ابن عامر الشامي
وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
- إنضم
- 20 ديسمبر 2010
- المشاركات
- 10,237
- النقاط
- 38
- الإقامة
- المملكة المغربية
- احفظ من كتاب الله
- بين الدفتين
- احب القراءة برواية
- رواية حفص عن عاصم
- القارئ المفضل
- سعود الشريم
- الجنس
- اخ
عثرةُ الحافظ! ( المراجعة )
أبو الهمام البرقاوي
بسم الله ِ الرحمن الرحيم، ثم أصلي وأسلم على النبيّ الهادي الأمين، وعلى آلهِ وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يومِ الدين.
وبعد.
فإن هذا المقال وما سبقَ كتابتُه ، متعلقٌ بالحفظِ ومراجعتِه في قسم " المتون العلمية " وأما حفظ الوحيَيْنِ ومراجعتُهما فقد كُتِبَ فيهما كثيرًا، وقد قال الزهري: إعادةُ الحديث أشدُّ من نقلِ الصخرة.(1)
وقيل: حدثِ الناس ما حدجوكَ بأبصارهم، وأذنوا لك بأسماعهم، ولحظوك بأبصارهم، فإذا رأيتَ منهم فترةً فأمسك.
بفضلٍ من اللهِ : بدأتُ الحفظ في السنة الخامسة، حتى عمري هذا، ولم يطرأ ببالي يومًا أن أتركَهُ وأنشغل بغيرهِ عنهُ، ومازالتِ الذاكرةُ تساعدُني في سرعةِ الحفظ، ودقّةٍ في تسميعِه، وسهولةٍ في مراجعتِه،ذلك أن الرجلَ إذا خاضَ علمًا صعُب عليهِ الخروجُ منه، وكلما كثُرت مداومةِ الطالب ومعاهدته للحفظ، سهُلَت عليهِ الصعوباتِ التي تأتي كلَّ حافظ.
أقول: إن السائر في حفظِ المتنِ يكون مهموما ومغمومًا؛ حتى ينتهيَ من حفظِهِ كاملًا،فإذا واصل الطلبَ، ولما يحفظِ القرآن بعدُ، فإنك ترى النقصَ واضحًا في أثرنقاشاتِه، وكتاباتِه، ذلك أن القرآنَ الكريم يعطي لحافظِهِ ملكةً في انتخاب الكلمات، وروعةِ التعبير، ودقة الوصف، وحسن الاستنباط، ويمشي بين الردى مفتخرا أو متفاخرًا بما يحملُه من عبءٍ ثقيل، " إناسنلقي عليكَ قولًا ثقيلًا" ، وقد كانت أولَ خطبةٍ لعمرانَ بن حطَّان عند ابن زياد، فسمعَ عمران رجلًا يقولُ ( هذا الفتى أخطبُ العرب، لو كان في خطبتِهِ شيءٌ من القرآنِ)
فإذا أنهاه، فلا يظننّ الرُّحلة قدانتهت، بل أمامه جبلٌ يصعبٌ ارتقاؤه لمن لم يتقيّد بضوابط الحفظ، أما إن تقيَّد،فسهلٌ ينتقل.
وهذه الصعوبة تكمنُ في مراجعة المحفوظِ، وما أسمّيها بـ " عثرةالحافظ " فإذا أتَتْهُ العثرة، فقد أتاهُ الدائان:
(1) نسيانُ المحفوظ، لسرعة الحفظ، أو لعدم معاهدته.
(2) انعدامُ العود إلى المحفوظ؛ لأنّ المراجعةَ التي تُشبِه الحفظ، أشق وأصعب وأثقل على النفس من الحفظِ نفسه؛ لأنه يحسبها ضياعًا للوقت، فيقول: حفظتُ المتن، فلم أراجعه؟
ودواء هذين : أن يراجع نيّتَه، وأن يخلصها من الكدر والدنس، وليصفّها وينقِّها؛ حتى يخالطَ صفاءُ القلوب نقاءَ الأدمغة والمخيخ، وأن يعتبرَ نفسَه حافظًاجديدًا للمتن، وأن يفرّغَ وقتا طويلًا لها؛ لأنّ الوقتَ القصير يجعله مبتعدًا ومستهجنًا للمراجعة الدائمة.
ويُقال أيضا: بطءُ الحفظ،وكثرةُ التكرار، وقد كُتبَ كلامٌ كثير عن فوائد التكرار(2)، وطرقه، ونتائجه، ما يغني عن كتابته مرة أخرى، ولكني أضع خطّا عريضًا حول هذه العثرة العريضة، التي طالما سمعتُها، وملّت أذني من روايتها عند طلاب العلم، وسأسوقُ لك بعض الطرائف، بعد أن أبين حالات الحفاظ :
(1) سريعُ الحفظ، ضئيل المراجعة.
(2) سريع الحفظ، قوي المراجعة.
(3) بطيء الحفظ، ضئيل المراجعة.
(4) بطيء الحفظ، قوي المراجعة.
(5) من يحفظ، ولا يراجع!
ويلزم من قوة المراجعة قوة المحفوظ، وضعف الحفظ ضعف المراجعة، ولا يلزم ذلك في بطء الحفظ وسرعتِه، وأعني بـ " الضئيل " الضعيف، والقليل الهمة.
أما سريع الحفظ، ضعيف المراجعة: فمن همُّه أنْ يكون حافظًا، ويرى شذوذ زيادة (متقنا) وهذا أوقعَ نفسَه في دائرة ٍ فيها بعضُ السوء، فقد أضاعَ وقتَه، وتلبَّس بما لم يُعطَ، ولم يُستفِد أو يُستفَد منه بشيء، فكأنُّه أسوأُ ممن لم يحفظ، ويكون بذاك قد أهدرَ موهبتَه فيما لا تَنفعُ نتائجهُا، ولا تُؤكل ثمرتها.
أما سريع الحفظ، قوي المراجعة: فهو الذي أعطي حدسًا قويًا، وحفظًا نادرًا، ويرى ثبوت زيادة (متقنًا) فهذا قد اختصر وقتَه، وقد تعاهد المراجعة كثيرًا، مما ساعدَهُ على استغلال همتِه، والحرص أن لا تذهب هباءً منثورًا.
وأما بطيء الحفظ، ضئيل المراجعة: فمثل الرجل الأول، إلا أنَّهُ أضاعَ وقتا أكثر منه.
أما بطيء الحفظ، قوي المراجعة: فهو أفضلُهم، وأنجعهمُ، وأكثرهم استفادة وإفادة، فالحفظُ البطيء مع المراجعة، بتَكرار المتن، أو تسميعه، أو كتابتها حفظًا ومراجعة، خيرُ وسيلةٍ مررتُ بها في تجرِبتي، وسآتي بأمثلة عملية في آخر المقال- إن شاء الله-.
أما من يحفظ ولا يراجع، فهو على صور:
الصورةُ الأولى: أن لا يراجع، لطول المدة في تركِ المادة المحفوظة، فيظنُّها جبًلا يصعبُ ارتقاؤه.
الصورة الثانية : أن يتعاجزَ عن المراجعة؛ لكثرتِه، ولانشغاله بما يَظنُّه أهم علميًّا.
الصورة الثالثة : أن لا يفقه معاني المتن، أو لم يدرس شرحه، فيرى أنُّه يعيدُ شيئًا من ذاكرتِه قد نسيَهُ، لا أن تجدِّدَ له الذاكرةُ شيئًا مفيدًا، فيمتنع، والنفس تتشوق للجديد والغريب!.
كيفيُّةُ المراجعة لرابط الجأش، وعزيمِ الهمة.
* المراجعةُ أصعبُ حالًا من الحفظ، وتتطلبُ وقتًا وهمةً أكبر وأكثر؛ حتى يترسَّخَ المحفوظ، ويُستئصَلَ داءُ النسيان، وكثرةُ الوهمِ والهذيان، بشكلٍ عام.
* يتمُّ حفظ الوردِ اليومي بعد الفجر، ويُراجع ما بين المغربِ والعشاء.
* لا تتقدَّمْ في الحفظ، وأنت ترى نفسَكَ محتاجًا لمراجعة ما مضى.
* لا يهمنُّك الانتهاءُ من المتن؛ ليقال " حافظ "، بل ليقال " حافظٌ ضابطٌ متقن ".
* آفةُ العلمِ النسيانُ، والقرّاء كثيرون، لكن الحفَّاظ لما يقرؤون قلة.
* إذا حفظتَ متنًا علميًّا، وأنت على أوجِ نسيانِه، فكما يُقال " احفظْ خطَّ الرجعة " وبادر بالمراجعةِ، فإنها لن تكون بالصعوبة الكائنة عمن يتحدّثُ عنهُ صاحبُكم.
* لا تبدأ بأكثرَ من متنين، إن لم تكن أهلًا لهما، فهو سبيلُ شتاتٍ، وذهاب لما حفظتَه إلى فتات، فاربأ بنفسك، ورويدًا رويدًا، فالعلم نقطةٌ كثّرها الجهلاء وهم المتلبسون بلباسه، المتنكرون بزِيّه!
* أوزعُ المنافسة بين المراجعين للمحفوظ، ووضع وقت محدود، وجائزة لأكثرِهم ضبطًا وإتقانا.
* لا تكثر – وقتا – في المراجعة والحفظ، فهو يسبّبُ الضجرَ والملل، والانزعاج وبُعد الأمل.
* اختبار قوة الحفظ أن تحفظ سريعا ثم تنام ثم تستيقظ فتسمع دون مراجعة.
الحفاظ، والمراجعة!
الأولى : جاءني في آخر رمضان حافظٌ للقرآن، ومعهُ أصيحابه، فلما طالَ بنا المجلس، وحان وقتُ صلاةِ القيَام، سألتُ أكبرَهم، أيش تحفظ؟ وأيش رايك تؤم بنا، فقال: القرآن الكريم، واعذرني عن الإمامة، فإذا بمن معه قد أجرَو ألسنتَهم مديحًا له بقولهم : حافظ، متقن، صوتهُ جميلٌ، إلخ هذه الترهات...
فلما ألححتُ عليه المسألة، تقدَّم ليَؤُمّ بنا ركعتين، فاشترط عليَّ القرآءة بـ " الآيفون " فقلتُ له : يا هذا! ألستَ حافظًا له؟ قال –على استحياء- بلى، ولكني نسيتُه، قلتُ: مثلكَ كثير،ولكن اقرأ آخر جزءِ عمّ، أو ما يحفظُه العامّة، قال: لا، إلا بالجوال، وكان عليَّ أن أمنعَه، لكن لم أحظَ بذلك، وقد فطرتُ شفقا وانقدتُ غيظًا.
فقرأ شيئًا من " طه " ومن بداية البقرة، ويا أسفي على من يركبُ المطيّة وليس أهلًا لها، ويا حسرتي عليهِ في هجرهِ لمن منَّ اللهُ عليه بدخوله، وحلاهُ بأن يلبسه، (إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا) مما يدلُّ أنه قد حُرمَ هذه المزيَّة، وكان إثمُه النسيان، وهذا حالُ كلِّ هاجرٍ له، فكيف في رمضان؟
الثانية: تذاكرتُ مع شابٍّ بعض المتون العلمية، فلم أذكر لهُ متنا علميًّا،إلا قال : حفظتُه، درستُه، قرأتُه،فإذا سألتهُ سؤالًا أبجديًّا فيه، قال: والله محتاج أراجع!
علام التفاخر؟ والتشبع بما لم نعط ؟ أنُستعظَم في أعينِ الناس، وفي عينِ نفسك وربِّك صغيرٌ مهان!
الثالث: لا يرى فرصة للإمامة إلا تقدم لها، ورأى نفسه أحقَّ بها وأهلَها، وإن سُئل: أتحفظُ القرآن؟ أجاب بـ نعم، أقول: نعم صدق وهو كذوب! فقد أبهرَ الجميع بأنَّه أنهى آخر القرآن في أيام عديدة، وتفاخر بها مدة من الزمن، لكنه بعدُ تواضع قليلًا، فلم يعد يجيبُ صراحة عن السؤال، ولم يستنكف أن يباشر الإمامة والخطابة، وآفتُه: حفظُه السريع، وهجره للقرآن، فإنَّ الهمة تكون في آخر أيام الحفظ في أعلى درجاتِها،فإذا ما حفظ انقلبت على عقبها، ورجعت القهقرى، ونكصت على أعقابها، إلا أن يرحمه الله!.
الرابعة: قد سمعتُ وقرأتُ كثيرًا عن " التَّكرار " وتعاهد المراجعة، إلا أني حين بدأت بـ" طيبة النشر " قلتُ: حان تطبيقُ القول، فمن خالفت أفعالُه كانت أفعى له، وإن وافقت أقوالَه كانت أقوى له، فمكثت مدة طويلة على مائتين وخمسين بيتًا منها، فلما جاءني شيخنا القارئ " .... " وانتهيتُ تدرجًا من تسميعها، جاءت البشرى.
قال لي: لو تركت المتن سنوات، لما صعُب عليك الرجوع إليه؛ لهذا الحفظِ المتقن، ولم أبقَ مكاني حين قالها لي، بل زاد قلبي اطمئنانًا لما قاله، فمكثت أسبوعا أراجعهن، حتى جاءَ يومُ النفرة!
أتيتُ والدتي، وقلتُ لها : اسمعي لي، وحين قرأت أول المقدمة، قلتُ : هذا سهل، لننتقل لما بعدها، وهكذا حتى أنهيتُ الأبواب، ولم أقرأ بمجموع الجلسة عشرين بيتًا، حتى أغلقتُ الكتاب وأنا على مضض، لكن زال به مرض، وهو الخوفُ من النسيان، وحرمان الجهد فيما سبق، والفضلُ والكمالُ لذي الجلال، ولم أقل ما قلتُ إلا تِبيانا عن تجرِبة يقينيّة في تثبيت المحفوظ، وقد قال شيخٌ لي: إني أداوم المطالعة في ألفية ابن مالكِ كل أسبوع! (3)(4).
أخيرًا : أسألُ اللهَ أن لا يكون كلامي هذا لغوا بهرجًا، ساقطًا مطّرحًا، هجينًا رديًا مستكرًها، متوعرًا وحشيّا، ساقطًا سوقيًّا، بل يكون مقبولًا موسومًا بما يفيد، مألوفا معلوما، وإنَّ القلمَ أحدُ اللسانين، وهو أبقى أثرًا، واللسان أكثَرُ هذرًا، وقيمةُ كل امرئٍ ما يحسنُه، فهذه كتابتي وهذا ما أحسنُه من التحبير والتنميق، فلا يلومني أحدٌ، بل يفصحُ فينصح، ويعقِّب، ويصلِّح، ويهذّب، وينقِّح، وإن لم تروا ما فيه صالحٌ لأن يكون فائدةً، فاضربوا عمّا قلتُ صفحًا، واطوُوا عنهُ كشحًا.
وأسأله أن يرزقنا المجالسة مع الأكابر والأفاضل، أهلِ العلم المعلِّم منهم والمناضل، ويبعدَ عنا مجالسة الجهّال والنوكى، والسخفاء والحمقى.
كتبُه
أخوكم/ أبو الهُمَام البرقاوي
الجمعة، الموافق /11/11/2011م
6/11/1432هـ.
أبو الهمام البرقاوي
بسم الله ِ الرحمن الرحيم، ثم أصلي وأسلم على النبيّ الهادي الأمين، وعلى آلهِ وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يومِ الدين.
وبعد.
فإن هذا المقال وما سبقَ كتابتُه ، متعلقٌ بالحفظِ ومراجعتِه في قسم " المتون العلمية " وأما حفظ الوحيَيْنِ ومراجعتُهما فقد كُتِبَ فيهما كثيرًا، وقد قال الزهري: إعادةُ الحديث أشدُّ من نقلِ الصخرة.(1)
وقيل: حدثِ الناس ما حدجوكَ بأبصارهم، وأذنوا لك بأسماعهم، ولحظوك بأبصارهم، فإذا رأيتَ منهم فترةً فأمسك.
بفضلٍ من اللهِ : بدأتُ الحفظ في السنة الخامسة، حتى عمري هذا، ولم يطرأ ببالي يومًا أن أتركَهُ وأنشغل بغيرهِ عنهُ، ومازالتِ الذاكرةُ تساعدُني في سرعةِ الحفظ، ودقّةٍ في تسميعِه، وسهولةٍ في مراجعتِه،ذلك أن الرجلَ إذا خاضَ علمًا صعُب عليهِ الخروجُ منه، وكلما كثُرت مداومةِ الطالب ومعاهدته للحفظ، سهُلَت عليهِ الصعوباتِ التي تأتي كلَّ حافظ.
أقول: إن السائر في حفظِ المتنِ يكون مهموما ومغمومًا؛ حتى ينتهيَ من حفظِهِ كاملًا،فإذا واصل الطلبَ، ولما يحفظِ القرآن بعدُ، فإنك ترى النقصَ واضحًا في أثرنقاشاتِه، وكتاباتِه، ذلك أن القرآنَ الكريم يعطي لحافظِهِ ملكةً في انتخاب الكلمات، وروعةِ التعبير، ودقة الوصف، وحسن الاستنباط، ويمشي بين الردى مفتخرا أو متفاخرًا بما يحملُه من عبءٍ ثقيل، " إناسنلقي عليكَ قولًا ثقيلًا" ، وقد كانت أولَ خطبةٍ لعمرانَ بن حطَّان عند ابن زياد، فسمعَ عمران رجلًا يقولُ ( هذا الفتى أخطبُ العرب، لو كان في خطبتِهِ شيءٌ من القرآنِ)
فإذا أنهاه، فلا يظننّ الرُّحلة قدانتهت، بل أمامه جبلٌ يصعبٌ ارتقاؤه لمن لم يتقيّد بضوابط الحفظ، أما إن تقيَّد،فسهلٌ ينتقل.
وهذه الصعوبة تكمنُ في مراجعة المحفوظِ، وما أسمّيها بـ " عثرةالحافظ " فإذا أتَتْهُ العثرة، فقد أتاهُ الدائان:
(1) نسيانُ المحفوظ، لسرعة الحفظ، أو لعدم معاهدته.
(2) انعدامُ العود إلى المحفوظ؛ لأنّ المراجعةَ التي تُشبِه الحفظ، أشق وأصعب وأثقل على النفس من الحفظِ نفسه؛ لأنه يحسبها ضياعًا للوقت، فيقول: حفظتُ المتن، فلم أراجعه؟
ودواء هذين : أن يراجع نيّتَه، وأن يخلصها من الكدر والدنس، وليصفّها وينقِّها؛ حتى يخالطَ صفاءُ القلوب نقاءَ الأدمغة والمخيخ، وأن يعتبرَ نفسَه حافظًاجديدًا للمتن، وأن يفرّغَ وقتا طويلًا لها؛ لأنّ الوقتَ القصير يجعله مبتعدًا ومستهجنًا للمراجعة الدائمة.
ويُقال أيضا: بطءُ الحفظ،وكثرةُ التكرار، وقد كُتبَ كلامٌ كثير عن فوائد التكرار(2)، وطرقه، ونتائجه، ما يغني عن كتابته مرة أخرى، ولكني أضع خطّا عريضًا حول هذه العثرة العريضة، التي طالما سمعتُها، وملّت أذني من روايتها عند طلاب العلم، وسأسوقُ لك بعض الطرائف، بعد أن أبين حالات الحفاظ :
(1) سريعُ الحفظ، ضئيل المراجعة.
(2) سريع الحفظ، قوي المراجعة.
(3) بطيء الحفظ، ضئيل المراجعة.
(4) بطيء الحفظ، قوي المراجعة.
(5) من يحفظ، ولا يراجع!
ويلزم من قوة المراجعة قوة المحفوظ، وضعف الحفظ ضعف المراجعة، ولا يلزم ذلك في بطء الحفظ وسرعتِه، وأعني بـ " الضئيل " الضعيف، والقليل الهمة.
أما سريع الحفظ، ضعيف المراجعة: فمن همُّه أنْ يكون حافظًا، ويرى شذوذ زيادة (متقنا) وهذا أوقعَ نفسَه في دائرة ٍ فيها بعضُ السوء، فقد أضاعَ وقتَه، وتلبَّس بما لم يُعطَ، ولم يُستفِد أو يُستفَد منه بشيء، فكأنُّه أسوأُ ممن لم يحفظ، ويكون بذاك قد أهدرَ موهبتَه فيما لا تَنفعُ نتائجهُا، ولا تُؤكل ثمرتها.
أما سريع الحفظ، قوي المراجعة: فهو الذي أعطي حدسًا قويًا، وحفظًا نادرًا، ويرى ثبوت زيادة (متقنًا) فهذا قد اختصر وقتَه، وقد تعاهد المراجعة كثيرًا، مما ساعدَهُ على استغلال همتِه، والحرص أن لا تذهب هباءً منثورًا.
وأما بطيء الحفظ، ضئيل المراجعة: فمثل الرجل الأول، إلا أنَّهُ أضاعَ وقتا أكثر منه.
أما بطيء الحفظ، قوي المراجعة: فهو أفضلُهم، وأنجعهمُ، وأكثرهم استفادة وإفادة، فالحفظُ البطيء مع المراجعة، بتَكرار المتن، أو تسميعه، أو كتابتها حفظًا ومراجعة، خيرُ وسيلةٍ مررتُ بها في تجرِبتي، وسآتي بأمثلة عملية في آخر المقال- إن شاء الله-.
أما من يحفظ ولا يراجع، فهو على صور:
الصورةُ الأولى: أن لا يراجع، لطول المدة في تركِ المادة المحفوظة، فيظنُّها جبًلا يصعبُ ارتقاؤه.
الصورة الثانية : أن يتعاجزَ عن المراجعة؛ لكثرتِه، ولانشغاله بما يَظنُّه أهم علميًّا.
الصورة الثالثة : أن لا يفقه معاني المتن، أو لم يدرس شرحه، فيرى أنُّه يعيدُ شيئًا من ذاكرتِه قد نسيَهُ، لا أن تجدِّدَ له الذاكرةُ شيئًا مفيدًا، فيمتنع، والنفس تتشوق للجديد والغريب!.
كيفيُّةُ المراجعة لرابط الجأش، وعزيمِ الهمة.
* المراجعةُ أصعبُ حالًا من الحفظ، وتتطلبُ وقتًا وهمةً أكبر وأكثر؛ حتى يترسَّخَ المحفوظ، ويُستئصَلَ داءُ النسيان، وكثرةُ الوهمِ والهذيان، بشكلٍ عام.
* يتمُّ حفظ الوردِ اليومي بعد الفجر، ويُراجع ما بين المغربِ والعشاء.
* لا تتقدَّمْ في الحفظ، وأنت ترى نفسَكَ محتاجًا لمراجعة ما مضى.
* لا يهمنُّك الانتهاءُ من المتن؛ ليقال " حافظ "، بل ليقال " حافظٌ ضابطٌ متقن ".
* آفةُ العلمِ النسيانُ، والقرّاء كثيرون، لكن الحفَّاظ لما يقرؤون قلة.
* إذا حفظتَ متنًا علميًّا، وأنت على أوجِ نسيانِه، فكما يُقال " احفظْ خطَّ الرجعة " وبادر بالمراجعةِ، فإنها لن تكون بالصعوبة الكائنة عمن يتحدّثُ عنهُ صاحبُكم.
* لا تبدأ بأكثرَ من متنين، إن لم تكن أهلًا لهما، فهو سبيلُ شتاتٍ، وذهاب لما حفظتَه إلى فتات، فاربأ بنفسك، ورويدًا رويدًا، فالعلم نقطةٌ كثّرها الجهلاء وهم المتلبسون بلباسه، المتنكرون بزِيّه!
* أوزعُ المنافسة بين المراجعين للمحفوظ، ووضع وقت محدود، وجائزة لأكثرِهم ضبطًا وإتقانا.
* لا تكثر – وقتا – في المراجعة والحفظ، فهو يسبّبُ الضجرَ والملل، والانزعاج وبُعد الأمل.
* اختبار قوة الحفظ أن تحفظ سريعا ثم تنام ثم تستيقظ فتسمع دون مراجعة.
الحفاظ، والمراجعة!
الأولى : جاءني في آخر رمضان حافظٌ للقرآن، ومعهُ أصيحابه، فلما طالَ بنا المجلس، وحان وقتُ صلاةِ القيَام، سألتُ أكبرَهم، أيش تحفظ؟ وأيش رايك تؤم بنا، فقال: القرآن الكريم، واعذرني عن الإمامة، فإذا بمن معه قد أجرَو ألسنتَهم مديحًا له بقولهم : حافظ، متقن، صوتهُ جميلٌ، إلخ هذه الترهات...
فلما ألححتُ عليه المسألة، تقدَّم ليَؤُمّ بنا ركعتين، فاشترط عليَّ القرآءة بـ " الآيفون " فقلتُ له : يا هذا! ألستَ حافظًا له؟ قال –على استحياء- بلى، ولكني نسيتُه، قلتُ: مثلكَ كثير،ولكن اقرأ آخر جزءِ عمّ، أو ما يحفظُه العامّة، قال: لا، إلا بالجوال، وكان عليَّ أن أمنعَه، لكن لم أحظَ بذلك، وقد فطرتُ شفقا وانقدتُ غيظًا.
فقرأ شيئًا من " طه " ومن بداية البقرة، ويا أسفي على من يركبُ المطيّة وليس أهلًا لها، ويا حسرتي عليهِ في هجرهِ لمن منَّ اللهُ عليه بدخوله، وحلاهُ بأن يلبسه، (إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا) مما يدلُّ أنه قد حُرمَ هذه المزيَّة، وكان إثمُه النسيان، وهذا حالُ كلِّ هاجرٍ له، فكيف في رمضان؟
الثانية: تذاكرتُ مع شابٍّ بعض المتون العلمية، فلم أذكر لهُ متنا علميًّا،إلا قال : حفظتُه، درستُه، قرأتُه،فإذا سألتهُ سؤالًا أبجديًّا فيه، قال: والله محتاج أراجع!
علام التفاخر؟ والتشبع بما لم نعط ؟ أنُستعظَم في أعينِ الناس، وفي عينِ نفسك وربِّك صغيرٌ مهان!
الثالث: لا يرى فرصة للإمامة إلا تقدم لها، ورأى نفسه أحقَّ بها وأهلَها، وإن سُئل: أتحفظُ القرآن؟ أجاب بـ نعم، أقول: نعم صدق وهو كذوب! فقد أبهرَ الجميع بأنَّه أنهى آخر القرآن في أيام عديدة، وتفاخر بها مدة من الزمن، لكنه بعدُ تواضع قليلًا، فلم يعد يجيبُ صراحة عن السؤال، ولم يستنكف أن يباشر الإمامة والخطابة، وآفتُه: حفظُه السريع، وهجره للقرآن، فإنَّ الهمة تكون في آخر أيام الحفظ في أعلى درجاتِها،فإذا ما حفظ انقلبت على عقبها، ورجعت القهقرى، ونكصت على أعقابها، إلا أن يرحمه الله!.
الرابعة: قد سمعتُ وقرأتُ كثيرًا عن " التَّكرار " وتعاهد المراجعة، إلا أني حين بدأت بـ" طيبة النشر " قلتُ: حان تطبيقُ القول، فمن خالفت أفعالُه كانت أفعى له، وإن وافقت أقوالَه كانت أقوى له، فمكثت مدة طويلة على مائتين وخمسين بيتًا منها، فلما جاءني شيخنا القارئ " .... " وانتهيتُ تدرجًا من تسميعها، جاءت البشرى.
قال لي: لو تركت المتن سنوات، لما صعُب عليك الرجوع إليه؛ لهذا الحفظِ المتقن، ولم أبقَ مكاني حين قالها لي، بل زاد قلبي اطمئنانًا لما قاله، فمكثت أسبوعا أراجعهن، حتى جاءَ يومُ النفرة!
أتيتُ والدتي، وقلتُ لها : اسمعي لي، وحين قرأت أول المقدمة، قلتُ : هذا سهل، لننتقل لما بعدها، وهكذا حتى أنهيتُ الأبواب، ولم أقرأ بمجموع الجلسة عشرين بيتًا، حتى أغلقتُ الكتاب وأنا على مضض، لكن زال به مرض، وهو الخوفُ من النسيان، وحرمان الجهد فيما سبق، والفضلُ والكمالُ لذي الجلال، ولم أقل ما قلتُ إلا تِبيانا عن تجرِبة يقينيّة في تثبيت المحفوظ، وقد قال شيخٌ لي: إني أداوم المطالعة في ألفية ابن مالكِ كل أسبوع! (3)(4).
أخيرًا : أسألُ اللهَ أن لا يكون كلامي هذا لغوا بهرجًا، ساقطًا مطّرحًا، هجينًا رديًا مستكرًها، متوعرًا وحشيّا، ساقطًا سوقيًّا، بل يكون مقبولًا موسومًا بما يفيد، مألوفا معلوما، وإنَّ القلمَ أحدُ اللسانين، وهو أبقى أثرًا، واللسان أكثَرُ هذرًا، وقيمةُ كل امرئٍ ما يحسنُه، فهذه كتابتي وهذا ما أحسنُه من التحبير والتنميق، فلا يلومني أحدٌ، بل يفصحُ فينصح، ويعقِّب، ويصلِّح، ويهذّب، وينقِّح، وإن لم تروا ما فيه صالحٌ لأن يكون فائدةً، فاضربوا عمّا قلتُ صفحًا، واطوُوا عنهُ كشحًا.
وأسأله أن يرزقنا المجالسة مع الأكابر والأفاضل، أهلِ العلم المعلِّم منهم والمناضل، ويبعدَ عنا مجالسة الجهّال والنوكى، والسخفاء والحمقى.
كتبُه
أخوكم/ أبو الهُمَام البرقاوي
الجمعة، الموافق /11/11/2011م
6/11/1432هـ.
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع