ابن عامر الشامي
وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
- إنضم
- 20 ديسمبر 2010
- المشاركات
- 10,237
- النقاط
- 38
- الإقامة
- المملكة المغربية
- احفظ من كتاب الله
- بين الدفتين
- احب القراءة برواية
- رواية حفص عن عاصم
- القارئ المفضل
- سعود الشريم
- الجنس
- اخ
الموسوعة الفقهية / الجزء الأول
أ
( أئمّة )
التّعريف :
1 - الأئمّة لغةً : من يقتدى بهم من رئيس أو غيره . مفرده : إمام . ولا يبعد المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ ، بإطلاقه الشّامل للمقتدى بهم عموماً في مجال الخير والشّرّ ، طوعاً أو كرهاً .
الاطلاقات المختلفة لهذا المصطلح
2 - يطلق على الأنبياء عليهم السلام أنّهم « أئمّة » من حيث يجب على الخلق اتّباعهم ، قال اللّه تعالى عقب ذكر بعض الأنبياء : { وجعلناهم أئمّةً يهدون بأمرنا } كما يطلق على الخلفاء « أئمّةً » لأنّهم رتّبوا في المحلّ الّذي يجب على النّاس اتّباعهم وقبول قولهم وأحكامهم . وتوصف إمامتهم بالإمامة الكبرى ، كما يطلق أيضاً على الّذين يصلّون بالنّاس - وتقيّد هذه الإمامة بأنّها الإمامة الصّغرى - لأنّ من دخل في صلاتهم لزمه الائتمام بهم ، قال عليه الصلاة والسلام : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، ولا تختلفوا على إمامكم » . وهناك إطلاقات اصطلاحيّة أخرى لمصطلح « أئمّة » عند العلماء تختلف من علم لآخر ، فهو يطلق عند الفقهاء على مجتهدي الشّرع أصحاب المذاهب المتبوعة ، وإذا قيل « الأئمّة الأربعة » انصرف ذلك إلى أبي حنيفة ، ومالك ، والشّافعيّ ، وأحمد . ويطلق عند الأصوليّين على من لهم سبق في تدوين الأصول بطرائقه الثّلاث : طريقة المتكلّمين ، كالجوينيّ والغزاليّ . وطريقة الحنفيّة ، كالكرخيّ والبزدويّ ، والطّريقة الجامعة بينهما ، كابن السّاعاتيّ والسّبكيّ ، وأمثالهم . ويطلق عند المفسّرين على أمثال مجاهد ، والحسن البصريّ ، وسعيد بن جبير . ويطلق في علم القراءات على القرّاء العشرة الّذين تواترت قراءاتهم وهم : نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، وخلف . ويطلق مصطلح « أئمّة " عند المحدّثين على أهل الجرح والتّعديل كعليّ بن المدينيّ ويحيى بن معين وأمثالهما . وإذا قيل عندهم " الأئمّة السّتّة " انصرف ذلك إلى الأئمّة : البخاريّ ، ومسلم ، وأبي داود ، والتّرمذيّ ، والنّسائيّ ، وابن ماجه . وعدّ بعضهم مالكاً بدلاً من ابن ماجه ، وبعضهم أبدله بالدّارميّ . ويطلق عند المتكلّمين على أمثال الأشعريّ والماتريديّ ممّن لهم مذاهب وأتباع في العقيدة .
( الحكم الإجماليّ )
3 - اجتهادات أحد أئمّة المذاهب الفقهيّة المعتبرة ( الّتي نقلت نقلاً صحيحاً منضبطاً تمّ به تقييد مطلقها ، وتخصيص عامّها ، وذكر شروط فروعها ) يخيّر في الأخذ بأحد تلك الاجتهادات لمن ليست لديه أهليّة الاجتهاد . وليس من الضّروريّ التزام مذهب معيّن . على أنّ من كانت لديه ملكة التّرجيح والتّخريج فإنّه يستعين بالاجتهادات الفقهيّة كلّها بعد التّثبّت من صحّة نقلها - ولو نقلت مجملةً - وله الأخذ بها عملاً وإفتاءً في ضوء قواعد الاستنباط والتّرجيح . وتلفيق عبادة واحدة أو تصرّف واحد من اجتهادات أئمّة متعدّدين في صحّته خلاف . وتفصيل ذلك كلّه موطنه الملحق الأصوليّ ، ومصطلحات : اجتهاد ، إفتاء ، قضاء ، تقليد ، تلفيق .
4 - وفي الإمامة بنوعيها : الإمامة العظمى ( الخلافة ) في قطر واحد ، والصّغرى ( إمامة الصّلاة ) في وقت واحد ومكان واحد ، يمتنع تعدّد الأئمّة في الجملة ، حتّى لا تتفرّق كلمة المسلمين . وتفصيل ذلك يرجع إليه في : إمامة الصّلاة ، والإمامة الكبرى .
5 - وفي أصول الفقه وأصول علم الحديث يقبل من الأئمّة ما أرسله أحدهم من أحاديث . والمرسل عند المحدّثين ما قال فيه التّابعيّ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
6 - والأكثرون على قبول مراسيل الأئمّة من التّابعين إذا كان الرّاوي ثقةً . ولهذا قالوا " من أسند فقد حمل ، ومن أرسل فقد تحمّل » . ومثّل لهم صاحب مسلم الثّبوت بالحسن البصريّ وسعيد بن المسيّب وإبراهيم النّخعيّ .
( آباء )
التّعريف
1 - الآباء جمع أب . والأب الوالد . « والأصول » أعمّ من الآباء ، لشمول الأصول للأمّهات والأجداد والجدّات . ويجوز في اللّغة استعمال " الآباء " شاملاً للأجداد ، لما لهم على الشّخص من الولادة . وقد يدخل الأعمام ، لأنّ العمّ يسمّى أباً مجازاً . ومنه قول اللّه تعالى حاكياً عن أولاد يعقوب عليه السلام : { قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } . فإنّ إسماعيل عمّ يعقوب عليهما السلام .
2 - ويستعمل « الآباء » في كلام الفقهاء بمعنى الوالدين الذّكور ، كما في الاستعمال اللّغويّ .
( الحكم الإجماليّ )
3 - يختلف الفقهاء إذا استعملت هذه العبارة في صيغة وصيّة أو نحوها - في تناولها للأجداد ، لاختلافهم في أنّ اللّفظ هل يصحّ أن يراد به حقيقته ومجازه في آن واحد ، فإنّ إطلاق " الآباء " على الأجداد مجاز . وطريقة الحنفيّة أنّه « لا يصحّ أن يراد من اللّفظ معناه الحقيقيّ والمجازيّ في آن واحد ، لرجحان المتبوع على التّابع » كما في التّنقيح . قال سعد الدّين التّفتازانيّ : « فلو أمّن المسلمون الكفّار على الآباء والأمّهات فإنّه لا يتناول الأجداد والجدّات . « وجاء في الفتاوى الهنديّة في باب الوصيّة نقلاً عن المحيط » إذا أوصى لآباء فلان وفلان ، ولهم آباء وأمّهات ، دخلوا في الوصيّة ، ولو لم يكن لهم آباء وأمّهات ، وإنّما لهم أجداد وجدّات ، فإنّهم لا يدخلون في الوصيّة . « وفي الهنديّة أيضاً » بئئ قال محمّد رحمه الله : فإن كان لسانهم الّذي يتكلّمون به أنّ الجدّ والد ، يدخل في الأمان » . وأمّا عند الشّافعيّة والجمهور ، فيصحّ إطلاق اللّفظ الواحد على حقيقته ومجازه في آن واحد . ولعلّ هذا مبنى ما قال الرّمليّ من الشّافعيّة : من قال : أوصيت لآباء فلان ، يدخل الأجداد من الطّرفين . يعني من قبل الأب والأمّ .
( مواطن البحث )
4 - هذا وقد ذكر بعض الفقهاء هذه المسألة في مباحث الوصيّة ومباحث الأمان . ويرجع إليها أيضاً في مباحث " المشترك " من أصول الفقه . ولمعرفة سائر أحكام الآباء ( ر : أب )
.
آبار
المبحث الأوّل
تعريف الآبار وبيان أحكامها العامّة
1 - الآبار جمع بئر ، مأخوذ من " بأر " أي حفر . ويجمع أيضاً جمع قلّة على أبورً وآبر . وجمع الكثرة منه بئار . وينقل ابن عابدين في حاشيته عن " النّتف » : البئر هي الّتي لها موادّ من أسفلها ، أي لها مياه تمدّها وتنبع من أسفلها . وقال : ولا يخفى أنّه على هذا التّعريف يخرج الصّهريج والجبّ والآبار الّتي تملأ من المطر ، أو من الأنهار ، والّتي يطلق عليها اسم الرّكيّة ( على وزن عطيّة ) كما هو العرف ، إذ الرّكيّة هي البئر ، كما في القاموس . لكن في العرف هي بئر يجتمع ماؤها من المطر ، فهي بمعنى الصّهريج . وفي حاشية البجيرميّ على شرح الخطيب أنّ " البئر " قد تطلق على المكان الّذي ينزل فيه البول والغائط ، وهي الحاصل الّذي تحت بيت الرّاحة . ويسمّى الآن بالخزّان . ويقال عن هذه البئر : بئر الحشّ ، والحشّ هو بيت الخلاء .
2 - والأصل في ماء الآبار الطّهوريّة ( أي كونه طاهراً في نفسه مطهّراً لغيره ) ، فيصحّ التّطهير به اتّفاقاً ، إلاّ إذا تنجّس الماء أو تغيّر أحد أوصافه على تفصيل في التّغيّر يعرف في أحكام المياه . غير أنّ هناك آباراً تكلّم الفقهاء عن كراهة التّطهير بمائها لأنّها في أرض مغضوب عليها . وهناك من الآبار ما نصّ الفقهاء على اختصاصها بالفضل ، ورتّبوا على ذلك بعض الأحكام .
المبحث الثّاني
حفر الآبار لإحياء الموات وتعلّق حقّ النّاس بمائها
أوّلاً : حفر البئر لإحياء الموات
3 - حفر البئر وخروج الماء منها طريق من طرق الإحياء . وقد أجمع الفقهاء على أنّه إذا تمّ تفجير الماء والانتفاع به في الإنبات ، مع نيّة التّملّك ، يتمّ به الإحياء . وذهب جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إلى أنّ تفجير الماء يتمّ به الإحياء في الجملة ، غير أنّ المالكيّة يشترطون إعلان النّيّة إذا كانت البئر بئر ماشية . والشّافعيّة في الصّحيح يشترطون الغرس إذا كانت البئر لبستان ، كما يشترطون نيّة التّملّك . واشترط بعضهم طيّها ( أي بناء جدرانها ) إذا كانت في أرض رخوة أمّا الحنفيّة فيرون أنّ الإحياء لا يتمّ بتفجير الماء وحده ، وإنّما بالحفر وسقي الأرض . ولا خلاف في أنّ للبئر في الأرض الموات حريماً ، لحاجة الحفر والانتفاع ، حتّى لو أراد أحد أن يحفر بئراً في حريمه له أن يمنعه ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل للبئر حريماً . واختلفوا في المقدار الّذي يعتبر حريماً ، فحدّده الحنفيّة والحنابلة بالأذرع حسب نوع البئر . ويستند المذهبان في ذلك إلى ما ورد من أخبار . أمّا المالكيّة والشّافعيّة فقدّروه بما لا يضيق على الوارد ، ولا على مناخ إبلها ، ولا مرابض مواشيها عند الورود ، ولا يضرّ بماء البئر . وتفصيل ذلك في مصطلح « إحياء الموات » .
ثانياً : تعلّق حقّ النّاس بماء الآبار
4 - الأصل في هذه المسألة ما رواه الخلاّل عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من أنّه قال : « النّاس شركاء في ثلاث : الماء والكلإ والنّار » . كما روي أنّه صلى الله عليه وسلم : « نهى عن بيع الماء إلاّ ما حمل منه » . والاستثناء يدلّ على أنّ المراد بالماء في الحديث الأوّل غير المحرز . وعلى هذا فمياه الآبار العامّة مباحة ، ولا ملك فيها لأحد ، إلاّ بالاغتراف . وأمّا مياه الآبار الخاصّة فإنّها خرجت عن الإباحة العامّة . ولمّا كانت حاجة الإنسان إلى الماء لشربه وشرب حيوانه ممّا يسمّيه الفقهاء بحقّ الشّفة ماسةً ومتكرّرةً ، كما أنّ أصل الماء قبل جريانه في الملك الخاصّ مباح ، وأنّ مياه الآبار في الأعمّ الأغلب متّصلة بالمجرى العامّ ، أوجد ذلك شبهة الإباحة في ماء الآبار الخاصّة ، لكنّها إباحة قاصرة على حقّ الشّفة دون حقّ الشّرب .
5 - واتّجاهات الفقهاء مختلفة بالنّسبة لملكيّة ماء آبار الدّور والأراضي المملوكة ، وتعلّق حقّ النّاس بها . فقيل بأنّ للنّاس حقّاً فيها . وهو قول عند الحنفيّة إذا لم يوجد ماء قريب في غير ملك أحد ، حتّى لو لم يفض عن حاجته عند أبي حنيفة . وقيّد أكثر المشايخ ذلك بما إذا كان يفيض عن حاجته . وهو مذهب الحنابلة ، لأنّ البئر ما وضع للإحراز ، ولأنّ في بقاء حقّ الشّفة ضرورةً ، ولأنّ البئر تتبع الأرض دون الماء ، ولخبر « النّاس شركاء في ثلاث : الماء والكلإ والنّار » . وهذا هو الظّاهر في مذهب الشّافعيّة إذا كان حفر البئر بقصد الانتفاع بالماء ، أو حفر بقصد التّملّك ، وهو غير المشهور عند المالكيّة في غير آبار الدّور والحوائط المسوّرة . وقيّد ذلك ابن رشد بما إذا كانت البئر في أرض لا يضرّها الدّخول فيها . الاتّجاه الثّاني : أنّه لا يتعلّق به حقّ أحد ، وملكيّته خالصة لصاحبه . وهو قول عند الحنفيّة ، ورواية عن أحمد ، ومذهب المالكيّة بالنّسبة لآبار الدّور والحوائط المسوّرة ، والقول المشهور عندهم بالنّسبة لغيرها من الآبار الخاصّة في الأراضي المملوكة ، والأصحّ عند الشّافعيّة إذا كان يملك المنبع ، أو كان حفرها بقصد التّملّك . فلصاحب البئر على هذا أن يمنع الغير من حقّ الشّفة أيضاً ، وأن يبيع الماء ، لأنّه في حكم المحرز . ويقيّد المنع بغير من خيف عليه الهلاك ، لأنّها حالة ضرورة . وفي معنى الماء المعادن الجارية في الأملاك ، كالقار والنّفط .
المبحث الثّالث
حدّ الكثرة في ماء البئر وأثر اختلاطه بطاهر وانغماس آدميّ فيه طاهر أو به نجاسة
6 - اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الماء الكثير لا ينجّسه شيء ما لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه . ويختلفون في حدّ الكثرة ، فيقدّرها الحنفيّة بما يوازي عشر أذرع في عشر دون اعتبار للعمق ما دام القاع لا يظهر بالاغتراف . والذّراع سبع قبضات ، لأنّها لو كانت عشراً في عشر فإنّ الماء لا يتنجّس بشيء ما لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه ، اعتباراً بالماء الجاري . والقياس أن لا تطهر ، لكن ترك القياس للآثار ، ومسائل الآبار مبنيّة على الآثار . والمفتى به القول بالعشر ولو حكماً ليعمّ ما له طول بلا عرض في الأصحّ . وقيل المعتبر في القدر الكثير رأي المبتلى به ، بناءً على عدم صحّة ثبوت تقدير شرعاً . ويرى المالكيّة أنّ الكثير ما زاد قدره عن آنية الغسل ، وكذا ما زاد عن قدر آنية الوضوء ، على الرّاجح . ويتّفق الشّافعيّة ، والحنابلة في ظاهر المذهب ، على أنّ الكثير ما بلغ قلّتين فأكثر ، لحديث « إذا بلغ الماء قلّتين لم ينجّسه شيء » وفي رواية « لم يحمل الخبث » . وإن نقص عن القلّتين برطل أو رطلين فهو في حكم القلّتين .
7 - إذا اختلط بماء البئر طاهر ، مائعاً كان أو جامداً ، وكانت البئر ممّا يعتبر ماؤها قليلاً ، تجري عليه أحكام الماء القليل المختلط بطاهر ، ويرجع في تحديد الكثرة والقلّة إلى تفصيلات المذاهب في مصطلح ( مياه ) .
انغماس الآدميّ في ماء البئر
8 - اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الآدميّ إذا انغمس في البئر ، وكان طاهراً من الحدث والخبث ، وكان الماء كثيراً ، فإنّ الماء لا يعتبر مستعملاً ، ويبقى على أصل طهوريّته . وروى الحسن عن أبي حنيفة أنّه ينزح منه عشرون دلواً . ومذهب الشّافعيّة ، والصّحيح عند الحنابلة أنّ الآدميّ طاهر حيّاً وميّتاً ، وأنّ موت الآدميّ في الماء لا ينجّسه إلاّ إن تغيّر أحد أوصاف الماء تغيّراً فاحشاً . لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « المؤمن لا ينجس » . ولأنّه لا ينجس بالموت ، كالشّهيد ، لأنّه لو نجس بالموت لم يطهر بالغسل . ولا فرق بين المسلم والكافر ، لاستوائهما في الآدميّة . ويرى الحنفيّة نزح كلّ ماء البئر بموت الآدميّ فيه ، إذ نصّوا على أنّه ينزح ماء البئر كلّه بموت سنّورين أو كلب أو شاة أو آدميّ . وموت الكلب ليس بشرط حتّى لو انغمس وأخرج حيّاً ينزح جميع الماء .
9 - ويقول ابن قدامة الحنبليّ : ويحتمل أن ينجّس الكافر الماء بانغماسه ، لأنّ الخبر ورد في المسلم . وإذا انغمس في البئر من به نجاسة حكميّة ، بأن كان جنباً أو محدثاً ، فإنّه ينظر : إمّا أن يكون ماء البئر كثيراً أو قليلاً ، وإمّا أن يكون قد نوى بالانغماس رفع الحدث . وإمّا أن يكون بقصد التّبرّد أو إحضار الدّلو . فإن كان البئر معيناً ، أي ماؤه جار ، فإنّ انغماس الجنب ومن في حكمه لا ينجّسه عند ابن القاسم من المالكيّة ، وهو رواية يحيى بن سعيد عن مالك . وهو مذهب الحنابلة إن لم ينو رفع الحدث . وهو اتّجاه من قال من الحنفيّة إنّ الماء المستعمل طاهر لغلبة غير المستعمل ، أو لأنّ الانغماس لا يصيّره مستعملاً ، وعلى هذا فلا ينزح منه شيء .
10 - ويرى الشّافعيّة كراهة انغماس الجنب ومن في حكمه في البئر ، وإن كان معيناً ، لخبر أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يغتسل أحدكم في الماء الدّائم وهو جنب » . وهو رواية عليّ بن زياد عن مالك ، ومذهب الحنابلة إن نوى رفع الحدث . وإلى هذا يتّجه من يرى من الحنفيّة أنّ الماء بالانغماس يصير مستعملاً ، ويرى أنّ الماء المستعمل نجس ينزح كلّه وعن أبي حنيفة ينزح أربعون دلواً ، لو كان محدثاً ، وينزح جميعه لو كان جنباً أو كافراً ، لأنّ بدن الكافر لا يخلو من نجاسة حقيقيّة أو حكميّة ، إلاّ إذا تثبّتنا من طهارته وقت انغماسه .
11 - وإذا كان ماء البئر قليلاً وانغمس فيه بغير نيّة رفع الحدث ، فالمالكيّة على أنّ الماء المجاور فقط يصير مستعملاً وعند الشّافعيّة والحنابلة الماء على طهوريّته . واختلف الحنفيّة على ثلاثة أقوال ترمز لها كتبهم : « مسألة البئر جحط » ويرمزون بالجيم إلى ما قاله الإمام من أنّ الماء نجس بإسقاط الفرض عن البعض بأوّل الملاقاة ، والرّجل نجس لبقاء الحدث في بقيّة الأعضاء ، أو لنجاسة الماء المستعمل ، ويرمزون بالحاء لرأي أبي يوسف من أنّ الرّجل على حاله من الحدث ، لعدم الصّبّ ، وهو شرط عنده ، والماء على حاله لعدم نيّة القربة ، وعدم إزالة الحدث . ويرمزون بالطّاء لرأي محمّد بن الحسن من أنّ الرّجل طاهر لعدم اشتراط الصّبّ ، وكذا الماء ، لعدم نيّة القربة .
12 - أمّا إذا انغمس في الماء القليل بنيّة رفع الحدث كان الماء كلّه مستعملاً عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، لكن عند الحنابلة يبقى الماء على طهوريّته ولا يرفع الحدث . وكذلك يكون الماء مستعملاً عند الحنفيّة لو تدلّك ولو لم ينو رفع الحدث ، لأنّ التّدلّك فعل منه يقوم مقام نيّة رفع الحدث .
13 - أمّا إذا انغمس إنسان في ماء البئر وعلى بدنه نجاسة حقيقيّة ، أو ألقي فيه شيء نجس ، فمن المتّفق عليه أنّ الماء الكثير لا يتنجّس بشيء ، ما لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه ، على ما سبق . غير أنّ الحنابلة ، في أشهر روايتين عندهم ، يرون أنّ ما يمكن نزحه ، إذا بلغ قلّتين ، فلا يتنجّس بشيء من النّجاسات ، إلاّ ببول الآدميّين أو عذرتهم المائعة . وجه ذلك ما روي عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يبولنّ أحدكم في الماء الدّائم الّذي لا يجري ثمّ يغتسل فيه » . وكذلك إذا ما سقط فيه شيء نجس ، وفي مقابل المشهور في مذهب أحمد أنّ الماء لا ينجس إلاّ بالتّغيّر قليله وكثيره .
14 - وقد فصّل الحنفيّة هذا بما لم يفصّله غيرهم ، ونصّوا على أنّ الماء لا ينجس بخرء الحمام والعصفور ، ولو كان كثيراً ، لأنّه طاهر استحساناً ، بدلالة الإجماع ، فإنّ الصّدر الأوّل ومن بعدهم أجمعوا على جواز اقتناء الحمام في المساجد ، حتّى المسجد الحرام ، مع ورود الأمر بتطهيرها . وفي ذلك دلالة ظاهرة على عدم نجاسته . وخرء العصفور كخرء الحمامة ، فما يدلّ على طهارة هذا يدلّ على طهارة ذاك . وكذلك خرء جميع ما يؤكل لحمه من الطّيور على الأرجح .
أ
( أئمّة )
التّعريف :
1 - الأئمّة لغةً : من يقتدى بهم من رئيس أو غيره . مفرده : إمام . ولا يبعد المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ ، بإطلاقه الشّامل للمقتدى بهم عموماً في مجال الخير والشّرّ ، طوعاً أو كرهاً .
الاطلاقات المختلفة لهذا المصطلح
2 - يطلق على الأنبياء عليهم السلام أنّهم « أئمّة » من حيث يجب على الخلق اتّباعهم ، قال اللّه تعالى عقب ذكر بعض الأنبياء : { وجعلناهم أئمّةً يهدون بأمرنا } كما يطلق على الخلفاء « أئمّةً » لأنّهم رتّبوا في المحلّ الّذي يجب على النّاس اتّباعهم وقبول قولهم وأحكامهم . وتوصف إمامتهم بالإمامة الكبرى ، كما يطلق أيضاً على الّذين يصلّون بالنّاس - وتقيّد هذه الإمامة بأنّها الإمامة الصّغرى - لأنّ من دخل في صلاتهم لزمه الائتمام بهم ، قال عليه الصلاة والسلام : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، ولا تختلفوا على إمامكم » . وهناك إطلاقات اصطلاحيّة أخرى لمصطلح « أئمّة » عند العلماء تختلف من علم لآخر ، فهو يطلق عند الفقهاء على مجتهدي الشّرع أصحاب المذاهب المتبوعة ، وإذا قيل « الأئمّة الأربعة » انصرف ذلك إلى أبي حنيفة ، ومالك ، والشّافعيّ ، وأحمد . ويطلق عند الأصوليّين على من لهم سبق في تدوين الأصول بطرائقه الثّلاث : طريقة المتكلّمين ، كالجوينيّ والغزاليّ . وطريقة الحنفيّة ، كالكرخيّ والبزدويّ ، والطّريقة الجامعة بينهما ، كابن السّاعاتيّ والسّبكيّ ، وأمثالهم . ويطلق عند المفسّرين على أمثال مجاهد ، والحسن البصريّ ، وسعيد بن جبير . ويطلق في علم القراءات على القرّاء العشرة الّذين تواترت قراءاتهم وهم : نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، وخلف . ويطلق مصطلح « أئمّة " عند المحدّثين على أهل الجرح والتّعديل كعليّ بن المدينيّ ويحيى بن معين وأمثالهما . وإذا قيل عندهم " الأئمّة السّتّة " انصرف ذلك إلى الأئمّة : البخاريّ ، ومسلم ، وأبي داود ، والتّرمذيّ ، والنّسائيّ ، وابن ماجه . وعدّ بعضهم مالكاً بدلاً من ابن ماجه ، وبعضهم أبدله بالدّارميّ . ويطلق عند المتكلّمين على أمثال الأشعريّ والماتريديّ ممّن لهم مذاهب وأتباع في العقيدة .
( الحكم الإجماليّ )
3 - اجتهادات أحد أئمّة المذاهب الفقهيّة المعتبرة ( الّتي نقلت نقلاً صحيحاً منضبطاً تمّ به تقييد مطلقها ، وتخصيص عامّها ، وذكر شروط فروعها ) يخيّر في الأخذ بأحد تلك الاجتهادات لمن ليست لديه أهليّة الاجتهاد . وليس من الضّروريّ التزام مذهب معيّن . على أنّ من كانت لديه ملكة التّرجيح والتّخريج فإنّه يستعين بالاجتهادات الفقهيّة كلّها بعد التّثبّت من صحّة نقلها - ولو نقلت مجملةً - وله الأخذ بها عملاً وإفتاءً في ضوء قواعد الاستنباط والتّرجيح . وتلفيق عبادة واحدة أو تصرّف واحد من اجتهادات أئمّة متعدّدين في صحّته خلاف . وتفصيل ذلك كلّه موطنه الملحق الأصوليّ ، ومصطلحات : اجتهاد ، إفتاء ، قضاء ، تقليد ، تلفيق .
4 - وفي الإمامة بنوعيها : الإمامة العظمى ( الخلافة ) في قطر واحد ، والصّغرى ( إمامة الصّلاة ) في وقت واحد ومكان واحد ، يمتنع تعدّد الأئمّة في الجملة ، حتّى لا تتفرّق كلمة المسلمين . وتفصيل ذلك يرجع إليه في : إمامة الصّلاة ، والإمامة الكبرى .
5 - وفي أصول الفقه وأصول علم الحديث يقبل من الأئمّة ما أرسله أحدهم من أحاديث . والمرسل عند المحدّثين ما قال فيه التّابعيّ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
6 - والأكثرون على قبول مراسيل الأئمّة من التّابعين إذا كان الرّاوي ثقةً . ولهذا قالوا " من أسند فقد حمل ، ومن أرسل فقد تحمّل » . ومثّل لهم صاحب مسلم الثّبوت بالحسن البصريّ وسعيد بن المسيّب وإبراهيم النّخعيّ .
( آباء )
التّعريف
1 - الآباء جمع أب . والأب الوالد . « والأصول » أعمّ من الآباء ، لشمول الأصول للأمّهات والأجداد والجدّات . ويجوز في اللّغة استعمال " الآباء " شاملاً للأجداد ، لما لهم على الشّخص من الولادة . وقد يدخل الأعمام ، لأنّ العمّ يسمّى أباً مجازاً . ومنه قول اللّه تعالى حاكياً عن أولاد يعقوب عليه السلام : { قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } . فإنّ إسماعيل عمّ يعقوب عليهما السلام .
2 - ويستعمل « الآباء » في كلام الفقهاء بمعنى الوالدين الذّكور ، كما في الاستعمال اللّغويّ .
( الحكم الإجماليّ )
3 - يختلف الفقهاء إذا استعملت هذه العبارة في صيغة وصيّة أو نحوها - في تناولها للأجداد ، لاختلافهم في أنّ اللّفظ هل يصحّ أن يراد به حقيقته ومجازه في آن واحد ، فإنّ إطلاق " الآباء " على الأجداد مجاز . وطريقة الحنفيّة أنّه « لا يصحّ أن يراد من اللّفظ معناه الحقيقيّ والمجازيّ في آن واحد ، لرجحان المتبوع على التّابع » كما في التّنقيح . قال سعد الدّين التّفتازانيّ : « فلو أمّن المسلمون الكفّار على الآباء والأمّهات فإنّه لا يتناول الأجداد والجدّات . « وجاء في الفتاوى الهنديّة في باب الوصيّة نقلاً عن المحيط » إذا أوصى لآباء فلان وفلان ، ولهم آباء وأمّهات ، دخلوا في الوصيّة ، ولو لم يكن لهم آباء وأمّهات ، وإنّما لهم أجداد وجدّات ، فإنّهم لا يدخلون في الوصيّة . « وفي الهنديّة أيضاً » بئئ قال محمّد رحمه الله : فإن كان لسانهم الّذي يتكلّمون به أنّ الجدّ والد ، يدخل في الأمان » . وأمّا عند الشّافعيّة والجمهور ، فيصحّ إطلاق اللّفظ الواحد على حقيقته ومجازه في آن واحد . ولعلّ هذا مبنى ما قال الرّمليّ من الشّافعيّة : من قال : أوصيت لآباء فلان ، يدخل الأجداد من الطّرفين . يعني من قبل الأب والأمّ .
( مواطن البحث )
4 - هذا وقد ذكر بعض الفقهاء هذه المسألة في مباحث الوصيّة ومباحث الأمان . ويرجع إليها أيضاً في مباحث " المشترك " من أصول الفقه . ولمعرفة سائر أحكام الآباء ( ر : أب )
.
آبار
المبحث الأوّل
تعريف الآبار وبيان أحكامها العامّة
1 - الآبار جمع بئر ، مأخوذ من " بأر " أي حفر . ويجمع أيضاً جمع قلّة على أبورً وآبر . وجمع الكثرة منه بئار . وينقل ابن عابدين في حاشيته عن " النّتف » : البئر هي الّتي لها موادّ من أسفلها ، أي لها مياه تمدّها وتنبع من أسفلها . وقال : ولا يخفى أنّه على هذا التّعريف يخرج الصّهريج والجبّ والآبار الّتي تملأ من المطر ، أو من الأنهار ، والّتي يطلق عليها اسم الرّكيّة ( على وزن عطيّة ) كما هو العرف ، إذ الرّكيّة هي البئر ، كما في القاموس . لكن في العرف هي بئر يجتمع ماؤها من المطر ، فهي بمعنى الصّهريج . وفي حاشية البجيرميّ على شرح الخطيب أنّ " البئر " قد تطلق على المكان الّذي ينزل فيه البول والغائط ، وهي الحاصل الّذي تحت بيت الرّاحة . ويسمّى الآن بالخزّان . ويقال عن هذه البئر : بئر الحشّ ، والحشّ هو بيت الخلاء .
2 - والأصل في ماء الآبار الطّهوريّة ( أي كونه طاهراً في نفسه مطهّراً لغيره ) ، فيصحّ التّطهير به اتّفاقاً ، إلاّ إذا تنجّس الماء أو تغيّر أحد أوصافه على تفصيل في التّغيّر يعرف في أحكام المياه . غير أنّ هناك آباراً تكلّم الفقهاء عن كراهة التّطهير بمائها لأنّها في أرض مغضوب عليها . وهناك من الآبار ما نصّ الفقهاء على اختصاصها بالفضل ، ورتّبوا على ذلك بعض الأحكام .
المبحث الثّاني
حفر الآبار لإحياء الموات وتعلّق حقّ النّاس بمائها
أوّلاً : حفر البئر لإحياء الموات
3 - حفر البئر وخروج الماء منها طريق من طرق الإحياء . وقد أجمع الفقهاء على أنّه إذا تمّ تفجير الماء والانتفاع به في الإنبات ، مع نيّة التّملّك ، يتمّ به الإحياء . وذهب جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إلى أنّ تفجير الماء يتمّ به الإحياء في الجملة ، غير أنّ المالكيّة يشترطون إعلان النّيّة إذا كانت البئر بئر ماشية . والشّافعيّة في الصّحيح يشترطون الغرس إذا كانت البئر لبستان ، كما يشترطون نيّة التّملّك . واشترط بعضهم طيّها ( أي بناء جدرانها ) إذا كانت في أرض رخوة أمّا الحنفيّة فيرون أنّ الإحياء لا يتمّ بتفجير الماء وحده ، وإنّما بالحفر وسقي الأرض . ولا خلاف في أنّ للبئر في الأرض الموات حريماً ، لحاجة الحفر والانتفاع ، حتّى لو أراد أحد أن يحفر بئراً في حريمه له أن يمنعه ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل للبئر حريماً . واختلفوا في المقدار الّذي يعتبر حريماً ، فحدّده الحنفيّة والحنابلة بالأذرع حسب نوع البئر . ويستند المذهبان في ذلك إلى ما ورد من أخبار . أمّا المالكيّة والشّافعيّة فقدّروه بما لا يضيق على الوارد ، ولا على مناخ إبلها ، ولا مرابض مواشيها عند الورود ، ولا يضرّ بماء البئر . وتفصيل ذلك في مصطلح « إحياء الموات » .
ثانياً : تعلّق حقّ النّاس بماء الآبار
4 - الأصل في هذه المسألة ما رواه الخلاّل عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من أنّه قال : « النّاس شركاء في ثلاث : الماء والكلإ والنّار » . كما روي أنّه صلى الله عليه وسلم : « نهى عن بيع الماء إلاّ ما حمل منه » . والاستثناء يدلّ على أنّ المراد بالماء في الحديث الأوّل غير المحرز . وعلى هذا فمياه الآبار العامّة مباحة ، ولا ملك فيها لأحد ، إلاّ بالاغتراف . وأمّا مياه الآبار الخاصّة فإنّها خرجت عن الإباحة العامّة . ولمّا كانت حاجة الإنسان إلى الماء لشربه وشرب حيوانه ممّا يسمّيه الفقهاء بحقّ الشّفة ماسةً ومتكرّرةً ، كما أنّ أصل الماء قبل جريانه في الملك الخاصّ مباح ، وأنّ مياه الآبار في الأعمّ الأغلب متّصلة بالمجرى العامّ ، أوجد ذلك شبهة الإباحة في ماء الآبار الخاصّة ، لكنّها إباحة قاصرة على حقّ الشّفة دون حقّ الشّرب .
5 - واتّجاهات الفقهاء مختلفة بالنّسبة لملكيّة ماء آبار الدّور والأراضي المملوكة ، وتعلّق حقّ النّاس بها . فقيل بأنّ للنّاس حقّاً فيها . وهو قول عند الحنفيّة إذا لم يوجد ماء قريب في غير ملك أحد ، حتّى لو لم يفض عن حاجته عند أبي حنيفة . وقيّد أكثر المشايخ ذلك بما إذا كان يفيض عن حاجته . وهو مذهب الحنابلة ، لأنّ البئر ما وضع للإحراز ، ولأنّ في بقاء حقّ الشّفة ضرورةً ، ولأنّ البئر تتبع الأرض دون الماء ، ولخبر « النّاس شركاء في ثلاث : الماء والكلإ والنّار » . وهذا هو الظّاهر في مذهب الشّافعيّة إذا كان حفر البئر بقصد الانتفاع بالماء ، أو حفر بقصد التّملّك ، وهو غير المشهور عند المالكيّة في غير آبار الدّور والحوائط المسوّرة . وقيّد ذلك ابن رشد بما إذا كانت البئر في أرض لا يضرّها الدّخول فيها . الاتّجاه الثّاني : أنّه لا يتعلّق به حقّ أحد ، وملكيّته خالصة لصاحبه . وهو قول عند الحنفيّة ، ورواية عن أحمد ، ومذهب المالكيّة بالنّسبة لآبار الدّور والحوائط المسوّرة ، والقول المشهور عندهم بالنّسبة لغيرها من الآبار الخاصّة في الأراضي المملوكة ، والأصحّ عند الشّافعيّة إذا كان يملك المنبع ، أو كان حفرها بقصد التّملّك . فلصاحب البئر على هذا أن يمنع الغير من حقّ الشّفة أيضاً ، وأن يبيع الماء ، لأنّه في حكم المحرز . ويقيّد المنع بغير من خيف عليه الهلاك ، لأنّها حالة ضرورة . وفي معنى الماء المعادن الجارية في الأملاك ، كالقار والنّفط .
المبحث الثّالث
حدّ الكثرة في ماء البئر وأثر اختلاطه بطاهر وانغماس آدميّ فيه طاهر أو به نجاسة
6 - اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الماء الكثير لا ينجّسه شيء ما لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه . ويختلفون في حدّ الكثرة ، فيقدّرها الحنفيّة بما يوازي عشر أذرع في عشر دون اعتبار للعمق ما دام القاع لا يظهر بالاغتراف . والذّراع سبع قبضات ، لأنّها لو كانت عشراً في عشر فإنّ الماء لا يتنجّس بشيء ما لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه ، اعتباراً بالماء الجاري . والقياس أن لا تطهر ، لكن ترك القياس للآثار ، ومسائل الآبار مبنيّة على الآثار . والمفتى به القول بالعشر ولو حكماً ليعمّ ما له طول بلا عرض في الأصحّ . وقيل المعتبر في القدر الكثير رأي المبتلى به ، بناءً على عدم صحّة ثبوت تقدير شرعاً . ويرى المالكيّة أنّ الكثير ما زاد قدره عن آنية الغسل ، وكذا ما زاد عن قدر آنية الوضوء ، على الرّاجح . ويتّفق الشّافعيّة ، والحنابلة في ظاهر المذهب ، على أنّ الكثير ما بلغ قلّتين فأكثر ، لحديث « إذا بلغ الماء قلّتين لم ينجّسه شيء » وفي رواية « لم يحمل الخبث » . وإن نقص عن القلّتين برطل أو رطلين فهو في حكم القلّتين .
7 - إذا اختلط بماء البئر طاهر ، مائعاً كان أو جامداً ، وكانت البئر ممّا يعتبر ماؤها قليلاً ، تجري عليه أحكام الماء القليل المختلط بطاهر ، ويرجع في تحديد الكثرة والقلّة إلى تفصيلات المذاهب في مصطلح ( مياه ) .
انغماس الآدميّ في ماء البئر
8 - اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الآدميّ إذا انغمس في البئر ، وكان طاهراً من الحدث والخبث ، وكان الماء كثيراً ، فإنّ الماء لا يعتبر مستعملاً ، ويبقى على أصل طهوريّته . وروى الحسن عن أبي حنيفة أنّه ينزح منه عشرون دلواً . ومذهب الشّافعيّة ، والصّحيح عند الحنابلة أنّ الآدميّ طاهر حيّاً وميّتاً ، وأنّ موت الآدميّ في الماء لا ينجّسه إلاّ إن تغيّر أحد أوصاف الماء تغيّراً فاحشاً . لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « المؤمن لا ينجس » . ولأنّه لا ينجس بالموت ، كالشّهيد ، لأنّه لو نجس بالموت لم يطهر بالغسل . ولا فرق بين المسلم والكافر ، لاستوائهما في الآدميّة . ويرى الحنفيّة نزح كلّ ماء البئر بموت الآدميّ فيه ، إذ نصّوا على أنّه ينزح ماء البئر كلّه بموت سنّورين أو كلب أو شاة أو آدميّ . وموت الكلب ليس بشرط حتّى لو انغمس وأخرج حيّاً ينزح جميع الماء .
9 - ويقول ابن قدامة الحنبليّ : ويحتمل أن ينجّس الكافر الماء بانغماسه ، لأنّ الخبر ورد في المسلم . وإذا انغمس في البئر من به نجاسة حكميّة ، بأن كان جنباً أو محدثاً ، فإنّه ينظر : إمّا أن يكون ماء البئر كثيراً أو قليلاً ، وإمّا أن يكون قد نوى بالانغماس رفع الحدث . وإمّا أن يكون بقصد التّبرّد أو إحضار الدّلو . فإن كان البئر معيناً ، أي ماؤه جار ، فإنّ انغماس الجنب ومن في حكمه لا ينجّسه عند ابن القاسم من المالكيّة ، وهو رواية يحيى بن سعيد عن مالك . وهو مذهب الحنابلة إن لم ينو رفع الحدث . وهو اتّجاه من قال من الحنفيّة إنّ الماء المستعمل طاهر لغلبة غير المستعمل ، أو لأنّ الانغماس لا يصيّره مستعملاً ، وعلى هذا فلا ينزح منه شيء .
10 - ويرى الشّافعيّة كراهة انغماس الجنب ومن في حكمه في البئر ، وإن كان معيناً ، لخبر أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يغتسل أحدكم في الماء الدّائم وهو جنب » . وهو رواية عليّ بن زياد عن مالك ، ومذهب الحنابلة إن نوى رفع الحدث . وإلى هذا يتّجه من يرى من الحنفيّة أنّ الماء بالانغماس يصير مستعملاً ، ويرى أنّ الماء المستعمل نجس ينزح كلّه وعن أبي حنيفة ينزح أربعون دلواً ، لو كان محدثاً ، وينزح جميعه لو كان جنباً أو كافراً ، لأنّ بدن الكافر لا يخلو من نجاسة حقيقيّة أو حكميّة ، إلاّ إذا تثبّتنا من طهارته وقت انغماسه .
11 - وإذا كان ماء البئر قليلاً وانغمس فيه بغير نيّة رفع الحدث ، فالمالكيّة على أنّ الماء المجاور فقط يصير مستعملاً وعند الشّافعيّة والحنابلة الماء على طهوريّته . واختلف الحنفيّة على ثلاثة أقوال ترمز لها كتبهم : « مسألة البئر جحط » ويرمزون بالجيم إلى ما قاله الإمام من أنّ الماء نجس بإسقاط الفرض عن البعض بأوّل الملاقاة ، والرّجل نجس لبقاء الحدث في بقيّة الأعضاء ، أو لنجاسة الماء المستعمل ، ويرمزون بالحاء لرأي أبي يوسف من أنّ الرّجل على حاله من الحدث ، لعدم الصّبّ ، وهو شرط عنده ، والماء على حاله لعدم نيّة القربة ، وعدم إزالة الحدث . ويرمزون بالطّاء لرأي محمّد بن الحسن من أنّ الرّجل طاهر لعدم اشتراط الصّبّ ، وكذا الماء ، لعدم نيّة القربة .
12 - أمّا إذا انغمس في الماء القليل بنيّة رفع الحدث كان الماء كلّه مستعملاً عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، لكن عند الحنابلة يبقى الماء على طهوريّته ولا يرفع الحدث . وكذلك يكون الماء مستعملاً عند الحنفيّة لو تدلّك ولو لم ينو رفع الحدث ، لأنّ التّدلّك فعل منه يقوم مقام نيّة رفع الحدث .
13 - أمّا إذا انغمس إنسان في ماء البئر وعلى بدنه نجاسة حقيقيّة ، أو ألقي فيه شيء نجس ، فمن المتّفق عليه أنّ الماء الكثير لا يتنجّس بشيء ، ما لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه ، على ما سبق . غير أنّ الحنابلة ، في أشهر روايتين عندهم ، يرون أنّ ما يمكن نزحه ، إذا بلغ قلّتين ، فلا يتنجّس بشيء من النّجاسات ، إلاّ ببول الآدميّين أو عذرتهم المائعة . وجه ذلك ما روي عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يبولنّ أحدكم في الماء الدّائم الّذي لا يجري ثمّ يغتسل فيه » . وكذلك إذا ما سقط فيه شيء نجس ، وفي مقابل المشهور في مذهب أحمد أنّ الماء لا ينجس إلاّ بالتّغيّر قليله وكثيره .
14 - وقد فصّل الحنفيّة هذا بما لم يفصّله غيرهم ، ونصّوا على أنّ الماء لا ينجس بخرء الحمام والعصفور ، ولو كان كثيراً ، لأنّه طاهر استحساناً ، بدلالة الإجماع ، فإنّ الصّدر الأوّل ومن بعدهم أجمعوا على جواز اقتناء الحمام في المساجد ، حتّى المسجد الحرام ، مع ورود الأمر بتطهيرها . وفي ذلك دلالة ظاهرة على عدم نجاسته . وخرء العصفور كخرء الحمامة ، فما يدلّ على طهارة هذا يدلّ على طهارة ذاك . وكذلك خرء جميع ما يؤكل لحمه من الطّيور على الأرجح .
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع