الموسوعة الفقهية

طباعة الموضوع

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الموسوعة الفقهية / الجزء الأول
أ
( أئمّة )
التّعريف :
1 - الأئمّة لغةً : من يقتدى بهم من رئيس أو غيره . مفرده : إمام . ولا يبعد المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ ، بإطلاقه الشّامل للمقتدى بهم عموماً في مجال الخير والشّرّ ، طوعاً أو كرهاً .
الاطلاقات المختلفة لهذا المصطلح
2 - يطلق على الأنبياء عليهم السلام أنّهم « أئمّة » من حيث يجب على الخلق اتّباعهم ، قال اللّه تعالى عقب ذكر بعض الأنبياء : { وجعلناهم أئمّةً يهدون بأمرنا } كما يطلق على الخلفاء « أئمّةً » لأنّهم رتّبوا في المحلّ الّذي يجب على النّاس اتّباعهم وقبول قولهم وأحكامهم . وتوصف إمامتهم بالإمامة الكبرى ، كما يطلق أيضاً على الّذين يصلّون بالنّاس - وتقيّد هذه الإمامة بأنّها الإمامة الصّغرى - لأنّ من دخل في صلاتهم لزمه الائتمام بهم ، قال عليه الصلاة والسلام : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، ولا تختلفوا على إمامكم » . وهناك إطلاقات اصطلاحيّة أخرى لمصطلح « أئمّة » عند العلماء تختلف من علم لآخر ، فهو يطلق عند الفقهاء على مجتهدي الشّرع أصحاب المذاهب المتبوعة ، وإذا قيل « الأئمّة الأربعة » انصرف ذلك إلى أبي حنيفة ، ومالك ، والشّافعيّ ، وأحمد . ويطلق عند الأصوليّين على من لهم سبق في تدوين الأصول بطرائقه الثّلاث : طريقة المتكلّمين ، كالجوينيّ والغزاليّ . وطريقة الحنفيّة ، كالكرخيّ والبزدويّ ، والطّريقة الجامعة بينهما ، كابن السّاعاتيّ والسّبكيّ ، وأمثالهم . ويطلق عند المفسّرين على أمثال مجاهد ، والحسن البصريّ ، وسعيد بن جبير . ويطلق في علم القراءات على القرّاء العشرة الّذين تواترت قراءاتهم وهم : نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، وخلف . ويطلق مصطلح « أئمّة " عند المحدّثين على أهل الجرح والتّعديل كعليّ بن المدينيّ ويحيى بن معين وأمثالهما . وإذا قيل عندهم " الأئمّة السّتّة " انصرف ذلك إلى الأئمّة : البخاريّ ، ومسلم ، وأبي داود ، والتّرمذيّ ، والنّسائيّ ، وابن ماجه . وعدّ بعضهم مالكاً بدلاً من ابن ماجه ، وبعضهم أبدله بالدّارميّ . ويطلق عند المتكلّمين على أمثال الأشعريّ والماتريديّ ممّن لهم مذاهب وأتباع في العقيدة .
( الحكم الإجماليّ )
3 - اجتهادات أحد أئمّة المذاهب الفقهيّة المعتبرة ( الّتي نقلت نقلاً صحيحاً منضبطاً تمّ به تقييد مطلقها ، وتخصيص عامّها ، وذكر شروط فروعها ) يخيّر في الأخذ بأحد تلك الاجتهادات لمن ليست لديه أهليّة الاجتهاد . وليس من الضّروريّ التزام مذهب معيّن . على أنّ من كانت لديه ملكة التّرجيح والتّخريج فإنّه يستعين بالاجتهادات الفقهيّة كلّها بعد التّثبّت من صحّة نقلها - ولو نقلت مجملةً - وله الأخذ بها عملاً وإفتاءً في ضوء قواعد الاستنباط والتّرجيح . وتلفيق عبادة واحدة أو تصرّف واحد من اجتهادات أئمّة متعدّدين في صحّته خلاف . وتفصيل ذلك كلّه موطنه الملحق الأصوليّ ، ومصطلحات : اجتهاد ، إفتاء ، قضاء ، تقليد ، تلفيق .
4 - وفي الإمامة بنوعيها : الإمامة العظمى ( الخلافة ) في قطر واحد ، والصّغرى ( إمامة الصّلاة ) في وقت واحد ومكان واحد ، يمتنع تعدّد الأئمّة في الجملة ، حتّى لا تتفرّق كلمة المسلمين . وتفصيل ذلك يرجع إليه في : إمامة الصّلاة ، والإمامة الكبرى .
5 - وفي أصول الفقه وأصول علم الحديث يقبل من الأئمّة ما أرسله أحدهم من أحاديث . والمرسل عند المحدّثين ما قال فيه التّابعيّ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
6 - والأكثرون على قبول مراسيل الأئمّة من التّابعين إذا كان الرّاوي ثقةً . ولهذا قالوا " من أسند فقد حمل ، ومن أرسل فقد تحمّل » . ومثّل لهم صاحب مسلم الثّبوت بالحسن البصريّ وسعيد بن المسيّب وإبراهيم النّخعيّ .
( آباء )
التّعريف
1 - الآباء جمع أب . والأب الوالد . « والأصول » أعمّ من الآباء ، لشمول الأصول للأمّهات والأجداد والجدّات . ويجوز في اللّغة استعمال " الآباء " شاملاً للأجداد ، لما لهم على الشّخص من الولادة . وقد يدخل الأعمام ، لأنّ العمّ يسمّى أباً مجازاً . ومنه قول اللّه تعالى حاكياً عن أولاد يعقوب عليه السلام : { قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } . فإنّ إسماعيل عمّ يعقوب عليهما السلام .
2 - ويستعمل « الآباء » في كلام الفقهاء بمعنى الوالدين الذّكور ، كما في الاستعمال اللّغويّ .
( الحكم الإجماليّ )
3 - يختلف الفقهاء إذا استعملت هذه العبارة في صيغة وصيّة أو نحوها - في تناولها للأجداد ، لاختلافهم في أنّ اللّفظ هل يصحّ أن يراد به حقيقته ومجازه في آن واحد ، فإنّ إطلاق " الآباء " على الأجداد مجاز . وطريقة الحنفيّة أنّه « لا يصحّ أن يراد من اللّفظ معناه الحقيقيّ والمجازيّ في آن واحد ، لرجحان المتبوع على التّابع » كما في التّنقيح . قال سعد الدّين التّفتازانيّ : « فلو أمّن المسلمون الكفّار على الآباء والأمّهات فإنّه لا يتناول الأجداد والجدّات . « وجاء في الفتاوى الهنديّة في باب الوصيّة نقلاً عن المحيط » إذا أوصى لآباء فلان وفلان ، ولهم آباء وأمّهات ، دخلوا في الوصيّة ، ولو لم يكن لهم آباء وأمّهات ، وإنّما لهم أجداد وجدّات ، فإنّهم لا يدخلون في الوصيّة . « وفي الهنديّة أيضاً » بئئ قال محمّد رحمه الله : فإن كان لسانهم الّذي يتكلّمون به أنّ الجدّ والد ، يدخل في الأمان » . وأمّا عند الشّافعيّة والجمهور ، فيصحّ إطلاق اللّفظ الواحد على حقيقته ومجازه في آن واحد . ولعلّ هذا مبنى ما قال الرّمليّ من الشّافعيّة : من قال : أوصيت لآباء فلان ، يدخل الأجداد من الطّرفين . يعني من قبل الأب والأمّ .
( مواطن البحث )
4 - هذا وقد ذكر بعض الفقهاء هذه المسألة في مباحث الوصيّة ومباحث الأمان . ويرجع إليها أيضاً في مباحث " المشترك " من أصول الفقه . ولمعرفة سائر أحكام الآباء ( ر : أب )
.
آبار
المبحث الأوّل
تعريف الآبار وبيان أحكامها العامّة
1 - الآبار جمع بئر ، مأخوذ من " بأر " أي حفر . ويجمع أيضاً جمع قلّة على أبورً وآبر . وجمع الكثرة منه بئار . وينقل ابن عابدين في حاشيته عن " النّتف » : البئر هي الّتي لها موادّ من أسفلها ، أي لها مياه تمدّها وتنبع من أسفلها . وقال : ولا يخفى أنّه على هذا التّعريف يخرج الصّهريج والجبّ والآبار الّتي تملأ من المطر ، أو من الأنهار ، والّتي يطلق عليها اسم الرّكيّة ( على وزن عطيّة ) كما هو العرف ، إذ الرّكيّة هي البئر ، كما في القاموس . لكن في العرف هي بئر يجتمع ماؤها من المطر ، فهي بمعنى الصّهريج . وفي حاشية البجيرميّ على شرح الخطيب أنّ " البئر " قد تطلق على المكان الّذي ينزل فيه البول والغائط ، وهي الحاصل الّذي تحت بيت الرّاحة . ويسمّى الآن بالخزّان . ويقال عن هذه البئر : بئر الحشّ ، والحشّ هو بيت الخلاء .
2 - والأصل في ماء الآبار الطّهوريّة ( أي كونه طاهراً في نفسه مطهّراً لغيره ) ، فيصحّ التّطهير به اتّفاقاً ، إلاّ إذا تنجّس الماء أو تغيّر أحد أوصافه على تفصيل في التّغيّر يعرف في أحكام المياه . غير أنّ هناك آباراً تكلّم الفقهاء عن كراهة التّطهير بمائها لأنّها في أرض مغضوب عليها . وهناك من الآبار ما نصّ الفقهاء على اختصاصها بالفضل ، ورتّبوا على ذلك بعض الأحكام .
المبحث الثّاني
حفر الآبار لإحياء الموات وتعلّق حقّ النّاس بمائها
أوّلاً : حفر البئر لإحياء الموات
3 - حفر البئر وخروج الماء منها طريق من طرق الإحياء . وقد أجمع الفقهاء على أنّه إذا تمّ تفجير الماء والانتفاع به في الإنبات ، مع نيّة التّملّك ، يتمّ به الإحياء . وذهب جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إلى أنّ تفجير الماء يتمّ به الإحياء في الجملة ، غير أنّ المالكيّة يشترطون إعلان النّيّة إذا كانت البئر بئر ماشية . والشّافعيّة في الصّحيح يشترطون الغرس إذا كانت البئر لبستان ، كما يشترطون نيّة التّملّك . واشترط بعضهم طيّها ( أي بناء جدرانها ) إذا كانت في أرض رخوة أمّا الحنفيّة فيرون أنّ الإحياء لا يتمّ بتفجير الماء وحده ، وإنّما بالحفر وسقي الأرض . ولا خلاف في أنّ للبئر في الأرض الموات حريماً ، لحاجة الحفر والانتفاع ، حتّى لو أراد أحد أن يحفر بئراً في حريمه له أن يمنعه ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل للبئر حريماً . واختلفوا في المقدار الّذي يعتبر حريماً ، فحدّده الحنفيّة والحنابلة بالأذرع حسب نوع البئر . ويستند المذهبان في ذلك إلى ما ورد من أخبار . أمّا المالكيّة والشّافعيّة فقدّروه بما لا يضيق على الوارد ، ولا على مناخ إبلها ، ولا مرابض مواشيها عند الورود ، ولا يضرّ بماء البئر . وتفصيل ذلك في مصطلح « إحياء الموات » .
ثانياً : تعلّق حقّ النّاس بماء الآبار
4 - الأصل في هذه المسألة ما رواه الخلاّل عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من أنّه قال : « النّاس شركاء في ثلاث : الماء والكلإ والنّار » . كما روي أنّه صلى الله عليه وسلم : « نهى عن بيع الماء إلاّ ما حمل منه » . والاستثناء يدلّ على أنّ المراد بالماء في الحديث الأوّل غير المحرز . وعلى هذا فمياه الآبار العامّة مباحة ، ولا ملك فيها لأحد ، إلاّ بالاغتراف . وأمّا مياه الآبار الخاصّة فإنّها خرجت عن الإباحة العامّة . ولمّا كانت حاجة الإنسان إلى الماء لشربه وشرب حيوانه ممّا يسمّيه الفقهاء بحقّ الشّفة ماسةً ومتكرّرةً ، كما أنّ أصل الماء قبل جريانه في الملك الخاصّ مباح ، وأنّ مياه الآبار في الأعمّ الأغلب متّصلة بالمجرى العامّ ، أوجد ذلك شبهة الإباحة في ماء الآبار الخاصّة ، لكنّها إباحة قاصرة على حقّ الشّفة دون حقّ الشّرب .
5 - واتّجاهات الفقهاء مختلفة بالنّسبة لملكيّة ماء آبار الدّور والأراضي المملوكة ، وتعلّق حقّ النّاس بها . فقيل بأنّ للنّاس حقّاً فيها . وهو قول عند الحنفيّة إذا لم يوجد ماء قريب في غير ملك أحد ، حتّى لو لم يفض عن حاجته عند أبي حنيفة . وقيّد أكثر المشايخ ذلك بما إذا كان يفيض عن حاجته . وهو مذهب الحنابلة ، لأنّ البئر ما وضع للإحراز ، ولأنّ في بقاء حقّ الشّفة ضرورةً ، ولأنّ البئر تتبع الأرض دون الماء ، ولخبر « النّاس شركاء في ثلاث : الماء والكلإ والنّار » . وهذا هو الظّاهر في مذهب الشّافعيّة إذا كان حفر البئر بقصد الانتفاع بالماء ، أو حفر بقصد التّملّك ، وهو غير المشهور عند المالكيّة في غير آبار الدّور والحوائط المسوّرة . وقيّد ذلك ابن رشد بما إذا كانت البئر في أرض لا يضرّها الدّخول فيها . الاتّجاه الثّاني : أنّه لا يتعلّق به حقّ أحد ، وملكيّته خالصة لصاحبه . وهو قول عند الحنفيّة ، ورواية عن أحمد ، ومذهب المالكيّة بالنّسبة لآبار الدّور والحوائط المسوّرة ، والقول المشهور عندهم بالنّسبة لغيرها من الآبار الخاصّة في الأراضي المملوكة ، والأصحّ عند الشّافعيّة إذا كان يملك المنبع ، أو كان حفرها بقصد التّملّك . فلصاحب البئر على هذا أن يمنع الغير من حقّ الشّفة أيضاً ، وأن يبيع الماء ، لأنّه في حكم المحرز . ويقيّد المنع بغير من خيف عليه الهلاك ، لأنّها حالة ضرورة . وفي معنى الماء المعادن الجارية في الأملاك ، كالقار والنّفط .
المبحث الثّالث
حدّ الكثرة في ماء البئر وأثر اختلاطه بطاهر وانغماس آدميّ فيه طاهر أو به نجاسة
6 - اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الماء الكثير لا ينجّسه شيء ما لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه . ويختلفون في حدّ الكثرة ، فيقدّرها الحنفيّة بما يوازي عشر أذرع في عشر دون اعتبار للعمق ما دام القاع لا يظهر بالاغتراف . والذّراع سبع قبضات ، لأنّها لو كانت عشراً في عشر فإنّ الماء لا يتنجّس بشيء ما لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه ، اعتباراً بالماء الجاري . والقياس أن لا تطهر ، لكن ترك القياس للآثار ، ومسائل الآبار مبنيّة على الآثار . والمفتى به القول بالعشر ولو حكماً ليعمّ ما له طول بلا عرض في الأصحّ . وقيل المعتبر في القدر الكثير رأي المبتلى به ، بناءً على عدم صحّة ثبوت تقدير شرعاً . ويرى المالكيّة أنّ الكثير ما زاد قدره عن آنية الغسل ، وكذا ما زاد عن قدر آنية الوضوء ، على الرّاجح . ويتّفق الشّافعيّة ، والحنابلة في ظاهر المذهب ، على أنّ الكثير ما بلغ قلّتين فأكثر ، لحديث « إذا بلغ الماء قلّتين لم ينجّسه شيء » وفي رواية « لم يحمل الخبث » . وإن نقص عن القلّتين برطل أو رطلين فهو في حكم القلّتين .
7 - إذا اختلط بماء البئر طاهر ، مائعاً كان أو جامداً ، وكانت البئر ممّا يعتبر ماؤها قليلاً ، تجري عليه أحكام الماء القليل المختلط بطاهر ، ويرجع في تحديد الكثرة والقلّة إلى تفصيلات المذاهب في مصطلح ( مياه ) .
انغماس الآدميّ في ماء البئر
8 - اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الآدميّ إذا انغمس في البئر ، وكان طاهراً من الحدث والخبث ، وكان الماء كثيراً ، فإنّ الماء لا يعتبر مستعملاً ، ويبقى على أصل طهوريّته . وروى الحسن عن أبي حنيفة أنّه ينزح منه عشرون دلواً . ومذهب الشّافعيّة ، والصّحيح عند الحنابلة أنّ الآدميّ طاهر حيّاً وميّتاً ، وأنّ موت الآدميّ في الماء لا ينجّسه إلاّ إن تغيّر أحد أوصاف الماء تغيّراً فاحشاً . لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « المؤمن لا ينجس » . ولأنّه لا ينجس بالموت ، كالشّهيد ، لأنّه لو نجس بالموت لم يطهر بالغسل . ولا فرق بين المسلم والكافر ، لاستوائهما في الآدميّة . ويرى الحنفيّة نزح كلّ ماء البئر بموت الآدميّ فيه ، إذ نصّوا على أنّه ينزح ماء البئر كلّه بموت سنّورين أو كلب أو شاة أو آدميّ . وموت الكلب ليس بشرط حتّى لو انغمس وأخرج حيّاً ينزح جميع الماء .
9 - ويقول ابن قدامة الحنبليّ : ويحتمل أن ينجّس الكافر الماء بانغماسه ، لأنّ الخبر ورد في المسلم . وإذا انغمس في البئر من به نجاسة حكميّة ، بأن كان جنباً أو محدثاً ، فإنّه ينظر : إمّا أن يكون ماء البئر كثيراً أو قليلاً ، وإمّا أن يكون قد نوى بالانغماس رفع الحدث . وإمّا أن يكون بقصد التّبرّد أو إحضار الدّلو . فإن كان البئر معيناً ، أي ماؤه جار ، فإنّ انغماس الجنب ومن في حكمه لا ينجّسه عند ابن القاسم من المالكيّة ، وهو رواية يحيى بن سعيد عن مالك . وهو مذهب الحنابلة إن لم ينو رفع الحدث . وهو اتّجاه من قال من الحنفيّة إنّ الماء المستعمل طاهر لغلبة غير المستعمل ، أو لأنّ الانغماس لا يصيّره مستعملاً ، وعلى هذا فلا ينزح منه شيء .
10 - ويرى الشّافعيّة كراهة انغماس الجنب ومن في حكمه في البئر ، وإن كان معيناً ، لخبر أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يغتسل أحدكم في الماء الدّائم وهو جنب » . وهو رواية عليّ بن زياد عن مالك ، ومذهب الحنابلة إن نوى رفع الحدث . وإلى هذا يتّجه من يرى من الحنفيّة أنّ الماء بالانغماس يصير مستعملاً ، ويرى أنّ الماء المستعمل نجس ينزح كلّه وعن أبي حنيفة ينزح أربعون دلواً ، لو كان محدثاً ، وينزح جميعه لو كان جنباً أو كافراً ، لأنّ بدن الكافر لا يخلو من نجاسة حقيقيّة أو حكميّة ، إلاّ إذا تثبّتنا من طهارته وقت انغماسه .
11 - وإذا كان ماء البئر قليلاً وانغمس فيه بغير نيّة رفع الحدث ، فالمالكيّة على أنّ الماء المجاور فقط يصير مستعملاً وعند الشّافعيّة والحنابلة الماء على طهوريّته . واختلف الحنفيّة على ثلاثة أقوال ترمز لها كتبهم : « مسألة البئر جحط » ويرمزون بالجيم إلى ما قاله الإمام من أنّ الماء نجس بإسقاط الفرض عن البعض بأوّل الملاقاة ، والرّجل نجس لبقاء الحدث في بقيّة الأعضاء ، أو لنجاسة الماء المستعمل ، ويرمزون بالحاء لرأي أبي يوسف من أنّ الرّجل على حاله من الحدث ، لعدم الصّبّ ، وهو شرط عنده ، والماء على حاله لعدم نيّة القربة ، وعدم إزالة الحدث . ويرمزون بالطّاء لرأي محمّد بن الحسن من أنّ الرّجل طاهر لعدم اشتراط الصّبّ ، وكذا الماء ، لعدم نيّة القربة .
12 - أمّا إذا انغمس في الماء القليل بنيّة رفع الحدث كان الماء كلّه مستعملاً عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، لكن عند الحنابلة يبقى الماء على طهوريّته ولا يرفع الحدث . وكذلك يكون الماء مستعملاً عند الحنفيّة لو تدلّك ولو لم ينو رفع الحدث ، لأنّ التّدلّك فعل منه يقوم مقام نيّة رفع الحدث .
13 - أمّا إذا انغمس إنسان في ماء البئر وعلى بدنه نجاسة حقيقيّة ، أو ألقي فيه شيء نجس ، فمن المتّفق عليه أنّ الماء الكثير لا يتنجّس بشيء ، ما لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه ، على ما سبق . غير أنّ الحنابلة ، في أشهر روايتين عندهم ، يرون أنّ ما يمكن نزحه ، إذا بلغ قلّتين ، فلا يتنجّس بشيء من النّجاسات ، إلاّ ببول الآدميّين أو عذرتهم المائعة . وجه ذلك ما روي عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يبولنّ أحدكم في الماء الدّائم الّذي لا يجري ثمّ يغتسل فيه » . وكذلك إذا ما سقط فيه شيء نجس ، وفي مقابل المشهور في مذهب أحمد أنّ الماء لا ينجس إلاّ بالتّغيّر قليله وكثيره .
14 - وقد فصّل الحنفيّة هذا بما لم يفصّله غيرهم ، ونصّوا على أنّ الماء لا ينجس بخرء الحمام والعصفور ، ولو كان كثيراً ، لأنّه طاهر استحساناً ، بدلالة الإجماع ، فإنّ الصّدر الأوّل ومن بعدهم أجمعوا على جواز اقتناء الحمام في المساجد ، حتّى المسجد الحرام ، مع ورود الأمر بتطهيرها . وفي ذلك دلالة ظاهرة على عدم نجاسته . وخرء العصفور كخرء الحمامة ، فما يدلّ على طهارة هذا يدلّ على طهارة ذاك . وكذلك خرء جميع ما يؤكل لحمه من الطّيور على الأرجح .
يتوجب عليك تسجيل الدخول او تسجيل لروئية الموضوع
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المبحث الرّابع
أثر وقوع حيوان في البئر
15 - الأصل أنّ الماء الكثير لا ينجس إلاّ بتغيّر أحد أوصافه كما سبق . واتّفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنّ ما ليس له نفس سائلة ، إذا ما وقع في ماء البئر ، لا يؤثّر في طهارته ، كالنّحل ، لحديث سعيد بن المسيّب قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « كلّ طعام وشراب وقعت فيه دابّة ليس لها دم فماتت فهو حلال » . وممّا قيل في توجيهه أنّ المنجّس له الدّماء السّائلة ، فما لا دم له سائلاً لا يتنجّس بالموت ما مات فيه من المائعات . وكذا ما كان مأكول اللّحم ، إذا لم يكن يعلم أنّ على بدنه أو مخرجه نجاسةً ، وخرج حيّاً ، ما دام لم يتسبّب في تغيّر أحد أوصاف الماء ، عدا ما كان نجس العين كالخنزير . ويرى الحنابلة وبعض الحنفيّة أنّ المعتبر السّؤر ، فإن كان لم يصل فمه إلى الماء لا ينزح منه شيء ، وإن وصل وكان سؤره طاهراً فإنّه طاهر . يقول الكاسانيّ : وقال البعض : المعتبر السّؤر . ويقول ابن قدامة : وكلّ حيوان حكم جلده وشعره وعرقه ودمعه ولعابه حكم سؤره في الطّهارة والنّجاسة . وينظر حكم السّؤر في مصطلح « سؤر » .
16 - ويختلف الفقهاء فيما وراء ذلك ، فغير الحنفيّة من فقهاء المذاهب الأربعة يتّجهون إلى عدم التّوسّع في الحكم بالتّنجّس بوقوع الحيوان ذي النّفس السّائلة ( الدّم السّائل ) عموماً وإن وجد بعض اختلاف بينهم . فالمالكيّة ينصّون على أنّ الماء الرّاكد ، أو الّذي له مادّة ، أو كان الماء جارياً ، إذا مات فيه حيوان برّيّ ذو نفس سائلة ، أو حيوان بحريّ ، لا ينجس ، وإن كان يندب نزح قدر معيّن ، لاحتمال نزول فضلات من الميّت ، ولأنّه تعافه النّفس . وإذا وقع شيء من ذلك ، وأخرج حيّاً ، أو وقع بعد أن مات بالخارج ، فإنّ الماء لا ينجس ولا ينزح منه شيء ، لأنّ سقوط النّجاسة بالماء لا يطلب بسببه النّزح . وإنّما يوجب الخلاف فيه إذا كان يسيراً . وموت الدّابّة بخلاف ذلك فيها . ولأنّ سقوط الدّابّة بعد موتها في الماء هو بمنزلة سقوط سائر النّجاسات من بول وغائط ، وذاتها صارت نجسةً بالموت . فلو طلب النّزح في سقوطها ميّتةً لطلب في سائر النّجاسات ، ولا قائل بذلك في المذهب . وقيل : يستحبّ النّزح بحسب كبر الدّابّة وصغرها ، وكثرة ماء البئر وقلّته . وعن ابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ : أنّ الآبار الصّغار ، مثل آبار الدّور ، تفسد بما وقع فيها حيّاً ، ثمّ مات فيها ، من شاة أو دجاجة ، وإن لم تتغيّر ، ولا تفسد بما وقع فيها ميّتاً حتّى تتغيّر . وأمّا ما وقع فيها ميّتاً فقيل : إنّه بمنزلة ما مات فيه ، وقيل : لا تفسد حتّى تتغيّر . وقالوا : إذا تغيّر الماء طعماً أو لوناً أو ريحاً بتفسّخ الحيوان فيه تنجّس .
17 - وقال الشّافعيّة : إذا كان ماء البئر كثيراً طاهراً ، وتفتّتت فيه نجاسة ، كفأرة تمعّط شعرها بحيث لا يخلو دلو من شعرة ، فهو طهور كما كان إن لم يتغيّر . وعلى القول بأنّ الشّعر نجس ينزح الماء كلّه ليذهب الشّعر ، مع ملاحظة أنّ اليسير عرفاً من الشّعر معفوّ عنه ما عدا شعر الكلب والخنزير . ويفهم من هذا أنّ ماء البئر إذا كان قليلاً فإنّه يتنجّس ولو لم يتغيّر ، وهو ما رواه ابن الماجشون ومن معه من المالكيّة في الآبار الصّغار إذا مات فيها حيوان ذو نفس سائلة .
18 - ويقول الحنابلة : إذا وقعت الفأرة أو الهرّة في ماء يسير ، ثمّ خرجت حيّةً ، فهو طاهر ، لأنّ الأصل الطّهارة . وإصابة الماء لموضع النّجاسة مشكوك فيه . وكلّ حيوان حكم جلده وشعره وعرقه ودمعه ولعابه حكم سؤره في الطّهارة والنّجاسة . ويفهم من قيد " ثمّ خرجت حيّةً " أنّها لو ماتت فيه يتنجّس الماء ، كما يفهم من تقييد الماء " باليسير " أنّ الماء الكثير لا ينجس إلاّ إذا تغيّر وصفه .
19 - أمّا الحنفيّة فقد أكثروا من التّفصيلات ، فنصّوا على أنّ الفأرة إذا وقعت هاربةً من القطّ ينزح كلّ الماء ، لأنّها تبول . وكذلك إذا كانت مجروحةً أو متنجّسةً . وقالوا : إن كانت البئر معيناً ، أو الماء عشراً في عشر ، لكن تغيّر أحد أوصافه ، ولم يمكن نزحها ، نزح قدر ما كان فيها .
20 - وإذا كانت البئر غير معين ، ولا عشراً في عشر ، نزح منها عشرون دلواً بطريق الوجوب ، إلى ثلاثين ندباً ، بموت فأرة أو عصفور أو سامّ أبرص . ولو وقع أكثر من فأرة إلى الأربع فكالواحدة عند أبي يوسف ، ولو خمساً إلى التّسع كالدّجاجة ، وعشراً كالشّاة ، ولو فأرتين كهيئة الدّجاجة ينزح أربعون عند محمّد . وإذا مات فيها حمامة أو دجاجة أو سنّور ينزح أربعون وجوباً إلى ستّين استحباباً . وفي رواية إلى خمسين . وينزح كلّه لسنّورين وشاة ، أو انتفاخ الحيوان الدّمويّ ، أو تفسّخه ولو صغيراً . وبانغماس كلب حتّى لو خرج حيّاً . وكذا كلّ ما سؤره نجس أو مشكوك فيه . وقالوا في الشّاة : إن خرجت حيّةً فإن كانت هاربةً من السّبع نزح كلّه خلافاً لمحمّد . وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف في البقر والإبل أنّه ينجّس الماء ، لأنّها تبول بين أفخاذها فلا تخلو من البول . ويرى أبو حنيفة نزح عشرين دلواً ، لأنّ بول ما يؤكل لحمه نجس نجاسةً خفيفةً ، وقد ازداد خفّةً بسبب البئر فيكفي نزح أدنى ما ينزح . وعن أبي يوسف : ينزح ماء البئر كلّه ، لاستواء النّجاسة الخفيفة والغليظة في حكم تنجّس الماء .
المبحث الخامس
تطهير الآبار وحكم تغويرها
21 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا تنجّس ماء البئر فإنّ التّكثير طريق تطهيره عند تنجّسها إذا زال التّغيّر . ويكون التّكثير بالتّرك حتّى يزيد الماء ويصل حدّ الكثرة ، أو بصبّ ماء طاهر فيه حتّى يصل هذا الحدّ . وأضاف المالكيّة طرقاً أخرى ، إذ يقولون : إذا تغيّر ماء البئر بتفسّخ الحيوان طعماً أو لوناً أو ريحاً يطهر بالنّزح ، أو بزوال أثر النّجاسة بأيّ شيء . بل قال بعضهم : إذا زالت النّجاسة من نفسها طهر . وقالوا في بئر الدّار المنتنة : طهور مائها بنزح ما يذهب نتنه .
22 - ويقصر الشّافعيّة التّطهير على التّكثير فقط إذا كان الماء قليلاً ( دون القلّتين ) ، إمّا بالتّرك حتّى يزيد الماء ، أو بصبّ ماء عليه ليكثر ، ولا يعتبرون النّزح لينبع الماء الطّهور بعده ، لأنّه وإن نزح فقعر البئر يبقى نجساً كما تتنجّس جدران البئر بالنّزح . وقالوا : فيما إذا وقع في البئر شيء نجس ، كفأرة تمعّط شعرها ، فإنّ الماء ينزح لا لتطهير الماء ، وإنّما بقصد التّخلّص من الشّعر .
23 - ويفصّل الحنابلة في التّطهير بالتّكثير ، إذا كان الماء المتنجّس قليلاً ، أو كثيراً لا يشقّ نزحه ويخصّون ذلك بما إذا كان تنجّس الماء بغير بول الآدميّ أو عذرته . ويكون التّكثير بإضافة ماء طهور كثير ، حتّى يعود الكلّ طهوراً بزوال التّغيّر . أمّا إذا كان تنجّس الماء ببول الآدميّ أو عذرته فإنّه يجب نزح مائها ، فإن شقّ ذلك فإنّه يطهر بزوال تغيّره ، سواء بنزح ما لا يشقّ نزحه ، أو بإضافة ماء إليه ، أو بطول المكث . على أنّ النّزح إذا زال به التّغيّر وكان الباقي من الماء كثيراً ( قلّتين فأكثر ) يعتبر مطهّراً عند الشّافعيّة .
24 - أمّا الحنفيّة فيقصرون التّطهير على النّزح فقط ، لكلّ ماء البئر ، أو عدد محدّد من الدّلاء على ما سبق . وإذا كان المالكيّة والحنابلة اعتبروا النّزح طريقاً للتّطهير فإنّه غير متعيّن عندهم كما أنّهم لم يحدّدوا مقداراً من الدّلاء وإنّما يتركون ذلك لتقدير النّازح . ومن أجل هذا نجد الحنفيّة هم الّذين فصّلوا الكلام في النّزح ، وهم الّذين تكلّموا على آلة النّزح ، وما يكون عليه حجمها .
25 - فإذا وقعت في البئر نجاسة نزحت ، وكان نزح ما فيها من الماء طهارةً لها . لأنّ الأصل في البئر أنّه وجد فيها قياسان : أحدهما : أنّها لا تطهر أصلاً ، لعدم الإمكان ، لاختلاط النّجاسة بالأوحال والجدران . الثّاني : لا تنجس ، إذ يسقط حكم النّجاسة ، لتعذّر الاحتراز أو التّطهير . وقد تركوا القياسين الظّاهرين بالخبر والأثر ، وضرب من الفقه الخفيّ وقالوا : إنّ مسائل الآبار مبنيّة على اتّباع الآثار . أمّا الخبر فما روى من « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في الفأرة تموت في البئر ينزح منها عشرون » وفي رواية « ينزح منها ثلاثون دلواً » . وأمّا الأثر فما روي عن عليّ أنّه قال : ينزح عشرون . وفي رواية ثلاثون وعن أبي سعيد الخدريّ أنّه قال في دجاجة ماتت في البئر : ينزح منها أربعون دلواً . وعن ابن عبّاس وابن الزّبير أنّهما أمرا بنزح ماء زمزم حين مات فيها زنجيّ . وكان بمحضر من الصّحابة ، ولم ينكر عليهما أحد . وأمّا الفقه الخفيّ فهو أنّ في هذه الأشياء دماً سائلاً وقد تشرّب في أجزائها عند الموت فنجّسها . وقد جاورت هذه الأشياء الماء ، وهو ينجس أو يفسد بمجاورة النّجس ، حتّى قال محمّد بن الحسن : إذا وقع في البئر ذنب فأرة ، ينزح جميع الماء ، لأنّ موضع القطع لا ينفكّ عن بلّة ، فيجاور أجزاء الماء فيفسدها .
26 - وقالوا : لو نزح ماء البئر ، وبقي الدّلو الأخير فإن لم ينفصل عن وجه الماء لا يحكم بطهارة البئر ، وإن انفصل عن وجه الماء ، ونحّي عن رأس البئر ، طهر . وأمّا إذا انفصل عن وجه الماء ، ولم ينحّ عن رأس البئر ، والماء يتقاطر فيه ، لا يطهر عند أبي يوسف . وذكر الحاكم أنّه قول أبي حنيفة أيضاً . وعند محمّد يطهر . وجه قول محمّد أنّ النّجس انفصل من الطّاهر ، فإنّ الدّلو الأخير تعيّن للنّجاسة شرعاً ، بدليل أنّه إذا نحّي عن رأس البئر يبقى الماء طاهراً ، وما يتقاطر فيها من الدّلو سقط اعتبار نجاسته شرعاً دفعاً للحرج . ووجه قولهما أنّه لا يمكن الحكم بالطّهارة إلاّ بعد انفصال النّجس عنها ، وهو ماء الدّلو الأخير ، ولا يتحقّق الانفصال إلاّ بعد تنحية الدّلو عن البئر ، لأنّ ماءه متّصل بماء البئر . واعتبار نجاسة القطرات لا يجوز إلاّ لضرورة ، والضّرورة تندفع بأن يعطى لهذا الدّلو حكم الانفصال بعد انعدام التّقاطر ، بالتّنحية عن رأس البئر .
27 - وإذا وجب نزح جميع الماء من البئر ينبغي أن تسدّ جميع منابع الماء إن أمكن ، ثمّ ينزح ما فيها من الماء النّجس . وإن لم يمكن سدّ منابعه لغلبة الماء روي عن أبي حنيفة أنّه ينزح مائة دلو ، وعن محمّد أنّه ينزح مائتا دلو ، أو ثلثمائة دلو . وعن أبي يوسف روايتان في رواية يحفر بجانبها حفرة مقدار عرض الماء وطوله وعمقه ثمّ ينزح ماؤها ويصبّ في الحفرة حتّى تمتلئ فإذا امتلأت حكم بطهارة البئر ، وفي رواية : يرسل فيها قصبة ، ويجعل لمبلغ الماء علامة ، ثمّ ينزح منها عشر دلاء مثلاً ، ثمّ ينظر كم انتقص ، فينزح بقدر ذلك ، ولكنّ هذا لا يستقيم إلاّ إذا كان دور البئر من أوّل حدّ الماء إلى مقرّ البئر متساوياً ، وإلاّ لا يلزم إذا نقص شبر بنزح عشر دلاء من أعلى الماء أن ينقص شبر بنزح مثله من أسفله . والأوفق ما روي عن أبي نصر أنّه يؤتى برجلين لهما بصر في أمر الماء فينزح بقولهما ، لأنّ ما يعرف بالاجتهاد يرجع فيه لأهل الخبرة .
28 - والمالكيّة كما بيّنّا يرون أنّ النّزح طريق من طرق التّطهير . ولم يحدّدوا قدراً للنّزح ، وقالوا : إنّه يترك مقدار النّزح لظنّ النّازح . قالوا : وينبغي للتّطهير أن ترفع الدّلاء ناقصةً ، لأنّ الخارج من الحيوان عند الموت موادّ دهنيّة ، وشأن الدّهن أن يطفو على وجه الماء ، فإذا امتلأ الدّلو خشي أن يرجع إلى البئر . والحنابلة قالوا : لا يجب غسل جوانب بئر نزحت ، ضيّقةً كانت أو واسعةً ، ولا غسل أرضها ، بخلاف رأسها . وقيل يجب غسل ذلك . وقيل إنّ الرّوايتين في البئر الواسعة . أمّا الضّيّقة فيجب غسلها روايةً واحدةً . وقد بيّنّا أنّ الشّافعيّة لا يرون التّطهير بمجرّد النّزح .
آلة النّزح
29 - منهج الحنفيّة ، القائل بمقدار معيّن من الدّلاء للتّطهير في بعض الحالات ، يتطلّب بيان حجم الدّلو الّذي ينزح به الماء النّجس . فقال البعض : المعتبر في كلّ بئر دلوها ، صغيراً كان أو كبيراً . وروي عن أبي حنيفة أنّه يعتبر دلو يسع قدر صاع . وقيل المعتبر هو المتوسّط بين الصّغير والكبير . ولو نزح بدلو عظيم مرّةً مقدار عشرين دلواً جاز . وقال زفر : لا يجوز ، لأنّه بتواتر الدّلو يصير كالماء الجاري . وبطهارة البئر يطهر الدّلو والرّشاء والبكرة ونواحي البئر ويد المستقي . روي عن أبي يوسف أنّ نجاسة هذه الأشياء بنجاسة البئر ، فتكون طهارتها بطهارتها ، نفياً للحرج . وقيل : لا تطهر الدّلو في حقّ بئر أخرى ، كدم الشّهيد طاهر في حقّ نفسه لا في حقّ غيره .
30 - ولم يتعرّض فقهاء المذاهب الأخرى - على ما نعلم - لمقدار آلة النّزح . وكلّ ما قالوه أنّ ماء البئر إذا كان قليلاً ، وتنجّس ، فإنّ الدّلو إذا ما غرف به من الماء النّجس القليل تنجّس من الظّاهر والباطن . وإذا كان الماء مقدار قلّتين فقط ، وفيه نجاسة جامدة ، وغرف بالدّلو من هذا الماء ، ولم تغرف العين النّجسة في الدّلو مع الماء فباطن الدّلو طاهر ، وظاهره نجس ، لأنّه بعد غرف الدّلو يكون الماء الباقي في البئر والّذي احتكّ به ظاهر الدّلو قليلاً نجساً . واستظهر البهوتيّ من قول الحنابلة بعدم غسل جوانب البئر للمشقّة ووجوب غسل رأسها لعدم المشقّة ، وجوب غسل آلة النّضح إلحاقاً لها برأس البئر في عدم مشقّة الغسل . وقال : إنّ مقتضى قولهم : المنزوح طهور أنّ الآلة لا يعتبر فيها ذلك للحرج .
تغوير الآبار
31 - كتب المذاهب تذكر اتّفاق الفقهاء على أنّه إذا دعت الحاجة إلى تخريب وإتلاف بعض أموال الكفّار وتغوير الآبار لقطع الماء عنهم جاز ذلك . بدليل « فعل الرّسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين أمر بالقلب فغوّرت » .
المبحث السّادس
آبار لها أحكام خاصّة
آبار أرض العذاب وحكم التّطهّر والتّطهير بمائها
32 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى صحّة التّطهّر والتّطهير بمائها مع الكراهة . واستظهر الأجهوريّ من المالكيّة هذا الرّأي . وهو رواية عند الحنابلة ، لكنّها غير ظاهر القول . ودليلهم على صحّة التّطهير بمائها العمومات الدّالّة على طهارة جميع المياه ما لم تتنجّس أو يتغيّر أحد أوصاف الماء ، والدّليل على الكراهية أنّه يخشى أن يصاب مستعمله بأذًى لأنّها مظنّة العذاب . وينقل العدويّ من المالكيّة أنّ غير الأجهوريّ جزم بعدم صحّة التّطهير بماء هذه الآبار . وهي الرّواية الظّاهرة عند الحنابلة في آبار أرض ثمود ، كبئر ذي أروان وبئر برهوت ، عدا بئر النّاقة . والدّليل على عدم صحّة التّطهير بماء هذه الآبار أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بإهراق الماء الّذي استقاه أصحابه من آبار أرض ثمود ، فإنّ أمره بإهراقها يدلّ على أنّ ماءها لا يصحّ التّطهير به . وهذا النّهي وإن كان وارداً في الآبار الموجودة بأرض ثمود إلاّ أنّ غيرها من الآبار الموجودة بأرض غضب اللّه على أهلها يأخذ حكمها بالقياس عليها بجامع أنّ كلّاً منها موجود في أرض نزل العذاب بأهلها . أمّا الحنابلة فقد أبقوا ما وراء أرض ثمود على القول بطهارتها ، وحملوا النّهي على الكراهة ، وكذلك حكموا بالكراهة على الآبار الموجودة بالمقابر ، والآبار في الأرض المغصوبة ، والّتي حفرت بمال مغصوب .
البئر الّتي خصّت بالفضل
33 - بئر زمزم بمكّة لها مكانة إسلاميّة . روى ابن عبّاس أنّ رسول اللّه قال : « خير ماء على وجه الأرض زمزم » . وعنه أنّ رسول اللّه قال : « ماء زمزم لما شرب له ، إن شربته تستشفي به شفاك اللّه ، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه اللّه » . وللشّرب منه واستعماله آداب نصّ عليها الفقهاء . فقالوا : إنّه يستحبّ لشاربه أن يستقبل القبلة ، ويذكر اسم اللّه تعالى ، ويتنفّس ثلاثاً ، ويتضلّع منه ، ويحمد اللّه تعالى ، ويدعو بما كان ابن عبّاس يدعو به إذا شرب منه " اللّهمّ إنّي أسألك علماً نافعاً ، ورزقاً واسعاً ، وشفاءً من كلّ داء » . ويقول : « اللّهمّ إنّه بلغني عن نبيّك صلى الله عليه وسلم أنّ ماء زمزم لما شرب له وأنا أشربه لكذا » .
34 - ويجوز بالاتّفاق نقل شيء من مائها . والأصل في جواز نقله ما جاء في جامع التّرمذيّ عن السّيّدة عائشة أنّها حملت من ماء زمزم في القوارير ، وقالت : « حمل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منها . وكان يصبّ على المرضى ، ويسقيهم » . وروى ابن عبّاس « أنّ رسول اللّه استهدى سهيل بن عمرو من ماء زمزم » . كما اتّفقوا على عدم استعماله في مواضع الامتهان ، كإزالة النّجاسة الحقيقيّة . ويجزم المحبّ الطّبريّ الشّافعيّ بتحريم ذلك . وهو ما يحتمله كلام ابن شعبان المالكيّ ، وما رواه ابن عابدين عن بعض الحنفيّة ، لكنّ أصل المذهب الحنفيّ والمذهب المالكيّ الكراهة ، وهو ما عبّر به الرّويانيّ الشّافعيّ في " الحلية " ، وصرّح به البيجوريّ ، واستظهره القاضي زكريّا ، وقال : إنّ المنع على وجه الأدب ، وهو المعبّر عنه هنا من بعض فقهاء الشّافعيّة بخلاف الأولى . واتّفقوا على أنّه لا ينبغي أن يغسّل به ميّت ابتداءً . ونقل الفاكهيّ أنّ أهل مكّة يغسلون موتاهم بماء زمزم إذا فرغوا من غسل الميّت وتنظيفه ، تبرّكاً به ، وأنّ أسماء بنت أبي بكر غسّلت ابنها عبد اللّه بن الزّبير بماء زمزم .
35 - ولا خلاف معتبراً في جواز الوضوء والغسل به لمن كان طاهر الأعضاء ، بل صرّح البعض باستحباب ذلك . ولا يعوّل على القول بالكراهة اعتماداً على أنّه طعام ، لما روي عن الرّسول صلى الله عليه وسلم من قوله : « هو طعام . . . » ويدلّ على عدم الكراهة ما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضّأ » . ويقول الفاسيّ المالكيّ : التّطهير بماء زمزم صحيح بالإجماع ، على ما ذكره الماورديّ في حاويه ، والنّوويّ في شرح المهذّب . ومقتضى ما ذكره ابن حبيب المالكيّ استحباب التّوضّؤ به . وكونه مباركاً لا يمنع الوضوء به ، كالماء الّذي وضع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يده فيه . وقد صرّح الشّافعيّة بجواز استعمال ماء زمزم في الحدث دون الخبث . وهو ما يفيده عموم قول الحنابلة : ولا يكره الوضوء والغسل بماء زمزم على ما هو الأولى في المذهب . أمّا الحنفيّة فقد صرّحوا بأنّه لا يغتسل به جنب ولا محدث .
آبد
التّعريف
1 - من معاني الآبد في اللّغة أنّه وصف يوصف به الحيوان المتوحّش ، يقال : أبدت البهيمة أي توحّشت ، والآبدة : هي الّتي توحّشت ونفرت من الإنس .
وفي اصطلاح الفقهاء يستنبط المعنى الشّرعيّ من استعمالات الفقهاء ، ومواطن بحثهم ، حيث وجدنا الفقهاء يستعملون ذلك في شيئين :
أوّلهما : الحيوان المتوحّش ، سواء أكان توحّشه أصليّاً أم طارئاً .
وثانيهما : الحيوان الأليف إذا ندّ ( شرد ونفر ) .
( الحكم الإجماليّ )
2 - الآبد من الحيوان يلحق حكمه بالصّيد والذّبائح واللّقطة ، فإذا ندّ بعير أو نحوه من الحيوانات الأليفة المأكولة ، فلم يقدر عليه ، جاز أن يضرب بسهم أو نحوه من آلات الصّيد . فإن قتله ذلك فهو حلال . ويعتبر فيه حينئذ ما يعتبر في الصّيد . والحيوان الوحشيّ إن قدر على ذبحه ، أو استأنس ، لا يحلّ إلاّ بذبحه . وهو على حكم الإباحة ، كالحشيش والحطب ، ومياه الأمطار . ويملكه من أخذه . ويرجع في تفصيل ذلك إلى كتاب الصّيد . أمّا الحيوان المستأنس المملوك إذا أبد فإمّا أن يمتنع بنفسه من صغار السّباع أو لا ، وقد فصّل الفقهاء حكم ملكيّته السّابقة ، وبالنّسبة لمن التقطه ، على خلاف بينهم .
( مواطن البحث )
3 - فصّل الفقهاء أحكام الآبد في الصّيد والذّبائح ، في بيان الخلاف في الشّارد ونحوه ، وفي اللّقطة .
آبق
انظر : إباق .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
آجرّ
التّعريف
1 - الآجرّ لغةً : الطّين المطبوخ . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك إذ قالوا : هو اللّبن المحرّق .
( الألفاظ ذات الصّلة )
2 - الآجرّ يخالف الحجر والرّمل في أنّه خرج عن أصله بالطّبخ والصّنعة ، بخلافهما . ويخالف الجصّ والجبس أيضاً إذ هما حجر محرّق .
( الحكم الإجماليّ ومواطن البحث ) :
3 - لا يصحّ التّيمّم بالآجرّ إلاّ عند الحنفيّة ، ويصحّ الاستنجاء به عند الجميع . غير أنّه مع الصّحّة يكره تحريماً إن كان ذا قيمة عند الحنفيّة دون غيرهم . ولو عجن بنجس ففي طهارته أو نجاسته خلاف بين الفقهاء ، ولهم في ذلك تشقيقات وتفريعات في مبحث النّجاسات . وعلى الحكم بطهارته ونجاسته يترتّب صحّة بيعه وفساده . ومحلّ ذلك في البيع " شرائط المعقود عليه " وبالإضافة إلى ما تقدّم يتناول الفقهاء ( الآجرّ ) في الدّفن وحثو القبر به . وفي السّلم عن حكم السّلم فيه . وفي الغصب إن جعل التّراب آجرّاً .
آجن
التّعريف
1 - الآجن في اللّغة : اسم فاعل من أجن الماء ، من بابي ضرب وقعد ، إذا تغيّر طعمه أو لونه أو ريحه بسبب طول مكثه ، إلاّ أنّه يشرب ، وقيل هو ما غشيه الطّحلب والورق . ويقرب من الآجن " الآسن " إلاّ أنّ الآسن أشدّ تغيّراً بحيث لا يقدر على شربه ، ولم يفرّق بعضهم بينهما . والمراد به في الفقه ما تغيّر بعض أوصافه أو كلّها بسبب طول المكث . سواء أكان يشرب عادةً أم لا يشرب ، كما يستفاد ذلك من إطلاق عباراتهم .
( الحكم الإجماليّ )
2 - الماء الآجن ماء مطلق ، وهو في الجملة طاهر مطهّر ، على خلاف وتفصيل في ذلك .
مواطن البحث
3 - يذكر الماء الآجن في كتاب الطّهارة - باب المياه . وجمهور الفقهاء لم يذكروه بهذا اللّفظ ، بل ذكروه بالمعنى فوصفوه بالمتغيّر بالمكث أو المنتن ونحو ذلك .
آداب الخلاء
انظر : قضاء الحاجة .
آدر
التّعريف
1 - الآدر : من به أدرة . والأدرة بوزن غرفة انتفاخ الخصية ، يقال : أدر يأدر ، من باب تعب ، فهو آدر ، والجمع : أدر ، مثل أحمر وحمر . ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ ، فهو عندهم وصف للرّجل عند انتفاخ الخصيتين أو إحداهما . ويقابله في المرأة العفلة ، وهي ورم ينبت في قبل المرأة . وقيل : هي لحم فيه .
( الحكم الإجماليّ ومواطن البحث )
2 - لمّا كانت الأدرة نوعاً من الخلل في بنية الإنسان توجب شيئاً من النّفرة منه ، وتعوقه عن بعض التّصرّفات في شؤونه وأعماله ، اعتبرها بعض الفقهاء عيباً . واختلفوا أهي من العيوب الّتي يثبت بها الخيار في البيع وفي النّكاح أم لا . هذا وتفصيل أحكام الأدرة عند الفقهاء في فسخ النّكاح ، والخيار فيه ، وفي خيار العيب في البيوع .
آدميّ
التّعريف
1 - الآدميّ منسوب إلى آدم أبي البشر عليه السلام ، بأن يكون من أولاده . والفقهاء يستعملونه بنفس المعنى . ويرادفه عندهم : إنسان وشخص وبشر .
( الحكم الإجماليّ )
2 - اتّفق الفقهاء على وجوب تكريم الآدميّ باعتباره إنساناً ، بصرف النّظر عمّا يتّصف به من ذكورة وأنوثة ، ومن إسلام وكفر ، ومن صغر وكبر ، وذلك عملاً بقول اللّه تعالى : { ولقد كرّمنا بني آدم } . أمّا بالنّظر إليه موصوفاً بصفة ما فإنّه يتعلّق به مع الحكم العامّ أحكام أخرى تتّصل بهذه الصّفة .
( مواطن البحث )
3 - لتكريم الآدميّ في حياته ومماته مظاهر كثيرة ، في مواطن متعدّدة ، تتعلّق بها أحكام فقهيّة تدور حول تسميته وأهليّته وطهارته وعصمة دمه وماله وعرضه ودفنه ، وغير ذلك . ويفصّل الفقهاء أحكام ذلك في مباحث الأنجاس ، والطّهارة ، والجنايات ، والحدود ، والجنائز ، وفي الأهليّة عند الأصوليّين .
آسن
انظر : آجن .
آفاقيّ
التّعريف
1 - الآفاقيّ لغةً نسبة إلى الآفاق ، وهي جمع أفق ، وهو ما يظهر من نواحي الفلك وأطراف الأرض . والنّسبة إليه أفقيّ . وإنّما نسبه الفقهاء إلى الجمع لأنّ الآفاق صار كالعلم على ما كان خارج الحرم من البلاد . والفقهاء يطلقون هذه اللّفظة على من كان خارج المواقيت المكانيّة للإحرام ، حتّى لو كان مكّيّاً . ويقابل الآفاقيّ الحلّيّ ، وقد يسمّى " البستانيّ " وهو من كان داخل المواقيت ، وخارج الحرم ، والحرميّ ، وهو من كان داخل حدود حرم مكّة . وقد يطلق بعض الفقهاء لفظ « آفاقيّ " على من كان خارج حدود حرم مكّة .
( الحكم الإجماليّ )
2 - يشترك الآفاقيّ مع غيره في كلّ ما يتعلّق بالحجّ ، ما عدا ثلاثة أشياء ، وما يتعلّق بها : الأوّل : الإحرام من الميقات : حدّد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للآفاقيّ مواقيت ، وضّحها الفقهاء ، لا ينبغي له أن يتجاوزها إذا قصد النّسك بدون إحرام ، على تفصيل يرجع إليه في مباحث الإحرام والمواقيت المكانيّة . الثّاني : طواف الوداع وطواف القدوم : خصّ الآفاقيّ بطواف الوداع ، وطواف القدوم ، لأنّه القادم إلى البيت والمودّع له . الثّالث : القران والتّمتّع : خصّ الآفاقيّ بالقران والتّمتّع .
( مواطن البحث )
3 - ويفصّل الفقهاء ذلك في مباحث القران والتّمتّع من أحكام الحجّ .
( آفة )
التّعريف
1 - الآفة : لغةً العاهة ، وهي العرض المفسد لما أصابه . والفقهاء يستعملون الآفة بنفس المعنى ، إلاّ أنّهم غالباً ما يقيّدونها بكونها سماويّةً ، وهي ما لا صنع لآدميّ فيها . ويذكر الفقهاء أيضاً أنّ الجائحة هي الآفة الّتي تصيب الثّمر أو النّبات ، ولا دخل لآدميّ فيها . وكثيراً ما يذكرون الألفاظ الدّالّة على أثر الآفة من تلف وهلاك ، ويفرّقون في الحكم بين ما هو سماويّ وبين غيره . والأصوليّون يذكرون الآفة أثناء الكلام على عوارض الأهليّة . ويقسّمون العوارض إلى سماويّة ، وهي ما كانت من قبل اللّه تعالى بلا اختيار للعبد فيها ، كالجنون والعته ، وإلى مكتسبة ، وهي ما يكون لاختيار العبد في حصولها مدخل ، كالجهل والسّفه . والآفة قد تكون عامّةً ، كالحرّ والبرد الشّديدين ، وقد تكون خاصّةً ، كالجنون .
( الحكم الإجماليّ )
2 - يختلف الحكم الوضعيّ المترتّب على ما تحدثه الآفة باختلاف المقصود ممّا أصابته ، وباختلاف ما تحدثه من ضرر . فللآفة عند الفقهاء أثر في ثبوت الخيار وفي الأرش والفسخ والرّدّ والبطلان وفي تأخير القصاص عند الخوف من ضرر الآفة وفي إسقاط الزّكاة وأجر الأجير . فمن إسقاطها الزّكاة مثلاً تلف الثّمار بآفة بعد وجوب الزّكاة فيها ، ومن إسقاطها الحدّ أن يجنّ الجاني قبل إقامة الحدّ عليه . وعلى الجملة فهي قد تسقط الضّمان ، وتؤثّر في العبادات إسقاطاً أو تخفيفاً .
( مواطن البحث )
3 - يأتي في كلام الفقهاء ذكر الآفة وما يرادفها لبيان الحكم المترتّب على أثر ما تحدثه ، في مسائل متعدّدة المواطن مفصّلة فيها الأحكام بالنّسبة لكلّ مسألة . ومن ذلك : البيع والإجارة والرّهن الوديعة والعاريّة والمساقاة والغصب والنّكاح والزّكاة وغير ذلك . ويأتي ذكرها عند الأصوليّين في مبحث الأهليّة . وينظر في الملحق الأصوليّ .
آكلة
انظر : أكلة .
آل
المبحث الأوّل
معنى الآل لغةً واصطلاحاً
التّعريف
1 - من معاني الآل في اللّغة الأتباع ، يقال : آل الرّجل : أي أتباعه وأولياؤه . ويستعمل فيما فيه شرف غالباً ، فلا يقال آل الإسكاف كما يقال أهله . وقد استعمل لفظ أهل مرادفاً للفظ آل ، لكن قد يكون لفظ أهل أخصّ إذا استعمل بمعنى زوجة ، كما في قوله تعالى خطاباً لزوجة إبراهيم عليه السلام عندما قالت : { أألد وأنا عجوز } ، { رحمة اللّه وبركاته عليكم أهل البيت } وقوله صلى الله عليه وسلم : « خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي » ، والمراد زوجاته . معنى الآل في اصطلاح الفقهاء :
2 - لم يتّفق الفقهاء على معنى الآل ، واختلفت لذلك الأحكام عندهم . فقد قال الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة : إنّ الآل والأهل بمعنًى واحد ، ولكنّ مدلوله عند كلّ منهم يختلف . فذهب الحنفيّة إلى أنّ أهل بيت الرّجل وآله وجنسه واحد . وهو كلّ من يشاركه في النّسب إلى أقصى أب له في الإسلام ، وهو الّذي أدرك الإسلام ، أسلم أو لم يسلم . وقيل يشترط إسلام الأب الأعلى . فكلّ من يناسبه إلى هذا الأب من الرّجال والنّساء والصّبيان فهو من أهل بيته . وقال المالكيّة : إنّ لفظ الآل يتناول العصبة ، ويتناول كلّ امرأة لو فرض أنّها رجل كان عاصباً . وقال الحنابلة : إنّ آل الشّخص وأهل بيته وقومه ونسباءه وقرابته بمعنًى واحد . وقال الشّافعيّة : إنّ آل الرّجل أقاربه ، وأهله من تلزمه نفقتهم ، وأهل بيته أقاربه وزوجته . وللآل إطلاق خاصّ في عبارات الصّلاة على النّبيّ وآله صلى الله عليه وسلم . فالأكثرون على أنّ المراد بهم قرابته عليه الصلاة والسلام الّذين حرمت عليهم الصّدقة . وقيل هم جميع أمّة الإجابة ، وإليه مال مالك ، واختاره الأزهريّ والنّوويّ من الشّافعيّة ، والمحقّقون من الحنفيّة ، وهو القول المقدّم عند الحنابلة ، وعبارة صاحب المغني : آل محمّد صلى الله عليه وسلم أتباعه على دينه .
المبحث الثّاني
أحكام الآل في الوقف والوصيّة
3 - قال الحنفيّة : لو قال الواقف : أرضي هذه صدقة موقوفة للّه عزّ وجلّ أبداً على أهل بيتي ، فإذا انقرضوا فهي وقف على المساكين ، تكون الغلّة للفقراء والأغنياء من أهل بيته ، ويدخل فيه أبوه وأبو أبيه وإن علا ، وولده وولد ولده وإن سفل ، الذّكور والإناث ، والصّغار والكبار ، والأحرار والعبيد ، فيه سواء ، والذّمّيّ فيه كالمسلم . ولا يدخل فيه الواقف ، ولا الأب الّذي أدرك الإسلام ، ولا الإناث من نسله إن كان آباؤهم من قوم آخرين . وإن كان آباؤهم ممّن يناسبه إلى جدّه الّذي أدرك الإسلام فهم من أهل بيته . والآل والأهل بمعنًى واحد عندهم في الوصيّة أيضاً ، فلو أوصى لآله أو أهله يدخل فيهم من جمعهم أقصى أب له في الإسلام . ويدخل في الوصيّة لأهل بيته أبوه وجدّه ممّن لا يرث . ولو أوصى لأهل فلان فالوصيّة لزوجة فلان في قول أبي حنيفة ، وعند الصّاحبين يدخل فيه جميع من تلزمه نفقتهم من الأحرار ، فيدخل فيه زوجته ، واليتيم في حجره ، والولد إذا كان يعوله . فإن كان كبيراً قد اعتزل ، أو بنتاً قد تزوّجت ، فليس من أهله . ولا يدخل فيه وارث الموصي ولا الموصى لأهله . وجه قول الصّاحبين أنّ الأهل عبارة عمّن ينفق عليه . قال اللّه تعالى خبراً عن سيّدنا نوح عليه السلام : { إنّ ابني من أهلي } وقال تعالى في قصّة لوط عليه السلام : { فنجّيناه وأهله } ووجه قول أبي حنيفة أنّ الأهل عند الإطلاق يراد به الزّوجة في متعارف النّاس ، يقال : فلان متأهّل ، وفلان لم يتأهّل ، وفلان ليس له أهل ، ويراد به الزّوجة ، فتحمل الوصيّة على ذلك . وقال المالكيّة : إنّ الواقف لو وقف على آله أو أهله شمل عصبته من أب وابن وجدّ وإخوة وأعمام وبنيهم الذّكور ، وشمل كلّ امرأة لو فرض أنّها رجل كان عاصباً ، سواء أكانت قبل التّقدير عصبةً بغيرها أم مع غيرها ، كأخت مع أخ أو مع بنت ، أم كانت غير عاصبة أصلاً ، كأمّ وجدّة . وإذا قال : أوصيت لأهلي بكذا ، اختصّ بالوصيّة أقاربه لأمّه ، لأنّهم غير ورثة للموصي ، ولا يدخل أقاربه لأبيه حيث كانوا يرثونه . وهذا إذا لم يكن له أقارب لأبيه لا يرثونه . فإن وجدوا اختصّوا بالوصيّة ، ولا يدخل معهم أقاربه لأمّه . وهذا قول ابن القاسم في الوصيّة والوقف . وقال غيره بدخول أقارب الأمّ مع أقارب الأب فيهما . وقال الشّافعيّة : إن أوصى الموصي لآل غيره صلى الله عليه وسلم صحّت الوصيّة ، وحمل على القرابة لا على أهل الدّين في أوجه الوجهين ، ولا يفوّض إلى اجتهاد الحاكم . وأهل البيت كالآل . وتدخل الزّوجة في أهل البيت أيضاً . وإن أوصى لأهله من غير ذكر البيت دخل كلّ من تلزمه مئونته . وقال الحنابلة : لو أوصى لآله أو أهله خرج الوارثون منهم ، إذ لا وصيّة لوارث ، ودخل من آله من لا يرث . المراد بآل محمّد صلى الله عليه وسلم عامّة :
4 - آل النّبيّ صلى الله عليه وسلم هم آل عليّ ، وآل عبّاس ، وآل جعفر ، وآل عقيل ، وآل الحارث بن عبد المطّلب ، وآل أبي لهب . فإنّ عبد مناف وهو الأب الرّابع للنّبيّ صلى الله عليه وسلم أعقب أربعةً ، وهم هاشم والمطّلب ونوفل وعبد شمس . ثمّ إنّ هاشماً أعقب أربعةً ، انقطع نسبهم إلاّ عبد المطّلب ، فإنّه أعقب اثني عشر . آل محمّد صلى الله عليه وسلم الّذين لهم أحكام خاصّة :
5 - هم آل عليّ ، وآل عبّاس ، وآل جعفر ، وآل عقيل ، وآل الحارث بن عبد المطّلب ، ومواليهم ، خلافاً لابن القاسم من المالكيّة ومعه أكثر العلماء حيث لم يعدّوا الموالي من الآل . أمّا أزواجه صلى الله عليه وسلم فذكر أبو الحسن بن بطّال في شرح البخاريّ ، أنّ الفقهاء كافّةً اتّفقوا على أنّ أزواجه عليه الصلاة والسلام لا يدخلن في آله الّذين حرمت عليهم الصّدقة ، لكن في المغني عن عائشة رضي الله عنها ما يخالف ذلك . قال : روى الخلاّل بإسناده عن ابن أبي مليكة أنّ خالد بن سعيد بن العاص بعث إلى عائشة رضي الله عنها سفرةً من الصّدقة ، فردّتها ، وقالت : إنّا آل محمّد لا تحلّ لنا الصّدقة . قال صاحب المغني : وهذا يدلّ على أنّهنّ من أهل بيته في تحريم الزّكاة وذكر الشّيخ تقيّ الدّين أنّه يحرم عليهنّ الصّدقة وأنّهنّ من أهل بيته في أصحّ الرّوايتين .
حكم أخذ آل البيت من الصّدقة المفروضة :
6 - إنّ آل محمّد صلى الله عليه وسلم المذكورين ، لا يجوز دفع الزّكاة المفروضة إليهم باتّفاق فقهاء المذاهب الأربعة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « يا بني هاشم إنّ اللّه تعالى حرّم عليكم غسالة النّاس وأوساخهم ، وعوّضكم عنها بخمس الخمس » والّذين ذكروا ينسبون إلى هاشم بن عبد مناف ، ونسبة القبيلة إليه . وخرج أبو لهب - وإن كان من الآل - فيجوز الدّفع إلى بنيه ، لأنّ النّصّ أبطل قرابته ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « لا قرابة بيني وبين أبي لهب ، فإنّه آثر علينا الأفجرين » ولأنّ حرمة الصّدقة على بني هاشم كرامة من اللّه لهم ولذرّيّتهم ، حيث نصروه صلى الله عليه وسلم في جاهليّتهم وفي إسلامهم . وأبو لهب كان حريصاً على أذى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلم يستحقّها بنوه . وهذا هو المذهب عند كلّ من الحنفيّة والحنابلة . وفي قول آخر في كلا المذهبين : يحرم إعطاء من أسلم من آل أبي لهب ، لأنّ مناط الحكم كونهم من بني هاشم .
7 - واختلف في بني المطّلب أخي هاشم هل تدفع الزّكاة إليهم ؟ فمذهب الحنفيّة ، والمشهور عند المالكيّة ، وإحدى روايتين عند الحنابلة ، أنّهم يأخذون من الزّكاة ، لأنّهم دخلوا في عموم قوله تعالى { إنّما الصّدقات للفقراء والمساكين } لكن خرج بنو هاشم لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ الصّدقة لا تنبغي لآل محمّد » ، فيجب أن يختصّ المنع بهم . ولا يصحّ قياس بني المطّلب على بني هاشم ، لأنّ بني هاشم أقرب إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأشرف ، وهم آل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومشاركة بني المطّلب لهم في خمس الخمس لم يستحقّوه بمجرّد القرابة ، بدليل أنّ بني عبد شمس وبني نوفل يساوونهم في القرابة ولم يعطوا شيئاً ، وإنّما شاركوهم بالنّصرة ، أو بهما جميعاً ، والنّصرة لا تقتضي منع الزّكاة . ومذهب الشّافعيّة والقول غير المشهور عند المالكيّة وإحدى الرّوايتين عن الحنابلة ، أنّه ليس لبني المطّلب الأخذ من الزّكاة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّا وبنو المطّلب لم نفترق في جاهليّة ولا إسلام . إنّما نحن وهم شيء واحد » وفي رواية : « إنّما بنو هاشم وبنو المطّلب شيء واحد . وشبّك بين أصابعه » ولأنّهم يستحقّون من خمس الخمس ، فلم يكن لهم الأخذ ، كبني هاشم . وقد أكّد ذلك ما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم علّل منعهم الصّدقة باستغنائهم عنها بخمس الخمس ، فقال صلى الله عليه وسلم : « أليس في خمس الخمس ما يغنيكم ؟ » 8 - هذا وقد روى أبو عصمة عن أبي حنيفة أنّه يجوز الدّفع إلى بني هاشم في زمانه . والمشهور عند المالكيّة أنّ محلّ عدم إعطاء بني هاشم من الزّكاة إذا أعطوا ما يستحقّونه من بيت المال ، فإن لم يعطوا ، وأضرّ بهم الفقر أعطوا منها . وإعطاؤهم حينئذ أفضل من إعطاء غيرهم . وقيّده الباجيّ بما إذا وصلوا إلى حالة يباح لهم فيها أكل الميتة ، لا مجرّد ضرر . والظّاهر خلافه وأنّهم يعطون عند الاحتياج ولو لم يصلوا إلى حالة إباحة أكل الميتة ، إذ إعطاؤهم أفضل من خدمتهم لذمّيّ أو ظالم . وقال الشّافعيّة : إنّه لا يحلّ لآل محمّد صلى الله عليه وسلم الزّكاة ، وإن حبس عنهم الخمس ، إذ ليس منعهم منه يحلّ لهم ما حرم عليهم من الصّدقة ، خلافاً لأبي سعيد الإصطخريّ الّذي قال : إن منعوا حقّهم من الخمس جاز الدّفع إليهم ، لأنّهم إنّما حرموا الزّكاة لحقّهم في الخمس ، فإذا منعوا منه وجب أن يدفع إليهم . والظّاهر من إطلاق المنع عند الحنابلة أنّه تحرم على الآل الصّدقة وإن منعوا حقّهم في الخمس .
أخذ الآل من الكفّارات والنّذور وجزاء الصّيد وعشر الأرض وغلّة الوقف
9 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه لا يحلّ لآل محمّد صلى الله عليه وسلم الأخذ من كفّارة اليمين والظّهار والقتل وجزاء الصّيد وعشر الأرض وغلّة الوقف . وهو رواية عند الحنابلة في الكفّارات ، لأنّها أشبهت الزّكاة . وعن أبي يوسف من الحنفيّة أنّه يجوز لهم أخذ غلّة الوقف إذا كان الوقف عليهم ، لأنّ الوقف عليهم حينئذ بمنزلة الوقف على الأغنياء . فإن كان على الفقراء ، ولم يسمّ بني هاشم ، لا يجوز . وصرّح في " الكافي " بدفع صدقة الوقف إليهم على أنّه بيان المذهب من غير نقل خلاف ، فقال : وأمّا التّطوّع والوقف ، فيجوز الصّرف إليهم ، لأنّ المؤدّى في الواجب يطهّر نفسه بإسقاط الفرض ، فيتدنّس المال المؤدّى ، كالماء المستعمل ، وفي النّفل يتبرّع بما ليس عليه ، فلا يتدنّس به المؤدّى . ا هـ . قال صاحب فتح القدير : والحقّ الّذي يقتضيه النّظر إجراء صدقة الوقف مجرى النّافلة ، فإن ثبت في النّافلة جواز الدّفع ، يجب دفع الوقف ، وإلاّ فلا ، إذ لا شكّ في أنّ الواقف متبرّع بتصدّقه بالوقف ، إذ لا إيقاف واجب . وذهب الحنابلة إلى جواز أخذ الآل من الوصايا لأنّها تطوّع ، وكذا النّذور ، لأنّها في الأصل تطوّع ، فأشبه ما لو وصّى لهم . وعلى ذلك يجوز لهم الأخذ منهما . وفي الكفّارة عندهم وجه آخر بالجواز ، لأنّها ليست بزكاة ولا هي أوساخ النّاس ، فأشبهت صدقة التّطوّع .
حكم أخذ الآل من صدقة التّطوّع :
10 - للفقهاء في هذه المسألة ثلاثة اتّجاهات : الأوّل : الجواز مطلقاً ، وهو قول عند الحنفيّة والشّافعيّة ، ورواية عن أحمد ، لأنّها ليست من أوساخ النّاس ، تشبيهاً لها بالوضوء على الوضوء . الثّاني : المنع مطلقاً ، وهو قول عند الحنفيّة والشّافعيّة ، ورواية عن أحمد أيضاً ، وهي الأظهر عند الحنابلة ، لأنّ النّصوص الواردة في النّهي عن أخذ آل البيت من الصّدقة عامّة ، فتشمل المفروضة والنّافلة . الثّالث : الجواز مع الكراهة ، وهو مذهب المالكيّة ، جمعاً بين الأدلّة .
المبحث الثّالث
موالي آل البيت والصّدقات
11 - قال الحنفيّة ، والحنابلة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة وقول عند المالكيّة ، إنّ موالي آل النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهم من أعتقهم هاشميّ أو مطّلبيّ ، حسب الخلاف السّابق ، لا يعطون من الزّكاة ، مستدلّين بما روى أبو رافع « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً من بني مخزوم على الصّدقة ، فقال لأبي رافع : اصحبني كيما تصيب منها . فقال : لا ، حتّى آتي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأسأله ، فانطلق إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسأله ، فقال : إنّا لا تحلّ لنا الصّدقة ، وإنّ مولى القوم منهم » ولأنّهم ممّن يرثهم بنو هاشم بالتّعصيب ، فلم يجز دفع الصّدقة إليهم كبني هاشم وهم بمنزلة القرابة ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : « الولاء لحمة كلحمة النّسب » وثبت لهم حكم القرابة من الإرث والعقل والنّفقة ، فلا يمتنع تحريم الصّدقة عليهم . وإذا حرمت الصّدقة على موالي الآل ، فأرقّاؤهم ومكاتبوهم أولى بالمنع ، لأنّ تمليك الرّقيق يقع لمولاه ، بخلاف العتيق . والمعتمد عند المالكيّة جواز دفع الصّدقة لموالي آل البيت ، لأنّهم ليسوا بقرابة النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يمنعوا الصّدقة ، كسائر النّاس ، ولأنّهم لم يعوّضوا عنها بخمس الخمس ، فإنّهم لا يعطون منه ، فلم يجز أن يحرموها ، كسائر النّاس .
دفع الهاشميّ زكاته لهاشميّ
12 - يرى أبو يوسف من الحنفيّة ، وهو رواية عن الإمام ، أنّه يجوز للهاشميّ أن يدفع زكاته إلى هاشميّ مثله ، قائلين : إنّ قوله عليه الصلاة والسلام : « يا بني هاشم ، إنّ اللّه كره لكم غسالة أيدي النّاس وأوساخهم ، وعوّضكم منها بخمس الخمس » لا ينفيه ، للقطع بأنّ المراد من " النّاس " غيرهم لأنّهم المخاطبون بالخطاب المذكور ، والتّعويض بخمس الخمس عن صدقات النّاس لا يستلزم كونه عوضاً عن صدقات أنفسهم . ولم نهتد إلى حكم ذلك في غير مذهب الحنفيّة .
عمالة الهاشميّ على الصّدقة بأجر منها :
13 - قال الحنفيّة في الأصحّ عندهم والمالكيّة والشّافعيّة وبعض الحنابلة ، وهو ظاهر قول الخرقيّ ، إنّه لا يحلّ للهاشميّ أن يكون عاملاً على الصّدقات بأجر منها ، تنزيهاً لقرابة النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن شبهة الوسخ ، ولما روى عبد المطّلب بن ربيعة بن الحارث « أنّه اجتمع ربيعة والعبّاس بن عبد المطّلب ، فقالا : لو بعثنا هذين الغلامين لي وللفضل بن العبّاس إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأمّرهما على الصّدقة ، فأصابا منها كما يصيب النّاس . فقال عليّ : لا ترسلوهما . فانطلقنا حتّى دخلنا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ عند زينب بنت جحش ، فقلنا : يا رسول اللّه ، قد بلغنا النّكاح وأنت أبرّ النّاس وأوصل النّاس ، وجئناك لتؤمّرنا على هذه الصّدقات ، فنؤدّي إليك كما يؤدّي النّاس ، ونصيب كما يصيبون . قال : فسكت طويلاً ، ثمّ قال : إنّ الصّدقة لا تنبغي لآل محمّد ، إنّما هي أوساخ النّاس » . وفي قول للحنفيّة : إنّ أخذ الهاشميّ العامل على الصّدقات مكروه تحريماً لا حرام . وجوّز الشّافعيّة أن يكون الحمّال والكيّال والوزّان والحافظ هاشميّاً أو مطّلبيّاً . وأكثر الحنابلة على أنّه يباح للآل الأخذ من الزّكاة عمالةً ، لأنّ ما يأخذونه أجر ، فجاز لهم أخذه ، كالحمّال وصاحب المخزن إذا آجرهم مخزنه .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المبحث الرّابع
الغنيمة والفيء وحقّ آل البيت تعريف الغنيمة والفيء
اختلف الفقهاء في تعريف الغنيمة والفيء على أقوال تفصيلها في مصطلح : « أنفال » « وغنيمة » « وفيء » .
حقّ آل البيت في الغنيمة والفيء
14 - لا خلاف بين فقهاء المذاهب الأربعة في أنّ الغنيمة تقسّم خمسة أخماس : أربعة منها للغانمين ، والخامس لمن ذكروا في قوله تعالى : { واعلموا أنّما غنمتم من شيء فأنّ للّه خمسه } الآية . لكنّهم اختلفوا في مصرف الخمس بعد وفاة الرّسول عليه الصلاة والسلام ، فقال الشّافعيّة ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، إنّ خمس الغنيمة الخامس يقسّم خمسة أسهم . الأوّل : سهم لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم للآية ، ولا يسقط بوفاته ، بل يصرف بعده لمصالح المسلمين وعمارة الثّغور والمساجد . والثّاني : سهم لذوي القربى ، وهم بنو هاشم وبنو المطّلب ، دون بني عبد شمس وبني نوفل ، لاقتصاره صلى الله عليه وسلم على بني الأوّلين مع سؤال بني الآخرين ، ولأنّهم لم يفارقوه لا في جاهليّة ولا إسلام . ويشترك فيه الغنيّ والفقير ، والرّجال والنّساء . ويفضّل الذّكر على الأنثى ، كالإرث . وحكى الإمام الشّافعيّ فيه إجماع الصّحابة . والأسهم الثّلاثة الباقية لليتامى والمساكين وابن السّبيل . والرّواية الأخرى عن الإمام أحمد أنّ سهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يختصّ بأهل الدّيوان ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استحقّه بحصول النّصرة ، فيكون لمن يقوم مقامه في النّصرة . وعنه أنّه يصرف في السّلاح والكراع . والفيء عند الشّافعيّة ، وفي رواية عن الإمام أحمد ، يخمّس ، ومصرف الخمس منه كمصرف خمس الغنيمة . والظّاهر عند الحنابلة أنّه لا يخمّس ، ويكون لجميع المسلمين ، يصرف في مصالحهم . وقال الحنفيّة : إنّ الخمس الّذي للّه ولرسوله إلخ يقسّم على ثلاثة أسهم : سهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لأبناء السّبيل . ويدخل فقراء ذوي القربى فيهم ، يعطون كفايتهم ، ولا يدفع إلى أغنيائهم شيء . وذوو القربى الّذين يدفع إلى فقرائهم هم بنو هاشم وبنو المطّلب والفيء لا يخمّس عندهم . وقال المالكيّة : إنّ خمس الغنيمة كلّها والرّكاز والفيء والجزية وخراج الأرض المفتوحة عنوةً أو صلحاً وعشور أهل الذّمّة محلّه بيت مال المسلمين ، يصرفه الإمام في مصارفه ، باجتهاده ، فيبدأ من ذلك بآل النّبيّ عليه الصلاة والسلام استحباباً ، ثمّ يصرف للمصالح العائد نفعها على المسلمين ، كبناء المساجد . والفيء لا يخمّس عندهم . والآل الّذين يبدأ بهم هم بنو هاشم فقط . .
المبحث الخامس
الصّلاة على آل النّبيّ صلى الله عليه وسلم
15 - الفقهاء في المذاهب الأربعة مجمعون على أنّه لا يصلّى على غير الأنبياء والملائكة إلاّ تبعاً ، لكنّهم اختلفوا في حكم الصّلاة على الآل تبعاً . فأحد رأيين عند الشّافعيّة والحنابلة أنّ الصّلاة على الآل في الصّلاة واجبة ، تبعاً للصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مستدلّين بما روي من حديث كعب بن عجرة قال : « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج علينا . فقلنا : يا رسول اللّه ، قد علمنا كيف نسلّم عليك ، فكيف نصلّي عليك ؟ قال : قولوا : اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم » . فقد أمر الرّسول صلى الله عليه وسلم بالصّلاة عليه وعلى آله ، والأمر يقتضي الوجوب . والرّواية الأخرى في المذهبين أنّها سنّة ، وهو قول الحنفيّة ، وأحد قولين للمالكيّة ، واستدلّوا بحديث ابن مسعود « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم علّمه التّشهّد ثمّ قال إذا قلت هذا ، أو قضيت هذا ، فقد تمّت صلاتك » وفي لفظ « فقد قضيت صلاتك فإن شئت أن تقوم فقم » والرّأي الآخر عند المالكيّة أنّ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم والآل تبعاً ، فضيلة .
آل البيت والإمامة الكبرى والصّغرى :
16 - لم يشترط جمهور الفقهاء أن يكون إمام المسلمين ( الخليفة ) من آل بيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم . ويستدلّون على ذلك بأنّ الخلفاء أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا من أهل البيت ، بل كانوا من قريش . ومقتضى مراعاة شرف النّسب أنّه في الإمامة الصّغرى إن استووا هم وغيرهم في الصّفات قدّموا باعتبارهم أشرف نسباً .
( حكم سبّ آل البيت ) :
17 - أجمع فقهاء المذاهب على أنّ من شتم أحداً من آله صلى الله عليه وسلم مثل مشاتمة النّاس فإنّه يضرب ضرباً شديداً وينكّل به ، ولا يصير كافراً بالشّتم .
( الانتساب إلى آل البيت كذباً ) :
18 - من انتسب كاذباً إلى آل النّبيّ صلى الله عليه وسلم يضرب ضرباً وجيعاً ، ويحبس طويلاً حتّى تظهر توبته ، لأنّه استخفاف بحقّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
آلة
التّعريف
1 - الآلة ما اعتملت به من أداة ، يكون واحداً وجمعاً . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ .
أوّلاً : الحكم التّكليفيّ لاستعمال الآلات
2 - الأصل في الآلات والأدوات الّتي يستعملها الإنسان في قضاء مآربه أنّ استعمالها مباح . ويعرض لها الحظر أو الكراهية باعتبارات ، منها : أ - المادّة المصنوعة منها الآلة : فإن كانت من ذهب أو فضّة أو مطليّةً بأحدهما كره أو حرّم استعمالها ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الشّرب في آنية الذّهب والفضّة والأكل في صحافهما . وتفصيل ذلك في مباحث الآنية .
ب - الغرض الّذي تستعمل له كبيع السّلاح في الفتنة ، أو للكفّار ، أو ممّن يستعمله في الحرام ، وكبيع آلات اللّهو .
ج - ما تختصّ به الآلة من أثر قد يكون شديد الإيلام أو شديد الخطورة ، أو يؤدّي إلى محرّم ، فيمنع استعمالها ، أو يكره ، كالسّمّ في الصّيد أو الجهاد ، وكالآلة الكالّة لا تستعمل في استيفاء القصاص أو القطع في حدّ السّرقة ، وكالمزفّت والجرار يمنع بعض الفقهاء استعمالها في الانتباذ لئلاّ يسارع إليها التّخمّر .
د - التّكريم : كمنع بيع آلة العلم الشّرعيّ للكافر . ويفصّل الفقهاء أحكام كلّ آلة بحسب ما تضاف إليه في الاستعمال الفقهيّ ، فآلة الذّبح في مباحث الذّبح ، وآلة القصاص في مباحث الجنايات . وتفصيل بعض ذلك فيما يلي : ( آلات اللّهو واللّعب ) :
3 - آلات اللّهو كالطّبل والمزمار والعود ، وآلات بعض الألعاب كالشّطرنج والنّرد ، محرّمة الاستعمال عند الفقهاء من حيث الجملة . ويباح الطّبل لغير اللّهو كالعرس وطبل الغزاة . وفي هذه الأحكام خلاف وتفاصيل يذكرها الفقهاء في مباحث البيع والإجارة والشّهادة والحدود والحظر والإباحة . آلة الذّبح وآلة الصّيد :
4 - اعتبر الشّرع في آلة الذّبح وآلة الصّيد أن تكون محدّدةً . تنهر الدّم وتفري ، وألاّ تكون سنّاً ولا ظفراً ، فلا يحلّ ما ذبح بهما أو صيد بهما . وفرّق بعض الفقهاء بين السّنّ والظّفر القائمين ، فمنع الذّبح بهما ، بخلاف المنزوعين . ولا يحلّ ما أزهقت نفسه بمثقل كالحجر ونحوه . وينبغي تعاهد الآلة لتكون محدّدةً فتريح الذّبيحة . وإن كان المصيد به حيواناً كالكلب والصّقر ونحوهما اعتبر أن يكون معلّماً . ومعنى التّعليم في الجارحة أن تصير بحيث إذا أرسلت أطاعت ، وإذا زجرت انزجرت ، وقيل بأن تترك الأكل من الصّيد ثلاث مرّات . ويذكر الفقهاء تفصيل ذلك والخلاف فيه في مباحث الصّيد ، ومباحث الذّبح .
( آلات الجهاد ) :
5 - يجب إعداد العدّة للجهاد ، وتجوز مقاتلة العدوّ بالسّلاح المناسب لكلّ عصر ، وفي تحريقهم بالنّار وتغريقهم واستعمال السّموم تفصيل وخلاف يذكره الفقهاء في مباحث الجهاد . ويجوز إتلاف آلات العدوّ في حال القتال ، على تفصيل للفقهاء في مباحث الجهاد . آلات استيفاء القصاص والقطع في السّرقة :
6 - يستوفى القصاص في النّفس عند جمهور العلماء بالصّفة الّتي وقعت بها الجناية . وعند بعض العلماء لا يستوفى القصاص إلاّ بالسّيف . ولا يستوفى القصاص فيما دون النّفس بآلة يخشى منها الزّيادة . وكذلك القطع في السّرقة . ويرجع لمعرفة تفاصيل ذلك إلى مباحث القصاص وحدّ السّرقة . آلات الجلد في الحدود والتّعازير :
7 - الجلد في الحدود يكون بالسّوط . على أنّه يجوز في حدّ الشّرب الضّرب بالأيدي أو النّعال أو أطراف الثّياب . ويستعمل السّوط في إقامة حدّ الزّنا على البكر . وحدّ القذف ، وحدّ شرب الخمر . ويجزي منه استعمال عثكال فيه مائة شمراخ في إقامة حدّ الزّنا على البكر ، إن كان لا يحتمل الجلد لمرض لا يرجى برؤه . ويلاحظ ألاّ يكون السّوط ممّا يتلف ، ولذلك قال بعضهم : لا يكون له ثمرة - يعني : عقدة في طرفه - وقال بعضهم يكون بين الجديد والخلق . أمّا الجلد في التّعزير فقد يكون بالسّوط ، أو بما يقوم مقامه ممّا يراه وليّ الأمر . وفي كثير ممّا ذكرناه هنا تفصيل وخلاف يذكره الفقهاء في مسائل الحدود والتّعزير . ثانياً : آلات العمل وزكاتها :
8 - لا زكاة في آلات العمل للمحترفين ، سواء كان ممّا لا تستهلك عينه كالمنشار والقدوم ، أو ممّا تستهلك ، إلاّ أنّ الآلات الّتي تشترى فتستعمل فيما يباع ، كقوارير العطّارين ، إن كان من غرض المشتري بيعها بها ففيها الزّكاة عند الحول . وآلات العمل للمحترفين ، الّتي هم بحاجة إليها ، لا تباع عليهم في حال الإفلاس . ومن كان منهم فقيراً لا يملك آلات عمله ، ولا ما يشتريها به ، يجوز إعطاؤه من الزّكاة ما يشتريها به ، على تفصيل للفقهاء في مباحث الزّكاة والإفلاس . ثالثاً : آلة العدوان وأثرها في تحديد نوع الجناية :
9 - جناية القتل لا يجب بها القصاص إلاّ إن كانت متعمّدةً ، ولمّا كان تعمّد القتل أمراً خفيّاً ينظر إلى الآلة ، فذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا قصاص في قتل العمد إلاّ إذا كان بمحدّد ، وأمّا ما كان بغيره فليس بعمد ، بل هو شبه عمد إذا تعمّد الضّرب به ولا قصاص فيه . وجمهور العلماء لم يوافقوا أبا حنيفة على ذلك ، بل يثبت العمد عندهم في القتل بما عدا المحدّد ، على تفصيل وخلاف بينهم في الضّوابط المعتبرة في ذلك ، يذكر في مسائل الجنايات والقصاص .
آمّة
التّعريف
1 - الآمّة لغةً : شجّة تبلغ أمّ الرّأس ، وهي جلدة تجمع الدّماغ . وشجّة آمّة ومأمومة بمعنًى واحد . واستعمل الفقهاء اللّفظين بنفس المعنى اللّغويّ .
( الألفاظ ذات الصّلة )
2 - هناك ألفاظ وردت في شجّ الرّأس ، كالموضحة والهاشمة والمنقّلة والدّامغة إلاّ أنّ لكلّ منها حكمها الخاصّ . وتفصيل ذلك عند الفقهاء في القصاص والدّيات .
( الحكم الإجماليّ )
3 - أجمع الفقهاء على أنّ في الآمّة ثلث الدّية .
( مواطن البحث )
4 - يفصّل الفقهاء أحكام الآمّة في مباحث الجناية على ما دون النّفس ، وفي مباحث الدّيات . كما فصّلوا في مباحث الصّوم ، مسألة الفطر بوصول شيء إلى الآمّة .
آمين معناه ، واللّغات الّتي وردت فيه :
1 - جمهور أهل اللّغة على أنّ آمين في الدّعاء يمدّ ويقصر ، وتقول أمّنت على الدّعاء تأميناً ، إذا قلت آمين . ويعبّر غالباً بالتّأمين بدلاً من عبارة قول آمين ، لسهولة اللّفظ . ولم يعتبر التّأمين عنواناً للبحث ، لئلاّ يشتبه بالتّأمين التّجاريّ . ونقل الفقهاء فيه لغات عديدةً ، نكتفي منها بأربع : المدّ ، والقصر ، والمدّ مع الإمالة والتّخفيف ، والمدّ مع التّشديد . والأخيرتان حكاهما الواحديّ ، وزيّف الأخيرة منهما . وقال النّوويّ : إنّها منكرة . وحكى ابن الأنباريّ القصر مع التّشديد . وهي شاذّة أيضاً . وكلّها إلاّ الرّابعة اسم فعل بمعنى استجب . ومعنى آمّين ( بالمدّ مع التّشديد ) قاصدين إليك . قال ابن عبّاس : « سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن معنى آمين ، فقال : افعل » . وقال قتادة : كذلك يكون . وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « آمين خاتم ربّ العالمين على عباده المؤمنين » . وقال عطاء : آمين دعاء . وإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ما حسدكم اليهود على شيء ما حسدوكم على آمين وتسليم بعضكم على بعض » . قال ابن العربيّ : هذه الكلمة لم تكن لمن قبلنا ، خصّنا اللّه تعالى بها . حقيقة التّأمين :
2 - التّأمين دعاء ، لأنّ المؤمن يطلب من اللّه أن يستجيب الدّعاء . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
3 - الأصل في قول آمين أنّه سنّة ، لكنّه قد يخرج عن النّدب إلى غيره ، كالتّأمين على دعاء محرّم ، فإنّه يكون حراماً . نفي القرآنيّة عن " آمين » :
4 - لا خلاف في أنّ " آمين " ليست من القرآن ، لكنّها مأثورة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وقد واظب عليها ، وأمر بها في الصّلاة وخارجها ، كما يعرف من الأحاديث الّتي سترد في خلال البحث . مواطن التّأمين :
5 - التّأمين دعاء غير مستقلّ بنفسه بل مرتبط بغيره من الأدعية ، لذلك يحسن بيان المواضع الّتي يؤمّن على الدّعاء فيها ، فمن أهمّها : أ - التّأمين في الصّلاة : التّأمين عقب قراءة الفاتحة ، وعلى الدّعاء في قنوت الصّبح ، والوتر ، والنّازلة .
ب - والتّأمين خارج الصّلاة : عقب قراءة الفاتحة ، والتّأمين على الدّعاء في الخطبة ، وفي الاستسقاء . أوّلاً : التّأمين في الصّلاة التّأمين عقب الفاتحة :
5 م - التّأمين للمنفرد سنّة ، سواء أكانت الصّلاة سرّيّةً أم جهريّةً . ومثله الإمام والمأموم في السّرّيّة ، والمقتدي في صلاة الجهر . أمّا الإمام في الصّلاة الجهريّة فللعلماء فيه ثلاثة آراء : أوّلاً - ندب التّأمين ، وهو قول الشّافعيّة ، والحنابلة ، والحنفيّة ، عدا رواية الحسن عن أبي حنيفة وهو رواية المدنيّين من المالكيّة الحديث : « إذا أمّن الإمام فأمّنوا ، فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه » . ثانياً - عدم النّدب ، وهو رواية المصريّين من المالكيّة ، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة . ودليل عدم استحسانه من الإمام ما روى مالك عن سميّ عن أبي صالح عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قال الإمام : غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين فقولوا آمين فإنّه من وافق قوله قول الملائكة غفر له » . وهذا دليل على أنّه لا يقوله ، لأنّه صلى الله عليه وسلم قسم ذلك بينه وبين القوم ، والقسمة تنافي الشّركة . ثالثاً - وجوب التّأمين ، وهو رواية عن أحمد ، قال في رواية إسحاق بن إبراهيم : آمين أمر من النّبيّ صلى الله عليه وسلم . ارتباط التّأمين بالسّماع :
6 - اتّفقت المذاهب الأربعة على أنّه يسنّ التّأمين عند سماع قراءة الإمام ، أمّا إن سمع المأموم التّأمين من مقتد آخر فللفقهاء في ذلك رأيان : الأوّل : ندب التّأمين وإليه ذهب الحنفيّة وهو قول للمالكيّة وقول مضعّف للشّافعيّة . الثّاني : لا يطلب التّأمين ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة والقول الآخر للمالكيّة ولم نقف على نصّ للحنابلة في هذا .
( تحرّي الاستماع ) :
7 - لا يتحرّى المقتدي على الأظهر الاستماع للإمام عند المالكيّة ، ومقابله يتحرّى ، وهو قول الشّافعيّة .
الإسرار بالتّأمين والجهر به :
8 - لا خلاف بين المذاهب الأربعة في أنّ الصّلاة إن كانت سرّيّةً فالإسرار بالتّأمين سنّة في حقّ الإمام والمأموم والمنفرد . وأمّا إن كانت جهريّةً فقد اختلفوا في الإسرار به وعدمه على ثلاثة مذاهب : الأوّل . ندب الإسرار ، وإليه ذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة ، إلاّ أنّ المالكيّة استحبّوه بالنّسبة للمأموم والمنفرد فقط ، والحنفيّة ومعهم ابن الحاجب وابن عرفة من المالكيّة استحبّوه للجميع ، لأنّه دعاء والأصل فيه الإخفاء . لقوله سبحانه : { ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً } ولقول ابن مسعود رضي الله عنه : أربع يخفيهنّ الإمام ، وذكر منها آمين . ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة تخصيص الإسرار بالمأموم فقط إن أمّن الإمام ، كسائر الأذكار ، وقيل يسرّ في هذه الحالة إن قلّ الجمع . الثّاني : ندب الجهر . وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة ، إلاّ أنّ الحنابلة عمّوا النّدب في كلّ مصلّ . ووافقهم الشّافعيّة اتّفاقاً بالنّسبة للإمام والمنفرد . وأمّا في المأموم فقد وافقوهم أيضاً بشرط عدم تأمين الإمام . فإن أمّن فالأظهر ندب الجهر كذلك . وقيل إنّما يجهر في حالة تأمين الإمام بشرط كثرة الجمع . فإن لم يكثر فلا يندب الجهر . واستدلّ القائلون بندب الجهر بأنّه صلى الله عليه وسلم قال " آمين " ورفع بها صوته . الثّالث : التّخيير بين الجهر والإسرار ، وبه قال ابن بكير وابن العربيّ من المالكيّة ، غير أنّ ابن بكير خصّه بالإمام فقط ، وخيّر ابن العربيّ الجميع ، وصحّح في كتابه " أحكام القرآن " الجهر . ولو أسرّ به الإمام جهر به المأموم عند الشّافعيّة والحنابلة ، لأنّ جهر المأموم بالتّأمين سنّة ، فلا يسقط بترك الإمام له ، ولأنّه ربّما نسيه الإمام ، فيجهر به المأموم ليذكّره .
( المقارنة والتّبعيّة في التّأمين ) :
9 - مذهب الشّافعيّة ، والأصحّ عند الحنابلة أنّ مقارنة تأمين الإمام لتأمين المأموم سنّة ، لخبر « إذا أمّن الإمام فأمّنوا فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه » وخبر « إذا قال أحدكم : آمين ، وقالت الملائكة في السّماء : آمين ، فوافقت إحداهما الأخرى ، غفر له ما تقدّم من ذنبه » رواه الشّيخان . ومقابل الأصحّ عند الحنابلة أنّ المقتدي يؤمّن بعد تأمين الإمام . ولم أقف على نصّ صريح في ذلك للحنفيّة والمالكيّة ، لكنّهم ذكروا ما يفيد مقارنة التّأمين لتأمين الملائكة ، مستدلّين بحديث أبي هريرة السّابق « إذا قال أحدكم : آمين ، وقالت الملائكة في السّماء : آمين . . . » إلخ . وبحديث أبي هريرة أيضاً « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : إذا قال الإمام : غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين فقولوا : آمين ، فإنّه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه » . فإن فاتته مقارنة تأمينه لتأمين إمامه أتى به عقبه ، فإن لم يعلم المأموم بتأمين إمامه ، أو أخّره عن وقته المندوب أمّن . نصّ على ذلك الشّافعيّة ، كما نصّوا على أنّه لو قرأ معه وفرغا معاً كفى تأمين واحد ، أو فرغ قبله ، قال البغويّ : ينتظره ، والمختار أو الصّواب أنّه يؤمّن لنفسه ، ثمّ يؤمّن للمتابعة .
الفصل بين « آمين » وبين { ولا الضّالّين }
10 - الشّافعيّة والحنابلة على ندب السّكوت لحظةً لطيفةً بين { ولا الضّالّين } وبين « آمين » ليعلم أنّها ليست من القرآن ، وعلى ألاّ يتخلّل في هذه اللّحظة لفظ . نعم ، يستثني الشّافعيّة " ربّ اغفر لي " قالوا : وينبغي أنّه لو زاد على ذلك « ولوالديّ ولجميع المسلمين » لم يضرّ أيضاً . ولم أر من الحنفيّة والمالكيّة من تعرّض لهذه النّقطة ، فيما وقفت عليه . تكرار آمين والزّيادة بعدها :
11 - يحسن عند الشّافعيّة قول : « آمين ربّ العالمين » ، وغير ذلك من الذّكر . ولا يستحبّ عند أحمد ، لكن لا تبطل صلاته ، ولا يسجد للسّهو عنها . ولم نجد لغير الشّافعيّة والحنابلة نصّاً في التّكرار . وذكر الكرديّ عن ابن حجر أنّه يندب تكرار " آمين " في الصّلاة ، مستدلّاً بما رواه وائل بن حجر أنّه قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دخل الصّلاة ، فلمّا فرغ من فاتحة الكتاب ، قال : آمين ، ثلاثاً » ويؤخذ منه تكرار " آمين " ثلاثاً ، حتّى في الصّلاة .
( ترك التّأمين )
12 - المذاهب الأربعة على أنّ المصلّي لو ترك " آمين " واشتغل بغيرها لا تفسد صلاته ، ولا سهو عليه ، لأنّه سنّة فات محلّها . عدم انقطاع القراءة بالتّأمين على قراءة الإمام :
13 - إذا فرغ الإمام من قراءة الفاتحة أثناء قراءة المأموم ، قال المأموم " آمين " ثمّ يتمّ قراءته ، نصّ على ذلك الشّافعيّة والحنابلة . ولا قراءة عند الحنفيّة والمالكيّة بالنّسبة للمأموم .
التّأمين عقب الفاتحة خارج الصّلاة
14 - التّأمين عقب قراءة الفاتحة سنّة عند المذاهب الأربعة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لقّنني جبريل عليه السلام ، عند فراغي من الفاتحة : آمين » .
التّأمين على القنوت
15 - القنوت قد يكون في النّازلة وقد يكون في غيرها . وللفقهاء في التّأمين على قنوت غير النّازلة ثلاثة اتّجاهات : الأوّل : التّأمين جهراً ، إن سمع الإمام ، وإلاّ قنت لنفسه . وهو قول الشّافعيّة والصّحيح عند الحنابلة ، وهو قول محمّد بن الحسن في القنوت وفي الدّعاء بعده . ومنه الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما نصّ الشّافعيّة . وهو المتبادر لغيرهم لدخوله في الشّمول . الثّاني : ترك التّأمين . وإليه ذهب المالكيّة ، وهو الأصحّ عند الحنفيّة ، وروايةً عن أحمد ، وقول ضعيف عند الشّافعيّة . الثّالث : التّخيير بين التّأمين وتركه . وهو قول أبي يوسف ، وقول ضعيف للشّافعيّة . ولا فرق بين قنوت النّازلة وقنوت غيرها ، عند الشّافعيّة والحنابلة . ولا تأمين في النّازلة عند الحنفيّة لإسرارهم بالقنوت فيها . فإن جهر الإمام أمّن المأموم . قال ابن عابدين : والّذي يظهر لي أنّ المقتدي يتابع إمامه إلاّ إذا جهر فيؤمّن . ولا قنوت في النّازلة عند المالكيّة على المشهور . ولو اقتدى المأموم بمن يقنت في صلاة الصّبح أجاز له الحنابلة التّأمين . ومعهم في ذلك ابن فرحون من المالكيّة . ويسكت من صلّى وراء من يقنت في الفجر عند الحنفيّة . ويراعي المأموم المقتدي بمن لا يقنت حال نفسه عند الشّافعيّة بشرط عدم الإخلال بالمتابعة .
ثانياً : التّأمين خارج الصّلاة
( التّأمين على دعاء الخطيب )
16 - يسنّ التّأمين على دعاء الخطيب عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، إلاّ أنّه يكون عند المالكيّة والحنابلة سرّاً ، وبلا رفع صوت عند الشّافعيّة . ولا تأمين باللّسان جهراً عند الحنفيّة بل يؤمّن في نفسه . ونصّ المالكيّة على تحريم ما يقع على دكّة المبلّغين بعد قول الإمام : « ادعوا اللّه وأنتم موقنون بالإجابة » من رفع أصوات جماعة بقولهم : « آمين . آمين . آمين » واعتبروه بدعةً محرّمةً . التّأمين على دعاء الاستسقاء :
17 - استحبّ الشّافعيّة والحنابلة ، وهو قول للمالكيّة ، التّأمين على دعاء الاستسقاء عند جهر الإمام به . ولا يخالف الحنفيّة في ذلك . والقول الآخر للمالكيّة أن يدعو الإمام والمأمومون . وقيل بعد دعائهم معاً يستقبلهم الإمام ، فيدعو ويؤمّنون . التّأمين على الدّعاء دبر الصّلاة .
18 - لم أجد من يقول بالتّأمين على دعاء الإمام بعد الصّلاة إلاّ بعض المالكيّة . وممّن قال بجوازه ابن عرفة ، وأنكر الخلاف في كراهيته . وفي جواب الفقيه العلاّمة أبي مهديّ الغبرينيّ ما نصّه " ونقرّر أوّلاً أنّه لم يرد في الملّة نهي عن الدّعاء دبر الصّلاة ، على ما جرت به العادة اليوم من الاجتماع ، بل جاء التّرغيب فيه على الجملة » . فذكر أدلّةً كثيرةً ثمّ قال " فتحصل بعد ذلك كلّه من المجموع أنّ عمل الأئمّة منذ الأزمنة المتقادمة مستمرّ في مساجد الجماعات ، وهو مساجد الجوامع ، وفي مساجد القبائل ، وهي مساجد الأرباض والرّوابط ، على الجهر بالدّعاء بعد الفراغ من الصّلوات ، على الهيئة المتعارفة الآن ، من تشريك الحاضرين ، وتأمين السّامعين ، وبسط الأيدي ، ومدّها عند السّؤال ، والتّضرّع والابتهال من غير منازع » . وكرهه مالك وجماعة غيره من المالكيّة ، لما يقع في نفس الإمام من التّعاظم . وبقيّة القائلين بالدّعاء عقب الصّلاة يسرّون به ندباً ، على تفصيل . ( ر : دعاء ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
آنية أوّلاً
التّعريف
1 - الآنية جمع إناء ، والإناء الوعاء ، وهو كلّ ظرف يمكن أن يستوعب غيره . وجمع الآنية أوان . ويقاربه الظّرف ، والماعون . ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن الاستعمال اللّغويّ . ثانياً : أحكام الآنية من حيث استعمالها :
أ - بالنّظر إلى ذاتها ( مادّتها ) :
2 - الآنية بالنّظر إلى ذاتها أنواع : آنية الذّهب . والفضّة - الآنية المفضّضة - الآنية المموّهة - الآنية النّفيسة لمادّتها أو صنعتها - آنية الجلد - آنية العظم - آنية من غير ما سبق .
( النّوع الأوّل : آنية الذّهب والفضّة ) :
3 - هذا النّوع محظور لذاته ، فإنّ استعمال الذّهب والفضّة حرام في مذاهب الأئمّة الأربعة ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا تشربوا في آنية الذّهب والفضّة ، ولا تأكلوا في صحافهما ، فإنّها لهم في الدّنيا ولكم في الآخرة » . ونهى صلى الله عليه وسلم عن الشّرب في آنية الفضّة ، فقال : « من شرب فيها في الدّنيا لم يشرب فيها في الآخرة » . والنّهي يقتضي التّحريم . والعلّة في تحريم الشّرب فيها ما يتضمّنه ذلك من الفخر وكسر قلوب الفقراء . والنّهي وإن كان عن الأكل والشّرب ، فإنّ العلّة موجودة في الطّهارة منها واستعمالها كيفما كان . وإذا حرم الاستعمال في غير العبادة ففيها أولى ، وفي المذهب القديم للشّافعيّ أنّه مكروه تنزيهاً . فإن توضّأ منها ، أو اغتسل ، صحّت طهارته عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وأكثر الحنابلة ، لأنّ فعل الطّهارة وماءها لا يتعلّق بشيء من ذلك ، كالطّهارة في الأرض المغصوبة . وذهب بعض الحنابلة إلى عدم صحّة الطّهارة ، لأنّه استعمل المحرّم في العبادة ، فلم يصحّ كالصّلاة في الدّار المغصوبة . والتّحريم عامّ للرّجال والنّساء .
النّوع الثّاني : الآنية المفضّضة والمضبّبة بالفضّة :
4 - فقهاء المذاهب يختلفون في حكم استعمال الآنية المفضّضة والمضبّبة بالفضّة : فعند الإمام أبي حنيفة ، وهو رواية عن الإمام محمّد ، ورواية عن الشّافعيّ ، وقول بعض الحنابلة ، أنّه يجوز استعمال الآنية المفضّضة والمضبّبة إذا كان المستعمل يتّقي موضع الفضّة . وعند أكثر الحنابلة أنّه يجوز الاستعمال إذا كانت الفضّة قليلةً . وعند المالكيّة في المفضّضة روايتان : إحداهما المنع ، والأخرى الجواز ، واستظهر بعضهم الجواز . وأمّا الآنية المضبّبة فلا يجوز عندهم شدّها بالذّهب أو الفضّة . والصّحيح عند الشّافعيّة أنّه لا يجوز استعمال المضبّب بالذّهب ، كثرت الضّبّة أو قلّت ، لحاجة أو غيرها . وذهب بعضهم إلى أنّ المضبّب بالذّهب كالمضبّب بالفضّة ، فإن كانت كبيرةً ، ولغير زينة ، جازت ، وإن كانت للزّينة حرمت وإن كانت قليلةً . والمرجع في الكبر والصّغر العرف . وعند الحنابلة أنّ المضبّب بالذّهب والفضّة إن كان كثيراً فهو محرّم بكلّ حال ، ذهباً كان أو فضّةً ، لحاجة ولغيرها . وقال أبو بكر يباح اليسير من الذّهب والفضّة . وأكثر الحنابلة على أنّه لا يباح من الذّهب إلاّ ما دعت إليه الضّرورة . وأمّا الفضّة فيباح منها اليسير . قال القاضي ويباح ذلك مع الحاجة وعدمها . وقال أبو الخطّاب لا يباح اليسير إلاّ لحاجة . وتكره عندهم مباشرة موضع الفضّة بالاستعمال ، كي لا يكون مستعملاً لها . وذهب أبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّه يكره استعمال الإناء المضبّب والمفضّض ، وهي الرّواية الأخرى عن محمّد . وحجّة الإمام أبي حنيفة ومن وافقه أنّ كلّاً من الذّهب والفضّة تابع ، ولا معتبر بالتّوابع ، كالجبّة المكفوفة بالحرير ، والعلم في الثّوب ، ومسمار الذّهب في الفصّ . وحجّة من جوّز قليل الفضّة للحاجة « أنّ قدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم انكسر ، فاتّخذ مكان الشّعب سلسلةً من فضّة » ، وأنّ الحاجة تدعو إليه ، وليس فيه سرف ولا خيلاء ، فأشبه الضّبّة من الصّفر ( النّحّاس ) . وممّن رخّص في ضبّة الفضّة من السّلف عمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير وطاوس وأبو ثور وابن المنذر وإسحاق بن راهويه ، وغيرهم . النّوع الثّالث : الآنية المموّهة والمغشّاة بالذّهب أو الفضّة :
5 - مذهب الحنفيّة ، وهو أحد قولين عند المالكيّة ، أنّ الآنية المموّهة بالذّهب أو الفضّة جائز استعمالها ، لكنّ الحنفيّة قيّدوا ذلك بما إذا كان التّمويه لا يمكن تخليصه . قال الكاسانيّ : « وأمّا الأواني المموّهة بماء الذّهب والفضّة ، الّذي لا يخلص منه شيء ، فلا بأس بالانتفاع بها ، والأكل والشّرب وغير ذلك بالإجماع » . وأمّا ما يمكن تخليصه فعلى الخلاف السّابق بين الإمام وصاحبيه في مسألة المفضّض والمضبّب . وعند الشّافعيّة يجوز الاستعمال إذا كان التّمويه يسيراً . وعند الحنابلة أنّ المموّه والمطليّ والمطعّم والمكفّت كالذّهب والفضّة الخالصين . أمّا آنية الذّهب والفضّة إذا غشيت بغير الذّهب والفضّة ففيها عند المالكيّة قولان . وأجازها الشّافعيّة إذا كان ساتراً للذّهب والفضّة ، لفقدان علّة الخيلاء . النّوع الرّابع : الآنية النّفيسة من غير الذّهب والفضّة :
6 - الآنية النّفيسة من غير الذّهب والفضّة نفاستها إمّا لذاتها ( أي مادّتها ) ، وإمّا لصنعتها : أ - النّفيسة لذاتها :
7 - المنصوص عليه عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو الأصحّ في مذهب المالكيّة والشّافعيّة ، أنّه يجوز استعمال الأواني النّفيسة ، كالعقيق والياقوت والزّبرجد ، إذ لا يلزم من نفاسة هذه الأشياء وأمثالها حرمة استعمالها ، لأنّ الأصل الحلّ فيبقى عليه . ولا يصحّ قياسها على الذّهب والفضّة لأنّ تعلّق التّحريم بالأثمان ( الذّهب والفضّة ) ، الّتي هي واقعة في مظنّة الكثرة فلم يتجاوزه . وقال بعض المالكيّة : إنّه لا يجوز استعمال الأواني النّفيسة ، لكنّ ذلك ضعيف جدّاً . وهو قول عند الشّافعيّة .
ب - الآنية النّفيسة لصنعتها :
8 - النّفيس بسبب الصّنعة ، كالزّجاج المخروط وغيره لا يحرم بلا خلاف . وذلك ما قاله صاحب المجموع ، ولكن نقل الأذرعيّ أنّ صاحب البيان في زوائده حكى الخلاف أيضاً فيما كانت نفاسته بسبب الصّنعة ، وقال : إنّ الجواز هو الصّحيح . النّوع الخامس : الآنية المتّخذة من الجلد :
9 - قال فقهاء المذاهب الأربعة : إنّ جلد كلّ ميتة نجس قبل الدّبغ ، وأمّا بعد الدّبغ فالمشهور عند المالكيّة والحنابلة أنّه نجس أيضاً . وقالوا إنّ ما ورد من نحو قوله صلى الله عليه وسلم : « أيّما إهاب دبغ فقد طهر » محمول على الطّهارة اللّغويّة ( أي النّظافة ) لا الشّرعيّة . ومؤدّى ذلك أنّه لا يصلّى به أو عليه . وغير المشهور في المذهبين أنّه يطهر الجلد بالدّباغة الطّهارة الشّرعيّة ، فيصلّى به وعليه . ويروى القول بالنّجاسة عن عمر وابنه عبد اللّه وعمران بن حصين وعائشة ، رضي الله عنهم . وعن الإمام أحمد رواية أخرى ، أنّه يطهر من جلود الميتة جلد ما كان طاهراً في حال الحياة . وروي نحو هذا عن عطاء والحسن والشّعبيّ والنّخعيّ وقتادة ويحيى الأنصاريّ وسعيد بن جبير ، وغيرهم . وعند الشّافعيّة أنّه إذا ذبح حيوان يؤكل لم ينجس بالذّبح شيء من أجزائه ، ويجوز الانتفاع بجلده . وإن ذبح حيوان لا يؤكل نجس بذبحه ، كما ينجس بموته ، فلا يطهر جلده ولا شيء من أجزائه . وكلّ حيوان نجس بالموت طهر جلده بالدّباغ ، عدا الكلب والخنزير ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « أيّما إهاب دبغ فقد طهر » ولأنّ الدّباغ يحفظ الصّحّة على الجلد ، ويصلحه للانتفاع به ، كالحياة . ثمّ الحياة تدفع النّجاسة عن الجلد فكذلك الدّباغ . أمّا الكلب والخنزير وما تولّد منهما فلا يطهر جلدهما بالدّباغ . وعند الحنفيّة أنّ جلد الميتة ، عدا الخنزير والآدميّ ولو كافراً ، يطهر بالدّباغة الحقيقيّة كالقرظ وقشور الرّمّان والشّبّ ، كما يطهر بالدّباغة الحكميّة ، كالتّتريب والتّشميس والإلقاء في الهواء . فتجوز الصّلاة فيه وعليه ، والوضوء منه . وعدم طهارة جلد الخنزير بالدّباغة لنجاسة عينه ، وجلد الآدميّ لحرمته ، صوناً لكرامته ، وإن حكم بطهارته من حيث الجملة لا يجوز استعماله كسائر أجزاء الآدميّ .
النّوع السّادس : الأواني المتّخذة من العظم :
10 - الآنية المتّخذة من عظم حيوان مأكول اللّحم مذكًّى يحلّ استعمالها إجماعاً . وأمّا الآنية المتّخذة من حيوان غير مأكول اللّحم ، فإن كان مذكًّى فالحنفيّة يرون أنّها طاهرة ، لقولهم بطهارة القرن والظّفر والعظم ، مستدلّين بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كان يمتشط بمشط من عاج » ، وهو عظم الفيل ، فلو لم يكن طاهراً لما امتشط به الرّسول صلى الله عليه وسلم . وهذا يدلّ على جواز اتّخاذ الآنية من عظم الفيل . وهو أحد رأيين عند الشّافعيّة ، ورأي ابن تيميّة . وحجّة أصحاب هذا الرّأي أنّ العظم والسّنّ والقرن والظّلف كالشّعر والصّوف ، لا يحسّ ولا يألم ، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّما حرم من الميتة أكلها » . وذلك حصر لما يحرم من الميتة فيبقى ما عداها على الحلّ . والرّأي الآخر للشّافعيّة أنّه نجس ، وهو المذهب .
11 - وأمّا إن كان العظم من حيوان غير مذكًّى ( سواء كان مأكول اللّحم أو غير مأكوله ) فالحنفيّة ومن معهم على طريقتهم في طهارته ، ما لم يكن عليه دسم ، فلا يطهر إلاّ بإزالته . وقال الشّافعيّة وأكثر المالكيّة والحنابلة : العظم هنا نجس ، ولا يطهر بحال . هذا وقد أجمع الفقهاء على حرمة استعمال عظم الخنزير ، لنجاسة عينه ، وعظم الآدميّ - ولو كافراً - لكرامته .
12 - وألحق محمّد بن الحسن الفيل بالخنزير لنجاسة عينه عنده . وألحق الشّافعيّة الكلب بالخنزير . وكره عطاء وطاوس والحسن وعمر بن عبد العزيز عظام الفيلة . ورخّص في الانتفاع بها محمّد بن سيرين وغيره وابن جرير ، لما روى أبو داود بإسناده عن ثوبان « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اشترى لفاطمة قلادةً من عصب وسوارين من عاج » . واستدلّ القائلون بالنّجاسة بقوله تعالى { حرّمت عليكم الميتة } والعظم من جملتها ، فيكون محرّماً ، والفيل لا يؤكل لحمه فهو نجس ذكّي أو لم يذكّ . وقال بعض المالكيّة : إنّ استعمال عظم الفيل مكروه . وهو ضعيف . وفي قول للإمام مالك : إنّ الفيل إن ذكّي فعظمه طاهر ، وإلاّ فهو نجس . النّوع السّابع : الأواني من غير ما سبق :
13 - الأواني من غير ما تقدّم ذكره مباح استعمالها ، سواء أكانت ثمينةً كبعض أنواع الخشب والخزف ، وكالياقوت والعقيق والصّفر ، أم غير ثمينة كالأواني العادية ، إلاّ أنّ بعض الآنية لها حكم خاصّ من حيث الانتباذ فيها ، فقد نهى الرّسول عليه الصلاة والسلام أوّلاً عن الانتباذ في الدّبّاء والحنتم والنّقير والمزفّت ثمّ نسخ بقوله صلى الله عليه وسلم : « كنت نهيتكم عن الأشربة إلاّ في ظروف الأدم ، فاشربوا في كلّ وعاء غير ألاّ تشربوا مسكراً » . وجمهور أهل العلم على جواز استعمال هذه الآنية على أن يحذر من تخمّر ما فيها نظراً إلى أنّها بطبيعتها يسرع التّخمّر إلى ما ينبذ فيها . وفي رواية عن الإمام أحمد أنّه كره الانتباذ في الآنية المذكورة . ونقل الشّوكانيّ عن الخطّابيّ أنّ النّهي عن الانتباذ في هذه الأوعية لم ينسخ عند بعض الصّحابة والفقهاء ومنهم ابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم ، ومالك وأحمد وإسحاق .
ب - آنية غير المسلمين :
14 - ( آنية أهل الكتاب ) : ذهب الحنفيّة والمالكيّة وهو أحد القولين عند الحنابلة إلى جواز استعمال آنية أهل الكتاب ، إلاّ إذا تيقّن عدم طهارتها . فقد نصّ الحنفيّة على أنّ " سؤر الآدميّ وما يؤكل لحمه طاهر ، لأنّ المختلط به اللّعاب ، وقد تولّد من لحم طاهر فيكون طاهراً . ويدخل في هذا الجواب الجنب والحائض والكافر » . وما دام سؤره طاهراً فاستعمال آنيته جائز من باب أولى . واستدلّوا بما روي « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف في المسجد » وكانوا مشركين ، ولو كان عين المشرك نجساً لما فعل ذلك . ولا يعارض بقوله تعالى { إنّما المشركون نجس } لأنّ المراد به النّجس في الاعتقاد ، ومن باب أولى أهل الكتاب وآنيتهم . وذلك لقوله تعالى { وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلّ لكم وطعامكم حلّ لهم } وروى عبد اللّه بن مغفّل ، قال : « دلّي جراب من شحم يوم خيبر ، فالتزمته وقلت : واللّه لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً . فالتفتّ فإذا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يبتسم » . وروى أنس « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أضافه يهوديّ بخبز شعير وإهالة سنخة » . وتوضّأ عمر من جرّة نصرانيّة . وصرّح القرافيّ من المالكيّة في الفروق بأنّ جميع ما يصنعه أهل الكتاب والمسلمون الّذين لا يصلّون ولا يستنجون ولا يتحرّزون من النّجاسات ، من الأطعمة وغيرها ، محمول على الطّهارة ، وإن كان الغالب عليه النّجاسة . ومذهب الشّافعيّة ، وهو رواية أخرى للحنابلة ، أنّه يكره استعمال أواني أهل الكتاب ، إلاّ أن يتيقّن طهارتها ، فلا كراهة ، وسواء المتديّن باستعمال النّجاسة وغيره . ودليلهم ما روى « أبو ثعلبة الخشنيّ رضي الله عنه قال قلت : يا رسول اللّه ، إنّا بأرض أهل كتاب ، أنأكل في آنيتهم ؟ فقال : لا تأكلوا في آنيتهم إلاّ إن لم تجدوا عنها بدّاً ، فاغسلوها بالماء ، ثمّ كلوا فيها » . وأقلّ أحوال النّهي الكراهة ، ولأنّهم لا يجتنبون النّجاسة ، فكره لذلك . على أنّ الشّافعيّة يرون أنّ أوانيهم المستعملة في الماء أخفّ كراهةً .
15 - آنية المشركين : يستفاد من أقوال الفقهاء الّتي تقدّم بيانها أنّ أواني غير أهل الكتاب كأواني أهل الكتاب في حكم استعمالها عند الأئمّة أبي حنيفة ومالك والشّافعيّ وبعض الحنابلة . وبعض الحنابلة يرون أنّ ما استعمله الكفّار من غير أهل الكتاب من الأواني لا يجوز استعمالها لأنّ أوانيهم لا تخلو من أطعمتهم . وذبائحهم ميتة ، فتكون نجسةً .
ثالثاً : حكم اقتناء آنية الذّهب والفضّة :
16 - فقهاء المذاهب مختلفون في حكم اقتناء آنية الذّهب والفضّة : فمذهب الحنفيّة ، وهو قول عند المالكيّة ، والصّحيح عند الشّافعيّة ، أنّه يجوز اقتناء آنية الذّهب والفضّة ، لجواز بيعها ، ولاعتبار شقّها بعد بيعها عيباً . ومذهب الحنابلة ، وهو القول الآخر للمالكيّة ، والأصحّ عند الشّافعيّة ، حرمة اتّخاذ آنية الذّهب والفضّة ، لأنّ ما حرم استعماله مطلقاً حرم اتّخاذه على هيئة الاستعمال .
رابعاً : حكم إتلاف آنية الذّهب والفضّة :
17 - من يرى جواز اقتناء أواني الذّهب والفضّة يرى أنّ إتلافها موجب للضّمان . أمّا على القول بعدم الجواز فإنّ إتلافها لا يوجب ضمان الصّنعة إن كان يقابلها شيء من القيمة . والكلّ مجمع على ضمان ما يتلفه من العين .
خامساً : زكاة آنية الذّهب والفضّة :
18 - آنية الذّهب والفضّة إذا بلغ كلّ منهما النّصاب وحال الحول عليه وجبت فيه الزّكاة ، وتفصيل ذلك موطنه أبواب الزّكاة .
آيسة
انظر : إياس .
آية
التّعريف
1 - الآية لغةً : العلامة والعبرة ، وشرعاً هي جزء من سورة من القرآن تبيّن أوّله وآخره توقيفاً . والفرق بين الآية والسّورة أنّ السّورة لا بدّ أن يكون لها اسم خاصّ بها ، ولا تقلّ عن ثلاث آيات . وأمّا الآية فقد يكون لها اسم كآية الكرسيّ ، وقد لا يكون ، وهو الأكثر . وقد استعمل الفقهاء الآية بالمعنى اللّغويّ أيضاً ، حين أطلقوا على الحوادث الكونيّة ، كالزّلازل والرّياح والكسوف والخسوف ، إلخ ، اسم الآيات .
( الحكم الإجماليّ )
2 - بما أنّ الآية جزء من القرآن الكريم فإنّ أحكامها تدور في الجملة على أنّه هل تجري عليها أحكام المصحف أو لا ؟ وذلك كما لو كتبت آية من القرآن على لوح فهل يجوز للمحدث مسّه ؟ من الفقهاء من منعه اعتباراً بما فيه من قرآن ، ومنهم من أجازه لعدم شبهه بالمصحف . كما اختلف الفقهاء في إجزاء قراءة الآية الواحدة في الصّلاة ، على تفصيل لهم في ذلك .
( مواطن البحث )
3 - الطّهارة : يتعرّض الفقهاء لحكم مسّ المحدث للوح كتبت عليه آية أو آيات ، في كتاب الطّهارة - ما يحرم بالحدث . الصّلاة : تعرّض الفقهاء لحكم قراءة الآية القرآنيّة أو الآيات في الصّلاة ، في صفة الصّلاة ، وعند الكلام على مستحبّات الصّلاة . وذكروا كذلك ما يتّصل بتلاوة الآية من أحكام ، كالتّنكيس للآي ، وعدّها بالأصابع ، والسّؤال والتّسبيح والتّعوّذ عند آية الرّحمة أو آية العذاب ، وتكرار الآية الواحدة ، وقراءة الآيات من أثناء سورة . كما ذكروا حكم قراءة خطيب الجمعة والعيدين والكسوف والاستسقاء للآية في الخطبة في صلاة الجمعة ، وفي صلاة العيدين ، وصلاة الكسوف ، وصلاة الاستسقاء . كما ذكر بعض الفقهاء حكم الصّلاة عند حدوث الآيات الكونيّة في صلاة الكسوف . سجدة التّلاوة : يذكر تفصيل أحكام تلاوة آية السّجدة في مبحث سجدة التّلاوة . حكم الآية في مواضع متفرّقة : حكم الاستعاذة والبسملة قبل تلاوة الآية فصّله الفقهاء في مبحث الاستعاذة من صفة الصّلاة . وتتعرّض كتب الأذكار والآداب لتلاوة آيات معيّنة من القرآن الكريم في حالات خاصّة ، كقراءة آية الكرسيّ قبل النّوم ، وبعد الصّلاة إلخ .
أب
التّعريف
1 - الأب : الوالد ، وهو إنسان تولّد من نطفته إنسان آخر . وله جموع ، أفصحها : آباء ، بالمدّ . وفي الاصطلاح : هو رجل تولّد من نطفته المباشرة على وجه شرعيّ ، أو على فراشه إنسان آخر . ويطلق الأب من الرّضاع على من نسب إليه لبن المرضع ، فأرضعت منه ولداً لغيره ، ويعبّرون عنه بلبن الفحل .
( الحكم الإجماليّ )
2 - لمّا كان الأب والولد كالشّيء الواحد ، لأنّ الولد بعض أبيه ، كان للأب اختصاص ببعض الأحكام في النّفس والمال ، وترجع في جملتها إلى التّراحم والمسئوليّة . وذلك كواجبه في الحفاظ على الولد ، والنّفقة عليه ، فقد اتّفقوا على أنّه يجب على الأب نفقة الولد في الجملة . على تفصيل يرجع إليه في مباحث النّفقة . واتّفقوا على أنّ للأب حقّ الولاية في تزويج بنته على خلاف بينهم في البكر والثّيّب . ويقدّم على جميع الأولياء إلاّ الابن ، فإنّه يقدّم على الأب عند جمهور الفقهاء . وفي هذه المسألة خلاف الحنابلة ، فإنّ الأب عندهم مقدّم في ولاية التّزويج . واتّفقوا على أحقّيّة الأب في الولاية على مال الصّغير ، أو المجنون ، أو السّفيه من أولاده . كما اتّفقوا على أنّه لا يجب القصاص على الأب بقتل ولده ، على تفصيل عند المالكيّة . واتّفقوا على أنّ الأب أحد الأفراد السّتّة ، الّذين لا يحجبون عن الميراث حجب حرمان بغيرهم بحال ، وهم الأبوان والزّوجان والابن والبنت ، وأنّه يرث تارةً بالفرض ، وتارةً بالتّعصيب ، وتارةً بهما معاً .
( مواطن البحث )
3 - تكثر المسائل الفقهيّة الّتي تتّصل بالأب ، وتفصّل أحكامها في مواطنها من كتب الفقه ، وذلك في : الإرث ، والعقيقة ، والولاية ، والهبة ، والوصيّة ، والعتق ، ومحرّمات النّكاح ، والنّفقة ، والقصاص ، والأمان ، والشّهادة ، والإقرار .
إباحة
التّعريف
1 - الإباحة في اللّغة : الإحلال ، يقال : أبحتك الشّيء أي أحللته لك . والمباح خلاف المحظور . وعرّف الأصوليّون الإباحة بأنّها خطاب اللّه تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين تخييراً من غير بدل . وعرّفها الفقهاء بأنّها الإذن بإتيان الفعل حسب مشيئة الفاعل في حدود الإذن . وقد تطلق الإباحة على ما قابل الحظر ، فتشمل الفرض والإيجاب والنّدب .
الألفاظ ذات الصّلة بالإباحة
الجواز
2 - اختلف الأصوليّون في الصّلة بين الإباحة والجواز ، فمنهم من قال : إنّ الجائز يطلق على خمسة معان : المباح ، وما لا يمتنع شرعاً ، وما لا يمتنع عقلاً ، أو ما استوى فيه الأمران ، والمشكوك في حكمه كسؤر الحمار ، ومنهم من أطلقه على أعمّ من المباح ، ومنهم من قصره عليه ، فجعل الجواز مرادفاً للإباحة . والفقهاء يستعملون الجواز فيما قابل الحرام ، فيشمل المكروه . وهناك استعمال فقهيّ لكلمة الجواز بمعنى الصّحّة ، وهي موافقة الفعل ذي الوجهين للشّرع ، والجواز بهذا الاستعمال حكم وضعيّ ، وبالاستعمالين السّابقين حكم تكليفيّ .
الحلّ :
3 - الإباحة ، فيها تخيير ، أمّا الحلّ فإنّه أعمّ من ذلك شرعاً ، لأنّه يطلق على ما سوى التّحريم ، وقد جاء مقابلاً له في القرآن والسّنّة ، كقوله تعالى : { وأحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا } وقوله : { يا أيّها النّبيّ لم تحرّم ما أحلّ اللّه لك } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أما إنّي واللّه لا أحلّ حراماً ولا أحرّم حلالاً » . ولمّا كان الحلال مقابلاً للحرام شمل ما عداه من المباح والمندوب والواجب والمكروه مطلقاً عند الجمهور ، وتنزيهاً عند أبي حنيفة . ولهذا قد يكون الشّيء حلالاً ومكروهاً في آن واحد ، كالطّلاق ، فإنّه مكروه ، وإن وصفه الرّسول صلى الله عليه وسلم بأنّه حلال ، وعلى ذلك يكون كلّ مباح حلالاً ولا عكس .
الصّحّة :
4 - الصّحّة هي موافقة الفعل ذي الوجهين للشّرع . ومعنى كونه ذا وجهين أنّه يقع تارةً موافقاً للشّرع ، لاشتماله على الشّروط الّتي اعتبرها الشّارع ، ويقع تارةً أخرى مخالفاً للشّرع . والإباحة الّتي فيها تخيير بين الفعل والتّرك مغايرة للصّحّة . وهما ، وإن كانا من الأحكام الشّرعيّة ، إلاّ أنّ الإباحة حكم تكليفيّ ، والصّحّة حكم وضعيّ على رأي الجمهور . ومنهم من يردّ الصّحّة إلى الإباحة فيقول : إنّ الصّحّة إباحة الانتفاع . والفعل المباح قد يجتمع مع الفعل الصّحيح ، فصوم يوم من غير رمضان مباح ، أي مأذون فيه من الشّرع ، وهو صحيح إن استوفى أركانه وشروطه . وقد يكون الفعل مباحاً في أصله وغير صحيح لاختلال شرطه ، كالعقود الفاسدة . وقد يكون صحيحاً غير مباح كالصّلاة في ثوب مغصوب إذا استوفت أركانها وشروطها عند أكثر الأئمّة .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
التّخيير :
5 - الإباحة تخيير من الشّارع بين فعل الشّيء وتركه ، مع استواء الطّرفين بلا ترتّب ثواب أو عقاب ، أمّا التّخيير فقد يكون على سبيل الإباحة ، أي بين فعل المباح وتركه ، وقد يكون بين الواجبات بعضها وبعض ، وهي واجبات ليست على التّعيين ، كما في خصال الكفّارة في قوله تعالى : { لا يؤاخذكم اللّه باللّغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان فكفّارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } فإنّ فعل أيّ واحد منها يسقط المطالبة ، لكنّ تركها كلّها يقتضي الإثم . وقد يكون التّخيير بين المندوبات كالتّنفّل قبل صلاة العصر ، فالمصلّي مخيّر بين أن يتنفّل بركعتين أو بأربع . والمندوب نفسه في مفهومه تخيير بين الفعل والتّرك ، وإن رجّح جانب الفعل ، وفيه ثواب ، بينما التّخيير في الإباحة لا يرجّح فيه جانب على جانب ، ولا يترتّب عليه ثواب ولا عقاب .
العفو :
6 - من العلماء من جعل العفو الّذي رفعت فيه المؤاخذة ، ونفي فيه الحرج ، مساوياً للإباحة ، كما جاء في الحديث « إنّ اللّه فرض فرائض فلا تضيّعوها ، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها ، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها ، وعفا عن أشياء رحمةً بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها » . وهو ما يدلّ عليه قوله تعالى { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزّل القرآن تبد لكم عفا اللّه عنها } . فما عفا اللّه عنه لم يكلّفنا به فعلاً أو تركاً ، ولم يرتّب عليه مثوبةً ولا عقاباً . وهو بهذا مساو للمباح .
ألفاظ الإباحة :
7 - الإباحة إمّا بلفظ أو غيره ، سواء من الشّارع أو من العباد . فمثال غير اللّفظ من الشّارع أن يرى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعلاً من الأفعال ، أو يسمع قولاً ، فلا ينكره ، فيكون هذا تقريراً يدلّ على الإباحة . ومثاله من العباد أن يضع الشّخص مائدةً عامّةً ليأكل منها من يشاء . وأمّا اللّفظ فقد يكون صريحاً ، ومن ذلك نفي الجناح ونفي الإثم أو الحنث أو السّبيل أو المؤاخذة . وقد يكون غير صريح ، وهو الّذي يحتاج في دلالته على الإباحة إلى قرينة . ومن ذلك : الأمر بعد الحظر ، كقوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } ومنه الأمر المقترن بالمشيئة ، والتّعبير بالحلّ أو نفي التّحريم أو الاستثناء من التّحريم .
من له حقّ الإباحة
الشّارع
8 - الأصل أنّ حقّ الإباحة للشّارع وحده من غير توقّف على إذن من أحد ، وقد تكون الإباحة مطلقةً كالمباحات الأصليّة ، وقد تكون مقيّدةً إمّا بشرط كما في قوله تعالى { أو ما ملكتم مفاتحه } في شأن ما يباح أكله من ملك الغير من غير ضرورة ، أو مقيّدةً بوقت كإباحة أكل الميتة للمضطرّ ( العباد ) :
9 - الإباحة من العباد لا بدّ فيها أن تكون على وجه لا يأباه الشّرع ، وألاّ تكون على وجه التّمليك ، وإلاّ كانت هبةً أو إعارةً . وإذا كانت الإباحة من وليّ الأمر فالمدار فيها - بعد الشّرطين السّابقين - أن تكون منوطةً بالمصلحة العامّة . وهذه الإباحة قد تكون في واجب يسقط بها عنه ، كمن عليه كفّارة ، واختار التّكفير بالإطعام ، فإنّ الدّعوة إلى تناوله إباحة تسقط عنه الكفّارة ، إذ هو مخيّر فيها بين التّمليك لمن يستحقّ ، وبين الإباحة . وهذا عند بعض الفقهاء كالحنفيّة ، خلافاً للشّافعيّة ومن وافقهم الّذين يرون أنّ الإطعام في الكفّارة يجب فيه التّمليك . والإنسان يعرف إذن غيره إمّا بنفسه ، وإمّا بإخبار ثقة يقع في القلب صدقه . فلو قال مملوك مثلاً : هذه هديّة بعث بها إليك سيّدي ، أو قال صبيّ : هذه هديّة بعث بها إليك والدي ، قبل قولهما في حلّها ، لأنّ الهدايا تبعث في العادة على أيدي هؤلاء .
دليل الإباحة وأسبابها :
10 - قد يوجد فعل من الأفعال لم يدلّ الدّليل السّمعيّ على حكمه بخصوصه ، وذلك صادق بصورتين : الأولى عدم ورود دليل لهذا الفعل أصلاً ، والثّانية وروده ولكنّه جهل . وأكثر الأفعال دلّ الدّليل السّمعيّ عليها وعرف حكمها ، وتفصيل ذلك فيما يلي : أ - ( البقاء على الأصل ) :
11 - وهذا ما يعرف بالإباحة الأصليّة ، وجمهور العلماء على أنّه لا حرج على من تركه أو فعله . ويظهر أثر ذلك فيما كان قبل البعثة . وهناك تفصيلات بين علماء الكلام في هذه المسألة يرجع إليها في الملحق الأصوليّ ، أو في كتب علم الكلام . وهذا الخلاف لا محصّل له الآن بعد ورود البعثة ، إذ دلّ النّصّ من كتاب اللّه على أنّ الأصل في الأشياء الإباحة . قال تعالى : { وسخّر لكم ما في السّموات وما في الأرض جميعاً منه إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون } .
ب - ( ما جهل حكمه ) :
12 - قد يكون الجهل مع وجود الدّليل ، ولكنّ المكلّف - مجتهداً أو غير مجتهد - لم يطّلع عليه ، أو اطّلع عليه المجتهد ولم يستطع استنباط الحكم . والقاعدة في ذلك أنّ الجهل بالأحكام الشّرعيّة إنّما يكون عذراً إذا تعذّر على المكلّف الاطّلاع على الدّليل ، وكلّ من كان في إمكانه الاطّلاع على الدّليل وقصّر في تحصيله لا يكون معذوراً . ويفصّل الفقهاء أحكام هذه المسألة في مواطنها . ومن عذر بجهله فهو غير مخاطب بحكم الفعل ، فلا يوصف فعله بالإباحة بالمعنى الاصطلاحيّ الّذي فيه خطاب بالتّخيير . وإن كان الإثم مرفوعاً عنه بعذر الجهل . وتفصّل هذه الأحكام في مواطنها في بحث ( الجهل ) . وينظر في الملحق الأصوليّ .
طرق معرفة الإباحة :
13 - طرق معرفة الإباحة كثيرة ، من أهمّها : النّصّ : وقد تقدّم الكلام عليه تفصيلاً . بعض أسباب الرّخص : والرّخصة هي ما شرع لعذر شاقّ استثناءً من أصل كلّيّ يقتضي المنع ، مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه مع بقاء حكم الأصل . وذلك كالإفطار في رمضان في السّفر ، والمسح على الخفّين ، على تفصيل للفقهاء يرجع إليه في مواطنه . النّسخ : وهو رفع الحكم الشّرعيّ بنصّ شرعيّ متأخّر . والّذي يهمّنا هنا هو نسخ الحظر بنصّ شرعيّ متأخّر فيما كان مباحاً قبل الحظر ، مثل جواز الانتباذ في الأوعية بعد حظره ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كنت نهيتكم عن الأوعية فانتبذوا ، واجتنبوا كلّ مسكر » فالأمر بالنّبذ بعد النّهي عنه يفيد رفع الحرج ، وهو معنى الإباحة . العرف . والمختار في تعريفه أنّه ما استقرّ في النّفوس من جهة العقول ، وتلقّته الطّباع السّليمة بالقبول . وهو دليل كاشف إذا لم يوجد نصّ ولا إجماع على اعتباره أو إلغائه ، كالاستئجار بعوض مجهول لا يفضي إلى النّزاع .
الاستصلاح ( المصلحة المرسلة ) : هي كلّ مصلحة غير معتبرة ولا ملغاة بنصّ من الشّارع بخصوصها ، يكون في الأخذ بها جلب منفعة أو دفع ضرر ، كمشاطرة عمر رضي الله عنه أموال الّذين اتّهمهم بالإثراء بسبب عملهم للدّولة ، وهذا حتّى يضع مبدأً للعمّال ألاّ يستغلّوا مراكزهم لصالح أنفسهم .
متعلّق الإباحة :
14 - متعلّق الإباحة اهتمّ به الفقهاء ، وتحدّثوا عن أقسامه وفروعه ، فقسّموه من حيث مصدر الإباحة إلى قسمين : ما أذن فيه الشّارع ، وما أذن فيه العباد . ومن حيث نوع الإباحة إلى قسمين أيضاً : ما فيه تملّك واستهلاك وانتفاع ، وما فيه استهلاك وانتفاع دون تملّك . ولكلّ قسم حكمه ، وبيانه فيما يأتي . المأذون به من الشّارع :
15 - المأذون به من الشّارع ما ورد دليل على إباحته من نصّ أو من مصدر من مصادر التّشريع الأخرى . والحديث هنا سيكون عن المأذون فيه إذناً عامّاً لا يختصّ ببعض الأفراد دون بعضهم الآخر . وفي ذلك مطلبان : مطلب للمأذون فيه على وجه التّملّك والاستهلاك ، وهو المسمّى عند الفقهاء بالمال المباح ، ومطلب للمأذون فيه على وجه الانتفاع فقط ، وهو المسمّى بالمنافع العامّة . المطلب الأوّل ما أذن فيه الشّارع على وجه التّملّك والاستهلاك 16 - المال المباح هو كلّ ما خلقه اللّه لينتفع به النّاس على وجه معتاد ، وليس في حيازة أحد ، مع إمكان حيازته ، ولكلّ إنسان حقّ تملّكه ، سواء أكان حيواناً أم نباتاً أم جماداً . والدّليل على ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم . « من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له » . وهذا التّملّك لا يستقرّ إلاّ عند الاستيلاء الحقيقيّ ، الّذي ضبطوه بوضع اليد على الشّيء المباح ، أي الاستيلاء الفعليّ ، أو كونه في متناول اليد ، وهو الاستيلاء بالقوّة . وقد قال العلماء : إنّ هذا الاستيلاء بإحدى صورتيه لا يحتاج إلى نيّة وقصد في استقرار الملكيّة ، كما قالوا : إنّ الاستيلاء بوساطة آلة وحرفة ومهارة يحتاج إلى القصد ليكون استيلاءً حقيقيّاً ، وإلاّ كان استيلاءً حكميّاً . جاء في الفتاوى الهنديّة ، فيمن علّق كوزه ، أو وضعه في سطحه ، فأمطر السّحاب وامتلأ الكوز من المطر ، فأخذه إنسان ، فالحكم هو استرداد الكوز ، لأنّه ملك صاحبه ، وأمّا الماء فإن كان صاحب الكوز قد وضعه من أجل جمع الماء فيستردّ الماء أيضاً ، لأنّ ملكه حقيقيّ حينئذ ، فإن لم يضعه لذلك لم يستردّه . ومن أمثلة الأموال المباحة الماء والكلأ والنّار والموات والرّكاز والمعادن والحيوانات غير المملوكة . ولكلّ أحكامه .
المطلب الثّاني
ما أذن فيه الشّارع على وجه الانتفاع
17 - وهو ما يسمّى بالمنافع العامّة ، الّتي جعل اللّه إباحتها تيسيراً على عباده ، ليتقرّبوا إليه فيها ، أو ليمارسوا أعمالهم في الحياة مستعينين بها ، كالمساجد ، والطّرق . ويرجع لمعرفة تفصيل أحكامهما إلى مصطلحيهما .
المأذون فيه من العباد
18 - إباحة العباد كذلك على نوعين : نوع يكون التّسليط فيه على العين لاستهلاكها ، ونوع يكون التّسليط فيه على العين للانتفاع بها فقط . إباحة الاستهلاك :
19 - لهذه الإباحة جزئيّات كثيرة نكتفي منها بما يأتي : أ - الولائم بمناسباتها المتعدّدة والمباح فيها الأكل والشّرب دون الأخذ .
ب - الضّيافة . ويرجع في تفصيل أحكامهما إلى مصطلحيهما . إباحة الانتفاع :
20 - هذا النّوع من الإباحة قد يكون مع ملك الآذن لعين ما أذن الانتفاع به كإذن مالك الدّابّة أو السّيّارة لغيره بركوبها ، وإذن مالك الكتب للاطّلاع عليها . وقد يكون الإذن فيما لا يملك عينه ، ولكن يملك منفعته بمثل الإجارة أو الإعارة ، إن لم يشترط فيهما أن يكون الانتفاع شخصيّاً للمستأجر والمستعير .
تقسيمات الإباحة :
21 - للإباحة تقسيمات شتّى باعتبارات مختلفة ، وقد تقدّم أكثرها . وبقي الكلام عن تقسيمها من حيث مصدرها ومن حيث الكلّيّة والجزئيّة : أ - تقسيمها من حيث مصدرها :
22 - تقسّم بهذا الاعتبار إلى إباحة أصليّة ، بألاّ يرد فيها نصّ من الشّارع ، وبقيت على الأصل ، وقد سبق بيانها . وإباحة شرعيّة : بمعنى ورود نصّ من الشّارع بالتّخيير ، وذلك إمّا ابتداءً كإباحة الأكل والشّرب ، وإمّا بعد حكم سابق مخالف ، كما في النّسخ ، أو الرّخص ، وقد سبق . على أنّه ممّا ينبغي ملاحظته أنّه بعد ورود الشّرع أصبحت الإباحة الأصليّة إباحةً شرعيّةً لقول اللّه تعالى { هو الّذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } وقوله : { وسخّر لكم ما في السّموات وما في الأرض جميعاً منه } فإنّ هذا النّصّ يدلّ على أنّ كلّ ما خلقه اللّه يكون مباحاً إلاّ ما ورد دليل يثبت له حكماً آخر ، على خلاف وتفصيل يرجع إليه في الملحق الأصوليّ . وقد يكون مصدر الإباحة إذن العباد بعضهم لبعض على ما سبق . ( ف 9 ) .
ب - تقسيمها باعتبار الكلّيّة والجزئيّة :
23 - تنقسم أربعة أقسام :
1 - إباحة للجزء مع طلب الكلّ على جهة الوجوب ، كالأكل مثلاً ، فيباح أكل نوع وترك آخر ممّا أذن به الشّرع ، ولكنّ الامتناع عن الأكل جملةً حرام لما يترتّب عليه من الهلاك .
2 - إباحة للجزء مع طلب الكلّ على جهة النّدب ، كالتّمتّع بما فوق الحاجة من طيّبات الأكل والشّرب ، فذلك مباح يجوز تركه في بعض الأحيان ، ولكنّ هذا التّمتّع مندوب إليه باعتبار الكلّ ، على معنى أنّ تركه جملةً يخالف ما ندب إليه الشّرع من التّحدّث بنعمة اللّه والتّوسعة ، كما في حديث « إنّ اللّه تعالى يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده » وكما قال عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه إذا أوسع اللّه عليكم فأوسعوا على أنفسكم .
3 - إباحة للجزء مع التّحريم باعتبار الكلّ ، كالمباحات الّتي تقدح المداومة عليها في العدالة ، كاعتياد الحلف ، وشتم الأولاد ، فذلك مباح في الأصل ، لكنّه محرّم بالاعتياد .
4 - إباحة للجزء مع الكراهة باعتبار الكلّ ، كاللّعب المباح ، فإنّ ذلك وإن كان مباحاً بالأصل إلاّ أنّ المداومة عليه مكروهة .
( آثار الإباحة )
24 - إذا ثبتت الإباحة ثبت لها من الآثار ما يلي :
1 - رفع الإثم والحرج . وذلك ما يدلّ عليه تعريف الإباحة بأنّه لا يترتّب على الفعل المباح إثم .
2 - التّمكين من التّملّك المستقرّ بالنّسبة للعين ، والاختصاص بالنّسبة للمنفعة : وذلك لأنّ الإباحة طريق لتملّك العين المباحة . هذا بالنّسبة للعين . أمّا بالنّسبة للمنفعة المباحة فإنّ أثر الإباحة فيها اختصاص المباح له بالانتفاع ، وعبارات الفقهاء في المذاهب المختلفة تتّفق في أنّ تصرّف المأذون له في طعام الوليمة قبل وضعه في فمه لا يجوز بغير الأكل ، إلاّ إذا أذن له صاحب الوليمة أو دلّ عليه عرف أو قرينة . وبهذا تفارق الإباحة الهبة والصّدقة بأنّ فيهما تمليكاً ، كما أنّها تفارق الوصيّة حيث تكون هذه مضافةً إلى ما بعد الموت ، ولا بدّ فيها من إذن الدّائنين ، والورثة أحياناً ، كما لا بدّ من صيغة في الوصيّة .
25 - هذه هي آثار الإباحة للأعيان في إذن العباد . أمّا آثار الإباحة للمنافع فإنّ إباحتها لا تفيد إلاّ حلّ الانتفاع فقط ، على ما تقدّم تفصيله . فحقّ الانتفاع المجرّد من قبيل التّرخيص بالانتفاع الشّخصيّ دون الامتلاك ، وملك المنفعة فيه اختصاص حاجز لحقّ المستأجر من منافع المؤجّر ، فهو أقوى وأشمل ، لأنّ فيه حقّ الانتفاع وزيادةً . وآثار ذلك قد تقدّم الكلام عليها .
( الإباحة والضّمان ) :
26 - الإباحة لا تنافي الضّمان في الجملة ، لأنّ إباحة اللّه - وإن كان فيها رفع الحرج والإثم - إلاّ أنّها قد يكون معها ضمان ، فإباحة الانتفاع تقتضي صيانة العين المباحة عن التّخريب والضّرر ، وما حدث من ذلك لا بدّ من ضمانه . وإباحة الأعيان كأخذ المضطرّ طعام غيره لا تمنع ضمان قيمته إذا كان بغير إذنه ، لأنّ اللّه جعل للعبد حقّاً في ملكه ، فلا ينقل الملك منه إلى غيره إلاّ برضاه ، ولا يصحّ الإبراء منه إلاّ بإسقاطه ، كما يقول القرافيّ في الفروق . وحكى القرافيّ في هذه المسألة قولين : أحدهما : لا يضمن ، لأنّ الدّفع كان واجباً على المالك ، والواجب لا يؤخذ له عوض . والقول الثّاني : يجب ، وهو الأظهر والأشهر ، لأنّ إذن المالك لم يوجد ، وإنّما وجد إذن صاحب الشّرع ، وهو لا يوجب سقوط الضّمان ، وإنّما ينفي الإثم والمؤاخذة بالعقاب . أمّا إباحة العباد بعضهم لبعض فقد تقدّم الكلام عليها مفصّلاً .
ما تنتهي به الإباحة :
27 - أوّلاً : إباحة اللّه سبحانه لا تنتهي من جهته هو ، لأنّه سبحانه حيّ باق ، والوحي قد انقطع ، فلا وحي بعد محمّد صلى الله عليه وسلم وإنّما تنتهي بانتهاء دواعيها ، كما في الرّخص ، فإذا وجد السّفر في نهار رمضان مثلاً وجدت الإباحة بالتّرخيص في الفطر ، فإذا انتهى السّفر انتهت الرّخصة .
28 - ثانياً : وإباحة العباد تنتهي بأمور : أ - انتهاء مدّتها إن كانت مقيّدةً بزمن ، فالمؤمنون عند شروطهم ، وإذا فقد الشّرط فقد المشروط .
ب - رجوع الآذن في إذنه ، حيث إنّه ليس واجباً عليه ، فهو تبرّع منه ، كما قال جمهور العلماء . وهي لا تنتهي بمجرّد الرّجوع ، بل لا بدّ من علم المأذون له به ، كما هو مقتضى قواعد الحنفيّة ، وهو قول للشّافعيّ . وذكر السّيوطيّ في الأشباه والنّظائر قولاً آخر للشّافعيّ ، يفيد أنّ الإباحة تنتهي بمجرّد رجوع الآذن ، ولو لم يعلم المأذون له .
ج - موت الآذن لبطلان الإذن بموته ، فتنتهي آثاره .
د - موت المأذون له ، لأنّ حقّ الانتفاع رخصة شخصيّة له لا تنتقل إلى ورثته إلاّ إذا نصّ الآذن على خلافه .
إباق
التّعريف
1 - الإباق لغةً : مصدر أبق العبد - بفتح الباء - يأبق ويأبق ، بكسر الباء وضمّها ، أبقاً وإباقاً ، بمعنى الهرب . والإباق خاصّ بالإنسان سواء أكان عبداً أم حرّاً . وفي الاصطلاح : انطلاق العبد تمرّداً ممّن هو في يده من غير خوف ولا كدّ في العمل . فإن لم يكن كذلك فهو إمّا هارب ، وإمّا ضالّ وإمّا فارّ . لكن قد يطلق بعض الفقهاء لفظ الآبق على من ذهب مختفياً مطلقاً لسبب أو غيره . صفة الإباق ( حكمه التّكليفيّ ) :
2 - الإباق محرّم شرعاً بالاتّفاق ، وهو عيب في العبد ، وقد عدّه ابن حجر الهيتميّ والذّهبيّ من الكبائر ، ووردت في النّهي عنه عدّة أحاديث : منها ما روى جرير بن عبد اللّه البجليّ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « أيّما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتّى يرجع إليهم » وفي رواية « أيّما عبد أبق فقد برئت منه الذّمّة » .
( بم يتحقّق الإباق )
3 - الّذي يفهم من عبارات الفقهاء أنّه يشترط البلوغ والعقل في العبد إذا هرب ليمكن اعتباره آبقاً بالمعنى المتقدّم ، أمّا من لم يعقل معنى الإباق - وهو غير العاقل البالغ - فلا يكون آبقاً ، ويسمّى ضالّاً ، أو لقطةً .
أخذ الآبق
4 - يرى الحنفيّة والمالكيّة أنّه يجب أخذ الآبق إن خشي ضياعه وغلب على ظنّه تلفه على مولاه إن لم يأخذه ، مع قدرة تامّة عليه . ويحرم عندهم أخذه لنفسه . أمّا إذا لم يخش ضياعه وقوي على أخذه فذلك مندوب عند الحنفيّة ، إلاّ أنّ المالكيّة قالوا : يندب لمن وجد آبقاً ، وعرف ربّه ، أن يأخذه ، لأنّه من باب حفظ الأموال ، إذا لم يخش ضياعه . أمّا إذا كان لا يعرف ربّه فإنّه يكره له أخذه لاحتياجه إلى الإنشاد والتّعريف . وعند الشّافعيّة : أخذ الآبق - بدون رضا المالك - غير جائز ، ويجوز بإذنه . وعند الحنابلة : أخذ الآبق جائز ، لأنّه لا يؤمن لحاقه بدار الحرب وارتداده واشتغاله بالفساد ، بخلاف الضّوالّ الّتي تحتفظ بنفسها . صفة يد الآخذ للآبق :
5 - الّذي يفهم من عبارات الفقهاء أنّ الآبق يعتبر أمانةً بيد آخذه حتّى يردّه إلى صاحبه ، ولا يضمنه إلاّ بالتّعدّي أو التّفريط ، وأنّه إذا لم يجد سيّده دفعه إلى الإمام أو نائبه . الإنفاق على الآبق أثناء إباقه :
6 - يرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّ آخذ الآبق إذا أنفق عليه بدون إذن الحاكم يكون متبرّعاً ، فلا يرجع على سيّده بما أنفق فإن كان بإذنه فله الرّجوع . ويشترط في الإذن عند الحنفيّة أن يقول : على أن ترجع بما أنفقت عليه . وقال الشّافعيّة : إن لم يجد الحاكم أشهد أنّه أنفق ليرجع بما أنفق . ويرى المالكيّة : أنّ نفقة الآبق في رقبته ، لا في ذمّه سيّده . ويرى الحنابلة : أنّه إذا أنفق عليه آخذه ليردّه على سيّده فإنّ نفقته تكون على سيّده يأخذها منه عند ردّه .
ضمان ما يتلفه الآبق :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّ جناية العبد الآبق على شيء كجنايته قبل الإباق ، لأنّه في حال الإباق لا يزال في ملك سيّده . وجنايته إمّا أن تكون إتلافاً لنفس ، أو لجزء من آدميّ ، وإمّا أن تكون إتلافاً لمال . فإن قتل نفساً عمداً بغير حقّ وجب عليه القصاص ، إلاّ إذا رضي وليّ الدّم بالعفو عن العبد وتصالح على مال ، فيكون الواجب المال المصالح عليه ، فإمّا أن يدفع به إلى أولياء الدّم أو يفديه سيّده . أمّا إذا أتلف جزءاً من آدميّ أو أتلف مالاً ، فلكلّ مذهب من المذاهب الأربعة رأيه في بيان هذا الحكم ، يرجع إليه في باب الضّمان . دية الآبق لمن تكون ؟ 8 - اتّفق الفقهاء على أنّ الآبق لا يزال مملوكاً لسيّده ، فإذا قتل على وجه يستوجب الدّية ، أو أتلف من بدنه ما يستوجب الأرش ، فديته وأرش الجناية عليه لسيّده .
( بيع الآبق ومتى يجوز ) ؟ 9 - يجوز - اتّفاقاً - للمالك بيع عبده الآبق إذا قدر على تسليمه للمشتري ، كما يجوز للقاضي بيع الآبق إذا دفع إليه ورأى المصلحة في بيعه بعد أن يحبسه ، على خلاف في مدّة حبسه بين المذاهب . وليس لآخذ الآبق أن يبيعه لأنّه ليس ملكاً له عند من يقول بمنع بيع الفضوليّ ولأنّ المالك مجهول عند من يقول بصحّة بيعه . اعتبار الإباق عيباً في العبد :
10 - الإباق في العبد والأمة عيب يردّ به المبيع ، وتفصيل ذلك في خيار العيب . إباق العبد من آخذه :
11 - تقدّم القول ( ف 5 ) أنّ يد آخذ الآبق يد أمانة . وعلى ذلك فإنّه إذا هرب منه ، من غير تعدّ ولا تفريط ، فلا ضمان عليه .
عتق الآبق قبل ردّه :
12 - أجمع الفقهاء على أنّ مولى العبد الآبق لو أعتقه حال إباقه وقبل تسلّمه من آخذه نفذ عتقه . ردّ الآبق والجعل فيه :
13 - يؤخذ من تعريف الجعل - عند الفقهاء - أنّه مقدار من المال يستحقّه من ردّ آبقاً أو ضالّةً نظير قيامه بهذا العمل . واختلفوا في مقدار الجعل : فيرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ مقدار الجعل المستحقّ لرادّ الآبق هو ما سمّاه الجاعل ، أو ما تمّ الاتّفاق عليه بين الآذن بالعمل والعامل . غير أنّ الحنابلة قالوا : إن كان المسمّى أقلّ ممّا قدّره الشّارع وهو دينار أو اثنا عشر درهماً - فلرادّ الآبق ما قدّره الشّارع على أحد قولين ، والقول الآخر أنّه يؤخذ بالمسمّى بالغاً ما بلغ . وفي ذلك تفصيل وخلاف أصبح ممّا لا حاجة إليه . ويرى الحنفيّة أنّ أقصى مقدار الجعل هو ما قدّره الشّارع وهو أربعون درهماً ، إذا كان من مسافة قصر فأكثر ، لورود أثر عن ابن مسعود بذلك التّقدير . تصرّفات الآبق :
14 - تصرّفات الآبق إمّا أن تكون ممّا تنفذ عليه في الحال ، كالطّلاق ، وإمّا أن يكون لها اتّصال بالمال وحقوق الغير ، كالزّواج والإقرار والهبة . فالّتي تنفذ عليه في الحال صحيحة نافذة . وأمّا تصرّفاته الّتي تترتّب عليها التزامات ماليّة ، كالنّكاح والإقرار والهبة . . إلخ ، فإنّها تقع موقوفةً على إذن السّيّد ، سواء كانت قوليّةً أم فعليّةً .
إباق العبد من غير مالكه وآخذه :
15 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا أبق العبد من المستعير أو المستأجر أو الوصيّ فإنّه لا يضمن إلاّ بالتّعدّي أو التّفريط ، لأنّ يد كلّ واحد من هؤلاء يد أمانة . ولو أبق العبد من غاصبه فإنّ الغاصب يكون ضامناً ، لتعدّيه ، فيلزمه قيمة العبد يوم غصبه . أمّا إن أبق من مرتهنه ، فإن كان بتعدّ أو تفريط فهو مضمون عليه إجماعاً ، وإن كان بغير تعدّ ولا تفريط فالجمهور على أنّه غير مضمون ، لأنّ الرّهن أمانة في يد المرتهن ، خلافاً للحنفيّة ، فهو مضمون عندهم بالأقلّ من قيمته ومن الدّين .
نكاح زوجة الآبق :
16 - اتّفق الفقهاء على أنّ زوجة العبد الآبق لا يصحّ زواجها حتّى يتحقّق موته أو طلاقه أو يحكم بتطليقها منه للغيبة أو لعدم الإنفاق . وفي ذلك تفصيل موطنه أحكام المفقود والطّلاق .
إباق العبد من الغنيمة قبل القسمة :
17 - من الأصول العامّة المتّفق عليها بين الفقهاء أنّ الغنيمة قبل القسمة أموال عامّة للمسلمين ، ولا تدخل في ملكيّة الغانمين إلاّ بعد القسمة . وعلى هذا فلو أبق عبد من الغنيمة قبل القسمة فإنّه يطلب في مظانّه ، ويبحث عنه ، ويعلن عن جعل لمن يردّه يصرف من بيت المال أو من الغنيمة نفسها . فإذا عاد الآبق تجرى عليه القسمة كباقي الأموال .
ادّعاء ملكيّة الآبق ، ومتى تثبت ؟ 18 - إذا جاء من يدّعي ملكيّة الآبق ، فلا يخلو الحال : إمّا أن يكون الآبق تحت يد القاضي ، أو تحت يد ملتقطه وآخذه . فإن كان تحت يد القاضي ، فإنّ الفقهاء يرون أنّ القاضي لا يسلّمه لمدّعيه إلاّ ببيّنة قاطعة ، تصف العبد ، وتقرّر أنّه عبد لمدّعيه ولم يهبه ولم يبعه ، أو لا يعلم أنّه باعه أو وهبه . فإن تحقّق ذلك سلّمه القاضي لمدّعيه . وزاد أبو يوسف من الحنفيّة استحلافه . أمّا إذا كان الآبق في يد ملتقطه ، فيرى الحنفيّة أنّه لا يدفعه إلى مدّعيه إلاّ بأمر القاضي ويرى المالكيّة : أنّه يدفعه إليه بشاهد ويمين . ويرى الشّافعيّة والحنابلة : جواز أن يدفعه إلى مدّعيه ببيّنة يقيمها المدّعي ، أو اعتراف العبد أنّه سيّده ، لكنّ الأحوط ألاّ يدفعه إلاّ بأمر الحاكم .
زكاة الفطر عن العبد الآبق :
19 - يرى الحنفيّة أنّه لا يجب على السّيّد أن يدفع زكاة الفطر عن عبده الآبق . وهو مذهب عطاء والثّوريّ . ويرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ زكاة الفطر تجب عن العبد الآبق ، على تفصيل عندهم في ذلك ، موطنه صدقة الفطر . وأوجبها كذلك أبو ثور وابن المنذر ، والزّهريّ إذا علم مكانه ، والأوزاعيّ إن كان في دار الإسلام .
( عقوبة الإباق ) :
20 - تقدّم الكلام في أنّ الإباق محرّم شرعاً ، وعدّه بعضهم من الكبائر ( ر : ف 2 ) ، وبما أنّه لا حدّ فيه يعزّر فاعله . ويكون التّعزير هنا من الحاكم أو السّيّد .
إبانة التّعريف 1 - الإبانة مصدر أبان ، ومن معانيها اللّغويّة الإظهار ، والفصل . وقال صاحب المحكم : القطع إبانة أجزاء الجرم . والإبانة بمعنى الفصل مرادفة للتّفريق . وأغلب تناول الفقهاء لها بمعنى الفصل والقطع . وإبانة الزّوجة تكون بالطّلاق البائن أو الخلع ، وحينئذ تملك المرأة نفسها ، ولا يحقّ للزّوج مراجعتها إلاّ بعقد جديد .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
( الحكم الإجماليّ )
2 - من أحكام الإبانة ما اتّفق عليه الفقهاء في الجملة أنّ ما أبين من حيّ - غير الصّوف والشّعر من المأكول - فهو كميتته ، لخبر « ما أبين من حيّ فهو ميّت » . وما قطع بعد التّذكية وقبل الموت يحلّ تناوله ، وإن كان مكروهاً في الجملة .
( مواطن البحث )
3 - الكلام في الإبانة ذكر في مبحث النّجاسة ، وفي العورة ( لمس العضو المبان ، والنّظر إليه ) وفي الدّفن ، وفي الطّلاق ، والخلع ، وفي الجنايات ( الجناية على الأطراف ، ) وفي اللّعان ، وفي الذّبائح ( كفيّة الذّبح ) ، وفي الصّيد .
ابتداع
انظر : بدعةً .
إبدال
التّعريف
1 - الإبدال لغةً : جعل شيء مكان شيء آخر ، والاستبدال مثله ، فلا فرق عند أهل اللّغة بين اللّفظين في المعنى . وكذلك الأمر عند الفقهاء ، فهم يستعملون اللّفظين أحدهما مكان الآخر .
( الحكم الإجماليّ )
2 - الإبدال أو الاستبدال نوع من التّصرّفات ، الأصل فيه الجواز إذا كان صادراً ممّن هو أهل للتّصرّف ، فيما يجوز له التّصرّف فيه ، إلاّ فيما يخالف الشّرع . وقد يطرأ على هذا الحكم ما يجعل الفقهاء يختلفون فيه بين الجواز والمنع والوجوب . ومن ذلك مثلاً اختلافهم فيما يتعلّق به حقّ شرعيّ ، كالزّكاة والكفّارة ، فجمهور الفقهاء غالباً ما يمنعون إبدال الواجب إخراجه فيهما بالقيمة ، لأنّ الحقّ للّه تعالى ، وقد علّقه على ما نصّ عليه ، فلا يجوز نقل ذلك إلى غيره ، بينما يجيز الحنفيّة إبدال الواجب إخراجه فيها بالقيمة ، لتعلّق الوجوب عندهم بمعنى المال ، وهو الماليّة والقيمة .
3 - وفي عقود المعاوضات ، كالبيع ، اختلف الفقهاء في حكم إبدال الأثمان فالحنفيّة يجيزون إبدال الأثمان قبل القبض ، لأنّها لا تتعيّن بالتّعيين ، ولأنّ العقد لا ينفسخ بهلاكها ، بدليل ما رواه ابن عمر ، قال : « كنّا نبيع الإبل بالبقيع بالدّراهم ، فنأخذ بدل الدّراهم الدّنانير ، ونبيعها بالدّنانير فنأخذ بدلها الدّراهم ، فسألنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : لا بأس إذا تفرّقتما وليس بينكما شيء » والمراد من الحديث العين لا الدّين ، بينما يقول الشّافعيّ وزفر من الحنفيّة : إن كان الثّمن متعيّناً ، نقداً أو غيره ، فلا يجوز التّصرّف فيه قبل القبض ، وإن في الذّمّة جاز إبداله قبل القبض . واستدلّوا بالحديث السّابق أيضاً على أنّ إبدال الثّمن غير متعيّن بل هو في الذّمّة . وقريب من هذا رأي الحنابلة والمالكيّة . أمّا المبيع فعند الحنفيّة لا يجوز إبدال المبيع المنقول قبل قبضه . وفي العقار خلاف . وعند الشّافعيّ لا يجوز إبدال المبيع والثّمن المعيّن قبل القبض . وعند الحنابلة يجوز التّصرّف في المبيع قبل القبض لما لا يحتاج إلى قبض ، أمّا ما يحتاج إلى قبض فلا يجوز إبداله قبل القبض . والمالكيّة يجيزون التّصرّف في البيع قبل القبض ، إلاّ طعام المعاوضة . وكلّ ما مرّ إنّما هو في غير الصّرف والسّلم ، وفي غير الرّبويّات فإنّه لا يجوز فيها الإبدال . وقد يكون الإبدال واجباً ، كما إذا تعيّبت الدّابّة ، أو بانت مستحقّةً ، في إجارة الذّمّة ، فلا تنفسخ الإجارة ، بل يلزم المؤجّر إبدالها . وقد يكون للإبدال أحوال وشروط خاصّة ، كما في الوقف . وهو أحد الشّروط العشرة الّتي اعتاد الواقفون ذكرها في حجج أوقافهم . ويقرنون الإبدال بالاستبدال ، ممّا جعل الموثّقين يفرّقون بينهما ، فيطلقون الإبدال على جعل عين مكان أخرى ، والاستبدال على بيع عين الوقف بالنّقد .
( مواطن البحث )
4 - تأتي أحكام الإبدال والاستبدال عند الفقهاء في مسائل متعدّدة المواطن مفصّلة فيها أحكام كلّ مسألة ، جوازاً أو منعاً أو إيجاباً ، ومن ذلك الزّكاة والأضحيّة والكفّارة والبيع والشّفعة والإجارة والوقف وغير ذلك .
إبراء التّعريف بالإبراء :
1 - من معاني الإبراء في اللّغة : التّنزيه والتّخليص والمباعدة عن الشّيء . قال ابن الأعرابيّ : برئ : تخلّص وتنزّه وتباعد ، فالإبراء على هذا : جعل المدين - مثلاً - بريئاً من الدّين أو الحقّ الّذي عليه . والتّبرئة : تصحيح البراءة ، والمبارأة : المصالحة على الفراق . وأمّا في الاصطلاح فهو إسقاط الشّخص حقّاً له في ذمّة آخر أو قبله . فإذا لم يكن الحقّ في ذمّة شخص ولا تجاهه ، كحقّ الشّفعة ، وحقّ السّكنى الموصى به ، فتركه لا يعتبر إبراءً ، بل هو إسقاط محض . وقد اختير لفظ ( إسقاط ) في التّعريف - بالرّغم من أنّ في الإبراء معنيين هما الإسقاط والتّمليك - تغليباً لأحد المعنيين ، ولأنّه لا يخلو من وجه إسقاط على ما سيأتي .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : أ - البراءة ، والمبارأة ، والاستبراء :
2 - ( البراءة ) : هي أثر الإبراء ، وهي مصدر برئ . فهي مغايرة له في الفقه ، غير أنّ البراءة كما تحصل بالإبراء الّذي يتحقّق بفعل الدّائن ، تحصل بأسباب أخرى غيره ، كالوفاء والتّسليم من المدين أو الكفيل وتحصل البراءة بالاشتراط ، كالبراءة من العيوب ، ويعبّر عنها بالتّبرّؤ أيضاً ، وتفصيله في خيار العيب ، والكفالة . وقد تحصل البراءة بإزالة سبب الضّمان ، أو بمنع صاحب التّضمين من إزالته ، ومن ذلك ما صرّح به الشّافعيّة من أنّ حافر البئر في أرض غيره إن أراد ردمها فمنعه المالك فإنّه يبرّأ وإن لم توجد صيغة إبراء . وممّا يؤكّد التّباين بينهما ما جاء في بعض المسائل من تقييد البراءة بالإبراء أو الإسقاط لتمييزها عن البراءة بالاستيفاء . وفي ذلك يقول ابن الهمام : البراءة بالإبراء لا تتحقّق بفعل الكفيل ، بل بفعل الطّالب - أي الدّائن - فلا تكون حينئذ مضافةً إلى الكفيل . ونحوه بحث بعض الشّافعيّة في تلفيق شهادتي الإبراء والبراءة ، كأن شهد واحد بأنّ المدّعي أبرأه ، وآخر بأنّه برئ إليه منه ، ورجّحوا جوازه واعتبار الشّهادة مستكملة النّصاب 3 - أمّا ( المبارأة ) فهي مفاعلة وتقتضي المشاركة في البراءة . وهي في الاصطلاح اسم من أسماء الخلع ، والمعنى واحد ، وهو بذل المرأة العوض على طلاقها . لكنّها تختصّ بإسقاط المرأة عن الزّوج حقّاً لها عليه . فالمبارأة صورة خاصّة للإبراء تقع بين الزّوجين ، لإيقاع الزّوج الطّلاق - إجابةً لطلب الزّوجة غالباً - مقابل عوض ماليّ تبذله للزّوج هو تركها ما لها عليه من حقوق ماليّة ، كالمهر المؤجّل ، أو النّفقة المستحقّة في العدّة . والجمهور على أنّه لا يسقط بها أيّ حقّ إلاّ بالتّسمية ، خلافاً لأبي حنيفة وأبي يوسف القائلين بسقوط جميع حقوقها الزّوجيّة . وتفصيل ذلك موطنه عند الكلام عن ( الخلع ) . ولابن نجيم من الحنفيّة رسالة في الطّلاق الموقّع في مقابلة الإبراء حقّق فيها أنّه يقع بائناً ، لوقوعه بعوض ، وأمّا في قوله : متى ظهر كذا وأبرأتني من مهرك فأنت طالق فليس بائناً لأنّه جعل الطّلاق معلّقاً بالإبراء فالإبراء شرط للطّلاق وليس عوضاً .
4 - وأمّا ( الاستبراء ) فهو يأتي بمعنيين ، أحدهما : هو تعرّف براءة الرّحم ، أي طهارته من ماء الغير . وهو حيث لا تجب على المرأة عدّة . وأحكامه مفصّلة في مصطلحه . والمعنى الآخر : هو طلب نقاء المخرجين ممّا ينافي التّطهّر ، وتفصيل أحكامه في مصطلح ( قضاء الحاجة ) .
ب - ( الإسقاط ) :
5 - الإسقاط لغةً : الإزالة ، واصطلاحاً : إزالة الملك أو الحقّ لا إلى مالك أو مستحقّ . وهو قد يقع على حقّ في ذمّة آخر ، أو قبله ، على سبيل المديونيّة ( كالحال في الإبراء ) كما قد يقع على حقّ ثابت بالشّرع لم تشغل به الذّمّة ( كحقّ الشّفعة ) . ويكون بعوض وبغير عوض . فالإبراء أخصّ من الإسقاط ، فكلّ إبراء إسقاط ، ولا عكس . وممّا يدلّ على أنّ الإبراء نوع من الإسقاط تقسيم القرافيّ الإسقاط إلى نوعين ، أحدهما : بعوض ، كالخلع . والآخر : بغير عوض ، ومثّل له بالإبراء من الدّيون . وسيأتي تفصيل ذلك . والإسقاط متمحّض لسقوط ما يقع عليه اتّفاقاً ، في حين أنّ الإبراء مختلف في أنّه إسقاط فيه معنى التّمليك ، أو تمليك محض ، أو إسقاط محض على ما سيأتي بيانه . هذا ، وإنّ القليوبيّ من الشّافعيّة أفاد أنّ غير القصاص لا يسمّى تركه إسقاطاً ، وإنّما يقال له : إبراء . والظّاهر أنّ ذلك بحسب مألوف المذهب . وقد يستعمل الإبراء في موطن الإسقاط ، كما في خيار العيب ، فالإبراء من العيب كناية عن إسقاط الخيار .
ج - ( الهبة ) :
6 - الهبة لغةً : العطيّة الخالية عن الأعواض والأغراض ، أو التّبرّع بما ينفع الموهوب له مطلقاً . وهي شرعاً : تمليك العين بلا عوض . والّذي يوافق الإبراء من الهبة هو هبة الدّين للمدين ، فهي والإبراء بمعنًى واحد عند الجمهور الّذين لا يجيزون الرّجوع في الهبة بعد القبض . أمّا عند الحنفيّة القائلين بجواز الرّجوع في الجملة فالإبراء مختلف عن هبة الدّين للمدين ، للاتّفاق على عدم جواز الرّجوع في الإبراء بعد قبوله لأنّه إسقاط ، والسّاقط لا يعود كما تنصّ على ذلك القاعدة المشهورة . أمّا هبة الدّين لغير من عليه الدّين - على الخلاف والتّفصيل الّذي موطنه الهبة ، والدّين - فلا صلة له بالإبراء .
د - ( الصّلح ) :
7 - الصّلح لغةً : التّوفيق ، وهو اسم للمصالحة . وهو شرعاً : عقد به يرفع النّزاع وتقطع الخصومة بين المتصالحين بتراضيهما . ومن المقرّر فقهاً أنّ الصّلح يكون عن إقرار أو إنكار أو سكوت . فإذا كان عن إقرار ، وكانت المصالحة على إسقاط جزء من المتنازع فيه وأداء الباقي ، ففي هذه الصّورة يشبه الصّلح الإبراء ، لأنّها أخذ لبعض الحقّ وإبراء عن باقيه . أمّا إن كان الصّلح هنا على أخذ بدل فهو معاوضة . وكذلك الحال إن كان الصّلح عن إنكار أو سكوت ، وتضمّن إسقاط الجزء من حقّه ، فهو بالنّسبة للمدّعي إبراء عن بعض الحقّ ، في حين أنّه بالنّسبة للمدّعى عليه افتداء لليمين وقطع للمنازعة . وقد جعل ابن جزيّ من المالكيّة الصّلح على نوعين ، أحدهما : إسقاط وإبراء ، وقال : هو جائز مطلقاً ، والآخر : صلح على عوض ، وقال فيه : هو جائز إلاّ إن أدّى إلى حرام .
هـ - ( الإقرار ) :
8 - من معاني الإقرار في اللّغة : الإيقان والاعتراف . وأمّا تعريفه في الاصطلاح فهو : الإخبار بحقّ الغير على نفسه . والإقرار قد يرد على استيفاء الدّين ، فيكون إقراراً بالبراءة ، لأنّ الإبراء إمّا إبراء استيفاء ، وإمّا إبراء إسقاط كما سيأتي . وكلّ من الإقرار بالاستيفاء والإبراء على إطلاقه يقطع النّزاع ويفصل الخصومة . فالمراد منهما واحد ، ولذا عبّر بكلّ واحد منهما عن الآخر وإن اختلفا مفهوماً . ودعوى الإبراء تتضمّن إقراراً ، فإذا قال : أبرأتني من كذا ، أو : أبرئني ، فهو إقرار واعتراف بشغل الذّمّة وادّعاء للإسقاط ، والأصل عدمه . وعليه بيّنة الإبراء أو القضاء .
( والضّمان ) :
9 - الضّمان لغةً : الكفالة والالتزام بالشّيء . وهو عند بعض الفقهاء : التزام حقّ ثابت في ذمّة الغير أو إحضار من هو عليه . والضّمان عكس الإبراء ، فهو يفيد انشغال الذّمّة في حين يطلق الإبراء على خلوّها ، ولصلة الضّدّيّة هذه وضع الشّافعيّة أكثر أحكام الإبراء في باب الضّمان . هذا وإنّ للإبراء صلةً بالضّمان ، وهي أنّه أحد الأسباب لسقوطه ، بل إنّ له مدخلاً إلى أكثر الالتزامات من حيث إنّه يتطرّق له في سقوطها ، لأنّها إمّا أن تسقط بالوفاء - أي الأداء - أو المقاصّة ، أو الإبراء ونحو ذلك .
ز - ( الحطّ ) :
10 - الحطّ لغةً : الوضع ، أو الإسقاط . وهو في الاصطلاح : إسقاط بعض الدّين أو كلّه . فالحطّ إبراء معنًى ، ولذا قد يطلق الحطّ على الإبراء نفسه ، ولكنّه إمّا أن يقيّد بالكلّ أو الجزء . والغالب استعمال الحطّ للإبراء عن جزء من الثّمن ، أمّا الإبراء فهو عن كلّه . وقد جاء في كلام الحنفيّة وبعض الحنابلة تسمية وضع بعض الدّين إبراءً ، وهو في الحقيقة إبراء جزئيّ . وقال القاضي زكريّا الأنصاريّ من الشّافعيّة : صلح الحطيطة إبراء في الحقيقة ، لأنّ لفظ الصّلح يشعر بقناعة المستحقّ بالقليل عن الكثير . ح - ( التّرك ) :
11 - من معاني التّرك في اللّغة : الإسقاط ، يقال : ترك حقّه إذا أسقطه . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك . ومن صلته بالإبراء ما جاء لبعض الشّافعيّة من التّصريح بأنّ هبة الدّين للمدين إن وقعت بلفظ ( التّرك ) كأن يقول : تركت الدّين ، أو لا آخذه منك ، فهي كناية إبراء . ولكن نقل القاضي زكريّا القول بأنّ ذلك إبراء صريح . وهو ما جزم به النّوويّ والمقري . والتّرك يستعمل للإسقاط عموماً بحيث يحصل به ما يحصل بلفظ الإسقاط ويعطى أحكامه ، ولذا أورده الرّمليّ الشّافعيّ في عداد الألفاظ الّتي لا يحتاج الإسقاط فيها إلى قبول - كالإبراء عندهم - في حين يحتاج لفظ الصّلح إلى القبول . وقد يطلق التّرك على الامتناع من استعمال الحقّ دون إسقاطه ، كترك الزّوجة حقّها في القسم ، ومنحه للزّوجة الأخرى ، فإنّ لها الرّجوع وطلب القسم بالنّسبة للمستقبل . والغالب أن يستعمل لفظ التّرك في الدّعوى ، فالمدّعي ، في أشهر تعريفاته " من إذا ترك ( أي دعواه ) ترك " وهذا حيث لم يصدر دفع من المدّعى عليه لدعواه ، فإن حصل لم يكن للمدّعي التّرك ، لأنّه قد يقصد به الكيد للمدّعى عليه ، فيلزم بالاستمرار في الدّعوى للفصل فيها . واعتبر بعضهم هنا المدّعى عليه مدّعياً أنّه يتعرّض له في كذا بغير حقّ فله طلب دفع التّعرّض .
صفة الإبراء ( حكمه التّكليفيّ ) :
12 - الإبراء مشروع في الجملة ، وتعرض له الأحكام التّكليفيّة الخمسة المعروفة : فيكون واجباً إذا سبقه استيفاء ، لأنّ فيه اعترافاً بالبراءة لمستحقّها ، فهو من باب العدل المأمور به في قوله تعالى : { إنّ اللّه يأمر بالعدل } والمؤكّد بالحديث « على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » ومن أمثلته في باب السّلم : إذا أحضر المسلّم إليه مال السّلم الحالّ لغرض البراءة أجبر المسلّم على القبول أو الإبراء . فهذا واجب تخييريّ . وكذلك الحكم في المفلس فله إجبار الغرماء على أخذ العين إن كانت من جنس حقّهم ، أو إبرائه . وقد يكون حراماً ، كما لو جاء ضمن عقد باطل ، لأنّ استبقاء الباطل حرام ، على ما سيأتي في بطلان الإبراء . وتعرض له الكراهة فيما إذا أبرأ وارثه أو غيره عن أكثر من ثلث ماله وهو في مرض الموت حيث أجازه الورثة ، ومستند الكراهة ما في ذلك الإبراء من تضييع ورثته ، لقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقّاص حين همّ بالتّصدّق بجميع ماله : « إنّك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكفّفون النّاس » . أمّا الثّلث فقد أقرّه عليه .
13 - على أنّ الحكم الغالب له النّدب ، ولذا يقول الخطيب الشّربينيّ : « الإبراء مطلوب ، فوسّع فيه ، بخلاف الضّمان " ذلك لأنّه نوع من الإحسان ، لأنّه في الغالب يتضمّن إسقاط الحقّ عن المعسر الّذي يثقل الدّين كاهله . وحتّى إذا كان الإبراء لمن لا يعسر عليه الوفاء ، فإنّه ممّا يزيد المودّة بين الدّائن والمدين ، فلا يخلو عن معنى البرّ والصّلة ، وذلك ممّا يتناوله قول اللّه تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } وفي ذلك أحاديث كثيرة ، منها حديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنه حين قام بوفاء دين أبيه ، وخبر معاذ بن جبل وكعب بن مالك ، حين أعسرا ، حيث ثبت حضّه عليه الصلاة والسلام الدّائنين على إسقاط كلّ الدّين أو بعضه عنهم . وقد صرّح بعض الشّافعيّة بأنّ الإبراء للمعسر أفضل من القرض ، وأنّ القرض في غير هذه الحالة أفضل منه . والإبراء في غير الأحوال المشار إليها هو على أصل الإباحة الجارية في معظم العقود والتّصرّفات الّتي بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم والنّاس يتعاملون بها فأقرّهم عليها ، ولا سيّما في حالة عجز المبرّئ عن تحصيل حقّه من منكره ، لأنّ الإحسان هنا غير وارد ، لفقدان محلّه .
أقسام الإبراء :
14 - يقسّم بعض المؤلّفين الإبراء إلى قسمين : إبراء الإسقاط ، وإبراء الاستيفاء . ويعتبرون الأوّل منهما هو الجدير بالبحث تحت هذا الاسم ، في حين أنّ الثّاني ( الّذي هو عبارة عن الاعتراف بالقبض والاستيفاء للحقّ الثّابت لشخص في ذمّة آخر ) هو نوع من الإقرار . وتظهر ثمرة هذا التّقسيم في صورة الإبراء في الكفالة الواقع من الطّالب ( الدّائن ) إن جاء بلفظ « برئت إليّ من المال " برئ الكفيل والمدين كلاهما من المطالب ، ورجع الكفيل بالمال على المطلوب ، لأنّه براءة قبض واستيفاء ، كأنّه قال : دفعت إليّ . أمّا إن قال : برئت من المال ، أو أبرأتك ، بدون لفظ ( إليّ ) فلا رجوع له ، لأنّه إبراء إسقاط ، لا إقرار بالقبض . على خلاف وتفصيل موطنه الكفالة . ووجه اعتبارهما قسمين أنّ كلّاً من الإبراء والإقرار يراد به قطع النّزاع وفصل الخصومة وعدم جواز المطالبة بعدهما . فالمراد منهما واحد . ولذا عبّروا بكلّ واحد منهما عن الآخر وإن اختلفا مفهوماً . ويتبيّن أنّ هذا التّقسيم ليس للإبراء في ذاته ، وإنّما هو لثمرة الإبراء ومقصوده ، وإلاّ فإنّ الإقرار - ومنه الإقرار بالاستيفاء - غير الإبراء في الشّروط والأركان والآثار ، فإنّه يكون في الدّين والعين على حدّ سواء ، في حين يختصّ إبراء الإسقاط بالدّيون ، كما سيأتي ، وسيقتصر الكلام عليه وحده ، لأنّ تفصيل ما يتّصل بإبراء الاستيفاء موطنه مصطلح ( إقرار ) . ولم نقف في غير المذهب الحنفيّ على التّصريح بهذا التّقسيم للإبراء . وإن كانت لسائر المذاهب صور يميّزون فيها بين براءة الاستيفاء وبراءة الإسقاط . وهناك تقسيم آخر للإبراء من حيث العموم والخصوص ، تبعاً للصّيغة الّتي يرد بها ، ويظهر أثرها فما يقع عليه الإبراء . وسيأتي تفصيل ذلك تحت عنوان ( أنواع الإبراء ) بعد استيفاء الأركان . الإبراء للإسقاط أو التّمليك :
15 - اختلف الفقهاء في الإبراء ، هل هو للإسقاط أو التّمليك . وتباينت أقوال المذهب الواحد في ذلك بالنّسبة لتوجيه الأحكام ، ومع هذا فقد كان لكلّ مذهب رأي غالب في هذا الموضوع ، على النّحو التّالي : الاتّجاه الأوّل : وعليه جمهور الحنفيّة ، وهو قول لكلّ من المالكيّة والشّافعيّة ، والرّاجح عند الحنابلة ، أنّه للإسقاط . قال السّبكيّ : لو كان الإبراء تمليكاً لصحّ الإبراء من الأعيان . الاتّجاه الثّاني : ما نقله بعض الشّافعيّة وابن مفلح الحنبليّ في بعض المسائل ، أنّه تمليك من وجه . قال القاضي زكريّا : الإبراء ، وإن كان تمليكاً ، المقصود منه الإسقاط . الاتّجاه الثّالث : ما نقله ابن مفلح أيضاً ، أنّ جماعةً من الحنابلة جزموا بأنّه تمليك ، وقالوا : إن سلّمنا أنّه إسقاط ، فكأنّه ملّكه إيّاه ثمّ سقط . وهناك اتّجاه آخر ، ذهب إليه ابن السّمعانيّ من الشّافعيّة ، هو أنّ الإبراء - في غير مقابلته للطّلاق - تمليك من المبرّئ ، إسقاط عن المبرّأ ، لأنّ الإبراء إنّما يكون تمليكاً باعتبار أنّ الدّين مال ، وهو إنّما يكون مالاً في حقّ من له الدّين ، فإنّ أحكام الماليّة إنّما تظهر في حقّه ، بحيث يترتّب عليه اشتراط علم الأوّل دون الثّاني . غلبة أحد المعنيين أو تساويهما :
16 - المستفاد من كلام الفقهاء اشتمال الإبراء على كلا المعنيين : الإسقاط والتّمليك ، وفي كلّ مسألة تكون الغلبة لأحدهما ، وإن كان في بعض الصّور يتعيّن أحد المعنيين تبعاً للموضوع ، كالإبراء عن الأعيان ، فهو للتّمليك ، لأنّ الأعيان لا تقبل الإسقاط . أمّا في الدّيون الثّابتة في الذّمّة فيجري المعنيان كلاهما . فمن ذلك ما قاله ابن نجيم من أنّ الإبراء عن الدّين فيه معنى التّمليك ومعنى الإسقاط ، ومثّل لما غلب فيه معنى التّمليك بأنّه لا يصحّ تعليقه على الشّرط ، ويرتدّ بالرّدّ . ومثّل بعض الحنابلة لما غلب فيه معنى الإسقاط بأنّه لو حلف لا يهبه ، فأبرأه ، لم يحنث ، لأنّ الهبة تمليك عين ، وهذا إسقاط . وأنّه لا يجزئ الإبراء عن الزّكاة ، لانتفاء حقيقة الملك . ونقل القاضي زكريّا عن النّوويّ في الرّوضة قوله : « المختار أنّ كون الإبراء تمليكاً أو إسقاطاً من المسائل الّتي لا يطلق فيها ترجيح ، بل يختلف الرّاجح بحسب المسائل ، لقوّة الدّليل وضعفه ، لأنّ الإبراء إنّما يكون تمليكاً باعتبار أنّ الدّين مال ، وهو إنّما يكون مالاً في حقّ من له الدّين ، فإنّ أحكام الماليّة إنّما تظهر في حقّه . وممّا غلب فيه معنى التّمليك عند المالكيّة ترجيحهم اشتراط القبول في الإبراء ، كما سيأتي . على أنّ هناك ما يصلح بالاعتبارين ( الإسقاط والتّمليك بالتّساوي ) . ومنه ما نصّ عليه الحنفيّة أنّه لو أبرأ الوارث مدين مورّثه غير عالم بموته ، ثمّ بان ميّتاً ، فبالنّظر إلى أنّه إسقاط يصحّ ، وكذا بالنّظر إلى كونه تمليكاً ، لأنّ الوارث لو باع عيناً قبل العلم بموت المورّث ثمّ ظهر موته صحّ ، كما صرّحوا به ، فهنا بالأولى . اختلاف الحكم باختلاف الاعتبار :
17 - قد يختلف الحكم باختلاف اعتبار الإبراء ، هل هو إسقاط أو تمليك فمن ذلك ما صرّح به الحنفيّة فيما لو وكّل الدّائن المدين بإبراء نفسه صحّ التّوكيل ، نظراً إلى جانب الإسقاط ، ولو نظر إلى جانب التّمليك لم يصحّ ، كما لو وكّله بأن يبيع من نفسه .
( أركان الإبراء ) تمهيد :
18 - للإبراء أربعة أركان ، بحسب الإطلاق الواسع للرّكن ، ليشمل كلّ ما هو من مقوّمات الشّيء ، سواء أكان من ماهيّته ، أم خارجاً عنها ، كالأطراف والمحلّ ، وهو ما عليه الجمهور . فالأركان عندهم هنا : الصّيغة ، والمبرّئ ( صاحب الحقّ أو الدّائن ) ، والمبرّأ ( المدين ) ، والمبرّأ منه ( محلّ الإبراء من دين أو عين أو حقّ ) وركنه عند الحنفيّة هو الصّيغة فقط ، أمّا المتعاقدان والمحلّ فهي أطراف العقد وليست ركناً ، لما سبق . الصّيغة :
19 - الأصل في الصّيغة أنّها عبارة عن الإيجاب والقبول معاً في العقد ، وهي هنا كذلك عند من يرى توقّف الإبراء على القبول . أمّا من لا يرى حاجة الإبراء إليه فالصّيغة هي الإيجاب فقط .
( الإيجاب ) :
20 - يحصل إيجاب الإبراء بجميع الألفاظ الّتي يتحقّق بها المقصود منه ، وهو التّخلّي عمّا للدّائن عند المدين ، على أن يكون اللّفظ واضح الدّلالة على الأثر ( سقوط الحقّ المبرّأ منه ) ، فيحصل بكلّ لفظ يدلّ عليه صراحةً أو كنايةً محفوفةً بالقرينة ، سواء أورد مستقلّاً أم تبعاً ضمن عقد آخر . ولا بدّ أن ينتفي احتمال المعاوضة ، أو قصد مجرّد التّأخير ، كما لو قال : أبرأتك على أن تعطيني كذا ، فهو صلح بمال ، على خلاف سيأتي فيما بعد . وكذا لو قال أبرأتك من حلول الدّين ، فهو لتأخير المطالبة ، لا لسقوطها . والإبراء المطلق هو من الإسقاطات على التّأبيد اتّفاقاً . فلا يصحّ الإبراء المؤقّت ، كأن يقول أبرأتك ممّا لي عليك سنةً على ما صرّح به الشّافعيّة . وهو مستفاد عبارات غيرهم في حال الإطلاق . أمّا تقييد الإبراء بأنّه لتأخير المطالبة فهو ليس من الإبراء المطلق وإن سمّاه ابن الهمام تجوّزاً ( إبراءً مؤقّتاً ) . ومثل القول في ذلك الكتابة المرسومة المعنويّة ، أو الإشارة المعهودة ، بشروطهما المفصّلة في موطنهما .
21 - وقد أورد الفقهاء - بالإضافة إلى لفظ الإبراء الّذي اتّفقوا على حصول الإيجاب به - أمثلةً عديدةً لما يؤدّي معنى الإبراء . ولم ينصّ أحد منهم على انحصار الصّيغة فيما أشاروا إليه ، ومن تلك الألفاظ الّتي تدور عليها صيغته : الإسقاط ، والتّمليك ، والإحلال ، والتّحليل ، والوضع ، والعفو ، والحطّ ، والتّرك ، والتّصدّق ، والهبة ، والعطيّة . قال البهوتيّ : وإنّما صحّ بلفظ الهبة والصّدقة والعطيّة ، لأنّه لمّا لم يكن هناك عين موجودة يتناولها اللّفظ انصرف إلى معنى الإبراء . ثمّ نقل عن الحارثيّ قوله : لو وهبه دينه هبةً حقيقيّةً لم يصحّ ، لانتفاء معنى الإسقاط وانتفاء شرط الهبة . كما استدلّ من مثّل بلفظ العفو أو التّصدّق بقوله تعالى في شأن الإبراء من المهر { إلاّ أن يعفون أو يعفو الّذي بيده عقدة النّكاح } وقوله تعالى في شأن الإبراء من الدّية { فدية مسلّمة إلى أهله إلاّ أن يصّدّقوا } وقوله تعالى في شأن إبراء المعسر { وأن تصدّقوا خير لكم } وبقوله عليه الصلاة والسلام داعياً لإبراء الّذي أصيب في ثمار ابتاعها : « تصدّقوا عليه » وقد يحصل الإبراء بصيغة يدلّ تركيبها عليه ، كأن يقول : ليس لي عند فلان حقّ ، أو ما بقي لي عنده حقّ ، أو ليس لي مع فلان دعوى ، أو فرغت من دعواي الّتي هي مع فلان ، أو تركتها .
22 - ويستفاد ممّا أورده بعض فقهاء الحنفيّة والمالكيّة من تعقيب على ما جاء في بعض كتب المذهبين من أنّ هناك صيغاً مخصّصة للإبراء من الأمانات أو الدّيون ، وأخرى لا يحصل عموم الإبراء إلاّ بها - يستفاد أنّ المدار على العرف فيما يحصل به الإبراء أصلاً ، أو تعميماً ، أو تخصيصاً بموضوع دون آخر ، كما ينظر إلى القرائن في العبارات الّتي لها أكثر من إطلاق . ومن ذلك عبارة " برئت من فلان " الّتي تحتمل نفي الموالاة ، والبراءة من الحقوق . فإذا جرى العرف ، أو دلّت القرائن على استعمالها هي أو غيرها ممّا لم يمثّلوا به للإيجاب عن الإبراء ، كعبارة " التّنازل " أو " التّخلّي عن الحقّ » . فالعبرة في ذلك بالعرف .
( القبول ) :
23 - اختلف الفقهاء في أنّ الإبراء يتوقّف على القبول أو لا ، على اتّجاهين : أحدهما : عدم حاجة الإبراء إلى القبول ، وهو مذهب الجمهور ( الحنفيّة والشّافعيّة في الأصحّ ، والحنابلة ، وهو قول شاذّ لأشهب من المالكيّة ) فهؤلاء يرون أنّ الإبراء لا يحتاج إلى قبول ، بناءً على أنّه إسقاط للحقّ ، والإسقاطات لا تحتاج إلى قبول ، كالطّلاق ، والعتق ، وإسقاط الشّفعة والقصاص ، بل قال الخطيب الشّربينيّ من الشّافعيّة : هو المذهب ، سواء أقلنا : الإبراء إسقاط أم تمليك . الاتّجاه الآخر : حاجة الإبراء إلى القبول ، وهو القول الرّاجح في مذهب المالكيّة ، والقول الآخر للشّافعيّة . وذلك بناءً على أنّ الإبراء نقل للملك ، أي تمليك ما في ذمّة المدين له ، فيكون من قبيل الهبة ، وهي لا بدّ فيها من القبول . قال القرافيّ : يتأكّد ذلك - أي الافتقار للقبول - بأنّ المنّة قد تعظم في الإبراء ، وذوو المروءات والأنفات يضرّ ذلك بهم ، لا سيّما من السّفلة ، فجعل صاحب الشّرع لهم قبول ذلك أو ردّه ، نفياً للضّرر الحاصل من المنن من غير أهلها ، أو من غير حاجة . وبعض الشّافعيّة لا يربطون بين
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
هذا القول وبين الخلاف في معنى الإبراء ، على ما سبق .
24 - ولا فرق في الحاجة إلى القبول أو عدمها بين التّعبير بالإبراء ، أو التّعبير بهبة الدّين للمدين ، وإثبات الفرق هو ما عليه بعض الحنفيّة إذ قالوا فيها بالحاجة للقبول لما في اللّفظ من معنى التّمليك ، والمالكيّة يرونها آكد في الافتقار للقبول - على مذهبهم في الإبراء عموماً - لأنّها نصّ في التّمليك ، وهو خلاف ما عليه الشّافعيّة والحنابلة وجمهور الحنفيّة ، لنظرهم إلى وحدة المقصود بينها وبين الإبراء . هذا ، وبالرّغم ممّا هو مقرّر بين الفقهاء من اعتبار القبول محدوداً بمجلس العقد ما دام قائماً فقد اشترط الشّافعيّة الفوريّة في القبول في صورة من يوكّل في إبراء نفسه . وقد صرّح المالكيّة بجواز تأخير القبول عن الإيجاب ، ولو بالسّكوت عن القبول زماناً ، فله القبول بعد ذلك ، وقال القرافيّ : إنّه ظاهر المذهب .
25 - وقد استثنى الحنفيّة من عدم التّوقّف على القبول : العقود الّتي يشترط فيها التّقابض في المجلس ، كالصّرف ، والسّلم ( أي عن رأس مال السّلم ) فيتوقّف فيها الإبراء على القبول ، لأنّ الإبراء عن بدل الصّرف والسّلم يفوت به القبض المستحقّ ، وفواته يوجب بطلان العقد ، ونقض العقد لا ينفرد به أحد العاقدين ، بل يتوقّف على قبول الآخر ، فإن قبله برّئ وإن لم يقبله لا يبرّأ . وهذا بخلاف سائر الدّين ، لأنّه ليس فيه معنى الفسخ لعقد ثابت وإنّما فيه معنى التّمليك من وجه ، ومعنى الإسقاط من وجه آخر . أمّا الإبراء عن المسلّم فيه أو عن ثمن المبيع فهو جائز بدون قبول ، لأنّه ليس فيه إسقاط شرط .
ردّ الإبراء :
26 - ينبني اختلاف النّظر الفقهيّ في هذه المسألة على الخلاف في أنّ الإبراء إسقاط أو تمليك . والّتي يترتّب عليها حاجته للقبول أو عدم حاجته . فالحنابلة ، والشّافعيّة في الأصحّ ، والمالكيّة في المرجوح ، وهم أكثر القائلين بعدم حاجته للقبول ، ذهبوا إلى أنّه لا يرتدّ بالرّدّ ، لأنّه إسقاط حقّ كالقصاص والشّفعة وحدّ القذف والخيار والطّلاق ، لا تمليك عين ، كالهبة . ومن ذهب إلى أنّه يحتاج إلى القبول ( وهم المالكيّة في الرّاجح والشّافعيّة في قولهم الآخر ومعهم في هذا الحنفيّة الّذين راعوا ما فيه من معنى التّمليك بالرّغم من عدم توقّفه على القبول عندهم لأنّه إسقاط ) يرون أنّه يرتدّ بالرّدّ . واختلف فقهاء الحنفيّة هل يتقيّد الرّدّ بمجلس الإبراء ، أو هو على إطلاقه . والّذي في البحر والحمويّ على الأشباه إطلاق صحّة الرّدّ في مجلس الإبراء أو بعده . والرّدّ المعتبر هو ما يصدر من المبرّأ ، أو من وارثه بعد موته ، وخالف في الثّاني محمّد بن الحسن . وقد استثنى الحنفيّة مسائل لا يرتدّ فيها الإبراء بالرّدّ وهي :
1 ، 2 - الإبراء في الحوالة ( والكفالة على الأرجح ) لأنّهما متمحّضان للإسقاط ، لأنّ الإبراء إسقاط محض في حقّ الكفيل ، ليس فيه تمليك مال ، لأنّ الواجب عليه المطالبة ، والإسقاط المحض لا يحتمل الرّدّ لتلاشي السّاقط ، بخلاف التّأخير ، لعوده بعد الأجل .
3 - إذا تقدّم على الإبراء طلب من المبرّأ بأن قال أبرئني ، فأبرأه فردّ ، لا يرتدّ .
4 - إذا سبق للمبرّأ أن قبله ثمّ ردّه لا يرتدّ . المبرّئ وشروطه :
27 - الإبراء كغيره من التّصرّفات ، يشترط في المتصرّف به الأهليّة التّامّة للتّعاقد ، من عقل وبلوغ ، وتفصيله في الكلام عن الأهليّة والعقد . ولكنّ الأهليّة المطلوبة هنا هي أهليّة التّبرّع ، بأن يكون رشيداً غير محجور عليه للسّفه أو المديونيّة ، على خلاف وتفصيل موطنه عند الكلام عن ( الحجر ) . وتشترط الولاية ، لأنّ كلّ إبراء لا يخلو من حقّ يجري التّنازل عنه ( بإسقاطه أو تمليكه ) ، لذا لا بدّ من أن يصدر ذلك التّنازل من قبل صاحب الحقّ نفسه أو من يتصرّف عنه ، فلا يصحّ الإبراء إلاّ بأن يكون للمبرّئ ولاية على الحقّ المبرّأ منه ، وذلك بأن يكون مالكاً له ، أو موكّلاً بالإبراء منه ، أو متصرّفاً بالفضالة عن صاحب الحقّ ، ولحقته الإجازة من المالك ، عند من يرى صحّة تصرّف الفضوليّ . وتفصيله في مصطلح ( فضوليّ ) . والعبرة في ولاية المبرّئ على الحقّ المبرّأ منه هو بما في الواقع ونفس الأمر لا بما في الظّنّ . فلو أبرأ عن شيء من مال أبيه ظانّاً بقاء أبيه حيّاً فتبيّن أنّه كان ميّتاً حين الإبراء صحّ ، لأنّ المبرّأ منه كان مملوكاً له حين الإبراء في الواقع . ويشترط الرّضا ، فإبراء المكره لا يصحّ ، لأنّه لا يصحّ مع الهزل لما فيه من الإقرار بفراغ الذّمّة فيؤثّر فيه الإكراه . وقد صرّح الحنابلة بأنّه ممّا يشوب شريطة الرّضا أن يعلم المدين وحده مقدار الدّين ، فيكتمه عن الدّائن خوفاً من أن يستكثره فلا يبرّئه لأنّ الإبراء صادر حينئذ عن إرادة غير معتبرة . التّوكيل بالإبراء :
28 - يصحّ التّوكيل بالإبراء ولكن لا بدّ من الإذن الخاصّ به ، ولا يكفي له إذن الوكالة بعقد ما ، وقد نصّ الحنفيّة بشأن السّلم أنّه إذا أبرأ وكيل المسلّم المسلّم إليه بلا إذن لم يبرّأ المسلّم إليه . فلو قال له المسلّم إليه : لست وكيلاً والسّلم لك وأبرأتني منه ، نفذ الإبراء ظاهراً ، وتعطّل بذلك حقّ المسلّم ، وغرم له الوكيل قيمة رأس المال للحيلولة ، فلا يغرم بدل المسلّم فيه كيلاً يكون اعتياضاً عنه . كما خصّ الحنفيّة إبراء الوكيل والوصيّ فيما وجب بعقدهما ، ويضمنان . ولا يصحّ فيما لم يجب بعقدهما ، كما أنّه إذا كان الوكيل مأذوناً بالإبراء فوكّل غيره به فأجراه في حضوره أو غيبته لم يصحّ عندهم . وإن وكّله بإبراء غرمائه ، وكان الوكيل منهم لم يبرّئ نفسه ، لأنّ المخاطب لا يدخل في عموم أمر المخاطب له على الأصحّ ، فإن قال : وإن شئت فأبرئ نفسك فله ذلك كما لو وكّل المدين بإبراء نفسه .
إبراء المريض مرض الموت :
29 - يشترط أن لا يكون المبرّئ مريضاً مرض الموت ، وفيه تفصيل بحسب المبرّأ ، فإن كان أجنبيّاً والدّين يجاوز ثلث التّركة ، فلا بدّ من إجازة الورثة فيما زاد على الثّلث ، لأنّه تبرّع له حكم الوصيّة . وإذا كان المبرّأ وارثاً توقّف الإبراء كلّه على إجازة الورثة ولو كان الدّين أقلّ من الثّلث . وإذا أبرأ المريض مرض الموت أحد مديونيه ، والتّركة مستغرقة بالدّيون ، لم ينفذ إبراؤه لتعلّق حقّ الغرماء وتفصيل ذلك عند الكلام عن ( مرض الموت ) .
المبرّأ وشروطه :
30 - اتّفق الفقهاء على اشتراط العلم بالمبرّأ ، فلا يصحّ . الإبراء لمجهول . وكذلك يجب أن يكون معيّناً ، فلو أبرأ أحد مدينيه على التّردّد لم يصحّ ، خلافاً لبعض الحنابلة . فلا بدّ من تعيين المبرّأ تعييناً كافياً . كما أنّ الإقرار ببراءة كلّ مدين له لا يصحّ إلاّ إذا كان يقصد مديناً معيّناً أو أناساً محصورين . ولا يشترط في المبرّأ أن يكون مقرّاً بالحقّ ، بل يصحّ الإبراء للمنكر أيضاً ، بل حتّى لو جرى تحليف المنكر يصحّ إبراؤه بعده ، لأنّ المبرّئ يستقلّ بالإبراء - لعدم افتقاره إلى القبول - فلا حاجة فيه إلى تصديق الغريم . المبرّأ منه ( المحلّ ) وشروطه :
31 - يختلف المبرّأ منه بين أن يكون من الحقوق أو الدّيون أو الأعيان . وسيأتي الكلام عن ذلك في ( موضوع الإبراء ) . وتبعاً للاختلاف السّابق بيانه ، في أنّ الإبراء إسقاط أو تمليك أو الغالب فيه أحدهما ، اختلف الفقهاء في صحّة الإبراء من المجهول ، فمن نظر في هذه المسألة إلى معنى التّمليك اشترط العلم ، لأنّه لا يمكن تمليك المجهول ، ومن نظر إلى معنى الإسقاط ذهب إلى الصّحّة . فالاتّجاه الأوّل ، الّذي عليه جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة ورواية عند الحنابلة ) أنّ الإبراء من المجهول صحيح ، بل صرّح المالكيّة بأنّه يصحّ التّوكيل بالإبراء ، وإن كان الحقّ المبرّأ منه مجهولاً لكلّ من الثّلاثة ( الموكّل ، والوكيل ، ومن عليه الدّين ) ، لأنّ الإبراء - كما قالوا - هبة ، وهبة المجهول جائزة . ومثّلوا لذلك بما لو أبرأ ذمّة غريمه ، وهما لا يعلمان بكم هي مشغولة ، وذلك لأنّ جهالة السّاقط لا تفضي إلى المنازعة . ويقرب منه الاتّجاه الثّاني ، وهو رواية للحنابلة أيضاً ، وهو صحّة الإبراء مع الجهل إن تعذّر علمه ، وإلاّ فلا ، وقالوا : إنّه لو كتمه طالب الإبراء خوفاً من أنّه لو علمه المبرّئ لم يبرّئه لم يصحّ . أمّا الاتّجاه الثّالث ، وهو مذهب الشّافعيّة ورواية عند الحنابلة ، فهو أنّه لا يصحّ الإبراء عن المجهول مطلقاً . ولا فرق عند الشّافعيّة في المجهول بين مجهول الجنس أو القدر أو الصّفة ، حتّى الحلول والتّأجيل ومقدار الأجل . كما صرّحوا بأنّه إذا وقع الإبراء ضمن معاوضةً - كالخلع - اشترط علم الطّرفين بالمبرّأ عنه ، أمّا في غير المعاوضة فيكفي علم المبرّئ وحده ، ولا أثر لجهل الشّخص المبرّأ .
32 - وممّا صرّح به بعض الشّافعيّة أنّ المراد بالمجهول ما لا تسهل معرفته ، بخلاف ما تسهل معرفته ، كإبرائه من حصّته في تركة مورّثه ، لأنّه وإن جهل قدر حصّته ، لكن يعلم قدر تركته ، فتسهل معرفة الحصّة . وفرّقوا بينه وبين ضمان المجهول ، فلا يصحّ ، وإن أمكنت معرفته ، لأنّ الضّمان يحتاط له ، لأنّه إثبات مال في الذّمّة ، في حين أنّ الإبراء يغلب فيه معنى الإسقاط . ولا يخفى أنّ هذا التّفصيل ليس موضع خلاف ، لأنّ هذه الجهالة صوريّة . وقد استثنى الشّافعيّة من عدم صحّة الإبراء من المجهول صورتين هما : الإبراء من الدّية المجهولة ، وما إذا ذكر غايةً يتيقّن أنّ حقّه دونها ، وهي الطّريقة للإبراء من المجهول ، بأن يبرّئه عمّا يتأكّد أنّه أزيد ممّا له عليه . وقد أضاف الرّمليّ إلى هاتين الصّورتين ما لو أبرأ إنساناً ممّا عليه بعد موته ، فيصحّ مع الجهل ، لأنّه يجري مجرى الوصيّة . ومن صور المجهول : الإبراء من أحد الدّينين ، قال الحلوانيّ من الحنابلة : يصحّ ، ويؤخذ بالبيان ، كما في الطّلاق لإحدى زوجتيه . قال ابن مفلح : يعني ثمّ يقرع على المذهب .
شروط للإبراء في ذاته : أ - شرط عدم منافاته للشّرع :
33 - ممّا هو موضع اتّفاق بين الفقهاء في الجملة ، وتدلّ عليه القواعد العامّة للشّريعة ، أنّه يشترط في الإبراء أن لا يؤدّي إلى تغيير حكم الشّرع ، كإبراء من شرط التّقابض في الصّرف ، والإبراء من حقّ الرّجوع في الهبة أو الوصيّة ( على خلاف للمالكيّة في ذلك ) والإبراء من حقّ السّكنى في بيت العدّة ، وحقّ الولاية على الصّغير . لأنّ كلّ ما يؤدّي إلى تغيّر المشروع باطل ، ولا يستطيع أحد تغيير حكم اللّه . كما يشترط أن لا يؤدّي الإبراء إلى ضياع حقّ الغير ، كالإبراء من الأمّ المطلّقة عن حقّ الحضانة ، لأنّه حقّ الصّغير - مع وجود حقّ للحاضنة أيضاً - وتفصيل ذلك في أبوابه .
ب - شرط سبق الملك :
34 - يشترط سبق ملك المبرّئ للحقّ المبرّأ منه ، لأنّه لا يصحّ تصرّف الإنسان في ملك غيره دون إنابة منه ، أو فضالة عنه ( عند من يصحّح تصرّف الفضوليّ ) . وهذا الشّرط موضع اتّفاق عند الفقهاء في حالة الظّهور بمظهر المالك ، حتّى عند الّذين يجيزون تصرّف الفضوليّ ، لأنّ الفضوليّ هو من يتصرّف فيما تظهر ملكيّة غيره له ، وإلاّ كان من بيع ما لا يملك ، وهو منهيّ عنه . . . وتدلّ على هذا الشّرط عبارات الفقهاء ممّا تفصيله في ( الأهليّة ) ( والعقد ) وما قرّروه في المقاصّة بين الدّيون من أنّها تقوم على أساس ملك الدّائن للدّين في ذمّة المدين ، وأنّ المدين عند الإيفاء ملك مثل الدّين في ذمّة الدّائن ، فتقضى الدّيون بأمثالها لا بأعيانها . ومثل الإيفاء الإبراء في وروده على ما يملكه المبرّئ في ذمّة الشّخص المبرّأ . وممّا يدلّ عليه من مذهب الحنفيّة الخلاف بين أبي يوسف ومحمّد في إبراء المحال المحيل عن الدّين ، حيث لا يصحّ عند أبي يوسف ، لانتقال الدّين من ذمّة المحيل ، بناءً على أنّ الحوالة نقل الدّين والمطالبة ، خلافاً لمحمّد القائل بأنّها نقل المطالبة فقط وبقاء الدّين ، فيصادف الإبراء ذمّةً مشغولةً بالدّين . وممّن صرّح بهذا البلقينيّ من الشّافعيّة ، بقوله : « في مسألة الإبراء يملك الدّين في ذمّة من عليه ، ويملك التّصرّف فيه على الوجه المعتبر ، وقد نفذ الإبراء لحصوله في ملك المديون قهراً ممّن كان يملكه عليه " - أي عند من لا يشترط القبول كما سبق - وأصرح منه قول عميرة : « إنّ صحّة الإبراء تتوقّف على سبق الملك " ومنه قول ابن مفلح من الحنابلة عقب حديث « لا طلاق ولا عتق فيما لا يملك » والإبراء في معناهما » . ويستفاد من تصريح الدّردير بعدم صحّة الهبة وسائر التّبرّعات في مال غيره أنّه يشترط عند المالكيّة سبق ملك المبرّئ لما أبرأ منه . بل صرّح الشّافعيّة أيضاً بضرورة استقرار الملك حيث علّل الماورديّ منهم عدم صحّة الإبراء عن بدل الصّرف قبل التّقابض بأنّه إبراء ممّا لم يستقرّ ملكه عليه . وهل يشترط علم المبرّئ بملكه ما يبرّئ منه ، أم يكفي تحقّق ملكه إيّاه في نفس الأمر ولو اعتقد عدمه ، كما لو كان للأب دين على شخص ، فأبرأه منه الابن وهو لا يعلم موت أبيه ، فبان ميّتاً ، أي فظهر أنّ الابن المبرّئ يملكه في الواقع ، فالحنفيّة والحنابلة على صحّته ، وقد صرّح الحنفيّة بأنّه يصحّ سواء اعتبر الإبراء إسقاطاً أو تمليكاً ، كما سبق ، أمّا الشّافعيّة فقد اختلفوا بين كون الإبراء إسقاطاً فيصحّ أو تمليكاً ، فلا يصحّ . ولم نعثر على تصريح للمالكيّة في هذه المسألة .
الإبراء بعد سقوط الحقّ أو دفعه :
35 - الإبراء بعد قضاء الدّين صحيح ، لأنّ السّاقط بقضائه المطالبة ، لا أصل الدّين ، ولذا قالوا : الدّيّنان يلتقيان قصاصاً ( أي بطريق المقاصّة ) وذلك لأنّه تقضى الدّيون بأمثالها فتسقط مطالبة كلّ للآخر لانشغال ذمّة كلّ منهما بدين الآخر . فإذا أبرأ الدّائن المدين بعد القضاء كان للمدين الرّجوع بما أدّاه إذا أبرأه براءة إسقاط . أمّا إذا أبرأه براءة استيفاء فلا رجوع . ويعرف ذلك من الصّيغة على ما سبق بيانه في أقسام الإبراء . واختلفوا فيما إذا أطلق البراءة فاختار ابن عابدين من الحنفيّة أنّها تحمل على الاستيفاء لعدم فهم غيرها في عصره . وهذا يفيد أنّ المرجع في الإطلاق هو العرف . وعليه لو علّق طلاق المرأة بإبرائها له من المهر ثمّ دفعه لها ، لا يبطل التّعليق ، فإذا أبرأته براءة إسقاط صحّت ووقع الطّلاق ورجع عليها بما دفعه . ومثله ما لو تبرّع بقضاء دين عن إنسان ثمّ أبرأ الطّالب المطلوب على وجه الإسقاط فللمتبرّع أن يرجع عليه بما تبرّع به . وذهب الحنابلة فيما يشبه هذه الصّور إلى عدم الرّجوع حيث صرّحوا بأنّ الضّامن لو قضى الدّين ثمّ أبرأه عنه الغريم بعد قبضه لم يرجع على المضمون عنه ، وأنّه إن وهبه بعضه ففيه وجهان . ولم نعثر على رأي للمالكيّة والشّافعيّة في ذلك .
ج - وجوب الحقّ ، أو وجود سببه :
36 - الأصل أن يقع الإبراء بعد وجوب الحقّ المبرّأ منه ، لأنّه لإسقاط ما في الذّمّة ، وذلك بعد انشغالها . ولكنّه قد يأتي قبل وجوب الحقّ ، وهنا إمّا أن يكون بعد وجود السّبب الّذي ينشأ به الوجوب ، وأمّا أن يكون قبله . والفقهاء متّفقون على عدم صحّة الإبراء قبل وجود السّبب ، فوجوده شرط للصّحّة متّفق عليه ، لأنّ ما لم يوجد سبب الاستحقاق فيه ساقط أصلاً بالكلّيّة ، فلا معنى لإسقاط ما هو ساقط فعلاً ، ويكون الإبراء منه مجرّد امتناع ، وهو غير ملزم ، لأنّه وعد ، وله الرّجوع عنه والمطالبة بما أبرأ منه ، على ما سبق .
37 - وأمّا بعد وجود السّبب ففي اشتراط وجوب الحقّ وحصوله فعلاً خلاف : فذهب الجمهور ( الحنفيّة ، والشّافعيّة في الأظهر ، والحنابلة ) إلى أنّه شرط ، فلا يصحّ الإبراء قبل الوجوب وإن انعقد السّبب ، واستدلّوا بحديث « لا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك » . والإبراء في معناهما ، وقد اعتبروا ما لم يجب ساقطاً فلا معنًى لإسقاطه . وقد مثّل الحنفيّة لذلك بالإبراء عن نفقة الزّوجيّة قبل فرضها ( أي القضاء بتقديرها ) فلا يصحّ ، لأنّه إبراء قبل الوجوب - بالرّغم من وجود السّبب وهو الاحتباس - وإسقاط الشّيء قبل وجوبه لا يصحّ . ومن الأمثلة الدّقيقة الّتي أوردوها الإبراء في باب الغصب وفرّقوا في الحكم بين حالتين فيه تبعاً لوجوب ما تعلّق به الإبراء ، وذلك فيما لو أبرأ المالك الغاصب من العين المغصوبة فإنّه يبرّأ من ضمان ردّها ( أي تصبح لديه وديعةً ) لأنّ الإبراء تعلّق بضمان الرّدّ وهو حينئذ واجب . أمّا إن استهلكها الغاصب ، أو منعها من المالك بعد طلبها ، فلا أثر للإبراء ، ويضمن الغاصب قيمتها . فلم يتعلّق الإبراء بالقيمة لعدم وجوبها حال قيام العين . كما صرّحوا بعدم صحّة الإبراء عن الكفالة بالدّرك ( فيما لو تكفّل بأداء ما يموت فلان ولم يؤدّه ) لأنّ الكفالة عمّا يجب من مال بعد الموت ، والمال لم يجب للكفيل على الأصيل ، فلا يصحّ إبراؤه قبل الوجوب . ونحوه لو قال : أبرأتك عن ثمن ما تشتريه منّي غداً فلا يصحّ الإبراء أيضاً . ومثّل له الشّافعيّة بإبراء المفوّضة عن مهرها قبل الفرض ( التّقدير ) والدّخول ، ومثله الإبراء عن المتعة قبل الطّلاق ، لعدم الوجوب . واستثنوا صورةً يصحّ فيها الإبراء قبل الوجوب . وهي ما لو حفر بئراً في ملك غيره بلا إذن ، وأبرأه المالك من ذلك التّصرّف ، أو رضي ببقائها ، فإنّه يبرّأ حافرها ممّا يقع فيها . أمّا المالكيّة فقد اختلفوا في الاكتفاء بوجود السّبب ، وهو التّصرّف أو الواقعة الّتي ينشأ بها الحقّ المبرّأ منه ، ولو لم يجب الحقّ بعد ، وقد توسّع في ذلك الحطّاب في ( الالتزامات ) فعقد فصلاً لإسقاط الحقّ قبل وجوبه ، وتعرّض للمسائل المشهورة ، وكرّر الإشارة للخلاف ، واستظهر الاكتفاء بالسّبب . وممّا قال : « إذا أبرأت الزّوجة زوجها من الصّداق في نكاح التّفويض قبل البناء وقبل أن يفرض لها ، فقال ابن شاس وابن الحاجب : يتخرّج ذلك على الإبراء ممّا جرى سبب وجوبه قبل حصول الوجوب ( وذكر عبارات شتّى في هذه المسألة من حيث النّظر إلى تقدّم سبب الوجوب أو حصول الوجوب ) ثمّ قال : فهو إسقاط للحقّ قبل وجوبه بعد سببه » . ثمّ أشار الحطّاب إلى مسألة إسقاط المرأة عن زوجها نفقة المستقبل فقال : في لزوم ذلك قولان : هل يلزمها ، لأنّ سبب وجوبها قد وجد ، أو لا يلزمها ، لأنّها لم تجب بعد ؟ قولان حكاهما ابن راشد القفصيّ " ثمّ قال آخر المسألة " والّذي تحصّل من هذا أنّ المرأة إذا أسقطت عن زوجها نفقة المستقبل لزمها ذلك على القول الرّاجح » .
38 - وقد صرّح الحنفيّة والحنابلة بأنّ العبرة في وجوب الحقّ المبرّأ منه إنّما هي للواقع ، لا للاعتقاد ، فلو أبرأه وهو يعتقد أن لا شيء عليه ، ثمّ تبيّن أنّه كان له عليه حقّ صحّ الإبراء ، لمصادفته الحقّ الواجب . ولم نعثر للمالكيّة على تصريح في هذه المسألة ، وكذلك الشّافعيّة سوى الاستئناس بما سبق في شرط ( سبق الملك ) من اكتفائهم بالواقع بناءً على أنّ الإبراء إسقاط ، أو عدمه بناءً على أنّه تمليك . كما صرّح الحنابلة بصحّة الإبراء قبل حلول الدّين ، وهو مستفاد من عبارات غيرهم ، لجعلهم متعلّق الإبراء هو الحقّ الواجب لا وقت وجوبه ، ولاعتبارهم الحلول والتّأجيل صفتين ، والإبراء يتّصل بأصل وجوب الحقّ لا بصفاته ، وقد صرّحوا بأنّ الإبراء هو لسقوط المطالبة مطلقاً ، فالحقّ يعتبر واجباً ولو تأخّر حقّ المطالبة به .
موضوع الإبراء 39 - الإبراء إمّا أن يكون موضوعه ديناً في الذّمّة ، أو عيناً ( مالاً معيّناً ) أو حقّاً من الحقوق الّتي تقبل الإسقاط ، على ما سبق بيانه .
( الإبراء عن الدّين ) :
40 - اتّفق الفقهاء على أنّ الدّيون الثّابتة في الذّمم يجري فيها الإبراء ، للأدلّة السّابقة في بيان حكمه التّكليفيّ ، لأنّ الإبراء مداره إسقاط ما في الذّمم .
( الإبراء عن العين ) :
41 - الإبراء عن العين إمّا أن يكون عن دعوى العين ، أو عن العين نفسها ، وسيأتي الكلام عن الإبراء عن الدّعوى بصدد الحقوق . أمّا الإبراء عن العين نفسها بمعنى الإسقاط فهو غير صحيح اتّفاقاً ، لأنّ الأعيان لا تقبل الإسقاط ، فلا توصف بالبراءة ، فإذا أطلق هذا التّعبير فالمراد الصّحيح منه الإبراء عن عهدتها أو دعواها والمطالبة بها ، كما صرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ( أو هو ثبوت البراءة بالنّفي من الأصل ، أو بردّ العين إلى صاحبها في إبراء الاستيفاء الّذي عني به الحنفيّة ) أمّا المالكيّة فقد صرّحوا أنّ المراد سقوط الطّلب بقيمة العين إذا فوّتها المبرّأ وسقوط الطّلب برفع اليد عنها إن كانت قائمةً . وللحنفيّة هنا تفصيل بين الإبراء عن العين صراحةً ، وبين الإبراء عنها ضمناً ، أو من خلال الإبراء العامّ ، فإذا كان الإبراء ضمنيّاً كما لو جاء في عقد الصّلح ، فعلى جواب ظاهر الرّواية يصحّ الصّلح والإبراء ، ولا تسمع الدّعوى بعده ، لأنّ هذا بمعنى الإبراء عن دعوى العين لا عن العين نفسها . وعلى جواب الهداية لا يصحّ ، لأنّ الصّلح على بعض المدّعى به إسقاط للباقي ، فيكون بمعنى الإبراء عن العين مباشرةً . وإن كان الإبراء عامّاً فإنّه يشمل الأعيان وغيرها ، فالخلاف ليس في هذا . فما جاء في بعض كتب الحنفيّة كالفتاوى البزّازيّة من أنّ الإبراء متى لاقى عيناً لا يصحّ ، محمول ، كما قال ابن عابدين ، على أنّ المراد الإبراء المقيّد بالعين . ثمّ قال : ومعنى بطلان الإبراء عن الأعيان أنّها لا تصير ملكاً للمدّعى عليه ، وليس المراد أنّه يبقى على دعواه ، بل تسقط في الحكم . وبعبارة أخرى لابن عابدين : معناه أنّ للمبرّئ أخذ العين ما دامت قائمةً ، فلو هلكت سقط ( أي ضمانها ) لأنّها بالإبراء صارت وديعةً عنده ، أي أمانةً . وقد استثنى الحنفيّة من عدم تصحيح الإبراء عن العين نفسها ما لو كانت العين مضمونةً ، كالدّار المغصوبة ، فإنّ الإبراء عنها صحيح سواء أكانت هالكةً أم قائمةً ، لأنّ الهالكة كالدّين ، والقائمة يراد البراءة عن ضمانها لو هلكت ، فتصير بعد الإبراء كالوديعة ، والإبراء عن العين الّتي هي أمانة يصحّ قضاءً لا ديانةً .
الإبراء عن الحقوق :
42 - الحقوق إمّا أن تكون حقّاً خالصاً للّه عزّ وجلّ ، أو حقّاً خالصاً للعبد ، أو أن يجتمع فيها حقّ اللّه وحقّ العبد مع غلبة أحدهما . وهي إمّا ماليّة كالكفالة ، أو غير ماليّة ، كحدّ القذف . والإبراء إمّا أن يكون موضوعه حقّاً بعينه ، أو جميع الحقوق ، بحسب الصّيغة ، كما لو قال : لا حقّ لي قبل فلان ، ونحو ذلك ، ممّا يقتضي العرف استيعابه جميع الحقوق ، على الرّاجح المصرّح به عند الحنفيّة والمالكيّة من اعتبار العرف وعدم التّفرقة بين الألفاظ المختلفة في الدّلالة بحسب الوضع اللّغويّ ، كما قيل من أنّ ( عند ) ( ومع ) للأمانات ، ( وعلى ) للدّيون ، على ما سبق . وقد توسّع المالكيّة في المراد بالحقوق الماليّة حتّى جعلوها تشمل " الدّيون والقرض والقراض والودائع والرّهون والميراث ، وكذلك الحقّ المترتّب على الإتلاف كالغرم للمال " وهو إطلاق اصطلاحيّ ليس خاصّاً بهم ، فقد صرّح الحنفيّة بأنّه لو قال : لا حقّ لي قبل فلان ، يدخل العين والدّين والكفالة والجناية . فالإبراء عن الحقوق الخالصة للعبد ، كالكفالة والحوالة ، صحيح بالاتّفاق بين الفقهاء . أمّا الحقوق الخالصة للّه عزّ وجلّ ، كحدّ الزّنى فلا يصحّ الإبراء عنها . والحكم كذلك في حدّ القذف بعد طلبه ، وحدّ السّرقة بعد الرّفع للحاكم . وأمّا الحقوق الّتي غلب فيها حقّ العبد ، كالتّعزير في قذف لا حدّ فيه ، فيصحّ الإبراء عنه . وفي ذلك تفصيل وخلاف موطنه الأبواب الّتي يفصّل فيها ذلك الحقّ .
الإبراء عن حقّ الدّعوى :
43 - الإبراء عن الدّعوى إمّا أن يرد عامّاً أو خاصّاً ، وكذلك إمّا أن يحصل أصالةً أو تبعاً ، وبيانه فيما يلي : يكون الإبراء عن الدّعوى عامّاً مطلقاً إذا أسقط حقّه في المخاصمة من حيث هي تجاه شخص ما ، فهذا لا يجوز ، لأنّه يتناول الموجود وما لم يوجد بعد ، والإبراء عمّا لم يوجد سبب وجوبه باطل اتّفاقاً . ومن العامّ نسبيّاً الإبراء عن جميع الدّعاوى الّتي بينه وبين شخص إلى تاريخ الإبراء ، فهذا الإبراء صحيح ، ولا تسمع بعد ذلك دعواه بحقّ قبل الإبراء . والخاصّ ما كان عن دعوى شيء بعينه ، وهو الصّحيح اتّفاقاً ، ولا تسمع الدّعوى بعده عن تلك العين . وحقّق الشرنبلالي أنّه لا فرق في الإبراء عن دعوى العين في صورة التّغميم بين الإخبار والإنشاء ، خلافاً لمن أبطل إنشاء الإبراء عن جميع الدّعاوى ، وقصر الصّحّة على الإخبار أو الإبراء عن دعوى مخصوصة . هذا عن الدّعوى أصالةً . أمّا الإبراء عنها تبعاً فهو مال الإبراء عن العين إذ ينصرف إلى الإبراء عن ضمانها أو عن دعواها ، لأنّ الإبراء عن العين نفسها باطل ، وهي لا توصف بالبراءة على ما سبق .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
أنواع الإبراء :
44 - الإبراء على نوعين : عامّ وخاصّ . والعموم والخصوص هنا بالنّسبة لأصل الصّيغة كما سبق بيانه . أمّا العامّ فهو ما يبرّأ به عن كلّ عين ودين وحقّ ، وألفاظه كثيرة . وللعرف فيها مدخل ، على ما سبق . وقد صرّح الحنفيّة بتفصيل لفكرة العموم والخصوص لم نقف على مثله صريحاً عند غيرهم ، إذ قال الحنفيّة : يستوي في العموم أن يكون على سبيل الإخبار ، كما لو قال : هو بريء من حقّي وأن يكون على سبيل الإنشاء ، كقوله : أبرأتك من حقّي ، على ما بحثه الشرنبلالي الحنفيّ . أمّا الإبراء الخاصّ ، فله عدّة صور فيها عموم وخصوص تبعاً لموضوع الإبراء : أ - إبراء خاصّ بدين خاصّ ، كأبرأته من دين كذا ، أو بدين عامّ كأبرأته ممّا لي عليه . فيبرّأ عن الدّين الخاصّ في الصّورة الأولى وعن كلّ دين في الصّورة الثّانية ، دون التّعيّن .
ب - إبراء خاصّ بعين خاصّة ، كأبرأته عن هذه الدّار ، أو بكلّ عين ، أو خاصّ بالأمانات دون المضمونات . ( ثمّ هذا الإبراء عن العين إمّا عنها نفسها وإمّا عن دعواها وهو ما على سبيل الإنشاء أو الإخبار ، وأثر هذا سبق بيانه في موضوع الإبراء ) . والإبراء يتّبع العموم والخصوص سواء كان في أصل الصّيغة أو في الموضوع ، فلا تسمع دعوى المدّعي المبرّئ فيما تناول الإبراء . فالإبراء العامّ يدخل فيه البراءة عن كلّ حقّ ، ولو غير ماليّ كالكفالة بالنّفس والقصاص وحدّ القذف . كما يدخل ما هو بدل عمّا هو مال كالثّمن ، والأجرة ، أو عمّا ليس بمال ، كالمهر وأرش الجناية ، وما هو مضمون كالمغصوب ، أو أمانة كالوديعة والعاريّة ، على ما حقّقه الشرنبلالي .
شمول الإبراء من حيث الزّمن والمقدار :
45 - الإبراء لا يشمل ما بعد تاريخه من ديون أو حقوق ، وإنّما يقتصر على ما قبله ، فلا تسمع دعوى المبرّئ ، بعد إبرائه العامّ ، بشيء سابق لتاريخه ، وذلك للاتّفاق على اشتراط وجود سبب الاستحقاق لصحّة الإبراء على ما سبق . على أنّه إذا كان الإبراء خاصّاً بشيء معيّن فلا تسمع الدّعوى به أصلاً ، وهذا إذا ادّعاه لنفسه ، أمّا لو ادّعاه لغيره بوكالة أو وصاية فإنّ دعواه تسمع ، بخلاف ما لو أقرّ بعين لغيره ، فكما لا يملك أن يدّعيها لنفسه لا يملك أن يدّعيها لغيره بوكالة أو وصاية . ولا يشمل الإبراء ضمان الاستحقاق ، لعدم تناوله ذلك الضّمان الحادث بعد الاستحقاق وبعد الحكم بالرّجوع به ، وكلّ ذلك لا حقّ بعد الإبراء . وقد عبّر عن هذا الشّمول وحدوده قاضي خان في فتاواه بقوله : « البراءة السّابقة لا تعمل في الدّين اللاّحق » . وممّا صرّح به المالكيّة هنا أنّه لا تقبل دعوى المبرّئ أنّ الإبراء إنّما كان ممّا وقعت فيه الخصومة فقط ، وكذا إذا قال : ليس قصدي عموم الإبراء بل تعلّقه بشيء خاصّ ، وهو كذا ، فلا يقبل منه . وخالف في ذلك الحنابلة ، ففي ادّعاء استثناء بعض الدّين بقلبه يقبل ، ولخصمه تحليفه . ولا بدّ من الإثبات بالبيّنة أنّ الحقّ المدّعى به حصل بعد الإبراء لتقبل دعواه به ، كما لا تقبل دعواه الجهل بقدر المبرّأ منه إلاّ ببيّنة ، وكذلك دعوى النّسيان . أمّا الشّافعيّة فقد فصّلوا في الجهل بين ما إذا باشر سبب الدّين بنفسه ، أو روجع إليه عند السّبب فإنّه لا يقبل ، وإلاّ فيقبل ، وفي دعوى النّسيان يصدّق بيمينه .
سريانه من حيث الأشخاص . 46 - للإبراء - عدا شموله الزّمنيّ - سريان لغير المبرّأ أحياناً . ومن أمثلته ما لو أبرأ البائع المشتري من بعض الثّمن ، فقد ذهب أبو حنيفة إلى أنّ الشّفيع يستفيد من ذلك الإبراء ، فيسقط عنه مقدار ما حطّه البائع عن المشتري . ونحوه مذهب مالك ، وهو أنّ الباقي بعد الإبراء إن كان يصلح ثمناً ( بأن كان الإبراء عن الأقلّ ) استفاد الشّفيع من الإبراء ، بخلاف ما لو كان الإبراء عن الأكثر ، فإنّه يأخذ بالثّمن المسمّى كلّه قبل الحطّ . وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ الإبراء يصحّ ولا يستفيد منه سوى المشتري ، أمّا الشّفيع فيأخذ بالثّمن كلّه أو يترك . ومن ذلك الكفالة ، فإنّ إبراء الأصيل يسري إلى الكفيل ، بخلاف ما لو أبرأ الكفيل فإنّه يبرّأ وحده ، لأنّ إبراءه إسقاط للوثيقة ، وهي لا تقتضي سقوط أصل الدّين ، وهذا إن أبرأه من الضّمان ، أمّا إن أبرأه من الدّين فينبغي على ما قال الرّمليّ الشّافعيّ براءة الأصيل ، لأنّ الدّين واحد ، وإنّما تعدّدت محالّه . وكذلك إن تكرّر الكفلاء وتتابعوا ، فإنّ إبراء غير الأصيل من الملتزمين يستفيد منه من بعده ، لأنّهم فرعه ، لا من قبله ، لأنّ الأصيل لا يبرّأ ببراءة فرعه . وفي الغصب إن أبرأ غاصب الغاصب برئ الأوّل أيضاً ، أمّا إن أبرأ الغاصب الأوّل فقط فلا يبرأ الثّاني .
التّعليق والتّقييد والإضافة في الإبراء :
47 - من المقرّر أنّ التّعليق هو ربط وجود الشّيء بوجود غيره ، فهو مانع للانعقاد ما لم يحصل الشّرط . أمّا التّقييد فلا صلة له بالانعقاد ، بل هو لتعديل آثار العقد الأصليّة ويسمّى الاقتران بالشّرط . وأمّا الإضافة فهي لتأخير بدء الحكم إلى زمن مستقبل . وقد جاءت بعض الصّور المتشابهة مع اختلاف حكمها بسبب اعتبارها تعليقاً أو تقييداً للتّجوّز في تسميتها على الحالين تعليقاً على الشّرط نظراً لوجود الشّرط فيهما . أ - ( التّعليق على شرط ) :
48 - تعليق الإبراء إن كان على شرط كائن بالفعل فهو في حكم المنجز ، وإن كان على الموت ، فهو كالإضافة لما بعد الموت وسيأتي حكمها . وإن كان على شرط ملائم كقوله : إن كان لي عليك دين ، أو إن متّ ، فأنت بريء ، فهذا جائز اتّفاقاً . وقد احتجّ لجوازه بأنّ أبا اليسر الصّحابيّ قال لغريمه : إن وجدت قضاءً فاقض ، وإلاّ فأنت في حلّ ، ولم ينكر ذلك عليه . قال ابن مفلح : وهذا متّجه ، واختاره شيخنا ( يعني ابن تيميّة ) . وأمّا التّعليق على شرط من غير ما سبق فللفقهاء في حكم الإبراء المعلّق عليه آراء : أحدها : عدم الجواز ولو كان الشّرط متعارفاً عليه . وهذا مذهب الحنفيّة والشّافعيّة ، والرّواية المنصوصة عن أحمد ، لما في الإبراء من معنى التّمليك ، والتّعليق مشروع في الإسقاطات المحضة لا في التّمليكات ، فإنّها لا تقبل التّعليق . الثّاني : جواز التّعليق إذا كان الشّرط متعارفاً عليه ، وعدم الجواز في عكسه ، وهو رأي لبعض الحنفيّة . الثّالث : جواز التّعليق مطلقاً ، وهو مذهب المالكيّة ورواية عن أحمد ، وذلك لما في الإبراء من معنى الإسقاط .
ب - ( التّقييد بالشّرط ) :
49 - أورد البابرتيّ من الحنفيّة ضابطاً للتّمييز بين ما فيه تقييد بالشّرط عمّا فيه تعليق عليه ، من جهة اللّفظ والمعنى ، أمّا اللّفظ فهو أنّ التّقييد بالشّرط لا تظهر فيه صورة الشّرط ( على غير ما ينبئ عنه اسمه ) فلا تأتي فيه أداة الشّرط ، ومثاله أن يقول : أبرأتك على أن تفعل كذا . . . أمّا التّعليق على الشّرط فتستعمل فيه أداة شرط كقوله : إن فعلت كذا فأنت بريء . وأمّا من حيث المعنى ففي التّقييد بالشّرط الحكم ثابت في الحال على عرضيّة الزّوال إن لم يوجد الشّرط ، وفي التّعليق : الحكم غير ثابت في الحال ، وهو بعرض أن يثبت عند وجود الشّرط . وقد فرّق بينهما الكاسانيّ بما هو أوجز قائلاً : التّعليق هو تعليق العقد ، والتّقييد هو تعليق الفسخ بالشّرط . وقد ذهب إلى صحّة تقييد الإبراء بالشّرط في الجملة الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة تبعاً لتفصيل كلّ مذهب بالنّسبة للحكم على الشّرط بالصّحّة ، على ما هو مفصّل في الكلام عن ( الشّرط ) .
ج - ( الإضافة ) :
50 - صرّح الحنفيّة بأنّ إضافة الإبراء ( إلى غير الموت ) ، ولو إلى وقت معلوم ، تبطله . ولم نعثر على تصريح لغيرهم بقبول الإبراء للإضافة ، مع إفادة عبارات الفقهاء أنّ الأصل في الإبراء هو التّنجيز . على أنّه يستفاد منع إضافة الإبراء من تصريحهم بأنّ الإبراء للإسقاط الّذي فيه معنى التّمليك ، والتّمليك لا يحتمل الإضافة للوقت . ولا نعلم خلافاً في تصحيح إضافة الإبراء إلى ما بعد الموت فقط ، لأنّه وصيّة بالإبراء .
الإبراء بشرط أداء البعض :
51 - تأتي هذه المسألة على وجوه : إمّا أن تحصل مطلقةً عن الشّرط ، كأن يعترف له بدين في ذمّته ، فيقول الدّائن : قد أبرأتك من نصفه أو جزء معيّن منه ، فأعطني الباقي ، فالإبراء صحيح اتّفاقاً لأنّه منجز غير معلّق ولا مقيّد بشرط ، والمبرّئ متطوّع بإسقاط بعض حقّه بطيب من نفسه فذلك جائز . واستدلّ بالأحاديث في الوضع عن جابر ، وعن الّذي أصيب في حديقته ، وعن ابن أبي حدرد حيث قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لكعب : « ضع الشّطر من دينك » . وإمّا أن يكون فيها الإبراء عن البعض معلّقاً على أداء الباقي ، وقد سبق حكم تعليق الإبراء . وإمّا أن يكون فيها الإبراء مقيّداً بشرط أداء الباقي ، مثل أن يقول من له على آخر ألف : أبرأتك عن خمسمائة ، بشرط أن تعطيني ما بقي .
52 - وللفقهاء في هذه الصّورة الأخيرة آراء : أحدها : الصّحّة مطلقاً ، وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، لأنّه استيفاء البعض وإبراء عن الباقي . واشترط الشّافعيّة الجمع بين لفظي الإبراء والصّلح ، ليكون من أنواع الصّلح ، ومع ذلك لا يحتاج لقبول نظراً للفظ الإبراء لكنّ الحنفيّة قالوا : إن لم يقيّد أداء البعض المعجّل بيوم معيّن ، برئ أعطاه الباقي أو لم يعط ، وإن قيّد أداء البعض ، المعجّل بيوم ، قائلاً له : إن لم تنقدني فيه فالمال على حاله ، ثمّ لم ينقده ، لم يبرأ ، فإن لم يذكر العبارة الأخيرة واكتفى بتحديد اليوم ، ففيه خلاف : فعند أبي حنيفة ومحمّد حكمه كما لو قالها ، وعند أبي يوسف : حكمه كالأوّل المطلق عن التّحديد . وذهب الحنابلة إلى عدم صحّة الإبراء المقيّد بشرط أداء البعض ، لأنّه إبراء عن بعض الحقّ لأنّه ما أبرأه عن بعض حقّه إلاّ ليوفّيه بقيّته ، فكأنّه عاوض بعض حقّه ببعض . هذا كلّه إن كان الشّرط أداء الباقي ، أمّا إن أبرأه عن البعض بشرط تعجيل الباقي فقد صرّح الشّافعيّة بأنّه غير صحيح لأنّه يشبه ربا الجاهليّة ، فإن عجّل ذلك البعض بغير شرط ، فأخذه منه وأبرأه ممّا بقي ، فإنّه يصحّ .
الإبراء بعوض :
53 - تعرّض الشّافعيّة لمسألة بذل العوض على الإبراء فذهبوا إلى جواز ذلك ، كأن يعطيه ثوباً مثلاً في مقابلة الإبراء ممّا عليه من الدّين ، فيملك الدّائن العوض المبذول له بالإبراء ، ويبرأ المدين . وقالوا : أمّا لو أعطاه بعض الدّين على أن يبرّئه من الباقي ، فليس من التّعويض في شيء ، بل ما قبضه بعض حقّه ، والباقي في ذمّته لكنّهم صوّروا وقوع ذلك بالمواطأة منهما قبل العقد ، ثمّ دفع ذلك قبل البراءة أو بعدها ، فلو قال : أبرأتك على أن تعطيني كذا ، فقد قيل في ذلك بالبطلان . أمّا الحنفيّة فإنّهم يخرجون مسألة الإبراء على عوض ، على أنّها صلح بمال . ولم نعثر على رأي بقيّة المذاهب في ذلك ، ولعلّ ما جاء في مسألة الإبراء عن بعض الدّين بأداء بعضه يؤخذ منه حكمها إذا كان العوض من جنس الدّين ، فإن لم يكن كذلك فهي من التّقييد بالشّرط ، وقد سبق بيانه .
الرّجوع عن الإبراء :
54 - قد يرجع المبرئ عن الإبراء بعد صدور الإيجاب فقط ، أو بعده وبعد القبول وعدم الرّدّ على ما سبق بيانه . ففي أثر هذا العدول رأيان للفقهاء : ذهب الحنفيّة والحنابلة - وهو قول للشّافعيّة - إلى أنّه لا يستفيد من رجوعه شيئاً ، لأنّ ما كان له سقط بالإبراء ، والسّاقط لا يعود ، ولا بقاء للدّين بعده ، فأشبه ما لو وهبه شيئاً فتلف . وذهب المالكيّة والشّافعيّة على القول الآخر إلى أنّه يفيد فيه الرّجوع ، وذلك تغليباً لمعنى التّمليك في الإبراء واشتراط القبول له ، حيث إنّ للموجب في عقود التّمليك أن يرجع عن إيجابه ما لم يتّصل به القبول . . . لكنّ النّوويّ اختار عدم الرّجوع ولو قيل : إنّه تمليك . وممّا يتّصل بالرّجوع ما صرّح به الحنفيّة من أنّ الإبراء لا تجري فيه الإقالة ، بناءً على أنّ الإبراء إسقاط ، فيسقط به الحقّ من الذّمّة ، ومتى سقط لا يعود ، طبقاً للقاعدة المعروفة ( السّاقط لا يعود ) .
بطلان الإبراء وفساده :
55 - الإبراء إمّا أن يبطل أصالةً لتخلّف ركن من أركانه ، أو شرط من شروط تلك الأركان ، وإمّا أن يفسد لاقترانه بشرط مفسد على الخلاف في ذلك . وبيانه في ( البطلان والفساد ) . وإمّا أن يكون البطلان لتضمّن وهو أن يكون الإبراء ضمن عقد فيرتبط مصيره به ، فإذا بطل ذلك العقد بطل الإبراء . وقد ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه يبطل الإبراء إذا بطل العقد الّذي تضمّنه ، وهذا إذا كان الإبراء خاصّاً بذلك العقد ، وبني عليه الإبراء - أو ، بتعبير الشّافعيّة : ارتبط به ، سواء أكان عقد بيع أم صلح ، لما عرف في القاعدة المشهورة : إذا بطل الشّيء بطل ما في ضمنه ، أو : إذا بطل المتضمّن ( بكسر الميم ) بطل المتضمّن ( بالفتح ) . أمّا إذا كان الإبراء عامّاً عن كلّ حقّ ودعوى فلا يبطل ، وكذلك إذا كان الإبراء خاصّاً لكنّه لم يبن على العقد الفاسد ، بأن قال المبرئ : أبرأته عن تلك الدّعوى إبراءً غير داخل تحت الصّلح ، فإنّه لا يبطل الإبراء ببطلان الصّلح ، على ما حقّقه ابن عابدين .
أثر الإبراء :
56 - يترتّب على الإبراء المستوفى أركانه وما يتّصل بها من شروط أن تبرأ ذمّة المدين المبرإ عمّا أبرئ منه بحسب الصّيغة عموماً أو خصوصاً . وبذلك يسقط عنه ولا يبقى للدّائن حقّ المطالبة ، فلا تسمع دعواه فيما تناوله الإبراء ، وذلك إلى حين وقوعه ، دون ما يحدث بعده ، فلا تقبل دعواه بحقّ مستنداً إلى نسيان أو جهل . ولا يقتصر تصوير الأثر المترتّب على الإبراء بسقوط الدّين أو الحقّ وعدم المطالبة ، بل قد يرافق ذلك أثر خاصّ مناسب لموضوع الإبراء . يتّضح من الأمثلة التّالية لمذهب أو آخر : ففي الرّهن مثلاً ينفكّ بالإبراء ، ويستردّه الرّاهن كما لو أدّى ما عليه ، أمّا إبراء المرتهن للجاني فلا أثر له ، لعدم صحّة الإبراء ، ومع هذا لا يسقط به حقّه من الوثيقة في الأصحّ عند الشّافعيّ . هذا وإنّ للإبراء من الأثر ما لقبض الحقّ المبرإ منه ، فمثلاً لو أحيل البائع بالثّمن على مدين للمشتري ثمّ أبرأ البائع المحال عليه من الدّين قبل الفسخ فإنّ ذلك كقبضه له في الأحكام من حيث إعادة المقبوض بسبب الفسخ ، فهنا للمشتري مطالبة البائع بمثل المحال به الّذي أبرئ منه . 57 - وقد استثنى الحنفيّة من الأثر التّبعيّ للإبراء ، وهو عدم سماع الدّعوى بعده ، المسائل التّالية :
1 - ادّعاء ضمان الدّرك في البيع السّابق للإبراء ، لأنّه وإن كان البيع متقدّماً على الإبراء ومشمولاً بأثره ، فإنّ ضمان الدّرك متأخّر عنه ، وهذا من قبيل الاستحسان .
2 - ظهور شيء من الحقوق للقاصر ، لم يكن يعلم به ، وذلك بعد أن بلغ فأبرأ وصيّه إبراءً عامّاً بأن أقرّ أنّه قبض تركة والده ولم يبق له حقّ منها إلاّ استوفاه ، فإن ادّعى في يد الوصيّ شيئاً من تركة أبيه وبرهن يقبل .
3 - ادّعاء الوصيّ على رجل ديناً للميّت بعد إقراره باستيفاء جميع ماله على النّاس .
4 - ادّعاء الوارث على رجل ديناً للمورّث بعد إقراره على النّحو السّابق . ووجه استثناء هذه الصّور أنّ موضوع الإبراء فيها قد اكتنفه خفاء يعذر به المبرئ في دعواه مع صدور الإبراء العامّ عنه ، كما أنّ الصّورتين الأخيرتين هما من إبراء الاستيفاء أي الإقرار بالبراءة . 58 - هذا ، وأنّ سقوط المبرإ منه - كأثر للإبراء - إنّما هو بالنّسبة للقضاء ، أي في الدّنيا ، أمّا الأثر الأخرويّ ، أي في الدّيانة ، فقد اختلف رأي الحنفيّة في سقوطه ، فقيل : تسقط به الدّعوى قضاءً لا ديانةً ، وقيل تسقط ديانةً أيضاً ، فقد صرّح ابن عابدين أنّه في الصّلح على بعض الدّين إنّما يبرأ عن باقيه في الحكم لا في الدّيانة ، فلو ظفر به أخذه . وأنّه في الإبراء العامّ مع جهل المبرإ منه يبرأ من الكلّ قضاءً ، أمّا في الآخرة فلا يبرأ إلاّ بقدر ما يظنّ أنّ له عليه . وللمالكيّة قولان في الأثر الأخرويّ للإبراء مع الإنكار . أوّلهما : وهو ما صرّح به ابن تيميّة أيضاً في استحلال الغاصب : أنّه يبرّأ ، فلا يؤاخذ بحقّ جحده وأبرأه صاحبه منه . ويتّصل بهذا الاتّجاه ما ذهب إليه الشّافعيّة في الإبراء من المجهول ( الّذي لم يصحّحوه ) من أنّه يبرّأ به في الآخرة ، لأنّ المبرّئ راض بذلك . والقول الآخر للمالكيّة : لا تسقط عنه مطالبة اللّه في الآخرة بحقّ خصمه .
سماع الدّعوى بعد الإبراء العامّ :
59 - سبقت الإشارة إلى أنّ الأثر التّبعيّ للإبراء هو منع ذلك ، ولكن ذكر الحنفيّة التّفصيل التّالي الّذي لم نعثر لغيرهم على مثله : إن كان الإبراء العامّ عن الدّين فلا تسمع الدّعوى بعده إلاّ عن دين حادث بعد الإبراء . أمّا إن كان عن عين فلا تسمع الدّعوى بعده إذا كان المدّعى عليه منكراً كون العين للمدّعي لأنّه لم يتمسّك بالإبراء بل بالإنكار ، فيكون الإبراء من المدّعي موافقةً على ذلك الإنكار ، فإن كان المدّعى عليه مقرّاً بأنّ العين للمدّعي ، وقد تمسّك بالإبراء الصّادر عنه ، فإنّ العين إذا كانت قائمةً تسمع الدّعوى بها بعد الإبراء عنها . ( أمّا إن كانت هالكةً فهو إبراء عن ضمانها ، وذلك كالدّين ، فلا تسمع الدّعوى به بعد الإبراء . ) .
أثر الإقرار بعد الإبراء
60 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة - على الظّاهر من كلام الحطّاب - إلى أنّه إذا أبرأ المدّعي المدّعى عليه المنكر من الدّين إبراءً عامّاً ، ثمّ أقرّ المبرّأ بالدّين للمدّعي لم يعتبر الإقرار ، لأنّ الدّين قد سقط بالإبراء ، والسّاقط لا يعود . وهناك اتّجاه ثان لبعض المالكيّة ، وهو الّذي أفتى به النّاصر اللّقانيّ وأخوه الشّمس اللّقانيّ أنّه يعمل به لأنّه بمنزلة إقرار جديد . واستثنى ابن نجيم من ذلك ما لو أقرّ لزوجته بمهرها بعد هبتها إيّاه له ، على ما هو المختار عند الفقيه أبي اللّيث ، فيجعل زيادةً إن قبلت ، والأشبه خلافه لعدم قصد الزّيادة . ويختلف أثر الإقرار أيضاً عند الحنفيّة في مسألة الإبراء من الدّين عن مسألة الإبراء من العين فيها لو أقرّ المبرّأ للمبرّئ بالعين بعد الإبراء سلّمها إليه ولا يمنع الإبراء من سماع الدّعوى للمبرّئ تصحيحاً للإقرار ، لتجدّد الملك في العين .
إبراد
التّعريف
1 - من معاني الإبراد في اللّغة : الدّخول في البرد ، والدّخول في آخر النّهار . وعند الفقهاء هو : تأخير الظّهر إلى وقت البرد . وقد يطلق الإبراد ويراد منه إمهال الذّبيحة حتّى تبرد قبل سلخها . ويبدأ الإبراد بالظّهر بانكسار حدة الحرّ ، وبحصول فيء ( ظلّ ) يمشي فيه المصلّي . وفي مقداره خلاف بين الفقهاء يذكر في أوقات الصّلاة . الحكم الإجماليّ :
2 - الإبراد رخصة ، وهو مستحبّ في صلاة الظّهر في شدّة الحرّ صيفاً في البلاد الحارّة لمريد الجماعة في المسجد باتّفاق ، لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم : « أبردوا بالصّلاة ، فإنّ شدّة الحرّ من فيح جهنّم » . فإذا تخلّف أحد القيود السّابقة ففي استحباب الإبراد خلاف وتفصيل .
( مواطن البحث )
3 - الإبراد بالظّهر ، وبأذانه ، وبالجمعة ، يذكر في الصّلاة ( أوقاتها ) . وإبراد الذّبيحة قبل السّلخ يذكر في الذّبائح .
أبرص
انظر : برص .
إبريسم
انظر : لباس .
إبضاع
التّعريف
1 - الإبضاع مصدر أبضع ، ومنه البضاعة . والبضاعة من معانيها القطعة من المال ، أو هي طائفة من المال تبعث للتّجارة . وأبضعه البضاعة أعطاه إيّاها . ويعرّف الفقهاء الإبضاع بأنّه بعث المال مع من يتّجر به تبرّعاً ، والرّبح كلّه لربّ المال . هذا والأصل أن يكون الإبضاع تبرّعاً من العامل . واعتبره المالكيّة إبضاعاً ولو كان بأجر . ويطلق الفقهاء لفظ البضاعة على المال المبعوث للاتّجار به ، والإبضاع على العقد ذاته ، وقد يطلقون البضاعة ويريدون بها العقد .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - القراض : ويسمّى عند أهل العراق المضاربة ، وهو دفع الرّجل ماله إلى آخر ليتّجر فيه ، على أن يكون للعامل جزء شائع من الرّبح . فالقراض شركة في الرّبح بين ربّ المال والعامل ، بينما الإبضاع لا يحمل صورة المشاركة ، بل صورة التّبرّع من العامل في التّجارة لربّ المال دون مقابل . القرض : وهو لغةً القطع . وعرّفه الفقهاء بأنّه دفع المال إرفاقاً لمن ينتفع به ويردّ بدله . وهو نوع من السّلف ، فيصحّ بلفظ قرض وسلف . الوكالة : وهي في اللّغة التّفويض . وعرّفها الفقهاء بأنّها إقامة الإنسان غيره مقام نفسه فيما يقبل الإنابة . والوكالة عامّة في كلّ ما تصحّ النّيابة فيه ، لكنّ الإبضاع قاصر على ما يدفعه ربّ المال للعامل ليتّجر فيه ، فهو وكيل في هذا فقط .
صفة الإبضاع ( حكمه التّكليفيّ ) :
3 - الإبضاع عقد جائز لأنّه يتمّ على وجه لا غرر فيه . وإذا كانت المضاربة ، مع ما فيها من شبهة غرر ، جائزةً ، فمن باب أولى أن يقع الإبضاع جائزاً ، سواء أكان عقده مستقلّاً أم تابعاً لعقد المضاربة ، كأن دفع العامل المال بضاعةً لعامل آخر ، فهو عقد صحيح ، لأنّ الإبضاع سبيل لإنماء المال بلا أجر ، وهذا ممّا يرتضيه ربّ المال .
حكمة تشريعه :
4 - الإبضاع من عادة التّجّار ، والحاجة قد تدعو إليه ، لأنّ ربّ المال قد لا يحسن البيع والشّراء ، أو لا يمكنه الخروج إلى السّوق ، وقد يكون له مال ولا يحسن التّجارة فيه ، وقد يحسن ولا يتفرّغ وقد لا تليق به التّجارة ، لكونه امرأةً ، أو ممّن يتغيّر بها ، فيوكّل غيره . وما الإبضاع إلاّ توكيل بلا جعل ، فهو حينئذ سبيل للمعروف وتآلف القلوب وتوثيق الرّوابط ، خصوصاً بين التّجّار . وكما أنّ عقد الإبضاع سبيل لإنماء مال ربّ المال ، فقد يكون سبيلاً لإنماء مال العامل المتبرّع ، وذلك إذا دخل العامل مع ربّ المال بالنّصف مثلاً ، كأن يقدّم ربّ المال ألفاً والعامل ألفاً ، ويكون الرّبح مناصفةً بينهما ، فالمشاركة هنا تزيد في رأس المال ، وبالتّالي تزيد الأرباح ، وفي ذلك ما فيه من مصلحة العامل . فيكون العامل هنا استخدم مال ربّ المال ، وهو النّصف ، وردّ له أرباحه متبرّعاً بعمله ، واستفاد هو من مشاركة مال ربّ المال في زيادة رأس ماله ، ومن ثمّ يزيد ربحه .
صيغة الإبضاع :
5 - أجمع الفقهاء على اعتبار الصّيغة ، وهي الإيجاب والقبول ، ركناً في كلّ عقد . وتفصيل الكلام في ذلك يرجع إليه عند الكلام على العقد . وأمّا ما يتّصل بالإبضاع فإنّ الصّيغة اللّفظيّة قد تكون صريحةً بلفظ الإبضاع ، أو البضاعة ، وقد تكون غير صريحة ، كأن يقول : خذ هذا المال مضاربةً ، على أن يكون الرّبح كلّه لي . وهذه الصّورة محلّ خلاف بين الفقهاء . فذهب الحنابلة إلى أنّ هذا العقد لا يصحّ ، واعتبروا ذلك من باب التّناقض ، لأنّ قوله " مضاربةً " يقتضي الشّركة في الرّبح ، وقوله " الرّبح كلّه لي " يقتضي عدمها ، فتناقض قوله ، ففسدت المضاربة ، ولأنّه اشترط اختصاص أحدهما بالرّبح ، وهذا شرط يناقض العقد ففسد ، ولأنّ اللّفظ الصّريح في بابه لا يكون كنايةً في غيره ، فالمضاربة لا تنقلب إبضاعاً ولا قرضاً . وعلى هذا اعتبروا هذا العقد مضاربةً فاسدةً . وذهب الحنفيّة إلى أنّ هذا إبضاع صحيح ، لوجود معنى الإبضاع هنا ، فانصرف إليه ، كما لو قال : اتّجر به والرّبح كلّه لي ، وذلك لأنّ العبرة في العقود لمعانيها . والمالكيّة أجازوا اشتراط ربح القراض كلّه لربّ المال أو للعامل في مشهور مذهب مالك ، أو لغيرهما في المدوّنة ، لأنّه من باب التّبرّع ، لكنّهم لا يقولون كما قال الحنفيّة : إنّ العقد بهذه الصّورة إبضاع ، بل يقولون : إنّ إطلاق القراض عليه مجاز . ومن هنا يتبيّن أنّ المالكيّة رأيهم كرأي الحنفيّة وإن كانوا يخالفون في التّسمية . وعلى هذا فإنّ من اعتبر مثل هذا العقد صحيحاً فلا يرى أنّ العامل يستحقّ شيئاً بل هو متبرّع بالعمل . وأمّا من اعتبره فاسداً فيوجب له أجر المثل . وبعض الشّافعيّة اعتبر حال العامل ، فإن كان يجهل حكم الإبضاع وأنّه لا يوجب له أجراً ولا جزءاً من الرّبح فإنّهم يرون أنّ له أجر المثل . وينسب هذا الرّأي إلى ابن عبّاس . وجهل مثل هذا الحكم ممّا يعذر به بعض النّاس .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ما يترتّب على الإبضاع بلفظ المضاربة :
6 - يذكر الحنابلة أنّ ربّ المال إذا قال للعامل : خذ هذا المال مضاربةً ولي ربحه كلّه ، لم يصحّ مضاربةً . ولا أجرة له على الصّحيح لأنّ العامل رضي بالعمل بغير عوض فأشبه ما لو أعانه في شيء ، وتوكّل له بغير جعل . الإبضاع بألفاظ أخرى :
7 - يتحقّق الإبضاع بعبارات تدلّ عليه ، ولو لم يصرّح بلفظ الإبضاع . منها قول ربّ المال : خذ هذا المال واتّجر فيه ، أو تصرّف فيه ، أو خذه والرّبح كلّه لي . فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ العقد يكون إبضاعاً ، لأنّ اللّفظ في هذه الأحوال يحتمل القراض والقرض والإبضاع ، وقد قرن به حكم الإبضاع ، وهو أنّ الرّبح كلّه لربّ المال ، فينصرف إلى الإبضاع . وهو ما يفهم من قواعد الحنفيّة والمالكيّة . كما يتحقّق في صورة ما إذا دفع إليه ألفاً وقال : أضف إليه ألفاً من عندك ، واتّجر فيه ، والرّبح بيننا نصفان ، فإنّه يكون إبضاعاً على ما سبق ( ف 4 ) اجتماع الإبضاع والمضاربة :
8 - إذا دفع نصف المال بضاعةً ونصفه مضاربةً فقبض المضارب على ذلك فهو جائز ، والمال على ما سمّيا من المضاربة والإبضاع ، والخسارة على ربّ المال ، ونصف الرّبح لربّ المال ، ونصفه الآخر على ما شرطا ، لأنّ الشّيوع لا يمنع من العمل في المال مضاربةً وبضاعةً ، وجازت المضاربة والبضاعة . وإنّما كانت الخسارة على ربّ المال لأنّه لا ضمان على المبضع والمضارب في البضاعة والمضاربة ، وحصّة البضاعة من الرّبح لربّ المال خاصّةً لأنّ المبضع لا يستحقّ الرّبح .
( شروط الصّحّة ) :
9 - شروط صحّة الإبضاع لا تخرج في الجملة عمّا اشترط في صحّة المضاربة ما عدا الشّروط المتعلّقة بالرّبح ، ولكن يشترط في العامل أن يكون من أهل التّبرّع . وللتّفصيل يرجع إلى مصطلح ( مضاربة ) . من يملك إبضاع المال :
10 - الّذي يملك إبضاع المال : أ - المالك : للمالك أن يدفع المال للعامل بضاعةً ، وهذه هي الصّورة الأصليّة للإبضاع .
ب - المضارب : للمضارب ( العامل ) أن يدفع المال بضاعةً لآخر ، لأنّ المقصود من عقد المضاربة الرّبح ، والإبضاع طريق إلى ذلك ، ولأنّه يملك الاستئجار ، فالإبضاع أولى ، لأنّ الاستئجار استعمال في المال بعوض ، والإبضاع استعمال فيه بغير عوض ، فكان أولى . والإبضاع يملكه المضارب لأنّه من توابع عقد المضاربة ، فلا يحتاج إلى إذن عند البعض على ما سيأتي . وجوازه للمضارب أولى من جواز التّوكيل بالبيع والشّراء والرّهن والارتهان والإجارة والإيداع وغير ذلك .
ج - الشّريك : للشّريك أن يبضع من مال الشّركة ، على ما صرّح به الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في الصّحيح عندهم ، والشّافعيّة بشرط إذن الشّريك .
الاعتبار الشّرعيّ للمبضع وتصرّفاته :
11 - المبضع أمين فيما يقبضه من ربّ المال ، لأنّ عقد الإبضاع عقد أمانة ، فلا ضمان عليه إلاّ بالإهمال أو التّعدّي . وهو وكيل ربّ المال في ماله ، ينوب عنه في تصرّفاته التّجاريّة من بيع وشراء ممّا فيه إنماء للمال ، على ما جرى به عرف التّجّار ، دون حاجة إلى إذن خاصّ . لكن لو أبضعه لآخر ليعمل فيه على سبيل الإبضاع ، فهذا الصّنيع يحتاج إلى إذن ربّ المال قياساً على المضاربة . وكذلك يحتاج إلى الإذن من ربّ المال ما كان خارجاً من الأعمال عن عادة التّجّار ، كالإقراض ، والتّبرّعات والصّدقات والهبات من رأس المال المخصّص لأغراض الإنماء والتّجارة . شراء المبضع المال لنفسه :
12 - إذا دفع ربّ المال المال للعامل بضاعةً ، فليس له أن يتّجر فيه لنفسه ، شأنه شأن المقارض ( المضارب ) ، فإنّ المال إنّما دفع للعامل في المضاربة والإبضاع على طلب الفضل فيه ، فليس للمضارب ولا للمبضع أن يجعلا ذلك لأنفسهما دون ربّ المال . وقد نصّ المالكيّة على أنّ المبضع ( العامل ) إذا ابتاع لنفسه أنّ صاحب المال مخيّر بين أن يأخذ ما ابتاع لنفسه ، أو يضمّنه رأس المال ، لأنّه إنّما دفع المال على النّيابة عنه وابتياع ما أمره به ، فكان أحقّ بما ابتاعه . وهذا إذا ظفر بالأمر قبل بيع ما ابتاعه ، فإن فات ما ابتاعه فإنّ ربحه لربّ المال ، وخسارته على المبضع معه . ومثله مذهب الشّافعيّة في تعدّي المبضع . ويؤخذ من مذهب الحنابلة أنّه إن ظهر ربح فهو لربّ المال ، وإن ظهرت خسارة فهي على العامل لتعدّيه . وقواعد الحنفيّة لا تأبى ذلك . تلف المال أو خسارته :
13 - عقد الإبضاع من عقود الأمانة كما تقدّم ، فلا ضمان على من في يده المال إن تلف ، أو خسر من غير تفريط ولا تعدّ ، فيسمع قوله فيما يدّعيه من هلاك أو خسارة . بل قالوا إنّه لا يضمن حتّى ولو قال ربّ المال : وعليك ضمانه ، لأنّ العقد يقتضي كونه أمانةً . والمرويّ عن صاحبي أبي حنيفة ، في شأن الأجير المشترك ، أنّه لا يقبل قوله في الهلاك إلاّ إذا كان هناك قرينة تدلّ على صدقه ، كالحريق الغالب ، واللّصّ الكاسر ، والعدوّ المكابر ، وقالا : إنّ ذلك هو الاستحسان ، لتغيّر أحوال النّاس ، وأفتى بذلك عمر وعليّ في شأن الصّنّاع . ومن المعلوم أنّ العين في يد الصّنّاع أمانة ، وكذلك هي في يد المبضع ، فلا يبعد قياسه عليه .
اختلاف العامل وربّ المال :
14 - إذا اختلف ربّ المال والعامل فادّعى العامل أنّه أخذ المال مضاربةً ، وادّعى المالك أنّه بضاعة ، قال الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة : القول قول المالك مع يمينه ، لأنّه منكر . ونصّ المالكيّة على أنّ عليه للعامل أجرة مثله ، إلاّ أن تكون أكثر من نصف ربح القراض ، فلا يعطي أكثر ممّا ادّعى . وبيّنوا أنّ فائدة كون القول قوله عدم غرامة الجزء الّذي ادّعاه العامل . وبيان ذلك أنّ ربّ المال تضمّنت دعواه أنّ العامل تبرّع له بالعمل ، وهو ينكر ذلك ويدّعي أنّه بأجرة مثله ، لأنّه ليس متبرّعاً . وإن نكل ربّ المال كان القول قول العامل مع يمينه إذا كان ممّا يستعمل مثله في القراض . ونقل عن بعض القرويّين : إن كان عرفهم أنّ للإبضاع أجراً فالأشبه أن يكون القول قول العامل . وعند الحنابلة احتمالان : أحدهما أن يكون القول قول العامل ، لأنّ عمله له ، فيكون القول قوله فيه . والثّاني : أن يتحالفا ، ويكون للعامل أقلّ الأمرين من نصيبه من الرّبح أو أجرة مثله ، لأنّه لا يدّعي أكثر من نصيبه من الرّبح ، فلا يستحقّ الزّيادة عليه . وإن كان الأقلّ أجر مثله فلم يثبت كونه قراضاً ، فيكون له أجر مثله ، والباقي لربّ المال ، لأنّ نماء ماله تبع له . واعتبر بعضهم هذا من تعارض البيّنتين ، فقال : إن أقام كلّ واحد منهما بيّنةً بدعواه تعارضا ، وقسّم بينهما نصفين . والصّحيح عندهم أنّه ليس من تعارض البيّنتين ، فيحلف كلّ منهما على إنكار ما ادّعاه خصمه ، ويكون للعامل أجر عمله . ولا يتأتّى عكس هذه الصّورة ، بأن يدّعي العامل الإبضاع وربّ المال القراض ، لاستحالة ذلك عادةً ، إلاّ أن يقصد منّته على ربّه .
15 - وإذا ادّعى العامل القراض ، وربّ المال الإبضاع بأجرة معلومة - وهو ما سمّاه المالكيّة إبضاعاً ، وجعله غيرهم من قبيل الإجارة - فالقول قول العامل مع يمينه ، ويأخذ الجزء ، لأنّ الاختلاف هنا في الجزء المشروط للمضارب من الرّبح ، والمصدّق عند الاختلاف في هذا الجزء المضارب . ولهذا إذا كانت الأجرة مثل الجزء الّذي ادّعاه في القراض فلا يمين ، لأنّهما قد اتّفقا في المعنى ، ولا يضرّ اختلافهما في اللّفظ . ولضبط هذه المسألة عند المالكيّة خمسة شروط : الأوّل : أن تكون المنازعة بعد العمل الموجب للزوم القراض . الثّاني : أن يكون مثله يعمل في قراض ، وأن يكون مثل المال يدفع قراضاً . الثّالث : أن يكون الجزء المدّعى اشتراطه من ربح القراض أزيد من الأجرة المدّعى الاتّفاق عليها . الرّابع : أن يشبه أن يقارض بما ادّعاه من نصف الرّبح مثلاً ، كأن تقوم قرائن على أنّ مثله لا يعمل إلاّ بمثل هذا الجزء من الرّبح . الخامس : ألاّ يطابق العرف دعوى ربّ المال .
16 - وإذا ادّعى العامل الإبضاع بأجر ، وربّ المال القراض بجزء معلوم من الرّبح ، فقد نصّ المالكيّة على أنّه إذا قال العامل : المال بيديّ بضاعة بأجر ، وقال ربّ المال : هو بيدك قراض بجزء معلوم ، فإنّ القول قول العامل . وتجري هنا الشّروط المذكورة في المسألة السّابقة .
17 - وإذا ادّعى العامل القراض وربّ المال الإبضاع ، وطلب كلّ منهما الرّبح له وحده ، فعند الحنابلة يحلف كلّ منهما على إنكار ما ادّعاه خصمه ، لأنّ كلّاً منهما منكر ما ادّعاه خصمه عليه ، والقول قول المنكر ، وللعامل أجر عمله فقط ، والباقي لربّ المال ، لأنّ نماء ماله تابع له . وعند الحنفيّة ، ومقتضى كلام المالكيّة على ما ذكروه في القراض - أنّ القول قول ربّ المال بيمينه ، والبيّنة بيّنة العامل ، لأنّه يدّعي عليه التّمليك ، والمالك ينكره . .
انتهاء عقد الإبضاع :
18 - ينتهي عقد الإبضاع بما ينتهي به عقد المضاربة في الجملة ، ويمكن إجمال أسباب الانتهاء بالآتي : أ - انقضاء العقد الأصليّ أو المتبوع ، فإذا كان الإبضاع لمدّة محدّدة فينتهي بانتهاء المدّة ، وإن كان تابعاً لعقد آخر كالمضاربة فإنّه ينتهي بانتهائها .
ب - الفسخ : سواء كان بعزل ربّ المال للعامل أو عزل العامل نفسه ، لأنّه عقد غير لازم من الجانبين .
ج - الانفساخ : سواء كان بالموت ، أو زوال الأهليّة ، أو هلاك المحلّ .
إبط
التّعريف
1 - الإبط باطن المنكب . والجمع آباط . ولا يخرج استعمال الفقهاء للفظ الإبط عن معناه اللّغويّ . الحكم الإجماليّ :
2 - يختلف الحكم عند الفقهاء بحسب ما يتعلّق بالإبط من أمور ، فبالنّسبة لشعر الإبط تسنّ إزالته عند جمهور الفقهاء .
( مواطن البحث )
3 - تذكر أحكام الإبط عند الفقهاء بحسب ما يتعلّق به ، كلّ في موضعه . فإزالة شعره تذكر في الطّهارة عند الكلام عن الغسل عند الحنفيّة ، وسنن الفطرة عند الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة . وظهور بياض الإبط في الدّعاء في مبحث صلاة الاستسقاء . وظهور بياض الإبط في إقامة الحدود في كتاب الحدود . وجعل الرّداء تحت الإبط الأيمن ، وإلقاؤه على الكتف الأيسر في مبحث الإحرام من الحجّ .
إبطال 1 - الإبطال لغةً : إفساد الشّيء وإزالته ، حقّاً كان ذلك الشّيء أو باطلاً . قال اللّه تعالى { ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل } وشرعاً : الحكم على الشّيء بالبطلان ، سواء وجد صحيحاً ثمّ طرأ عليه سبب البطلان ، أو وجد وجوداً حسّيّاً لا شرعيّاً . فالأوّل كما لو انعقدت الصّلاة صحيحةً ثمّ طرأ عليها ما يبطلها ، والثّاني كما لو عقد على إحدى المحرّمات عليه على التّأبيد ، كما يستفاد من عبارات الفقهاء . ويأتي على ألسنة الفقهاء بمعنى الفسخ ، والإفساد ، والإزالة ، والنّقض ، والإسقاط ، لكنّه يختلف عن هذه الألفاظ من بعض الوجوه ، ويظهر ذلك عند مقارنته بها . والأصل في الإبطال أن يكون من الشّارع ، كما يحدث الإبطال ممّن قام بالفعل أو التّصرّف ، وقد يقع من الحاكم في الأمور الّتي سلّطه عليها الشّارع .
( الألفاظ ذات الصّلة )
أ - ( الإبطال والفسخ ) :
2 - يعبّر الفقهاء أحياناً في المسألة الواحدة تارةً بالإبطال ، وتارةً بالفسخ ، غير أنّ الإبطال يحدث أثناء قيام التّصرّف وبعده ، وكما يحصل في العقود والتّصرّفات يحدث في العبادة . أمّا الفسخ فإنّه يكون غالباً في العقود والتّصرّفات ، ويقلّ في العبادات ومنه فسخ الحجّ إلى العمرة ، وفسخ نيّة الفرض إلى النّفل ، ويكون في العقود قبل تمامها ، لأنّه فكّ ارتباط العقد أو التّصرّف .
ب - ( الإبطال والإفساد ) :
3 - يأتي التّفريق بين الإبطال والإفساد تفريعاً على التّفرقة بين الباطل والفاسد . ويتّفق الفقهاء على أنّ الباطل والفاسد بمعنًى واحد في العبادات ، إن استثنينا الحجّ عند الشّافعيّة والحنابلة . وغير العبادة كذلك غالباً عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . أمّا الحنفيّة فإنّهم يفرّقون في أغلب العقود بين الفاسد والباطل ، فالباطل ما لا يكون مشروعاً لا بأصله ولا بوصفه ، والفاسد ما يكون مشروعاً بأصله دون وصفه . ولتفصيل ذلك ( ر : بطلان ، فساد . ) ج - ( الإبطال والإسقاط ) :
4 - الإسقاط فيه رفع لحقّ ثابت . وفي الإبطال منع لقيام الحقّ أو الالتزام . وقد يأتي كلّ من الإبطال والإسقاط بمعنًى واحد أحياناً في كلام الفقهاء ، كقولهم : الوقف لا يبطل بالإبطال ، وقولهم أسقطت الخيار أو أبطلته .
( الحكم الإجماليّ )
5 - جمهور الفقهاء على أنّه لا يصحّ إبطال العبادة بعد الفراغ منها . وفي رأي للمالكيّة أنّ نيّة إبطال العبادة بعد الفراغ منها صحيح تبطلها . ويحرم إبطال الفرض بعد التّلبّس به دون عذر شرعيّ ، وكذلك النّفل عند الحنفيّة والمالكيّة . ويجب إعادته ، لقول اللّه سبحانه { ولا تبطلوا أعمالكم } . ويكره عند الشّافعيّ والحنابلة إبطال النّافل بعد الشّروع فيها ، عدا الحجّ والعمرة . أمّا فيهما فيحرم الإبطال عند الشّافعيّة ، وهو رواية عن أحمد . والرّواية الثّانية أنّهما كسائر التّطوّعات . ومثل الحجّ والعمرة عند الشّافعيّة الجهاد في سبيل اللّه . أمّا التّصرّفات اللاّزمة فلا يرد عليها الإبطال بعد نفاذها إلاّ برضا العاقدين ، كما في الإقالة . وفي العقود غير اللاّزمة من الجانبين لكلّ من العاقدين إبطالها متى شاء . وفي العقود اللاّزمة من جانب دون آخر ، يصحّ الإبطال ممّن العقد غير لازم في حقّه . والمراد هنا الإبطال بمعنى الفسخ .
( مواطن البحث )
6 - أحكام الإبطال قبل الانعقاد تذكر في " بطلان " وبعده تذكر في " فسخ » . ولمّا كان الإبطال يعتري العبادات والتّصرّفات فإنّه يصعب سرد مواطنه تفصيلاً ، لذلك يرجع في كلّ عبادة إلى سبب إبطالها ، وفي العقود والتّصرّفات إلى موضعه من كلّ عقد أو تصرّف ، كما يفصّل الأصوليّون ذلك في كتبهم .
أبطح
التّعريف
1 - الأبطح مسيل واسع فيه دقاق الحصى . والجمع الأباطح ، والبطائح والبطاح أيضاً على غير القياس . واختلف الفقهاء في تحديد المكان المسمّى بالأبطح من بين أماكن النّسك ، فقال الجمهور هو اسم لمكان متّسع بين مكّة ومنًى ، وهو إلى منًى أقرب . وهو اسم لما بين الجبلين إلى المقبرة ، ويقال له : الأبطح ، والبطاح ، وخيف بني كنانة ، ويسمّى أيضاً بالمحصّب . وقال بعض المالكيّة : هو مكان بأعلى مكّة تحت عقبة كداء وهو من المحصّب ، والمحصّب ما بين الجبلين إلى المقبرة .
( الحكم الإجماليّ )
2 - حكم النّزول في الأبطح ، وصلاة الظّهر والعصر والمغرب والعشاء فيه ، مستحبّ عند جميع علماء المذاهب الأربعة ، لثبوت نزول الرّسول صلى الله عليه وسلم وصلاته فيه ، واقتداء أبي بكر وعمر وعثمان به في ذلك . واتّفقوا على أنّ ترك النّزول فيه لا يؤثّر في النّسك بإفساد أو إيجاب دم . ويرى ابن عبّاس وعائشة رضي الله عنهما ، أنّه مكان نزل فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للرّاحة ، وليس من المناسك .
( مواطن البحث )
3 - يفصّل الفقهاء ذلك في كتاب الحجّ في الكلام على النّفرة من منًى .
أبكم
التّعريف
1 - الأبكم صفة من البكم الّذي هو الخرس . وقيل : الأخرس : الّذي خلق لا ينطق ، والأبكم : الّذي له نطق ولا يعقل الجواب . والفقهاء في استعمالاتهم لا يفرّقون بين الأبكم والأخرس . القاعدة العامّة والحكم الإجماليّ :
2 - لمّا فقد الأخرس قدرة البيان باللّسان اكتفي منه بالنّيّة وتحريك اللّسان ، أو التّمتمة في العبادات ، كالصّلاة وقراءة القرآن والتّلبية . والمالكيّة يصحّ عندهم الاكتفاء بالنّيّة . هذا والفقهاء يفصّلون ذلك في الصّلاة والحجّ . أمّا في غير ذلك فيلزمه البيان في الجملة بالكتابة . ولا يعدل عنها إذا كان يجيدها . أمّا إذا كان غير كاتب فيكتفى منه بالإشارة المفهمة ، في مثل البيوع والمعاملات والشّهادات وغيرها . هذا والفقهاء يفصّلون ذلك في البيوع والنّكاح والمعاملات والشّهادات . أمّا في الحدود ، فلا يقبل إقراره على نفسه ، ولا شهادته على غيره ، على تفصيل للفقهاء في ذلك . لوجود الشّبهة الّتي تدرأ الحدود . وتفصيل ذلك في الحدود .
( مواطن البحث )
3 - وهناك تفصيل في حكم الجناية على لسان الأبكم أو جنايته على لسان غيره ، يفصّله الفقهاء في مبحث الجناية على ما دون النّفس . ولهم تفصيل في اعتبار البكم عيباً في الرّقيق ، أو في النّكاح ، أو في القضاء والإمامة .
إبل
التّعريف
1 - الإبل : اسم جمع لا مفرد يقع على الواحد والجميع . والجمع آبال . وواحدها بعد النّحر يسمّى جزوراً . ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ .
( الحكم الإجماليّ )
2 - اختلف الفقهاء في نقض الوضوء من لحم الإبل ، فالجمهور على أنّه لا ينقض الوضوء بأكل لحمها . والحنابلة على أنّه ينقض الوضوء ، ولو كان اللّحم نيئاً .
( مواطن البحث )
3 - يتعلّق بالإبل أمور كثيرة بحثها الفقهاء كلّاً في موضعه ، فمسألة الوضوء من أكل لحمها تطرّق إليه الفقهاء في الطّهارة عند الحديث عن نواقض الوضوء ، والصّلاة بمعاطنها بحث في الصّلاة عند الحديث عن شروطها . وأبوال الإبل وأرواثها يبحث عن طهارتهما في باب النّجاسات . والتّداوي بألبانها وأبوالها يبحث عنها في مصطلح ( تداوي ) . وزكاتها في الزّكاة عند الحديث عن زكاة الإبل والتّضحية بها وسنّ الثّني منها بحثت في الأضحيّة ، والهدي بها بحث في الحجّ عند الحديث عن الهدي ، وتذكيتها بحثت في الذّبائح وإعطاء الإبل في الدّية في الدّيات عند الحديث عن مقادير الدّيات ، وصفة الحرز فيها بحث في السّرقة عند الحديث عن بيان صفة الحرز ، والمسابقة بينها بحثت في السّبق والرّمي ، والإسهام لها في الغنيمة بحث في الجهاد ، ونحرها عقيقةً بحث في الأضحيّة عند الحديث عن العقيقة ، وغير ذلك من الأمور .
إبلاغ
انظر : تبليغ .
ابن
التّعريف
1 - المعنى الحقيقيّ للابن هو الصّلبيّ ، ولا يطلق على ابن الابن إلاّ تجوّزاً . والمراد بالصّلبيّ المباشر ، سواء كان لظهر أو لبطن . وإطلاق الابن على الابن من الرّضاعة مجاز أيضاً ، لكنّه إذا أطلق ينصرف للابن النّسبيّ المباشر ، ولا يطلق إلاّ على الذّكر . بخلاف " الولد " فإنّه يشمل الذّكر والأنثى . ومؤنّث الابن ابنة ، وفي لغة : بنت . والابن من الأناسيّ يجمع على بنين وأبناء ، أمّا غير الأناسيّ ممّا لا يعقل كابن مخاض وابن لبون ، فيقال في الجمع : بنات مخاض وبنات لبون . ويضاف الابن إلى لفظ من غير ما يدلّ على الأبوّة ، لملابسة بينهما ، نحو : ابن السّبيل . ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ . وهو بالنّسبة للأب : كلّ ذكر ولد له على فراش صحيح ، أو بناءً على عقد نكاح فاسد ، أو وطء بشبهة معتبرة شرعاً ، أو ملك يمين . وبالنّسبة للأمّ : هو كلّ ذكر ولدته من نكاح أو سفاح . كذلك من أرضعت ذكراً صار ابناً لها من الرّضاع . الحكم الإجماليّ :
2 - الابن عاصب بنفسه ، وهو أولى العصبة ، ولذلك يقدّم على من عداه من العصبات . ويترتّب على ذلك ما يأتي : أنّه يرث تعصيباً : يأخذ جميع المال إذا انفرد ، ويأخذ الباقي بعد أخذ أصحاب الفروض ، ويعصب أخته ، وله معها مثل حظّ الأنثيين . ولا يحجب من الميراث أصلاً ، وإنّما يحجب غيره حجب حرمان ، أو حجب نقصان وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء . كما أنّه هو الّذي يرث الولاء دون البنت ، عند جميع الفقهاء . والابن دون البنت ممّن يتحمّل نصيبه من القسامة والدّية عند المالكيّة والحنفيّة ، وعند الحنابلة على رواية ، بدخوله في العاقلة . وعلى رأي أبي عليّ الطّبريّ من الشّافعيّة . وهذا على تفصيل يعرف في أبوابه . وللابن ولاية تزويج أمّه عند الجمهور . وتفصيل ذلك في باب الولاية . وفي تقديمه على البنت في نفقة الوالدين خلاف . ويخصّه بعض الفقهاء في العقيقة عنه بشاتين بينما يجعلون العقيقة عن البنت بشاة واحدة . هذا بالنّسبة للابن من النّسب . أمّا الابن من الرّضاع فإن أهمّ ما يتّصل به من أحكام هو : تحريم النّكاح ، وجواز الخلوة ، وعدم نقض الوضوء بالمسّ عند من يرى النّقض به ، وغير ذلك من الأحكام الخاصّة بالابن النّسبيّ . والابن من الزّنى نسبه لأمّه فقط ، لأنّه لا يلحق بالزّاني . والزّنى يفيد حرمة المصاهرة عند بعض الأئمّة ، على خلاف وتفصيل يرجع إليه في أحكام النّكاح ، فمثلاً تحرم بنت الزّاني على ذكر خلق من ماء زناه .
( مواطن البحث )
3 - للابن أحكام متعدّدة مفصّلة في مواطنها من كتب الفقه ، ومن ذلك الإرث ، والنّكاح ، والرّضاع ، والنّفقة ، والحضانة ، والنّسب ، والزّنى ، والجنايات ، والعقيقة ، وغير ذلك .
ابن الابن
التّعريف
1 - ابن الابن هو المذكّر من أوّل فرع للابن في النّسب والرّضاع . وعند الإطلاق ينصرف للنّسب . ويقال له حفيد . ويطلق الابن على ابن الابن مجازاً . كما يطلق أيضاً على " ابن ابن الابن " وإن نزل . ولا يخرج مراد الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ . إذا ثبت النّسب على وجه شرعيّ .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - ولد الابن : وهو أعمّ من ابن الابن إذ يشمل أيضاً بنت الابن . السّبط : وأكثر ما يستعمل لولد البنت ، ومنه قيل للحسن والحسين رضي الله عنهما : سبطا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وقد يقال لولد الولد سبط .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
( الحكم الإجماليّ )
3 - أجمع الفقهاء على أنّ ابن الابن من العصبات ، وأنّه يحجبه الابن الأعلى ، ويحجب هو من دونه ، وأنّه يعصب من يحاذيه من أخواته وبنات أعمامه ، كما أنّه يعصب من فوقه من عمّاته إن لم يكن لهنّ من فرض البنات شيء . واختلف الفقهاء في مسألة ولاية ابن الابن لجدّته في النّكاح ، فالجمهور على أنّ له ولاية النّكاح ، وخالف في ذلك الشّافعيّة .
( مواطن البحث )
4 - يفصّل الفقهاء أحكام ابن الابن بالنّسبة لكلّ مسألة فقهيّة في موضعها . فمسألة إرثه تذكر في باب الفرائض عند الكلام عن ميراث العصبات ، وعن الحجب ، ومسألة ولايته لجدّته في النّكاح تذكر في النّكاح عند الحديث عمّن يلي النّكاح ، وغير ذلك من المسائل المتعلّقة به ، ممّا يفصّله الفقهاء في أبوابه المعروفة .
ابن الأخ
التّعريف
1 - يطلق ابن الأخ لغةً واصطلاحاً على الذّكر من ولد الأخ ، سواء أكان الأخ شقيقاً أم لأب أم لأمّ أم رضاعاً . وعند الإطلاق ينصرف إلى النّسبيّ . ويطلق ابن الأخ على ابن ابن الأخ وإن نزل ، وذلك على سبيل المجاز . الحكم الإجماليّ :
2 - يحلّ ابن الأخ محلّ الأخ عند عدمه ، في الميراث ، إلاّ في خمسة أمور : الأوّل : أنّه لا يعصب أخته . والثّاني : أنّ الجدّ يحجب ابن الأخ بأنواعه ، لأنّه كالأخ ، وهم لا يرثون معه ، ولا يحجب الأخ لأبوين أو لأب عند أغلب الفقهاء . والثّالث : أنّ العدد منهم لا يحجب الأمّ من الثّلث إلى السّدس ، بخلاف الإخوة ، فإنّهم يحجبونها حجب نقصان . والرّابع : أنّ ابن الأخ لأمّ لا يرث باعتباره صاحب فرض ، ويرث الأخ لأمّ والخامس : أنّه لا يرث أبناء الإخوة لو فرضوا مكان الإخوة في المسألة المشتركة . ويتّفق الفقهاء على تقديم ابن الأخ لأبوين ، أو لأب ، على العمّ في الميراث ، وفي الوصيّة لأقرب الأقارب ، وولاية النّكاح ، والحضانة . ويقدّمون جميعاً الجدّ على ابن الأخ في الحضانة . وغير المالكيّة على هذا في الوصيّة لأقرب الأقارب ، وفي النّكاح . ويقدّم المالكيّة ابن الأخ ، لأبوين أو لأب ، على الجدّ في الوصيّة لأقرب الأقارب أو الأرحام ، وفي ولاية النّكاح . وليس لابن الأخ من الرّضاع أحكام تخصّه سوى تحريم عمّته عليه .
( مواطن البحث )
3 - يتكلّم الفقهاء عن ابن الأخ أثناء الكلام عن الأقارب والأرحام في الزّكاة ( مصارفها أو قسم الصّدقات ) وفي الوقف والوصيّة للأرحام أو الأقارب ، وفي الهبة ( الاعتصار أو الرّجوع في الهبة ) ، وفي الميراث في العصبة ، وأصحاب الفروض وذوي الأرحام ، وفي النّكاح في ترتيب الأولياء ، وفي المحرّمات ، وفي الرّضاع ( ما يحرم على المرضع ) ، وفي الحضانة ، وفي القضاء ، وفي الشّهادة ( شهادة الأقارب ) والحكم لهم وعليهم ، وفي العتق ( من يعتق على الإنسان ) .
ابن الأخت
التّعريف
1 - ابن الأخت إمّا أن يكون نسباً أو رضاعاً . فابن الأخت من النّسب هو الولد الذّكر النّسبيّ للأخت النّسبيّة . وهو على ثلاثة أنواع : ابن أخت شقيقة ، وابن أخت لأب ، وابن أخت لأمّ . أمّا ابن الأخت رضاعاً فهو الولد الذّكر الّذي أرضعته الأخت النّسبيّة ، أو هو الولد الذّكر النّسبيّ للأخت من الرّضاع ، مع ملاحظة أنّ لفظ « ولد " يشمل الذّكر والأنثى ، ولفظ « ابن " لا يتناول إلاّ الذّكر .
( الحكم الإجماليّ ومواطن البحث ) : ابن الأخت من المحارم :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ ابن الأخت من أولي الأرحام المحارم ، فيسري عليه من الأحكام ما يسري على المحارم من تحريم النّكاح ، وإباحة الدّخول على النّساء ، والنّظر إليهنّ في حدود المباح ، والقطع في السّرقة . وتفصيل ذلك في مصطلح « محارم " ، وفي أبواب الحظر والإباحة ، والنّكاح ، من كتب الفقه . ابن الأخت من ذوي الأرحام :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّ ابن الأخت من ذوي الأرحام - وهم الّذين يدلون في قرابتهم للشّخص بأنثى - ولهؤلاء أحكام خاصّة في الإرث ، والنّفقة ، وأحقّيّة الإمامة في الصّلاة على الجنازة ، والولاية ، وصلة الرّحم فصّلها الفقهاء في الأبواب المذكورة من كتب الفقه . وفي تقديم الخالة على الأب في حضانة ابن أختها خلاف تجده مفصّلاً في مبحث الحضانة من كتب الفقه .
ابن البنت
التّعريف
1 - ابن البنت إمّا أن يكون نسباً أو رضاعاً ، فابن البنت النّسبيّ هو الولد الذّكر النّسبيّ للبنت النّسبيّة . وابن البنت رضاعاً هو من حلّت فيه علاقة الرّضاع محلّ علاقة النّسب فيما سبق . وهو إمّا أن يكون الابن من الرّضاع للبنت من النّسب ، أو يكون الابن من النّسب للبنت من الرّضاع . أو يكون الابن الرّضاعيّ للبنت الرّضاعيّة . وعند الإطلاق ينصرف إلى ابن البنت من النّسب .
2 - اتّفق الفقهاء على عدم دخول ابن البنت في لفظ « أولادي " كقول الواقف : وقفت هذه الدّار على أولادي . واختلفوا في دخوله في ألفاظ " أولاد أولادي " " ونسلي " " وعقبي " " وذرّيّتي » . وقد تناول الفقهاء ذلك بالتّفصيل في كتاب الوقف عند حديثهم عن الموقوف عليه .
( الحكم الإجماليّ ومواطن البحث ) :
3 - اتّفق الفقهاء على ابن البنت من المحارم ، وأنّه يسري عليه من الأحكام ما يسري على سائر المحارم ، من تحريم نكاحه لجدّته ، كما نصّ على ذلك الفقهاء في كتاب النّكاح عند كلامهم على المحرّمات ، ومن جواز مخالطته لجدّته ، ومرافقتها له في السّفر ، كما نصّ على ذلك الفقهاء في الحجّ ، وفي كتاب الحظر والإباحة ، ومن جواز نظره إلى مثل الرّأس والذّراع ، وما ليس بعورة منها بالنّسبة إليه ، كما نصّ على ذلك الفقهاء في باب العورة ، ويشاركه في هذه الأحكام ابن البنت من الرّضاع .
4 - اتّفق الفقهاء كذلك على أنّ ابن البنت من ذوي الأرحام ، وهم الّذين يدلون في قرابتهم للشّخص بأنثى . وهؤلاء - وابن البنت منهم - لهم أحكام خاصّة في الميراث وغيره من الأحكام الدّائرة بين ابن البنت والجدّ أو الجدّة ، كالولاية ، والحضانة ، والنّفقة ، والرّجوع في الهبة ، وفي الجناية . وتفصيل ذلك في مصطلح « أرحام " ويفصّله الفقهاء في المواطن السّابق ذكرها .
ابن الخال التّعريف .
1 - ابن الخال هو ابن أخي الأمّ . وهو إمّا أن يكون ابن خال من النّسب ، أو من الرّضاع . فالأوّل هو الولد الذّكر الصّلبيّ النّسبيّ لأخي الأمّ من النّسب ، وهو المراد عند الإطلاق . والثّاني هو الولد الذّكر لأخي الأمّ بعلاقة الرّضاع ، مع ملاحظة أنّ لفظ « ولد " يطلق على الذّكر والأنثى ، أمّا لفظ « ابن " فإنّه لا يطلق إلاّ على الذّكر .
( الحكم الإجماليّ ، ومواطن البحث ) :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ ابن الخال من الرّحم غير المحرّمة ، وأنّه يسري عليه من الأحكام ما يسري على غير المحارم ، من جواز النّكاح في حقّه ، ومنع الخلوة به للأنثى ، وعدم وجوب النّفقة عليه إلاّ إذا كان وارثاً ، وغير ذلك . ويشاركه في أكثر هذه الأحكام ابن الخال من الرّضاع . ويفصّل الكلام على ذلك في مصطلح « محارم " ، ويفصّل الفقهاء هذه الأحكام في أبواب النّكاح ، وغيره .
3 - كما اتّفقوا على أنّ ابن الخال من ذوي الأرحام . وهم الّذين يدلون في قرابتهم للمرء بأنثى . ولهؤلاء أحكام خاصّة في الميراث ، ذكرها الفقهاء في كتاب المواريث ، وفي إمامة صلاة الجنازة على الرّحم الميّت ، وفي صلة الرّحم . وقد ذكرها الفقهاء في كتاب الجنائز ، وفي الولاية ، وقد ذكرها الفقهاء في النّكاح عند حديثهم على اشتراط الوليّ لنكاح المرأة . وتجد ذلك كلّه مفصّلاً في مصطلح « أرحام » . .
ابن الخالة
التّعريف
1 - ابن الخالة إمّا أن يكون نسباً أو رضاعاً . فابن الخالة نسباً هو الولد الذّكر النّسبيّ لأخت الأمّ من النّسب . وابن الخالة رضاعاً عندما تحلّ علاقة الرّضاع محلّ علاقة النّسب فيما سبق . ويلاحظ أنّ لفظ ولد يشمل الذّكر والأنثى ، أمّا لفظ ابن فلا يتناول إلاّ الذّكر .
( الحكم الإجماليّ ومواطن البحث ) :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ ابن الخالة هو من أولي الأرحام غير المحارم ، فيسري عليه من الأحكام ما يسري عليهم ، من وجوب الصّلة ، وجواز التّناكح ، ومنع الخلوة بهم ، وعدم وجوب النّفقة عليه إن لم يكن وارثاً ، وغير ذلك . ويشاركه في أكثر الأحكام ابن الخالة من الرّضاع . وتفصيل الكلام على ذلك في بحث " أرحام " وفصّل الفقهاء ذلك في أبواب النّكاح والنّفقة .
3 - كما اتّفقوا على أنّ ابن الخالة من ذوي الأرحام - وهم الّذين يدلون في قرابتهم للمرء بأنثى - ولهؤلاء أحكام خاصّة في الميراث ذكرها الفقهاء في كتاب المواريث ، وفي إمامة صلاة الجنازة على الرّحم الميّت ، وقد ذكرها الفقهاء في كتاب الجنائز ، وفي الولاية ، وقد ذكرها الفقهاء في النّكاح عند حديثهم على اشتراط الوليّ لنكاح المرأة . وتجد ذلك كلّه مفصّلاً في مصطلح « أرحام » .
ابن السّبيل
التّعريف
1 - السّبيل الطّريق . وابن السّبيل المسافر الّذي انقطع به الطّريق - وأوسع ما قيل في تعريفه الاصطلاحيّ أنّه : المنقطع عن ماله سواء كان خارج وطنه أو بوطنه أو مارّاً به . وقد زاد بعضهم قيوداً في التّعريف ترجع إلى شروط اعتباره مصرفاً من مصارف الزّكاة .
( الحكم الإجماليّ )
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ ابن السّبيل إذا أراد الرّجوع إلى بلده ولم يجد ما يتبلّغ به يعطى من الزّكاة والغنيمة والفيء حسب حاجته ، ولا يحلّ له ما زاد عن ذلك . والأولى له عند الحنفيّة أن يستقرض إن تيسّر له ذلك . وأوجبه المالكيّة إذا لم يكن فقيراً في بلده . وخالف في هذا الحنابلة والشّافعيّة في المعتمد ، حيث لا يقولون بوجوب الاستقراض ولا بأولويّته .
( مواطن البحث )
3 - يفصّل الفقهاء ذلك في مصارف الزّكاة والفيء وقسمة الغنيمة .
ابن العمّ
التّعريف
1 - ابن العمّ لغةً هو الذّكر من أولاد أخي الأب في النّسب أو الرّضاع . وعند الإطلاق ينصرف إلى ابن العمّ النّسبيّ . وهو عند الفقهاء كذلك . وهو إمّا ابن عمّ شقيق أو لأب أو لأمّ . الحكم الإجماليّ :
2 - ابن العمّ ، شقيقاً كان أو لأب ، عاصب بنفسه ، يرث جميع المال إذا انفرد ولم يكن عاصب أولى منه ، والباقي بعد أصحاب الفروض . وهذا محلّ اتّفاق . أمّا ابن العمّ لأمّ فهو من ذوي الأرحام ، وهو يرث غالباً بهذه الصّفة ، على اختلاف عند المتقدّمين والمتأخّرين من الفقهاء في التّوريث ، وفي كيفيّته . وابن العمّ العاصب له حقّ ولاية تزويج أولاد عمّه ، إذا لم يوجد من هو أولى منه . وله أيضاً حقّ استيفاء القصاص إن كان وارثاً . وهذا متّفق عليه . ومن يورّث ابن العمّ لأمّ - لتوريثه ذوي الأرحام - يثبت له هذا الحقّ باعتباره وارثاً ، لكن لا حقّ لابن العمّ مطلقاً في ولاية المال . ويثبت لابن العمّ العاصب باتّفاق حقّ حضانة ابن عمّه الذّكر إذا لم يوجد من النّساء من يستحقّ الحضانة ، ولا من الرّجال من هو أولى منه . أمّا بالنّسبة للأنثى فهو غير محرم لها ، فإذا كانت مشتهاةً فلا تدفع إليه إلاّ إذا كانت محرّمةً عليه برضاع أو غيره . ومثله عند المالكيّة خاصّةً ابن العمّ لأمّ فيثبتون له هذا الحقّ ، بل إنّهم يقدّمونه على الّذي للأب .
( مواطن البحث )
3 - لابن العمّ أحكام متعدّدة يذكرها الفقهاء مفصّلةً بأحكام مسائلها في مواطنها ومن ذلك : النّكاح والحضانة والنّفقة والزّكاة والإرث والحجر والقصاص ، وغير ذلك .
ابن العمّة
التّعريف
1 - ابن العمّة إمّا أن يكون نسبيّاً أو رضاعيّاً . فابن العمّة من النّسب هو الولد الذّكر النّسبيّ للعمّة النّسبيّة ، سواء كانت هذه العمّة أخت الأب لأبيه وأمّه ، أو لأبيه ، أو لأمّه . أمّا ابن العمّة من الرّضاع : فهو ابن أخت الأب الرّضاعيّ . وعند الإطلاق ينصرف إلى النّسبيّ .
( الحكم الإجماليّ ومواطن البحث ) :
2 - وقد اتّفق الفقهاء على أنّ ابن العمّة من ذوي الأرحام غير المحارم ، ويسري عليه من الأحكام ما يسري عليهم من الصّلة ، وجواز زواجه من ابنة خاله ، ومن عدم وجوب النّفقة عليه إن لم يكن وارثاً ، على خلاف وتفصيل ، وفي الميراث ، وفي إمامة صلاة الجنازة ، وفي الولاية ، وتفصيل ذلك كلّه في مصطلح « أرحام » . وذكره الفقهاء في أبواب : الميراث ، وصلاة الجنازة ، والنّكاح ، والنّفقة .
ابن اللّبون
التّعريف
1 - ابن اللّبون : ولد النّاقة الذّكر استكمل سنته الثّانية وطعن في الثّالثة ، سمّي بذلك لأنّ أمّه تكون قد ولدت غيره فصار لها لبن . ولا يخرج استعمال الفقهاء للكلمة عن هذا المعنى .
( الحكم الإجماليّ ومواطن البحث ) :
2 - تكلّم الفقهاء على إجزاء ابن اللّبون في الزّكاة والدّية في الزّكاة : اتّفق الفقهاء عدا الحنفيّة ، على أنّ ابن اللّبون يحلّ محلّ بنت المخاض عند فقدها ، لأنّ الأصل فيما يؤخذ في زكاة الإبل الإناث ، ويجوز في بعض المذاهب حلول الذّكر الأعلى سنّاً محلّ الأنثى الواجبة . وقال الحنفيّة : لا يحلّ محلّها ، بل يصار إلى القيمة . في الدّية : اتّفقت المذاهب الأربعة على أنّ ابن اللّبون لا يكون من أصناف الدّية المغلّظة ، ومنع الحنفيّة والحنابلة أخذه في الدّية المخفّفة أيضاً . وقال الشّافعيّة والمالكيّة : يدفع في الدّية المخفّفة ويكون من أصنافها .
ابن مخاض
التّعريف
1 - ابن المخاض : ولد النّاقة إذا دخل في السّنة الثّانية . سمّي بذلك لأنّ أمّه قد لحقت بالمخاض ، أي الحوامل . وإن لم تكن حاملاً . ولا يخرج استعمال الفقهاء للكلمة عن هذا المعنى .
( الحكم الإجماليّ )
2 - اتّفقت المذاهب على أنّ الأصل عدم إجزاء ابن المخاض في الزّكاة . ولكنّ الحنفيّة أجازوا أخذه فيها بالقيمة الكائنة لبنت المخاض ، لأنّ القيمة تجزئ عندهم في كلّ أصناف الزّكاة . أمّا في الدّية فيجوز أن يدخل في أصناف الدّية المخفّفة عند الحنفيّة والحنابلة وفي رأي للشّافعيّة . أمّا عند المالكيّة ، وهو الرّاجح عند الشّافعيّة ، فلا يجوز ذلك . واتّفقوا على أنّه لا يدخل في أصناف الدّية المغلّظة .
أبنة
التّعريف
1 - أصل الأبنة في اللّغة العقدة . ومن إطلاقاتها المتعدّدة في اللّغة والعرف أنّها نوع من الأمراض الّتي تحدث في باطن الدّبر يجعل صاحبه يشتهي أن يفعل به الفعل المحرّم ، وهو فعل قوم لوط عليه السلام . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا الإطلاق .
( الحكم الإجماليّ )
2 - من أصيب بهذا الدّاء يفترض عليه مجاهدة نفسه والامتناع عن دواعيه . فإن وقع في هذا المحرّم أجريت عليه أحكام اللّواط . ومن رمى به غيره تطبّق عليه أحكام القذف حدّاً أو تعزيراً .
( مواطن البحث )
3 - يتكلّم الفقهاء عن الأبنة في الاقتداء في باب صلاة الجماعة ( بطلان الاقتداء ) ، وفي الخيار ( خيار النّقيصة ) وفي القذف ، وفي اللّواطة الوارد ذكرها في كتاب الحدود .
إبهام
التّعريف
1 - يرد لفظ « إبهام " في اللّغة بمعنيين : الأوّل : اسم للإصبع الكبرى المتطرّفة في اليد والقدم ، وهي الإصبع الّتي تلي السّبّابة . والثّاني : أن يبقى الشّيء لا يعرف الطّريق إليه . وعلى هذا فالكلام المبهم هو الكلام الّذي لا يعرف له وجه يؤتى منه . وهو عند الفقهاء والأصوليّين لا يخرج عن المعنى اللّغويّ في الجملة ، فقد جعله بعض الأصوليّين لفظاً شاملاً للخفيّ والمشكل والمجمل والمتشابه بينما جعله البعض الآخر مرادفاً للفظ « مجمل » . وسيأتي تفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ من الموسوعة . أمّا المقارنة بين لفظ « إبهام » « وجهالة وغرر وشبهة » ... وغيرها ، فموطن تفصيله عند الكلام عن « جهالة » .\
( الحكم الإجماليّ ومواطن البحث )
2 - الإبهام قد يقع في كلام الشّارع ، وعندئذ يكون الكلام إمّا خفيّاً أو مشكلاً أو مجملاً أو متشابهاً ، وسيأتي تفصيل ذلك كلّه في الملحق الأصوليّ . وقد يقع في كلام النّاس ، كقول الرّجل : امرأتي طالق ، مع أنّ له عدّة نساء ، دون أن يبيّن الّتي يطلّقها منهنّ .
3 - وإذا وقع الإبهام ( بمعنى الغموض ) في العقود ، كان العقد فاسداً في الجملة . أمّا إذا وقع في غير العقود وجب البيان ، إمّا بنصّ من المبهم ، وإمّا بالقرعة فيما تشرع فيه ، عند بعض الفقهاء ، كمن طلّق إحدى نسائه ومات ولم يبيّن يقرع بينهنّ لمعرفة من تستحقّ الميراث ومن لا تستحقّ . ويفصّل الفقهاء ذلك في أبوابه بحسب محلّ الإبهام كالنّكاح والطّلاق والإقرار والبيوع والوصيّة . وأمّا الإبهام بمعنى الإصبع فإنّ الجناية عليها عمداً توجب القصاص ، وخطأً توجب عشر الدّية . وتفصيل ذلك في الجنايات والدّيات .
أبوان
التّعريف
1 - أبوان تثنية أب ، على الحقيقة ، كما تقول لزيد وعمرو : هذان أبواكما ، أو على المجاز ، كما في قول اللّه تعالى حاكياً عن يعقوب من قوله ليوسف { ويتمّ نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمّها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق } فإنّ إبراهيم وإسحاق جدّان ليوسف . وقد يطلق " الأبوان " على " الأب والأمّ " على سبيل التّغليب ، وهذا أكثر الاستعمالات شيوعاً ، وإليه ينصرف اللّفظ عند الإطلاق .
2 - الحكم الإجماليّ ومواطن البحث : ويستعمل لفظ « الأبوين " في كلام الفقهاء على طريقة استعماله عند أهل اللّغة ، دون فرق . فلو استعمل هذا اللّفظ في صيغة وصيّة أو وقف ، أو أمان ، أو قذف ، أو غير ذلك ، ينصرف إلى الأب والأمّ عند الإطلاق . فإن قامت قرينة مقاليّة على إرادة المجاز ، كأن يقول : أوصيت لأبويك فلان وفلان ، لجدّه وعمّه ، انصرف إلى ذلك ، وكذا لو قامت قرينة حاليّة ، كأن لم يكن له أب وأمّ ، ولكن جدّ وجدّة . ولمعرفة سائر أحوال الأبوين ( ر : أب . أمّ ) .
اتّباع
التّعريف
1 - يأتي الاتّباع في اللّغة بمعنى السّير وراء الغير وبمعنى الائتمام والائتمار والعمل بكلام الغير ، وبمعنى المطالبة ، وغير ذلك من المعاني . وفي الاصطلاح هو الرّجوع إلى قول ثبتت عليه حجّة ، كما أطلقه الفقهاء على المعاني اللّغويّة المذكورة آنفاً في بعض الأبواب ، وبنوا عليها أحكاماً .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - التّقليد هو العمل بقول الغير من غير حجّة . والاتّباع هو الرّجوع إلى قول ثبتت عليه حجّة ، وهو في الفعل : الإتيان بالمثل صورةً وصفةً ، وفي القول : الامتثال على الوجه الّذي اقتضاه القول . والاقتداء هو التّأسّي ، اقتدى به إذا فعل مثل فعله تأسّياً . والقدوة : الأصل الّذي تتشعّب منه الفروع .
( الحكم الإجماليّ )
3 - يختلف الحكم التّكليفيّ للاتّباع ، فقد يكون واجباً ، وذلك فيما كان طاعةً للّه سبحانه وتعالى ، مطلوبةً على سبيل الوجوب كاتّباع الشّريعة ، واتّباع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أمور الدّين . ولا خلاف في وجوب ذلك على جميع الأمّة سواء في ذلك مجتهدهم ومقلّدهم .
4 - أمّا أفعال النّبيّ صلى الله عليه وسلم الجبلّيّة ، فالاتّفاق على أنّ الحكم في اتّباعها بالنّسبة للأمّة الإباحة ، وأنّ ما بيّنه صلى الله عليه وسلم يأخذ حكم المبيّن . إن وجوباً فوجوب ، وإن ندباً فندب . وأمّا ما جهل حكمه من الأفعال فإن ظهر فيه قصد القربة فحكمه النّدب ، وإلاّ فحكم اتّباع الأمّة له فيه مذاهب : الوجوب وهو مذهب مالك ، والنّدب وهو مذهب الشّافعيّ ، والإباحة وهو الصّحيح عند أكثر الحنفيّة . وتفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ .
5 - أمّا اتّباع غير النّبيّ صلى الله عليه وسلم فمن المقرّر أنّ المجتهد فيه هو كلّ حكم شرعيّ ليس فيه دليل قطعيّ ، فلا يجوز الاجتهاد في وجوب الصّلاة ونحوها من الفرائض المجمع عليها ، ولا فيما اتّفقت عليه الأمّة من جليّات الشّرع الثّابتة بالأدلّة القطعيّة . وعلى ذلك فالمكلّف إن كان عالماً قد بلغ رتبة الاجتهاد ، واجتهد في المسألة ، وأدّاه اجتهاده إلى حكم من الأحكام ، فلا خلاف في امتناع اتّباعه لغيره في خلاف ما أدّاه إليه اجتهاده ، وإن لم يكن قد اجتهد فيها ففي جواز اتّباعه لغيره من المجتهدين خلاف . أمّا العامّيّ ومن ليس له أهليّة الاجتهاد فإنّه يلزمه اتّباع المجتهدين عند المحقّقين من الأصوليّين . وينظر تفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ .
6 - كذلك يجب اتّباع أولي الأمر وهم الأئمّة ، ولا خلاف في وجوب طاعتهم في غير معصية . وكذلك يجب اتّباع المأموم للإمام في الصّلاة باتّفاق .
7 - وقد يكون الاتّباع مندوباً وذلك كاتّباع الجنازة وقد يكون الاتّباع محرماً ، وذلك كاتّباع الهوى . أمّا الاتّباع بمعنى المطالبة بالدّين ، فهذا حقّ من الحقوق الّتي تثبت للدّائن على المدين ، فمن كان له دين على آخر فله حقّ اتّباعه به ، أو اتّباع الكفيل إن وجد والاعتبار هنا للدّين الّذي يتعلّق بالذّمّة ، وقد يتعلّق الدّين بالعين فتتّبع به .
( مواطن البحث )
8 - للاتّباع أحكام كثيرة مفصّلة في مواطنها ، من ذلك مبحث الاجتهاد والتّقليد عند الأصوليّين ، ومباحث صلاة الجماعة ، وحمل الميّت في باب صلاة الجنازة ، والإمامة في كتب الأحكام السّلطانيّة ، وكذلك في الحجر والرّهن الوديعة والكفالة عند الفقهاء .
اتّجار
انظر : تجارة .
اتّحاد الجنس والنّوع
التّعريف
1 - الجنس لغةً الضّرب من كلّ شيء ، وهو أعمّ من النّوع . والنّوع لغةً الصّنف ، وهو أخصّ من الجنس . والاتّحاد امتزاج الشّيئين واختلاطهما حتّى يصيرا شيئاً واحداً . ولا يخرج استعمال الفقهاء للجنس والنّوع والاتّحاد عن المعنى اللّغويّ ، لكنّهم يختلفون في معنى اتّحاد الجنس . فهو عند الحنفيّة اتّحاد الاسم الخاصّ واتّحاد المقصود . ويقصد به المالكيّة استواء المنفعة أو تقاربها . وقال الشّافعيّة هو أن يجمع البدلين اسم خاصّ ، فالقمح والشّعير جنسان لا جنس واحد . ولا عبرة بالاسم الطّارئ ، كالدّقيق ، الّذي يطلق على طحين كلّ منهما ومع ذلك يعتبران جنسين . وعرّفه الحنابلة باشتراك الأنواع في أصل واحد وإن اختلفت المقاصد . وقد يختلف المراد بالجنس عند بعض الفقهاء من موضع لآخر ، فالذّهب والفضّة جنسان في البيوع عند المالكيّة ، جنس واحد في الزّكاة ، فالمجانسة العينيّة لا تعتبر في الزّكاة عندهم ، وإنّما يكتفى فيها بتقارب المنفعة . واتّحاد الجنس جزء علّة عند الحنفيّة في تحريم بيع الرّبويّ بمثله ، لأنّ العلّة عندهم جزءان هما الجنس والقدر . والقدر : هو الوزن أو الكيل . أمّا عند غيرهم فهو شرط .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
( الحكم الإجماليّ )
2 - اتّحاد الجنس شرط لصحّة أداء الواجب في الزّكاة ، ومقيّد لبعض التّصرّفات ، فعند اتّحاد جنس النّصاب في زكاة غير الإبل يرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّه يجزئ الخارج من النّصاب فما فوقه عنه ، فإن اختلف جنس الخارج عن جنس النّصاب فلا يجزئ . وقال الحنفيّة بجواز إخراج القيمة ، اتّحد الجنس أو اختلف . وفي بيع الرّبويّ بربويّ مثله إن اتّحد جنس العوضين حرم التّفاضل باتّفاق وبطل البيع ، وصحّ مع التّماثل إذا كان يداً بيد . ولا يختلف اتّحاد النّوع عن اتّحاد الجنس في الرّبويّات ، أمّا في الزّكاة فيجوز إخراج نوع عن آخر لاتّحاد الجنس .
( مواطن البحث )
3 - يتكلّم الفقهاء عن اتّحاد الجنس في الزّكاة ( زكاة المواشي والزّروع والأثمان ) وفي الحجّ ( اتّحاد الفدية ) وفي الرّبا وفي السّلم وفي المقاصّة وفي الدّعوى ( مسألة الظّفر ) .
اتّحاد الحكم
التّعريف
الاتّحاد لغةً : صيرورة الشّيئين شيئاً واحداً . وهو كذلك في الاصطلاح . والحكم : خطاب اللّه المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتضاء أو التّخيير أو الوضع . ويتناول الأصوليّون اتّحاد الحكم في موضعين : الأوّل عند ورود اللّفظ مطلقاً في مكان ، ومقيّداً في آخر . والثّاني عند الكلام على اتّحاد الحكم مع تعدّد العلّة . أمّا الأوّل فينظر القول فيه تحت عنوان ( اتّحاد السّبب ) . وأمّا الثّاني وهو اتّحاد الحكم مع تعدّد العلّة ، فقد جوّز الجمهور التّعليل للحكم الواحد بعلّتين فأكثر ، قالوا : لأنّ العلل الشّرعيّة أمارات ، ولا مانع من اجتماع علامات على الشّيء الواحد . وادّعوا وقوعه ، كما في اللّمس والمسّ والبول مثلاً ، يمنع كلّ منها الصّلاة . وجوّزه ابن فورك والرّازيّ في العلّة المنصوصة دون المستنبطة ، لأنّ الأوصاف المستنبطة الصّالح كلّ منها للعلّيّة يجوز أن يكون مجموعها هو العلّة عند الشّارع . ورأى صاحب جمع الجوامع القطع بامتناعه عقلاً . وانظر التّفصيل في الملحق الأصوليّ .
اتّحاد السّبب
التّعريف
1 - السّبب في اللّغة اسم للحبل ، ولما يتوصّل به إلى المقصود . والاتّحاد صيرورة الشّيئين شيئاً واحداً . والواحد إمّا أن يكون واحداً بالجنس كالحيوان ، أو واحداً بالنّوع كالإنسان ، أو واحداً بالشّخص كزيد . ويعرّف الفقهاء والأصوليّون السّبب بأنّه الوصف الظّاهر المنضبط الّذي أضاف الشّارع إليه الحكم ، ويلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته .
( الألفاظ ذات الصّلة )
أ - ( السّبب والعلّة ) :
2 - اختلف العلماء في العلاقة بين السّبب والعلّة ، فقيل هما مترادفان ، فالتّعريف السّابق صالح لهما . ولا تشترط في أيّ منهما المناسبة . وعلى ذلك نجري في هذا البحث . وقيل : إنّهما متباينان ، فالسّبب ما كان موصّلاً للحكم دون تأثير ( أي مناسبة ) ، كزوال الشّمس ، هو سبب وجوب صلاة الظّهر ، والعلّة ما أوصلت مع التّأثير ، كالإتلاف لوجوب الضّمان . وقيل : بينهما عموم وخصوص مطلق ، فكلّ علّة سبب ، ولا عكس . واتّحاد السّبب هو تماثل الأسباب لأكثر من حكم أو تشابهها أو كونها واحداً .
ب - ( الاتّحاد والتّداخل ) :
3 - التّداخل : ترتّب أثر واحد على شيئين مختلفين ، كتداخل الكفّارات والعدد . فبين اتّحاد الأسباب وتداخلها عموم وخصوص وجهيّ ، يجتمعان في نحو تعدّد بعض الجنايات المتماثلة ، كتكرار السّرقة بالنّسبة للقطع ، فالأسباب واحدة وتداخلت . وينفرد التّداخل في الأسباب المختلفة الّتي يترتّب عليها مسبّب واحد ، كحدّ القذف والشّرب عند بعض الفقهاء . وينفرد الاتّحاد في نحو الإتلافين يجب فيهما ضمانان ، وإن اتّحدا سبباً .
( الحكم الإجماليّ )
4 - إذا ورد المطلق والقيد ، واختلف حكمهما ، كما إذا قال : أطعم فقيراً ، واكس فقيراً تميميّاً ، لم يحمل المطلق على المقيّد . ونقل الغزاليّ عن أكثر الشّافعيّة الحمل عند اتّحاد السّبب ، ومثّل له باليد ، أطلقت في آية التّيمّم في قوله { فتيمّموا صعيداً طيّباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } وقيّدت في آية الوضوء بالغاية إلى المرافق في قوله تعالى { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } فذهب الشّافعيّ في الجديد إلى أنّها تمسح في التّيمّم إلى المرافق . وإن اتّحد الحكم مع اتّحاد السّبب ، فإن كانا منفيّين عمل بهما اتّفاقاً ، ولا يحمل أحدهما على الآخر ، لأنّه لا تعارض ، لإمكان العمل بهما ، كما تقول في الظّهار : لا تعتق مكاتباً ، ولا تعتق مكاتباً كافراً ، فإنّه يمكن العمل بالكفّ عنهما . وإن كانا مثبتين ( أي في حال اتّحاد الحكم مع اتّحاد السّبب ) حمل المطلق على المقيّد مطلقاً ، عند الشّافعيّة ومن وافقهم ، أي سواء تقدّم أو تأخّر أو جهل الحال وإنّما حملوه عليه جمعاً بين الدّليلين . وقيل إن وردا معاً حمل المطلق على المقيّد لأنّ السّبب الواحد لا يوجب المتنافيين ، والمعيّة قرينة البيان ، كقوله تعالى { فصيام ثلاثة أيّام } مع القراءة الشّاذّة الّتي اشتهرت عن ابن مسعود : فصيام ثلاثة أيّام متتابعات فمن ذلك أخذ الحنفيّة وجوب التّتابع في صيام كفّارة اليمين . وإن علم تأخّر المقيّد فهو ناسخ للمطلق نسخاً جزئيّاً ، وقيل يحمل المقيّد على المطلق بأن يلغى القيد . وقوع حكمين بعلّة واحدة :
5 - المختار جواز وقوع حكمين بعلّة واحدة ، إثباتاً ، كالسّرقة للقطع والغرم حين يتلف المسروق - عند من يرى الجمع بين القطع والضّمان - أو نفياً ، كالقتل علّة للحرمان من الإرث والوصيّة . وقيل يمتنع تعليل حكمين بعلّة بناءً على اشتراط المناسبة فيها ، لأنّ مناسبتها لحكم تحصّل المقصود منها ، فلو ناسبت آخر لزم تحصيل الحاصل . وأجيب بمنع ذلك . والقول الثّالث في هذه المسألة أنّه يجوز تعليل حكمين بعلّة واحدة إن لم يتضادّا بخلاف ما إذا تضادّا ، كالتّأبيد لصحّة البيع وبطلان الإجارة .
( مواطن البحث )
6 - يذكر الفقهاء اتّحاد السّبب - أو اتّحاد العلّة - في الطّهارة في الوضوء ، والغسل ، وفي الصّوم ( كفّارة الصّيام ) وفي الإحرام ( محرّماته ) وفي الإقرار ( تكرار الإقرار ) وفي الحدود ( تكرار القذف ، والزّنى ، والشّرب ، والسّرقة ) وفي الأيمان ( كفّارة اليمين ) وفي الجنايات على النّفس وما دونها . وعند الأصوليّين يذكر اتّحاد السّبب في المطلق والمقيّد . وتفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ .
اتّحاد العلّة
انظر : اتّحاد السّبب .
اتّحاد المجلس
التّعريف
1 - الاتّحاد لغةً : صيرورة الذّاتين واحدةً ، ولا يكون إلاّ في العدد من اثنين فصاعداً ، والمجلس هو موضع الجلوس . ويراد به المجلس الواحد عند الفقهاء ، وبالإضافة إلى ذلك يستعمله الحنفيّة دون غيرهم بمعنى تداخل متفرّقات المجلس . وليس المراد بالمجلس موضع الجلوس ، بل هو أعمّ من ذلك ، فقد يحصل اتّحاد المجلس مع الوقوف ، ومع تغاير المكان والهيئة .
2 - والأصل إضافة الأحكام إلى أسبابها ، كقولهم كفّارة اليمين أو سجدة السّهو ، وقد يترك ذلك وتضاف إلى غير الأسباب ، كالمجلس للضّرورة ، كما في سجدة التّلاوة إذا تكرّرت في مجلس واحد ، أو للعرف ، كما في الأقارير ، أو لدفع الضّرر كما في الإيجاب والقبول . واتّحاد المجلس يؤثّر في بعض الأحكام منفرداً ، وأحياناً لا يؤثّر إلاّ مع غيره ، وذلك نحو اشتراط اتّحاد النّوع مع اتّحاد المجلس في تداخل فدية محظورات الإحرام . واتّحاد المجلس في العقود وغيرها على قسمين : حقيقيّ بأن يكون القبول في مجلس الإيجاب ، وحكميّ إذا تفرّق مجلس القبول عن مجلس الإيجاب كما في الكتابة والمراسلة ، فيتّحدان حكماً . واتّحاد المجلس في الحجّ يراد به اتّحاد المكان ولو تغيّرت الحال ، وفي تجديد الوضوء عدم تخلّل زمن طويل ، أو عدم الفصل بأداء قربة ، كما تدلّ على ذلك عبارات الفقهاء في الوضوء والحجّ .
اتّحاد المجلس في العبادات :
3 - تجديد الوضوء مع اتّحاد المجلس : تكلّم بعض الحنفيّة والشّافعيّة في تجديد الوضوء مع اتّحاد المجلس ، ولهم في ذلك ثلاثة آراء : الأوّل : الكراهة في المجلس الواحد ، للإسراف ، وهو ما نقل عن بعض الحنفيّة ، وهو وجه للشّافعيّة - ووصفوه بالغرابة - إذا وصله بالوضوء الأوّل ولم يمض بين الوضوء والتّجديد زمن يقع بمثله تفريق . لأنّهم اعتبروه بمثابة غسلة رابعة الثّاني : استحباب التّجديد مرّةً واحدةً مطلقاً ، تبدّل المجلس أم لا ، وهو قول عبد الغنيّ النّابلسيّ من الحنفيّة ، لحديث : « من توضّأ على طهر كتب له عشر حسنات » .
الثّالث : الكراهة إذا تكرّر مراراً في المجلس الواحد ، وانتفاؤها إذا أعاده مرّةً واحدةً وهو ما وفّق به صاحب النّهر بين ما جاء في التتارخانية وما في السّراج من كتب الحنفيّة . هذا وأغلب الفقهاء على أنّه يسنّ تجديد الوضوء لكلّ صلاة ، ولم ينظروا إلى اتّحاد المجلس أو تعدّده ، وذلك للحديث السّابق .
تكرّر القيء في مجلس واحد
4 - لو قاء المتوضّئ متفرّقاً بحيث لو جمع صار ملء الفم فإن اتّحد المجلس والسّبب انتقض وضوءه عند الحنفيّة ، وإن اتّحد السّبب فقط انتقض عند محمّد ، وإن اتّحد المجلس دون السّبب انتقض عند أبي يوسف ، لأنّ المجلس يجمع متفرّقاته . ولم يشارك الحنفيّة في نقض الوضوء بالقيء إلاّ الحنابلة ، لكنّهم لم ينظروا إلى اتّحاد السّبب أو المجلس ، بل راعوا قلّة القيء وكثرته ، تكرّر السّبب والمجلس أو لا .
سجود التّلاوة في المجلس الواحد :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّ القارئ يسجد للتّلاوة عند قراءة أو سماع آية السّجدة ، أمّا إذا تكرّرت قراءتها فإنّ المالكيّة والحنابلة على أنّ القارئ يسجد كلّما مرّت به آية سجدة ولو كرّرها ، لتعدّد السّبب ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة . ولا يتكرّر السّجود عند الحنفيّة إن اتّحد المجلس والآية ، حتّى ولو اجتمع سببا الوجوب ، وهما التّلاوة والسّماع ، بأن تلاها ثمّ سمعها أو بالعكس ، أو تكرّر أحدهما . وهو أحد قولين للشّافعيّة إن لم يسجد للأولى . ومن تكرّر مجلسه من سامع أو تال تكرّر الوجوب عليه .
اختلاف المجلس وأنواعه :
6 - ما له حكم المكان الواحد كالمسجد والبيت لا ينقطع فيه المجلس بالانتقال إلاّ إن اقترن بعمل أجنبيّ كالأكل والعمل الكثيرين ، والبيع والشّراء بين القراءتين . واختلاف المجلس على نوعين : حقيقيّ ، بأن ينتقل من المكان إلى آخر بأكثر من خطوتين كما في كثير من الكتب أو بأكثر من ثلاث كما في المحيط . وحكميّ ، وذلك بمباشرة عمل يعدّ في العرف قاطعاً لما قبله ، هذا عند الحنفيّة والشّافعيّة ، أمّا غيرهم فالعبرة عندهم بالسّبب اتّحاداً وتعدّداً لا للمجلس . سجود السّامع :
7 - لا فرق بين القارئ والسّامع عند الحنفيّة في سجود التّلاوة ، ويأخذ المستمع لا السّامع حكم القارئ عند الشّافعيّة والحنابلة لقول ابن عمر : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السّورة في غير الصّلاة فيسجد ونسجد معه » وربط المالكيّة سجود المستمع الّذي جلس للثّواب والأجر والتّعليم بسجود القارئ ، فلا يسجد إن لم يسجد القارئ ، فإن سجد فحكى ابن شعبان في ذلك قولين .
الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع اتّحاد المجلس
8 - للفقهاء آراء عديدة في حكم الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم كلّما ذكر في غير الصّلاة .
ويتعلّق بالمجلس منها ثلاثة آراء :
الأوّل : أنّها تجب كلّما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم ولو اتّحد المجلس ، وبه قال جمع منهم الطّحاويّ من الحنفيّة ، والطّرطوشيّ ، وابن العربيّ ، والفاكهانيّ من المالكيّة ، وأبو عبد اللّه الحليميّ وأبو حامد الإسفرايينيّ من الشّافعيّة ، وابن بطّة من الحنابلة ، لحديث « من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ فدخل النّار فأبعده اللّه » .
الثّاني : وجوب الصّلاة مرّةً في كلّ مجلس ، وهو ما صحّحه النّسفيّ في الكافي حيث قال في باب التّلاوة : وهو كمن سمع اسمه مراراً ، لم تلزمه الصّلاة إلاّ مرّةً ، في الصّحيح ، لأنّ تكرار اسمه صلى الله عليه وسلم لحفظ سنّته الّتي بها قوام الشّريعة ، فلو وجبت الصّلاة بكلّ مرّة لأفضى إلى الحرج . وهو قول أبي عبد اللّه الحليميّ إن كان السّامع غافلاً فيكفيه مرّة في آخر المجلس .
الثّالث : ندب التّكرار في المجلس الواحد ، ذكره ابن عابدين في تحصيله لآراء فقهاء الحنفيّة . وبقيّة الفقهاء لا ينظرون إلى اتّحاد المجلس ، فمنهم من يقول : إنّها واجبة في العمر مرّةً ، ومنهم من يقول بالنّدب مطلقاً اتّحد المجلس أم اختلف . وتفصيل ذلك يذكر في مبحث الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
ما يشترط فيه اتّحاد المجلس : أوّلاً - ما يتمّ به التّعاقد في الجملة :
9 - ويراد به عند فقهاء الحنفيّة : ألاّ يشتغل أحد العاقدين بعمل غير ما عقد له المجلس ، أو بما هو دليل الإعراض عن العقد . وهو شرط للانعقاد عندهم . وهو بهذا المعنى يعتبر شرطاً في الصّيغة عند بقيّة المذاهب . وهو يدخل في المجلس العقد عند الشّافعيّة والحنابلة . ووقته ما بين الإيجاب والقبول . ومع اتّحاد المجلس لا يضرّ الفصل بين الإيجاب والقبول عند غير الشّافعيّة ما لم يشعر بالإعراض عن الإيجاب ، لأنّ القابل يحتاج إلى التّأمّل ، ولو اقتصر على الفور لا يمكنه التّأمّل . ويضرّ الفصل الطّويل عند الشّافعيّة .
خيار القبول مع اتّحاد المجلس :
10 - يثبت خيار القبول للمتعاقدين عند الحنفيّة ما داما جالسين ولم يتمّ القبول ، ولكلّ منهما حقّ الرّجوع ما لم يقبل الآخر . ولا يخالفهم الحنابلة في ذلك ، لأنّ خيار المجلس عندهم يكون في ابتداء العقد وبعده واحداً ، فخيار القبول مندرج تحت خيار المجلس . ولا خيار للقبول عند المالكيّة والشّافعيّة ، غير أنّه يجوز الرّجوع عند الشّافعيّة ولو بعد القبول ، ما دام ذلك في المجلس ، ولا يجوز الرّجوع عند المالكيّة ولو قبل الارتباط بينهما إلاّ في حالة واحدة ، وهي أن يكون الإيجاب أو القبول بصيغة المضارع ثمّ يدّعي القابل أو الموجب أنّه ما أراد البيع فيحلف ويصدّق .
بم ينقطع اتّحاد المجلس ؟ 11 - ينقطع اتّحاد المجلس بالإعراض عن الإيجاب عند جميع الفقهاء ، غير أنّهم اختلفوا في الأمور الّتي يحصل معها الإعراض ، فالشّافعيّة جعلوا الاشتغال بأجنبيّ خارج عن العقد إبطالاً له ، وكذلك السّكوت الطّويل بين الإيجاب والقبول ، لكنّ اليسير لا يضرّ . وجعل المالكيّة والحنابلة العرف هو الضّابط لذلك . وقال الحنفيّة : ينقطع باختلاف المجلس ، فلو قام أحدهما ولم يذهب بطل الإيجاب ، إذ لا يبقى المجلس مع القيام . وإن تبايعا وهما يسيران ، ولو كانا على دابّة واحدة ، لم يصحّ لاختلاف المجلس . واختار غير واحد كالطّحاويّ وغيره أنّه إن أجاب على فور كلامه متّصلاً جاز . وفي الخلاصة عن النّوازل إذا أجاب بعدما مشى خطوةً أو خطوتين جاز . وكذلك يختلف المجلس بالاشتغال بالأكل وتغتفر اللّقمة الواحدة ، ولو كان في يده كوز فشرب ثمّ أجاب جاز . ولو ناما جالسين فلا يتبدّل المجلس ، ولو مضطجعين أو أحدهما فهي فرقة . وهذه الصّور الّتي تكلّم عنها الحنفيّة لم تغفلها كتب المذاهب الأخرى ، غير أنّهم تكلّموا عنها أثناء الكلام عن المجلس لا في الكلام عن اتّحاد المجلس ، لأنّه اصطلاح خاصّ بالحنفيّة ، وموطن تفصيلها عند الكلام عن مجلس العقد .
12 - وغير البيع مثله في الجملة عند الحنفيّة ، والحنابلة ، والمالكيّة ، غير أنّ المتتبّع لعقود المالكيّة يجد أنّ منهم من يشترط الفوريّة في الوكالة والنّكاح . ولا تختلف أيضاً العقود اللاّزمة عن البيع عند الشّافعيّة في الفوريّة بين الإيجاب والقبول . أمّا غير اللاّزمة فلا يضرّ التّراخي فيها بين الإيجاب والقبول . ثانياً - التّقابض في الأموال الرّبويّة :
13 - إذا بيع ربويّ بمثله اشترط اتّحاد المجلس ، وسواء اتّحد جنس المبيع أو اختلف ، لما صحّ من قوله صلى الله عليه وسلم : « الذّهب بالذّهب ، والفضّة بالفضّة ، والبرّ بالبرّ ، والشّعير بالشّعير ، والتّمر بالتّمر ، والملح بالملح : مثلاً بمثل ، سواءً بسواء ، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد » ، وبيان الرّبويّ من غيره يذكره الفقهاء في الرّبا .
اتّحاد المجلس في السّلم
14 - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه يشترط تسليم رأس مال السّلم في مجلس العقد ، إذ لو تأخّر لكان في معنى بيع الكالئ بالكالئ ، ولخبر الصّحيحين : « من أسلف فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، إلى أجل معلوم » ، ولأنّ السّلم عقد غرر فلا يضمّ إليه غرر آخر ، ولأنّ السّلم مشتقّ من استلام رأس المال ، أي تعجيله ، وأسماء العقود المشتقّة من المعاني لا بدّ فيها من تحقّق تلك المعاني . ولا يختلف مجلس السّلم عن مجلس البيع عند الشّافعيّة والحنابلة . وعند الحنفيّة يخالف مجلس السّلم مجلس البيع ، فمجلس البيع ينتهي بمجرّد ارتباط الإيجاب بالقبول ، وتترتّب عليه الآثار . أمّا السّلم فيعتريه الفسخ إن لم يتمّ قبض رأس المال في المجلس وبعد الإيجاب والقبول ، لأنّه شرط بقاء على الصّحّة وليس شرط انعقاد . وقال المالكيّة بتأخيره ثلاثة أيّام ، لأنّ ما قارب الشّيء يأخذ حكمه ، وإذا أخّره عن ثلاثة أيّام بغير شرط وهو نقد ففيه تردّد ، منهم من يقول بالفساد ، لأنّه ضارع الدّين بالدّين ، ومنهم من يقول بالصّحّة ، لأنّه تأخير بغير شرط ، وهذا ما لم تبلغ الزّيادة إلى حلول المسلّم فيه ، فإن أخّره إلى حلول أجل السّلم الّذي وقع عليه العقد فإنّه لا يختلف في فساده . ولا يدخله خيار الشّرط عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ويدخله خيار المجلس عند الشّافعيّة والحنابلة . وقال المالكيّة بجواز الخيار في السّلم إن شرط ولم ينقد رأس المال في زمن الخيار ، لأنّه لو نقد وتمّ السّلم لكان فسخ دين في دين ، لإعطاء المسلّم إليه سلعةً موصوفةً لأجل عمّا ترتّب في ذمّته ، وهو حقيقة فسخ الدّين بالدّين .
اتّحاد المجلس في عقد النّكاح :
15 - للعلماء في ارتباط الإيجاب بالقبول في عقد النّكاح مع اتّحاد المجلس ثلاثة آراء : الأوّل : اشتراط اتّحاد المجلس فلو اختلف المجلس لم ينعقد كما لو أوجب أحدهما فقام الآخر أو اشتغل بعمل آخر ، ولا يشترط فيه الفور . وهو مذهب الحنفيّة ، وهو الصّحيح عند الحنابلة ، وهو ما في المعيار عن الباجيّ من المالكيّة . الثّاني : اشتراط الفوريّة بين الإيجاب والقبول في المجلس الواحد ، وهو قول المالكيّة عدا ما تقدّم عن الباجيّ ، وهو قول الشّافعيّة ، غير أنّهم اغتفروا فيه الفاصل اليسير . وضبط القفّال الفاصل الكثير بأن يكون زمناً لو سكتا فيه لخرج الجواب عن كونه جواباً . والأولى ضبطه بالعرف . الثّالث : صحّة العقد مع اختلاف المجلس ، وهو رواية للحنابلة . وعليها لا يبطل النّكاح مع التّفرّق . وهذا كلّه عند اتّحاد المجلس الحقيقيّ ، أمّا مع اتّحاد المجلس الحكميّ فلا يختلف الأمر عند الحنفيّة في اشتراط القبول في مجلس العلم ، وهو الصّحيح عند الحنابلة . واشترط المالكيّة الفوريّة في الإيجاب حين العلم . والصّحيح عند الشّافعيّة أنّه لا ينعقد النّكاح بالكتابة . وكذلك إن كان الزّوج غائباً وبلغه الإيجاب من وليّ الزّوجة . وإذا صحّحنا في المسألتين فيشترط القبول في مجلس بلوغ الخبر وعلى الفور . تداخل الفدية في الإحرام مع اتّحاد المجلس :
16 - لا يحصل التّداخل في المحظورات مع اتّحاد المجلس إلاّ إن اتّحد النّوع ، وأمّا مع اختلاف النّوع والجنس في المحظورات فلا اعتبار لاتّحاد المجلس ، وإنّما العبرة حينئذ باتّحاد السّبب . واتّحاد المجلس له أثره في تداخل فدية محظورات الإحرام غير فدية الإتلاف فإنّها تتعدّد بتعدّد المتلف ، وذهب ابن عبّاس إلى أنّه لا جزاء على العائد سواء أكان المحظور إتلافاً أم غيره . والتّداخل مع اتّحاد المجلس يختلف في فدية الجماع عنه في بقيّة محظورات النّوع الواحد . تداخل فدية غير الجماع :
17 - لو تطيّب المحرم بأنواع الطّيب ، أو لبس أنواعاً كالقميص والعمامة والسّراويل والخفّ ، أو نوعاً واحداً مرّةً بعد أخرى ، فإن كان ذلك في مكان واحد وعلى التّوالي ففيه فدية واحدة لاتّحاد المجلس . والحنفيّة ، غير محمّد بن الحسن ، والشّافعيّة على الأصحّ عندهم ، وابن أبي موسى من الحنابلة ، على أنّه لو حدث ما ذكر في مكانين تعدّدت الفدية . والمذهب عند الحنابلة وعليه الأصحاب أنّ عليه فديةً واحدةً إن لم يكفّر عن الأوّل ، لأنّ الحكم يختلف باختلاف الأسباب لا باختلاف الأوقات والأجناس . وهو قول محمّد بن الحسن من الحنفيّة ، وقول للشّافعيّة ، وهو قول المالكيّة إن نوى التّكرار . تداخل فدية الجماع في الإحرام :
18 - للفقهاء في تعدّد الفدية وتداخلها بتكرّر الجماع من المحرم ثلاثة آراء : أ - اتّحاد الفدية إن اتّحد المجلس ، وهو قول الحنفيّة . والمذهب عند الحنابلة على هذا إن لم يكفّر عن الأوّل . ويكفّر عن الأخير إن كان كفّر للسّابق .
ب - اتّحاد الفدية مطلقاً سواء اتّحد المجلس أو اختلف ، لأنّ الحكم للوطء الأوّل ، وهو قول المالكيّة .
ج - تكرّر الفدية بتكرّر الجماع ، لأنّه سبب للكفّارة ، فأوجبها ، وهو قول الشّافعيّة ، ورواية عن أحمد .
اتّحاد المجلس في الخلع :
19 - المذاهب الأربعة على أنّ الزّوج لو خالع امرأته فإنّ القبول يقتصر على المجلس ، غير أنّ العبرة عند الحنفيّة بمجلس الزّوجة إن لم يشترطا الخيار فيه ، وما لم تبدأ الزّوجة به ، ولا يصحّ رجوع الزّوج ولو قبل قبولها ، ويصحّ رجوعها ما لم يقبل إن كانت هي البادئة . والعبرة عند بقيّة الفقهاء بمجلس المتخالعين معاً ، وهو قول الحنفيّة إن كانت الزّوجة هي الموجبة ، وكذلك إن اشترطا الخيار فيه ، والفور والتّراخي في الإيجاب والقبول كالبيع عندهم . وهذا كلّه عند عدم التّعليق . ولا يشترط القبول في المجلس في صيغة التّعليق إلاّ عند ابن عبد السّلام من المالكيّة ، وكذلك إن كانت الزّوجة هي البادئة عند الشّافعيّة والحنابلة نظراً للمعاوضة . وإنّما يكون القبول في صيغة التّعليق عند حصول ما علّق عليه . ومجلس العلم كمجلس التّواجب في الخلع عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو ما يفهم من المالكيّة والحنابلة ، فلم يصرّحوا بذلك ، لكنّهم ذكروا أنّ صيغة الخلع كصيغة البيع ، وفي كلامهم عن الخلع مع غيبة الزّوجة لم يأتوا بجديد يخالف حضور الزّوجة ، ولم يخصّوا الوكيل بجديد كذلك .
اتّحاد مجلس المخيّرة :
20 - المخيّرة هي الّتي ملّكها زوجها طلاقها بقوله لها مثلاً : اختاري نفسك . ومذهب الحنفيّة ، ورواية عن مالك ، أنّه لو خيّر امرأته أو جعل أمرها بيدها ، فلها أن تختار ما دامت في مجلسها - قال الحنفيّة : ولو طال يوماً أو أكثر - فلو قامت أو أخذت في عمل آخر خرج الأمر من يدها لأنّه دليل الإعراض والتّخيير يبطل بصريح الإعراض فكذلك بما يدلّ عليه ، غير أنّ العبرة عند الحنفيّة بمجلس الزّوجة لا بمجلس الزّوج ، لأنّه تمليك ، والعبرة عند المالكيّة بمجلسهما معاً . والشّافعيّة - على الأصحّ - والحنابلة يشترطون الفوريّة في المجلس والاعتداد بمجلسهما معاً فلو قام أحدهما بطل خيارها . روى النّجّاد بإسناده عن سعيد بن المسيّب أنّه قال : قضى عمر وعثمان في الرّجل يخيّر امرأته أنّ لها الخيار ما لم يتفرّقا . وجعل المالكيّة في الرّواية الثّانية الخيار لها خارج المجلس ما لم تقف أمام حاكم أو توطأ طائعةً . وهو قول الزّهريّ وقتادة وأبي عبيد وابن المنذر . واحتجّ ابن المنذر بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعائشة لمّا خيّرها : « إنّي ذاكر لك أمراً ، فلا عليك ألا تعجّلي حتّى تستأمري أبويك » ، وهذا يمنع قصره على المجلس . وما تقدّم هو في الحاضرة ، فإن كانت المخيّرة غائبةً فلا يختلف الحال عند الحنفيّة . ويفهم من عبارات الشّافعيّة كذلك عدم الاختلاف بين الغائبة والحاضرة ، فالخلع - على الأصحّ - طلاق ، ومجلس العلم فيه كمجلس التّواجب . وكما يجرى الخلاف في المخيّرة الحاضرة عند المالكيّة يجرى أيضاً في المخيّرة الغائبة على طريقة اللّخميّ . وطريقة ابن رشد أنّه يبقى التّخيير في يدها ما لم يطل أكثر من شهرين ، كما في التّوضيح ، حتّى يتبيّن رضاها بالإسقاط ، وما لم توقف أمام حاكم ، أو توطأ طائعةً . واختلاف المجلس في المخيّرة كاختلافه في البيع . تكرار الطّلاق في المجلس الواحد :
21 - لو قال لمدخول بها ومن في حكمها : أنت طالق أنت طالق أنت طالق ، في مجلس واحد ، ونوى تكرار الوقوع ، فإنّه يقع ثلاثاً عند الأئمّة الأربعة ، ولا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره . وهو قول ابن حزم . لما روى عن محمود بن لبيد ، قال : « أخبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً ، فغضب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمّ قال : أيلعب بكتاب اللّه عزّ وجلّ وأنا بين أظهركم ؟ حتّى قام رجل ، فقال : يا رسول اللّه ألا أقتله ؟ » . وعند بعض أهل الظّاهر تقع طلقةً واحدةً . وهو قول ابن عبّاس ، وبه قال إسحاق وطاوس وعكرمة ، لما في صحيح مسلم أنّ ابن عبّاس قال : « كان الطّلاق على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثّلاث واحدةً ، فقال عمر : إنّ النّاس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم » . وإن أراد التّأكيد أو الإفهام فإنّه تقع واحدةً . وتقبل نيّة التّأكيد ديانةً لا قضاءً عند الحنفيّة ، والشّافعيّة ، وتقبل قضاءً وإفتاءً عند المالكيّة والحنابلة . وإن أطلق فيقع ثلاثاً عند الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ، لأنّ الأصل عدم التّأكيد . والقول الثّاني عند الشّافعيّة أنّه تقع طلقةً واحدةً ، لأنّ التّأكيد محتمل ، فيؤخذ باليقين . وهو قول ابن حزم . ومثل أنت طالق أنت طالق أنت طالق قوله أنت طالق طالق طالق عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وكذلك الحنابلة في وقوع الطّلاق وتعدّده عند نيّته ، وفي إرادة التّأكيد والإفهام . أمّا عند الإطلاق فإنّه يقع الطّلاق ثلاثاً في الأولى ، وتقع واحدةً في الثّانية . الفصل بين الطّلاق وعدده :
22 - لا تضرّ سكتة التّنفّس ، والعيّ ، في الاتّصال بين الطّلاق وعدده . فإن كان السّكوت فوق ذلك فإنّه يضرّ عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ولا تقع معه نيّة التّأكيد . وهو قول للمالكيّة . والقول الثّاني أنّه لا يضرّ إلاّ في غير المدخول بها . وفي المدخول بها يحصل التّأكيد بدون نسق ( أي عطفه بالفاء أو بالواو أو ثمّ ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
تكرار طلاق غير المدخول بها :
23 - للعلماء في تكرير الطّلاق لغير مدخول بها في مجلس واحد ثلاثة آراء : أ - الأوّل . وقوع الطّلاق واحدةً اتّحد المجلس أم تعدّد . وهو قول الحنفيّة والشّافعيّة وابن حزم ، لأنّها بانت بالأولى وصارت أجنبيّةً عنه ، وطلاق الأجنبيّة باطل . الثّاني : وقوع الطّلاق ثلاثاً إن نسّقه وهو قول المالكيّة والحنابلة ، فإن فرّق بين كلامه فهي طلقة واحدة . الثّالث : وقوع الطّلاق ثلاثاً إن كان في مجلس واحد ، فإن كان في مجالس شتّى وقع ما كان في المجلس الأوّل فقط . وهو مرويّ عن إبراهيم النّخعيّ . استدلّ أصحاب الرّأي الأوّل بما روي من طريق سعيد بن منصور عن عتّاب بن بشير عن خصيف عن زياد بن أبي مريم عن ابن مسعود فيمن طلّق امرأته ثلاثاً ولم يكن دخل بها ، قال : هي ثلاث ، فإن طلّقها واحدةً ، ثمّ ثنّى ، ثمّ ثلّث لم يقع عليها ، لأنّها قد بانت بالأولى . وصحّ هذا عن خلاس وإبراهيم النّخعيّ في أحد أقواله وطاوس والشّعبيّ وعكرمة وأبي بكر عبد الرّحمن بن الحارث بن هشام وحمّاد بن أبي سليمان . ودليل الثّاني ما روي من طريق سعيد بن منصور قال : حدّثنا هشيم حدّثنا المغيرة عن إبراهيم النّخعيّ فيمن قال لغير المدخول بها : أنت طالق أنت طالق أنت طالق ، وقالها متّصلةً ، لم تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره . فإن قال : أنت طالق ، ثمّ سكت ، ثمّ قال . أنت طالق ، ثمّ سكت ثمّ قال : أنت طالق بانت بالأولى ولم تكن الأخريان شيئاً ، ومثله عن عبد اللّه بن مغفّل المزنيّ وهو قول الأوزاعيّ واللّيث . ودليل القول الثّالث ما روي من طريق الحجّاج بن المنهال قال : حدّثنا عبد العزيز بن عبد الصّمد ، قال : قال لي منصور : حدّثت عن إبراهيم النّخعيّ أنّه كان يقول : إذا قال للّتي لم يدخل بها ، في مجلس واحد : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، فلا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره . فإن قام من مجلسه ذلك بعد أن طلّق طلقةً واحدةً ، ثمّ طلّق بعد ذلك ، فليس بشيء .
تكرار الطّلاق مع العطف :
24 - التّكرار مع العطف كعدمه عند الحنفيّة ، في تعدّد الطّلاق ، وفي نيّة التّأكيد والإفهام ، فلا فرق بين قوله : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، وبين قوله : أنت طالق ، وأنت طالق ، وأنت طالق ، ولا فرق بين العطف بالواو والفاء وثمّ . وهو قول الشّافعيّة إن كان العطف بالواو ، ولا تقبل نيّة التّوكيد مع الفاء وثمّ ، وفي بعض كتبهم ما يفيد أنّ التّأكيد بثمّ كالتّأكيد بالواو ، كما في العباب . ولا تقبل نيّة التّأكيد مع العطف عند المالكيّة ، والحنابلة ، لأنّ العطف يقتضي المغايرة ، ولا يتأتّى معها التّأكيد ، وهو قول الشّافعيّة إن كان العطف بالفاء وثمّ .
تكرّر الإيلاء في المجلس الواحد :
25 - الحنفيّة على أنّه لو كرّر يمين الإيلاء في مجلس واحد ، ونوى التّأكيد ، فإنّه يكون إيلاءً واحداً ويميناً واحدةً ، حتّى لو لم يقربها في المدّة طلقت طلقةً واحدةً ، وإن قرّبها فيها لزمته كفّارة واحدة . وإن لم ينو التّأكيد ، أو أطلق ، فاليمين واحدة ، والإيلاء ثلاث . وعند الشّافعيّة لا يتكرّر الإيلاء إن نوى التّأكيد . وسواء أكان ذلك في مجلس واحد ، أم في مجالس ، فإن أطلق فاليمين واحدة إن اتّحد المجلس . ولم يتكلّم الحنابلة عن اتّحاد المجلس في الإيلاء . ولم أقف على نصّ للمالكيّة في تكرار الإيلاء ، غير أنّهم يعتبرونه يميناً . والكفّارة عندهم لا تتكرّر بتكرّر اليمين ما لم ينو التّكرار .
اتّحاد المجلس في الظّهار :
26 - ليس لاتّحاد المجلس أثر إلاّ عند الحنفيّة ، وفي حالة واحدة ، وهي ما إذا كرّر الظّهار في مجلس واحد ، وأراد التّأكيد ، فإنّه يصدّق قضاءً ، ولا تتكرّر الكفّارة ، ولكنّها تتعدّد إن كرّره في مجالس . وكذلك إن كان في مجلس واحد ونوى التّكرار ، أو أطلق . ولا تتعدّد الكفّارة بتكرار الظّهار عند المالكيّة والشّافعيّة ما لم ينو الاستئناف . وسواء أكان ذلك في مجلس واحد أم في مجالس . وقال الحنابلة أيضاً بعدم التّعدّد بتكرار الظّهار ، ولو نوى الاستئناف ، لأنّ تكريره لا يؤثّر في تحريم الزّوجة ، لتحريمها بالقول الأوّل . وقاسوه على اليمين باللّه تعالى .
اتّزار
انظر : ايتزار .
اتّصال
التّعريف
1 - الاتّصال عند أهل اللّغة : عدم الانقطاع ، وهو ضدّ الانفصال والفرق بين لفظي اتّصال وموالاة : أنّ الاتّصال هو أن يوجد بين شيئين لقاء ومماسّة ، أمّا الموالاة ، فلا يشترط لقاء ولا مماسّة بين الشّيئين بل أن يكون بينهما تتابع . ويستعمل الفقهاء الاتّصال في الأعيان ، وفي المعاني . ففي الاتّصال في الأعيان يقولون : اتّصال الصّفوف في صلاة الجماعة ، والزّوائد المتّصلة بالمعقود عليه كالسّمن والصّبغ . وفي الاتّصال في المعاني يقولون : اتّصال الإيجاب بالقبول ، ونحو ذلك . والفرق بين لفظي اتّصال ووصل أنّ الاتّصال هو الأثر للوصل .
( الحكم العامّ ) :
2 - من استقراء كلام الفقهاء يتبيّن أنّ ما اتّصل من الزّوائد بالأصل اتّصال قرار شمله حكم واحد في الجملة . فالزّوائد المتّصلة تدخل في المبيع تبعاً ، وكذا ما اتّصل اتّصال قرار عند كثير من الفقهاء . ( كما ذكر الفقهاء ذلك في البيع ) ولا يجوز إفرادها بالرّهن ( كما نصّوا على ذلك في كتاب الرّهن ) كما يرى الفقهاء أنّ معاني الألفاظ غير المتّصلة لا تلحق الأصل . ومن هنا وجب الاتّصال في الاستثناء والشّرط والتّعليق والنّيّة في كنايات الطّلاق ، وفي العبادات . وفي بعض هذه خلاف . وتفصيل ذلك عند الفقهاء في أبواب الإقرار والبيع والطّلاق والأيمان والصّلاة .
الحكم العامّ للوصل :
3 - لمّا كانت الصّلة وثيقةً بين الاتّصال والوصل ناسب بيان الحكم التّكليفيّ للوصل ، فقد يكون واجباً ، كوصل القبض بالعقد في الصّرف ، وقد يكون جائزاً كوصل الاستعاذة بالبسملة بأوّل السّورة ، وقد يكون ممنوعاً كأن يوصل بالعبادات ما ليس منها . وقد ذكر الفقهاء ذلك في أبواب الصّلاة ، والأذان ، والحظر والإباحة ، ووصل البسملة بآخر السّورة كما يفصّل في التّجويد ، ووصل الصّيام بالصّيام من غير إفطار ، وهو ( صيام الوصال ) ، وقد ذكر الفقهاء ذلك في كتاب الصّيام عند كلامهم على ما يكره من الصّيام .
اتّكاء
التّعريف
1 - من معاني الاتّكاء في اللّغة : الاعتماد على شيء ، ومنه قوله تعالى حكايةً عن موسى عليه السلام : { هي عصاي أتوكّأ عليها } ومن معانيه أيضاً : الميل في القعود على أحد الشّقّين . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنيين المذكورين .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - الاستناد : في اللّغة يأتي بمعنى الاتّكاء بالظّهر لا غير فيكون بينه وبين الاتّكاء بالمعنى اللّغويّ الأوّل عموم وخصوص مطلق . وأمّا بالمعنى الثّاني فبينهما تباين .
( الحكم الإجماليّ )
3 - يختلف الحكم تبعاً للاستعمالات الفقهيّة ، فالاتّكاء في الصّلاة مطلقاً اتّفق الفقهاء على جوازه ، بمعنييه ، لأهل الأعذار . أمّا لغير أهل الأعذار فهو مكروه في الفريضة ، ويجوز في النّافلة . والاتّكاء على القبر كالجلوس عليه ، واختلفوا في حكمه ، فالجمهور على أنّه مكروه . وخالف في ذلك المالكيّة فقالوا بجوازه .
( مواطن البحث )
4 - يفصّل الفقهاء أحكام الاتّكاء في الصّلاة عند الحديث عن مكروهات الصّلاة ، ويفصّلون حكم الاتّكاء على القبر في الجنائز عند الحديث عن دفن الميّت . وحكم الاتّكاء في قضاء الحاجة في أبواب الطّهارة ، عند الحديث عن آداب قضاء الحاجة ، وحكم الاتّكاء عند الأكل في أبواب الحظر والإباحة ، وحكم الاتّكاء في المسجد لغير ضرورة في إحياء الموات عند الحديث عن المساجد ، وحكم الاتّكاء على شيء فيه صورة حيوان كالمخدّة وغيرها في أبواب النّكاح عند الحديث عن الوليمة .
إتلاف 1 - جاء في القاموس : تلف كفرح : هلك ، وأتلفه : أفناه . ويقرب من هذا المعنى اللّغويّ استعمالات الفقهاء . يقول الكاسانيّ : إتلاف الشّيء إخراجه من أن يكون منتفعاً به منفعةً مطلوبةً منه عادةً .
2 - ( الألفاظ ذات الصّلة ) : أ - ( الإهلاك ) : قد يقع الإهلاك والإتلاف بمعنًى واحد . ففي مفردات الرّاغب : الهلاك على ثلاثة أوجه : افتقاد الشّيء عنك وهو عند غيرك موجود ، كقوله تعالى : { هلك عنّي سلطانيه } وهلاك الشّيء باستحالة وفساد ، كقوله تعالى : { ويهلك الحرث والنّسل } وكقولك : هلك الطّعام . وهلك : بمعنى مات ، كقوله : { إن امرؤ هلك } وبمعنى بطلان الشّيء من العالم كقوله تعالى : { كلّ شيء هالك إلاّ وجهه } .
ب - ( التّلف ) : وهو أعمّ من الإتلاف ، لأنّه كما يكون نتيجة إتلاف الغير ، فإنّه قد يكون نتيجة آفة سماويّة . ويفهم من كلام القليوبيّ إدخال الإتلاف في عموم التّلف ، إذ قال : إنّ العاريّة تضمن إن تلفت لا باستعمال مأذون فيه ، ولو بإتلاف المالك .
ج - ( التّعدّي ) : جاء في لسان العرب : تعدّى الحقّ : جاوزه ، واعتدى فلان عن الحقّ أي جاز عنه إلى الظّلم . وقد يكون من صور الإتلاف ما هو جور واعتداء .
د - ( الإفساد ) : جاء في القاموس : أفسده أخرجه عن صلاحيته المطلوبة . وهو بهذا المعنى يكون مرادفاً للإتلاف .
هـ - ( الجناية ) : يقال جنى جنايةً ، أي أذنب ذنباً يؤاخذ به . وإن كانت الجناية في استعمال الفقهاء غلبت على الجرح والقطع . والصّلة بين اللّفظين هي تحقّق المؤاخذة في بعض صور الإتلاف ، كما تتحقّق في الجناية .
و - ( الإضرار ) : إيقاع الضّرر بالغير ، وقد يراد منه أيّ نقص يدخل على الأعيان . وقد يتحقّق هذا في بعض صور الإتلاف .
ز - ( الغصب ) : وهو أخذ مال متقوّم محترم بغير إذن المالك على سبيل المجاهرة ، وعلى وجه يزيل يده أو يقصّر يده . فالقدر المشترك بين الإتلاف والغصب تفويت المنفعة على المالك . ويختلفان في أنّ الغصب لا يتحقّق إلاّ بزوال يده أو تقصير يده . أمّا الإتلاف فقد يتحقّق مع بقاء اليد . كما يختلفان في الآثار من حيث المشروعيّة وترتّب الضّمان .
صفة الإتلاف
( حكمه التّكليفيّ )
3 - الأصل في الإتلاف : الحظر ، إذا كان غير مأذون فيه شرعاً ، كإتلاف المالك ماله المنتفع به شرعاً وطبعاً . وقد يكون الإتلاف واجباً إذا كان مأموراً من الشّارع بإتلافه كإتلاف خنزير لمسلم ، وقد يكون مباحاً كإتلاف ما استغنى عنه مالكه ولم يجد وجهاً لانتفاعه هو أو غيره به . ويترتّب على الحظر حكمه الأخرويّ وهو الإثم هذا ، ولا تلازم بين الإثم والضّمان ، فقد يجتمعان ، وقد ينفرد كلّ منهما عن الآخر ، وسيأتي تفصيل الكلام عن الضّمان في موطنه .
( أنواع الإتلاف )
4 - الإتلاف نوعان ، لأنّه إمّا أن يقع على العين ، أو على المنفعة . وعلى كلّ فإمّا أن يكون إتلافاً للكلّ أو للجزء ، سواء في العين أو المنفعة . وهذان النّوعان الإتلاف فيهما حقيقيّ . وقد يكون الإتلاف معنويّاً ، ومن ذلك منع تسليم العين المستعارة للمعير بعد طلبها منه ، أو بعد انقضاء مدّة الإعارة . يقول الكاسانيّ : إنّ الّذي يغيّر حال المستعار من الأمانة إلى الضّمان هو المغيّر لحال الوديعة ، وهو الإتلاف حقيقةً أو معنًى بالمنع بعد الطّلب ، أو بعد انقضاء المدّة ، وبترك الحفظ ، وبالخلاف ، أي استعمال العين والانتفاع بها في غير ما أذن فيه صاحبها . فقد اعتبر هذا إتلافاً من حيث المعنى وموجباً للضّمان ، كما قال الفقهاء : إنّ خلط الودائع خلطاً يمنع التّمييز بينها يعتبر إتلافاً من حيث المعنى ، وكذا بالنّسبة لخلط الدّراهم المغصوبة .
الإتلاف المشروع وغير المشروع أوّلاً - الإتلاف المشروع المتّفق على مشروعيّته :
5 - من صور الإتلاف المشروع مع ترتّب حقّ للغير ما قالوه من أنّ الإجارة لا تنعقد على إتلاف العين ذاتها إلاّ إذا كانت المنافع ممّا يقتضي استيفاؤها إتلاف العين ، كالشّمعة للإضاءة ، والظّئر للإرضاع ، واستئجار الشّجر للثّمر ، على التّفصيل والخلاف المبيّن في مصطلح إجارة . ففي هذه الصّور إتلاف للعين باستهلاكها ، وهو إتلاف مشروع ترتّب عليه حقّ للغير .
6 - ومن ذلك أيضاً إتلاف مال الغير عن طريق أكله دون إذن منه في حال المخمصة ، فإنّه إتلاف مرخّص فيه من الشّارع ، إلاّ أنّه يلزمه الضّمان عند الحنفيّة ، والأظهر عند المالكيّة ومذهب الشّافعيّة والحنابلة ، إذ التّناول حال المخمصة رخصة لا إباحة مطلقة ، وإذا استوفاه ضمنه كما يقول البزدويّ ، ويقول ابن رجب : من أتلف شيئاً لدفع الأذى عن نفسه ضمن ، أمّا من أتلف شيئاً لدفع أذاه له لم يضمن . لكنّ المالكيّة في غير الأظهر يسقطون عنه الضّمان أيضاً ، لأنّ الدّفع كان واجباً على المالك ، والواجب لا يؤخذ له عوض .
7 - ومن الإتلاف المشروع دون ترتّب حقّ للغير إتلاف الميتة والدّم وجلد الميتة وغير ذلك ممّا ليس بمال ، ولو لذمّيّ ، لعدم التّقوّم ، بدليل أنّه لا يحلّ بيعه .
8 - ومنه أيضاً ما قاله الفقهاء فيما يقع في يد أمير الجيش من أموال أهل الحرب أنّه إذا لم يمكن نقله إلى دار الإسلام يجوز له إتلافه ، فيذبح الحيوانات ثمّ يحرّقها ، لأنّ ذبحها جائز لغرض صحيح ، ولا غرض أصحّ من كسر شوكة الأعداء . وأمّا إحراقها فلتنقطع منفعة الكفّار بها ، كما يحرّق الأسلحة والأمتعة الّتي يتعذّر نقلها ، وما لا يحترق يدفن في موضع لا يقف عليه الكفّار . وهذا كلّه إذا لم يرج حصولها للمسلمين .
9 - ومنه إتلاف بناء أهل الحرب وشجرهم لحاجة القتال والظّفر بهم ، أو لعدم رجاء حصولها لنا ، والأصل في ذلك ما أخرجه الشّيخان « أنّه صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النّضير وحرّقه » .
10 - ومن ذلك ما قالوه في إتلاف كتب السّحر ونحوها ممّا لا ينتفع به . وكيفيّة إتلافها أنّه يمحى منها اسم اللّه وملائكته ورسله ويحرّق الباقي . ولا بأس بأن تلقى في ماء جار ، أو تدفن كما هي . قال ابن عابدين : وكذا جميع الكتب إذا بليت وخرجت عن الانتفاع بها . ونقل عميرة عن شرح المهذّب : وكتب الكفر والسّحر ونحوها يحرم بيعها ويجب إتلافها . ومن ذلك أيضاً ما قاله الفقهاء في دفع الصّائل من أنّ من صالت عليه بهيمة فلم تندفع إلاّ بالقتل فقتلها لم يضمن لأنّه إتلاف بدفع جائز وتفصيل ذلك وبيان الأقوال فيه موضعه مصطلح صيال . ثانياً : إتلاف مشروع ، وفي ترتّب الضّمان عليه خلاف :
11 - إتلاف الخمر والخنزير على المسلم لا يترتّب عليه الضّمان ، سواء أكان المتلف مسلماً أم ذمّيّاً . أمّا لو كانت الخمر مملوكةً لذمّيّ فإنّ الحنفيّة والمالكيّة يقولون بالضّمان . ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّها لا تضمن ، لانتفاء تقوّمها كسائر النّجاسات إلاّ إذا انفرد الذّمّيّون بمحلّة ولم يخالطهم مسلم فإنّها لا تراق عليهم لإقرارهم عليها . واتّفق الفقهاء على أنّ الخمر إذا غصبت من مسلم وكانت محترمةً - وهي الّتي عصرت لا بقصد الخمريّة ، وإنّما بقصد التّخليل ( صيرورتها خلّاً ) - فإنّها لا تراق أيضاً ، وإنّما تردّ إليه ، لأنّ له إمساكها لتصير خلّاً .
12 - ومن أتلف طبل الغزاة والصّيّادين والدّفّ الّذي يباح في العرس ضمن اتّفاقاً . أمّا لو أتلف على إنسان آلةً من آلات اللّهو والفساد فإنّ الجمهور ( الصّاحبين من الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة في مقابل الأصحّ عندهم ) يرون عدم الضّمان ، لأنّها آلات لهو وفساد ، فلم تكن متقوّمةً ، كالخمر ، ولأنّه لا يحلّ بيعها ، فلم يضمنها كالميتة ، ولما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّ اللّه حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام » وقال : « بعثت بمحق القينات والمعازف » كما أنّ منفعتها محرّمة ، والمحرّم لا يقابل بشيء ، مع وجوب إبطالها على القادر عليه . ويرى الإمام أبو حنيفة - وهو ما يستفاد من كلام المالكيّة ، والأصحّ عند الشّافعيّة - أنّه يضمن قيمتها غير مصنوعة ، لأنّها كما تصلح للّهو والفساد فإنّها تصلح للانتفاع بها من وجه آخر ، فكان مالاً متقوّماً من هذا الوجه . ويستفاد من كلام المالكيّة في السّرقة أنّهم متّفقون مع أبي حنيفة في القول بالضّمان ، إذ قالوا : ولا قطع في سرقة آلة لهو كطنبور إلاّ إذا كان المتخلّف منه بعد الكسر تبلغ قيمته حدّ القطع فإنّه يقطع . وهذا يفيد أنّ من أتلفه يضمن قيمته غير مصنوعة على ما قاله أبو حنيفة . ويقول النّوويّ من الشّافعيّة : الأصنام وآلات الملاهي لا يجب في إبطالها شيء ، والأصحّ أنّها لا تكسر الكسر الفاحش ، بل تفصل لتعود كما كانت قبل التّأليف . فإن عجز المنكر عن رعاية هذا الحدّ في الإنكار لمنع صاحب المنكر أبطله كيف تيسّر . وعلّق الرّمليّ على ذلك بقوله فإن أحرقها ولم يتعيّن الإحراق وسيلةً لإفسادها غرم قيمتها مكسورةً بالحدّ المشروع ، لتموّل رضاضها - أي ما تبقّى منها - واحترامه .
13 - وبالنّسبة لآنية الذّهب والفضّة فإنّ من قال بجواز اقتنائها قال بالضّمان ، أمّا من منع اقتناءها فإنّه لا يوجب ضمان الصّنعة ، وضمن ما يتلفه من العين . وفي رواية عن أحمد : يضمن الصّنعة أيضاً ، على ما هو مبيّن في مصطلح ( آنية ) . ثالثاً : إتلاف مختلف في مشروعيّته :
14 - صرّحت بعض كتب الحنفيّة والشّافعيّة بأنّه لو أذن الرّاهن للمرتهن في أكل زوائد الرّهن فلا ضمان عليه ، لأنّه أتلفه بإذن المالك ، ولا يسقط شيء من الدّين ويكون الإتلاف مشروعاً بناءً على الإذن . وتفصيل ذلك موضعه ( الرّهن ) .
15 - وهناك اتّجاه بأنّ هذا إتلاف غير مشروع برغم الإذن ، وهو ما نقله صاحب الدّرّ من الحنفيّة عن التّهذيب من أنّه يكره للمرتهن أن ينتفع بالرّهن وإن أذن له الرّاهن ، بل نقل عن محمّد بن أسلم عدم الحلّ لأنّه رباً . لكن قال صاحب الدّرّ : إنّ ذلك محمول على الكراهة .
16 - وهناك اتّجاه ثالث صرّح به الحنابلة وهو التّفريق بين الرّهن في دين القرض وغيره ، إذ قالوا : إذا كان الرّهن بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض جاز للمرتهن أن ينتفع بالمرهون بغير عوض بإذن الرّاهن ، وقالوا : إنّ ذلك مرويّ عن الحسن وابن سيرين وبه قال إسحاق . وإن كان دين الرّهن من قرض لم يجز لأنّه يحصل قرضاً يجرّ منفعةً وذلك حرام . وإذا كان المرهون له مئونةً ، فينتفع بنمائه نظير مئونته بإذنه أو بغير إذنه . ومذهب المالكيّة عدم مشروعيّة ذلك إلاّ في رهن المبيع ، فإنّه يجوز في صورة ما إذا اشترط ذلك وكان بعوض ، لأنّ السّلعة المبيعة بعضها في مقابلة ما يسمّى من الثّمن وبعضها في مقابلة المنفعة . فالمنفعة لم تضع على الرّاهن . ولا يجوز ذلك في القرض لأنّه يكون قرضاً جرّ نفعاً ، ويمتنع التّطوّع بالمنفعة في القرض والبيع مطلقاً . رابعاً : إتلاف غير مشروع يوجب الجزاء حقّاً للّه :
17 - وذلك في حالتين :
1 - الصّيد في حالة الإحرام داخل الحرم أو خارجه .
2 - الصّيد في الحرم للمحلّ والمحرم . كما يلحق بصيد الحرم نباته . وبيان ذلك فيما يلي : إنّ المحرم إذا قتل صيداً فعليه الجزاء ، لقوله تعالى { لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمّداً فجزاء مثل ما قتل من النّعم } ، ولحديث « أبي قتادة أنّه لمّا صاد الأتان الوحشيّة وأصحابه محرمون قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها » 18 - وذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ حكم الدّلالة كحكم الصّيد ، للحديث السّابق ، لأنّ سؤال النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدلّ على تعلّق التّحريم بذلك أيضاً . ولأنّه تفويت الأمن على الصّيد ، إذ هو آمن بتوحّشه وتواريه ، فصار كالإتلاف . ويستوي في ذلك العامد والنّاسي لأنّه ضمان ، وليس عقوبةً فلا يشترط فيه العمديّة . أمّا المالكيّة والشّافعيّة فيخالفون في ترتّب الجزاء على الدّالّ ، لأنّ وجوب الجزاء يعتمد الإتلاف ، فأشبه غرامات الأموال . يقول النّوويّ : وإن أتلف من حرم عليه الاصطياد من محرم أو حلال صيداً ضمنه . ويقول القليوبيّ وخرج بالإتلاف الإعانة ولو على ذبحه أو الدّلالة عليه ونحو ذلك .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
19 - والجزاء عند أبي حنيفة وأبي يوسف أن يقوّم الصّيد في المكان الّذي قتل فيه ، أو في أقرب المواضع منه ، ثمّ هو مخيّر في الفداء : إن شاء ابتاع بالقيمة هدياً وذبحه إن بلغت القيمة هدياً ، وإن شاء اشترى بها طعاماً وتصدّق به على المساكين . ويرى محمّد بن الحسن أنّه يجب في الصّيد النّظير فيما له نظير ، وما ليس له نظير تجب فيه القيمة عنده ، وإذا وجبت القيمة كان قوله كقولهما . وهذا أيضاً رواية عن أحمد ، فجزاء الصّيد عنده ليس على التّخيير وإنّما هو على التّرتيب فيجب المثل أوّلاً ، فإن لم يجد أطعم ، فإن لم يجد صام . وقد روي هذا عن ابن عبّاس والثّوريّ ، ولأنّ هدي المتعة على التّرتيب ، وهذا آكد منه ، لأنّه بفعل محظور . وقال المالكيّة والشّافعيّة في الفدية الواجبة في صيد الحرم الّذي له مثل : يخيّر المتلف بين ذبح مثله والصّدقة به على مساكين الحرم ، وبين أن يقوّم دراهم ويشتري بها طعاماً لهم . وما ليس له مثل يتصدّق بقيمته طعاماً . والعبرة عندهم في تقدير قيمته بالنّسبة للمكان بمحلّ الإتلاف ، قياساً على كلّ متلف متقوّم ، وبالنّسبة للزّمان يوم إرادة تقويمه بمكّة لأنّها محلّ ذبحه لو أريد . وعند العدول إلى الطّعام : الظّاهر أنّ العبرة بسعره في مكّة ، وقيل العبرة في سعره بمحلّ الإتلاف . وهو ما صرّح به الحنابلة فإنّ الجزاء هو مثل ما قتل من النّعم ولو قتله لمخمصة ، وقالوا : إنّ الجزاء يحكم به ذوا عدل من فقهاء المسلمين ، ولقاتل الصّيد أن يختار إخراج المثل أو كفّارة طعام مساكين .
20 - كما يصرّح المالكيّة والشّافعيّة أيضاً بأنّه يحرم بالحرم والإحرام إتلاف أجزاء الصّيد ، لأنّ ما ضمن جميعه بالبدل ضمن أجزاؤه كالآدميّ ، وأنّه إذا كان بيد المحرم أو رفقته ، ولم يرفع يده عنه حتّى مات ، لزمه الجزاء . وقد صرّح الحنابلة بذلك أيضاً .
21 - ولو أتلف المحرم الصّيد بأن ذبحه ثمّ أكله ضمنه للقتل دون الأكل عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لأنّه صيد مضمون بالجزاء ، فلم يضمن ثانياً ، كما لو أتلفه بغير الأكل . وقال عطاء وأبو حنيفة : يضمنه للأكل أيضاً ، لأنّه أكل من صيد محرّم عليه ، فيضمنه . وتفصيل كلّ ذلك في محظورات الإحرام ، وجزاء صيد الحرم .
22 - وبالنّسبة لنبات الحرم قالوا : إنّه يحظر قطع الأخضر من حشيش الحرم ، وما نبت فيه من غير إنبات ، إلاّ الإذخر اتّفاقاً ، لما روى ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ اللّه تعالى حرّم مكّة ، لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفّر صيدها . فقال العبّاس رضي الله عنه : إلاّ الإذخر ؟ فقال : إلاّ الإذخر » وقاسوا عليه ما يحتاج إليه للتّداوي .
23 - وقال جمهور الفقهاء غير المالكيّة : إنّ الجزاء في إتلافه هو على ما قيل في صيد الحرم ، لأنّه مثله في التّحريم ، لكنّ المالكيّة لم يفرّقوا في الحظر بين الأخضر واليابس ، كما أنّهم لم يرتّبوا جزاءً على قاطع ما حرم قطعه ، لأنّه قدر زائد على التّحريم ، يحتاج لدليل خاصّ . وقالوا : ليس فيه إلاّ الاستغفار .
24 - وقد نصّ الشّافعيّة على أنّ من قطع حشيش الحرم ، فنبت مكانه ، لم يلزمه الضّمان قولاً واحداً ، لأنّه يستخلف عادةً ، فهو كسنّ الصّبيّ إذا قلعها فنبت مكانها مثلها ، بخلاف غصن الشّجر .
25 - وقال الحنفيّة والحنابلة في وجه : لا يجوز رعي حشيش الحرم ، لأنّ ما حرم إتلافه لم يجز أن يرسل عليه ما يتلفه . كالصّيد . وقال الشّافعيّة ، وهو الوجه الثّاني عند الحنابلة : يجوز ، لأنّ الهدي كان يدخل الحرم فيكثر فيه ، ولم ينقل أنّها كانت تسدّ أفواهها ، ولأنّ بهم حاجةً إلى ذلك . وتفصيل ذلك في ( الإحرام ) .
( محلّ الإتلاف ) :
26 - الإتلاف لا يخلو إمّا أن يرد على آدميّ ، وإمّا أن يرد على غيره من الحيوانات والنّباتات والجمادات . فإن ورد على آدميّ فحكمه في النّفس وما دونها موضع بيانه عند الكلام عن الجنايات ، وإن ورد على غير آدميّ حيواناً كان أو نباتاً أو جماداً ، فإن كان مالاً مباحاً ليس فيه ملك لأحد فلا يضمن بالإتلاف - مع ملاحظة ما قيل بالنّسبة لصيد الحرم ونباته - وكذا إذا كان مملوكاً لحربيّ فإنّه لا يضمن بالإتلاف . وإن كان مالاً محترماً مملوكاً وجب الضّمان لأنّ الإتلاف اعتداء وإضرار . وقد قال اللّه تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وقال صلى الله عليه وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » ، وقد تعذّر نفي الضّرر من حيث الصّورة فيجب نفيه من حيث المعنى بالضّمان ، ليقوم الضّمان مقام المتلف ، فينتفي الضّرر بالقدر الممكن . ولهذا وجب الضّمان بالغصب ، فبالإتلاف أولى ، سواء وقع الإتلاف له صورةً ومعنًى بإخراجه عن كونه صالحاً للانتفاع ، أو معنًى بإحداث معنًى فيه يمنع من الانتفاع به مع قيامه في نفسه حقيقةً ، لأنّ كلّ ذلك اعتداء وإضرار .
( طرق الإتلاف ) :
27 - الإتلاف إمّا بالمباشرة وإمّا بالتّسبّب . والتّسبّب يكون بالفعل في محلّ يفضي إلى تلف غيره عادةً . وكلاهما يوجب الضّمان ، لأنّ كلّ واحد منهما يقع اعتداءً وإضراراً أيضاً . ويبيّن ذلك ابن رجب بقوله : أسباب الضّمان ثلاثة ، فذكر منها الإتلاف ، ثمّ قال : المراد بالإتلاف أن يباشر الإتلاف بسبب يقتضيه ، كالقتل والإحراق ، أو ينصبّ سبباً عدواناً فيحصل به الإتلاف ، كأن يؤجّج ناراً في يوم ريح عاصف ، فيتعدّى إلى إتلاف مال الغير ، أو فتح قفصاً عن طائر فطار ، لأنّه تسبّب إلى الإتلاف بما يقتضيه عادةً ، وأطال في البيان والتّفريع . والإتلاف بالمباشرة هو الأصل . ومعظم صور الإتلاف من أمثلته .
الإتلاف بالتّسبّب :
28 - الإتلاف بالتّسبّب يترتّب عليه موجبه : الضّمان في الماليّات ، والجزاء في غيرها ، وهذا متّفق عليه بين الفقهاء . ولكنّهم اختلفوا في تطبيق هذا المبدأ في بعض الفروع دون بعض ، فمثلاً : عند المالكيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن ، وهو قول للشّافعيّة : لو أنّ إنساناً فتح قفصاً فيه طائر ، فطار أو ذهب عقب فتحه ، والمباشرة إنّما حصلت ممّن لا يمكن إحالة الحكم عليه ، لزمه الضّمان ، كما لو نفّر الطّائر ، أو أهاج الدّابّة ، أو سلّط كلباً على صبيّ فقتله ، لأنّ الطّائر ونحوه من طبعه النّفور ، وإنّما يبقى بالمانع ، فإذا أزيل المانع ذهب بطبعه ، فكان ضمانه على من أزال المانع . وكذلك بالنّسبة لمن شقّ زقّ إنسان فيه دهن مائع فسال وهلك . أمّا إن فتح القفص ، وحلّ الفرس ، فبقيا واقفين ، فجاء إنسان فنفّرهما فذهبا ، فالضّمان على منفّرهما ، لأنّ سببه أخصّ ، فاختصّ به الضّمان ، كالدّافع شخصاً إلى بئر مع الحافر للبئر ، فالإتلاف ينسب للدّافع . قال أبو حنيفة وأبو يوسف وهو قول للشّافعيّة لا يضمن من حلّ رباط الفرس ، أو فتح قفص الطّائر ، إلاّ أن يكون أهاجهما حتّى ذهبا ، لأنّ مجرّد الفتح ليس بإتلاف مباشرة ولا تسبّباً ملجئاً ، لأنّ الطّير مختار في الطّيران فكان الطّيران مضافاً إلى اختياره والفتح سبباً غير ملجئ فلا حكم له . بخلاف شقّ الزّقّ ، لأنّ المائع سيّال بطبعه بحيث لا يوجد منه الاستمساك عند عدم المانع إلاّ على نقض العادة ، فكان الفتح تسبّباً للتّلف ، فيجب الضّمان . وكذا إذا حلّ رباط الدّابّة ، أو فتح باب الإصطبل . وقد ذكرت هذه الأمثلة لتكون دلالةً على اتّجاهات الفقهاء في تطبيق مبدإ التّسبّب . وأطال الفقهاء في التّفريع وذكر الصّور في بابي الغصب والضّمان .
ما تتلفه الدّوابّ :
29 - إذا أتلفت الدّابّة زرعاً للغير ، وكان ذلك ليلاً ، ضمن صاحبها عند الجمهور ، لأنّ فعلها منسوب إليه ، وعليه تعهّدها وحفظها ، ولأنّ نفع أكلها من الزّرع عائد عليه . وفي رواية أخرى عن أبي حنيفة أنّه لا يضمن . لما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « العجماء جرحها جبار » ولأنّها أفسدت وليست يده عليها فلم يلزمه الضّمان ، كما لو كان الإتلاف نهاراً ، أو أتلفت غير الزّرع . واستدلّ الجمهور بما روى مالك « أنّ ناقةً للبراء دخلت حائط قوم ، فأفسدت ، فقضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ على أهل الأموال حفظها بالنّهار ، وما أفسدته باللّيل فهو مضمون عليهم » ، ولأنّ العادة من أهل المواشي إرسالها في النّهار للرّعي وحفظها ليلاً ، وعادة أهل الحوائط ( البساتين ) والزّروع حفظها نهاراً دون اللّيل ، فإذا ذهبت ليلاً كان التّفريط من أهلها بتركهم حفظها في وقت عادة الحفظ .
30 - أمّا إذا أتلفت الزّرع نهاراً ، وكانت وحدها ، فلا ضمان عند الجمهور ، إذ العادة الغالبة حفظ الزّرع نهاراً ، فكان التّفريط من أهل الزّرع . ونصّ الشّافعيّة على أنّ الحكم يتغيّر بتغيّر العادة . وقيّد المالكيّة هذا الحكم بما إذا كانت الدّابّة لم تعرف بالاعتداء ، وإلاّ ضمن لعدم حفظها بربطها ربطاً محكماً .
31 - وإذا أتلفت الدّابّة شيئاً غير الزّرع ، وكان معها راع فيه كفاية الحفظ ، أو معها من له يد عليها ولم يمنعها فإنّه يضمن اتّفاقاً ما أتلفته من زرع وغيره أمّا إذا كانت وحدها فقد ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه لا يضمن مالكها ، لأنّها لا تتلف غير الزّرع عادةً ، ولحديث « العجماء جبار » كما أنّه لو جمحت الدّابّة بالرّاكب ، ولم يقدر على ردّها ، فإنّه لا يضمن ، كالمنفلتة ، لأنّ الرّاكب حينئذ ليس بمسير لها ، فلا يضاف سيرها إليه . وقال المالكيّة : لا ضمان إلاّ إذا كانت من شأنها الاعتداء ، فإنّه يضمن حيث فرّط في حفظها . أمّا الشّافعيّة فالمعتمد عندهم الضّمان .
32 - ما تقدّم كلّه خاصّ بما يمكن منعه من البهائم والدّوابّ ، أمّا ما لا يمكن منعه ، كالحمام والنّحل ، فإنّه لا ضمان فيما أتلفه ، لأنّه لا يدخل تحت اليد . وقد أفتى البلقينيّ ، من الشّافعيّة ، في نحل قتل جملاً بأنّه هدر ، لتقصير صاحبه دون صاحب النّحل . وقد ذكر الفقهاء صوراً كثيرةً حول هذه المسألة .
33 - موجب الإتلاف الضّمان وذلك في إحدى حالتين :
1 - بإتلاف مال الغير المحترم شرعاً بغير إذن من الشّارع ومن صاحبه ، وفي حكمه إتلاف الأموال العامّة من غير المباحات .
2 - إتلاف مال الغير المحترم شرعاً بإذن من الشّارع للضّرورة بغير رضا صاحب المال . وقد ينحصر موجب الإتلاف في الإثم فقط ، كما إذا أتلف لنفسه مالاً ينتفع به .
ما يشترط لضمان المتلفات :
34 - ذكر بعض الفقهاء شروطاً هذه خلاصتها :
1 - أن يكون الشّيء المتلف مالاً ، فلا يجب الضّمان بإتلاف الميتة والدّم وجلد الميتة وغير ذلك ممّا ليس بمال .
2 - أن يكون متقوّماً ، فلا يجب الضّمان بإتلاف الخمر والخنزير على المسلم ، سواء كان المتلف مسلماً أو ذمّيّاً لسقوط تقوّم الخمر والخنزير في حقّ المسلم .
3 - أن يكون المتلف من أهل وجوب الضّمان عليه ، فلو أتلفت بهيمة مال إنسان فإنّه لا يجب الضّمان ، على التّفصيل السّابق ذكره . ولو أتلف الصّبيّ والمجنون نفساً أو مالاً لزم الضّمان ، لعدم توقّف ذلك على القصد ، وإحياءً لحقّ المتلف عليه . وضمان المال يكون في مالهما ، أمّا ضمان النّفس فعلى العاقلة . ونقل صاحب الدّرّ عن الأشباه : الصّبيّ المحجور مؤاخذ بأفعاله ، فيضمن ما أتلفه من المال للحال . وإذا قتل فالدّية على عاقلته ، إلاّ في مسائل مستثناة فإنّه يضمن فيها : لو أتلف ما اقترضه ، وما أودع عنده بلا إذن وليّه ، وما أعير له ، وما بيع منه بلا إذن . وأطال ابن عابدين في التّعليق على بعض المستثنيات .
4 - أن يكون في الوجوب فائدة ، فلا ضمان على المسلم بإتلاف مال الحربيّ ، ولا على الحربيّ بإتلاف مال المسلم ، في دار الحرب ، ولا ضمان على مقاتلي البغاة إذا أتلفوا مالاً لهم ، ولا على البغاة إذا أتلفوا في المعركة أموال مقاتل ، لأنّه لا فائدة في الوجوب ، لعدم إمكان الوصول إلى الضّمان ، لانعدام الولاية ، ولأنّهم إذا لم يضمنوا الأنفس فالأموال أولى . وتفصيل ذلك في " البغاة " 35 - والعصمة ليست بشرط لوجوب ضمان المال ، لأنّ الصّبيّ مأخوذ بضمان الإتلاف ، وإن لم تثبت عصمة المتلف في حقّه ، كما أنّ العلم بكون المتلف مال الغير ليس بشرط لوجوب الضّمان ، حتّى لو أتلف مالاً ظنّ أنّه ملكه ، ثمّ تبيّن أنّه ملك غيره ، ضمن ، لأنّ الإتلاف أمر حقيقيّ لا يتوقّف وجوده على العلم .
كيفيّة التّضمين الواجب بالإتلاف :
36 - لا نعلم خلافاً في أنّ المتلف إن كان مثليّاً ضمن بمثله ، وإن كان قيميّاً ضمن بقيمته . كما لا نعلم خلافاً في أنّ تقدير القيمة يراعى فيه مكان الإتلاف . وأمّا إذا فقد المثليّ ، بأن لم يوجد في الأسواق فقد اتّفق الفقهاء كذلك على أنّه يعدل عن المثليّ إلى القيمة ولكنّهم اختلفوا في تقديرها . أيراعى وقت الإتلاف ، أم وقت انقطاعها عن الأسواق ، أم وقت المطالبة ، أم وقت الأداء ؟ فأبو حنيفة اعتبر يوم الحكم ، والمالكيّة وأبو يوسف اعتبروا يوم الغصب إن كان مغصوباً ، ويوم التّلف إن لم يكن مغصوباً ، ومحمّد بن الحسن اعتبر يوم انقطاع المثل ، لأنّه وقت الانتقال من القيمة إلى المثل . وأمّا الشّافعيّة والحنابلة فالأصحّ عندهم اعتبار أقصى ما بلغت قيمته ما بين التّلف والأداء ( التّنفيذ ) . وأمّا القيميّ فقد اتّفقوا على أنّه إذا لم تتغيّر قيمته من يوم إتلافه إلى يوم أدائه فالعبرة بقيمته ، بالغةً ما بلغت . أمّا إذا تغيّرت القيمة من يوم إتلافه إلى يوم أدائه فهو على الخلاف المشار إليه في حالة انقطاع المثليّ .
الإكراه على الإتلاف ومن عليه الضّمان :
37 - لو أكره شخص آخر إكراهاً ملجئاً على إتلاف مال محترم مملوك لغير المكره ( بكسر الرّاء ) فإنّ الضّمان يجب عليه عند كلّ من الحنفيّة والشّافعيّة ووجه عند الحنابلة ، لأنّ ذلك من حيث إنّه إتلاف ينسب إلى الحامل على الفعل ، لا إلى الفاعل ، لأنّه كالآلة . وللمستحقّ مطالبة المتلف ، ويرجع به على المكره لأنّه معذور في ذلك الفعل ، فلم يلزمه الضّمان . والقول بأنّ الضّمان على المكره يفهم أيضاً ممّا نقله ابن فرحون المالكيّ عن فضل بن سلمة أنّ ابن الماجشون قال في السّلطان يأمر رجلاً بقتل رجل ظلماً : إنّ السّلطان يقتل ، ولا يقتل المأمور ، إذ الإلزام بتضمين المال دون القود .
38 - والوجه الثّاني عند الحنابلة : أنّ الضّمان عليهما كالدّية ، لاشتراكهما في الإثم . وفي قول عند المالكيّة - كما يؤخذ من كلام ابن فرحون - أنّ الضّمان على المكره - بالفتح - استناداً إلى حديث « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » يقول ابن فرحون : إنّ من أمره الوالي بقتل رجل ظلماً ، أو قطعه أو جلده أو أخذ ماله أو بيع متاعه ، فلا يفعل شيئاً من ذلك ، وإن علم أنّه إن عصاه وقع به في نفسه أو ظهره أو ماله فإن أطاعه وجب عليه القود والقطع والغرم ، وغرم ثمن ما باع . وتفصيل الكلام فيه موطنه بحث ( الإكراه ) .
أثر الإتلاف في تحقّق القبض وإسقاط الأجرة :
39 - من المقرّر شرعاً أنّ المبيع قبل قبضه يكون في ضمان البائع ، وأنّ إتلاف المشتري له وهو في يد البائع يعتبر قبضاً فيلزمه الثّمن ، لأنّه لا يمكنه إتلافه إلاّ بعد إثبات يده عليه ، وهو معنى القبض فيتقرّر عليه الثّمن . وعلى هذا فإنّ الإتلاف يعتبر قبضاً وتترتّب عليه آثاره ، فقد جاء في الشّرح الكبير على المقنع : ما يحتاج إلى القبض إذا تلف قبل قبضه فهو من ضمان البائع . فإن تلف بآفة سماويّة بطل العقد ، ورجع المشتري بالثّمن ، وإن أتلفه المشتري استقرّ عليه الثّمن ، وكان كالقبض ، لأنّه تصرّف فيه 40 - ومن صور الإتلاف في الهبة ما نصّوا عليه من أنّ القبض يتمّ في الهبة ولو بإتلاف الموهوب له العين الموهوبة بإذن الواهب . 41 - ومن صوره في المهر ما قالوه من أنّ الزّوجة الرّشيدة إن أتلفت صداقها إتلافاً يقتضي الضّمان - وهو في يد الزّوجة أو الوليّ - اعتبرت قابضةً لحقّها . أمّا إتلاف غير الرّشيدة فلا يعتبر قبضاً . وكذلك الإتلاف لدفع الصّيال ، فلا يعتبر قبضاً . 42 - وقال الحنفيّة في الإجارة لو خاط الخيّاط ثوباً بأجر ، ففتقه آخر قبل أن يقبضه ربّ الثّوب ، فلا أجر للخيّاط ، لأنّ الخياطة ممّا له أثر ، فلا أجر قبل التّسليم . وبالإتلاف تعذّر التّسليم . وللخيّاط تضمين الفاتق ما نقصه الفتق ، وأجر مثل الخياطة ، ولا يجب الأجر المسمّى لأنّه إنّما لزم بالعقد ولا عقد بينه وبين الفاتق ) فوجب المصير إلى أجر المثل .
( حدوث الاسترداد بالإتلاف ) :
43 - إذا هلك المبيع كلّه بفعل البائع وهو في يده أو في يد المشتري الّذي قبضه بغير إذن البائع فإنّ البائع يعدّ مستردّاً للمبيع ، وبطل البيع وسقط الثّمن عن المشتري . وإذا هلك بعض المبيع بفعل البائع فإن كان قبل القبض بطل البيع بقدر الهالك ، واعتبر مستردّاً هذا البعض ، وسقط عن المشتري حصّة الهالك من الثّمن . والمشتري بالخيار في الباقي لتفرّق الصّفقة . وإن كان إتلاف البائع للمبيع بعد قبض المشتري له قبضاً صحيحاً ، وبعد استيفاء الثّمن ، لم يعتبر ذلك منه استرداداً ، وإنّما إهلاكه وإهلاك الأجنبيّ سواء . وإن كان المشتري قبضه بغير إذن البائع والثّمن حالّ غير مفقود ، اعتبر ذلك الإهلاك من البائع استرداداً في القدر الّذي أتلفه ، وسقط عن المشتري حصّته من الثّمن . وتفصيل ذلك موضعه مصطلح ( استرداد ) .
الإتلاف بالسّراية :
44 - ما يتلف بالسّراية إن كان بسبب مأذون فيه دون جهل أو تقصير فلا ضمان . وعلى هذا فلا ضمان على طبيب ، وبزّاغ ( بيطار ) ، وحجّام ، وختّان ، ما دام أذن لهم بهذا ولم يقصّروا ، وإلاّ لزم الضّمان . يقول ابن قدامة : إذا فعل الحجّام والختّان والمتطبّب ما أمروا به لم يضمنوا ، بشرطين : أحدهما : أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم ، فإذا لم يكونوا كذلك كان فعلاً محرّماً ، فيضمن سرايته . الثّاني : ألا يتجاوز ما ينبغي أن يقطع . فإن كان حاذقاً وتجاوز ، أو قطع في غير محلّ القطع ، أو في وقت لا يصلح فيه القطع ، وأشباه هذا ، ضمن فيه كلّه ، لأنّه إتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ ، فأشبه إتلاف المال . وكذلك الحكم في القاطع في القصاص ، وقاطع يد السّارق . ثمّ قال : ولا نعلم فيه خلافاً .
الإتلاف نتيجة التّصادم :
45 - وفي الإتلاف بالتّصادم والتّجاذب تضمن عاقلة كلّ فارس أو راجل دية الآخر ، إن اصطدما وماتا منه فوقعا على القفا وكانا غير عامدين . أمّا لو وقعا على الوجه فيهدر دمهما . ولو كانا عامدين فعلى كلّ نصف دية الآخر . 46 - ولو تجاذب رجلان حبلاً ، فانقطع الحبل فسقطا على القفا وماتا ، أهدر دمهما لموت كلّ بقوّة نفسه . فإن وقعا على الوجه وجب دية كلّ واحد منهما على عاقلة الآخر لموته بقوّة صاحبه . فإن تعاكسا فدية الواقع على الوجه على عاقلة الآخر ، وأهدر دم من وقع على القفا . وقال مالك في السّفينتين تصطدمان ، فتغرق إحداهما بما فيها ، فلا شيء في ذلك على أحد ، لأنّ الرّيح تغلبهم ، إلاّ أن يعلم النّواتيّة ( البحّارة ) أنّهم لو أرادوا صرفها لقدروا ، فيضمنون . وقال ابن شاس : ولو تجاذبا الحبل ، فانقطع ، فتلفا ، فكاصطدامهما ، وإن وقع أحدهما على شيء ، فأتلفه ، ضمن . وقال ابن قدامة : وإن تصادم نفسان يمشيان ، فماتا ، فعلى عاقلة كلّ واحد منهما دية الآخر . وإن كانتا امرأتين حبليين فهما كالرّجلين . فإن أسقطت كلّ واحدة منهما جنيناً فعلى كلّ واحدة نصف ضمان جنينها ونصف ضمان جنين صاحبتها .
إتلاف بعض المنقول لسلامة السّفينة :
47 - جمهور الفقهاء على أنّ ملاّح السّفينة إن كان أجيراً مشتركاً ضمن ما تلف بعمله إذا لم يكن صاحب المحمول حاضراً معه ، على التّفصيل المبيّن في مصطلح ( إجارة ) أمّا إن خيف على السّفينة الغرق ، فألقى بعض الرّكّاب متاعه ، أو شيئاً منه ، لتسلم السّفينة من الغرق ، فلا ضمان على أحد ، لأنّه أتلف متاع نفسه باختياره لصلاحه وصلاح غيره . وإن ألقى متاع غيره بغير إذنه ضمنه وحده كأكل مضطرّ طعام غيره بغير إذنه . وقد ذهب الحنفيّة إلى أنّه إن اتّفقوا على إلقاء الأمتعة كلّها أو بعضها لحفظ الأنفس فقط فالغرم بعدد الرّءوس . أمّا إذا قصدوا حفظ الأمتعة فقط ، بأن كانت السّفينة في موضع لا تغرق فيه الأنفس ، فالغرم بينهم على قدر الأموال . وإن قصدوا حفظ الأنفس والأموال معاً فالغرم بينهم على قدرهما . وذهب المالكيّة إلى أنّه في حال طرح الأمتعة من السّفينة عند خوف غرقها يوزّع ما طرح على مال التّجارة فقط . 48 - ولا سبيل لطرح الآدميّ لإنقاذ السّفينة من الغرق ، ذكراً كان أو أنثى ، حرّاً أو عبداً ، مسلماً أو كافراً ، إذ الإجماع على أنّه لا يجوز إماتة أحد من الآدميّين لنجاة غيره . وينقل الدّسوقيّ عن اللّخميّ أنّه أجاز ذلك بالقرعة . 49 - وقد اتّفق الفقهاء على أنّ ما يقع من تلف في الأنفس والأموال نتيجة العجز عن إنقاذه فلا ضمان فيه ولا قود ، ومن أمثلته عدم التّحكّم في السّفينة للرّياح الشّديدة . الظّاهر من تتبّع أقوال الفقهاء في ضمان الإتلاف النّاشئ عن التّأديب والتّعليم ، سواء بالنّسبة للأب أو الوصيّ أو المعلّم أو الزّوج ، التّفصيل بين مجاوزة الفعل المعتاد وعدم مجاوزته . فالضّمان متّفق على وجوبه في حال مجاوزة الفعل المعتاد ، بل بعض المذاهب يجعل فيه القصاص أو الدّية . وأمّا إذا كان الفعل في التّأديب معتاداً ففيه خلاف بين الفقهاء ، مجمله : القول بالضّمان ، لأنّ الجواز لا ينافي الضّمان . والقول الآخر لهم - وهو المشهور والأصحّ في الجملة - أنّه لا ضمان ، لأنّه مأذون به شرعاً وعادةً ، ولو أوجب فيه الضّمان لوقع حرج على النّاس في تأديب من يوكّل إليهم تأديبه وفي هذه المسائل تفصيل موطنه مصطلح ( تأديب ) .
إتلاف الأجير والمستأجر لما في يده :
50 - العين في يد المستأجر أمانة فلو هلكت دون تعدّ أو تفريط أو مخالفة للمأذون فيه فلا ضمان عليه وإلاّ ضمن . والأجير الخاصّ أمين ، فلا يضمن إلاّ بالتّعدّي أو التّفريط أو المخالفة ، والأجير المشترك اختار الفقهاء القول بتضمينه إلاّ فيما لا يمكن تداركه على التّفصيل المبيّن في مصطلح ( الإجارة ) .
إتلاف المغصوب :
51 - يد الغاصب يد ضمان اتّفاقاً ، ويلزمه ردّ ما اغتصبه بعينه إن كان قائماً مثليّاً كان أو قيميّاً . فإن أتلفه أو تلف بنفسه ضمنه ، ووجب ردّ قيمته إن كان قيميّاً ، ومثله إن كان مثليّاً ، على التّفصيل السّابق في كيفيّة تضمين المتلفات . 52 - وإذا أتلف المغصوب شخص آخر وهو في يد الغاصب ، فذهب الجمهور ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ) إلى أنّ المالك مخيّر بين تضمين الغاصب وتضمين المتلف . وذهب الشّافعيّ إلى أنّ الأصل تضمين المتلف ، إلاّ إن كان الإتلاف لمصلحة الغاصب ، كأن قال له : اذبح هذه الشّاة لي ، أو أفهمه أنّ المتلف ملك له .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
إتلاف اللّقطة الوديعة والعاريّة :
53 - العين الملتقطة والمودعة والمعارة الأصل فيها أن تكون أمانةً في يد الملتقط والوديع والمستعير . والأصل أنّ الأمين لا يضمن إلاّ بالاعتداء أو الإهمال لقوله صلى الله عليه وسلم : « ليس على المستعير غير المغلّ ضمان ، ولا على المستودع غير المغلّ ضمان » ولأنّ بالنّاس حاجة إلى ذلك ، فلو ضمناهم لامتنع النّاس عنه . وعلى ذلك فإن حدث منه اعتداء ترتّب عليه إتلاف ضمن . أمّا التّلف الّذي يقع دون اعتداء ولا إهمال أو تقصير فإنّه لا يترتّب عليه ضمان . لكنّ الشّافعيّة قالوا : إنّ الأصل في العاريّة أنّها مضمونة في يد المستعير ، فلو تلفت بغير استعمال مأذون فيه ضمنها وإن لم يفرّط ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » ، وقالوا : الأصحّ أنّه لا يضمن ما ينمحق من الثّياب أو ينسحق بالاستعمال . وقيل بالضّمان فيهما . وقيل يضمن المنمحق - أي البالي - دون المنسحق - أي التّالف بعض أجزائه - . 54 - وينبغي أن يلاحظ أنّ عاريّة الدّراهم والدّنانير والمكيل والموزون والمعدود يكون قرضاً في الحقيقة ، إذ لا يمكن الانتفاع بها إلاّ باستهلاك أعيانها وإتلافها . وما دامت في حقيقتها قرضاً فإنّه يجب ردّ مثلها ، أو قيمتها إن انعدم المثل . وتفصيل ذلك وبيان المذاهب فيه في مواضعه من اللّقطة الوديعة والعاريّة .
إتمام
التّعريف
1 - الإتمام لغةً : الإكمال . ولم نقف للفقهاء على تعريف اصطلاحيّ للإتمام ، ولا يخرج استعمالهم عن التّعريف اللّغويّ . هذا ، وللإتمام إطلاق خاصّ يتّصل بالعدد لا بالكيفيّة ، ومن ذلك إتمام الصّلاة بدلاً من قصرها ، فكلّ من القصر والإتمام كمال ، وإنّما لوحظ في لفظي الإتمام والقصر العدد . وتفصيل ذلك في صلاة المسافر .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - الإكمال : الّذي يستفاد من تعريف الرّاغب للكمال والتّمام - كلّ في مادّته - أنّ هناك فرقاً بينهما هو أنّ تمام الشّيء انتهاؤه إلى حدّ لا يحتاج إلى شيء خارج عنه ، وأنّ كمال الشّيء حصول ما فيه الغرض منه . وعليه فالتّمام يستلزم الكمال . وقد ظهر من تتبّع كتب اللّغة والتّفسير عند قوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم } عدم وضوح فرق بينهما فيكونان مترادفين . ولم يظهر فرق بينهما في المعنى الاصطلاحيّ . الحكم الإجماليّ ) :
3 - الحكم التّكليفيّ للإتمام أنّ إتمام ما شرع فيه المكلّف من طاعة واجبة واجب بإجماع الفقهاء ، وإتمام ما شرع فيه من طاعة نافلة مختلف فيه . ففي الجملة يذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى وجوب الإتمام أخذاً بظاهر قوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } . ويذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه غير واجب ، على خلاف وتفصيل يرجع إليه في مواطنه لكلّ تصرّف بحسبه . والأثر المترتّب على التّمام أنّه طالما يعني الإتيان بالأركان الضّروريّة فإنّ آثار أيّ تصرّف قوليّ أو فعليّ تتوقّف على الإتيان بها . هذا ، والفقهاء يفصّلون أحكام الإتمام بالنّسبة لكلّ مسألة فقهيّة في موضعها ، ومن تلك المواطن مسائل النّوافل والتّطوّع بالنّسبة للصّيام والصّلاة وغيرها .
اتّهام
انظر : تهمة .
إثبات
التّعريف
1 - الإثبات لغةً مصدر أثبت بمعنى اعتبر الشّيء دائماً مستقرّاً أو صحيحاً ويؤخذ من كلام الفقهاء أنّ الإثبات إقامة الدّليل الشّرعيّ أمام القاضي في مجلس قضائه على حقّ أو واقعة من الوقائع .
( القصد من الإثبات ) :
2 - المقصود من الإثبات وصول المدّعي إلى حقّه . أو منع التّعرّض له ، فإذا أثبت دعواه لدى القاضي بوجهها الشّرعيّ ، وتبيّن أنّ المدّعى عليه مانع حقّه ، أو متعرّض له بغير حقّ ، يمنعه القاضي عن تمرّده في منع الحقّ ، ويوصّله إلى مدّعيه . من يكلّف الإثبات :
3 - لا خلاف بين فقهاء المذاهب الأربعة في أنّ الإثبات يطلب من المدّعي ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على من أنكر » . وفي رواية مسلم وأحمد : « لو أعطي النّاس بدعواهم لادّعى أناس دماء رجال وأموالهم ، لكنّ البيّنة على المدّعي » . ولأنّ المدّعي يدّعي أمراً خفيّاً ، فيحتاج إلى إظهار . وللبيّنة قوّة إظهار ، لأنّها كلام من ليس بخصم ، وهم الشّهود ، فجعلت حجّةً للمدّعي . واليمين وإن كانت مؤكّدةً بذكر اسم اللّه تعالى ، لكنّها كلام الخصم ، فلا تصلح حجّةً مظهرةً للحقّ ، وتصلح حجّةً للمدّعى عليه ، لأنّه متمسّك بالظّاهر ، وهو ظاهر اليد ، فحاجته إلى استمرار حكم الظّاهر . واليمين ، وإن كانت كلاماً ، فهي كافية للاستمرار . فكان جعل البيّنة حجّة المدّعي ، وجعل اليمين حجّة المدّعى عليه ، وضع الشّيء في موضعه ، وهو غاية الحكمة . وقال محمّد بن الحسن في ( الأصل ) : المدّعى عليه هو المنكر ، والآخر هو المدّعي ، غير أنّ التّمييز بينهما يحتاج إلى فقه ودقّة ، إذ العبرة للمعنى دون الصّورة ، فإنّه قد يوجد الكلام من شخص في صورة المدّعي ، وهو إنكار في المعنى ، كالوديع إذا ادّعى ردّ الوديعة ، فإنّه مدّع للرّدّ صورةً ، وهو منكر لوجوب الرّدّ معنًى . والقاعدة المذكورة إنّما هي في المتخاصمين يكون أحدهما مدّعياً معنًى وحقيقةً . فالحكم فيها أنّ البيّنة على المدّعي ، واليمين على المدّعى عليه .
هل يتوقّف القضاء بالإثبات على الطّلب ؟ 4 - يشترط لصحّة الحكم واعتباره في حقوق العباد الدّعوى الصّحيحة ، وأنّه لا بدّ في ذلك من الخصومة الشّرعيّة . وإذا صحّت الدّعوى سأل القاضي المدّعى عليه عنها . فإن أقرّ فبها ، وإن أنكر ، فبرهن المدّعي ، قضي عليه بلا طلب المدّعي عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ ، وهو رواية عند الحنابلة ، لأنّ مقتضى الحال يدلّ على إرادته ذلك . والأصحّ عند الحنابلة ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة أنّ القاضي لا يجوز له الحكم على المدّعى عليه إلاّ بطلب المدّعي ، لأنّ الحكم على المدّعى عليه حقّ للمدّعي ، فلا يستوفيه إلاّ بطلبه .
طرق إثبات الدّعوى :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّ الإقرار والشّهادة واليمين والنّكول والقسامة - على تفصيل في الكيفيّة أو الأثر - حجج شرعيّة يعتمد عليها القاضي في قضائه ، ويعوّل عليها في حكمه . واختلفوا فيما وراء ذلك من طرق الإثبات الآتية ، فذهب الأئمّة مالك والشّافعيّ وأحمد إلى أنّه يقضي بالشّاهد مع اليمين في الأموال أو ما يئول إليها ، وإلى هذا ذهب أيضاً أبو ثور والفقهاء السّبعة المدنيّون . وذهب الإمام أبو حنيفة والثّوريّ والأوزاعيّ وجمهور أهل العراق إلى أنّه لا يقضي باليمين مع الشّاهد في شيء ، وإلى هذا ذهب اللّيث من أصحاب الإمام مالك . وزاد ابن الغرس من الحنفيّة القرينة الواضحة . وقال الخير الرّمليّ الحنفيّ : لا شكّ أنّ ما زاده ابن الغرس غريب خارج عن الجادّة . فلا ينبغي التّعويل عليه ما لم يعضّده النّقل . ومن الفقهاء من لم يحصر الطّرق في أنواع معيّنة ، بل قال : إنّ كلّ ما يبيّن الحقّ ويظهره يكون دليلاً يقضي به القاضي ويبني عليه حكمه . وهذا ما قاله ابن القيّم ، وتبعه في ذلك بعض الفقهاء كابن فرحون من المالكيّة . فقد جاء في الطّرق الحكميّة : « والمقصود أنّ البيّنة في الشّرع اسم لما يبيّن الحقّ ويظهره ، وهي تارةً تكون أربعة شهود ، وتارةً ثلاثةً ، بالنّصّ في بيّنة المفلس ، وتارةً تكون شاهدين ، وشاهداً واحداً وامرأةً واحدةً ونكولاً ، ويميناً ، أو خمسين يميناً ، أو أربعة أيمان . وتكون شاهد الحال في صور كثيرة . فقوله صلى الله عليه وسلم : « البيّنة على المدّعي » أي عليه أن يظهر ما يبيّن صحّة دعواه . فإذا ظهر صدقه بطريق من الطّرق حكم له . وسيأتي الكلام في كلّ الطّرق الّتي اعتبرها الفقهاء للحكم سواء المتّفق عليه أو المختلف فيه .
الإقرار
6 - الإقرار لغةً هو الاعتراف . يقال : أقرّ بالحقّ ، إذا اعترف به ، وقرّره غيره بالحقّ حتّى أقرّ به . وشرعاً : إخبار عن ثبوت حقّ للغير على نفسه . حجّيّة الإقرار :
7 - الإقرار حجّة ثابتة بالكتاب والسّنّة والإجماع والمعقول : فمن الكتاب قوله تعالى : { وإذ أخذ اللّه ميثاق النّبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشّاهدين } وقوله تعالى { يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم } . إذ الشّهادة على النّفس إقرار عليها بالحقّ . ومن السّنّة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أقام الحدّ على ماعز والغامديّة بناءً على إقرارهما بالزّنا » . وقد أجمعت الأمّة من عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الآن على أنّ الإقرار حجّة على المقرّ ، يؤخذ به ، ويعامل بمقتضاه . ودليله من المعقول : انتفاء التّهمة ، فإنّ العاقل لا يقرّ على نفسه كذباً .
مرتبة الإقرار بين طرق الإثبات .
8 - الفقهاء مجمعون على أنّ الإقرار أقوى الأدلّة الشّرعيّة ، لانتفاء التّهمة فيه غالباً . فقد نصّ الحنفيّة على أنّ الإقرار حجّة شرعيّة فوق الشّهادة ، بناءً على انتفاء التّهمة فيه غالباً ، ولا ينافي ذلك أنّه حجّة قاصرة على المقرّ وحده ، في حين أنّ الشّهادة حجّة متعدّية ، لأنّ القوّة والضّعف وراء التّعدّية والاقتصار . فاتّصاف الإقرار بالاقتصار على نفس المقرّ ، والشّهادة بالتّعدّية إلى الغير ، لا ينافي اتّصافه بالقوّة واتّصافها بالضّعف بالنّسبة إليه ، بناءً على انتفاء التّهمة فيه دونها . ونصّ المالكيّة على أنّ الإقرار أبلغ من الشّهادة . قال أشهب : « قول كلّ أحد على نفسه أوجب من دعواه على غيره » . ونصّ الشّافعيّة على أنّ الإقرار أولى بالقبول من الشّهادة . ونصّ الحنابلة على أنّ المدّعى عليه إذا اعترف بالحقّ لا تسمع عليه الشّهادة ، وإنّما تسمع إذا أنكر .
بم يكون الإقرار ؟ 9 - يكون الإقرار باللّفظ أو ما يقوم مقامه ، كالإشارة والكتابة والسّكوت بقرينة . وتفصيل ذلك وغيره من أحكام الإقرار يرجع إليه في مصطلح ( إقرار ) .
الشّهادة :
10 - من معاني الشّهادة في اللّغة البيان والإظهار لما يعلمه ، وأنّها خبر قاطع . وشرعاً : إخبار عن ثبوت الحقّ للغير على الغير في مجلس القضاء . وقد اختلفت صيغها عند الفقهاء تبعاً لتضمّنها شروطاً في قبولها كلفظ الشّهادة ومجلس القضاء وغيره . حكمها :
11 - للشّهادة حالتان : حالة تحمّل ، وحالة أداءً . فأمّا التّحمّل ، وهو أن يدعى الشّخص ليشهد ويحفظ الشّهادة ، فإنّ ذلك فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين . فإن تعيّن بحيث لا يوجد غيره كان فرضاً عليه . وأمّا الأداء ، وهو أن يدعى الشّخص ليشهد بما علمه ، فإنّ ذلك واجب عليه ، لقوله تعالى { ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا } وقوله تعالى { ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثم قلبه } دليل مشروعيّتها :
12 - اتّفق الفقهاء جميعاً على أنّ الشّهادة من طرق القضاء ، لقوله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممّن ترضون من الشّهداء } وقوله صلى الله عليه وسلم : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » . وقد أجمعت الأمّة على أنّها حجّة يبنى عليها الحكم . مدى حجّيّتها :
13 - الشّهادة حجّة متعدّية ، أي ثابتة في حقّ جميع النّاس غير مقتصرة على المقضيّ عليه ، لكنّها ليست حجّةً بنفسها إذ لا تكون ملزمةً إلاّ إذا اتّصل بها القضاء . وتفصيل أحكام الشّهادة يرجع إليه في موطنه في مصطلح ( شهادة ) .
القضاء بالشّاهد واليمين :
14 - اختلف الفقهاء في القضاء باليمين مع الشّاهد : فذهب الأئمّة مالك والشّافعيّ وأحمد وأبو ثور والفقهاء السّبعة المدنيّون إلى أنّه يقضى باليمين مع الشّاهد في الأموال وما يئول إليها دون غيرها . وذهب الإمام أبو حنيفة والثّوريّ والأوزاعيّ وجمهور أهل العراق إلى أنّه لا يقضى باليمين مع الشّاهد في شيء . وقد استدلّ الإمام مالك ومن معه بحديث ابن عبّاس « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشّاهد » .
15 - والقائلون بالقضاء باليمين مع الشّاهد اختلفوا في اليمين مع المرأتين : فقال المالكيّة يجوز ، لأنّ المرأتين قامتا مقام الواحد مع الشّاهد الواحد وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا تقبل اليمين مع شهادة امرأتين ، لأنّ شهادة المرأتين إنّما اعتبرت فيما لو كانت شهادتهما مع شهادة رجل . وفي القضاء باليمين مع الشّاهد في الحدود الّتي هي حقّ النّاس خاصّةً كحدّ القذف قولان في مذهب مالك . واستدلّ المانعون من القضاء باليمين والشّاهد بالكتاب والسّنّة : فأمّا الكتاب فقوله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممّن ترضون من الشّهداء } وقوله تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم } فقبول الشّاهد الواحد واليمين زيادة على النّصّ ، والزّيادة على النّصّ نسخ ، وهو لا يجوز إلاّ بمتواتر أو مشهور . ولم يثبت واحد منهما . وأمّا السّنّة فقوله صلى الله عليه وسلم : « لو يعطى النّاس بدعواهم لادّعى أناس دماء رجال وأموالهم ، ولكنّ اليمين على المدّعى عليه » ، وقوله عليه الصلاة والسلام : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » ومن قوله لمدّع : « شاهداك أو يمينه » فالحديث الأوّل جعل جنس اليمين على المنكر . فإذا قبلت يمين من المدّعي ، أو وجّهت إليه ، لم يكن جميع أفراد اليمين على المنكرين . وكذلك الحديث الثّاني جعل جميع أفراد البيّنة على المدّعي ، وجميع أفراد اليمين على المنكر . وتضمّن ، مع هذا ، قسمةً وتوزيعاً . والقسمة تنافي اشتراك الخصمين فيما وقعت فيه القسمة . والحديث الثّالث خيّر المدّعي بين أمرين لا ثالث لهما : إمّا بيّنة أو يمين المدّعى عليه . والتّخيير بين أمرين معيّنين يمنع تجاوزهما ، والجمع بينهما .
اليمين
16 - من معاني اليمين في اللّغة القوّة والقدرة ، ثمّ أطلقت على الجارحة ، والحلف . وسمّي الحلف باللّه يميناً لأنّ به يتقوّى أحد طرفي الخصومة . والفقهاء متّفقون على أنّ اليمين من طرق القضاء ، وأنّها لا توجّه إلاّ بعد دعوى صحيحة ، وأنّها تكون باللّه تعالى ، وأنّها لا تكون إلاّ بطلب من الخصم ، إلاّ في مسائل مستثناة ، وتكون على العلم ، وعلى البتّ ، وأنّها لا يجري فيها الاستخلاف ، إلاّ فيما استثني ، وأنّها تقطع الخصومة في الجملة ، وأنّ صيغتها واحدة في الجملة بالنّسبة للمسلم وغير المسلم ، وأنّها توجّه في مجلس القضاء من القاضي والمحكّم .
17 - وموضع توجيه اليمين هو عند إنكار المدّعى عليه الحقّ المدّعى ، وعدم تقديم بيّنة . وهنا تفصيل : فالحنفيّة والمالكيّة يرتّبون طلب اليمين على عدم وجود بيّنة حاضرة في المجلس معلومة له . فإن كانت بعيدةً فله طلب اليمين . أمّا إذا قال المدّعي : لي بيّنة حاضرة في المصر ، ولكن أطلب يمين المدّعى عليه ، فأبو حنيفة ومحمّد - فيما رواه الطّحاويّ عنه - يريان أنّه لا حقّ له في طلب اليمين لأنّ اليمين بدل عن البيّنة . وذهب أبو يوسف ومحمّد - فيما رواه الخصّاف عنه - إلى أنّ للمدّعي حقّ طلب اليمين ، لأنّ ذلك حقّه فإذا طلبه يجاب إليه . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ للمدّعي حقّ طلب اليمين ولو كانت له بيّنة حاضرة ، لأنّه مخيّر بين تقديم البيّنة أو طلب اليمين . كما قال الحنفيّة : إن قال المدّعى عليه : لا أقرّ ولا أنكر ، لا يستحلف ، بل يحبس ليقرّ أو ينكر . وكذا لو لزم السّكوت بلا آفة ، عند أبي يوسف . ونقل عن البدائع : الأشبه أنّه إنكار فيستحلف . وتوجيه اليمين يكون من القاضي بطلب المدّعي . واستثنى الإمام أبو يوسف أربع مسائل يوجّه فيها القاضي اليمين بلا طلب المدّعي . أولاها : الرّدّ بالعيب ، يحلف المشتري باللّه ما رضيت بالعيب . والثّانية : الشّفيع : باللّه ما أبطلت شفعتك . وثالثها : المرأة ، إذا طلبت فرض النّفقة على زوجها الغائب : باللّه ما خلّف لك زوجك شيئاً ولا أعطاك النّفقة . ورابعها : يحلف المستحقّ : باللّه ما بايعت .
18 - وفي دعوى الدّين على الميّت : أجمع أئمّة المذاهب على تحليف المدّعي مع البيّنة بلا طلب المدّعى عليه ، بأن يقول له القاضي : باللّه ما استوفيت من المديون ، ولا من أحد أدّاه إليك عنه ، ولا قبضه له قابض بأمرك ، ولا أبرأته منه ، ولا شيئاً منه ، ولا أحلت بشيء من ذلك أحداً ، ولا عندك منه ولا بشيء منه رهن . وتسمّى هذه اليمين يمين الاستظهار ، ويمين القضاء ، والاستبراء ، وقال المالكيّة إنّ الدّعوى على الغائب ، أو على اليتيم أو على الأحباس أو على المساكين وعلى كلّ وجه من وجوه البرّ وعلى بيت المال وعلى من استحقّ شيئاً من الحيوان كذلك . وزاد بعضهم لزوم ذلك في العقار والرّباع . وفقهاء المذاهب متّفقون على أنّ التّحليف يكون في المال وما يئول إلى المال .
19 - واختلف أئمّة الحنفيّة في التّحليف في النّكاح والرّجعة والإيلاء والاستيلاد والرّقّ والولاء والنّسب . فذهب الإمام أبو حنيفة إلى عدم التّحليف في الأمور المذكورة . وذهب الإمامان أبو يوسف ومحمّد إلى التّحليف . والفتوى على قولهما . ويستحلف السّارق لأجل المال فإن نكل ضمن ولم يقطع . ومحلّ الخلاف بين الإمام وصاحبيه فيما ذكر إذا لم يتضمّن الحقّ المدّعى مالاً فإن تضمّنه حلف لأجل المال عند الجميع . وسبب الخلاف بين الإمام وصاحبيه في التّحليف في النّكاح وما تلاه أنّ من وجّهت عليه اليمين قد ينكل عن حلفها فيقضى للمدّعي . والنّكول يحتمل الإقرار والبذل عند الإمام . وهذه الأمور لا يتأتّى فيها البذل . وعند الصّاحبين أنّ النّكول إقرار فقط .
20 - والفقهاء متّفقون على أنّ اليمين تبطل بها دعوى المدّعي على المدّعى عليه ، أي أنّها تقطع الخصومة للحال . لكنّهم يختلفون في انقطاع الخصومة مطلقاً باليمين ، على معنى أنّه إذا حلف المدّعى عليه اليمين هل للمدّعي أن يعود إلى دعواه إذا وجد بيّنةً ؟ الصّحيح عند الحنفيّة وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّ يمين المدّعى عليه تقطع الخصومة في الحال فقط ، فإذا وجد المدّعي بيّنةً كان له أن يعيد الخصومة ، لأنّ اليمين كالخلف عن البيّنة ، فإذا جاء الأصل انتهى حكم الخلف ، إذ نصّوا على أنّ اليمين تفيد قطع الخصومة في الحال ، لا براءةً من الحقّ ، لأنّه صلى الله عليه وسلم : « أمر حالفاً بالخروج من حقّ صاحبه » فلو حلّف المدّعي المدّعى عليه ، ثمّ أقام بيّنةً بمدّعاه ، أو شاهداً ليحلف معه ، حكم بها . ومذهب المالكيّة وهو القول الآخر للحنفيّة أنّ اليمين تقطع الخصومة مطلقاً 21 - التّحليف على فعل النّفس يكون على البتات ، أي القطع بأنّه ليس كذلك . علام يحلف ؟ والتّحليف على فعل الغير يكون على العلم . وكلّ موضع وجب فيه اليمين على العلم ، فحلف على البتات ، كفى ، وسقطت عنه ، وعلى عكسه لا .
حقّ الاستحلاف ( طلب الحلف )
22 - الأصل في طلب اليمين أن يكون للمدّعي ، ويجوز أن ينوب عنه في ذلك وكيله أو وصيّه أو وليّه أو ناظر الوقف . ولا تجور الإنابة في الحلف إلاّ إذا كان المدّعى عليه أعمى أخرس أصمّ ، فإنّه يحلف عنه وليّه أو وصيّه . ولو أصمّ كتب القاضي ليجيب بخطّه إن عرف الكتابة ، وإلاّ فبإشارته .
ما يحلف به :
23 - لا يحلف إلاّ باللّه تعالى ، أو بصفة من صفاته لحديث « من كان حالفاً فليحلف باللّه تعالى أو ليذر » . فلو حلّفه بغيره ، كالطّلاق ونحوه ممّا فيه إلزام بما لا يلزمه لولا الحلف ، لم يكن يميناً وإن ألحّ الخصم . وقيل : إن مسّت الضّرورة إلى الحلف بالطّلاق ، فوّض إلى القاضي . ويحلف اليهوديّ : باللّه الّذي أنزل التّوراة على موسى . والنّصرانيّ : باللّه الّذي أنزل الإنجيل على عيسى ، والمجوسيّ : باللّه الّذي خلق النّار . ويحلف الوثنيّ : باللّه تعالى ، لأنّه يقرّ به تعالى . ويحلف الأخرس بأن يقول له القاضي : عليك عهد اللّه وميثاقه إن كان كذا وكذا . فإذا أومأ برأسه : أي نعم ، صار حالفاً . ولا يقول له القاضي : « واللّه " وإلاّ كان القاضي هو الحالف .
ما يحلف عليه :
24 - إذا كانت الدّعوى بملك أو حقّ مطلق فالتّحليف يكون على الحاصل ، بأن يحلف : باللّه ما له قبلي كذا ولا شيء منه . وأمّا إذا كانت الدّعوى بملك أو حقّ مبيّن السّبب فهناك اتّجاهات ثلاث : أ - فعلى ظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، ومفهوم مذهب الحنابلة ، أنّ التّحليف على الحاصل - لأنّه أحوط - فيحلف : ليس للمدّعي قبلي شيء .
ب - وفي رواية عن أبي يوسف ، ومفهوم مذهب المالكيّة ، أنّ التّحليف هنا على السّبب ، فيقول المدّعى عليه : باللّه ما اقترضت ، مثلاً . واستثنى أبو يوسف ما لو عرض المدّعى عليه كأن قال : قد يبيع الإنسان شيئاً ثمّ يقيل ، فحينئذ يحلف على الحاصل .
ج - وعند الشّافعيّة ، وهو رواية أخرى عن أبي يوسف ، أنّ التّحليف يطابق الإنكار ، فإن أنكر الحاصل يحلف على الحاصل ، وإن أنكر السّبب ، وهو موضوع الدّعوى - يحلف على السّبب . وفي جميع الحالات الّتي يكون فيها التّحليف على السّبب إذا حلف على الحاصل أجزأه ، لأنّه يتضمّن السّبب وزيادةً . وهذا في الاتّفاق .
افتداء اليمين والمصالحة عليها :
25 - صحّ للمدّعى عليه افتداء اليمين ، والصّلح عنها ، لحديث « ذبّوا عن أعراضكم بأموالكم » ولما روي أنّ عثمان رضي الله عنه افتدى يمينه ، وقال خفت أن تصادف قدراً ، فيقال : حلف فعوقب ، أو هذا شؤم يمينه ولا يحلف المنكر بعده أبداً ، لأنّه أسقط حقّه في الخصومة . ولأنّ كرام النّاس يترفّعون عن الحلف تورّعاً . أمّا لو أسقط المدّعي اليمين قصداً بدون مصالحة أو افتداء بعد طلبها ، لم يكن ذلك إسقاطاً . وله التّحليف ، لأنّ التّحليف حقّ القاضي .
تغليظ اليمين :
26 - فقهاء المذاهب متّفقون على جواز تغليظ اليمين . لكنّهم اختلفوا بم يكون التّغليظ . فذهب جمهور الفقهاء ، وهو أحد الأقوال عند الحنفيّة ، إلى أنّ اليمين تغلظ بالزّمان والمكان والهيئة . وذلك فيما فيه خطر ، كنكاح وطلاق ولعان وولاء ووكالة ومال يبلغ نصاب زكاة . والتّغليظ بالزّمان كبعد العصر أو بين أذان وإقامة ، وبالمكان لأهل مكّة بين الرّكن والمقام ، ولأهل المدينة عند منبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وفي غير مكّة والمدينة في المسجد الأعظم . وبالنّسبة للهيئة قال بعضهم : يحلف قائماً مستقبل القبلة . ولم يجوّز التّغليظ أكثر مشايخ الحنفيّة ، وقيل لا يغلّظ على المعروف بالصّلاح . وعلى القول بجواز التّغليظ عند الحنفيّة فقد قصره بعضهم على ذكر صفة من صفاته تعالى ، كقوله : قل واللّه الّذي لا إله إلاّ هو ، عالم الغيب والشّهادة ، الرّحمن الرّحيم ، الّذي يعلم من السّرّ ما يعلم من العلانية ، ما لفلان هذا عليك ولا قبلك هذا المال الّذي ادّعاه ، وهو كذا وكذا ، ولا شيء منه . وللقاضي أن يزيد على هذا في التّغليظ وينقص وليس عندهم التّغليظ بالزّمان والمكان ، لأنّ المقصود تعظيم المقسم به ، وهو حاصل بدون ذلك . وفي إيجاب التّغليظ حرج على القاضي . وهم مجمعون على أنّ من وجّهت إليه اليمين لا يعتبر ناكلاً إن أبى التّغليظ .
التّحالف :
27 - مصدر تحالف ، ومن معانيه في اللّغة : طلب كلّ من المتداعيين يمين الآخر . وهذا المعنى هو الموافق للشّرع . غاية الأمر أنّ التّحالف يكون أمام القضاء . والمراد هنا حلف المتخاصمين في مجلس القضاء . إذا اختلف البائع والمشتري في مقدار الثّمن ، أو المبيع ، أو كليهما أو في وصفهما ، أو في جنسهما ، ولم يكن لأحدهما بيّنة ، تحالفا وتفاسخا عند جميع الفقهاء ، للحديث « إذا اختلف المتبايعان تحالفا وتفاسخا » وكذلك كلّ اختلاف بين متخاصمين على هذه الصّورة فبالتّحالف تنتهي الخصومة . وهناك تفصيل في المذاهب يرجع إليه في : ( تحالف ) .
ردّ اليمين :
28 - مذهب الحنفيّة ، وأحد قولين للإمام أحمد ، أنّه إذا كانت للمدّعي بيّنة صحيحة قضي له بها . فإن لم تكن له بيّنة أصلاً ، أو كانت له بيّنة غير حاضرة ، طلب يمين المدّعى عليه ، فإن حلف بعد عرض القاضي اليمين عليه رفضت دعوى المدّعي ، وإن نكل عن اليمين بلا عذر ، فإن كان المدّعى مالاً ، أو المقصود منه المال ، قضي عليه بنكوله ، ولم ترد اليمين على المدّعي لقوله صلى الله عليه وسلم : « ولكنّ اليمين على جانب المدّعى عليه » وقوله : « البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه » فحصرها في جانب المدّعى عليه . واختار أبو الخطّاب من الحنابلة ردّها على المدّعي . فإن حلف المدّعي حكم له بما ادّعاه . قال أبو الخطّاب : وقد صوّبه أحمد ، فقال : ما هو ببعيد يحلف ويستحقّ . وقال : هو قول أهل المدينة . قال ابن قدامة : وروي ذلك عن عليّ رضي الله عنه ، وبه قال شريح والشّعبيّ والنّخعيّ وابن سيرين ، وبه قال الإمام مالك في الأموال خاصّةً . ومذهب الشّافعيّة أنّ اليمين تردّ على المدّعي في جميع الدّعاوى ، لما روى نافع عن ابن عمر « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ردّ اليمين على طالب الحقّ » ولأنّه إذا نكل ظهر صدق المدّعي وقوي جانبه ، فتشرع في حقّه ، كالمدّعى عليه قبل نكوله . وقال ابن أبي ليلى : لا أدعه حتّى يقرّ أو يحلف .
النّكول عن اليمين :
29 - النّكول لغةً : الامتناع . يقال نكل عن اليمين أي امتنع عنها . وهو كذلك في الاصطلاح إذا كان في مجلس القضاء . والنّكول عند المالكيّة والشّافعيّة وفي أحد رأيين عند الحنابلة لا يكون حجّةً يقضى بها على المدّعى عليه . بل إذا نكل في دعوى المال أو ما يئول إليه ردّت اليمين على المدّعي بطلب المدّعى عليه ، فإن حلف المدّعي قضي له بما طلب وإن نكل المدّعي رفضت دعواه . فقد أقاموا نكول المدّعى عليه مقام الشّاهد ، إذ عندهم أنّه يقضى للمدّعي بحقّه إذا أقام شاهداً وحلف ، فكذلك يقضى له بنكول المدّعى عليه وحلف المدّعي . فالحقّ عندهم لا يثبت بسبب واحد ، كما لا يثبت بشاهد واحد . فإن حلف استحقّ به وإلاّ فلا شيء له . وعند المالكيّة أنّ كلّ دعوى لا تثبت إلاّ بشاهدين عدلين ، كالقتل والنّكاح والطّلاق ، فلا يمين توجّه من المدّعي على المدّعى عليه بمجرّد الدّعوى ، ولا بدّ لتوجيه اليمين من إقامة شاهد على الدّعوى ، فيحلف المدّعى عليه لردّ شهادة الشّاهد ، ولا تردّ على المدّعي ، إذ لا فائدة في ردّها عليه . وعند الحنفيّة أنّ المدّعى عليه إذا نكل عن اليمين الموجّهة إليه قضي عليه بنكوله لكونه باذلاً أو مقرّاً ، إذ لولا ذلك لأقدم على اليمين ليدفع الضّرر عن نفسه . ولا وجه لردّ اليمين للحديث السّابق ذكره . وفي رواية لأحمد ، وهي الّتي اختارها أبو الخطّاب من الحنابلة ، أنّه إن نكل تردّ اليمين على المدّعي ، ويحكم له بما ادّعاه ، كما تقدّم .
قضاء القاضي بعلمه :
30 - المراد بعلم القاضي ظنّه المؤكّد الّذي يجوز له الشّهادة مستنداً إليه . ولا خلاف بين فقهاء المذاهب في أنّ القاضي لا يجوز له القضاء بعلمه في الحدود الخالصة للّه تعالى كالزّنى وشرب الخمر ، لأنّ الحدود يحتاط في درئها ، وليس من الاحتياط الاكتفاء بعلم القاضي ، ولأنّ الحدود لا تثبت إلاّ بالإقرار أو البيّنة المنطوق بها ، وأنّه وإن وجد في علم القاضي معنى البيّنة ، فقد فاتت صورتها ، وهو النّطق ، وفوات الصّورة يورث شبهةً ، والحدود تدرأ بالشّبهات . وأمّا قضاء القاضي بعلمه في حقوق الآدميّين فمحلّ خلاف بين الفقهاء : فمذهب المالكيّة وغير الأظهر عند الشّافعيّة ، وظاهر مذهب الحنابلة ، أنّ القاضي لا يحكم بعلمه في حقوق الآدميّين ، وسواء في ذلك علمه قبل الولاية وبعدها . وهذا قول شريح والشّعبيّ وإسحاق وأبي عبيد ، مستدلّين بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّما أنا بشر ، وإنّكم تختصمون إليّ ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع » . فدلّ الحديث على أنّه إنّما يقضي بما يسمع ، لا بما يعلم ، وبقوله صلى الله عليه وسلم في قضيّة الحضرميّ والكنديّ : « شاهداك أو يمينه ، ليس لك منه إلاّ ذاك » وبما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه تداعى عنده رجلان ، فقال له أحدهما : أنت شاهدي . فقال إن شئتما شهدت ولم أحكم أو أحكم ولا أشهد والأظهر عند الشّافعيّة ، وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب الإمامين أبي يوسف ومحمّد ، أنّه يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه ، سواء في ذلك علمه قبل ولاية القضاء أم بعدها ، لكنّ الشّافعيّة قيّدوا ذلك بما إذا كان القاضي مجتهداً - وجوباً - ظاهر التّقوى والورع - ندباً - واشترطوا لنفاذ حكمه أن يصرّح بمستنده ، فيقول : علمت أنّ له عليك ما ادّعاه ، وقضيت ، أو : حكمت عليك بعلميّ . فإن ترك أحد اللّفظين ، لم ينفذ حكمه . واستدلّ القائلون بالجواز « بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا قالت له هند : إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطني من النّفقة ما يكفيني وولدي ، قال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » فحكم لها من غير بيّنة ولا إقرار ، لعلمه بصدقها ، وبأنّه يجوز للقاضي أن يقضي بالبيّنة ، فيجوز القضاء بعلمه بطريق الأولى ، لأنّ المقصود من البيّنة ليس عينها ، بل حصول العلم بحكم الحادثة . وعلمه الحاصل بالمعاينة أقوى من علمه الحاصل بالشّهادة ، لأنّ العلم الحاصل بالشّهادة علم غالب الرّأي وأكبر الظّنّ ، والحاصل بالحسّ والمشاهدة على القطع واليقين ، فهو أقوى ، فكان القضاء به أولى . ومذهب الإمام أبي حنيفة أنّه يجوز للقاضي في حقوق الآدميّين أن يقضي بعلمه الّذي استفاده في زمن القضاء وفي مكانه ، ولا يجوز له القضاء بعلمه الّذي استفاده في غير زمن القضاء ، وفي غير مكانه ، أو في زمن القضاء في غير مكانه . وعلّل ذلك بأنّ هناك فرقاً بين العلمين ، فإنّ العلم الّذي استفاده في زمن القضاء ومكانه علم في وقت هو مكلّف فيه بالقضاء ، فأشبه البيّنة القائمة فيه ، والعلم الّذي استفاده قبل زمن القضاء هو في وقت غير مكلّف فيه بالقضاء ، فأشبه البيّنة القائمة فيه . وقال المخالفون : إنّ العلم في الحالين سواء . وقال الحنفيّة : إنّ المعتمد عدم حكم القاضي بعلمه في زماننا لفساد قضاته . وما قاله المتأخّرون من جواز قضاء القاضي بعلمه هو بخلاف المفتى به وذهب بعض المالكيّة إلى جواز قضاء القاضي بعلمه الّذي يحصل بين يديه في مجلس القضاء ، كالإقرار . ولكنّ ذلك في الحقيقة ليس حكماً بعلم القاضي ، وإنّما هو حكم مبنيّ على الإقرار .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
القضاء بالقرينة القاطعة :
31 - القرينة لغةً . العلامة والمراد بالقرينة القاطعة في الاصطلاح ، ما يدلّ على ما يطلب الحكم به دلالةً واضحةً بحيث تصيّره في حيّز المقطوع به ، كما لو ظهر إنسان من دار ، ومعه سكّين في يديه ، وهو متلوّث بالدّماء ، سريع الحركة ، عليه أثر الخوف ، فدخل إنسان أو جمع من النّاس في ذلك الوقت ، فوجدوا بها شخصاً مذبوحاً لذلك الحين ، وهو متضمّخ بدمائه ، ولم يكن في الدّار غير ذلك الرّجل الّذي وجد على الصّفة المذكورة ، وهو خارج من الدّار ، فإنّه يؤخذ به ، إذ لا يشكّ أحد في أنّه قاتله واحتمال أنّه ذبح نفسه ، أو أنّ غير ذلك الرّجل قتله ثمّ تسوّر الحائط وهرب ، ونحو ذلك ، فهو احتمال بعيد لا يلتفت إليه ، إذ لم ينشأ عن دليل . ولا خلاف بين فقهاء المذاهب في بناء الحكم على القرينة القاطعة ، مستدلّين بالكتاب والسّنّة وعمل الصّحابة : فأمّا الكتاب ، فقوله تعالى { وجاءوا على قميصه بدم كذب } فقد روي أنّ إخوة يوسف لمّا أتوا بقميصه إلى أبيهم تأمّله ، فلم ير خرقاً ولا أثر ناب ، فاستدلّ به على كذبهم . وأمّا السّنّة « فما وقع في غزوة بدر لابني عفراء ، لمّا تداعيا قتل أبي جهل . فقال لهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هل مسحتما سيفيكما ؟ فقالا : لا . فقال : أرياني سيفيكما فلمّا نظر إليهما قال : هذا قتله وقضى له بسلبه » . فاعتمد صلى الله عليه وسلم على الأثر في السّيف . وأمّا عمل الصّحابة ، فمنه حكم عمر رضي الله عنه برجم المرأة إذا ظهر بها حمل وليس لها زوج . وجعل ذلك يقوم مقام البيّنة في أنّها زانية ، وكذلك السّكران إذا قاء الخمر . وقد ساق ابن القيّم كثيراً من الوقائع الّتي قضى فيها الصّحابة رضي الله عنهم بناءً على القرائن ، وانتهى إلى تفسير قوله صلى الله عليه وسلم : « البيّنة على المدّعي » بأنّ المراد بالبيّنة ما يظهر صحّة دعوى المدّعي . فإذا ظهر صدقه بأيّ طريق من طرق الحكم ، ومنها القرينة ، حكم له .
القضاء بكتاب القاضي إلى القاضي
32 - الأصل في القضاء به السّنّة ، والإجماع ، والمعقول : أمّا السّنّة فما روى الضّحّاك بن سفيان قال : « كتب إليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن ورّث امرأة أشيم الضّبابيّ من دية زوجها » . وأجمعت الأمّة على القضاء بكتاب القاضي إلى القاضي . وأمّا المعقول فلأنّ الحاجة داعية إليه . فإنّ من له حقّ في بلد غير بلده قد يشقّ عليه السّفر إليه والمطالبة بحقّه إلاّ بكتاب القاضي ، فوجب قبوله . والكتاب على ضربين : أحدهما : أن يكتب بما حكم به ، وذلك مثل أن يحكم على رجل بحقّ ، فيغيب قبل إيفائه ، أو يدّعي حقّاً على غائب ، ويقيم به بيّنةً ، ويسأل الحاكم الحكم عليه ، فيحكم عليه ويسأله أن يكتب له كتاباً يحمله إلى قاضي البلد الّذي فيه الغائب فيكتب له إليه ، أو تقوم البيّنة على حاضر فيهرب قبل الحكم فيسأل صاحب الحقّ الحاكم الحكم عليه وأن يكتب له كتاباً يحمله ، ففي هذه الصّور الثّلاث يلزم الحاكم إجابته إلى الكتابة ، ويلزم المكتوب إليه قبوله . الضّرب الثّاني : أن يكتب بعلمه بشهادة شاهدين عنده بحقّ لفلان ، مثل أن تقوم البيّنة عنده بحقّ لرجل على آخر ، ولم يحكم به ، فيسأله صاحب الحقّ أن يكتب له كتاباً بما حصل عنده . فإنّه يكتب له ، ويذكر في الكتاب ما شهد به الشّاهدان ليقضي بشهادتهما القاضي المكتوب له . فيجب على القاضي المكتوب إليه أن يقضي بذلك إذا توافرت شروط قبوله .
محلّ القضاء بكتاب القاضي وشروطه :
33 - لا خلاف بين فقهاء المذاهب الأربعة في جواز القضاء بكتاب القاضي إلى القاضي في الجملة ، غير أنّهم يختلفون فيما يكتب فيه القاضي إلى القاضي ، وفي الشّروط الواجب تحقّقها في الكتاب . فعند الحنفيّة : يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في غير الحدود والقصاص . وعند المالكيّة والشّافعيّة يجوز القضاء بكتاب القاضي إلى القاضي في الأموال والحدود والقصاص ، وكلّ ما هو من حقوق العباد . وعند الحنابلة يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في المال وما يقصد به المال ، كالقرض والغصب ، ولا يقبل في حدّ للّه تعالى . وهل يقبل فيما عدا ذلك ، مثل القصاص والنّكاح والطّلاق والخلع والنّسب ؟ على روايتين . فأمّا حدّ القذف فإن قيل : إنّه حقّ للّه تعالى ، فلا يقبل فيه ، وإن قيل : إنّه حقّ الآدميّ ، فهو كالقصاص . وفي كلّ مذهب تفصيلات وشروط : فمنهم من يشترط أن يكون بين القاضي الكاتب والقاضي المكتوب إليه مسافة قصر ، سواء أكان المكتوب به حكماً أم شهادةً ومنهم من لا يشترط ذلك ، ومنهم من يشترط المسافة في الكتابة بالشّهادة دون الحكم . ويشترط بعض الفقهاء أن يكون كلّ من الكاتب والمكتوب إليه على ولاية القضاء حين الكتابة ، وحين الحكم ، ومنهم من يشترط أن يكون كلّ على الولاية حين الكتابة فقط . ومثل كتاب القاضي إلى القاضي : أن يكون لقاضيان في بلد واحد ، ويؤدّي أحدهما إلى الآخر مشافهةً . وكلّ ما يتعلّق بكتاب القاضي إلى القاضي من شروط وغيرها إجراءات تختلف باختلاف الأزمان والأعراف . وقد وضع الفقهاء القواعد والشّروط بحسب ما رأوه مناسباً في أزمنتهم . وقوام الأمر في ذلك هو الاستيثاق من أنّ المكتوب صادر من قاض مختصّ بكتابة ما كتب . وقد تغيّرت الإجراءات والأعراف وتضمّنت قوانين المرافعات في العصور الحديثة إجراءات تعود كلّها إلى الضّبط والاستيثاق ، ولا تنافي نصّاً ولا حكماً فقهيّاً ، ومن ثمّ فلا بأس من تطبيقها والعمل بها .
حجّيّة الخطّ والختم :
34 - مذهب الحنفيّة والمالكيّة ووجه عند الشّافعيّة وأحد أقوال ثلاثة للإمام أحمد أنّه يعمل بالخطّ إذا وثق به ولم توجد فيه ريبة من محو أو كشط أو تغيير ، وذلك في الأموال وما يشبهها ممّا يثبت مع الشّبهة ، كالطّلاق والنّكاح والرّجعة . وهذا في المعاملات بين النّاس . أمّا ما يجده القاضي في السّجلاّت السّابقة على تولّيه فمذهب الحنفيّة والمالكيّة ، والمشهور من مذهب الشّافعيّة ، وأحد أقوال ثلاثة للإمام أحمد : أنّه يعمل بما فيها إذا انتفت الرّيبة . وبالنّسبة لما وجد في السّجلاّت الّتي تمّت في عهده فالفقهاء مجمعون على أنّه إن تيقّن أنّه خطّه ، وذكر الحادثة ، فإنّه يعمل به وينفذ . وهذا كلّه فيما إذا أنكر السّند من يدّعى عليه بما فيه . ومن الفقهاء من يرى أنّه إن تيقّن أنّه خطّه يعمل به وإن لم يذكر الحادثة ، ومن يتتبّع أقوال الفقهاء جميعاً في حجّيّة الخطّ والختم يتبيّن له أنّ المعوّل عليه هو الاستيثاق من صحّة الكتابة ، وعدم وجود شبهة فيها ، فإن انتفت عمل بها ونفذت ، وإلاّ فلا . وقد استحدثت نظم وآلات يمكن بواسطتها اكتشاف التّزوير في المستندات . فإن طعن على سند ما بالتّزوير أمكن التّحقيق في ذلك . وهذا ما تجري عليه المحاكم الآن . وليس في قواعد الشّريعة ما يمنع من تطبيق النّظم الحديثة إذ هي لا تخالف نصّاً شرعيّاً ، ولا تجافي ما وضعه الفقهاء من قواعد وضوابط رأوها مناسبةً في أزمنتهم .
القضاء بقول القافة :
35 - القافة جمع قائف ، وهو في اللّغة : من يتّبع الأثر . وفي الشّرع الّذي يتتبّع الآثار ويتعرّف منها الّذين سلكوها ، ويعرف شبه الرّجل بأبيه وأخيه ويلحق النّسب عند الاشتباه ، بما خصّه اللّه تعالى به من علم ذلك . فعند الأئمّة الثّلاثة : مالك والشّافعيّ وأحمد ، أنّه يحكم بالقافة في ثبوت النّسب ، خلافاً للحنفيّة . ويرجع في تفصيل ذلك إلى مصطلح ( قيافة ) .
القضاء بالقرعة :
36 - القرعة : طريقة تعمل لتعيين ذات أو نصيب من بين أمثاله إذا لم يمكن تعيينه بحجّة . وقد نصّ الفقهاء على أنّه " متى تعيّنت المصلحة أو الحقّ في جهة ، فلا يجوز الإقراع بينه وبين غيره ، لأنّ في القرعة ضياع ذلك الحقّ المعيّن والمصلحة المعيّنة . ومتى تساوت الحقوق والمصالح فهذا هو موضع القرعة عند التّنازع ، دفعاً للضّغائن والأحقاد ، وللرّضا بما جرت به الأقدار ، وهي مشروعة في مواضع » . وتفصيل ذلك موطنه مصطلح ( قرعة ) .
القضاء بالفراسة :
37 - الفراسة في اللّغة : الظّنّ الصّائب النّاشئ عن تثبيت النّظر في الظّاهر لإدراك الباطن . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك . وفقهاء المذاهب لا يرون الحكم بالفراسة ، فإنّ مدارك الأحكام معلومة شرعاً ، مدركة قطعاً . وليست الفراسة منها . ولأنّها حكم بالظّنّ والحزر والتّخمين ، وهي تخطئ وتصيب . ولكنّ ابن القيّم أورد حججاً على شرعيّة العمل بالفراسة ، وساق على ذلك شواهد وأمثلةً . وتفصيل الكلام في مصطلح ( فراسة ) .
القضاء بقول أهل المعرفة ( الخبرة ) :
38 - اتّفق فقهاء المذاهب على جواز القضاء بقول أهل المعرفة فيما يختصّون بمعرفته إذا كانوا حذّاقاً مهرةً . ومن ذلك الاستعانة في معرفة قدم العيب أو حداثته . ويرجع إلى أهل الطّبّ والمعرفة بالجراح في معرفة طول الجرح ، وعمقه وعرضه ، وهم الّذين يتولّون استيفاء القصاص . وكذلك يرجع إلى أهل المعرفة من النّساء فيما لا يطّلع عليه غيرهنّ كالبكارة .
القضاء بالاستصحاب :
39 - الاستصحاب في اللّغة الملازمة وعدم المفارقة . وفي الاصطلاح : هو استبقاء الوصف المثبت للحكم حتّى يثبت خلافه . وقد ذهب الجمهور ( المالكيّة والحنابلة وأكثر الشّافعيّة ) إلى أنّه حجّة سواء أكان في النّفي أم الإثبات . وأمّا الحنفيّة فقد تعدّدت الآراء عندهم في حجّيّته بين الإطلاق والتّقييد ، فمنهم من منع حجّيّته ، ومنهم من قيّدها بأنّه حجّة للدّفع لا للإثبات . وللاستصحاب أنواع وأقسام . وتفصيل ذلك موطنه ( استصحاب ) .
القضاء بالقسامة :
40 - من معاني القسامة في اللّغة اليمين مطلقاً ، إلاّ أنّها في عرف الشّرع تستعمل في اليمين باللّه تبارك وتعالى ، بسبب مخصوص ، وعدد مخصوص ، وعلى أشخاص مخصوصين ، على وجه مخصوص . 41 - ومحلّ القسامة يكون عند وجود قتيل في محلّة لا يعرف قاتله . فذهب مالك والشّافعيّ وأحمد في إحدى الرّوايتين عنه إلى أنّه إذا لم يكن هناك عداوة ولا لوث ( أي شبهة قويّة توجب غلبة الظّنّ بصحّة التّهمة ) كانت هذه الدّعوى كسائر الدّعاوى : البيّنة على المدّعي ، والقول قول المنكر . وليس في ذلك يمين ، لأنّ النّكول عن اليمين بذل ، ولا بذل في الأنفس ، فلا يحلّ للإنسان أن يبيح لغيره قتل نفسه ، وعليه القصاص إن فعل . وأمّا إذا كان هناك لوث ، كالعداوة الظّاهرة ، وادّعى أولياء القتيل على معيّن أنّه قتله ، حلف من الأولياء خمسون أنّ فلاناً هو قاتله عمداً ، فيستحقّون القصاص ، أو خطأً ، فيستحقّون الدّية . وذهب أبو حنيفة إلى أنّ القسامة لا توجّه إلاّ إلى المدّعى عليهم ، فيختار أولياء القتيل خمسين من أهل المحلّة ، فيحلفون أنّهم ما قتلوه ، ولا يعرفون له قاتلاً . فيسقط القصاص ، وتستحقّ الدّية . وفي ذلك تفصيل واختلاف ، موطن بيانه بحث القسامة .
القضاء بالعرف والعادة :
42 - العرف : ما استقرّ في النّفوس من جهة العقول ، وتلقّته الطّباع السّليمة بالقبول . ويدخل في هذا التّعريف " العادة " على أنّهما مترادفان . وقيل : العادة أعمّ ، لأنّها تثبت بمرّة ، وتكون لفرد أو أفراد . وهما حجّة ، لبناء الأحكام عليهما ، ما لم يصادما نصّاً أو قاعدةً شرعيّةً . ويستند إليهما في تفسير المراد . وفي ذلك خلاف وتفصيل موطنه الملحق الأصوليّ .
أثر
التّعريف
1 - من معاني الأثر في اللّغة : بقيّة الشّيء ، أو الخبر . ويقال : أثّر فيه تأثيراً : ترك فيه أثراً . ولا يخرج استعمال الفقهاء والأصوليّين للفظ « أثر " عن هذه المعاني اللّغويّة . فيطلقون الأثر - بمعنى البقيّة - على بقيّة النّجاسة ونحوها ، كما يطلقونه بمعنى الخبر فيريدون به الحديث المرفوع أو الموقوف أو المقطوع ، وبعض الفقهاء يقصرونه على الموقوف ، ويطلقونه بمعنى ما يترتّب على الشّيء ، وهو المسمّى بالحكم عندهم ، كما إذا أضيف الأثر إلى الشّيء فيقال : أثر العقد ، وأثر الفسخ ، وأثر النّكاح وغير ذلك .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - علامة الشّيء تكون قبله ، وأثره يكون بعده ، تقول : الغيوم والرّياح علامات المطر . ومجرى السّيول : أثر المطر ، دلالةً عليه ، وليس برهاناً عليه . والمأثور : يطلق على القول والفعل ، أمّا الأثر فلا يطلق إلاّ على القول . والخبر غالباً ما يطلق على الحديث المرفوع ، والأثر ما نسب إلى الصّحابة . الحكم الإجماليّ :
3 - يختلف الحكم تبعاً للاستعمالات الفقهيّة أو الأصوليّة . أمّا الاستعمال بمعنى بقيّة الشّيء : فالحكم أنّه إن تعذّر إزالة أثر النّجاسة فيكون معفوّاً عنه . وأمّا الاستعمال بمعنى ما يترتّب على الشّيء ، فالفقهاء يعتبرون الأثر في العقد هو ما شرع العقد له ، كانتقال الملكيّة في البيع ، وحلّ الاستمتاع في النّكاح . وأمّا الاستعمال بمعنى الحديث الموقوف أو المرفوع فموطن تفصيله الملحق الأصوليّ .
( مواطن البحث )
4 - يبحث استعمال الأثر بمعنى ما يترتّب على الشّيء في كتب الفقه كلّ مسألة في بابها . أمّا بمعنى بقيّة الشّيء فقد بحثها الفقهاء في الطّهارة عند الحديث عن أثر النّجاسة ، وفي الجنايات عند الكلام عن أثر الجناية .
إثم
التّعريف
1 - الإثم لغةً : هو الذّنب . وقيل : أن يعمل ما لا يحلّ له . وفي اصطلاح أهل السّنّة : الإثم استحقاق العقوبة . وعند المعتزلة . لزوم العقوبة . والاختلاف بين التّعريفين يدور على جواز العفو وعدمه عند كلّ من الفريقين .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - الذّنب : قيل هو الإثم . وعلى هذا يكون مرادفاً للإثم . الخطيئة : من معانيها الذّنب عن عمد . وهي بهذا المعنى تكون مطابقةً للإثم . وقد تطلق على غير العمد فتكون بهذا المعنى مخالفةً للإثم ، إذ الإثم لا يكون إلاّ عن عمد . الحكم الإجماليّ :
3 - يتعلّق الإثم ببعض الأمور منها : أ - ترك الفرض : فيأثم تارك فرض العين ، كترك الصّلاة . وكذلك يأثم تارك فرض الكفاية إذا تركه الكلّ ، كصلاة الجنازة .
ب - ترك الواجب : إذا اعتبر مرادفاً للفرض فهو مثله في الحكم . وأمّا إن اعتبر غير مرادف للفرض - وهو صنيع الحنفيّة - فإنّه يأثم الفرد - وكذلك الجماعة - بتركه إثماً ليس كإثم ترك الفرض .
ج - ( ترك السّنن إذا كانت من الشّعائر ) : إذا كانت السّنّة المؤكّدة من الشّعائر الدّينيّة ، كالأذان والجماعة فتركه يستلزم الإثم على الجماعة في الجملة . وكذلك الالتزام بترك السّنّة المؤكّدة موجب للإثم عند البعض . والحقّ أنّ ترك الفرض والواجب والسّنّة المؤكّدة في هذه الحالة كلّه يرجع إلى الحرام .
د - ( فعل الحرام والمكروه ) : فعل الحرام موجب للإثم . أمّا المكروه فإذا كان مكروهاً كراهةً تحريميّةً يأثم فاعله . أمّا إذا كان مكروهاً كراهةً تنزيهيّةً ، فلا يأثم فاعله .
ترك المباح أو فعله :
4 - لا يلزم من فعل المباح أو تركه إثم ولا كراهة ، مثل العمل بالقراض والمساقاة . الإثم وعوارض الأهليّة :
5 - تعلّق الإثم بأفعال المكره والنّاسي والمخطئ والسّكران فيه تفصيل واختلاف بين الفقهاء ، ويرجع إليه في مواطنه .
( الإثم والحدود ) :
6 - قال الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة : الحدود لا تذهب الآثام ( العقوبة الأخرويّة ) ولا تكون مطهّرةً ، وقال الشّافعيّ : هي مطهّرة للمسلم ، وغير مطهّرة للكافر .
إجابة
التّعريف
1 - الإجابة في اللّغة : رجع الكلام . والإجابة والاستجابة بمعنًى واحد ، تقول : أجابه عن سؤاله واستجاب له إذا دعاه إلى شيء فأطاع ، وأجاب اللّه دعاءه قبله ، واستجاب له كذلك . وجواب القول قد يتضمّن إقراره ، وقد يتضمّن إبطاله ، ولا يسمّى جواباً إلاّ بعد الطّلب . ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ . والإجابة قد تكون بالفعل ، كإجابة الدّعوة إلى الوليمة ، وقد تكون القول ، سواء كانت بجملة كردّ السّلام ، أم بحرف الجواب فقط كنعم وبلى ، حيث يؤخذ به في الأحكام . وقد تكون بالإشارة المفهومة . وقد يعتبر السّكوت إجابةً كسكوت البكر عند استئذانها في النّكاح .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - الإغاثة هي : الإعانة والنّصرة . والإجابة قد تكون إعانةً وقد لا تكون . والإجابة لا بدّ أن يسبقها طلب ، أمّا الإغاثة فقد تكون بلا طلب . والقبول هو التّصديق والرّضا ، أمّا الإجابة فقد تكون تصديقاً ورضاً وقد لا تكون .
( الحكم الإجماليّ )
3 - يختلف الحكم التّكليفيّ للإجابة بحسب الأمر المطلوب . فالإجابة إلى دعوة الإسلام ، والعمل بما خوطب به الإنسان من فرائض الدّين ، وإجابة الأمير للجهاد ، أمور واجبة بلا خلاف . وما كان لدفع ضرر عن الغير ، كإجابة المستغيث ، فإجابته أمر واجب باتّفاق ، حتّى إنّ الصّلاة تقطع لإجابته . وما كان لقطع الخصومة والمنازعة ، كإجابة المدّعى عليه أمام القاضي ، وكالإجابة في تحمّل الشّهادة ، فهو واجب باتّفاق . وقد تكون الإجابة مستحبّةً كإجابة المؤذّن وهي أن تقول مثل ما يقول . وقد تكون الإجابة محرّمةً كالإجابة للمعصية . أمّا الإجابة في العقود فهي ما قابلت الإيجاب . وتسمّى في عرف الفقهاء بالقبول . وأمّا الإجابة من اللّه سبحانه وتعالى فهي القبول الّذي يرجوه الإنسان من اللّه بدعائه وعمله .
( مواطن البحث )
4 - للإجابة أحكام متعدّدة مفصّلة في مواطنها ، ومن ذلك : إجابة الوليمة في باب النّكاح ، وإجابة الوالدين في باب الجهاد ، وفي باب الصّلاة ، وردّ السّلام أثناء خطبة الجمعة ، والسّعي لنداء الجمعة والإجابة ( القبول ) في العقود ، كالوصيّة والبيع وغير ذلك .
إجارة تعريف الإجارة :
1 - الإجارة في اللّغة اسم للأجرة ، وهي كراء الأجير وهي بكسر الهمزة ، وهو المشهور . وحكي الضّمّ بمعنى المأخوذ وهو عوض العمل ، ونقل الفتح أيضاً ، فهي مثلّثة ، لكن نقل عن المبرّد أنّه يقال : أجّر وآجر إجاراً وإجارةً . وعليه فتكون مصدراً وهذا المعنى هو المناسب للمعنى الاصطلاحيّ .
2 - وعرّفها الفقهاء : بأنّها عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض . ويخصّ المالكيّة غالباً لفظ الإجارة بالعقد على منافع الآدميّ ، وما يقبل الانتقال غير السّفن والحيوان ، ويطلقون على العقد على منافع الأراضي والدّور والسّفن والحيوانات لفظ كراء ، فقالوا : الإجارة والكراء شيء واحد في المعنى .
3 - وما دامت الإجارة عقد معاوضة فيجوز للمؤجّر استيفاء الأجر قبل انتفاع المستأجر ، على التّفصيل الّذي سيرد في موضعه ، كما يجوز للبائع استيفاء الثّمن قبل تسليم المبيع ، وإذا عجّلت الأجرة تملّكها المؤجّر اتّفاقاً دون انتظار لاستيفاء المنفعة ، على ما سيأتي بيانه .
الإجارة من حيث اللّزوم وعدمه :
4 - الأصل في عقد الإجارة عند الجمهور اللّزوم ، فلا يملك أحد المتعاقدين الانفراد بفسخ العقد إلاّ لمقتض تنفسخ به العقود اللاّزمة ، من ظهور العيب ، أو ذهاب محلّ استيفاء المنفعة . واستدلّوا بقوله تعالى { أوفوا بالعقود } وقال أبو حنيفة وأصحابه : يجوز للمكتري فسخ الإجارة للعذر الطّارئ على المستأجر مثل أن يستأجر دكّاناً يتّجر فيه ، فيحترق متاعه أو يسرق ، لأنّ طروء هذا وأمثاله ، يتعذّر معه استيفاء المنفعة المعقود عليها ، وذلك قياساً على هلاك العين المستأجرة ، وحكى ابن رشد أنّه عقد جائز .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : البيع :
5 - مع أنّ الإجارة من قبيل البيع فإنّها تتميّز بأنّ محلّها بيع المنفعة لا العين . في حين أنّ عقود البيع كلّها التّعاقد فيها على العين . كما أنّ الإجارة تقبل التّنجيز والإضافة ، بينما البيوع لا تكون إلاّ منجزةً . والإجارة لا يستوفى المعقود عليه فيها وهو المنفعة دفعةً واحدةً ، أمّا في البيوع فيستوفى المبيع دفعةً واحدةً . كما أنّه ليس كلّ ما يجوز إجارته يجوز بيعه ، إذ تجوز إجارة الحرّ لأنّ الإجارة فيه على عمل ، بينما لا يجوز أن يباع لأنّه ليس بمال .
( الإعارة ) :
6 - تفترق الإجارة عن الإعارة في أنّ الإجارة تمليك منفعة بعوض ، وأنّ الإعارة إمّا تمليك منفعة بلا عوض ، أو إباحة منفعة ، على خلاف بين الفقهاء تفصيله في موطنه .
( الجعالة ) :
7 - تفترق الإجارة عن الجعالة في أنّ الجعالة إجارة على منفعة مظنون حصولها ولا ينتفع الجاعل بجزء من عمل العامل وإنّما بتمام العمل ، وأنّ الجعالة غير لازمة في الجملة .
( الاستصناع ) :
8 - تفترق الإجارة ( في الأجير المشترك ) عن عقد الاستصناع ( الّذي هو بيع عين شرط فيها العمل ) في أنّ الإجارة تكون العين فيها من المستأجر والعمل من الأجير ، أمّا الاستصناع فالعين والعمل كلاهما من الصّانع ( الأجير ) .
صفة الإجارة ( حكمها التّكليفيّ ) ودليله :
9 - عقد الإجارة الأصل فيه أنّه مشروع على سبيل الجواز . والدّليل على ذلك الكتاب والسّنّة والإجماع والمعقول : أمّا الكتاب فمنه قوله تعالى { فإن أرضعن لكم فآتوهنّ أجورهنّ } . ومن السّنّة ما رواه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من استأجر أجيراً فليعلمه أجره » ، وقوله : « أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه » ، وقوله : « ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة وعدّ منهم رجلاً استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره » . وكذلك فعله عليه الصلاة والسلام وتقريره . وأمّا الإجماع فإنّ الأمّة أجمعت على العمل بها منذ عصر الصّحابة وإلى الآن وأمّا دليلها من المعقول فلأنّ الإجارة وسيلة للتّيسير على النّاس في الحصول على ما يبتغونه من المنافع الّتي لا ملك لهم في أعيانها ، فالحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان ، فالفقير محتاج إلى مال الغنيّ ، والغنيّ محتاج إلى عمل الفقير . ومراعاة حاجة النّاس أصل في شرع العقود . فيشرع على وجه ترتفع به الحاجة ، ويكون موافقاً لأصل الشّرع . وهذه هي حكمة تشريعها .
الفصل الثّاني أركان عقد الإجارة تمهيد :
10 - يختلف الفقهاء في تعداد أركان عقد الإجارة ، فالجمهور على أنّها : الصّيغة ( الإيجاب والقبول ) ، والعاقدان ، والمعقود عليه ( المنفعة والأجرة ) ، وذهب الحنفيّة إلى أنّها الصّيغة فقط ، وأمّا العاقدان والمعقود عليه فأطراف للعقد ومن مقوّماته ، فلا قيام للعقد إلاّ باجتماع ذلك كلّه . فالخلاف لفظيّ لا ثمرة له . الصّيغة :
11 - صيغة عقد الإجارة ما يتمّ بها إظهار إرادة المتعاقدين من لفظ أو ما يقوم مقامه ، وذلك بإيجاب يصدره المملّك ، وقبول يصدره المتملّك على ما يرى الجمهور ، في حين يرى الحنفيّة أنّ الإيجاب ما صدر أوّلاً من أحد المتعاقدين والقبول ما صدر بعد ذلك من الآخر . وتفصيل الكلام في الصّيغ موطنه عند الكلام عن العقد .
12 - جمهور الفقهاء على أنّ الإجارة تنعقد بأيّ لفظ دالّ عليها ، كالاستئجار والاكتراء والإكراء . وتنعقد بأعرتك هذه الدّار شهراً بكذا ، لأنّ العاريّة بعوض إجارة . كما تنعقد بوهبتك منافعها شهراً بكذا ، وصالحتك على أن تسكن الدّار لمدّة شهر بكذا ، أو ملّكتك منافع هذه الدّار سنةً بكذا ، أو عوّضتك منفعة هذه الدّار سنةً بمنفعة دارك ، أو سلّمت إليك هذه الدّراهم في خياطة هذا ، أو في دابّة صفتها كذا ، أو في حملي إلى مكّة ، فيقول : قبلت ، مع أنّ هذه الألفاظ لم توضع في اللّغة لذلك ، لكنّها أفادت في هذا المقام تمليك المنفعة بعوض .
13 - وتوسّع الحنابلة في ذلك حتّى قالوا : تنعقد الإجارة بلفظ أجّرت وما في معناه كالكراء ، سواء أضافه إلى العين ، نحو أجرتكها أو أكريتكها ، أو أضافه إلى النّفع ، نحو قوله : آجرتك نفع هذه الدّار ، أو : ملّكتك نفعها . وتنعقد أيضاً بلفظ بيع مضافاً إلى النّفع ، نحو قوله : بعتك نفعها ، أو : بعتك سكنى الدّار ، ونحوه . وقالوا : التّحقيق أنّ المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت بأيّ لفظ كان من الألفاظ الّتي عرف بها المتعاقدان مقصودها ، فإنّ الشّارع لم يحدّ حدّاً لألفاظ العقد ، بل ذكرها مطلقةً . وانعقادها بلفظ البيع مضافاً إلى المنافع قول عند الحنفيّة أيضاً ، وقول عند الشّافعيّة ، لأنّه صنف من البيع ، لأنّه تمليك يتقسّط العوض فيه على المعوّض ، كالبيع ، فانعقد بلفظه .
14 - وفي القول الأصحّ عند الشّافعيّة وقول عند الحنفيّة لا تنعقد الإجارة بلفظ : بعتك منفعتها ، لأنّ المنفعة مملوكة بالإجارة ، ولفظ البيع وضع لتمليك العين ، فذكره في المنفعة مفسد ، لأنّه ليس بكناية عن العقد ، ولأنّه يخالف البيع في الاسم والحكم ، ولأنّ بيع المعدوم باطل ، والمنافع المعقود عليها معدومة وقت العقد كما يقول الحنفيّة .
الإجارة بالمعاطاة .
15 - أجاز الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة التّعاقد بالأفعال في الأشياء الخسيسة والنّفيسة ما دام الرّضا قد تحقّق ، وفهم القصد ، وهو قول عند الشّافعيّة اختاره النّوويّ وجماعة . وقيّد القدوريّ الحنفيّ الجواز بأنّه في الأشياء الخسيسة دون النّفيسة . وهو قول أيضاً عند الشّافعيّة ، والمذهب عندهم المنع ، والعبرة بما تدلّ عليه ظروف الحال ، كأن تكون العين المؤجّرة معدّةً للاستغلال ، كمن يبيت في الخان ( الفندق ) فإنّه يكون بأجر . وبناءً على أصل مذهب الشّافعيّة من منع عقود المعاطاة لو دفع ثوباً إلى خيّاط ليخيطه ، ففعل ، ولم يذكر أحدهما أجرةً ، فلا أجرة له . وقيل : له أجرة مثله لاستهلاكه منفعته . وقيل : إن كان معروفاً بذلك العمل بالأجر فله أجرة مثله ، وإلاّ فلا .
تنجيز الإجارة وإضافتها وتعليقها :
16 - الأصل في الإجارة أن تكون منجزةً ، فإذا لم يوجد ما يصرف الصّيغة عن التّنجيز ، أو لم ينصّ على بداية العقد ، فإنّ الإجارة تبدأ من وقت العقد ، وتكون منجزةً . هذا ، ويختلف الحكم في إضافة صيغة الإجارة إلى المستقبل بين أن تكون إجارةً على عين أو ثابتةً في الذّمّة . فالإجارة الثّابتة في الذّمّة هي الواردة على منفعة موصوفة مع التزامها في الذّمّة ، كأن يستأجر سيّارةً موصوفةً بصفات يتّفق عليها ، ويقول : ألزمت ذمّتك إجارتي إيّاها . فإن أطلق ولم يذكر الذّمّة كانت إجارة عين . وإجارة العين هي الواردة على منفعة معيّن ، كالعقار والحيوان ومنفعة الإنسان . فالجمهور لم يفرّقوا بين هذين في صحّة الإضافة للمستقبل . وذهب الشّافعيّة في الأصحّ عندهم إلى أنّ الإضافة صحيحة فيما يثبت في الذّمّة ، لا فيما كانت واردةً على الأعيان ، إلاّ في بعض صور مستثناة أجازوا فيها الإضافة في إجارة الأعيان إذا كانت المدّة بين العقد وبين المدّة المضاف إليها زمناً يسيراً ، كأن تعقد الإجارة ليلاً لمنفعة النّهار التّالي ، أو يعقد الإجارة على سيّارة للحجّ قبل أن يبدأ ، بشرط أن يكون قد تهيّأ أهل بلده . على أنّ الرّافعيّ والنّوويّ يريان أنّ التّفرقة لفظيّة ، لأنّ إجارة الذّمّة أيضاً واردة على العين ، أي على منفعتها .
17 - ولمّا كان الأصل في الإجارة اللّزوم كما سبق فلا يستقلّ أحد العاقدين بفسخها ، إلاّ أنّ الإمام محمّداً - في إحدى الرّوايتين عنه - يقول : إنّ الإجارة المضافة يجوز لكلّ من طرفي العقد الانفراد بفسخها قبل حلول بدء مدّتها .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
18 - اتّفق الفقهاء على أنّ الإجارة غير قابلة للتّعليق - كالبيع - وصرّح قاضي زاده من الحنفيّة بذلك ، وقال : « الإجارة لا تقبل التّعليق » . وقد تردّ الإجارة في صورة التّعليق ، ولكنّها في الحقيقة إضافة ، كما لو قال لخيّاط : إن خطت هذا الثّوب اليوم فبدرهم ، أو غداً فبنصف درهم . ويمكن أن يقال : إنّ هذه الصّورة من قبيل تعليق الحطّ من أجر - وهو جائز - لا تعليق الإجارة .
19 - يشترط في الصّيغة لانعقاد العقد أن تكون واضحة الدّلالة في لغة المتعاقدين وعرفهما ، قاطعةً في الرّغبة ، دون تسويف أو تعليق ، إلاّ ما يجوز من ترديد الإجارة بين شيئين ، كأن يقول : آجرتك هذه الدّار بكذا شهريّاً ، أو هذه الدّار بكذا ، فقبل في إحداهما - على ما سيأتي عند الكلام عن محلّ العقد .
20 - ويشترط أن يكون القبول موافقاً للإيجاب في جميع جزئيّاته ، بأن يقبل المستأجر ما أوجبه المؤجّر ، وبالأجرة الّتي أوجبها ، حتّى يتوافق الرّضا بالعقد بين طرفيه . كما يشترط اتّصال القبول بالإيجاب في مجلس العقد إن كانا حاضرين ، أو في مجلس العلم إن كان التّعاقد بين غائبين ، دون أن يفصل بين القبول والإيجاب فاصل مطلقاً عند الشّافعيّ ، لاشتراطه الفوريّة ، ولا فاصل بعيد عن موضوع التّعاقد ، أو مغيّر للمجلس ، عند الجمهور الّذين يعتبرون المجلس وحدةً جامعةً للمتفرّقات ، دالّةً على قيام الرّغبة . وبيان ذلك في مصطلح ( عقد ) 21 - ويشترط في الصّيغة لصحّة العقد عدم تقييدها بشرط ينافي مقتضى العقد ، أو يحقّق مصلحةً لأحد المتعاقدين أو لغيرهما لا يقتضيها العقد ، كأن يشترط المؤجّر لنفسه منفعة العين فترةً ، على خلاف وتفصيل للفقهاء في ذلك ، موطنه الكلام عن الشّرط وعن العقد عامّةً .
22 - كما يشترط لنفاذ الإجارة - فضلاً عن شروط الانعقاد والصّحّة - صدور الصّيغة ممّن له ولاية التّعاقد . كما يشترط خلوّ الصّيغة من شرط الخيار ، إذ خيار الشّرط يمنع حكم العقد ابتداءً ، ولا معنًى لعدم النّفاذ إلاّ هذا . ويشترط للزوم الإجارة ، فضلاً عن جميع الشّروط السّابقة ، خلوّها من أيّ خيار . ويقول الكاسانيّ : لا تنفذ الإجارة في مدّة الخيار . لأنّ الخيار يمنع انعقاد العقد في حقّ الحكم ما دام الخيار قائماً ، لحاجة من له الخيار إلى دفع الغبن عن نفسه . واشتراطه جائز في الإجارة عند كلّ من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وقول للشّافعيّة في الإجارة على معيّن . أمّا الإجارة في الذّمّة فقد منع الشّافعيّة خيار الشّرط فيها ، كما منعوه في قول عندهم في الإجارة على معيّن .
المبحث الثّاني
العاقدان وما يشترط فيهما العاقدان :
23 - من أركان عقد الإجارة عند غير الحنفيّة العاقدان - المؤجّر والمستأجر - والحنفيّة يعتبرونها من أطراف العقد لا من أركانه . ويشترط فيهما للانعقاد العقل ، فلا تنعقد الإجارة من المجنون ولا من الصّبيّ الّذي لا يميّز ، فلا خلاف في أنّها لا تنعقد إلاّ من جائز التّصرّف في المال . ويشترط في العاقدين للصّحّة أن يقع بينهما عن تراض ، فإذا وقع العقد مشوباً بإكراه فإنّه يفسد . كما يشترط الشّافعيّة والحنابلة ومن معهم للصّحّة ولاية إنشاء العقد ، فعقد الفضوليّ يعتبر عندهم فاسداً . ويشترط في العاقدين للنّفاذ عند أبي حنيفة ألاّ يكون العاقد مرتدّاً إن كان رجلاً ، لأنّه يرى أنّ تصرّفاته تكون موقوفةً ، بينما الصّاحبان وجمهور الفقهاء لا يشترطون ذلك لأنّ تصرّفات المرتدّ عندهم نافذة . كما يشترط أن يكون العاقد له ولاية إنشاء العقد عند الحنفيّة والمالكيّة الّذين يرون أنّ الولاية شرط للنّفاذ ، بينما يرى الآخرون أنّها شرط للصّحّة كما سبق .
إجارة الصّبيّ :
24 - إجارة الصّبيّ المميّز نفسه بأجر لا غبن فيه تصحّ إن كان مأذوناً له من وليّه ، خلافاً للشّافعيّة ، إذ منعوها مطلقاً ، فإن وقعت استحقّ أجراً . واختلفوا هل هو المسمّى أو أجر المثل . وإن كان محجوراً عليه كان العقد موقوفاً على الإجازة عند الحنفيّة ، وفي الرّاجح عند المالكيّة وروايةً عن أحمد ، لأنّ الولاية شرط للنّفاذ لا للصّحّة ، وكان العقد غير صحيح عند الشّافعيّة وفي قول عند المالكيّة ورواية عن أحمد ، لأنّ الولاية عندهم شرط لصحّة العقد وانعقاده لا لنفاذه .
25 - وإجارة من له الولاية على الصّبيّ نفس الصّبيّ أو ماله نافذة ، لوجود الإنابة من الشّرع . وإذا بلغ الصّبيّ قبل انتهاء المدّة الّتي تمّ عليها عقد الإجارة ففي لزوم العقد اتّجاهان ، فقيل بلزوم العقد لأنّه عقد لازم عقد بحقّ الولاية ، فلم يبطل بالبلوغ ، كما لو باع داره أو زوّجه . وهو قول للشّافعيّة اعتبره الشّيرازيّ الصّحيح في المذهب ، وقول للحنابلة اعتبره ابن قدامة المذهب ، وهو مذهب الحنفيّة في إجارة أمواله . والاتّجاه الثّاني أنّه يصير غير لازم ، ويخيّر في الإجارة ، لأنّه بالبلوغ انتهت الولاية ، وهو مذهب المالكيّة ، وقول عند كلّ من الشّافعيّة والحنابلة ، ومذهب الحنفيّة في إجارة نفس الصّغير ، لأنّ في استيفاء العقد إضراراً به لأنّه بعد البلوغ تلحقه الأنفة من خدمة النّاس ، ولأنّ المنافع تحدث شيئاً فشيئاً ، والعقد ينعقد على حسب حدوث المنافع ، فكان له خيار الفسخ ، كما إذا عقد ابتداءً بعد البلوغ . وهناك قول عند الحنابلة أنّه إذا أجّره مدّةً يتحقّق بلوغه في أثنائها فإنّ العقد لا يلزم بعد البلوغ ، لأنّنا لو قلنا بلزومه فإنّه يفضي إلى أن يعقد الوليّ على جميع منافعه طول عمره ، وإلى أن يتصرّف فيه في غير زمن ولايته عليه ، أمّا إذا أجّره لمدّة لا يتحقّق بلوغه فيها فبلغ فإنّ العقد يكون لازماً .
محلّ الإجارة : الكلام هنا يتناول منفعة العين المؤجّرة ، والأجرة . أوّلاً - منفعة العين المؤجّرة :
26 - المعقود عليه في الإجارة مطلقاً عند الحنفيّة هو المنفعة ، وهي تختلف باختلاف محلّها . وعند المالكيّة والشّافعيّة أنّ المعقود عليه إمّا إجارة منافع أعيان ، وإمّا إجارة منافع في الذّمّة . واشترطوا في إجارة الذّمّة تعجيل النّقد ، للخروج من الدّين بالدّين . وعند الحنابلة محلّ العقد أحد ثلاثة : الأوّل : إجارة عمل في الذّمّة في محلّ معيّن أو موصوف . وجعلوه نوعين : استئجار العامل مدّةً لعمل بعينه ، واستئجاره على عمل معيّن في الذّمّة كخياطة ثوب ورعي غنم . الثّاني : إجارة عين موصوفة في الذّمّة . الثّالث : إجارة عين معيّنة لمدّة محدّدة . .
ويشترط لانعقاد الإجارة على المنفعة شروط هي :
27 - أوّلاً : أن تقع الإجارة عليها لا على استهلاك العين . وهذا لا خلاف فيه ، غير أنّ ابن رشد روى أنّ هناك من جوّزها في كلّ منهما لأنّ ذلك كلّه منفعة مباحة . كما توسّع الشّافعيّة في المنفعة فأدخلوا الكثير من الصّور . ويتفرّع على هذا صور كثيرة تستهلك فيها العين تبعاً كإجارة الظّئر ، وإنزاء الفحل ، واستئجار الشّجر للثّمر . فالحنفيّة ينصّون على أنّ الإجارة لا تنعقد على إتلاف العين ذاتها ، والمالكيّة ينصّون على أنّه لا يجوز استيفاء عين قصداً ، كما نصّ الحنابلة على أنّ الإجارة لا تنعقد إلاّ على نفع يستوفى مع بقاء العين إلاّ إذا كانت المنافع يقتضي استيفاؤها إتلاف العين كالشّمعة للإضاءة .
28 - ثانياً : أن تكون المنفعة متقوّمةً مقصودة الاستيفاء بالعقد ، فلا تنعقد اتّفاقاً على ما هو مباح بدون ثمن لأنّ إنفاق المال في ذلك سفه . والمذاهب في تطبيق ذلك الشّرط بين مضيّق وموسّع . وأكثرهم في التّضييق الحنفيّة ، حتّى إنّهم لم يجيزوا استئجار الأشجار للاستظلال بها ، ولا المصاحف للنّظر فيها . ويقرب منهم المالكيّة ، لكنّهم أجازوا إجارة المصاحف وإن كرهوا ذلك . بينما توسّع الحنابلة ، حتّى أجازوا الإجارة على كلّ منفعة مباحة . ويقرب منهم الشّافعيّة ، إلاّ أنّهم لم يجيزوا بعض ما أجازه الحنابلة ، كإجارة الدّنانير للتّجميل ، والأشجار لتجفيف الثّياب ، في القول الصّحيح عندهم .
29 - ثالثاً ويشترط أن تكون المنفعة مباحة الاستيفاء . وليست طاعةً مطلوبةً ، ولا معصيةً ممنوعةً . وهذا الشّرط موضع تفصيل وخلاف بين المذاهب مذكور فيما بعد ( ف 108 ) 30 - رابعاً : ويشترط في المنفعة لصحّة الإجارة : القدرة على استيفائها حقيقةً وشرعاً . فلا تصحّ إجارة الدّابّة الفارّة ، ولا إجارة المغصوب من غير الغاصب ، لكونه معجوزاً عن تسليمه ، ولا الأقطع والأشلّ للخياطة بنفسه ، فهي منافع لا تحدث إلاّ عند سلامة الأسباب . وعلى هذا فلا تجوز إجارة ما لا يقدر عليه المستأجر ، ويحتاج فيه إلى غيره . وانبنى على هذا القول بعدم جواز استئجار الفحل للإنزاء ، والكلب والباز للصّيد ، والقول بعدم جواز إجارة الظّئر دون إذن زوجها ، لأنّه مانع شرعيّ يحول دون إجارتها . وتفصيل ذلك فيما بعد ( ف 116 ) 31 - خامساً : ويشترط فيها أيضاً لصحّة الإجارة : أن تكون معلومةً علماً ينفي الجهالة المفضية للنّزاع . وهذا الشّرط يجب تحقّقه في الأجرة أيضاً ، لأنّ الجهالة في كلّ منهما تفضي إلى النّزاع . وهذا موضع اتّفاق .
معلوميّة المنفعة :
32 - تتعيّن المنفعة ببيان المحلّ . وقد تتعيّن بنفسها كما إذا استأجر رجلاً لخياطة ثوبه وبيّن له جنس الخياطة . وقد تعلم بالتّعيين والإشارة ، كمن استأجر رجلاً لينقل له هذا الطّعام إلى موضع معلوم .
33 - وقد أدّى اشتراط بيان محلّ المنفعة إلى تقسيم الإجارة إلى إجارة أعيان تستوفى المنفعة من عين معيّنة بذاتها بحيث إذا هلكت انفسخت الإجارة كاستئجار الدّور للسّكنى ، وإلى إجارة موصوفة في الذّمّة تستوفى المنفعة ممّا يحدّد بالوصف ، فإذا هلكت بعد التّعيين قدّم المؤجّر غيرها . وعند الحنابلة وفي رأي عند الشّافعيّة اشتراط رؤية العين المؤجّرة قبل الإجارة ، وإلاّ فللمستأجر خيار الرّؤية . غير أنّ الحنابلة يقصرون اشتراطه على بعض الإجارات ، كرؤية الصّبيّ في إجارة الظّئر ، وفي إجارة الأرض للزّراعة ، بينما الشّافعيّة يعمّمون ذلك .
34 - ويعتبر جمهور الفقهاء العرف في تعيين ما تقع عليه الإجارة من منفعة ، فكيفيّة الاستعمال تصرف إلى العرف والعادة . والتّفاوت في هذا يسير لا يفضي إلى المنازعة . وللشّافعيّة في استحقاق الأجر بعد استيفاء المنفعة أربعة أوجه : الأوّل : أنّه تلزمه الأجرة وهو قول المزنيّ ، لأنّه استهلك عمله فلزمه أجرته . والثّاني : أنّه إن قال له : خطه ، لزمه . وإن بدأ الرّجل ، فقال : أعطني لأخيطه ، لم تلزمه . وهو قول أبي إسحاق ، لأنّه إذا أمره فقد ألزمه بالأمر . والعمل لا يلزم من غير أجرة لزمته ، وإذا لم يأمره لم يوجد ما يوجب الأجرة ، فلم تلزم . والثّالث : أنّه إذا كان الصّانع معروفاً بأخذ الأجرة على الخياطة لزمه ، وإذا لم يكن معروفاً بذلك لم يلزمه ، وهو قول أبي العبّاس ، لأنّه إذا كان معروفاً بأخذ الأجرة صار العرف في حقّه كالشّرط . والرّابع : وهو المذهب ، أنّه لا يلزمه بحال ، لأنّه بذل ماله من غير عوض فلم يجب له العوض ، كما لو بذل طعامه لمن أكله . ومن هنا يتبيّن أنّ أبا العبّاس من الشّافعيّة مع الجمهور في تحكيم العرف .
35 - وتتعيّن المنفعة أيضاً ببيان المدّة ، إذا كانت المنفعة معروفةً بذاتها ، كاستئجار الدّور للسّكنى . فإنّ المدّة إذا كانت معلومةً كان قدر المنفعة معلوماً ، والتّفاوت بكثرة السّكّان يسير ، كما يرى الحنفيّة . ويرى الصّاحبان أنّ كلّ ما كان أجرةً يجب بالتّسليم ، ولا يعلم وقت التّسليم ، فهو باطل ، ويرى الإمام جوازه . وهذا الشّرط غير مطّرد ، فلا بدّ منه في بعض الإجارات ، كالعبد للخدمة ، والقدر للطّبخ ، والثّوب للّبس . وفي البعض لا يشترط . والحنابلة وضعوا ضابطاً واضحاً ، فهم يشترطون أن تكون المدّة معلومةً في إجارة العين لمدّة ، كالدّار والأرض والآدميّ للخدمة أو للرّعي أو للنّسج أو للخياطة ، لأنّ المدّة هي الضّابط للمعقود عليه ، ويعرف بها . وقيل فيها : إنّه يشترط أن يغلب على الظّنّ بقاء العين فيها وإن طالت المدّة . وأمّا إجارة العين لعمل معلوم ، كإجارة دابّة موصوفة في الذّمّة للرّكوب عليها إلى موضع معيّن ، فإنّه لا اعتبار للمدّة فيها . ويوافقهم الشّافعيّة في ذلك عموماً . ويقرب من هذا المالكيّة ، إذ قالوا : يتحدّد أكثر المدّة في بعض الإجارات ، كإجارة الدّابّة لسنة ، والعامل لخمسة عشر عاماً ، والدّار حسب حالتها ، والأرض لثلاثين عاماً . أمّا الأعمال في الأعيان ، كالخياطة ونحوها ، فلا يجوز تعيين الزّمان فيها .
36 - كما تتعيّن المنفعة بتعيين العمل في الأجير المشترك ، وذلك في استئجار الصّنّاع في الإجارة المشتركة ، لأنّ جهالة العمل في الاستئجار على الأعمال جهالة مفضية إلى المنازعة ، فلو استأجر صانعاً ، ولم يسمّ له العمل ، من الخياطة أو الرّعي أو نحو ذلك ، لم يجز العقد ، وإنّما لا بدّ من بيان جنس العمل ونوعه وقدره وصفته . أمّا في الأجير الخاصّ فإنّه يكفي في إجارته بيان المدّة . يقول الشّيرازيّ : إن كانت المنفعة معلومة القدر بنفسها ، كخياطة ثوب ، قدّرت بالعمل ، لأنّها معلومة في نفسها فلا تقدّر بغيرها . . . وإن استأجر رجلاً لبناء حائط لم يصحّ العقد حتّى يذكر الطّول والعرض وما يبنى به .
37 - وتتعيّن المنفعة ببيان العمل والمدّة معاً : كأن يقول شخص لآخر : استأجرتك لتخيط لي هذا الثّوب اليوم . فقد عيّن المنفعة بالعمل ، وهو خياطة الثّوب ، كما عيّنه بالمدّة ، وهو كلمة : اليوم . وللفقهاء في هذا الجمع بين التّعيين بالعمل والمدّة اتّجاهان : اتّجاه يرى أنّ هذا لا يجوز ، ويفسد به العقد إذ ، العقد على المدّة يقتضي وجوب الأجر من غير عمل إذ يعتبر أجيراً خاصّاً ، وببيان العمل يصير أجيراً مشتركاً ، ويرتبط الأجر بالعمل . وهذا هو رأي أبي حنيفة والشّافعيّة ورواية عند الحنابلة . والاتّجاه الثّاني جواز الجمع ، لأنّ المقصود في العقد هو العمل ، وذكر المدّة إنّما جاء للتّعجيل . وهو قول صاحبي أبي حنيفة والمالكيّة ورواية عند الحنابلة . وسيأتي بيان هذا عند الكلام عن الأجير الخاصّ والأجير المشترك .
38 - ويشترط في المنفعة للزوم العقد ، ألاّ يطرأ عذر يمنع الانتقاع بها ، كما يرى الحنفيّة على ما ذكرنا عندهم ، لأنّ الإجارة وإن كان الأصل فيها أنّها عقد لازم اتّفاقاً ، ولا يجوز فسخها بالإرادة المنفردة ، إلاّ أنّهم قالوا : إنّها شرعت للانتفاع ، فاستمرارها مقيّد ببقاء المنفعة ، فإذا تعذّر الانتفاع كان العقد غير لازم . وقد نصّ المالكيّة أيضاً على أنّ الإجارة تفسخ بتعذّر ما يستوفى فيه المنفعة ، وإن لم تعيّن حال العقد ، كدار وحانوت وحمّام وسفينة ونحوها . وكذا في الدّابّة إن عيّنت . وقالوا : إنّ التّعذّر أعمّ من التّلف . ويتّجه الشّافعيّة في قول عندهم إلى اعتبار العذر مقتضياً الفسخ ، إذ قالوا بانفساخ العقد بتعذّر استيفاء المعقود عليه ، كمن استأجر رجلاً ليقلع له ضرساً ، فسكن الوجع على ما سيأتي عند الكلام عن انقضاء الإجارة بالفسخ .
إجارة المشاع :
39 - إذا كانت العين المتعاقد على منفعتها مشاعاً ، وأراد أحد الشّريكين إجارة منفعة حصّته ، فإجارتها للشّريك جائزة بالاتّفاق . أمّا إجارتها لغير الشّريك فإنّ الجمهور ( الصّاحبين من الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة وفي قول لأحمد ) يجيزونها أيضاً ؛ لأنّ الإجارة أحد نوعي البيع ، فتجوز إجارة المشاع كما يجوز بيعه ، والمشاع مقدور الانتفاع بالمهايأة ، ولهذا جاز بيعه . جاء في المغني : واختار أبو حفص العكبريّ جواز إجارة المشاع لغير الشّريك . وقد أومأ إليه أحمد ، لأنّه عقد في ملكه ، يجوز مع شريكه ، فجاز مع غيره كالبيع ، ولأنّه يجوز إذا فعله الشّريكان معاً فجاز لأحدهما فعله في نصيبه مفرداً كالبيع . وعند أبي حنيفة وزفر وهو وجه في مذهب أحمد لا تجوز لأنّ استيفاء المنفعة في الجزء الشّائع لا يتصوّر إلاّ بتسليم الباقي ، وذلك غير متعاقد عليه ، فلا يتصوّر تسليمه شرعاً . والاستيفاء بالمهايأة لا يمكن على الوجه الّذي يقتضيه العقد ، إذ التّهايؤ بالزّمن انتفاع بالكلّ بعض المدّة ، والتّهايؤ بالمكان انتفاع يكون بطريق البدل عمّا في يد صاحبه ، وهذا ليس مقتضى العقد . .
المطلب الثّاني
الأجرة 40 - الأجرة هي ما يلتزم به المستأجر عوضاً عن المنفعة الّتي يتملّكها . وكلّ ما يصلح أن يكون ثمناً في البيع يصلح أن يكون أجرةً في الإجارة ، وقال الجمهور : إنّه يشترط في الأجرة ما يشترط في الثّمن . ويجب العلم بالأجر لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من استأجر أجيراً فليعلمه أجره » ، وإن كان الأجر ممّا يثبت ديناً في الذّمّة كالدّراهم والدّنانير والمكيلات والموزونات والمعدودات المتقاربة فلا بدّ من بيان جنسه ونوعه وصفته وقدره . ولو كان في الأجر جهالةً مفضيةً للنّزاع فسد العقد ، فإن استوفيت المنفعة وجب أجر المثل ، وهو ما يقدّره أهل الخبرة . 41 - وجوّز الجمهور أن تكون الأجرة منفعةً من جنس المعقود عليه . يقول الشّيرازيّ : ويجوز إجارة المنافع من جنسها ومن غير جنسها ، لأنّ المنافع في الإجارة كالأعيان في البيع . ثمّ الأعيان يجوز بيع بعضها ببعض فكذلك المنافع . ويقول ابن رشد : أجاز مالك إجارة دار بسكنى دار أخرى . ويقول البهوتيّ ما خلاصته : يجوز إجارة دار بسكنى دار أخرى أو بتزويج امرأة ، لقصّة شعيب عليه السلام ، لأنّه جعل النّكاح عوض الأجرة . ومنع ذلك الحنفيّة ، إلاّ أن تكون الأجرة منفعةً من جنس آخر ، كإجارة السّكنى بالخدمة . 42 - ومن الفقهاء من لا يجيز أن تكون الأجرة بعض المعمول ، أو بعض النّاتج من العمل المتعاقد عليه ، لما فيه من غرر ، لأنّه إذا هلك ما يجري فيه العمل ضاع على الأجير أجره ، وقد « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطّحّان » ، ولأنّ المستأجر يكون عاجزاً عن تسليم الأجرة ، ولا يعدّ قادراً بقدرة غيره . وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة . ومثاله : سلخ الشّاة بجلدها ، وطحن الحنطة ببعض المطحون منها ، لجهالة مقدار الأجر ، لأنّه لا يستحقّ جلدها إلاّ بعد السّلخ ، ولا يدري هل يخرج سليماً أو مقطّعاً . وذهب الحنابلة إلى جواز ذلك إذا كانت الأجرة جزءاً شائعاً ممّا عمل فيه الأجير ، تشبيهاً بالمضاربة والمساقاة ، فيجوز دفع الدّابّة إلى من يعمل عليها بنصف ربحها ، والزّرع أو النّخل إلى من يعمل فيه بسدس ما يخرج منه ، لأنّه إذا شاهده علمه بالرّؤية وهي أعلى طرق العلم . والمالكيّة في بعض الصّور الّتي يمكن فيها علم الأجر بالتّقدير يتّجهون وجهة الحنابلة ، فيقولون : إن قال : احتطبه ولك النّصف ، أو : احصده ولك النّصف ، فيجوز إن علم ما يحتطبه بعادة . ومثل ذلك في جذّ النّخل ولقط الزّيتون وجزّ الصّوف ونحوه . وعلّة الجواز العلم . ولو قال : احتطب ، أو : احصد ، ولك نصف ما احتطبت أو حصدت ، فذلك جائز على أنّه من قبيل الجعالة . وهي يتسامح فيها ما لا يتسامح في الإجارة . وقد أورد الزّيلعيّ الحنفيّ صورةً من هذا القبيل ، وهي أن يدفع إلى الحائك غزلاً ينسجه بالنّصف . وقال : إنّ مشايخ بلخ جوّزوه لحاجة النّاس ، لكن قال في الفتاوى الهنديّة : الصّحيح خلافه .
أثر الإخلال بشرط من الشّروط الشّرعيّة :
43 - إذا اختلّ شرط من شروط الانعقاد بطلت الإجارة ، وإن وجدت صورتها ، لأنّ ما لا ينعقد فوجوده في حقّ الحكم وعدمه بمنزلة واحدة . ولا يوجب فيه الحنفيّة الأجر المسمّى ، ولا أجر المثل الّذي يقضون به إذا ما اختلّ شرط من شروط الصّحّة الّتي لا ترجع لأصل العقد والّتي يعتبرون العقد مع الإخلال بشيء منها فاسداً ، لأنّهم يفرّقون بين البطلان والفساد ، إذ يرون أنّ العقد الباطل ما لم يشرع بأصله ولا بوصفه . أمّا الفاسد فهو عندهم ما شرع بأصله دون وصفه . ولذا كان للعقد وجود معتبر من ناحيته ، فجهالة المأجور ، أو الأجرة ، أو مدّة العمل ، أو اشتراط ما لا يقتضيه عقد الإجارة من شروط ، كلّ ذلك يجب فيه أجر المثل عندهم باستيفاء المنفعة ، بشرط ألاّ يزيد أجر المثل عن المسمّى عند الإمام وصاحبيه . أمّا من غير استيفاء شيء من المنفعة فلا شيء له عند الحنفيّة وفي رواية عن أحمد . 44 - وجمهور الفقهاء لا يفرّقون بين العقد الباطل والعقد الفاسد في هذا ، ويرون العقد غير صحيح بفوات ما شرط الشّارع ، لكونه منهيّاً عنه . والنّهي يقتضي عدم وجود العقد شرعاً ، سواء أكان النّهي لخلل في أصل العقد ، أو لوصف ملازم له ، أو طارئ عليه . والنّهي في الجميع ينتج عدم ترتّب الأثر عليه ، ويكون انتفاع المستأجر غير مشروع ، ولا يلزمه الأجر المسمّى ، وإنّما يلزمه أجر المثل بالغاً ما بلغ إذا قبض المعقود عليه ، أو استوفى المنفعة ، أو مضى زمن يمكن فيه الاستيفاء ، لأنّ الإجارة كالبيع ، والمنفعة كالعين ، والبيع الفاسد كالصّحيح في استقرار البدل ، فكذلك في الإجارة ، هذا عند الشّافعيّ . ومثله مذهب مالك وأحمد فيما إذا كان قد استوفى المنفعة أو شيئاً منها . وأمّا إذا كان قد قبض المعقود عليه ، ومضى زمان يمكن فيه الاستيفاء ، فعن أحمد رواية بلزوم أجر المثل ، لأنّه عقد فاسد على منافع لم يستوفها ، فلم يلزمه عوضها . .
الفصل الثّالث أحكام الإجارة الأصليّة والتّبعيّة المطلب الأوّل أحكام الإجارة الأصليّة 45 - إذا كانت الإجارة صحيحةً ترتّب عليها حكمها الأصليّ ، وهو ثبوت الملك في المنفعة للمستأجر ، وفي الأجرة المسمّاة للمؤجّر . وهناك أحكام تبعيّة ، وهي التزام المؤجّر بتسليم العين للمستأجر ، وتمكينه من الانتفاع بها ، والتزام المستأجر بالمحافظة عليها . وإذا كانت الإجارة على عمل ، والأجير مشترك ، فإنّ الأجير يلتزم بالقيام بالعمل مع المحافظة على العين ، وتسليمها بعد الانتهاء من العمل . وإن كان الأجير خاصّاً كان الأصل المدّة ، وكان العمل تبعاً ، وإن كانت الإجارة على العمل فقط ، كالمعلّم والظّئر ، كان الالتزام منصبّاً على العمل أو على المدّة ، حسبما كانت إجارةً مشتركةً أو خاصّةً . وسيأتي بيان ذلك .
تملّك المنفعة ، وتملّك الأجرة ، ووقته :
46 - يتّجه الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الأجرة لا تستحقّ بنفس العقد ، وإنّما تستحقّ باشتراط التّعجيل أو استيفاء المعقود عليه . وزاد الحنفيّة : التّعجيل بالفعل . يقول الكاسانيّ ما حاصله : إنّ الأجرة لا تملك إلاّ بأحد معان ثلاثة : أحدها : شرط التّعجيل في نفس العقد لقوله صلى الله عليه وسلم : « المسلمون عند شروطهم » . . . والثّاني : التّعجيل من غير شرط ، قياساً على البيع في جواز تعجيل الثّمن قبل تسليم المبيع ، لأنّ الإجارة بيع كما تقدّم . الثّالث : استيفاء المعقود عليه ، لأنّه لمّا ملك المعوّض فيملك المؤجّر العوض في مقابلته ، تحقيقاً للمعاوضة المطلقة ، وتسويةً بين العاقدين . 47 - والقاعدة عند المالكيّة التّأجيل ، خلافاً للبيع ، فالأصل فيه التّعجيل ، إلاّ في أربعة مسائل يجب فيها تعجيل الأجرة ، وهي : إن شرط ذلك ، أو جرت به العادة كما في كراء الدّور والدّوابّ للسّفر إلى الحجّ ، أو إذا عيّن الأجر ، كأن يكون ثوباً معيّناً ، فإنّه يجب التّعجيل ، فإن لم يشترط التّعجيل في هذه الحالة فسدت الإجارة . ويجب التّعجيل أيضاً إذا كان الأجر لم يعيّن والمنافع مضمونةً في ذمّة المؤجّر . فإن شرع فيها فلا بأس ، وإن لم يشرع لأكثر من ثلاثة أيّام فلا يجوز إلاّ إذا عجّل جميع الأجر ، وإلاّ أدّى إلى ابتداء الدّين بالدّين . وقيل : لا بدّ من تعجيل جميع الأجرة ولو شرع ، لأنّ قبض الأوائل ليس قبضاً للأواخر . على أنّه يستثنى من وجوب تعجيل جميع الأجرة ( فيما إذا لم يشرع في استعمال المأجور ) - على القول المعتمد - صورة يتعسّر فيها الشّروع وهي : ما إذا كان محلّ الإجابة دابّةً للسّفر ونحوها ، وكانت مسافة السّفر بعيدةً ، والسّفر في غير وقت سفر النّاس عادةً ، وكانت الأجرة كثيرةً ، فلا يشترط تعجيل جميعها بل يكتفى بتعجيل اليسير من الأجرة الكثيرة ، فإن كانت يسيرةً وجب تعجيل جميعها . وهذا في غير الصّانع والأجير ، فليس لهما أجرة إلاّ بعد التّمام عند الاختلاف ، وأمّا عند التّراضي فيجوز تعجيل الجميع وتأخيره . كما قالوا : تفسد الإجارة إن وقعت بأجر معيّن ، وانتفى عرف تعجيل المعيّن ، لأنّ فيه بيعاً معيّناً يتأخّر قبضه ، وليس لأنّه دين بدين . وتفسد في هذه الحالة ، ولو عجّل الأجر بالفعل بعد العقد ، إذ لا تصحّ إلاّ إذا شرط تعجيله وعجّل . وقالوا : إذا أراد الصّنّاع والأجراء تعجيل الأجرة قبل الفراغ ، وامتنع ربّ العمل ، حملوا على المتعارف بين النّاس ، فإن لم يكن لهم سنّة لم يقض لهم بشيء إلاّ بعد الفراغ . وأمّا في الأكرية في دار أو راحلة أو في الإجارة على بيع السّلع كالسّمسرة ، أو نحوها ، فبقدر ما مضى ، فإذا لم يكن الأجر معيّناً ، ولم يشرط تعجيله ، ولم تجر العادة بتعجيله ، ولم تكن المنافع مضمونةً ، فلا يجب تعجيل الأجر . وإذا لم يجب التّعجيل كان مياومةً ، أي كلّما استوفى منفعة يوم ، أو تمكّن من استيفائها ، لزمته أجرته ، أو بعد تمام العمل . 48 - ويتّجه الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ العقد إذا أطلق وجبت الأجرة بنفس العقد . ويجب تسليمها بتسليم العين والتّمكين من الانتفاع وإن لم ينتفع فعلاً ، لأنّه عوض أطلق ذكره في عقد المعاوضة فيستحقّ بمطلق العقد كالثّمن والمهر . فإذا استوفى المنفعة استقرّت الأجرة . وإن كانت الإجارة على عمل فإنّ الأجر يملك بالعقد أيضاً ، ويثبت ديناً في ذمّة المستأجر بمجرّد العقد ، لكن لا يستحقّ تسليمه إلاّ عند تسليمه العمل أو إيفائه أو يمضي المدّة إن كان الأجير خاصّاً . وإنّما توقّف استحقاقه على تسليم العمل لأنّه عوض . وفارق الإجارة على الأعيان ، لأنّ تسليمها أجري مجرى تسليم نفعها . وإذا استوفى المستأجر المنافع ، أو مضت المدّة ، ولا حاجز له عن الانتفاع ، استقرّ الأجر ، لأنّه قبض المعقود عليه ، فاستقرّ البدل ، أو لأنّ المنافع تلفت باختياره . وإذا تمّت الإجارة ، وكانت على مدّة ، ملك المستأجر المنافع المعقود عليها إلى تلك المدّة ، ويكون حدوثها على ملكه ، لأنّه صار مالكاً للتّصرّف فيها ، وهي مقدّرة الوجود .
إيجار المستأجر العين لآخر :
49 - جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والأصحّ عند الحنابلة ) على جواز إيجار المستأجر إلى غير المؤجّر الشّيء الّذي استأجره وقبضه في مدّة العقد ، ما دامت العين لا تتأثّر باختلاف المستعمل ، وقد أجازه كثير من فقهاء السّلف ، سواء أكان بمثل الأجرة أم بزيادة . وذهب القاضي من الحنابلة إلى منع ذلك مطلقاً لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « نهى عن ربح ما لم يضمن » والمنافع لم تدخل في ضمانه ، فلم يجز . والأوّل أصحّ لأنّ قبض العين قام مقام قبض المنافع .
إيجار المستأجر لغير المؤجّر بزيادة
49 م - ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى جواز ذلك مطلقاً ، أي سواء أكانت الأجرة الثّانية مساويةً أم زائدةً أم ناقصةً ، لأنّ الإجارة بيع كما تقدّم ، فله أن يبيعها بمثل الثّمن ، أو بزيادة أو بنقص كالبيع ، ووافقهم أحمد في أصحّ الأقوال عنده . وذهب الحنفيّة إلى جواز الإجارة الثّانية إن لم تكن الأجرة فيها من جنس الأجرة الأولى ، للمعنى السّابق ، أمّا إن اتّحد جنس الأجرتين فإنّ الزّيادة لا تطيب للمستأجر . وعليه أن يتصدّق ، وصحّت الإجارة الثّانية لأنّ الفضل فيه شبهة . أمّا إن أحدث زيادةً في العين المستأجرة فتطيب الزّيادة لأنّها في مقالة الزّيادة المستحدثة . وذهب الحنابلة في قول ثان لهم إلى أنّه إن أحدث المستأجر الأوّل زيادةً في العين جاز له الزّيادة في الأجر دون اشتراط اتّحاد جنس الأجر أو اختلافه ، وسواء أذن له المؤجّر أو لم يأذن . وللإمام أحمد قول ثالث أنّه إن أذن المؤجّر بالزّيادة جاز ، وإلاّ فلا . فجمهور الفقهاء يجيزونه بعد القبض على التّفصيل السّابق . 50 - أمّا قبل القبض فيجوز عند المالكيّة مطلقاً عقاراً كان أو منقولاً ، بمساو أو بزيادة أو بنقصان ، وهو غير المشهور عند الشّافعيّة وأحد الوجهين عند الحنابلة ، لأنّ المعقود عليه هو المنافع ، وهي لا تصير مقبوضةً بقبض العين فلا يؤثّر فيها القبض . وفي المشهور عند الشّافعيّة ووجه آخر عند الحنابلة : لا يجوز ، كما لا يجوز بيع المبيع قبل قبضه . وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى جواز ذلك في العقار دون المنقول . وذهب محمّد إلى عدم الجواز مطلقاً . وهذا الخلاف مبنيّ على اختلافهم في جواز بيع العقار قبل قبضه . وقيل إنّه لا خلاف بينهم في عدم جواز ذلك في الإجارة . 51 - وأمّا إجارة العين المستأجرة للمؤجّر فالمالكيّة والشّافعيّة يجيزونها مطلقاً ، عقاراً أو منقولاً ، قبل القبض أو بعده ، وهو أحد وجهين للحنابلة . والوجه الثّاني لهم أنّه لا يجوز قبل القبض ، بناءً على عدم جواز بيع ما لم يقبض . ومنع الحنفيّة إيجارها للمؤجّر مطلقاً ، عقاراً كان أو منقولاً قبل القبض أو بعده ، ولو بعد مستأجر آخر . وهل إذا أجّرها ثان للمؤجّر الأوّل تبطل الإجارة الأولى ؟ رأيان : الصّحيح لا تبطل والثّاني تبطل ، وذلك لأنّ إيجارها للمؤجّر تناقض ، لأنّ المستأجر مطالب بالأجرة للمؤجّر ، فيصبح دائناً ومديناً من جهة واحدة ، وهذا تناقض .
المطلب الثّاني
الأحكام التّبعيّة الّتي يلتزم بها المؤجّر والمستأجر التزامات المؤجّر أ - ( تسليم العين المؤجّرة ) :
52 - يلتزم المؤجّر بتمكين المستأجر من الانتفاع بالمعقود عليه ، وذلك بتسليمه العين حتّى انتهاء المدّة أو قطع المسافة . ويشمل التّسليم توابع العين المؤجّرة الّتي لا يتحقّق الانتفاع المطلوب إلاّ بها حسب العرف . ويترتّب على أنّ التّسليم تمكين من الانتفاع أنّ ما يعرض أثناء المدّة ممّا يمنع الانتفاع بغير فعل المستأجر يكون على المؤجّر إصلاحه ، كعمارة الدّار وإزالة كلّ ما يخلّ بالسّكن ، مع ملاحظة ما سبق من اشتراط القدرة على التّسليم واشتراط بيان المنفعة وتحديدها . 53 - وفي إجارة العمل يكون الأجير هو المؤجّر لخدماته ، وقيام الأجير بالعمل هو التزامه بالتّسليم . فإن كان العمل يجري في عين تسلّم للأجير - وهو أجير مشترك - كان عليه تسليم المأجور فيه بعد قيامه بالعمل . وإن كان العمل لا يجري في عين تسلّم للأجير فإنّ مجرّد قيامه بالعمل المطلوب يعتبر تسليماً ، كالطّبيب أو السّمسار ، وإن كان الأجير خاصّاً كان تسليم نفسه للعمل في محلّ المستأجر تسليماً معتبراً . وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد .
ب - ( ضمان غصب العين ) . 54 - جمهور الفقهاء على أنّه إذا غصبت العين في إجارة الأعيان المعيّنة يثبت للمستأجر الخيار بين أن يفسخ العقد ، أو ينتظر مدّةً يسيرةً ليس لمثلها أجر ، ريثما تنتزع من الغاصب . وفي إجارة ما في الذّمّة ليس للمستأجر الفسخ . وعلى المؤجّر الإبدال ، وليس للمستأجر مخاصمة الغاصب في العين . وقال الشّافعيّة والحنابلة : إن تعذّر بدلها على المؤجّر فللمستأجر الفسخ . وتنفسخ بمضيّ المدّة إن كانت على مدّة ، وإن كانت على عين معيّنة لعمل ، كذا إلى جهة ، كان له الفسخ . وإن كانت على عين معيّنة لمدّة ، خيّر بين الفسخ وبين إبقاء العقد ومطالبة الغاصب بأجرة المثل . فإن فسخ فعليه أجرة ما مضى . وإن كان الغاصب هو المؤجّر فلا أجرة له . ويرى قاضي خان من الحنفيّة أنّه لا تنفسخ الإجارة بغصب العين ، ولو غصبت بعض المدّة فبحسابه . واتّجه صاحب الهداية إلى أنّها تنفسخ بالغصب . أمّا الأجرة فتسقط ، لأنّ تسليم المحلّ إنّما أقيم مقام تسليم المنفعة للتّمكّن من الانتفاع ، فإذا فات التّمكّن بالغصب فات التّسليم . ولذا فإنّ المنفعة لو لم تفت بالغصب ، كغصب الأرض المقرّرة للغرس مع الغرس ، لا تسقط الأجرة .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ج - ( ضمان العيوب ) :
55 - يثبت خيار العيب في الإجارة ، كالبيع . والعيب الموجب للخيار فيها هو ما يكون سبباً لنقص المنافع الّتي هي محلّ العقد ولو بفوات وصف في إجارة الذّمّة ، ولو حدث العيب قبل استيفاء المنفعة وبعد العقد . ويكون المستأجر بالخيار بين فسخ العقد وبين استيفاء المنفعة مع الالتزام بتمام الأجر ، على ما سيأتي في موضعه عند الكلام عن الفسخ للعيب .
التزامات المستأجر : أ - دفع الأجرة ( وحقّ المؤجّر في حبس المعقود عليه ) :
56 - الأجرة تلزم المستأجر على ما سبق . فإن كانت معجّلةً حقّ للمؤجّر حبس ما وقع عليه العقد حتّى يستوفي الأجرة عند الحنفيّة والمالكيّة وفي قول للشّافعيّة ، لأنّ عمله ملكه ، فجاز له حبسه ، لأنّ المنافع في الإجارة كالمبيع في البيع . ولا يحقّ له ذلك في القول الآخر عند الشّافعيّة ، وهو مذهب الحنابلة ، لأنّه لم يرهن العين عنده . ولكلّ صانع ، لعمله أثر في العين ، كالقصّار والصّبّاغ ، أن يحبس العين لاستيفاء الأجر عند من أجاز له الحبس . وكلّ صانع ، ليس لعمله أثر في العين كالحمّال ، فليس له أن يحبسها عندهم ، لأنّ المعقود عليه نفس العمل ، وهو غير قائم في العين ، فلا يتصوّر حبسه ، خلافاً للمالكيّة حيث أثبتوا له حقّ الحبس .
ب - استعمال العين حسب الشّرط أو العرف والمحافظة عليها :
57 - يتّفق الفقهاء على أنّ المستأجر يلزمه أن يتّبع في استعمال العين ما أعدّت له ، مع التّقيّد بما شرط في العقد ، أو بما هو متعارف ، إذا لم يوجد شرط ، وله أن يستوفي المنفعة المعقود عليها ، أو ما دونها من ناحية استهلاك العين والانتفاع بها . وليس له أن ينتفع منها بأكثر ممّا هو متّفق عليه . فإذا استأجر الدّار ليتّخذها سكناً فلا يحقّ له أن يتّخذها مدرسةً أو مصنعاً ، وإن استأجر الدّابّة لركوبه الخاصّ فليس له أن يتّخذها لغير ذلك ، ( على التّفصيل الّذي سيأتي في موضعه عند الكلام عن إجارة الأرض والدّور والدّوابّ ) . وعلى المستأجر إصلاح ما تلف من العين بسبب استعماله . ولا خلاف في أنّ العين المستأجرة أمانة في يد المستأجر ، فلو هلكت دون اعتداء منه أو مخالفة المأذون فيه ، إلى ما هو أشدّ ، أو دون تقصير في الصّيانة والحفظ ، فلا ضمان عليه ، لأنّ قبض الإجارة قبض مأذون فيه ، فلا يكون مضموناً . وسيأتي تفصيل هذا في موضعه .
ج - رفع المستأجر يده عن العين عند انتهاء الإجارة :
58 - بمجرّد انقضاء الإجارة يلزم المستأجر رفع يده عن العين المستأجرة ليستردّها المؤجّر ، فهو الّذي عليه طلب استردادها عند انقضاء الإجارة . وإن استأجر دابّةً ليصل بها إلى مكان معيّن لزم المؤجّر استلامها من هذا المكان ، إلاّ إذا كان الإجارة للذّهاب والعودة . ومن الشّافعيّة من قال : يلزم المستأجر ردّ العين بعد انقضاء الإجارة ، ولو لم يطلبها المؤجّر ، لأنّ المستأجر غير مأذون في إمساكها بعد انقضاء العقد ، فلزمه الرّدّ كالعاريّة . وتفصيل ذلك سيرد في موضعه عند الكلام على أنواع الإجارة .
الفصل الرّابع انقضاء الإجارة :
59 - اتّفق الفقهاء على أنّ الإجارة تنتهي بانتهاء المدّة ، أو بهلاك المعقود عليه المعيّن ، أو بالإقالة . وذهب الحنفيّة إلى أنّها تنقضي أيضاً بموت أحد المتعاقدين ، أو طروء عذر يمنع من الانتفاع بالعين المستأجرة ، وذلك بناءً على أنّهم يرون أنّ الأصل في الأجرة أنّها تتجدّد بتجدّد المنفعة . وذهبت غير الحنفيّة إلى عدم انقضاء الإجارة بهذه الأمور بناءً على أنّهم يرون أنّ الأجرة تثبت بالعقد ، كالثّمن يثبت بنفس البيع . وتفصيل ذلك فيما يلي : أوّلاً - انقضاء المدّة :
60 - إذا كانت الإجارة محدّدة المدّة ، وانتهت هذه المدّة ، فإنّ الإجارة تنتهي بلا خلاف . غير أنّه قد يوجد عذر يقتضي امتداد المدّة ، كأن تكون أرضاً زراعيّةً ، وفي الأرض زرع لم يستحصد ، أو كانت سفينةً في البحر ، أو طائرةً في الجوّ ، وانقضت المدّة قبل الوصول إلى الأرض . 61 - وإذا كانت الإجارة غير محدّدة المدّة ، كأن يؤجّر له الدّار مشاهرةً كلّ شهر بكذا دون بيان عدد الأشهر ، فإنّ لكلّ ذلك أحكاماً مفصّلةً سيأتي ذكرها .
ثانياً - انقضاء الإجارة بالإقالة :
62 - كما أنّ الإقالة جائزة في البيع ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من أقال نادماً بيعته أقال اللّه عثرته يوم القيامة » فهي كذلك جائزة في الإجارة ، لأنّ الإجارة بيع منافع .
ثالثاً - انقضاء الإجارة بهلاك المأجور :
63 - تفسخ الإجارة بسبب هلاك العين المستأجرة بحيث تفوت المنافع المقصودة منها كلّيّةً ، كالسّفينة إذا نقضت وصارت ألواحاً ، والدّار إذا انهدمت وصارت أنقاضاً ، وهذا القدر متّفق عليه . وأمّا إذا نقصت المنفعة ففي ذلك خلاف وتفصيل سيأتي في موضعه .
رابعاً : فسخ الإجارة للعذر :
64 - الحنفيّة ، كما سبق ، يرون جواز فسخ الإجارة لحدوث عذر بأحد العاقدين ، أو بالمستأجر ( بفتح الجيم ) ، ولا يبقى العقد لا زمّاً ، ويصحّ الفسخ ، إذ الحاجة تدعو إليه عند العذر ، لأنّه لو لزم العقد حينئذ للزم صاحب العذر ضرر لم يلتزمه بالعقد . فكان الفسخ في الحقيقة امتناعاً من التزام الضّرر ، وله ولاية ذلك . وقالوا : إنّ إنكار الفسخ عند تحقّق العذر خروج عن الشّرع والعقل ، لأنّه يقتضي أنّ من اشتكى ضرسه ، فاستأجر رجلاً ليقلعها ، فسكن الوجع ، يجبر على القلع . وهذا قبيح شرعاً وعقلاً . ويقرب منهم المالكيّة في أصل جواز الفسخ بالعذر ، لا فيما توسّع فيه الحنفيّة ، إذ قالوا : لو كان العذر بغصب العين المستأجرة ، أو منفعتها ، أو أمر ظالم لا تناله الأحكام بإغلاق الحوانيت المكتراة ، أو حمل ظئر - لأنّ لبن الحامل يضرّ الرّضيع - أو مرضها الّذي لا تقدر معه على رضاع ، حقّ للمستأجر الفسخ أو البقاء على الإجارة . 65 - وجمهور الفقهاء على ما أشرنا لا يرون فسخ الإجارة بالأعذار ، لأنّ الإجارة أحد نوعي البيع ، فيكون العقد لازماً ، إذ العقد انعقد باتّفاقهما ، فلا ينفسخ إلاّ باتّفاقهما . وقد نصّ الشّافعيّة على أنّه ليس لأحد العاقدين فسخ الإجارة بالأعذار ، سواء أكانت على عين أم كانت في الذّمّة ، ما دام العذر لا يوجب خللاً في المعقود عليه . فتعذّر وقود الحمّام ، أو تعذّر سفر المستأجر ، أو مرضه ، لا يخوّله الحقّ في فسخ العقد ، ولا حطّ شيء من الأجرة . وقال الأثرم من الحنابلة : قلت لأبي عبد اللّه : رجل اكترى بعيراً ، فلمّا قدم المدينة قال له : فاسخني . قال : ليس ذلك له . قلت : فإن مرض المستكري بالمدينة ، فلم يجعل له فسخاً ، وذلك لأنّه عقد لازم . وإن فسخه لم يسقط العوض . 66 - والعذر كما يرى الحنفيّة قد يكون من جانب المستأجر ، نحو أن يفلس فيقوم من السّوق ، أو يريد سفراً ، أو ينتقل من الحرفة إلى الزّراعة ، أو من الزّراعة إلى التّجارة أو ينتقل من حرفة إلى حرفة ، لأنّ المفلس لا ينتفع بالحانوت ، وفي إلزامه إضرار به ، وفي إبقاء العقد مع ضرورة خروجه للسّفر ضرر به . فلو استأجر شخص رجلاً ليقصر له ثياباً - أي يبيّضها - أو ليقطعها ، أو ليخيطها ، أو يهدم داراً له ، أو يقطع شجراً له ، أو ليقلع ضرساً . ثمّ بدا له ألاّ يفعل ، فله أن يفسخ الإجارة ، لأنّه استأجره لمصلحة يأملها ، فإذا بدا له أن لا مصلحة له فيه صار الفعل ضرراً في نفسه ، فكان الامتناع من الضّرر بالفسخ . 67 - وقد يكون العذر من جانب المؤجّر نحو أن يلحقه دين فادح لا يجد قضاءه إلاّ من ثمن المستأجر - بفتح الجيم - من الإبل والعقار ونحو ذلك . فيحقّ له فسخ الإجارة إذا كان الدّين ثابتاً قبل عقد الإجارة . أمّا إذا كان ثابتاً بعد الإجارة بالإقرار فلا يحقّ له الفسخ به عند الصّاحبين ، لأنّه متّهم في هذا الإقرار ، ويحقّ له عند الإمام ، لأنّ الإنسان لا يقرّ بالدّين على نفسه كاذباً ، وبقاء الإجارة مع لحوق الدّين الفادح العاجل إضرار بالمؤجّر لأنّه يحبس به إلى أن يظهر حاله . ولا يجوز الجبر على تحمّل ضرر غير مستحقّ بالعقد . وقالوا في امرأة آجرت نفسها ظئراً ، وهي تعاب بذلك : لأهلها الفسخ ، لأنّهم يعيّرون بذلك . ومن هذا القبيل إذا ما مرضت الظّئر ، وكانت تتضرّر بالإرضاع في المرض ، فإنّه يحقّ لها أن تفسخ العقد . 68 - ومن صور العذر المقتضي للفسخ عند من يرى الفسخ بالعذر من جانب المستأجر " بفتح الجيم " الصّبيّ إذا آجره وليّه ، فبلغ في مدّة الإجارة ، فهو عذر يخوّل له فسخ العقد ، لأنّ في إبقاء العقد بعد البلوغ ضرراً به . ومن هذا ما قالوا في إجارة الوقف عند غلاء أجر المثل ، فإنّهم قالوا : إنّه عذر يفسخ به متولّي الوقف الإجارة ، ويجدّد العقد في المستقبل على سعر الغلاء ، وفيما مضى يجب المسمّى بقدره . أمّا إذا رخص أجر المثل فلا يفسخ ، مراعاةً لمصلحة الوقف . 69 - وعند وجود أيّ عذر من هذا فإنّ الإجارة يصحّ فسخها إذا أمكن الفسخ . فأمّا إذا لم يمكن الفسخ ، بأن كان في الأرض زرع لم يستحصد ، لا تفسخ . لأنّ في القلع ضرراً بالمستأجر . وتترك إلى أن يستحصد الزّرع بأجر المثل . توقّف الفسخ على القضاء :
70 - إذا وجد بعض هذه الأعذار ، وكان الفسخ ممكناً ، فإنّ الإجارة تكون قابلةً للفسخ ، كما يرى بعض مشايخ الحنفيّة . وقيل : إنّها تنفسخ تلقائيّاً بنفسها . ويقول الكاسانيّ : الصّواب أنّه ينظر إلى العذر ، فإن كان يوجب الامتناع عن المضيّ فيه شرعاً ، كما في الإجارة على خلع الضّرس ، وقطع اليد المتأكّلة إذا سكن الألم وبرأت من المرض ، فإنّها تنتقض بنفسها . وإن كان العذر لا يوجب العجز عن ذلك ، لكنّه يتضمّن نوع ضرر لم يوجبه العقد ، لا ينفسخ إلاّ بالفسخ . وهو حقّ للعاقد ، إذ المنافع في الإجارة لا تملك جملةً واحدةً ، بل شيئاً فشيئاً ، فكان اعتراض العذر فيها بمنزلة عيب حدث قبل القبض . وهذا يوجب للعاقد حقّ الفسخ دون توقّف على قضاء أو رضاء . وقيل : إنّ الفسخ يتوقّف على التّراضي أو القضاء ، لأنّ هذا الخيار ثبت بعد تمام العقد ، فأشبه الرّدّ بالعيب بعد القبض . وقيل : إن كان العذر ظاهراً فلا حاجة إلى القضاء ، وإن كان خفيّاً كالدّين اشترط القضاء . وهو ما استحسنه الكاسانيّ وغيره . وعند الاختلاف بين المتعاقدين فإنّ الإجارة تفسخ بالقضاء . 71 - وإن طلب المستأجر الفسخ قبل الانتفاع فإنّ القاضي يفسخ ، ولا شيء على المستأجر . وإن كان قد انتفع بها فللمؤجّر ما سمّى من الأجر استحساناً لأنّ المعقود عليه تعيّن بالانتفاع . ولا يكون للفسخ أثر رجعيّ .
خامساً - انفساخ الإجارة بالموت :
72 - سبق ذكر أنّ الحنفيّة يرون أنّ الإجارة تنقضي بموت أحد العاقدين اللّذين يعقدان لنفسيهما ، كما تنقضي بموت أحد المستأجرين أو أحد المؤجّرين في حصّته فقط . وقال زفر : تبطل في نصيب الحيّ أيضاً ، لأنّ الشّيوع مانع من صحّة الإجارة ابتداءً ، فأعطاه حكمه . ورجّح الزّيلعيّ الرّأي الأوّل ، وقال : لأنّ الشّروط يراعى وجودها في الابتداء دون البقاء . وعلّل لانفساخ الإجارة بالموت ، فقال : لأنّ العقد ينعقد ساعةً فساعةً بحسب حدوث المنافع ، فإذا مات المؤجّر فالمنافع الّتي تستحقّ بالعقد هي الّتي تحدث على ملكه ، فلم يكن هو عاقداً ولا راضياً بها . وإن مات المستأجر فإنّ المنفعة لا تورث . ولا يظهر الانفساخ إلاّ بالطّلب ، فلو بقي المستأجر ساكناً بعد موت المؤجّر غرّمه الأجر لمضيّه في الإجارة ، ولا يظهر الانفساخ إلاّ إذا طالبه الوارث بالإخلاء . وإذا مات المؤجّر ، والدّابّة أو ما يشبهها في الطّريق . تبقى الإجارة حتّى يصل المستأجر إلى مأمنه . وإذا مات أحد العاقدين والزّرع في الأرض بقي العقد بالأجر المسمّى حتّى يدرك . وذهب بعض فقهاء التّابعين - الشّعبيّ والثّوريّ واللّيث - إلى ما ذهب إليه الحنفيّة من القول بانفساخ الإجارة بموت المؤجّر أو المستأجر ، لأنّ المؤجّر بطل ملكه بموته ، فيبطل عقده . كما أنّ ورثة المستأجر لا عقد لهم مع المؤجّر ، والمنافع المتجدّدة بعد موت مورّثهم لم تكن ضمن تركته . وفي قول عند الشّافعيّة أنّها تبطل بالموت في إجارة الوقف . وسبق القول إنّ الجمهور على أنّ الإجارة لا تنفسخ بموت أحد المتعاقدين ، لأنّها عقد لازم لا نقضي بهلاك أحدهما ما دام ما تستوفى به المنفعة باقياً . وقد كان رأي الصّحابة والتّابعين أنّ الإجارة لا تنفسخ بالموت . روى البخاريّ في كتاب الإجارة أنّ ابن سيرين قال فيمن استأجر أرضاً فمات المؤجّر : ليس لأهله أن يخرجوه إلى تمام الأجل . وقال بذلك الحسن وإياس بن معاوية . وقال ابن عمر « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر لأهلها ليعملوا فيها ويزرعوها ، ولهم شطر ما يخرج منها » ، فكان ذلك على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من خلافة عمر " ولم يذكر أنّ أبا بكر وعمر جدّدا الإجارة .
سادساً : أثر بيع العين المؤجّرة :
73 - ذهب الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة في الأظهر عندهم ، والمالكيّة إن كان هناك اتّهام ، إلى أنّه لا تفسخ الإجارة بالبيع . وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا لم تكن هناك تهمة ، والشّافعيّ في غير الأظهر ، إلى أنّ الإجارة تفسخ بالبيع . واستدلّ الجمهور بأنّ المعقود عليه في البيع هو العين ، والمعقود عليه في الإجارة هو المنافع ، فلا تعارض . والدّليل على الاتّجاه الثّاني أنّ الإجارة تمنع من التّسليم ، فتناقضا . وممّا ينبغي أن يعلم أنّ الحنفيّة يعتبرون الإجارة عيباً يثبت به للمشتري خيار العيب . وإن كان بيع العين المؤجّرة للمستأجر نفسه فالأصحّ عند الشّافعيّ والحنابلة ، وبالأولى عند غيرهم ، أنّه لا تنفسخ الإجارة . ولا أثر على عقد الإجارة من رهن العين المستأجرة أو هبتها اتّفاقاً . وكذلك الوقف عند الجمهور . وأمّا الحنفيّة فقد اختلفت فتواهم فيه سواء كان على معيّن أو غير معيّن .
سابعاً - فسخ الإجارة بسبب العيب :
74 - لا خلاف بين فقهاء المذاهب في أنّه إذا حدث في المعقود عليه عيب في مدّة العقد ، وكان هذا العيب يخلّ بالانتفاع بالمعقود عليه ، ويفوّت المقصود بالعقد مع بقاء العين ، كانجراح ظهر الدّابّة المعيّنة المؤجّرة للرّكوب ، فإنّ ذلك يؤثّر على العقد اتّفاقاً ، ويجعله غير لازم بالنّسبة لمن أضرّ به وجود العيب . فلو اشترى شيئاً فآجره ، ثمّ اطّلع على عيب به ، يكون له أن يفسخ الإجارة ، ويردّ المبيع ، فحقّ الرّدّ بالعيب يكون عذراً يخوّل له فسخ الإجارة وإن سبق له الرّضا بالعيب لأنّ المنافع تتجدّد ، ولا كذلك البيع . وقال أبو يوسف : إن أصاب إبل المؤجّر مرض فله أن يفسخ إذا كانت الإبل مستأجرةً بعينها . وللمستأجر أن يردّ بما يحدث في يده من العيب ، لأنّ المستأجر في يد المستأجر كالمبيع في يد البائع ، فإذا جاز ردّ البيع بما يحدث من عيب في يد البائع جاز بما يحدث من العيب في يد المستأجر . وفي المغني : إذا اكترى عيناً فوجد بها عيباً لم يكن علم به فله فسخ العقد بغير خلاف . 75 - أمّا إذا كان العيب لا يفوّت المنافع المقصودة من العقد ، كانهدام بعض محالّ الحجرات ، بحيث لا يدخل الدّار برد ولا مطر ، وكانقطاع ذيل الدّابّة ، وكانقطاع الماء عن الأرض مع إمكان الزّرع بدون ماء ، فإنّ ذلك وأمثاله لا يكون مقتضياً الفسخ . والعبرة فيما يستوجب الفسخ أو عدمه من العيوب بقول أهل الخبرة . وإذا وجد عيب وزال سريعاً بلا ضرر فلا فسخ . 76 - وقبض العين المستأجرة لا يمنع من طلب الفسخ لحدوث عيب بالعين ، إذ الإجارة تختلف عن البيع في ذلك ، لأنّ الإجارة بيع للمنافع ، والمنافع تحدث شيئاً فشيئاً ، فكان كلّ جزء من أجزاء المنافع معقوداً عليه عقداً مبتدأً . فإذا حدث العيب بالمستأجر كان هذا عيباً حدث بعد العقد وقبل القبض ، وهذا يوجب الخيار في بيع العين ، فكذا في الإجارة ، فلا فرق من حيث المعنى . وفقهاء المذاهب يجمعون على هذا ، على الرّغم من أنّ بعض المذاهب ترى أنّ المنفعة كالعين ، وأنّه يتمّ تسليمها عند التّعاقد إن لم تكن موصوفةً في الذّمّة ، بل صرّح الحنابلة بهذا التّعليل . يقول ابن قدامة : إذا حصل العيب أثناء الانتفاع ثبت للمكتري خيار الفسخ ، لأنّ المنافع لا يحصل قبضها إلاّ شيئاً فشيئاً . إلخ . وإن زال العيب قبل الفسخ - بأن زال العرج عن الدّابّة أو بادر المكري إلى إصلاح الدّار - لا يكون للمستأجر حقّ الرّدّ وبطل حقّه في طلب الفسخ ، لأنّه لا يلحقه الضّرر .
الفصل الخامس الاختلاف بين المؤجّر والمستأجر 77 - قد يقع اختلاف بين المؤجّر والمستأجر في بعض أمور تتعلّق بالإجارة ، كالمدّة والعوض والتّعدّي ، والرّدّ ونحو ذلك . فلمن يكون القول عند انعدام البيّنة ؟ وقد أورد الفقهاء ( على اختلاف مذاهبهم ) صوراً شتّى في هذا الأمر . وترجع آراؤهم كلّها إلى تحديد كلّ من المدّعي والمدّعى عليه ، فيكون على المدّعي البيّنة ، والقول مع اليمين للمدّعى عليه . وللظّاهر مدخل في تحديد كلّ منهما . فمن شهد له الظّاهر فهو المدّعى عليه ، والقول قوله ، ومن طلب حقّاً على الآخر فهو المدّعي . والفروع الّتي سيقت في هذا الباب ( مع كثرتها ) ترجع إلى هذا الأصل . وتفصيل ذلك في مصطلح ( دعوى ) .
الفصل السّادس كيفيّة استعمال العين المأجورة 79 - الإجارة قد تكون على منقول - حيوان أو غيره - وقد تكون على غير منقول . كما قد تكون إجارة أشخاص ، سواء أكان الأجير خاصّاً أم مشتركاً . وقد تتميّز بعض هذه الأنواع بأحكام خاصّة ، وسيأتي بيانها بحسب كلّ نوع منها . وعالج الفقهاء ما كان في العهود السّابقة من إجارة أنواع من العروض فاختلفوا في بعض الصّور من حيث كيفيّة استعمالها . وبالنّظر في هذه الصّور يتبيّن أنّ آراءهم مبنيّة على الأسس الآتية : أ - إذا كان هناك شرط معتبر شرعاً وجب الالتزام به .
ب - إذا كانت طبيعة المأجور ممّا يتأثّر باختلاف الاستعمال وجب ألاّ تستعمل على وجه ضار ، ويجوز استعمالها على وجه أخفّ .
ج - مراعاة العرف في الاستعمال سواء كان عرفاً عامّاً أو خاصّاً . وما يوجد في كتب الفقه من فروع تطبيقيّة يوهم ظاهرها الاختلاف فإنّه يرجع إلى هذه الأسس .
الفصل السّابع أنواع الإجارة بحسب ما يؤجّر الفرع الأوّل إجارة غير الحيوان القاعدة العامّة فيما يجوز إجارته أنّ كلّ ما يجوز بيعه تجوز إجارته ، لأنّ الإجارة بيع منافع ، بشرط ألاّ تستهلك العين في استيفاء المنفعة ، فضلاً عن جواز إجارة بعض ما لا يجوز بيعه ، كإجارة الحرّ ، وإجارة الوقف ، وإجارة المصحف عند من لا يجيز بيعه . كما يشترط في المنفعة أن تكون مقصودةً لذاتها بحسب العرف . وما ورد من خلاف بين الأئمّة في بعض الصّور فمرجعه إلى اختلاف العرف .
المبحث الأوّل إجارة الأراضي 80 - إجارة الأراضي مطلقاً لذاتها جائزة . وقيّد الشّافعيّة جواز استئجار الأرض ببيان الغرض من استئجارها ، وذلك لتفاوت الأغراض واختلاف أثرها . فإذا كانت مع غيرها من ماء أو مرعى أو زرع أو نحو ذلك فسيأتي حكمها : أ - ( إجارة الأرض مع الماء أو المرعى ) :
81 - يجوز ذلك في الجملة اتّفاقاً ، لكنّ الحنفيّة لا يجيزون إجارة الآجام والأنهار للسّمك ، ولا المرعى للكلأ ، قصداً ، وإنّما يؤجّر له الأرض فقط ، ثمّ يبيح المالك للمستأجر الانتفاع بالكلأ ، وذلك لأنّ الانتفاع بالكلأ لا يكون إلاّ باستهلاك عينه . أمّا عند غير الحنفيّة فيجوز العقد على الأرض والكلأ معاً ، ويدخل الكلأ تبعاً . وبين فقهاء الحنفيّة اختلاف في استئجار طريق خاصّ يمرّ فيه ، أو يمرّ النّاس فيه ، فإنّه يجوز عند الصّاحبين ولا يجوز عند الإمام .
ب - ( إجارة الأراضي الزّراعيّة ) :
82 - فقهاء المذاهب يجيزون إجارة الأرض للزّراعة ، وجمهور الفقهاء على وجوب تعيين الأرض وبيان قدرها ، فلا تجوز إجارة الأراضي إلاّ عيناً ، لا موصوفةً في الذّمّة . بل اشترط الشّافعيّة والحنابلة لمعرفة الأرض رؤيتها ، لأنّ المنفعة تختلف باختلاف معدن الأرض وموقعها وقربها من الماء ، ولا يعرف ذلك إلاّ بالرّؤية ، لأنّها لا تنضبط بالصّفة . ولم يشترط المالكيّة الرّؤية ، فأجازوا إجارة الأرض بقوله : أكريك فدّانين من أرضي الّتي بحوض كذا ، أو مائة ذراع من أرضي الفلانيّة ، إذا كان قد عيّن الجهة الّتي يكون منها ذلك القدر ، كأن يقول : من الجهة البحريّة ، أو لم يعيّن الجهة ، لكن تساوت الأرض في الجودة والرّداءة بالنّسبة للأرض الزّراعيّة . فإن لم تعيّن الجهة ، واختلفت الأرض من ناحية الجودة والرّداءة ، فلا يجوز إلاّ بالتّعيين ، إلاّ إذا كان يؤجّر له قدراً شائعاً منها كالرّبع والنّصف ، فإنّه يجوز دون تعيين الجهة الّتي يكون فيها الجزء . واشترط الجمهور لجواز ذلك أن يكون لها ماء مأمون دائم للزّراعة ، يؤمن انقطاعه ، لأنّ الإجارة لا تجوز إلاّ على عين يمكن استيفاء المنفعة منها ، فتصحّ إجارة الأرض الزّراعيّة ، ما دامت تسقى من نهر لم تجر العادة بانقطاعه وقت طلب السّقي ، أو من عين أو بركة أو بئر أو أمطار تقوم بكفايتها ، أو بها نبات يشرب بعروقه من ماء قريب تحت سطح الأرض . وهذا ما صرّح به كلّ من الشّافعيّة والحنابلة ، وهو مقتضى ما اشترطه الحنفيّة من أن تكون المنفعة المعقود عليها مقدورةً حقيقةً وشرعاً . أمّا المالكيّة فقد أجازوا كراء أرض المطر للزّراعة ، ولو لسنين طويلة ، إن لم يشترط النّقد ، سواء حصل نقد بالفعل تطوّعاً بعد العقد أم لا . أمّا إذا كانت الأرض مأمونةً لتحقّق ريّها من مطر معتاد ، أو من نهر لا ينقطع ماؤه ، أو عين لا ينضب ماؤها ، فيجوز كراؤها بالنّقد ولو لمدّة طويلة . وقالوا : إنّه يجب النّقد في الأرض المأمونة بالرّيّ بالفعل والتّمكّن من الانتفاع بها . وإذا وقع العقد على منفعة أرض الزّراعة ، وسكت عن اشتراط النّقد وعدمه ، أو اشترط عدمه حين العقد ، فإنّه يقضى به في الأرض الّتي تسقى بماء الأنهار الدّائمة إذا رويت وتمكّن من الانتفاع بها بكشف الماء عنها ، وأمّا الأرض الّتي تسقى بالمطر والعيون والآبار فلا يقضى بالنّقد فيها . لكنّ الشّافعيّة والحنابلة اشترطوا أن يكون الماء مأموناً كماء العين ونحوه ، إلاّ إذا تمّ زرعها واستغنى عن الماء . واتّفق الفقهاء على أنّ ما لا يتمّ الانتفاع بالأرض إلاّ به كالشّرب والطّريق يدخل تبعاً في عقد الإجارة وإن لم ينصّ عليه . إجارة الأرض ببعض ما يخرج منها :
83 - إذا كانت أجرتها ممّا تنبته ففي ذلك خلاف ، فالحنفيّة والحنابلة أجازوا إجارتها ببعض الخارج منها ، لأنّها منفعة مقصودة معهودة فيها ، ومنع المالكيّة والشّافعيّة إجارتها ببعض ما يخرج منها قياساً على قفيز الطّحّان ، وقيّدوا جواز تأجيرها للزّراعة بأن يكون لها ماء تسقى به ، ولو ماء المطر ، إلاّ إذا كانت الإجارة لمدّة طويلة ، فاشترطوا أن تكون مأمونة الرّيّ .
المدّة في الأرض الزّراعيّة :
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
84 - يجوز إيجار الأرض للزّراعة لمدّة معلومة كسنة ونحوها ، ولو إلى عشر سنين أو أكثر ، اتّفاقاً ، حتّى قال الشّافعيّة : تصحّ إجارة الأرض لمائة سنة أو أكثر ، ولو وقفاً ، لأنّ عقد الإجارة على العين يصحّ مدّةً تبقى فيها العين إليها . وفي قول عندهم : لا تزاد على ثلاثين سنةً ، لأنّ الغالب تغيّر الأشياء بعدها . وفي قول عندهم أيضاً : لا يزاد على سنة ، لأنّ الحاجة تندفع بها . وقال الحنفيّة : إذا كانت الأرض موقوفةً فأجّرها المتولّي إلى مدّة طويلة ، فإن كان السّعر بحاله لم يزد ولم ينقص ، فإنّه يجوز ، إلاّ إذا كان الواقف شرط ألاّ يؤجّرها أكثر من سنة ، فإنّه لا يجوز مخالفة شرط الواقف ، إلاّ إذا كان إيجارها لأكثر من سنة أنفع للوقف .
اقتران صيغة الإجارة ببعض الشّروط :
85 - عقد الإجارة يقبل الاقتران بالشّرط اتّفاقاً . لكن إذا كان الشّرط ممّا يبقى أثره في الأرض بعد انقضاء مدّة الإجارة ففيه كلام ، لأنّ هذا الشّرط ينتج تحقيق مصلحة لأحد العاقدين . فإذا كان الشّرط يقتضيه العقد فذكره لا يوجب الفساد كاشتراط الكراب والسّقي ، لأنّ الزّراعة لا تتأتّى إلاّ به . وإن شرط أن يثنيها - أي يحرثها مرّةً ثانيةً - ويكري أنهارها ونحو ذلك ، ممّا تبقى فائدته في الأرض بعد انقضاء المدّة ، وليس من مقتضيات العقد ، فهو شرط فاسد عند الحنفيّة تفسد به الإجارة عندهم ، لكنّ المالكيّة أجازوا اشتراط أن يسمّدها بنوع معيّن وقدر معيّن من السّماد ، لأنّه منفعة تبقى في الأرض ، فهو جزء من الأجرة . أمّا إذا شرط عليه أن يزرع بنفسه فقط ، أو أن يزرع قمحاً فقط ، فإنّه شرط مخالف لمقتضى العقد ، ولا يلزم الوفاء به ، فله أن يزرع بنفسه وبغيره ، وله أن يزرع قمحاً أو ما هو مثله أو أقلّ منه ضرراً بالأرض ، لا ما هو أكثر . وعلّلوا ذلك بأنّه شرط لا يؤثّر في حقّ المؤجّر ، فألغي ، وبقي العقد على مقتضاه . وفي وجه عند الشّافعيّة أنّ الإجارة تبطل ، لأنّه شرط فيها ما ينافي موجبها . وفي وجه آخر أنّ الإجارة جائزة ، والشّرط لازم ، لأنّ المستأجر يملك المنافع من جهة المؤجّر ، فلا يملك ما لم يرض به . 86 - وجمهور الفقهاء ( المالكيّة والحنابلة والصّحيح عند الشّافعيّة ) أنّه يجب أن يبيّن جنس ما يستأجر له الأرض ، زراعةً أو غراساً ، دون حاجة لبيان نوع ما يزرع أو يغرس . وعلّة ذلك أنّ الغراس قد يكون أضرّ بالأرض من الزّرع ، وتأثير ذلك في الأرض يختلف . أمّا التّفاوت بين الزّرعين فقليل لا يضرّ . وإذا لم يعيّن ، ولم يكن هناك عرف ، فلا يجوز ، للجهالة ، خلافاً لابن القاسم الّذي أجاز ، وقال : يمنع المكتري من فعل ما يضرّ بالأرض . أمّا إذا قال له : آجرتكها لتزرعها أو تغرسها ، فإنّه لا يصحّ ، لأنّه لم يعيّن أحدهما ، فوجدت جهالة . وإذا قال له : آجرتك لتزرعها وتغرسها ، صحّ العقد عند الحنابلة ، وله أن يزرعها كلّها ما شاء ، أو أن يغرسها كلّها ما شاء . وفي قول عند الشّافعيّة : يصحّ ، وله أن يزرع النّصف ، ويغرس النّصف ، لأنّ الجمع يقتضي التّسوية . وفي القول الثّاني : لا يصحّ ، لأنّه لم يبيّن المقدار من كلّ واحد منها . أمّا إن أطلق ، وقال : آجرتك لتنتفع بها ما شئت ، فله الزّرع والغرس والبناء عند الحنابلة ، للإطلاق . وللشّافعيّة ، في الأرض الّتي لا ماء لها ، ولم يذكر أنّه يكتريها للزّراعة ، وجهان : أحدهما : لا يصحّ ، لأنّ الأرض عادةً تكترى للزّراعة ، فصار كما لو شرط أنّه اكتراها للزّراعة . والثّاني : يصحّ إذا كانت الأرض عاليةً لا يطمع في سقيها ، لأنّه يعلم أنّه لم يكترها للزّراعة . وإن كانت منخفضةً يطمع في سقيها بسوق الماء إليها من موضع آخر ، لم تصحّ ، لأنّه اكتراها للزّراعة مع تعذّر الزّراعة ، لأنّ مجرّد الإمكان لا يكفي ، إذ لا بدّ من أن يغلب على الظّنّ وصول الماء إليها على الأرجح . وقال الحنفيّة والشّافعيّة في مقابل الصّحيح عندهم : لا بدّ من تعيين ما تستأجر له الأرض من زراعة أو غراس . ولا بدّ أيضاً من بيان نوع ما يزرع أو يغرس ، وإلاّ فسد العقد ، لأنّ الأرض تستأجر للزّراعة وغيرها ، وما يزرع فيها منه ما يضرّ بالأرض وما لا يضرّ ، فلم يكن المعقود عليه معلوماً . ولذا وجب البيان ، أو يجعل له أن ينتفع بها ما شاء . وحكي عن ابن سريج أيضاً أنّه قال : لا يصحّ حتّى يبيّن الزّرع ، لأنّ ضرره يختلف . وقال الحنفيّة : إن زرعها مع ذلك الفساد ، ومضى الأجل ، فللمؤجّر المسمّى ، استحساناً ، وفي القياس لا يجوز ، وهو قول زفر ، لأنّ العقد وقع فاسداً ، فلا ينقلب جائزاً . ووجه الاستحسان أنّ الجهالة ارتفعت قبل تمام العقد .
أحكام إجارة الأرض الزّراعيّة : التزامات المؤجّر :
87 - يجب تسليم الأرض خاليةً إلى المستأجر . فإن استأجر أرضاً فيها زرع لآخر ، أو ما يمنع الزّراعة ، لم تجز الإجارة ، لعدم القدرة على استيفاء المعقود عليه . فإن قلع ذلك قبل تسليم الأرض جاز . وقال الحنابلة : لو كانت مشغولةً ، وخلت أثناء المدّة ، فإنّها تصحّ فيما خلت فيه من المدّة بقسطه من الأجرة . وإذا كان ذلك ممّا يختلف رجع في تقويمه إلى أهل الخبرة .
( التزامات المستأجر ) :
88 - أوّلاً : يجب على المستأجر أن يدفع الأجرة المشروطة في العقد حسب الاشتراط ، فقد نصّوا على لزوم الكراء بالتّمكين من التّصرّف في العين الّتي اكتراها وإن لم تستعمل . وقد اتّجه الفقهاء في الجملة إلى أنّه إن انقطع عنها الماء ، أو غرقت ولم ينكشف عنها الماء ، ونحو ذلك ممّا يمنع تمكّنه من زراعتها ، فإنّه لا يلزمه الأجر . لكن لهم تفصيلات ينبغي الإشارة إليها . فالحنفيّة ينصّون على أنّ انقطاع الماء عن الأرض الّتي تسقى بماء النّهر أو ماء المطر يسقط الأجر . وكذا إن غرقت الأرض قبل أن يزرعها ومضت المدّة . وكذا لو غصبها غاصب . أمّا إن زرعها ، فأصاب الزّرع آفة ، فهلك الزّرع ، أو غرقت بعد الزّرع ولم ينبت ، ففي إحدى روايتين عن محمّد : يكون عليه الأجر كاملاً والمختار في الفتوى أنّه لا يكون عليه أجر لما بقي من المدّة بعد هلاك الزّرع . ويقرب من ذلك قول المالكيّة ، إذ قالوا : إنّ الأجر لا يجب بانقطاع الماء عن الأرض ، أو إغراقه لها من قبل أن يزرعها وحتّى انقضاء المدّة . أمّا إن تمكّن ، ثمّ فسد الزّرع لجائحة لا دخل للأرض فيها ، فيلزمه الكراء ، غير أنّهم قالوا : إذا انعدم البذر عموماً عند أهل المحلّة ملكاً أو تسليفاً فلا يلزمه الكراء ، وكذا إذا سجن المكتري بقصد تفويت الزّرع عليه ، فيكون الكراء على ساجنه . وقال الشّافعيّة والحنابلة : إن اكترى أرضاً للزّراعة ، فانقطع ماؤها ، فالمكتري بالخيار بين فسخ العقد ، لأنّ المنفعة المقصودة قد فاتت ، وبين إبقائه لأنّ العين باقية يمكن الانتفاع بها ، وإنّما نقصت منفعتها ، فثبت له الخيار ، كما لو حدث به عيب . وقالوا : إذا زرع الأرض الّتي اكتراها ثمّ هلك الزّرع بزيادة المطر أو شدّة البرد أو أكل الجراد ، لم يجز له الرّدّ ، لأنّ الجائحة حدثت على مال المستأجر . وقالوا : إن اكترى أرضاً غرقت بالماء لزراعة ما لا يثبت في الماء ، كالحنطة والشّعير ، فإن كان للماء مغيض إذا فتح انحسر الماء عن الأرض ، وقدر على الزّراعة ، صحّ العقد ، وإلاّ لم يصحّ العقد . وإن كان يعلم أنّ الماء ينحسر ، وتنشّفه الرّيح ، ففيه وجهان عند الشّافعيّة : أحدهما : لا يصحّ ، لأنّه لا يمكن استيفاء المنفعة في الحال . والثّاني : يصحّ . وهو الصّحيح ، لأنّه يعلم بالعادة إمكان الانتفاع به . 89 - ثانياً : يجب على المستأجر أن ينتفع بالأرض في حدود المعروف والمشروط ، لا بما هو أكثر ضرراً ، وهذا موضع اتّفاق . وذهب عامّة أهل العلم إلى أنّه يجوز أن يزرع الأرض الزّرع المتّفق عليه ، أو مساويه ، أو أقلّ منه ضرراً . غير أنّ الحنفيّة قالوا : من اكترى أرضاً ليزرعها حنطةً فليس له أن يزرعها قطناً . وإذا زرعها ضمن قيمة ما أحدثه ذلك في الأرض من نقصان ، واعتبر غاصباً للأرض . وقد سبق أنّهم يشترطون تعيين نوع ما يزرع . وقال الشّافعيّة في ذلك : يلزمه أجر المثل ، لأنّه تعدّى ، والزّيادة غير منضبطة ، وتفضي إلى منازعة . وفي قول آخر لهم : يلزمه المسمّى وأجر المثل للزّيادة . وفي قول : إنّ مالك الأرض يكون بالخيار بين أن يأخذ المسمّى وأجر المثل للزّيادة ، أو أن يأخذ أجر المثل للجميع . وعند الحنابلة : لو اشترط نوعاً معيّناً من الزّرع كالقمح ، فلهم رأيان : قيل : لا يجوز هذا الشّرط ، لأنّ المعقود عليه منفعة الأرض ، وإنّما ذكر القمح لتقدّر به المنفعة . والثّاني أنّه يتقيّد بهذا الشّرط حسب الاتّفاق ، فيكون شرطاً لا يقتضيه العقد . وهذا اختيار القاضي من علمائهم .
انقضاء إجارة الأرض الزّراعيّة :
90 - إذا كانت الإجارة على مدّة ، وانقضت المدّة ، انقضت الإجارة اتّفاقاً . ويبقى الزّرع في الأرض إذا كان لم يحن حصاده . وعليه الأجر المسمّى عن المدّة ، زائداً أجر المثل عن المدّة الزّائدة . ولفقهاء المذاهب بعض تفصيلات في ذلك ، وفيما إذا كانت الأرض استأجرها للغراس لا للزّرع : فقال الحنفيّة : إذا استأجرها ليغرس بها شجراً ، وانقضت المدّة ، لزمه أن يقلع الشّجر ويسلّم الأرض فارغةً . وقيل : يتركها بأجر المثل ، إلاّ أن يختار صاحب الأرض أن يغرم قيمة ذلك مقلوعاً إن كان في قلعها ضرر فاحش بالأرض . وإلاّ قلعها من غير ضمان النّقص له . لأنّ تقدير المدّة في الإجارة يقتضي التّفريغ عند انقضائها ، كما لو استأجرها للزّرع . ولا يبعد المالكيّة عن الحنفيّة في شيء من هذا ، غير أنّ بعضهم قيّد بقاء الزّرع في الأرض للحصاد بأجر المثل بما إذا كان المكتري يعلم وقت العقد أنّ الزّرع يتمّ حصاده في المدّة ، وإلاّ جاز للمؤجّر أمره بالقلع . 91 - أمّا الشّافعيّة فقد فصّلوا ، وقالوا : إن اكترى أرضاً لزرع معيّن لا يستحصد في المدّة ، واشترط التّبقية ، فالإجارة باطلة ، لأنّه شرط ينافي مقتضى العقد . فإن بادر وزرع لم يجبر على القلع ، وعليه أجرة المثل . وإن شرط القلع فالعقد صحيح ، ويجبر على ذلك . وإن لم يشترط شيئاً من ذلك فقيل : يجبر على القلع ، لأنّ العقد على مدّة ، وقد انقضت . وقيل : لا يجبر ، لأنّ الزّرع معلوم . ولزمه أجر المثل للزّائد . وإن كان الزّرع غير معيّن ، فإن كان بتفريط منه ، فللمكتري أن يجبره على قلعه ، لأنّه لم يعقد إلاّ على المدّة . وإن كان لعذر ، فقيل : يجبر أيضاً . وقيل : لا يجبر . وهو الصّحيح ، لأنّه تأخّر من غير تفريط منه . وعليه المسمّى إلى نهاية المدّة ، وأجرة المثل لما زاد . وفي الغراس قالوا : إنّه يجوز اشتراط التّبقية ، لأنّ العقد يقتضيه . وإن شرط عليه القلع أخذ بالشّرط ، ولا يلزمه تسوية الأرض . وإن أطلق لم يلزمه القلع ، إذ العادة في الغراس التّبقية إلى أن يجفّ ويستقلع . وإن اختار القلع ، وكان قبل انقضاء المدّة ، فقيل : يلزمه تسوية الأرض ، لأنّه قلع الغراس من أرض غيره بغير إذنه . وقيل لا يلزمه ، لأنّ قلع الغراس من أرض له عليها يد . وإن كان بعد انقضاء المدّة لزمه تسوية الأرض ، وجهاً واحداً . وإن اختار المكتري التّبقية فإن أراد صاحب الأرض دفع قيمة الغراس وتملّكه أجبر المكتري على ذلك . وإن أراد أن يقلعه ، وكانت قيمة الغراس لا تنقص بالقلع ، أجبر المكتري على القلع . ولا يبعد رأي الحنابلة عمّا قاله الشّافعيّ في جملته غير أنّهم قالوا : إذا كان تأخير الزّرع لتفريط منه فحكمه حكم زرع الغاصب . ويخيّر المالك بعد المدّة بين أخذه بالقيمة ، أو تركه بالأجر لما زاد على المدّة . وإن اختار المستأجر قطع زرعه في الحال فله ذلك . وقال القاضي : إنّ على المستأجر ذلك . وإن اتّفقا على تركه بعوض جاز . وإن كان بقاؤه بغير تفريط لزم المؤجّر تركه إلى أن ينتهي ، وله المسمّى ، وأجر المثل لما زاد . وإذا استؤجرت الأرض مدّةً للزّراعة ، ومات المؤجّر أو المستأجر ، قبل أن يستحصد الزّرع كان من حقّ المستأجر أو ورثته بقاء الأرض حتّى حصاد الزّرع ، وذلك بأجر المثل ، على أن يكون ذلك من مال الورثة دون مال الميّت . وقد سبق أنّ وفاة المؤجّر ، أو المستأجر ، ممّا ينهي عقد الإجارة عند الحنفيّة ، خلافاً للمذاهب الأخر .
المبحث الثّاني
إجارة الدّور والمباني بم تعيّن المنفعة فيها ؟ 92 - لا يعلم خلاف بين فقهاء المذاهب في ضرورة تعيين الدّار المستأجرة ، وأنّه إذا تغيّرت هيئتها الأولى الّتي رآها عليها بما يضرّ بالسّكن يثبت له خيار العيب . وإذا كان استأجر داراً قد تعيّنت بالوصف ، ولم يرها قبل العقد ولا وقته ، ثبت له حقّ خيار الرّؤية عند من يقولون به . ولا يعلم خلاف أيضاً في أنّ إجارة الدّور ممّا لا تختلف في الاستعمال عادةً ، فيصحّ استئجار الدّار أو الحانوت مع عدم بيان ما يستأجرها له ، لأنّ الدّور إنّما تكون للسّكن عادةً ، والحانوت للتّجارة أو الصّناعة . ويرجع إلى العرف أيضاً في كيفيّة الاستعمال ، والتّفاوت في السّكن يسير فلم يحتج إلى ضبطه . 93 - إذا شرط المؤجّر على المستأجر ألاّ يسكن غيره معه فالحنفيّة يرون أنّ الشّرط لاغ والعقد صحيح ، فله أن يسكن غيره معه . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى اعتبار الشّرط ، فليس له أن يسكن غيره معه ، إلاّ ما جرى به العرف . وذهب الشّافعيّة إلى فساد الشّرط والعقد ، لأنّ هذا الشّرط لا يقتضيه العقد ، وفيه منفعة للمؤجّر ، فيكون شرطاً فاسداً ، ويفسد به العقد . وإذا لم يكن هناك شرط فالعبرة في ذلك بعدم الضّرر أوّلاً ، والرّجوع للعرف ثانياً . وللمستأجر أن ينتفع بالدّار والحانوت كيف شاء في حدود المتعارف ، بنفسه وبغيره ممّن لا يزيد ضرره عنه . وليس له أن يجعل فيها ما يوهن البناء كالحدادة والقصارة . وتدخل في إجارة الدّور والحوانيت توابعها ، ولو بدون ذكرها في العقد ، لأنّ المنفعة لا تتحقّق إلاّ بها . 94 - وبيان المنفعة في إجارة الدّور ببيان المدّة فقط ، لأنّ السّكنى مجهولة المقدار في نفسها ، ولا تنضبط بغير ذلك . وليس لمدّة الإجارة حدّ أقصى عند الجمهور ، فتجوز المدّة الّتي تبقى فيها وإن طالت . وهو قول أهل العلم كافّةً . وفي قول عند الشّافعيّة : لا تجوز أكثر من سنة . وفي قول : إنّها لا تجوز أكثر من ثلاثين سنةً . وقال به المالكيّة بالنّقد والمؤجّل . وتبدأ المدّة من الوقت المسمّى في العقد . فإن لم يكونا سمّيا وقتاً فمن حين العقد . ويقول المالكيّة : يجوز عدم بيان ابتداء المدّة لسكنه شهراً أو سنةً مثلاً . ويحمل من حين العقد وجيبةً ( أي مدّةً محدّدةً لا تتجدّد بنفس العقد ) أو مشاهرةً . فإن وقع العقد في أثناء الشّهر فثلاثون يوماً من يوم العقد . أمّا الشّافعيّة فقالوا : لا تجوز إجارة الدّور إلاّ لمدّة معلومة الابتداء والانتهاء . فإن قال : آجرتك هذه الدّار شهراً ، ولم يحدّد الشّهر ، لم يصحّ ، لأنّه ترك تعيين المعقود عليه ، وهو الشّهر ، في عقد شرط فيه التّعيين ، كما لو قال : بعتك داراً . 95 - وإذا وقعت الإجارة على مدّة يجب أن تكون معلومةً . ولا يشترط أن تلي العقد مباشرةً ، خلافاً للشّافعيّ في أحد قوليه . فإذا قال : آجرتك داري كلّ شهر بدرهم ، فالجمهور على أنّها صحيحة . وتلزم الإجارة في الشّهر الأوّل بإطلاق العقد ، لأنّه معلوم بالعقد ، وما بعده من الشّهور يلزم العقد فيه بالتّلبّس به ، وهو السّكنى في الدّار ، لأنّه مجهول حال العقد ، فإذا تلبّس به تعيّن بالدّخول فيه ، فصحّ بالعقد الأوّل . وإن لم يتلبّس به ، أو فسخ العقد عند انقضاء الشّهر الأوّل ، انفسخ . وفي الصّحيح عند الشّافعيّ أنّ الإجارة لا تصحّ . وقال به بعض فقهاء الحنابلة ، لأنّ كلمة " كلّ " اسم للعدد ، فإذا لم يقدّره كان مبهماً مجهولاً . وإذا قال : آجرتك داري عشرين شهراً ، كلّ شهر بدرهم ، جاز بغير خلاف ، لأنّ المدّة معلومة ، وأجرها معلوم . وفي قول عند الشّافعيّة : تصحّ في الشّهر الأوّل المعلوم ، وتبطل في الباقي المجهول . وإن قال آجرتكها شهراً بدرهم ، وما زاد فبحساب ذلك ، صحّ في الشّهر الأوّل ، لأنّه أفرده بالعقد ، وبطل في الزّائد ، لأنّه مجهول . ويحتمل أن يصحّ في كلّ شهر تلبّس به . 96 - وإن قدّرت مدّة الإجارة بالسّنين ، ولم يبيّن نوعها ، حمل على السّنة الهلاليّة ، لأنّها المعهودة في الشّرع . وإن استأجر سنةً هلاليّةً أوّل الهلال عدّ اثنا عشر شهراً بالأهلّة ، ثمّ يكمّل المنكسر ثلاثين يوماً . روي هذا عن أبي حنيفة والشّافعيّ وأحمد . وروي عنهم أيضاً أنّه يستوفى في الجميع بالعدد وإن استأجر الدّار بالسّنة الشّمسيّة أو الرّوميّة أو القبطيّة ، فإنّه يصحّ في رواية عن الشّافعيّ ، لأنّ المدّة معلومة . وهو مذهب أحمد إن كانا يعلمان أيّامها . والرّواية الثّانية عن الشّافعيّ : لا يصحّ ، إذ في السّنة الشّمسيّة أيّام نسيء ، وهو مذهب أحمد إن كانا يجهلانها . وإن آجره له إلى العيد انصرف إلى أوّل عيد يأتي ، الفطر أو الأضحى . وإن أضافه إلى عيد من أعياد الكفّار صحّ إذا علماه . 97 - وبالنّسبة للأجرة فإذا آجرها سنةً بعشرة دراهم جاز ، وإن لم يبيّن قسط كلّ شهر ؛ لأنّ المدّة معلومة ، فصار كالإجارة شهراً واحداً . غير أنّ المالكيّة لهم تأويلان في كونه وجيبةً ، لاحتمال إرادة سنة واحدة ، فكأنّه يقول : هذه السّنة . وهو تأويل ابن لبابة . والأكثر ، بل هو ظاهر المدوّنة : أو غير وجيبة ، لاحتمال إرادة كلّ سنة . وهو تأويل أبي محمّد صالح . 98 - إذا استأجر ذمّيّ داراً من مسلم على أنّه سيتّخذها كنيسةً أو حانوتاً لبيع الخمر ، فالجمهور ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأصحاب أبي حنيفة ) على أنّ الإجارة فاسدة ، لأنّها على معصية . وانفرد أبو حنيفة بالقول بجواز ذلك ، لأنّ العقد وارد على منفعة البيت مطلقاً ، ولا يتعيّن على المستأجر اتّخاذها لتلك المعصية . وفي هذا التّعليل ما فيه . أمّا إذا استأجر الذّمّيّ داراً للسّكنى مثلاً ، ثمّ اتّخذها كنيسةً ، أو معبداً عاماً ، فالإجارة انعقدت بلا خلاف . ولمالك الدّار ، وللمسلم عامّةً ، منعه حسبةً ، كما يمنع من إحداث ذلك في الدّار المملوكة للذّمّيّ .
التزامات المؤجّر والمستأجر في إجارة الدّور :
99 - يجب على المؤجّر تمكين المستأجر من الانتفاع . ويلزم المستأجر الأجر من وقت التّمكين ، ولو لم يستوف المنفعة . وإذا انقضت المدّة من غير التّمكين لا يستحقّ المؤجّر شيئاً ، ولو مضى من العقد مدّة قبل التّمكين فلا يلزمه أجر ما مضى قبل التّمكين . ومن حقّ المؤجّر حبس الدّار لاستيفاء الأجرة المشترط تعجيلها . ومن مقتضى التّمكين ألاّ تعود الدّار لحيازة المؤجّر بشرط في العقد . وما دام يجوز له أن ينتفع بالمعقود عليه بنفسه أو بغيره فإنّه يجوز له إيجارها للغير بمثل ما استأجرها به أو أكثر ، من غير جنس ما استأجر به ، أو من جنسه ، وكان وضع فيها شيئاً من ماله ( كالمساكن المفروشة ) فإنّ الزّيادة تحلّ له مع اتّحاد الجنس . وهذا إذا لم يكن هناك شرط يمنع إسكان غيره ، على ما سبق . كما يلزم المؤجّر عمارة الدّار وإصلاح كلّ ما يخلّ بالسّكنى . فإن أبى حقّ للمستأجر فسخ العقد إلاّ إذا كان استأجرها على حالها . وهذا عند جمهور الفقهاء . ومذهب المالكيّة وقول عند الحنفيّة لا يجبر الآجر على إصلاح لمكتر مطلقاً ، ويخيّر السّاكن بين السّكنى ، ويلزمه الكراء كاملاً ، والخروج منها . ولو أنفق المكتري شيئاً في الإصلاح من غير إذن وتفويض من المؤجّر ، فهو متبرّع . وعند انقضاء المدّة خيّر ربّ الدّار بين دفع قيمة الإصلاح منقوضاً أو أمره بنقضه إن أمكن فصله . ولا يجوز اشتراط صيانة العين على المستأجر ، لأنّه يؤدّي إلى جهالة الأجرة ، فتفسد الإجارة بهذا الاشتراط باتّفاق المذاهب . وإن سكن المستأجر ، لزمه أجر المثل ، وله ما أنفق على العمارة ، وأجر مثله في القيام عليها إن كان فعل ذلك بإذنه ، وإلاّ كان متبرّعاً . غير أنّ المالكيّة أجازوا كراء الدّار ونحوها مع اشتراط المرمّة على المكتري من الكراء المستحقّ عليه عن مدّة سابقة أو من الكراء المشترط تعجيله . ويقرب من ذلك ما قاله الشّافعيّة من أنّ المستأجر في مثل هذا يكون بمنزلة الوكيل . 100 - والدّار المستأجرة تكون أمانةً في يد المستأجر ، فلا يضمن إلاّ بالتّعدّي أو المخالفة . وتوابع الدّار كالمفتاح أمانة أيضاً . وإن تلف شيء ممّا يحتاج إليه للتّمكّن من الانتفاع لا يضمنه . وإذا استأجر الدّار على أن تتّخذ للحدادة ، فاستعملها للقصارة أو غيرها ممّا لا يزيد ضرره عادةً عن الحدادة ، فانهدم شيء من البناء ، فلا ضمان عليه . أمّا إن استأجرها على أن يتّخذها للسّكنى ، فاستعملها للحدادة أو القصارة ، فانهدم شيء منها ضمن . وقد صرّح بعض الفقهاء بأنّ السّلوك الشّخصيّ للمستأجر لا أثر له على العقد ، وليس للآجر ولا للجيران إخراجه من الدّار ، وإنّما يؤدّبه الحاكم . فإن لم يكف أجّرها الحاكم عليه وأخرجه منها . وتنقضي إجارة الدّور بأحد الأسباب السّابق ذكرها في مبحث انقضاء الإجارة . وقد بيّنّا قبل اتّجاهات الفقهاء في انقضاء الإجارة بالتّصرّف في العين المؤجّرة . وعلى هذا فلو قام المؤجّر بإجارة داره عن شهر صفر مثلاً ، وكان ذلك في شهر المحرّم ، وكانت الدّار في يد مستأجر آخر في شهر المحرّم ، فإنّ ذلك يعتبر فسخاً للإجارة الأولى . ويظهر أثر هذا الفسخ عقب انتهاء شهر المحرّم . ويرى البعض أنّ ذلك إنهاءً للعقد وليس فسخاً . .
الفرع الثّاني إجارة الحيوان 101 - إجارة الحيوان تنطبق عليها شروط الإجارة وأحكامها السّابقة ، إلاّ أنّ هناك صوراً من إجارة بعض الحيوانات لها أحكام تخصّها كإجارة الكلب ونحوه للحراسة ، فإنّ الحنفيّة منعوها لأنّه لا يمكن للإنسان حمله على منفعة الحراسة بضرب أو غيره . أمّا إجارة الكلب المعلّم للصّيد فمحلّ خلاف في جوازه وعدمه بين الفقهاء يرجع إلى بيانه وتفصيله في محلّه " صيد » . وفي إجارة الفحل للضّراب خلاف ، فجمهور الفقهاء الحنفيّة وظاهر مذهب الشّافعيّة وأصل مذهب الحنابلة ، على منعه لنهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث المتّفق عليه عن عسب الفحل . غير أنّ الحنابلة قالوا : إن احتاج إنسان إلى ذلك ، ولم يجد من يطرق له ، جاز أن يبذل الكراء ، وليس للمطرق أخذه . قال عطاء : لا يأخذ عليه شيئاً ، ولا بأس أن يعطيه إذا لم يجد من يطرق له ، ولأنّ ذلك بذل مال لتحصيل منفعة مباحة تدعو الحاجة إليها . وقالوا : إن أطرق إنسان فحله بغير إجارة ولا شرط ، فأهديت له هديّة ، فلا بأس . ونقل عن مالك وبعض الشّافعيّة وأبي الخطّاب من الحنابلة الجواز ، وهو مذهب الحسن وابن سيرين ، تشبيهاً له بسائر المنافع ، وللحاجة إليه ، كإجارة الظّئر للرّضاع ، ولأنّه يجوز أن يستباح بالإعارة ، فجاز أن يستباح بالإجارة ، كسائر المنافع . والجمهور على أنّه لا يجوز أن تفضي إجارة الحيوان إلى بيع عين من نتاجه ، كتأجير الشّاة لأخذ لبنها ، لأنّ المقصود الأصليّ في عقد الإجارة هو المنفعة لا الأعيان . وفي قول عند الحنابلة : تجوز إجارة الحيوان للبنه ، وقاله الشّيخ تقيّ الدّين ، وهو غير صحيح في المذهب .
الفرع الثّالث إجارة الأشخاص 102 - إجارة الأشخاص تقع على صورتين : أجير خاصّ استؤجر على أن يعمل للمستأجر فقط ويسمّيه بعض الفقهاء " أجير الوحد " كالخادم والموظّف ، وأجير مشترك يكترى لأكثر من مستأجر بعقود مختلفة ، ولا يتقيّد بالعمل لواحد دون غيره ، كالطّبيب في عيادته ، والمهندس والمحامي في مكتبيهما . والأجير الخاصّ يستحقّ أجرةً على المدّة . أمّا الأجير المشترك فيستحقّ أجرةً على العمل غالباً . وسيأتي تفصيل ذلك . المطلب الأوّل الأجير الخاصّ 103 - الأجير الخاصّ : هو من يعمل لمعيّن عملاً مؤقّتاً ، ويكون عقده لمدّة . ويستحقّ الأجر بتسليم نفسه في المدّة ، لأنّ منافعه صارت مستحقّةً لمن استأجره في مدّة العقد . وكره الحنفيّة استئجار المرأة للخدمة ، لأنّه لا يؤمن معه الاطّلاع عليها والوقوع في المعصية ، ولأنّ الخلوة بها معصية . وأجاز أحمد استئجارها ، ولكن يصرف وجهه عن النّظر إلى ما لا يحلّ له النّظر إليه ، كما أنّه لا يخلو معها في مكان اتّقاءً للفتنة . 104 - ويجوز أن يكون الأجير ذمّيّاً والمستأجر مسلماً بلا خلاف . أمّا أن يكون الأجير مسلماً والمستأجر ذمّيّاً فقد أجازه جمهور الفقهاء ، غير أنّهم وضعوا معياراً خاصّاً هو أن يكون العمل الّذي يؤجّر نفسه للقيام به ممّا يجوز له أن يفعله لنفسه ، كالخياطة والبناء والحرث . أمّا إذا كان لا يجوز له أن يعمله لنفسه ، كعصر الخمر ، ورعي الخنازير ، ونحو ذلك ، فإنّه لا يجوز . فإن فعل فإنّ الإجارة تردّ قبل العمل . وإن عمل فإنّ الأجرة تؤخذ من الكافر ويتصدّق بها . ولا يستحلّها لنفسه إلاّ أن يعذر لأجل الجهل . والمعيار عند الحنابلة أن يكون العمل غير الخدمة الشّخصيّة . أمّا إن كانت الإجارة على أن يقوم بخدمته من نحو تقديم الطّعام له ، والوقوف بين يديه ، فقال البعض : لا يجوز ، لأنّه عقد يتضمّن حبس المسلم عند الكافر ، وإذلاله في خدمته . وهو فيما يبدو المقصود من القول بالجواز عند الحنفيّة لأنّه عقد معاوضة - كالبيع - مع الكراهة الّتي علّلوها بأنّ الاستخدام استذلال ، وليس للمسلم أن يذلّ نفسه ، خصوصاً بخدمة الكافر . وقال بعض الحنابلة : يجوز ، لأنّه يجوز له إجارة نفسه في غير الخدمة ، فجاز فيها . وهو أحد قولي الشّافعيّ . وفي حاشية القليوبيّ والشّروانيّ يصحّ مع الكراهة أن يستأجر الذّمّيّ مسلماً ، ولو إجارة عين ويؤمر وجوباً بإجارته لمسلم . وللحاكم منعه منها . ولا يجوز لمسلم خدمة كافر ولو غير إجارة . وفي المهذّب أنّ من الشّافعيّة من قال : لو استأجر الكافر مسلماً ففيه قولان ، ومنهم من قال : يصحّ قولاً واحداً . 105 - ويجوز أن يكون ربّ العمل جماعةً في حكم شخص واحد ( مؤسّسةً ) فلو استأجر أهل قرية معلّماً أو إماماً أو مؤذّناً ، وكان خاصّاً بهم كان أجيراً خاصّاً . وكذا لو استأجر أهل قرية راعياً ليرعى أغنامهم على أن يكون مخصوصاً لهم بعقد واحد ، كان أجيراً خاصّاً . ولا بدّ في إجارة الأجير الخاصّ من تعيين المدّة ، لأنّها إجارة عين لمدّة . فلا بدّ من تعيينها ، لأنّها هي المعيّنة للمعقود عليه . والمنفعة لا تعتبر معلومةً إلاّ بذلك . وينبغي أن تكون المدّة ممّا يغلب على الظّنّ بقاء الأجير فيها قادراً على العمل ، حتّى قال المالكيّة : يجوز إجارة العامل لخمس عشرة سنةً . ولم يشترط الفقهاء تعيين نوع الخدمة . وعند عدم التّعيين يحمل على ما يليق بالمؤجّر والمستأجر . 106 - ويجب على الأجير الخاصّ أن يقوم بالعمل في الوقت المحدّد له أو المتعارف عليه . ولا يمنع هذا من أدائه المفروض عليه من صلاة وصوم ، بدون إذن المستأجر . وقيل : إنّ له أن يؤدّي السّنّة أيضاً ، وأنّه لا يمنع من صلاة الجمعة والعيدين ، دون أن ينقص المستأجر من أجره شيئاً إن كان المسجد قريباً . ولا يستغرق ذلك وقتاً كبيراً ، بل جاء في كتب الفقه أنّ من استأجر أجيراً شهراً ليعمل له كذا لا تدخل فيه أيّام الجمع للعرف . قال الرّشيديّ : « لو آجر نفسه بشرط عدم الصّلاة وصرف زمنها في العمل المستأجر له ، فالأقرب أنّه تصحّ الإجارة ويلغو الشّرط " ولا يدخل في الإجارة بالزّمن نحو شهر مثلاً لغير مسلم أوقات الصّلوات ولا أيّام عطلتهم الدّينيّة . وليس للأجير الخاصّ أن يعمل لغير مستأجره إلاّ بإذنه ، وإلاّ نقص من أجره بقدر ما عمل . ولو عمل لغيره مجّاناً أسقط ربّ العمل من أجره بقدر قيمة ما عمل . 107 - والأجير الخاصّ أمين ، فلا يضمن ما هلك في يده من مال ، أو ما هلك بعمله ، إلاّ بالتّعدّي أو التّقصير . وله الأجرة كاملةً . أمّا أنّه لا ضمان عليه لما تلف في يده من مال فلأنّ العين أمانة في يده لأنّه قبضه بإذن ربّ العمل ، فلا يضمن . وأمّا ما هلك بعمله فإنّ المنافع تصير مملوكةً للمستأجر ، لكونه يعمل في حضوره ، فإذا أمره بالتّصرّف في ملكه صحّ ، ويصير نائباً منابه ، ويصير فعله منسوباً إليه ، كأنّه فعله بنفسه . فلهذا لا يضمن . بل قال المالكيّة : حتّى لو شرط عليه الضّمان ، فهو شرط يناقض العقد ، ويفسد الإجارة . فإن وقع الشّرط فسدت الإجارة . فإن عمل فله أجرة مثله ، زادت على المسمّى أو نقصت . وإن أسقط الشّرط قبل انقضاء العمل صحّت الإجارة . ومن فقهاء الشّافعيّة من قال : إنّه كالأجير المشترك ، فيضمن ، لقول الشّافعيّ : الأجراء سواء ، وذلك صيانةً لأموال النّاس . وكان يقول : لا يصلح النّاس إلاّ ذاك .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الإجارة على المعاصي والطّاعات :
108 - الإجارة على المنافع المحرّمة كالزّنى والنّوح والغناء والملاهي محرّمة . وعقدها باطل لا يستحقّ به أجرة . ولا يجوز استئجار كاتب ليكتب له غناءً ونوحاً ، لأنّه انتفاع بمحرّم . وقال أبو حنيفة يجوز . ولا يجوز الاستئجار على حمل الخمر لمن يشربها ، ولا على حمل الخنزير . وبهذا قال أبو يوسف ومحمّد والشّافعيّ . وقال أبو حنيفة : يجوز ، لأنّ العمل لا يتعيّن عليه ، بدليل أنّه لو حمل مثله جاز . وروي عن أحمد فيمن حمل خنزيراً أو خمراً لنصرانيّ قوله : إنّي أكره أكل كرائه ، ولكن يقضى للحمّال بالكراء . والمذهب خلاف هذه الرّوايات ، لأنّه استئجار لفعل محرّم ، فلم يصحّ ، ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعن حاملها والمحمولة إليه . وأمّا حمل هذه الأشياء لإراقتها وإتلافها فجائز إجماعاً . 109 - والأصل أنّ كلّ طاعة يختصّ بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليها ، كالإمامة والأذان والحجّ وتعليم القرآن والجهاد . وهو قول عطاء والضّحّاك بن قيس وأبي حنيفة ومذهب أحمد ، لما روى عثمان بن أبي العاص ، قال : إنّ « آخر ما عهد إليّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن أتّخذ مؤذّناً لا يأخذ على أذانه أجراً » . وما رواه عبادة بن الصّامت ، قال : « علّمت ناساً من أهل الصّفّة القرآن والكتابة . فأهدى إليّ رجل منهم قوساً . قال : قلت : قوس . وليست بمال ، أتقلّدها في سبيل اللّه . فذكرت ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم . فقال : إن سرّك أن يقلّدك اللّه قوساً من نار فاقبلها » وعن عبد الرّحمن بن شبل الأنصاريّ قال : « سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول « : اقرءوا القرآن ، ولا تغلوا فيه ، ولا تجفوا عنه ، ولا تأكلوا به ، ولا تستكثروا به » ولأنّ من شرط صحّة هذه الأفعال كونها قربةً إلى اللّه تعالى ، فلم يجز أخذ الأجر عليها . وقد نصّ الحنفيّة على أنّه لا يجوز قراءة القرآن بأجر ، وأنّه لا يترتّب على ذلك ثواب ، والآخذ والمعطي آثمان ، وأنّ ما يحدث في زماننا من قراءة القرآن بأجر عند المقابر وفي المآتم لا يجوز . والإجارة على مجرّد القراءة باطلة ، وأنّ الأصل أنّ الإجارة على تعليمه غير جائزة . لكنّ المتأخّرين أجازوا الإجارة على تعليمه استحساناً . وكذا ما يتّصل بإقامة الشّعائر كالإمامة والأذان للحاجة . 110 - وأجاز مالك والشّافعيّ أخذ الأجر على قراءة القرآن وتعليمه . وهو رواية عن أحمد . وقال به أبو قلابة وأبو ثور وابن المنذر ، « لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زوّج رجلاً بما معه من القرآن ، وجعل ذلك يقوم مقام المهر » ، فجاز أخذ الأجرة عليه في الإجارة . وقد روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصّحيح أنّه قال : « إنّ أحقّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب اللّه » . ولا يكاد يوجد متبرّع بذلك ، فيحتاج إلى بذل الأجر فيه . وقد نصّ المالكيّة على كراهة الأجرة على قراءة القرآن بلحن ، لأنّ القراءة على هذا الوجه مكروهة إذا لم يخرج عن حدّه . قال الصّاويّ : أمّا الإجارة على أصل القراءة فجائز . وصرّح الشّافعيّة بجواز قراءة القرآن عند القبر ، والاستئجار على ذلك . 111 - وقد أجاز المالكيّة أيضاً أخذ الأجرة على الإمامة . كما أجازوا للمفتي أخذ الأجر إن لم يكن له رزق . وقالوا : يجوز الإجارة للمندوبات وفروض الكفاية . وكذلك أجاز الشّافعيّة أخذ الأجرة على الحجّ والعمرة عن الغير مع التّعيين . كما أجازوا للحاكم أن يستأجر الكافر للجهاد . أمّا المسلم ، ولو صبيّاً ، فلا تصحّ إجارته للجهاد ، لتعيّنه عليه . 112 - وربّ العمل ملتزم بالوفاء بأجر العامل بتسليم نفسه ، كما تقدّم قبل ، وإن لم يعمل ، وبشرط ألاّ يمتنع عمّا يطلب منه من عمل . فإن امتنع بغير حقّ فلا يستحقّ الأجر ، بغير خلاف في هذا . 113 - والعطيّة الّتي تقدّم للأجير من الخارج لا تحسب من الأجرة . ولو قال شخص لآخر اعمل هذا العمل أكرمك ، ولم يبيّن مقدار ما يكرمه به ، فعمل ما طلب منه استحقّ أجر المثل ، لأنّها إجارة فاسدة ، لجهالة الأجر . 114 - والأصل أن يكون الأجر معلوماً ، فإذا ما تراضيا على أن يكون الأجر هنا طعام الأجير وكسوته . أو جعل له أجراً وشرط طعامه وكسوته ، فإنّ في المسألة ثلاثة اتّجاهات : فالمالكيّة ، والرّواية المعتبرة عند أحمد ، أنّه يجوز ، لما روى ابن ماجه عن عتبة بن النّدّر قال : « كنّا عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . فقرأ { طسم } سورة القصص ، حتّى بلغ قصّة موسى ، قال : إنّ موسى آجر نفسه على عفّة فرجه وطعام بطنه » ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه . وعن أبي هريرة أنّه قال : كنت أجيراً لابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي ، أحطب لهم إذا نزلوا ، وأحدو بهم إذا ركبوا ولأنّ جواز ذلك ثبت في الظّئر بالنّصّ ، وهو قوله تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهنّ أجورهنّ } فيثبت في غيرها بالقياس عليها ، ولأنّه عوض منفعة فقام العرف فيه مقام التّسمية ، وإن تشاحّا في مقدار الطّعام والكسوة رجع في القوت إلى الإطعام في الكفّارات ، وفي الكسوة إلى أقلّ ملبوس مثله ، أو يحكّم العرف . وإن اشترط الأجير كسوةً ونفقةً معلومةً موصوفةً جاز ذلك عند الجميع . ويرى الحنفيّة ، وهي الرّواية الثّانية عن أحمد . اختارها القاضي ، أنّ ذلك لا يجوز لما في ذلك من جهالة بالأجر . واستثنوا إجارة الظّئر ، لأنّ العادة جرت بإكرام الظّئر . ويرى الشّافعيّة والصّاحبان من الحنفيّة ، وأبو ثور وابن المنذر ، وهو رواية عن أحمد ، عدم جواز ذلك مطلقاً في الظّئر وغيرها ، لأنّه يختلف اختلافاً كثيراً متبايناً فيكون مجهولاً ، ومن شرط الأجر أن يكون معلوماً .
انقضاء إجارة الأجير الخاصّ :
115 - تنقضي إجارة الأجير الخاصّ بالأسباب العامّة الّتي ذكرناها . وإذا أكرى الأجير نفسه ، فهرب ، فإن كانت الإجارة على موصوف في الذّمّة استؤجر بدله من ماله ، وإن لم يكن يثبت للمستأجر الخيار في الفسخ أو الانتظار ، وذلك كما لو استأجر سيّارةً بسائقها من غير أن يعيّن السّائق ، أو جمالاً بقائدها دون تعيين ، فهرب السّائق أو القائد ، فإن انتظر فإنّ الإجارة تنفسخ عن كلّ يوم يمضي ، لأنّ المنافع تتلف بمضيّ الزّمن . وإن كانت الإجارة على عمل معيّن لم ينفسخ لأنّه يمكن استيفاؤه إذا وجده .
إجارة الظّئر ( المرضع ) :
116 - إجارة الظّئر ورد بها الشّرع كما سبق . وينبغي أن تكون بأجر معلوم . وتكلّم الفقهاء عن المعقود عليه هنا ، فقيل : إنّ العقد ينصبّ على المنافع ، وهي خدمتها للصّبيّ ، والقيام به . واللّبن يستحقّ عن طريق التّبع ، بمنزلة الصّبغ في الثّوب ، لأنّ اللّبن عين فلا يعقد عليه في الإجارة . وقيل : إنّ العقد يقع على اللّبن أصلاً ، والخدمة تبع ، فلو أرضعته بلبن شاة لا تستحقّ الأجر ، ولو أرضعته دون أن تخدمه استحقّت الأجرة . ولو خدمته بدون الرّضاع لم تستحقّ شيئاً . وأمّا كونه عيناً فإنّ العقد مرخّص فيه في الإجارة للضّرورة لحفظ الآدميّ . ويجوز استئجارها بالطّعام والكسوة إذا تحدّد ذلك في العقد وبيّن اتّفاقاً . جاء في الجامع الصّغير : « فإن سمّى الطّعام ، ووصف جنس الكسوة ، وأجلها ، وذرعها ، فهو جائز بالإجماع » . أمّا إذا لم يتحدّد ذلك فإنّه يجوز عند الجمهور على ما سبق » . 117 - وعلى المرضعة أن تأكل وتشرب ما يدرّ لبنها ويصلح به . وللمكتري مطالبتها بذلك ، لأنّه من تمام التّمكين من الإرضاع ، وفي تركه إضرار بالرّضيع . وإن دفعته إلى خادمتها فأرضعته فلا أجر لها . وبه قال أبو ثور . وقال أصحاب الرّأي : لها أجرها . لأنّ رضاعه حصل بفعلها . وعليها أن تقوم بشئون الرّضيع من تنظيفه وغسل ثيابه عند الحنفيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة ، لأنّ المعقود عليه في الإجارة هو الخدمة ، وتستحقّ بالعقد . ويتّفق معهم سائر الفقهاء إن اشترط ذلك في العقد ، أو جرى العرف به ، وإن كان الأصل عند مالك وبعض الشّافعيّة أنّ ذلك على الأب ، لأنّ الحضانة والرّضاعة منفعتان مقصودتان تنفرد إحداهما عن الأخرى ، فلا يلزم من العقد على الإرضاع دخول الحضانة . 118 - ولا يجوز استئجار الظّئر بدون إذن زوجها . وله حقّ فسخ الإجارة إذا لم يعلم بها ، صيانةً لحقّه . وله أن يطلبها عنده لاستيفاء حقّه الشّرعيّ منها . وليس للمستأجر أن يمنعها من ذلك عند الحنفيّة . وإذا حبلت حقّ للمستأجر فسخ الإجارة إن خشي على الصّبيّ من لبنها بعد الحبل . وقال المالكيّة : إنّ للمستأجر أن يمنع الزّوج من وطئها ما دام قد أذن لها في الإرضاع ، لأنّ ضرر الطّفل بسببه محتمل . 119 - ولو مات الصّبيّ المعقود على إرضاعه انفسخ العقد ، لأنّه تعذّر استيفاؤه ، فلا يمكن إقامة غير الصّبيّ المعقود عليه مقامه لاختلاف الصّبية في الرّضاعة . ومن الشّافعيّة من قال : لا ينفسخ ، لأنّ المنفعة باقية ، وإنّما هلك المستوفي ، فلو تراضيا على إرضاع صبيّ آخر جاز . وللظّئر حقّ الفسخ إن مات المستأجر " وليّ الطّفل " وكانت لم تقبض الأجرة منه قبل موته ، ولم يترك له مالاً تستوفي أجرها منه ، ولا مال للولد ، ولم يتطوّع أحد بالأجرة . ويصرّح الحنابلة بأنّ الإجارة تنفسخ بموت المرضعة لفوات المنفعة بهلاك محلّها . وحكي عن أبي بكر أنّها لا تنفسخ ، ويجب في مالها أجر من ترضعه تمام الوقت إن كانت قد عجّلت لها الأجرة ، لأنّه دين في ذمّتها . وصرّح الشّافعيّة بأنّ العقد لا يصحّ حتّى يعرف الصّبيّ الّذي عقد على إرضاعه ، لأنّه يختلف الرّضاع باختلافه ، ولا يعرف ذلك إلاّ بالتّعيين . كما أنّه لا بدّ من ذكر موضع الرّضاع . وزاد الحنابلة التّصريح بمعرفة العوض ومدّة الرّضاعة . كما صرّح به الحنفيّة أيضاً .
إجارة العاملين في الدّولة :
120 - عالج الفقهاء قديماً هذه المسألة واعتبروا بعض الوظائف ممّا تصحّ الإجارة عليه ممّا لا يتّصل بالقربات ، ولا تشترط له النّيّة ، كتنفيذ الحدود ، والكتابة في الدّواوين ، وجباية الأموال ، ونحو ذلك . وهؤلاء يطبّق عليهم أحكام الأجير الخاصّ في أكثر الأقوال وفي أكثر الأحوال . وقالوا : إنّ لوليّ الأمر أن ينهي الإجارة متى رأى المصلحة في ذلك ، وليس لأحد هؤلاء أن يستقيل باختياره . 121 - وهناك وظائف أخرى ، كوظائف الولاة والقضاة ، وكلّ من يقوم بعمل فيه قربة تحتاج إلى نيّة ، فمرتّباتهم من قبيل الأرزاق لا من قبيل الأجرة ، لدفع الحاجة ، وهم غير مقيّدين بوقت . وقد تقدّم رأي الفقهاء في جواز أو عدم جواز الاستئجار على قراءة القرآن وتعليمه والأذان والإمامة وغيرها . هذا حاصل ما أورده الفقهاء في هذه المسألة . .
( المطلب الثّاني
) ثانياً - الأجير المشترك 122 - الأجير المشترك هو الّذي يعمل للمؤجّر ولغيره ، كالبنّاء الّذي يبني لكلّ أحد ، والملاّح الّذي يحمل لكلّ أحد . وهذا ما يؤخذ من تعريفات الفقهاء جميعاً . 123 - ولا خلاف في أنّ الأجير المشترك عقده يقع على العمل ، ولا تصحّ إجارته إلاّ ببيان نوع العمل أوّلاً . ولا يمنع هذا من ذكر المدّة أيضاً . فإن قال للرّاعي : ترعى غنمي مدّة شهر ، كان أجيراً مشتركاً ، إلاّ إذا شرط عليه عدم الرّعي لغيره على ما سيأتي . 124 - ولا مانع من أن يؤجّر المسلم نفسه من ذمّيّ إجارةً مشتركةً ، كأن يكون طبيباً أو خيّاطاً أو معلّماً . فيقدّم عمله لمن يطلبه منه ، لأنّ ذلك لا يخرجه إلى حدّ التّبعيّة والخضوع له ، وليس فيه استذلال . 125 - والأصل أن يكون العمل من الصّانع - الأجير - والعين من صاحب العمل . غير أنّ العرف جرى على أن يقدّم الأجير المشترك الخيط من عنده في الخياطة ، والصّبغ من عنده في الصّباغة ، ممّا يعتبر تابعاً للصّنعة ، ولا يخرجه ذلك من كونه عقد إجارة إلى عقد استصناع . 126 - وقد يتمّ العقد مع الأجير المشترك بالتّعاطي - مع مراعاة خلاف الشّافعيّة السّابق في عقود المعاطاة - كما في الرّكوب في سيّارات النّقل العامّ ، كما يصحّ أن يكون العاقد واحداً ، أو جماعةً كالحكومة والمؤسّسات والشّركات . 127 - ويجب أن تكون المنفعة الّتي يستأجر عليها محدّدةً معلومة القدر . وقد تحدّد بتحديد محلّها ، ويكون للأجير المشترك خيار الرّؤية في كلّ عمل يختلف باختلاف المحلّ كما يرى الحنفيّة والحنابلة ، ويكون له خيار الرّؤية في إجارة الأعيان عموماً عند الشّافعيّة . وقد تحدّد المنفعة بتحديد المدّة وحدها ، كما تحدّد بتحديد العمل ، كإجارة خياطة الثّوب وقد تتحدّد بالعمل والمدّة معاً عند الصّاحبين وهو مذهب المالكيّة إذا تساوى الزّمن والعمل ، ورواية عند الحنابلة ، وقالوا : إنّ المعقود عليه أوّلاً هو العمل وهو المقصود من العقد ، وذكر المدّة لمجرّد التّعجيل . وإن أوفى الشّرط استحقّ الأجر المسمّى وإلاّ استحقّ أجر المثل بشرط ألاّ يتجاوز الأجر المسمّى . وذهب أبو حنيفة والشّافعيّ - وهو رواية أخرى عند الحنابلة - إلى فساد هذا العقد لأنّه يفضي إلى الجهالة والتّعارض ، لأنّ ذكر المدّة يجعله أجيراً خاصّاً ، والعقد على العمل يجعله أجيراً مشتركاً وهما متعارضان ، ويؤدّي ذلك للجهالة . 128 - والإجارة على المعاصي باطلة اتّفاقاً مع الأجير المشترك أيضاً كما سبق بالنّسبة للأجير الخاصّ . وكذلك يسري ما سبق هناك بالنّسبة للإجارة على بعض الطّاعات . وقد صرّح المالكيّة والشّافعيّة بجواز الإجارة على غسل الميّت وحمله . وصرّح الحنابلة بجواز الإجارة على ذبح الأضحيّة والهدي وتفريق الصّدقات وإعطاء الشّاهد ما يستعين به على الوصول إلى مجلس القضاء . ومنع المالكيّة استئجار الجنب والحائض والكافر لكنس المسجد واعتبروه من الإجارة على المعاصي . وفي كتب المذاهب العديد من الصّور . وهي في جملتها ترجع إلى حرمة الاستئجار على المعصية مطلقاً ، سواء أكانت محرّمةً لذاتها أم لغيرها . أمّا من أجاز الاستئجار على الطّاعات فيرى أنّ إباحة مثل هذه العقود للحاجة إليها . 129 - وممّا يتّصل بذلك استئجار المصحف للتّلاوة . فذهب الحنفيّة وهو المذهب عند الحنابلة إلى عدم جواز إجارته إجلالاً لكلام اللّه عن المعاوضة ، وأجاز الشّافعيّة والمالكيّة ذلك وهو وجه عند الحنابلة ذلك لأنّه انتفاع مباح تجوز الإجارة من أجله فجازت فيه الإجارة كسائر الكتب . غير أنّ المالكيّة قالوا : إنّه لا يتّفق مع مكارم الأخلاق .
التزامات الأجير المشترك :
130 - يلتزم الأجير المشترك بإنجاز العمل المتعاقد عليه ، وكلّ ما كان من توابع ذلك العمل لزم الأجير حسب العرف ما لم يشترط غير ذلك . فمن تعاقد مع خيّاط ليخيط له ثوباً فالخيط والإبرة على الخيّاط ، كما هو العرف ، إلاّ إذا كان هناك شرط أو تغيّر العرف . 131 - وإذا شرط المكتري على الأجير أن يعمل بنفسه لزمه ذلك لأنّ العامل تعيّن بالشّرط ، فإن لم يشترط ذلك فله أن يستأجر من يعمله لأنّ المستحقّ عمل في الذّمّة إلاّ إن كان العمل لا يقوم فيه غيره مقامه كالنّسخ لأنّ الغرض لا يحصل من غيره كحصوله منه . وكذا كلّ ما يختلف باختلاف العامل ، مع ملاحظة أنّ الصّانع إذا ما استعان بتلميذه كان عمل التّلميذ - المساعد - مضافاً إلى أستاذه الأجير الّذي تمّ معه التّعاقد . 132 - ولا خلاف في أنّ الأجير يلتزم بتسليم العمل ، فإذا كان العمل في يد المستأجر كأن يستأجر رجلاً ليبني له جداراً أو داراً أو يحفر له قناةً أو بئراً ، فكلّما أتمّ منه قدراً حقّ له أن يطالب بما يقابله من أجر لأنّ التّسليم قد تحقّق . أمّا إذا كان العمل ليس في حوزة ربّ العمل فليس من حقّ الأجير المطالبة بالأجرة قبل الفراغ من العمل وتسليمه للمكتري ، لتوقّف وجوب الأجر على ذلك . فالقصّار والصّبّاغ والنّسّاج ونحوهم ممّن يعملون في حوانيتهم أو دورهم الخاصّة لا يستحقّون الأجر إلاّ بردّ العمل إلاّ إذا اشترط التّعجيل أو عجّل بالفعل .
تضمين الأجير المشترك :
133 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأجير المشترك إذا تلف عنده المتاع بتعدّ أو تفريط جسيم : يضمن . أمّا إذا تلف بغير هذين ففيه تفصيل في المذاهب : فالصّاحبان ( أبو يوسف ومحمّد ) والحنابلة اعتبروا التّلف بفعله سواء كان عن قصد أو غير قصد ، أو بتقصير أو دونه ، موجباً للضّمان ، تابعوا في ذلك عمر وعليّاً ، حفظاً لأموال النّاس . ومثل ذلك إذا كان التّلف بغير فعله . وكان من الممكن دفعه كالسّرقة العاديّة والحريق العاديّ . وإلى هذا ذهب بعض متأخّري المالكيّة . وهو قول للشّافعيّة . ومتقدّمو المالكيّة وزفر ذهبوا إلى عدم التّضمين . وهو قول للشّافعيّة أيضاً . وذهب أبو حنيفة إلى الضّمان إذا كان التّلف بفعله ، أو بفعل تلميذه ، سواء قصد أو لا ، لأنّه مضاف إلى فعله ، وهو لم يؤمر إلاّ بعمل فيه صلاح ، وعمل التّلميذ منسوب إليه ، وإلى عدم الضّمان ، إذا كان بفعل غيره ، وهو القياس . وذهب ابن أبي ليلى إلى تضمين الأجير المشترك مطلقاً في جميع الأحوال . 134 - وإذا وجب الضّمان على الأجير المشترك ، فإن كانت العين هلكت بعد العمل فالمكتري بالخيار : إن شاء ضمّنه قيمته معمولاً ، ويحطّ الأجرة من الضّمان ، وإن شاء ضمّنه قيمته غير معمول ولم يكن عليه أجرة . وإن كان الهلاك الموجب للضّمان حصل قبل العمل ضمن قيمته غير معمول . وهو لم يعمل شيئاً يستحقّ أجراً عليه . وهذا ما اتّجه إليه الجمهور . وكذلك إذا هلكت العين هلاكاً لا يوجب الضّمان فإنّ الأجير المشترك لا يستحقّ أجراً لأنّ الأجر يستحقّ بالتّسليم بعد الفراغ . الوقت المعتبر لتقدير الضّمان :
135 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة في قول عندهم وهو المستفاد من مذهب الحنابلة إلى أنّ العبرة في تقدير الضّمان هو يوم حصول سبب الضّمان ، وهو التّلف أو التّعدّي . أمّا المالكيّة فقالوا : تقدّر قيمتها بيوم تسليمها إلى الأجير المشترك ، لا يوم التّلف ولا يوم الحكم . والقول الآخر للشّافعيّة : أنّ القيمة تعتبر أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التّلف ، كالغاصب . وأمّا إن قيل بعدم الضّمان إلاّ بالتّعدّي فتقدّر القيمة ما كانت من حين التّعدّي إلى حين التّلف لأنّ الضّمان بالتّعدّي . 136 - ولا يجوز لربّ العمل أن يشترط الضّمان على الأجير فيما لا يجب عليه ضمانه ، لأنّ شرط الضّمان في الأمانة باطل ، لمنافاته لمقتضى العقد . وكذا لا يجوز اشتراط نفي الضّمان عن الأجير فيما يجب فيه عليه الضّمان . ويفسد العقد بهذا الاشتراط لمنافاته لمقتضى العقد . وللصّانع أجر المثل ، لا المسمّى ، لأنّه إنّما رضي به لإسقاط الضّمان عنه . هذا ما نصّ عليه الحنفيّة والمالكيّة ، وهو أحد وجهين عند الحنابلة . وعند الحنابلة وجه آخر . فقد سئل أحمد عن اشتراط الضّمان ونفيه ، فقال : المسلمون على شروطهم . قال ابن قدامة : وهذا يدلّ على نفي الضّمان بشرطه ، ووجوبه بشرطه .
التزامات ربّ العمل إزاء الأجير المشترك :
137 - يلزم الآجر أن يسلّم العين المراد إجراء العمل عليها للأجير في الوقت المشروط الملفوظ أو الملحوظ ، إذ لا يتحقّق التّمكين إلاّ بذلك . وفي تسليم التّوابع يعتبر العرف ما لم يكن هنا شرط ، على ما ذكر عند الكلام عن التزامات الأجير المشترك . 138 - ويلتزم المستأجر بدفع الأجرة للأجير المشترك بعد انقضاء العمل وتسلّمه ، ما لم يكن بينهما شرط بالتّعجيل أو بالتّأجيل ، وما لم يكن العمل المأجور فيه ممّا ليس له أثر في العين ، كالحمّال والسّمسار ونحوهما ، إذ لا يتوقّف الأجر فيها على التّسليم ، فلو هلك المحمول عن رأس الحمّال قبل تسليمه ، أو هلك الشّيء الّذي طلب من السّمسار بيعه أو شراؤه ، استحقّ أجرةً بما عمل . أمّا ما كان للعمل أثر فيه ، كالثّوب المطلوب صبغه ، فإنّه لا أجر له إلاّ بعد الفراغ من العمل وتسليمه ، ما لم يكن هناك شرط مخالف ، فلو هلك الثّوب قبل التّسليم سقط الأجر . هذا بالنّسبة لما كان يعمله بعيداً عن المستأجر . أمّا إن كان الأجير يعمل في بيت المستأجر أو تحت يده ، فقيل إنّه يستحقّ الأجر بحساب ما عمل . وقيل : لا يستحقّه إلاّ بعد الفراغ من العمل ، على ما سبق في بحث الأجرة . وتنقضي إجارة الأجير المشترك بإتمام العمل وتسليمه ، كما تنقضي بهلاك العين محلّ العمل ، إلى غير ذلك من الأسباب الّتي ذكرناها قبل في انقضاء الإجارة بوجه عامّ وما فيها من تفصيل .
أنواع من الأجير المشترك : إجارة الحجّام والطّبيب وتضمينهما :
139 - الحجامة جائزة اتّفاقاً . وفي أخذ الأجرة عليها ثلاثة اتّجاهات لتعارض الآثار : فقال البعض : إنّه مباح عند الجمهور ، « لأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجّام أجراً » . فقد روى البخاريّ بسنده عن ابن عبّاس قال : « احتجم النّبيّ وأعطى الحجّام أجره » ولو كان ذلك غير مشروع لما أقدم عليه الرّسول صلى الله عليه وسلم . وذهب البعض إلى كراهة ذلك ، لما روي مسنداً إلى رافع بن خديج من أنّ الرّسول عليه الصلاة والسلام قال : « كسب الحجّام خبيث » ، ويردّ عليه بأنّه منسوخ بما روي « أنّه عليه الصلاة والسلام قال له رجل : إنّ لي عيالاً وغلاماً حجّاماً ، أفأطعم عيالي من كسبه ؟ قال : نعم » وقال الأتقانيّ : إنّ حديث النّهي محمول على الكراهة من طريق المروءة . الاتّجاه الثّالث : أنّه حرام ، لما روي عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه قال : « من السّحت كسب الحجّام » وبعد أن عرضت كتب الفقه أدلّة كلّ اتّجاه ، وناقشتها بما ينتج عدم التّحريم ، قال ابن قدامة : ليس في المسألة قول بالتّحريم ، وإنّما يكره للحرّ أكل كسب الحجّام . ويكره تعلّم صناعة الحجامة وإجارة نفسه لها ، لما فيها من دناءة . قال ابن عابدين : وإن شرط الحجّام شيئاً على الحجامة كره .
140 - وإذا ما استأجر شخص حجّاماً ، ثمّ بدا له ألاّ يفعل ، فله حقّ الفسخ لأنّ فيه استهلاك مال أو غرماً أو ضرراً .
ضمان الحجّام :
141 - لا ضمان على الحجّام إلاّ إذا جاوز المعتاد . فإن لم يجاوزه فلا ضمان عليه ، لأنّ ضرر الحجامة ينبني على قوّة الطّبع وضعفه ولا يعرف الحجّام ذلك بنفسه ، وهو ما يتحمّل المحجوم من الجرح ، فلا يمكن اعتبار السّلامة ، فيسقط الضّمان . وفي المغني : لا ضمان على حجّام ولا ختّان ولا طبيب إذا توافر أنّهم ذوو حذق في صناعتهم وألاّ يتجاوزوا ما ينبغي عمله . فإن تحقّق هذان الشّرطان فلا ضمان ، لأنّ فعلهم مأذون فيه . أمّا إن كان الحجّام ونحوه حاذقاً وتجاوز ، أو لم يكن حاذقاً ، ضمن ، لأنّه إتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ ، فأشبه إتلاف المال ، ولأنّه فعل محرّم فيضمن سرايته . وهذا مذهب الشّافعيّ وأصحاب الرّأي . ولا نعلم فيه خلافاً . 142 - واستئجار الحجّام لغير الحجامة كالفصد وحلق الشّعر وتقصيره والختان وقطع شيء من الجسد للحاجة إليه ، جائز بغير خلاف ، لأنّ هذه الأمور تدعو الحاجة إليها ، ولا تحرم فيها ، فجازت الإجازة فيها وأخذ الأجر عليها . 143 - واستئجار الطّبيب للعلاج جائز ، وأخذه أجراً على ذلك مباح ، بشرط أن يكون خطؤه نادراً كما يصرّح الشّافعيّة . فإن لم يكن كذلك لم يصحّ العقد ، ويضمن . وقالوا : إذا استأجره للمداواة في مدّة معيّنة لم يجز ، لأنّه جمع بين العمل والزّمن . وفي قول آخر لهم ، وهو ما أخذ به الحنابلة : يقدّر الاستئجار للمداواة بالمدّة دون البرء ، إذ البرء غير معلوم . فإن داواه المدّة ولم يبرأ استحقّ الأجر ، لأنّه وفّى العمل . وإن برئ في أثنائها ، أو مات ، انفسخت الإجارة فيما بقي ، ويستحقّ من الأجر بالقسط . وعند الإمام مالك أنّه لا يستحقّ أجراً حتّى يبرأ . ولم يحك ذلك أصحابه . 144 - وإن امتنع المريض من العلاج مع بقاء المرض استحقّ الطّبيب الأجر ما دام قد سلّم نفسه ومضى زمن المعالجة ، لأنّ الإجارة عقد لازم ، وقد بذل الأجير ما عليه . ويملك الطّبيب الأجرة ما دام قد قام بالمعتاد . 145 - ولا تجوز مشارطة الطّبيب على البرء . ونقل ابن قدامة عن ابن أبي موسى الجواز ، وقال : إنّه الصّحيح ، لكن يكون جعالةً لا إجارةً ، إذ الإجارة لا بدّ فيها من مدّة أو عمل معلوم . وقال : إنّ أبا سعيد حين رقى الرّجل شارطه على البرء . وقد أجاز ذلك مالك ، ففي الشّرح الصّغير . لو شارطه طبيب على البرء فلا يستحقّ الأجر إلاّ بحصوله . ولا ضمان على الطّبيب إلاّ بالتّفريط ما دام من أهل المعرفة ولم يخطئ ، وإلاّ ضمن . 146 - وإذا زال الألم ، وشفي المريض قبل مباشرة الطّبيب ، كان عذراً تنفسخ به الإجارة . يقول ابن عابدين : وإذا سكن الضّرس الّذي استؤجر الطّبيب لخلعه فهذا عذر تنفسخ به الإجارة . ولم يخالف في ذلك أحد حتّى من لم يعتبروا العذر موجباً للفسخ ، فقد نصّ كلّ من الشّافعيّة والحنابلة على أنّ من استأجر رجلاً ليقلع له ضرساً ، فسكن الوجع ، أو ليكحّل له عيناً ، فبرئت انفسخ العقد لتعذّر استيفاء المعقود عليه .
 
أعلى