما من خصال عمرو في حياته العملية، فهو حكيم داهية، أو داهية حكيم، أو هو حكيم لأنه داهية، وداهية لأنه حكيم: فقد كان من أدهى العرب، وأحسنهم رأيًا وتدبيرًا .
8 ـ الرّجل
مفتاح شخصية عمرو، أنه كان يستعرض جوانب (القوة) دائمًا، ويوازن بين ما لدى أعدائه وأصحابه على حد سواء من (القُدرة) موازنة طويلة، حتى لا يخفى عليه منها وجه من وجوه الرأي، فقد كان رجلاً يتقن الحساب، ويجيد المساومة... يقف ساكنًا، ويفكر طويلاً، ثم يساوم في حرص.
إنه يشترط دائمًا... هكذا كان موقفه في كل أمر!!
وكان متواضعًا، يعرف الحق لأهله، فقد دخل عمرو مكة المكرمة، فرأى قومًا من قريش، قد تحلّقوا حَلقة، فلما رأوه، رموا بأبصارهم إليه، فعدل إليهم، وقال: (أحسبكم كنتم في شيء من ذِكْري)، قالوا: أجل! كُنا نُماثل بينك وبين أخيك هشام، أيكما أفضل، فقال عمرو: (إنّ لهشام عليّ أربعة: أمّه ابنة هشام بن المغيرة، وأمّي مَن قد عرفتم، وكان أحبَ الناس إلى أبيه مني، وقد عرفتم معرفة الوالد بالولد، وأسْلَم قبلي، واستُشهد وبَقيتُ).
وقالوا لعمرو: أنت خير، أم أخوك هشام بن العاص ؟ ، قال: (أخبركم عنّي وعنه، عرضنا أنفسنا على الله، فقَبِله، وتركني). وقد استشهد هشام في أجْنادين.
وكان يعتزّ بنفسه وبكرامته، فقد كتب عمر بن الخطاب، وهو على مصر ، يسأله فيه عن أصل المال الذي جمعه، فغضب عمرو، وكان مما أجاب به: (... والله لو كانت خيانتك حلالاً ما خنتك، وقد ائتمنتني، فإنّ لنا أحسابًا، إذا رجعنا إليها أغنتنا عن خيانتك).
أما مع معاوية بن أبي سفيان، فكان يرى نفسه لمعاوية ندًا، فقد قال عمرو يومًا لمعاوية: (والله، ما أدري يا أمير المؤمنين، أشجاع أنت أم جبان ؟) فقال معاوية:
شُـجــــاعٌ إذا مــا أمكـنَـتْـنِي فـرصـــــــةٌ
وإن لم تكـن لي فُرصـــــةٌ فَجَبـــانُ
واجتمع عمرو مع معاوية مرّة فقال له معاوية: (مَن الناس ؟) فقال: (أنا وأنت والمغيرة بن شعبة وزياد)، فقال معاوية: (كيف ذلك ؟) ، قال عمرو: (أما أنت فللتأنّي، وأما أنا فللبديهة، وأما المغيرة فللمعضلات، وأما زياد فللصغير والكبير). قال معاوية: (أما ذانك، فقد غابا، فهاتِ بديهتك يا عمرو!) قال: (وتريد ذلك ؟) قال: (نعم)، قال: (فأَخْرِجْ مَن عندك)، فأخرجهم معاوية! فقال عمـــرو: (يا أمير المؤمنين! أُسارّك!) فأدنى معاوية رأسَه منه، فقال عمرو: (هذا من ذاك! مَن معنا في البيت حتى أسارك!!)
وكانَ إداريًا عادلاً، تحبَّبَ إلى' سكان البلاد، وردَّ إليهم حقوقَهم الـمُغْتَصَبَة، وقطعَ دابرَ ما كان يثيرُ تذمُّرَهم، وأبقى أرضَهُم على حالها، لم يقسمها بين الفاتحين من المسلمين، وحَرِصَ على رفاهيةِ السكان، وعدم إرهاقهم بالضرائب، فقد جبى خَرَاجَ مصرَ وجزيتها ألفي ألف، وجباها خلفه عبدُ الله بن سعد بن أبي سَرح أربعة آلف ألف، فقال عثمان لعمرو: (إنَّ اللّقاح بمصر بعدك درَّت ألبانها)، فقال عمرو: (ذاك لأنكم أعجفتم أولادها)، فأصبح أهل مصر في أيامه آمنين، على أموالِهم، ودمائهم، ونسائهم، وأولادهم، لا يُباع منهم أحد، وفَرَضَ عليهم خراجًا لا يُزاد عليهم، على أن يدفع عنهم خوف عدوهم، ونفَّذَ فيهم وصية النبي صلى الله عليه و سلم: (إذا فتحتمْ مصر فاستوصوا بالقِبْطِ خيرًا، فإنَّ لهم ذمَّة وَرَحِمًا).
وكان عمرو رَبْعَة، قصير القامة، وافر الهامة، أَدْعَج، أَبْلَج، يخضب بالسّواد، ويهتم بملبسه، ومسكنه، ومأكله.
وأخو عمرو هو هشام، الذي استشهد يوم أجنادين، وكان صحابيًا، ولا عقب له، وأمّه: أم حَرْملة بنت هشام بن المغيرة المخزومي، وكان هشام قديم الإسلام، هاجر إلى الحبشة في المرة الثانية، ثم قدم مكة للهجرة إلى المدينة، فحبسه أبوه، فلم يزل محبوسًا بمكة، حتى مات أبوه في آخر السنة الأولى من الهجرة، ثمّ حبسه قومه بعد أبيه، فلم يزل يحتال، حتى تخلّص وقدم على النبي صلى الله عليه و سلم بعد الخندق، وجاهد حتى قُتل بالشام، وكان أصغر سنًا من أخيه عمرو، وكان يُكنى أبا العاص، فكنّاه رسول الله صلى الله عليه و سلم: أبا مُطِيع.
وإخوة عمرو لأمه: عُروة بن أبي أُثاثة العَدَوي، وأَرْنَب بنت عفيف بن العاص، وعُقْبة بن نافع بن عَبد القيس بن لَقِيط، من بني الحارث بن فِهْر القُرشي.
وَلَدُ عمرو بن العاص: عبدُ الله بن عمرو، صحب رسول الله صلى الله عليه و سلم، وروى عنه الحديث، وكان يصوم الدهر، ويقوم الليل، فبلــغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقال له: (صُم وأفطر، وصَلِّ ونَمْ). وأمّه: رَيْطة بنت مُنَبِّه بن الحجاج بن عامر، وعبد الله من فضلاء الصحابة، وله بالوَهط(6) ومكة عَقِب كثير، يناهزون المائة.
وولد عمرو أيضًا: محمد بن عمرو بن العاص، لا عَقِبَ له، وأمّه من بَلِيّ.
وتزوّج عمرو: أم كلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعيط، وكانت من المهاجرات، فتزوّجها الزبيـــر بن العــــوام، فطلّقها، فتزوّجهـــــــا بعـــده عبد الرحمن بن عوف، فلما مات عنها، تزوّجها عمرو بن العاص.
وتزوّج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نُفيل بن عبد العُزَّى، التي تزوجها بعد عُبيدة بن الحارث بن المطلب، ثم عبد الله بن أبي بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم محمد بن أبي بكر، فقُتل عنها بمصر، فتزوجها عمرو بن العاص.
وكانت رَيْطَة أم عبد الله بن عمرو بن العاص زوجته أيضًا كما ذكرنا.
وكان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب نديمًا لعمرو بن العاص في الجاهلية، مما يدل على أنه كان من الشخصيات البارزة قبل الإسلام.
وأخيرًا داهم الموتُ هذا الداهية، بعد أن ملأ صفحات التاريخ بأعماله المجيدة، وترك آثارًا باقية على الدهر، وبخاصة في الفتوح.
فقد مَرِض مَرَض موتِه، سنة ثلاث وأربعين الهجرية، فاشتدّ عليه المرض، وكان من النادر أن يزوره المرض، لاهتمامه الشديد بصحته وعافيته، وعنايته الكبيرة بهما، فهو مثلاً، لا يغتسل من الجنابة، إذا خشي الضرر من البرد بل يصلي متيممًا، كما فعل وهو قائد غزوة ذات السلاسل، ولا يخرج إلى صلاة الجماعة، وهو أمير، إذا كان متوَعِّكًا، بل يؤم الناس وكيله، كما فعل في صلاة الصبح من يوم محاولة اغتياله.
ولا نصّ في المصادر المعتمدة عن سبب مرضه الأخير، ويبدو أنه مرض الشيخوخة، إذ كان قد بلغ من الكِبَر عتيًا.
وقد قيل لعمرو في مرضه: (كيف تَجدك ؟) قال: (أجـــدني أذوب ولا أثوب، وأجد نَجْوِي أكثر من رُزْئي، فما بقاء الشيخ على هذا).
ولما حضرت عمرو الوفاة، دمعت عيناه، فقال عبد الله بن عمرو: (يا أبا عبد الله! أجَزَعٌ من الموت، يحملك على هذا ؟) فقـــال: (لا! ولكن مما بعد الموت).
ودخل عبد الله بن العباس، على عمرو وهو مريض، فقال: (كيف أصبحتَ ؟) قال: (أصبحتُ وقد أصلحتُ من دنياي قليلاً، وأفسدت من ديني كثيرًا، فلو كان ما أصلحتُ هو ما أفسدتُ لفُزتُ، ولو كان ينفعني أن أطلب طلبتُ، ولو كان يُنْجيني أن أهرُب لهربتُ، فعِظْني بموعظةٍ، أنتفع بها، يا ابن أخي!) فقال: (هيهات يا أبا عبد الله!) فقال: (اللهم إنّ ابن عباس يُقْنِطُني من رحمتك، فخذ مني حتى ترضى).
وكان عمرو يقول: (عَجَبًا لمن نزل به المــــوت، وعقـله معــــــه، كيف لا يصفه) فلما نزل به، قال له ابنه عبد الله: (يا أبتِ إنّك كنت تقول: عجبًا لمن نزل به الموت، وعقله معه، كيف لا يصفه؟ فصِفْ لنا الموت، وعقلك معك)، فقال: (يا بُني! الموتُ أجلّ من أن يُوصف، ولكني سأصف لك منه شيئًا: أجدني كأنّ على عنقي جبال رَضْوَى، وأجدني كأن في جوفي شوكُ السُّلاَّء، وأجدني كأن نَفَسي يخرج من ثَقْب إبرة).
ولما كان عمرو عند الموت، دعا حَرَسه فقال: (أيُّ صاحبٍ كنتُ لكم ؟) قالوا: كنتَ لنا صاحب صِدْق، تُكرمنا، وتعطينا، وتفعل وتفعل، قال: (فإني إنما كنتُ أفعل ذلك لتمنعوني من الموت، وإن الموتَ ها هو ذا، قد نزل بي، فأغنوه عني)، فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقالوا: والله! ما كنّا نَحْسَبُك تكلَّمُ بالعَوْراءِ يا أبا عبدِ الله، قد علمتَ أنا لا نُغني عنك من الموت شيئًا، فقال
frown.gif
أما والله! لقد قُلْتُها، وإني لأعلمُ أنكم لا تُغنون عني من الموت شيئًا، ولكن والله لأَن أكون لم أتخذْ منكم رجلاً قطُّ يمنعني من الموت، أحبّ إليّ من كذا وكذا)... ثم قال: (اللهمّ لا بَريء فأعتذر، ولا عزيز فأنتصر، وإلا تدْركني برحمة أكن من الهالكين).

ولما احتضر جمع بنيه، فقال: (يا بَنِيّ! ما تغنون عني من أمر الله شيئًا ?) قالوا: يا أبانا، إنه الموت، ولو كان غيره لوقيناك بأنفسنا، فقال: (أسندوني)، فأسندوه، ثم قال: (اللهم إنّك أمرتني فلم أَأْتمر، وزجرتني فلم أزدجر، اللهم لا قويّ فأنتصر، ولا بريء فأعتـــذر، ولا مستكبر بل مستغفر، أستغفرك وأتوب إليك، لا إله إلا أنت إني كنت من الظالمين).
وذكر عبد الله بن عمرو، أن أباه أوصاه، قال: (يا بُنيّ! إذا مِتُّ فاغسلني غَسلة بالماء، ثم جَفِّفني في ثوب، ثم اغسلني الثانية بماء قراح، ثم جَفّفني في ثوب، ثم اغسلني الثالثة بماء فيه شيء من كافور، ثم جفِّفني في ثوب، ثم إذا ألبستني الثياب، فأزِرَّ عليّ فإني مخاصم، ثم إذا أنت حملتني على السرير، فامشِ بي مشيًا بين المِشْيَتَيْن، وكَن خلفَ الجِنازة، فإنّ مُقدّمها للملائكة، وخلفها لبني آدم، فإذا أنت وضعتني في القبر، فَسُنّ عليّ التُراب سَنًّا)، ثم قال: (اللهمّ أمرتنا فركبْنا، ونهيتنا فأَضَعْنا، فلا بريء فأعتذر، ولا عزيز فأنتصر، ولكـــن لا إله إلا الله)، وما زال يقولها حتى مات.
وذرفت عيناه، فبكى، فقال له ابنه عبد الله: (يا أبت! ما كنتُ أخشى أن ينزل بك أمر من أمر الله، إلا صبرتَ عليه)، فقال: (يا بُنيّ! إنه نَزل بأبيك خلال ثلاث: أما أولاهنّ: فانقطاع عمله، وأما الثانية: فهَوْل المُطَّلَع، وأما الثالثة: ففراق الأحبة، وهي أيسرهنّ. اللهمّ أمرتَ فتوانيتُ، ونهيتَ فعصيتُ، اللهم فمِن شِيَمِك العفو والتجاوز).
وذكــر شهـود عيـان، شهـدوا احتضـار عمـرو، فـذكـر أحـدُهم ما رأى، فقال: (حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت، فحوّل وجهه إلى الحائط، يبكي طويلاً، وابنه يقول له: ما يُبْكيك ؟ أما بشّرك رسول الله صلى الله عليه و سلم بكذا، أما بشّرك بكذا، وهو في ذلك يبكي، ووجهه إلى الحائط، ثم أقبل بوجهه إلينا فقال
frown.gif
إنّ أفضل مما تَعُدّ عليّ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه و سلم، ولكنني كنتُ على أطباق ثلاث: قد رأيتني ما من الناس من أحد أبغض إليّ من رسول الله صلى الله عليه و سلم، ولا أحب إليّ من أن أستمكن منه، فأقتله، ولو متُّ على تلك الطبقة، لكنتُ من أهل النار، ثم جعل ا$ُ الإسلام في قلبي، فأتيت رسولَ الله صلى الله عليه و سلم لأبايعه، فقلتُ: ابسط يمينك أبايعك يا رسول الله! فبسط يده، ثم إني قبضت يدي، فقال: (مالك يا عمرو ؟) فقلتُ: أردتُ أن أشترط، فقال: (تشترط ماذا ?) فقلتُ: أشترط أن يُغفر لي، فقال: (أما علمتَ يا عمرو، أن الإسلامَ يَهْدِمُ ما كان قبله، وأن الهجرةَ تَهْدِمُ ما كان قبلها، وأن الحجَّ يهدمُ ما كان قبله ؟) فقد رأيتنـــي، ما من الناس أحد أحبّ إليّ من رسول الله صلى الله عليه و سلم، ولا أجلّ في عيني منه، ولو سُئلتُ أن أنْعَتَه، ما أطقتُ، لأني لم أكن أطيق أن أملأ عيني إجلالاً له، فلو مِتُ على تلك الطبقة، رجوتُ أن أكون من أهل الجنة. ثم ّ ولينا أشياء بعدُ، فلستُ أدري ما أنا فيها، أو ما حالي فيها، فإذا أنا متُ، فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فسُنّوا عليّ التراب سَنًّا، فإذا فرغتم من قبري، فامكثوا عند قبري قدر ما يُنْحَرُ جَزور، ويُقْسَم لحمها، فإني أستأنس بكم، حتى أعلم ماذا أراجع به رُسلَ ربي).

وقال عمرو: (فوالله إني إن كنتُ لأشدّ الناس حياء من رسول الله صلى الله عليه و سلم، ما ملأت عيني منه، ولا راجعته بما أريد، حتى لحق بالله، حياءً منه).
وعن عبد الله بن عمرو، أن أباه قال: (اللهم أمرتَ بأمورٍ، ونهيتَ عن أمور، فتركنا كثيرًا مما أمرت به، ووقعنا في كثير مما نهيت ، اللهم لا إله إلا أنت)، ثم أخذ بإبهامه، فلم يزل يُهلّل حتى تُوفي.
وكانت وفاة عمرو ليلة عيد الفطر، سنة ثلاث وأربعين الهجرية (664م) في خلافة معاوية بن أبي سفيان، وقيل: توفي سنة ثنتين وأربعين الهجرية، وقيل: أربع وأربعين الهجرية، وقيل: إحدى وخمسين الهجرية، والأول أصح، لإجماع المصادر المعتمدة عليه دون استثناء.
ودُفن عمرو بجبل (المُقَطَّم) من ناحية (الفَجِّ)، وكان طريق النّاس يومئذ إلى الحجاز، وقد غَسَّلَه ابنهُ ُعبد الله بن عمرو ، ثم أخرجه حين صلّى الصبح، فوضعه بالمُصلّى في جامع عمرو، ثم جلس. حتى إذا رأى الناس قد انقطعوا من الطُرُق: الرجال والنساء، قام فصلّى عليه، ولم يبقَ أحد شهد العيد إلا صلى عليه، ثم صلّى العيد بالناس، وكان أبوه استخلفه على صلاة مصر وخراجها.
وقبل أن يُصَلِّي عبدُ الله بن عمـرو على أبيـه عمــــرو، قــال: (والله! ما أحب أن لي بأبي، أبا رجل من العرب، وما أحبّ أن الله يعلم أن عيني دمعت عليه جزعًا، وأنّ لي حُمْر النَّعَم)، ثم كبَّرللصلاة على الميت.
وليس من شك، أن عمرًا، كان يتمتع بمزايا متميّزة، تجعله في صفوف البارزين في تاريخ الشعوب، والباقين في أقوالهم وأعمالهم من ذوي المواهب الفذّة والعقول الرّاجحة.
وقد أنصف عمرو نفسه، حين قسّم حياته إلى ثلاثة أدوار: دور الجاهلية، ودور الإسلام، على عهد النبي صلى الله عليه و سلم، والشيخين أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، والصّدر الأول من عهد عثمان بن عفان. ودور الإسلام بعد عزله عن مِصْر، في أيام عثمان حتى توفّاه الله.
وأرى أن شعور عمرو بالحزن، والأسى، والندم، وتأنيب الضمير، على ما فرّط في جنب الله، دليل عميق، على إيمانه الراسخ العميق، إذ لو لم يكن مؤمنًا حقًّا، لمَا أنَّبَ نفسه جهرًا أمام الناس قبل أن يؤنِّبَه غيرُه، لذلك قال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في عمرو: (أسلم الناسُ، وآمن عمرو بن العاص)، وقال: (عمرو بن العاص من صالحي قريش)، وقال: (نِعْمَ أهلُ البيتِ، عبدُ الله، وأبو عبد الله، وأم عبد الله)، وقال عليه الصلاة والسلام، فيه وفي أخيه هشام: (ابنا العاص مؤمنان)، وفضائله ومناقبه كثيرة جدّا.
وحدّث ابنا العاص: هشام وعمرو، قالا: (ما جلسنا مجلسًا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم، كُنَّا به أشد اغتباطًا من مجلس جلسناه يومًا، جئنا فإذا أناس عند حُجَرِ رسول الله صلى الله عليه و سلم، يتراجعون في القرآن، فلما رأيناهم اعتزلناهم، ورسول الله صلى الله عليه و سلم خلف الحُجَر يسمع كلامهم، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم، مُغْضَبًا، يُعْرَفُ الغَضبُ في وجهه، حتى وقف عليهم فقال: (أَيْ قومُ! بهذا ضَلَّت الأممُ قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربِهم الكتاب بَعْضَهُ ببعضٍ، إن القرآنَ لم يُنْزل لتضربوا بعضَهُ ببعضٍ، ولكن يُصدِّق بعضُه بعضًا، فما عَرَفْتُم منه فاعملوا به، وما تَشَابه عليكم فآمنوا به)، ثم التفت إليّ وإلى أخي، فغبطنا أنفسنا، أن لا يكون رآنا معهم).
وليس أدلّ على إيمانه من قوله على منبره: (لقد أصبحتم وأمسيتم، ترغبون فيما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يزهد فيها، والله ما أتتْ على رسول الله صلى الله عليه و سلم من دهره، إلا كان الذي عليه، أكثر مما له). ويقول: (واللهِ إنْ كنتُ لأشدّ الناس حياءً من رسول الله صلى الله عليه و سلم، فما ملأتُ عينيّ من رسول الله صلى الله عليه و سلم، ولا راجعته بما أريد، حتى لحق بالله عز وجل، حياءً منه).
فهل يمكن أن تصدر مثل هذه الأقوال، أو يشعر بهذا الشعور، إلا مؤمن قويّ الإيمان؟)
وقد عاش عمرو بعد عمر بن الخطاب عشرين سنة، لأنّ عُمَر تُوفي سنة ثلاث وعشرين الهجرية، وتُوفي عمرو سنة ثلاث وأربعين الهجرية، كما ذكرنا، وكان عُمْرُ عُمَرَ بن الخطاب ثلاثًا وستين سنة على الأصح، وكان عمرو يقول: (أذكر يوم وُلد عُمر بن الخطاب، فكان عُمُرُه لما وُلد عمر بن الخطاب سبع سنين، فعاش تسعين سنة، أي أنّه وُلد سنة سبع وأربعين قبل الهجرة (577م)، ومات سنة ثلاث وأربعين الهجرية (664م)، فعاش تسعين سنة قمرية، وسبعًا وثمانين سنة شمسية.
وبموته، انتهت حياة قائد، من أعظم قادة الفتح الإسلامي، وإداريّ من ألمع إداريّ البلاد الإسلامية، وداهية من أبرز دُهاة العرب والمسلمين.


دومتم فى طاعة الله
 

آلداعي

عضو مميز
إنضم
24 نوفمبر 2011
المشاركات
3,316
النقاط
38
الإقامة
||خير بقاع الأرض||
الموقع الالكتروني
www.qoranona.net
احفظ من كتاب الله
احب القراءة برواية
ツ ورش ツ
القارئ المفضل
كل من تلى كتاب الله بتدبر وخشوع
الجنس
||داعي إلى الله||
جزاكم ربي سبحانه خيرا
وجعله في ميزان حسناتكم
 

تسابيح ساجدة

لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
إنضم
16 أكتوبر 2010
المشاركات
8,111
النقاط
38
الإقامة
المعهد
احفظ من كتاب الله
اللهم إجعلنا من العاملين به... آمين
احب القراءة برواية
حفص
القارئ المفضل
هم كُثر ,,,
الجنس
أخت
بارك ربي سبحانه فيكِ ونفع بكِ
 
أعلى