أم هنا وريهام
مشرف عام
- إنضم
- 6 يناير 2012
- المشاركات
- 873
- النقاط
- 16
- الإقامة
- المنصوره
- احفظ من كتاب الله
- ماتيسر من القران
- احب القراءة برواية
- حفص
- القارئ المفضل
- المنشاوى
- الجنس
- اخت
عمرو بن العاص .. القُرشي السَّهْمي
أهلـه وقـومــه
هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعَيد بن سَهْم بن عمرو ابن هُصَيْص بن كَعْب بن لُؤَي بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النَّضر ابن كِنَانة بن خُزَيْمة، وفِهْر بن مالك بن النضر هو قريش، ومن لم يَلد فِهْرٌ فليس من قريش.
أبو عمرو هو العاص بن وائل، أحد أشراف قريش في الجاهلية، وقائـد بني سَـهْم من قُريش في حــرب الفِجَـــار الثاني، قبل بعثـــــــة النبي صلى الله عليه و سلم، وكان يوم الفِجَــار الثاني، بعد عــام الفيــل بعشـــرين سنة(591م).
وقد أدرك الإسلام، ولكنه لم يُسْلم، إذ مات بمكة المكرمة في السنة الأولى من الهجرة، وكان أحد سادات قريش الذين مشوا إلى أبي طـــــالب، يسألونه أن يكف عنهم رســــول الله صلى الله عليه و سلم، فقال لهـــــم أبو طالب قولاً رفيقًا، وردَّهم ردًًا جميلاًً، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما هو عليه: يُظهر دين الله، ويدعو إليه.
وكان أحد زعماء قريش، الذين حاولوا صدَّ النبي صلى الله عليه و سلم عن دعوته، وعرضوا عليه كل المغريات ليكفَّ عنهم، فلم يفلحوا في محاولتهم، فعرضوا عليه أن يعبد آلهتهم سنة: اللات والعُزى، ويعبدوا إلهه سنة، فنزل قوله تعالى: (قُل يا أيها الكافرون لا أعبدُ ما تعبُدون )(الكافرون:1-6)، وأنزل الله عز وجل: (قُل أفغيرَ اللهِ تَأْمُرونِّي أعبد أيها الجاهلون ) إلى قوله: (بلِ اللهَ فاعْبُد وكُن من الشاكرين )(الزمر:64-66).
ومشى مرة مع عُصبة من أشراف قريش إلى النبي صلى الله عليه و سلم فدعاهم إلى التوحيد، فرفضوا دعوته، فأنزل الله عز وجل: (وانطلقَ الملأُ منهم أن امْشُوا واصبروا على آلهتِكُم إنَّ هذا لشيء يُراد ) إلى قوله: (إلا ّ اختلاق )(ص:6-7).
وكان أحدَ المستهزئين بالنبي صلى الله عليه و سلم، وهو الذي كان إذا ذُكر النبيُصلى الله عليه و سلم قال: (دعوه، فإنما هو رجلٌ أبْتَر لا عَقِبَ له، لو قد مات، لقد انقطـــع ذِكْــرُهُ، واسْتَرَحْتُم منه). فأنزل الله في ذلك قولــه الكــريم: (إنَّا أعْطَيْنَاك الكَوْثَر فَصَلِّ لرَبِّك وانْحَرْ إنَّ شانِئَكَ هو الأبْتَر )(الكوثر:1-3) مما هو خير من الدنيا وما فيها.. والكوثر: العظيم. وهو الذي قال للنبي صلى الله عليه و سلم: (لو جُعل معك يا محمد مَلَك يُحَدِّث عنك الناس، ويُرى معك)، فأنزل الله تعــــــالى: (وقالوا لَوْلا أُنزلَ عليه مَلَك ولو أنزلنا مَلَكًا لقُضيَ الأمْرُ ثم لا يُنظَرون ولو جعلناه مَلَكًا لجعلناه رجلاً ولَلَبَسْنَا عليهم ما يَلْبِسُون )(الأنعام:8-9).
وكان خَبَّابُ بنُ الأَرَتِّ صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم قَيْنًا بمكة يعمل السيوف، وكان قد باع من العاص بن وائل سيوفًا، عملها له، حتى إذا كان له عليه مال، فجاء يتقاضاه، فقال له: (يا خَبَّابُ! أليس يزعم محمد، صاحبكم هذا، الذي أنت على دينه، أن في الجنة ما ابتغى أهلُها من ذَهَب أو فِضة أو ثياب أو خدم؟ قال خباب: (بلى)، قال: (فأنْظِرْني إلى يوم القيامة يا خباب; حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقك، فوالله، لا تكون أنت وأصحابك يا خَبَّابُ، آثر عند الله مني، ولا أعظم حظًا في ذلك). فأنزل الله تعالى فيه: (أَفَرَأيتَ الذي كَفَرَ بآياتنا وقالَ لأُوتَيَنَّ مالاً وولَدًا أطَلَعَ الغيب ) ، إلى قوله تعالى: (ونَرِثُهُ ما يقولُ ويأتينا فردًا )(مريم:77-80).
ومع ذلك فقد كان العاص يحترم حرية الرأي، فقد زجر الذين أرادوا سوءًا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه من قريش، حين أعلن عمر إسلامه على الملأ، فقال العاص للذين أرادوا الاعتداء على عُمَر لإِسلامه: (رجل اختار لنفسه أمرًا، فماذا تريدون؟! أترون بني عَدِي يسلِّمون لكم صاحبهم هذا؟! خَلُّوا على الرجل) وهذا يدل على أنه كان عاقلاً، يتسم ببعد النظر، بالإضافة إلى تمسكه بحرية الرأي.
وكان العاص من أغنياء قريش، يلبس الحُلَّة، ويرتدي الديباج مزوَرًا بالذهب، فهو من المترفين حقًا، وذو ثراء عريض.
وكان مشهورًا بالكرم وحسن الوفادة، ومعاونة المحتاج، وقد مات العاص بن وائل، بين مكة والأبواء، والمدينة بالأبواء في رواية، وهو ما نرجحه، لوجود هذا النص عليه، وهو قول الشاعر:
يا رُبَّ زِقٍ كالحمار وجَفْنَـــــــةِ
كُفِيَتْ خِلافَ الرَّكبِ مَدْفَعَ أرْثَد
* وفي العاص بن وائل، يقول الزِّبَعْرى:
أصاب ابنُ سَلْمى خُلَّةً من صديقـــه
ولولا ابنُ سَلْمى لم يكن لك راتِقُ
فآوى وَحيـــــــَّا إذ أتــــــــاه بِخُلَّــــــةٍ
وأعرض عنه الأقربون الأصــــــــــادقُ
فإِما أُصِبْ يومًا من الدَّهر نُصـــــــــــــرةً
أتَتْك وإني بابن سَلْمى لصـــــــــادقُ
وإلا تكُنْ إلا لســـــــــــاني فإنَّـــــــه
بِحُسن الذي أسْديتَ عني لنَاطِـقُ
ثِمَــــــالٌ يعيشُ المُقْتِـــــــــرون بفضله
وسَيْبُ ربيعٍ ليس فيه صواعقُ
وأم العاص بن وائل: سَلْمى البَلَويَّة، من بَلِيّ من قُضاعة.
لقد كان العاص من أشراف قريش المتميزين.
وأم عمرو بن العاص هي: سَلْمى بنت حَرْمَلة، تُلَقَّب بالنابغة من بني عَنَزَة، أصابتها رماح العرب، فبيعت بسوق عُكَاظ، فاشتراها الفاكهة بن المغيرة، ثم اشتراها عبد الله بن جُدْعَان، ثم صارت إلى العاص بن وائل، فأنجبت عَمْرًا وإخوته لأمّه: عُرْوة بن أُثََاثَة العَدَوي، كان من مهاجرة الحبشة، وأَرْنبُ بنت عَفِيف بن العاصي، وعُقبة بن نافع بن عبد القيس بن لَقِيط من بني الحارث بن فِهْر القرشي.
وفي رواية ثانية، أن أم عمرو بن العاص حبشية، والرواية الأولى متواترة في المصادر المعتمدة، لذلك نرجحها على الرواية الثانية.
وعمرو من بني سَهْم، وهم بطن من عشرة أبطن من قُريش، انتهى إليها الشرف قبل الإسلام هم: هاشم، وأمية، ونَوفل، وعبد الدار، وتَيْم، وأسد، ومخزوم، وعَدِي، وجُمَح، وسَهْم، وكان لكلِّ بطن من هذه البطون واجب خاص، فكان بنو سَهْم أصحاب الحكومة في قريش، والحكومة عمل يشبه القضاء، بحيث كان يحتكم القرشيون وغيرهم، ممن يفد على مكة من العرب، إلى زعماء بني سهم، فيما يقع بينهم من الخصومات، وهذا يدل على أنهم كانوا أصحاب رأي وحِلْم ودهاء واتِّزان وحصافة.
وكان لبني سَهْم أيضًا، الرئاسة على الأموال الخاصة بآلهة قريش، وهي أشبه شيء بالأوقاف العامة.. وفي قبضة صاحب هذا العمل الأموال المحجّرة -كما كانوا يسمونها- يتصرّف فيها حسب ما تقتضيه القواعد التي جَرَوْا عليها في العمل بأموال أوثانهم وأصنامهم.
وقد اشتهر بنو سَهْم بالغزو، والشرف، والشِّعر، وفَصْل الخصومات، واليسار، فنشأ عمرو في هذه البيئة الحَضَرية بمكة، التي لم تنقطع صلتها بالبداوة في التربية، والناحية الاجتماعية، والاقتصادية، والدينية، وترعرع في رعاية والده، رئيس بني سَهْم، وأحد رجالات قريش، وزعمائها، ورؤسائها، وأشرافها البارزين، الذي كان معروفًا برجاحة العقل، وبُعْد النظر، وسعة الأفق، والكفاية القيادية، والتجارب العملية، والثراء، وبرعاية والدته الذكية القوية، ويكفي دليلاً على تجاربها في الحياة وذكائها وصلابتها، أنها أم عمرو، وأم عقبة بن نافع، وهما من أعظم قادة الفتح الإسلامي، ومن أبرز الولاة والإداريين والأمراء.
لقد كانت بيئة عمرو التي نشأ فيها وترعرع، صالحة لتنشئة القادة والإداريين.
في الجاهليــــة
سفارة عمرو إلى النجاشي
كان عمرو، وكان أبوه العاص بن وائل، من المجاهرين بالظلم لرسول الله صلى الله عليه و سلم، ولكل مَن آمَن به.
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم، ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، لمكانته من عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها مَلِكًا لا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أحدٌ، وهي أرضُ صِدْقٍ، حتى يجعلَ اللهُ لكم فَرَجًا مما أنتم فيه)، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، من مكة إلى أرض الحبشة، مَخافة الفتنة، وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام، وهي الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة، في السنة الخامسة، من النبوة.
ولما رأت قريش أن المسلمين المهاجرين، قد اطمأنوا بأرض الحبشة، وأَمِنوا، وأن النجاشي قد أحسن صحبتهم، ائتمروا بينهم، فبعثوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، ومعهما هدية إليه، وإلى أعيان أصحابه، فسارا حتى وصلا إلى أرض الحبشة، فحملا إلى النجاشي هديته، وإلى أصحابه هداياهم، وقالا لهم: (إن ناسًا من سفهائنا، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دين الملك، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد أرسَلَنَا أشرافُ قومِنا إلى الملك; ليردهم إليهم، فإذا كلمنا المَلِك فيهم، فأشيروا عليه، بأن يرسلهم معنا، من غير أن يكلمهم)، وخافا إنْ يسمع النجاشيُ كلامَ المسلمين أن لا يسلِّمهم، فوعدهما أصحاب النجاشي المساعدة على ما يريداه.
ثم إنهما حضرا عند النجاشي، فأعلماه بالذي جاءا من أجله، إلى أرض الحبشة، فأشار أصحابه بتسليم المسلمين إليهما. وغضب المَلِك من ذلك، وقال: (لا والله لا أسلم قومًا جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على مَن سواي، حتى أدعوهم، وأسألهم، عما يقول هذان الرجلان، فإن كانا صادقين، سلمتهم إليهما، وإن كانا على غير ما يذكر هذان الرجلان، منعتهم وأحسنت جوارهم).
وأرسل النجاشي إلى أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم، فدعاهم فحضروا، وقد أجمعوا على صدقه فيما سَرّه وسَاءه، وكان المتكلم عنهم جعفـر بن أبي طالب، فقال لهم النجاشي: (ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا دين أحد من المِلَل؟! فقال جعفر: (أيها الملك! كُنَّا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا منّا رسولاً، نعرف نسبَه، وصدقَه، وأمانتَه، وعفافَه، فدعانا لتوحيد الله، وأن لا نُشرك به شيئًا، ونخلع ما كنّا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة، والصيام)، وعدّد عليه أمور الإسلام، قال: (فآمَنَّا به وصدقناه، وحرّمنا ما حرّم علينا، وحلّلنا ما أحل لنا، فتعدّى علينا قومُنا، فعذّبونا، وفتنونا عن ديننا; ليردُّونا إلى عبادة الأوثان، فلما قهرونا، وظلمونا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورجونا ألا نُظلم عندك، أيها الملك!)
وقال النجاشي: (هل معك مما جاء به عن الله شيء؟! فقال له جعفر: (نعم)، فقال له النجاشي: (فاقرأه عليّ)، فقرأ عليه صدرًا من سورة (كهيعص)، فبكى النجاشي، حتى اخضلَّت لحيته، وبكت أساقفته، حتى أخْضَلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال النجاشي: (إنّ هذا، والذي جاء به عيسى، ليخرجُ من مشكاةٍ واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلّمهم إليكما ولا يُكادون).
وخرج عمرو وصاحبه، من عند النجاشي، فقال عمرو لصاحبه: (والله لآتينَّه غدًا، بما أستأصل به خَضْراءهم)، فقال عبد الله بن أبي ربيعة -وهو الذي أوفدته قريش، مع عمرو، إلى النجاشي، وليس عبد الله بن أبي أمية الذي ذكره قسم من المؤرخين خطأ، بأنه كان مع عمرو في سفارته القرشية إلى النجاشي، لأنه لم يسافر إلى النجاشي مع عمرو، بل الذي رافقه بسفره هذا هو عبد الله بن أبي ربيعة، وكـــان عبـد الله بن أبي ربيعة، أتقى الرجلين: عمــرو، وعبــد الله بن أبي ربيعـــة-: (لا تفعــل، فإن لهم أرحـــامًا، وإن كانوا خالفــونا)، فقال عمرو: (والله لأخبرنَّه، أنهم يزعمون، أن عيسى بن مريم عبدٌ).
وغدا عمرو على النجاشي من الغد، فقال: (أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيمًا، فأرسلْ إليهم فَسَلْهم عما يقولون فيه).
وأرسل النجاشي إلى المسلمين المهاجرين إلى أرض الحبشة، فسألهم عن قولهم في المسيح، فقال جعفر بن أبي طالب: (نقول فيه الذي جاءنا به نبينا: هو عبد الله، ورسوله، وروحه، وكلمته، ألقاها إلى مريم العذراء البتول)، فأخذ النَّجَاشِيُّ عُودًا من الأرض، وقـــــال: (ما عدا عيسى ما قلتَ هذا العود)، فنَخَرتْ بَطَارِقَتُه، فقال: (وإن نخرتم)، وقال للمسلمين: (اذهبوا فأنتم آمنون، ما أُحبُّ أن لي جَبَلاً من ذهب، وأنني آذيت رجلاً منكم)، وردَّ هدية قريش، فخرج عمرو وصاحبه، مقبوحَيْن، مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقام المسلمون معه بخير دار مع خير جار.
وكان أبو طالب عم النبي صلى الله عليه و سلم، حين علم أن قريشًا بعثوا عمرو بن العاص وصاحبه إلى النجاشي، قد بعث أبياتًا من الشعر للنجاشي، يحضه على حسن جوار المسلمين المهاجرين، والدفع عنهم، جاء فيها:
ألا لَيْتَ شِعْري كيفَ في النَّأي جعفرُ
وعمرو وأعداء العدُوِّ الأقاربُ
فهل نالَ أفعالُ النجاشي جعفــــرًا
وأصحابُه أو عاق ذلك شَاغِبُ
تَعَلَّمْ أبيتَ اللَّعْنَ أنك ماجـــــد
كريم فلا يَشْقى لديك المُجَانِبُ
تَعَلَّْم بأنَّ اللهَ زادكَ بَسْطـــةً
وأسبابَ خيرٍ كُلُّها بِك لازبُ
وأنَّك فَيْضٌ ذو سِجَالٍ غزيــرةٍ
يَنَالُ الأعادي نَفْعُها والأقاربُ
ولما عاد عمرو وصاحبه إلى مكة خائِبَيْن، ورأت قريش أنّ الإسلام يفشو ويزيد، ائتَمَروا في أن يكتبوا بينهم كتابًا، يتعاقدون فيه، على ألا يُنكِحُوا بني هاشم، وبني المطَّلب، ولا يَنْكِحُوا إليهم، ولا يبيعوهم، ولا يبتاعون منهم شيئًا، فكتبوا بذلك صحيفة، وتعاهدوا على ذلك، ثم عَلَّقوا الصحيفة في جوف الكعبة، توكيدًا لذلك الأمر على أنفسهم.. فلما فعلت قريش ذلك، انحازت بنو هاشم، وبنو المطلب، إلى أبي طالب، فدخلوا فيه في شِعْبِه واجتمعوا، فأقاموا على ذلك سنتين، أو ثلاثًا، حتى جهدوا، لا يصل إلى أحد منهم شيء إلا سرًا، حتى نقض الصحيفة نَفَر من قريش.
لقد أخفق عمرو، في سفارته لمشركي قريش، إلى النجاشي، إخفاقًا كاملاً، بالرغم من أنه بذل كل ما يستطيعه بَشَرٌ متميز، من أجل تحقيق هدفه، وكان إخفاقه لأنه كان على الباطل، ولأن المسلمين كانوا على الحق، ولأن النجاشي كان حاكمًا عادلاً منصفًا.
.
في الجاهليــــة
سفارة عمرو إلى النجاشي
كان عمرو، وكان أبوه العاص بن وائل، من المجاهرين بالظلم لرسول الله صلى الله عليه و سلم، ولكل مَن آمَن به.
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم، ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، لمكانته من عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها مَلِكًا لا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أحدٌ، وهي أرضُ صِدْقٍ، حتى يجعلَ اللهُ لكم فَرَجًا مما أنتم فيه)، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم، من مكة إلى أرض الحبشة، مَخافة الفتنة، وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام، وهي الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة، في السنة الخامسة، من النبوة.
ولما رأت قريش أن المسلمين المهاجرين، قد اطمأنوا بأرض الحبشة، وأَمِنوا، وأن النجاشي قد أحسن صحبتهم، ائتمروا بينهم، فبعثوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، ومعهما هدية إليه، وإلى أعيان أصحابه، فسارا حتى وصلا إلى أرض الحبشة، فحملا إلى النجاشي هديته، وإلى أصحابه هداياهم، وقالا لهم: (إن ناسًا من سفهائنا، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دين الملك، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد أرسَلَنَا أشرافُ قومِنا إلى الملك; ليردهم إليهم، فإذا كلمنا المَلِك فيهم، فأشيروا عليه، بأن يرسلهم معنا، من غير أن يكلمهم)، وخافا إنْ يسمع النجاشيُ كلامَ المسلمين أن لا يسلِّمهم، فوعدهما أصحاب النجاشي المساعدة على ما يريداه.
ثم إنهما حضرا عند النجاشي، فأعلماه بالذي جاءا من أجله، إلى أرض الحبشة، فأشار أصحابه بتسليم المسلمين إليهما. وغضب المَلِك من ذلك، وقال: (لا والله لا أسلم قومًا جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على مَن سواي، حتى أدعوهم، وأسألهم، عما يقول هذان الرجلان، فإن كانا صادقين، سلمتهم إليهما، وإن كانا على غير ما يذكر هذان الرجلان، منعتهم وأحسنت جوارهم).
وأرسل النجاشي إلى أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم، فدعاهم فحضروا، وقد أجمعوا على صدقه فيما سَرّه وسَاءه، وكان المتكلم عنهم جعفـر بن أبي طالب، فقال لهم النجاشي: (ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا دين أحد من المِلَل؟! فقال جعفر: (أيها الملك! كُنَّا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا منّا رسولاً، نعرف نسبَه، وصدقَه، وأمانتَه، وعفافَه، فدعانا لتوحيد الله، وأن لا نُشرك به شيئًا، ونخلع ما كنّا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة، والصيام)، وعدّد عليه أمور الإسلام، قال: (فآمَنَّا به وصدقناه، وحرّمنا ما حرّم علينا، وحلّلنا ما أحل لنا، فتعدّى علينا قومُنا، فعذّبونا، وفتنونا عن ديننا; ليردُّونا إلى عبادة الأوثان، فلما قهرونا، وظلمونا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورجونا ألا نُظلم عندك، أيها الملك!)
وقال النجاشي: (هل معك مما جاء به عن الله شيء؟! فقال له جعفر: (نعم)، فقال له النجاشي: (فاقرأه عليّ)، فقرأ عليه صدرًا من سورة (كهيعص)، فبكى النجاشي، حتى اخضلَّت لحيته، وبكت أساقفته، حتى أخْضَلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال النجاشي: (إنّ هذا، والذي جاء به عيسى، ليخرجُ من مشكاةٍ واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلّمهم إليكما ولا يُكادون).
وخرج عمرو وصاحبه، من عند النجاشي، فقال عمرو لصاحبه: (والله لآتينَّه غدًا، بما أستأصل به خَضْراءهم)، فقال عبد الله بن أبي ربيعة -وهو الذي أوفدته قريش، مع عمرو، إلى النجاشي، وليس عبد الله بن أبي أمية الذي ذكره قسم من المؤرخين خطأ، بأنه كان مع عمرو في سفارته القرشية إلى النجاشي، لأنه لم يسافر إلى النجاشي مع عمرو، بل الذي رافقه بسفره هذا هو عبد الله بن أبي ربيعة، وكـــان عبـد الله بن أبي ربيعة، أتقى الرجلين: عمــرو، وعبــد الله بن أبي ربيعـــة-: (لا تفعــل، فإن لهم أرحـــامًا، وإن كانوا خالفــونا)، فقال عمرو: (والله لأخبرنَّه، أنهم يزعمون، أن عيسى بن مريم عبدٌ).
وغدا عمرو على النجاشي من الغد، فقال: (أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيمًا، فأرسلْ إليهم فَسَلْهم عما يقولون فيه).
وأرسل النجاشي إلى المسلمين المهاجرين إلى أرض الحبشة، فسألهم عن قولهم في المسيح، فقال جعفر بن أبي طالب: (نقول فيه الذي جاءنا به نبينا: هو عبد الله، ورسوله، وروحه، وكلمته، ألقاها إلى مريم العذراء البتول)، فأخذ النَّجَاشِيُّ عُودًا من الأرض، وقـــــال: (ما عدا عيسى ما قلتَ هذا العود)، فنَخَرتْ بَطَارِقَتُه، فقال: (وإن نخرتم)، وقال للمسلمين: (اذهبوا فأنتم آمنون، ما أُحبُّ أن لي جَبَلاً من ذهب، وأنني آذيت رجلاً منكم)، وردَّ هدية قريش، فخرج عمرو وصاحبه، مقبوحَيْن، مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقام المسلمون معه بخير دار مع خير جار.
وكان أبو طالب عم النبي صلى الله عليه و سلم، حين علم أن قريشًا بعثوا عمرو بن العاص وصاحبه إلى النجاشي، قد بعث أبياتًا من الشعر للنجاشي، يحضه على حسن جوار المسلمين المهاجرين، والدفع عنهم، جاء فيها:
ألا لَيْتَ شِعْري كيفَ في النَّأي جعفرُ
وعمرو وأعداء العدُوِّ الأقاربُ
فهل نالَ أفعالُ النجاشي جعفــــرًا
وأصحابُه أو عاق ذلك شَاغِبُ
تَعَلَّمْ أبيتَ اللَّعْنَ أنك ماجـــــد
كريم فلا يَشْقى لديك المُجَانِبُ
تَعَلَّْم بأنَّ اللهَ زادكَ بَسْطـــةً
وأسبابَ خيرٍ كُلُّها بِك لازبُ
وأنَّك فَيْضٌ ذو سِجَالٍ غزيــرةٍ
يَنَالُ الأعادي نَفْعُها والأقاربُ
ولما عاد عمرو وصاحبه إلى مكة خائِبَيْن، ورأت قريش أنّ الإسلام يفشو ويزيد، ائتَمَروا في أن يكتبوا بينهم كتابًا، يتعاقدون فيه، على ألا يُنكِحُوا بني هاشم، وبني المطَّلب، ولا يَنْكِحُوا إليهم، ولا يبيعوهم، ولا يبتاعون منهم شيئًا، فكتبوا بذلك صحيفة، وتعاهدوا على ذلك، ثم عَلَّقوا الصحيفة في جوف الكعبة، توكيدًا لذلك الأمر على أنفسهم.. فلما فعلت قريش ذلك، انحازت بنو هاشم، وبنو المطلب، إلى أبي طالب، فدخلوا فيه في شِعْبِه واجتمعوا، فأقاموا على ذلك سنتين، أو ثلاثًا، حتى جهدوا، لا يصل إلى أحد منهم شيء إلا سرًا، حتى نقض الصحيفة نَفَر من قريش.
لقد أخفق عمرو، في سفارته لمشركي قريش، إلى النجاشي، إخفاقًا كاملاً، بالرغم من أنه بذل كل ما يستطيعه بَشَرٌ متميز، من أجل تحقيق هدفه، وكان إخفاقه لأنه كان على الباطل، ولأن المسلمين كانوا على الحق، ولأن النجاشي كان حاكمًا عادلاً منصفًا.
.
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع