الإجارة على حفر الآبار :
147 - المعقود عليه هنا فيه نوع جهالة ، لأنّ الأجير لا يعلم ما يصادفه أثناء الحفر . ولهذا فإنّ جمهور الفقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة يشترطون لصحّة العقد معرفة الأرض الّتي يقع فيها الحفر ، لأنّ الحفر يختلف باختلافها ، ومعرفة مساحة القدر المطلوب حفره طولاً وعرضاً وعمقاً . وأجازوا تقدير الإجارة على الحفر بالمدّة أو بالعمل . والحنفيّة يقولون : إنّ القياس يقتضي بيان الموضع وطول البئر وعمقه ، إلاّ أنّهم قالوا : إن لم يبيّن جاز استحساناً ، لجريان العرف بذلك ، ويؤخذ بوسط ما يعمل النّاس . 148 - وإن بيّن له موضع الحفر ، وحدّد له المقدار المطلوب حفره ، فوجد الأجير بعد الشّروع في العمل أنّ الأرض صلبة وتحتاج إلى مئونة أشدّ عملاً وآلات خاصّة ، فإنّه لا يجبر عليه ، ويحقّ له فسخ العقد ويستحقّ أجراً بمقدار ما حفر . وتقدير ذلك يرجع فيه إلى أهل الخبرة . ولو حفر البئر في ملكه ، فظهر الماء قبل أن يبلغ المنتهى الّذي شرط عليه ، فإن أمكنه الحفر في الماء بالآلة الّتي يحفر بها الآبار أجبر على الحفر ، وإن احتيج إلى اتّخاذ آلة أخرى لا يجبر . 149 - كما نصّوا على أنّه لو حفر بعض البئر ، وأراد أن يأخذ حصّتها من الأجر ، فإن كان في ملك المستأجر فله ذلك . وكلّما حفر شيئاً صار مسلّماً إلى المستأجر ، حتّى إذا انهارت البئر فأدخل السّير أو الرّيح فيها التّراب حتّى سوّاها مع الأرض لا يسقط شيء من أجرته . وإن كان في ملك غيره ليس للأجير أن يطالبه بالأجرة ما لم يفرغ من الحفر ، ويسلّمها إليه ، حتّى لو انهارت ، فامتلأت قبل التّسليم ، لا يستحقّ الأجر . وقالوا : إذا استأجر حفّاراً ليحفر له حوضاً عشرةً في عشرة بعشرة دراهم فحفر خمسةً في خمسة استحقّ من الأجر بنسبة ما حفر ، مع ملاحظة أخذ المتوسّط بين قيمة الحفر في الجزء الأعلى والجزء الأسفل . وإن شرط عليه كلّ ذراع في طين أو أرض سهلة بدرهم ، وكلّ ذراع في حجر بدرهمين ، وكلّ ذراع في ماء بثلاثة ، وبيّن مقدار طول البئر ومحيطه جاز . وإذا حفر بعض البئر ، ومات ، قوّم الحفر ، وأخذ ورثته بنسبته من الأجر ، على ما سبق . ويلاحظ أنّ هذه الأحكام مبنيّة على أعراف كانت قائمةً .
إجارة الرّاعي :
150 - الرّاعي إمّا أن يكون أجيراً مشتركاً أو أجيراً خاصّاً ، فتجرى على كلّ منهما الأحكام السّابقة ، إلاّ أنّ هنا ما يستحقّ الإفراد بالذّكر :
1 - إذا عيّن عدد الماشية الّتي يرعاها فليس الرّاعي ملزماً بما يزيده الآجر عمّا اتّفق عليه ، ولكن إذا كانت الزّيادة بطريق الولادة فالقياس أنّه غير ملزم برعيها أيضاً ، ولكنّ الحنفيّة قالوا بلزوم رعيها ، استحساناً ، لأنّها تبع ، ولجريان العرف بذلك . وإلى هذا ذهب بعض الشّافعيّة وبعض الحنابلة ، والظّاهر عندهم أنّه غير ملزم .
2 - إذا خاف الرّاعي الموت على شاة - مثلاً - وغلب على ظنّه أنّها تموت إن لم يذبحها ، فذبحها ، فلا يضمن استحساناً ، وإذا اختلف فالقول قول الرّاعي .
تعليم العلوم والحرف والصّناعات :
151 - نبيّن هنا أنّه لا خلاف في جواز الاستئجار على تعليم العلوم سوى العلوم الدّينيّة البحتة ، حتّى ولو كانت وسيلةً ومقدّمةً للعلوم الشّرعيّة ، كالنّحو والبلاغة وأصول الفقه . ومثل ذلك يقال في الحرف والصّنائع . وإذا كان العقد على مدّة معلومة استحقّ الأجر عن هذه المدّة ، وصحّت الإجارة ، اتّفاقاً . أمّا إذا اشترط في عقد الإجارة على التّعلّم والحذق فالقياس ألاّ تصحّ الإجارة ، لأنّ المعقود عليه مجهول ، لتفاوت الأفراد في الذّكاء والبلادة . وذهب جمهور الفقهاء إلى جواز ذلك استحساناً إذا عاين المعلّم المتعلّم . وقال الحنفيّة : إنّ الإجارة فاسدة ، فإن عمل استحقّ أجر المثل كأيّة إجارة فاسدة .
إجارة وسائل النّقل الحديثة :
152 - لم يتعرّض الفقهاء الأقدمون لبيان أحكام استئجار وسائل النّقل الحديثة من سيّارات وطائرات وسفن كبيرة ، وإنّما تعرّضوا لاستئجار الدّوابّ والأشخاص والسّفن الصّغيرة . وممّا تقدّم يتبيّن أنّ أحكام استئجار الدّوابّ والسّفن الصّغيرة والأشخاص ترجع كلّها إلى الأحوال الآتية : إجارة مشتركة ، أو إجارة خاصّة ، أو إجارة في الذّمّة ، أو إجارة عين موصوفة ، أو إجارة على العمل ، سواء كانت مع المدّة أو بدونها . وقد بيّن الفقهاء كلّ هذه الأحكام على ما تقدّم . ويمكن تطبيقها على وسائل النّقل الحديثة ، لأنّها لا تخرج عن هذه الأحوال الّتي ذكرناها . وإذا كان هناك اختلاف في بعض الأحوال ، كاختلافهم في تعيّن الرّاكب ، فإنّ هذا يرجع فيه إلى العرف . فلا فرق بين شخص وآخر في استئجار سيّارة أو طائرة ، بخلاف الدّابّة ، فإنّها تتأثّر بالأشخاص ضخامةً ونحافةً - وأمّا ما يصحبه الرّاكب من المتاع فرجع ذلك إلى الشّرط . فإن لم يكن فالحكم العرف . وأمّا استحقاق الأجرة ، سواء على نقل الأشخاص أو الأمتعة ، فالمرجع أيضاً إلى الشّرط . وإلاّ فالعرف . وكلّ أحكام الضّمان سواء بالنّسبة للأجير المشترك أو الخاصّ ، أو بالنّسبة لاستئجار عين من الأعيان كالسّفينة ، فإنّ ما سبق ذكره يطبّق عليها .
الاستحقاق في الإجارة :
153 - اختلف الفقهاء في أثر استحقاق العين المؤجّرة ، فمنهم من يرى بطلان الإجارة ومنهم من يرى توقّفها على إجازة المستحقّ كما اختلفوا فيمن يستحقّ الأجرة على خلاف . وتفصيل ينظر بحث ( استحقاق ) .
إجازة
التّعريف
1 - الإجازة في اللّغة الإنفاذ ، يقال : أجاز الشّيء إذا أنفذه . ولا يخرج استعمال الفقهاء للإجازة عن هذا المعنى اللّغويّ . هذا وقد يطلق الفقهاء " الإجازة " بمعنى الإعطاء ، كما يطلقونه على الإذن بالإفتاء أو التّدريس . ويطلق المحدّثون وغيرهم " الإجازة " بمعنى الإذن بالرّواية ، سواء أكانت رواية حديث أم رواية كتاب . وتفصيل ذلك يأتي في آخر البحث ، والإجازة بمعنى الإنفاذ لا تكون إلاّ لاحقةً للتّصرّف ، بخلاف الإذن فلا يكون إلاّ سابقاً عليه . وعلى هذا فنقسّم البحث على هذه الأنواع الأربعة : أوّلاً : الإجازة بمعنى الإنفاذ أركانها :
2 - كلّ إجازة لا بدّ من أن تتوفّر فيها الأمور التّالية : أ - المجاز تصرّفه : وهو من تولّى التّصرّف بلا ولاية كالفضوليّ .
ب - المجيز : وهو من يملك التّصرّف سواء أكان أصيلاً أم وكيلاً أم وليّاً أم وصيّاً أم قيّماً أم ناظر وقف .
ج - المجاز : وهو التّصرّف .
د - الصّيغة : صيغة الإجازة أو ما يقوم مقامها . وقد اصطلح جمهور الفقهاء على أنّ هذه الأمور كلّها أركان والحنفيّة يقصرون إطلاق لفظ الرّكن على الصّيغة أو ما يقوم مقامها . أ - ( المجاز تصرّفه ) :
3 - يشترط في المجاز تصرّفه ما يلي :
1 - أن يكون ممّن ينعقد به التّصرّف كالبالغ العاقل والصّغير المميّز في بعض تصرّفاته . أمّا إذا كان المباشر غير أهل لعقد التّصرّف أصلاً كالمجنون والصّغير غير المميّز فإنّ التّصرّف يقع باطلاً غير قابل للإجازة . بقاء المجاز تصرّفه حيّاً لحين الإجازة :
4 - لكي تكون الإجازة صحيحةً ومعتبرةً عند الحنفيّة فلا بدّ من صدورها حال حياة المباشر ، إن كانت طبيعة التّصرّف ممّا ترجع حقوقه إلى المباشر فيما لو حجبت عنه الإجازة ، كالشّراء والاستئجار أمّا التّصرّفات الّتي يعتبر فيها المباشر سفيراً ومعبّراً ، ولا تعود حقوق التّصرّف إليه بحال من الأحوال ، كالنّكاح فلا تشترط فيه حياة المباشر وقت الإجازة ، كما لو زوّج فضوليّ رجلاً بامرأة ، ثمّ مات الفضوليّ ، ثمّ أجاز الرّجل اعتبرت الإجازة صحيحةً ، لأنّ الوكيل في هذا العقد ما هو إلاّ سفير ومعبّر ، ولا يعود إليه شيء من حقوق هذا العقد حين إخلاله بالشّروط الّتي اشترطها عليه الموكّل . هذا صريح مذهب الحنفيّة وهو المفهوم من بعض الفروع في مذهب الشّافعيّة ، فقد قالوا : لو باع مال مورّثه على ظنّ أنّه حيّ وأنّه فضوليّ فبان ميّتاً حينئذ وأنّه ملك العاقد فقولان ، وقيل وجهان مشهوران ، أصحّهما : أنّ العقد صحيح لصدوره من مالك ، والثّاني : البطلان لأنّه في معنى المعلّق بموته ، ولأنّه كالغائب . والظّاهر أنّ الوجه الأوّل هنا مبنيّ على القول بجواز تصرّف الفضوليّ ، فإنّ تصرّفه كان على ظنّ أنّه فضوليّ ، وإجازته بعد تحقّق وفاة مورّثه على أنّه مالك فله اعتباران : كونه فضوليّاً وكونه مالكاً وهو حيّ في كلتا الحالتين . وأمّا على القول بالبطلان ، وهو المعتمد عندهم ، فلا تنافي . هذا ولم نعثر على هذا الشّرط عند المالكيّة والحنابلة .
ب - ( المجيز ) :
5 - من له الإجازة ( المجيز ) إمّا أن يكون واحداً ، أو أكثر ، فإن كان واحداً فظاهر ، وإن كان أكثر فلا بدّ من اتّفاق جميع من لهم الإجازة عليها حتّى تلحق التّصرّف إذا كان لكلّ واحد منهم حقّ الإجازة كاملاً فإن اختلفوا فأجازه البعض ، وردّه البعض قدّم الرّدّ على الإجازة ، كما لو جعل خيار الشّرط إلى شخصين فأجاز البيع أحدهما وامتنع عن الإجازة الآخر ، لم تلحق الإجازة التّصرّف . أمّا إن كانت الإجازة قابلةً للتّجزئة كما إذا تصرّف فضوليّ في مال مشترك ، فالإجازة تنفذ في حقّ المجيز دون شركائه .
6 - ويشترط في المجيز لكي تصحّ إجازته أن يكون أهلاً لمباشرة التّصرّف وقت الإجازة فإن كان التّصرّف هبةً وجب أن تتوفّر فيه أهليّة التّبرّع ، وإن كان بيعاً وجب أن تتوفّر فيه أهليّة التّعاقد وهكذا لأنّ الإجازة لها حكم الإنشاء ، فيجب فيها من الشّروط ما يجب في الإنشاء .
7 - ويشترط الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في قول عندهم والشّافعيّة في التّصرّفات الّتي تتوقّف على الإجازة كخيار الشّرط لأجنبيّ عن العقد أن يكون المجيز موجوداً حال وقوع التّصرّف ، لأنّ كلّ تصرّف يقع ولا مجيز له حين وقوعه يقع باطلاً ، والباطل لا تلحقه الإجازة . فإذا باع الصّغير المميّز ثمّ بلغ قبل إجازة الوليّ تصرّفه ، فأجاز تصرّفه بنفسه جاز ، لأنّ له وليّاً يجيزه حال العقد ، وإذا زوّج فضوليّ إنساناً ثمّ وكّل هذا الشّخص الفضوليّ في تزويجه قبل أن يجيز التّصرّف ، فأجاز الفضوليّ بعد الوكالة تصرّفه السّابق للوكالة جاز هذا عند كلّ من الحنفيّة والمالكيّة . بخلاف ما إذا طلّق وهو صغير ، ثمّ بلغ فأجاز طلاقه بنفسه ، لم يجز لأنّ طلاق الصّغير ليس له مجيز وقت وقوعه ، إذ ليس للوليّ أن يطلّق زوجة الصّغير ، ولا أن يتصرّف تصرّفاً مضرّاً ضرراً محضاً بالصّغير - مميّزاً أو غير مميّز - هذا عند الجمهور ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وقول لأحمد ) والمعتمد عند الحنابلة وقوع طلاق الصّبيّ المميّز الّذي يعقل الطّلاق وما يترتّب عليه .
8 - ويشترط الشّافعيّة أن يكون من تولّى الإجازة مالكاً للتّصرّف عند العقد ، فلو باع الفضوليّ مال الطّفل ، فبلغ الطّفل ، فأجاز ذلك البيع ، لم ينفذ لأنّ الطّفل لم يكن يملك البيع عند العقد . وهذا بناءً على القول عندهم بجواز تصرّفات الفضوليّ .
9 - كما يشترط في المجيز أن يكون عالماً ببقاء محلّ التّصرّف . أمّا علمه بالتّصرّف الّذي أجازه فظاهر ، وأمّا علمه ببقاء محلّ التّصرّف فقد قال في الهداية : ولو أجاز المالك في حياته وهو لا يعلم حال المبيع جاز البيع في قول أبي يوسف أوّلاً ، وهو قول محمّد لأنّ الأصل بقاؤه ثمّ رجع أبو يوسف فقال : لا يصحّ حتّى يعلم قيامه عند الإجازة ، لأنّ الشّكّ وقع في شرط الإجازة . فلا يثبت مع الشّكّ وهو ما ذهب إليه المالكيّة أيضاً . ولم نقف على نصّ في هذا عند الشّافعيّة والحنابلة لأنّ المعتمد عندهم عدم جواز تصرّفات الفضوليّ ولهذا لم يتوسّعوا في التّفريع .
ج - التّصرّف المجاز ( محلّ الإجازة ) محلّ الإجازة إمّا أن يكون قولاً أو فعلاً إجازة الأقوال :
10 - الإجازة تلحق التّصرّفات القوليّة ، وعندئذ يشترط في تلك التّصرّفات : أوّلاً : أن يكون قد وقع صحيحاً ، فالعقد غير الصّحيح لا تلحقه الإجازة كبيع الميتة ، فبيع الميتة غير منعقد أصلاً ، فهو غير موجود إلاّ من حيث الصّورة فحسب ، والإجازة لا تلحق المعدوم بالبداهة . ويبطل العقد الموقوف وغير اللاّزم بردّ من له الإجازة ، فإذا ردّه فقد بطل ، ولا تلحقه الإجازة بعد ذلك . ثانياً : أن يكون التّصرّف صحيحاً غير نافذ - أي موقوفاً - كهبة المريض مرض الموت فيما زاد على الثّلث وكتصرّف الفضوليّ عند من يرى جوازه ، وكالعقود غير اللاّزمة كالّتي تنعقد مع الخيار . ثالثاً : أن يكون المعقود عليه قائماً وقت الإجازة ، فإن فات المعقود عليه فإنّ العقد لا تلحقه الإجازة ، لأنّ الإجازة تصرّف في العقد ، فلا بدّ من قيام العقد بقيام العاقدين والمعقود عليه . إجازة العقود الواردة على محلّ واحد :
11 - إذا وردت الإجازة على أكثر من عقد واحد على محلّ واحد ، لحقت أحقّ هذه العقود بالإمضاء . وقد صنّف الحنفيّة العقود والتّصرّفات بحسب أحقّيّتها كما يلي : الكتابة والتّدبير والعتق ، ثمّ البيع ، ثمّ النّكاح ، ثمّ الهبة ، ثمّ الإجارة ، ثمّ الرّهن . فإذا باع فضوليّ أمة رجل ، وزوّجها فضوليّ آخر ، أو آجرها أو رهنها ، فأجاز المالك تصرّف الفضوليّين معاً ، جاز البيع وبطل غيره ، لأنّ البيع أحقّ من بقيّة التّصرّفات ، فلحقت به الإجازة دون غيره ولم نجد هذا عند غيرهم . إجازة الأفعال : الأفعال إمّا أن تكون أفعال إيجاد أو إتلاف .
12 - وفي أفعال الإيجاد اتّجاهان : الأوّل : أنّ الإجازة لا تلحقها ، وهو ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة . الثّاني : أنّ الإجازة تلحقها ، وهو ما ذهب إليه الإمام محمّد بن الحسن وهو الرّاجح عند الحنفيّة . وبناءً على ذلك فإنّ الغاصب إذا أعطى المغصوب لأجنبيّ بأيّ تصرّف فأجاز المالك ذلك ، فقد ذهب أبو حنيفة إلى عدم براءة الغاصب وأنّه لا يزال ضامناً إذ الأصل عنده أنّ الإجازة لا تلحق الأفعال . والمفهوم من بعض فروع المالكيّة والشّافعيّة ورواية عن أحمد أنّهم يذهبون مذهب أبي حنيفة . وعلّل المالكيّة ذلك بأنّ الرّضا بتصرّف الغاصب لا يجعل يده يد أمانة . وعلّل الشّافعيّ والحنابلة لهذه الرّواية بأنّ تصرّفات الغاصب في العين المغصوبة حرام ، ولا يملك أحد إجازة تصرّف حرام . وذهب الإمام محمّد بن الحسن إلى أنّ إجازة المالك لتصرّف الغاصب صحيحة وتبرّئ ذمّته وتسقط عنه الضّمان والقاعدة عنده أنّ الإجازة تلحق الأفعال . وهو الرّواية الأخرى عند الحنابلة ، واختلف علماؤهم في تخريج هذه الرّواية عن أحمد .
13 - واتّفقت كلمة الحنفيّة على أنّ الإجازة لا تلحق أفعال الإتلاف ، فليس للوليّ أن يهب من مال الصّغير ، لأنّ الهبة إتلاف ، فإن فعل ذلك كان ضامناً ، فإن بلغ الصّبيّ وأجاز هبته ، لم تجز ، لأنّ الإجازة لا تلحق أفعال الإتلاف . وهذا هو ما يفهم من كلام المالكيّة والشّافعيّة . وأمّا الحنابلة فقد فرّقوا بين ما إذا كان الوليّ أباً أو غير أب فإن كان أباً فلا يعتبر متعدّياً لأنّ له حقّ تملّك مال ولده ، لحديث : « أنت ومالك لأبيك » وإن كان الوليّ غير أب فهم مع الجمهور . أمّا دليل عدم نفاذ الإجازة فلأنّ تصرّفات الوليّ منوطة بمصلحته والتّبرّعات إتلاف فتقع باطلةً فلا تلحقها الإجازة .
14 - وقد وقع خلاف في اللّقطة إذا تصدّق بها الملتقط فالمالكيّة والحنابلة قالوا : إذا عرّفها سنةً ولم يأت مالكها تملّكها الملتقط وعلى هذا فلو تصدّق بها بعد المدّة المذكورة فلا ضمان عليه لأنّه تصدّق بخالص ماله . ومفهوم كلامهم أنّه لو تصدّق بها قبل هذه المدّة أو لم يعرّفها يكون ضامناً إن لم يجز المالك التّصدّق . وسندهم في ذلك حديث زيد بن خالد أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال في شأن اللّقطة : « فإن لم تعرف فاستنفقها » وفي لفظ : « وإلاّ فهي كسبيل مالك » ، وفي لفظ : « ثمّ كلها » ، وفي لفظ : « فانتفع بها » . أمّا الحنفيّة فقالوا : إذا تصدّق الملتقط باللّقطة ، ثمّ جاء صاحبها فأجاز صدقة الملتقط طلباً لثواب اللّه تعالى ، جاز بالاتّفاق . قال عمر بن الخطّاب لمن أتاه مستفسراً عمّا يتصرّف به في اللّقطة الّتي في يده : ألا أخبرك بخير سبيلها ؟ تصدّق بها ، فإن جاء صاحبها فاختار المال غرمت له وكان الأجر لك ، وإن اختار الأجر كان له ، ولك ما نويت ومفهوم مذهب الشّافعيّة أنّ الملتقط إذا تصرّف أيّ تصرّف فيها يكون متعدّياً ويعتبر ضامناً . وتفصيل ذلك في مصطلح « لقطة » . صيغة الإجازة : من استقراء كلام الفقهاء نجد أنّ الإجازة تتحقّق بطرائق متعدّدة . وهي خمسة في الجملة : ( الطّريقة الأولى ) : القول 15 - الأصل في الإجازة أن تكون بالقول المعبّر عنها بنحو قول المجيز : أجزت ، وأنفذت ، وأمضيت ، ورضيت ، ونحو ذلك . وإذا وقعت الإجازة بلفظ يمكن أن يعبّر به عنها كما يمكن أن يعبّر به عن غيرها ، فالاحتكام في ذلك إلى قرائن الأحوال . فإن انعدمت قرائن الأحوال حمل الكلام على حقيقته . وتقوم الكتابة أو الإشارة المفهمة مقام القول عند العجز على تفصيل موضعه الصّيغة في العقد .
( الطّريقة الثّانية )
الفعل
16 - فكلّ ما يصحّ أن يكون قبولاً من الأفعال في العقود ، يصحّ أن يكون إجازةً .
( الطّريقة الثّالثة )
17 - مضيّ المدّة في التّصرّفات الموقوتة : كمضيّ مدّة الخيار في خيار الشّرط ( ر : خيار الشّرط ) .
( الطّريقة الرّابعة )
18 - القرائن القويّة : كتبسّم البكر البالغة ، وضحكها ضحك سرور وابتهاج ، وسكوتها وقبضها مهرها ، عند إعلام وليّها إيّاها أنّه زوّجها من فلان ، فإنّها قرينة قويّة على إجازتها ، بخلاف بكائها بصوت مرتفع وولولتها ، فهي قرينة على الرّفض . ومن القرائن القويّة السّكوت في موطن الحاجة إلى الإبطال ، كسكوت صاحب الحاجة عند رؤية حاجته يبيعها صغيره المميّز في السّوق وغيرها .
( الطّريقة الخامسة ) :
19 - زوال حالة أوجبت عدم نفاذ التّصرّف ، كما هو الحال في تصرّفات الرّجل المرتدّ عن الإسلام من معاوضات ماليّة كالبيع والإجارة ، أو تبرّعات كالهبة والوصيّة والوقف ، فإنّ الإمام أبا حنيفة يعتبر سائر عقود المرتدّ وتصرّفاته الماليّة موقوفةً غير نافذة ، فإن زالت حالة الرّدّة بعودته للإسلام نفذت تلك التّصرّفات الموقوفة ، وإن مات ، أو قتل ، أو التحق بدار الحرب وقضى القاضي باعتباره ملتحقاً بها بطلت تلك العقود والتّصرّفات .
20 - وهذه الطّرق الخمسة هي صريح مذهب الحنفيّة والمفهوم من مذهب المالكيّة عند كلامهم عن صيغة عقد البيع . أمّا الشّافعيّة فالأصل عندهم في التّصرّفات القوليّة العبارة . وهذا هو المعتمد في المذهب الجديد . وفي المذهب القديم جواز الاعتماد على المعاطاة وما في معناها ، وهو اختيار النّوويّ وجماعة ، سواء أكان في النّفيس أم الخسيس واختار بعضهم جواز ذلك في الخسيس فقط . وعليه فتكون الإجازة عندهم على المعتمد بالعبارة دون غيرها . وأمّا الحنابلة فالمأخوذ من فروعهم جواز ذلك في الجملة . وللفقهاء في تصرّفات المرتدّ وكونها موقوفةً أو نافذةً تفصيل حاصله أنّها موقوفة عند أبي حنيفة ومالك والحنابلة ورأي عند الشّافعيّة فإن عاد إلى الإسلام نفذت تصرّفاته بإجازة الشّارع . والصّاحبان من الحنفيّة والشّافعيّة في رأي عندهم أنّ تصرّفاته نافذة . ومبنى هذا الخلاف أنّ من قال بنفاذ تصرّفاته قال : إنّه أهل للتّصرّف وقد تصرّف في ملكه ولم يوجد سبب مزيل للملك وأنّ كلّ ما يستحقّه هو القتل . أمّا الوجه الآخر فإنّهم يرون أنّه بالرّدّة صار مهدر الدّم وماله تبع له ، ويتريّث حتّى يستبين أمره .
( آثار الإجازة ) :
21 - الإجازة يظهر أثرها من حين إنشاء التّصرّف . ولذا اشتهر من أقوال الفقهاء الإجازة اللاّحقة كالإذن السّابق . ويبنى على ذلك كثير من التّطبيقات العمليّة عندهم نذكر منها :
1 - أنّ المجيز يطالب المباشر بالثّمن بعد الإجازة إن كان التّصرّف بيعاً ، ولا يطالب المشتري لأنّ المباشر - وهو الفضوليّ - قد صار بالإجازة وكيلاً .
2 - إذا باع الفضوليّ ملك غيره ثمّ أجاز المالك البيع يثبت البيع والحطّ سواء علم المالك الحطّ أو لم يعلم إلاّ أنّه بالحطّ بعد الإجازة يثبت له الخيار .
3 - إذا تعدّدت التّصرّفات وأجاز المالك أحدها أجاز العقد الّذي أجازه خاصّةً ، فلو باع الغاصب العين المغصوبة ثمّ باعها المشتري أو أجّرها أو رهنها وتداولتها الأيدي فأجاز مالكها أحد هذه العقود جاز العقد الّذي أجازه خاصّةً لتوقّف كلّها على الإجازة فإذا أجاز عقداً منها جاز ذلك خاصّةً ولم نعثر لغير الحنفيّة على ما يتعلّق بهذا .
( رفض الإجازة ) :
22 - يحقّ لمن له الإجازة أن يردّ التّصرّف المتوقّف عليها ، وإذا ردّه فليس له أن يجيزه بعد ذلك لأنّه بالرّدّ أصبح التّصرّف باطلاً . الرّجوع عن الإجازة :
23 - إذا أجاز من له الإجازة التّصرّف ، فليس له أن يرجع عن الإجازة بعد ذلك ، فمن سمع أنّ فضوليّاً باع ملكه فأجاز ولم يعلم مقدار الثّمن ، فلمّا علم ردّ البيع ، فالبيع قد لزم ، ولا عبرة لردّه لصيرورة البائع المباشر للبيع - وهو الفضوليّ هنا - كالوكيل .
ثانياً : الإجازة بمعنى الإعطاء 24 - الإجازة بمعنى الإعطاء . وهي بمعنى العطيّة من حاكم أو ذي شأن كمكافأة على عمل وبيان ذلك في مصطلح هبة .
ثالثاً : الإجازة بمعنى الإذن بالإفتاء أو التّدريس 25 - أمّا الإجازة بمعنى الإفتاء أو التّدريس فلا يحلّ إجازة أحد للإفتاء أو تدريس العلوم الدّينيّة إلاّ أن يكون عالماً بالكتاب والسّنّة والآثار ووجوه الفقه واجتهاد الرّأي عدلاً موثوقاً به .
رابعاً : الإجازة بمعنى الإذن في الرّواية 26 - اختلف العلماء في حكم رواية الحديث بالإجازة والعمل به فذهب جماعة إلى المنع وهو إحدى الرّوايتين عن الشّافعيّ ، وحكي ذلك عن أبي طاهر الدّبّاس من أئمّة الحنفيّة ولكنّ الّذي استقرّ عليه العمل وقال به جماهير أهل العلم من أهل الحديث وغيرهم القول بتجويز الإجازة وإباحة الرّواية بها ، ووجوب العمل بالمرويّ بها .
27 - وتستحسن الإجازة برواية الحديث إذا كان المجيز عالماً بما يجيز ، والمجاز له من أهل العلم ، لأنّها توسّع وترخيص يتأهّل له أهل العلم لمسيس حاجتهم إليها ، وبالغ بعضهم في ذلك فجعله شرطاً فيها ، وقد حكى ذلك أبو العبّاس الوليد بن بكر المالكيّ عن الإمام مالك رحمه الله .
( أنواع الإجازة بالكتب ) 28 - وكما جرت العادة برواية الحديث بالإجازة ، جرت كذلك برواية الكتب وتدريسها بها وهي على أنواع : النّوع الأوّل : أن يجيز إنساناً معيّناً في رواية كتاب معيّن ، كقوله : « أجزت لك رواية كتابي الفلانيّ » . النّوع الثّاني : أن يجيز لإنسان معيّن رواية شيء غير معيّن ، كقوله : « أجزت لك رواية جميع مسموعاتي » . وجمهور الفقهاء والمحدّثين على تجويز الرّواية بهذين النّوعين وعلى وجوب العمل بما روي بهما بشرطه مع العلم أنّ الخلاف في جواز العمل بالنّوع الثّاني أكثر بين العلماء . النّوع الثّالث : إجازة غير معيّن رواية شيء معيّن كقوله : « أجزت للمسلمين رواية كتابي هذا " وهذا النّوع مستحدث فإن كان مقيّداً بوصف حاضر فهو إلى الجواز أقرب ويقول ابن الصّلاح : « لم نر ولم نسمع عن أحد ممّن يقتدى به أنّه استعمل هذه الإجازة » . النّوع الرّابع : الإجازة لغير معيّن برواية غير معيّن ، كأن يقول : أجزت لكلّ من اطّلع على أيّ مؤلّف من مؤلّفاتي روايته وهذا النّوع يراه البعض فاسداً واستظهر عدم الصّحّة وبذلك أفتى القاضي أبو الطّيّب الطّبريّ وحكى الجواز عن بعض الحنابلة والمالكيّة . وهناك أنواع أخرى غير هذه ذهب المحقّقون إلى عدم جواز العمل بها .
إجبار
التّعريف
1 - الإجبار لغةً : القهر والإكراه . يقال : أجبرته على كذا حملته عليه قهراً ، وغلبته فهو مجبر . وفي لغة بني تميم وكثير من أهل الحجاز : جبرته جبراً وجبوراً قال الأزهريّ : جبرته وأجبرته لغتان جيّدتان . وقال الفرّاء سمعت العرب تقول : جبرته على الأمر وأجبرته . ولم نقف للفقهاء على تعريف خاصّ للإجبار . والّذي يستفاد من الفروع الفقهيّة أنّ استعمالهم هذا اللّفظ لا يخرج عن المعنى اللّغويّ السّابق فمن تثبت له ولاية الإجبار على الزّواج يملك الاستبداد بتزويج من له عليه الولاية ، ومن تثبت له الشّفعة يتملّك المشفوع فيه جبراً عن المشتري . وقالوا : إنّ للقاضي أن يجبر المدين المماطل على سداد ما عليه من دين إلى غير ذلك من الصّور المنثورة في مختلف أبواب الفقه .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - هناك ألفاظ استعملها الفقهاء في المعاني ذات الصّلة بلفظ إجبار وذلك كالإكراه والتّسخير والضّغط . فالإكراه ، كما يعرّفه بعض الأصوليّين ، هو حمل الإنسان على ما يكرهه ولا يريد مباشرته لولا الحمل عليه بالوعيد ويعرّفه بعض الفقهاء : بأنّه الإلزام والإجبار على ما يكرهه الإنسان طبعاً أو شرعاً فيقدم عليه مع عدم الرّضا ليدفع عنه ما هو أضرّ به . ومن هذا يتبيّن أنّ الإكراه لا بدّ فيه من التّهديد والوعيد ، وأنّ التّصرّف المطلوب يقوم به المكره - بفتح الرّاء - دون رضاه . ولذا كان الإكراه معدماً للرّضا ومفسداً للاختيار أو مبطلاً له ، فيبطل التّصرّف ، أو يثبت لمن وقع عليه الإكراه حقّ الخيار ، على تفصيل موضع بيانه مصطلح « إكراه » .
3 - ( والتّسخير لغةً ) : استعمال الشّخص غيره في عمل بالمجّان . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى .
4 - والضّغط لغةً : الضّيق والشّدّة والإكراه . وأمّا في الاستعمال الفقهيّ فقد قال البرزليّ : سئل ابن أبي زيد عن المضغوط ما هو ؟ فقال : هو من أضغط في بيع ربعه أو شيء بعينه ، أو في مال يؤخذ منه ظلماً فباع لذلك . وقيل : إنّ المضغوط هو من أكره على دفع المال ظلماً فباع لذلك فقط . بينما الإجبار أعمّ من كلّ ذلك . إذ قد يكون حراماً غير مشروع فيتضمّن الإكراه والتّسخير والضّغط ، وقد يكون الإجبار مشروعاً بل مطلوباً ، كما لا يشترط لتحقّقه التّهديد والوعيد ، ولا أن يكون التّصرّف بفعل الشّخص المجبر - بفتح الباء - وإنّما قد يكون أيضاً بفعل المجبر - بكسر الباء - أو قوله ، كما في تزويج الوليّ المجبر من له عليه ولاية إجبار كالصّغيرة والمجنونة ، وكما في نزع الملكيّة جبراً عن المالك للمنافع العامّة . وقد يكون تلقائيّاً دون تلفّظ من أحدهما أو طلب كما في المقاصّة الجبريّة الّتي يقول بها جمهور الفقهاء غير المالكيّة كما أنّ الإجبار المشروع لا يؤثّر على صحّة التّصرّف ، ولا يشترط فيه أن يكون تسخيراً بغير مقابل وإنّما العوض فيه قائم ، كما أنّ الإجبار لا يقتصر وقوعه على البيع فقط كما في الضّغط ، بل صوره كثيرة ومتنوّعة .
صفة الإجبار ( حكمه التّكليفيّ ) :
5 - الإجبار إمّا أن يكون مشروعاً ، كإجبار القاضي المدين المماطل على الوفاء ، أو غير مشروع ، كإجبار ظالم شخصاً على بيع ملكه من غير مقتض شرعيّ .
من له حقّ الإجبار :
6 - قد يكون الإجبار من الشّارع دون أن يكون لأحد من الأفراد إرادة فيه كالميراث ، وقد يثبت الإجبار من الشّارع لأحد الأفراد على آخر بسبب يخوّل له هذه السّلطة ، كالقاضي ووليّ الأمر ، منعاً للظّلم ومراعاةً للصّالح العامّ . وسنعرض لكثير من صور هذه الحالات تاركين التّفصيل وبيان آراء المذاهب لمواضعها في مسائل الفقه ومصطلحات الموسوعة .
الإجبار بحكم الشّرع :
7 - يثبت الإجبار بحكم الشّرع ويلتزم الأفراد بالتّنفيذ ديانةً وقضاءً كما في أحكام الإرث الّتي هي فريضة من اللّه أوصى بها ، ويلتزم كلّ وارث بها جبراً عنه . ويثبت ملك الوارث في تركة مورّثه وإن لم يشأ كلّ منهما . وكذلك ما يفرض من العشور والخراج والجزية والزّكاة فإنّ من منعها بخلاً أو تهاوناً تؤخذ منه جبراً . ومن عجز عن الإنفاق على بهائمه أجبر على بيعها أو إجارتها أو ذبح المأكول منها ، فإن أبى فعل الحاكم الأصلح ، لأنّ من ملك حيواناً وجبت عليه مؤنته . ويرد الجبر أيضاً في الإنفاق على الزّوجة والوالدين والأولاد والأقارب على تفصيل وخلاف يذكر في موضعه . كما قالوا : إنّ الأمّ تجبر على إرضاع ولده وحضانته إن تعيّنت لذلك واقتضته مصلحة الصّغير ، كما يجبر الأب على أجر الحضانة والرّضاعة . وليس له إجبارها على الرّضاع إذا لم تتعيّن ، أو الفطام من غير حاجة ، واستظهر ابن عابدين أنّ له أن يجبرها على الفطام بعد حولين . كما أنّ المضطرّ قد يجبر بحكم الشّرع على أن تناول طعاماً أو شراباً محظوراً ليزيل به غصّةً أو يدفع مخمصةً كي لا يلقي بنفسه في التّهلكة . ففي هذه الصّور مصدر الإجبار فيها : الشّرع مباشرةً ، وما وليّ الأمر إلاّ منفّذ فيما يحتاج إلى تدخّله دون أن يكون له خيار .
الإجبار من وليّ الأمر :
8 - قد يكون الإجبار حقّاً لوليّ الأمر بتخويل من الشّارع دفعاً لظلم أو تحقيقاً لمصلحة عامّة . ومن ذلك ما قالوه من جبر المدين المماطل على دفع ما عليه من دين للغير ولو بالضّرب مرّةً بعد أخرى والسّجن ، وإلاّ باع عليه القاضي جبراً . كما قال جمهور الفقهاء خلافاً للإمام أبي حنيفة الّذي رأى جبره بالضّرب والحبس حتّى يقضي دينه دون بيع ماله جبراً عنه . وتفصيله في الحجر . كما قالوا : إذا امتنع أرباب الحرف الضّروريّة للنّاس ، ولم يوجد غيرهم ، أجبرهم وليّ الأمر استحساناً .
9 - كما أنّ لوليّ الأمر أيضاً أن يجبر صاحب الماء على بيع ما يفيض عن حاجته لمن به عطش أو فقد مورد مائه كما أثبتوا للغير حقّ الشّفة في مياه القنوات الخاصّة والعيون الخاصّة ، ومن حقّ النّاس أن يطالبوا مالك المجرى أو النّبع أن يخرج لهم الماء ليستوفوا حقّهم منه أو يمكّنهم من الوصول إليه لذلك وإلاّ أجبره الحاكم إذا تعيّن هذا الماء لدفع حاجتهم . ذكر الكاسانيّ : أنّ قوماً وردوا ماءً فسألوه أهله فمنعوهم فذكروا ذلك لعمر بن الخطّاب وقالوا : إنّ أعناقنا وأعناق مطايانا كادت تتقطّع من العطش ، فقال لهم عمر : هلاّ وضعتم فيهم السّلاح ؟ 10 - ولمّا كان الاحتكار محظوراً لما رواه مسلم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من احتكر فهو خاطئ » ، فإنّ فقهاء المذاهب قالوا بأنّ وليّ الأمر يأمر المحتكرين بالبيع بسعر وقته فإن لم يفعلوا أجبروا على ذلك عند ضرورة النّاس إليه ، غير أنّ ابن جزيّ ذكر أنّ في الجبر خلافاً . ونقل الكاسانيّ عن الحنفيّة خلافاً أيضاً ، لكن نقل المرغينانيّ وغيره قولاً اتّفاقيّاً في المذهب - هو الصّحيح - أنّ الإمام يبيع على المحتكر جبراً عنه إذا لم يستجب لأمره بالبيع . كما نصّ الفقهاء على أنّ السّلطان إذا أراد تولية أحد أحصى ما بيده فما وجده بعد ذلك زائداً على ما كان عنده ، وما كان يرزق به من بيت مال المسلمين وإنّما أخذه بجاه الولاية ، أخذه منه جبراً . وقد فعل ذلك عمر رضي الله عنه مع عمّاله لمّا أشكل عليه ما اكتسبوه في مدّة القضاء والإمارة ، فقد شاطر أبا هريرة وأبا موسى مع علوّ مراتبهما .
11 - ويدخل في الإجبار من قبل وليّ الأمر منع عمر كبار الصّحابة من تزوّج الكتابيّات ، فقد منعهم وقال : أنا لا أحرّمه ولكنّي أخشى الإعراض عن الزّواج بالمسلمات ، وفرّق بين كلّ من طلحة وحذيفة وزوجتيهما الكتابيّتين .
الإجبار من الأفراد 12 - خوّل الشّارع بعض الأفراد في حالات خاصّة سلطة إجبار الغير ، كما في الشّفعة فقد أثبت الشّارع للشّفيع حقّ تملّك العقار المبيع بما قام على المشتري من ثمن ومؤنة جبراً عنه . وهو حقّ اختياريّ للشّفيع .
13 - كما خوّل الشّارع للمطلّق طلاقاً رجعيّاً حقّ مراجعة مطلّقته ولو جبراً عنها ما دامت في العدّة ، إذ الرّجعة لا تفتقر إلى وليّ ولا صداق ولا رضا المرأة . وهذا الحقّ ثبت للرّجل من الشّارع في مدّة العدّة دون نصّ عليه عند التّعاقد أو اشتراطه عند الطّلاق ، حتّى إنّه لا يملك إسقاط حقّه فيه ، على ما بيّنه الفقهاء عند الكلام عن الرّجعة . كما أعطى الشّارع الأب ومن في حكمه كوكيله ووصيّه حقّ ولاية الإجبار في النّكاح على خلاف وتفصيل يرجع إليه في موطنه عند الكلام عن الولاية في النّكاح .
14 - وفي إجبار الأمّ على الحضانة إذا لم تتعيّن لها تفصيل بين الفقهاء فمن رأى أنّ الحضانة حقّ للحاضنة قال : إنّها لا تجبر عليها إذا ما أسقطت حقّها لأنّ صاحب الحقّ لا يجبر على استيفاء حقّه . ومن قال : إنّها حقّ للمحضون نفسه قال : إنّ للقاضي أن يجبر الحاضنة ، على ما هو مبيّن تفصيلاً عند كلام الفقهاء عن الحضانة . ومن هذا ما قالوه من أنّ المفوّضة - وهي الّتي عقد نكاحها من غير أن يبيّن لها مهر - لو طالبت قبل الدّخول بأن يفرض لها مهر أجبر على ذلك . قال ابن قدامة : وبهذا قال الشّافعيّ ، ولا نعلم فيه مخالفاً 15 - وقال غير الحنفيّة - وهو قول زفر من الحنفيّة - إنّ للزّوج إجبار زوجته على الغسل من الحيض والنّفاس مسلمةً كانت أو ذمّيّةً ، حرّةً كانت أو مملوكةً لأنّه يمنع الاستمتاع الّذي هو حقّ له ، فملك إجبارها على إزالة ما يمنع حقّه وله إجبار زوجته المسلمة البالغة على الغسل من الجنابة ، وأمّا الذّمّيّة ففي رواية عند كلّ من الشّافعيّة والحنابلة له إجبارها . وفي الرّواية الثّانية عندهما ليس له إجبارها لأنّ الاستمتاع لا يتوقّف عليه وهو قول مالك والثّوريّ .
16 - كما قالوا بالنّسبة للأعيان المشتركة إذا كانت من جنس واحد وطلب أحد الشّريكين القسمة . فقد نصّ الحنفيّة على أنّ القاضي يجبر عليها ، لأنّ القسمة لا تخلو عن معنى المبادلة ؛ والمبادلة ممّا يجري فيه الجبر كما في قضاء الدّين ، فإنّ المدين يجبر على القضاء مع أنّ الدّيون تقضي بأمثالها فصار ما يؤدّي بدلاً عمّا في ذمّته . وهذا جبر في المبادلة قصداً وقد جاز ، فلأن يجوز بلا قصد إليه أولى . وإن كانت الأعيان المشتركة من أجناس مختلفة كالإبل والبقر والغنم لا يجبر القاضي الممتنع - على قسمتها لتعذّر المبادلة ، ولو تراضوا عليها جاز . وتفصيل ذلك في الشّركة والقسمة .
17 - وينصّ الشّافعيّة على أنّ ما لا ضرر في قسمته كالبستان والدّار الكبيرة والدّكّان الواسعة ، والمكيل والموزون من جنس واحد ، ونحوها إذا طلب الشّريك قسمته أجبر الآخر عليها . والضّرر المانع من قسمة الإجبار نقص قيمة المقسوم بها ، وقيل : عدم النّفع به مقسوماً . وإن تضرّر أحد الشّريكين وحده وطلب المتضرّر القسمة أجبر الآخر ، وإلاّ فلا إجبار . وقيل : أيّهما طلب لم يجبر الآخر . وتفصيل ذلك في القسمة والشّركة .
18 - كما نصّ الفقهاء فيمن له حقّ السّفل مع من له حقّ العلو أنّه لا يجبر ذو السّفل على البناء ، لأنّ حقّ ذي العلو فائت إذ حقّه قرار العلو على السّفل القائم . ويقول ابن قدامة : إذا كان السّفل لرجل والعلو لآخر فانهدم السّقف الّذي بينهما فطلب أحدهما المباناة من الآخر فامتنع فعلى روايتين كالحائط بين البيتين . وللشّافعيّ قولان كالرّوايتين . وإن انهدمت حيطان السّفل فطالبه صاحب العلو بإعادتها فعلى روايتين : يجبر ، وهو قول مالك وأبي ثور وأحد قولي الشّافعيّ ، وعلى هذه الرّواية يجبر على البناء وحده لأنّه ملكه خاصّةً . والرّواية الثّانية : لا يجبر وهو قول أبي حنيفة ، وإن أراد صاحب العلو بناءه لم يمنعه من ذلك على الرّوايتين . وإن طالب صاحب السّفل بالبناء وأبى صاحب العلو ففيه روايتان : الأولى : لا يجبر على بنائه ولا مساعدته وهو قول الشّافعيّ ، والثّانية : يجبر على مساعدته لأنّه حائط يشتركان في الانتفاع به . وتفصيله في حقّ التّعلّي ضمن حقوق الارتفاق .
19 - وقالوا في الحائط المشترك لو انهدم وعرصته عريضة فطلب أحدهما بناءه يجبر الآخر على الصّحيح في مذاهب الأئمّة الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لأنّ في ترك بنائه إضراراً فيجبر عليه كما يجبر على القسمة إذا طلبها أحدهما وعلى النّقض إذا خيف سقوطه . وغير الصّحيح في المذاهب أنّه لا يجبر لأنّه ملك لا حرمة له في نفسه فلم يجبر مالكه على الإنفاق عليه كما لو انفرد به ، ولأنّه بناء حائط فلم يجبر عليه كالابتداء . ونصّ الحنفيّة أيضاً على أنّه إذا كان مكان الحائط المشترك يحتمل القسمة ويتمكّن كلّ واحد من بناء سدّ في نصيبه لم يجبر ، وإلاّ أجبر .
اجتهاد
التّعريف
1 - الاجتهاد في اللّغة بذل الوسع والطّاقة في طلب أمر ليبلغ مجهوده ويصل إلى نهايته . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ . أمّا الأصوليّون فمن أدقّ ما عرّفوه به أنّه بذل الطّاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعيّ ظنّيّ ، فلا اجتهاد فيما علم من الدّين بالضّرورة ، كوجوب الصّلوات ، وكونها خمساً . ومن هذا يعلم أنّ معرفة الحكم الشّرعيّ من دليله القطعيّ لا تسمّى اجتهاداً .
( الألفاظ ذات الصّلة )
( القياس )
2 - الّذي عليه الأصوليّون أنّ الاجتهاد أعمّ من القياس . فالاجتهاد يكون في أمر ليس فيه نصّ ، بإثبات الحكم له ، لوجود علّة الأصل فيه ، وهذا هو القياس . ويكون الاجتهاد أيضاً في إثبات النّصوص بمعرفة درجاتها من حيث القبول والرّدّ ، وبمعرفة دلالات تلك النّصوص ، ومعرفة الأحكام من أدلّتها الأخرى غير القياس ، من قول صحابيّ ، أو عمل أهل المدينة ، أو الاستصحاب ، أو الاستصلاح أو غيرها ، عند من يقول بها .
التّحرّي :
3 - هو لغةً الطّلب والابتغاء ، وشرعاً طلب شيء من العبادات بغالب الرّأي . عند تعذّر الوقوف على الحقيقة . وإنّما قيّد بالعبادات لأنّهم كما قالوا ( التّحرّي ) فيها ، قالوا ( التّوخّي ) في المعاملات . والتّحرّي غير الشّكّ والظّنّ ، فإنّ الشّكّ أن يستوي طرفا العلم والجهل ، والظّنّ ترجّح أحدهما من دليل ، والتّحرّي ترجّح أحدهما بغالب الرّأي . وهو دليل يتوصّل به إلى طرف العلم ، وإن كان لا يتوصّل به إلى ما يوجب حقيقة العلم . كذا قال السّرخسيّ في المبسوط . وفيه أيضاً : الاجتهاد مدرك من مدارك الأحكام الشّرعيّة ، وإن كان الشّرع لا يثبت به ابتداءً ، وكذلك التّحرّي مدرك من مدارك التّوصّل إلى أداء العبادات ، وإن كانت العبادة لا تثبت به ابتداءً .
الاستنباط :
4 - وهو استخراج العلّة أو الحكم إذا لم يكونا منصوصين ، بنوع من الاجتهاد .
( أهليّة الاجتهاد ) :
5 - اشترط الأصوليّون في المجتهد أن يكون مسلماً صحيح الفهم عالماً بمصادر الأحكام ، من كتاب وسنّة وإجماع وقياس ، وبالنّاسخ منها والمنسوخ ، عالماً باللّغة العربيّة نحوها وصرفها وبلاغتها ، عالماً بأصول الفقه . والمراد بمعرفة الكتاب معرفة آيات الأحكام ، وليس المراد حفظها بل معرفة مواقعها بحيث يستطيع الوصول إليها بيسر وسهولة ، ويستطيع معرفة معانيها كذلك . والمراد بمعرفة السّنّة معرفة ما ورد من الأحاديث في الأحكام ، وليس المراد حفظها ، وإنّما يكفي أن يكون لديه أصل جامع لغالبيّة أحاديث الأحكام يستطيع أن يتعرّف فيه بيسر وسهولة ، مواقع كلّ باب منها ليرجع إليه عند الحاجة ، ولا بدّ أن يعرف المقبول منها من المردود . واشترطت معرفته بالنّاسخ والمنسوخ ، لئلاّ يفتي بما هو منسوخ . واشترطت معرفته بالعربيّة لكي يتمكّن من فهم القرآن والسّنّة على وجههما الصّحيح ، لأنّهما وردا بلسان العرب ، وجريا على أساليب كلامهم . واشترطت معرفته بأصول الفقه لكي لا يخرج في استنباطه للأحكام ، وفي التّرجيح عند التّعارض ، عن القواعد الصّحيحة لذلك . وهذه الشّروط إنّما هي للمجتهد المطلق المتصدّي للاجتهاد في جميع مسائل الفقه .
درجات الاجتهاد :
6 - الاجتهاد قد يكون مطلقاً كاجتهاد الأئمّة الأربعة وقد يكون غير مطلق وفي درجاته تفصيل موطنه الملحق الأصوليّ .
صفة الاجتهاد بالاستعمال الأصوليّ ( حكمه التّكليفيّ ) 7 - الاجتهاد فرض كفاية إذ لا بدّ للمسلمين من استخراج الأحكام لما يحدث من الأمور . ويتعيّن الإجهاد على من هو أهله إن سئل عن حادثة وقعت فعلاً ، ولم يكن غيره ، وضاق الوقت بحيث يخاف من وقعت به فواتها ، إن لم يجتهد من هو أهل لتحصيل الحكم فيها . وقيل : يتعيّن أيضاً إذا وقعت الحادثة بالمجتهد نفسه وكان لديه الوقت للاجتهاد فيها . وهذا رأي الباقلاّنيّ والآمديّ وأكثر الفقهاء . وقال غيرهم : يجوز له التّقليد مطلقاً ، وقال : آخرون يجوز في أحوال معيّنة . وتفصيل ما يتّصل بالاجتهاد موطنه الملحق الأصوليّ .
صفة الاجتهاد بالاستعمال الفقهيّ ( حكمه التّكليفيّ ) 8 - يذكر الفقهاء نوعاً آخر من الاجتهاد ، سوى الاجتهاد في الأدلّة الشّرعيّة ، يحتاج إليه المسلم في القيام بالعبادات ، عند حصول الاشتباه . فمن ذلك أن يجتهد في تحديد القبلة لأجل استقبالها في صلاته ، وذلك عندما لا يجد من يخبره بالجهة ، فيستدلّ عليها بأدلّتها المعتبرة شرعاً ، كمواقع النّجوم ، ومطالع الشّمس والقمر ، واتّجاه الرّيح وغير ذلك . ويذكره الفقهاء في مباحث استقبال القبلة في مقدّمات الصّلاة . ومن ذلك الاجتهاد عند اشتباه ثياب طاهرة بثياب نجسة لم يجد غيرها ، أو ماء طهور بماء نجس لم يجد غيرهما ، ويذكر الفقهاء ذلك في مباحث شرط إزالة النّجاسة في مقدّمات الصّلاة كذلك . ومنه أيضاً اجتهاد من حبس في مكان لا يعرف فيه دخول وقت الصّلاة ، أو وقت الصّوم ، ويذكر الفقهاء ذلك في مبحث معرفة دخول الشّهر من أبواب الصّوم .
أجر
التّعريف
1 - الأجر في اللّغة مصدر أجره يأجره ويأجره إذا أثابه وأعطاه جزاء عمله . ويكون الأجر أيضاً اسماً للعوض المعطى عن العمل . ومنه ما يعطيه اللّه العبد جزاء عمله الصّالح في الدّنيا من مال أو ذكر حسن أو ولد أو غير ذلك ، قال اللّه تعالى { وآتيناه أجره في الدّنيا } ، وما يعطيه في الآخرة من النّعيم ، ومنه قوله تعالى : { والشّهداء عند ربّهم لهم أجرهم ونورهم } وقوله : { وإنّما توفّون أجوركم يوم القيامة } ، وكذلك ما يعطيه العباد بعضهم بعضاً من العوض عن أعمالهم يسمّى أجراً ، قال اللّه تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهنّ أجورهنّ } وسمّى القرآن مهر المرأة أجراً ، كما في قوله تعالى : { يا أيّها النّبيّ إنّا أحللنا لك أزواجك اللاّتي آتيت أجورهنّ } . والأجر عند الفقهاء بمعنى العوض عن العمل ، سواء أكان من اللّه أم من العباد ، مع العلم بأنّ الأجر من اللّه تفضّل منه وبمعنى بدل المنفعة سواء أكانت منفعة عقار كسكنى دار ، أو منفعة منقول كركوب سيّارة . ونقل أبو البقاء في الكلّيّات عن بعضهم : « الأجر يقال فيما كان عقداً وما يجري مجرى العقد ، ولا يكون إلاّ في النّفع » .
( مواطن البحث )
2 - يذكر الفقهاء مسائل الأجر على العمل والمنفعة ضمن مباحث الإجارة ، والأجرة فليرجع إليها .
أجر المثل
انظر : إجارة .
أجرد
التّعريف
1 - الرّجل الأجرد لغةً هو من لا شعر على جسده . والمرأة جرداء . وفي اصطلاح الفقهاء : الأجرد الّذي ليس على وجهه شعر وقد مضى أوان طلوع لحيته ، أمّا قبل ذلك فهو أمرد .
( الحكم الإجماليّ )
2 - أثبت العلماء لمن قارب البلوغ من الفتيان ولم ينبت شعر وجهه - وهو الّذي يسمّى الأمرد - أثبتوا له ، إذا كان صبيح الوجه ، بعض الأحكام الخاصّة ، على اختلاف بينهم فيها ، صيانةً له ودرءاً للفتنة به . من ذلك أنّهم رأوا تحريم النّظر إليه بشهوة ، والخلوة به ، ومسّه ، أو كراهة ذلك ( ر : أمرد ) ثمّ إن لم ينبت شعره بعد أوانه ، وهو الّذي يسمّى الأجرد ، فقد صرّح بعضهم في مثل ذلك بعدم انطباق أحكام الأمرد عليه ، كما نقل ابن عابدين عن بعض من كره إمامة الأمرد أنّه لم يكره الصّلاة خلف من تجاوز حدّ الإنبات ولم ينبت عذاره . ولم نجد لغير الحنفيّة نصّاً في ذلك .
أجرة
التّعريف
1 - الأجر لغةً وشرعاً : بدل المنفعة ، وهي ما يعطاه الأجير في مقابلة العمل ، وما يعطاه صاحب العين مقابل الانتفاع بها . وتسمّى الأجرة الأجر والكراء والكروة ( بكسر الكاف ) وفي القاموس : « النّول جعل السّفينة " وفي اللّسان : « الآجرة والإجارة والإجارة ما أعطيت من أجر " وجمعها أجر ، كغرف . ويجوز جمعها على " أجرات " بضمّ الجيم وفتحها .
( الحكم الإجماليّ )
2 - يجوز أن يكون بدل المنفعة في الإجارة ما جاز أن يكون ثمناً من عرض أو منفعة أخرى أو نقد حالّ أو مؤجّل . وما لا يصلح أن يكون ثمناً قد يصلح أن يكون أجرةً كالمنفعة ، ولا يصلح في ذلك الخمر والخنزير ونحوهما إلاّ للذّمّيّين . ويجب أن تكون معلومةً للمتعاقدين بإشارة أو تعيين أو بيان ، فلا يصحّ العقد بأجرة مجهولة ، ولا يصحّ بأجرة هي جزء من المعمول أو بعض النّاتج من العمل ، كمن يستأجر من يسلخ شاةً بجلدها . ويجوز تسعير الأجور في بعض الأحوال . وفي كثير ممّا ذكرناه خلاف وتفصيل يرجع إليه تحت عنوان ( إجارة ) .
( مواطن البحث )
3 - يتعرّض الفقهاء لمسائل الأجرة ضمن مباحث الإجارة . ويتعرّضون لأخذ الأجرة على فعل القربات ضمن مباحث الأذان والحجّ والجهاد ، ولأخذها على القسمة ضمن مباحث القسمة ، ولأخذ الرّهن أو الكفيل بالأجرة ضمن مباحث الرّهن والكفالة ، ولتسعيرها ضمن مسائل التّسعير ، من البيوع ، ولجعل الأجرة منفعةً مماثلةً ضمن مسائل الرّبا ، وبعض مباحث الوقف .
أجرة المثل
انظر : إجارة .
إجزاء
التّعريف
1 - الإجزاء في اللّغة الكفاية والإغناء . وهو شرعاً : إغناء الفعل عن المطلوب ولو من غير زيادة عليه .
( الألفاظ ذات الصّلة )
الجواز
2 - يفترق الإجزاء عن الجواز بأنّ الإجزاء يكون بأداء المطلوب ولو دون زيادة كما ذكر . أمّا الجواز فإنّه يطلق على ما لا يمتنع شرعاً . الحلّ : كما يفترق الإجزاء عن الحلّ بأنّ الأجزاء قد يكون مع الشّوائب ، أمّا الحلّ ، فهو الإجزاء الخالص من كلّ شائبة ، ولذلك فإنّ الكراهة قد تجامع الإجزاء ، ولكنّها لا تجامع الحلّ في بعض الإطلاقات . الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
3 - يكون التّصرّف مجزئاً إذا استجمع شرائطه وأركانه وواجباته أيضاً عند الحنابلة فيجزئ في الوضوء الإتيان بفرائضه دون سننه ومستحبّاته . ويجزئ في الطّهارة بالماء التّطهّر بأحد المياه السّبعة وإن كان الماء الّذي جرى التّطهّر به مملوكاً للغير ، عند الجمهور . كما هو مذكور في باب الوضوء من كتب الفقه . ونحو ذلك كثير تجده في أبوابه من كتب الفقه .
نهاية الجزء الأول / الموسوعة الفقهية
الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني
أجل
التّعريف
1 - أجل الشّيء لغةً : مدّته ووقته الّذي يحلّ فيه ، وهو مصدر أجل الشّيء أجلاً من باب تعب ، وأجّلته تأجيلاً جعلت له أجلاً ، والآجل - على وزن فاعل - خلاف العاجل . إطلاقات الأجل في كتاب اللّه تعالى :
2 - ورد إطلاق الأجل على أمور :
أ - على نهاية الحياة : قال اللّه تعالى : { ولكلّ أمّة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون } .
ب - وعلى نهاية المدّة المضروبة أجلاً لانتهاء التزام أو لأدائه . قال اللّه تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمًّى فاكتبوه } .
ج - وعلى المدّة أو الزّمن . قال جلّ شأنه : { ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمًّى } .
الأجل في اصطلاح الفقهاء
3 - الأجل هو المدّة المستقبلة الّتي يضاف إليها أمر من الأمور ، سواء كانت هذه الإضافة أجلاً للوفاء بالتزام ، أو أجلاً لإنهاء التزام ، وسواء كانت هذه المدّة مقرّرةً بالشّرع ، أو بالقضاء ، أو بإرادة الملتزم فرداً أو أكثر . وهذا التّعريف يشمل : أوّلاً : الأجل الشّرعيّ ، وهو المدّة المستقبلة الّتي حدّدها المشرّع الحكيم سبباً لحكم شرعيّ ، كالعدّة . ثانياً : الأجل القضائيّ : وهو المدّة المستقبلة الّتي يحدّدها القضاء أجلاً لأمر من الأمور كإحضار الخصم ، أو البيّنة . ثالثاً : الأجل الاتّفاقيّ ، وهو المدّة المستقبلة الّتي يحدّدها الملتزم موعداً للوفاء بالتزامه ( أجل الإضافة ) ، أو لإنهاء تنفيذ هذا الالتزام ( أجل التّوقيت ) سواء كان ذلك فيما يتمّ من التّصرّفات بإرادة منفردة أو بإرادتين . خصائص الأجل :
4 - أ - ( الأجل هو زمن مستقبل ) ب - الأجل هو أمر محقّق الوقوع . وتلك خاصّيّة الزّمن ، وفي تحقيق ذلك يقول الكمال بن الهمام : « إنّه يترتّب على الإضافة تأخير الحكم المسبّب إلى وجود الوقت المعيّن الّذي هو كائن لا محالة ، إذ الزّمان من لوازم الوجود الخارجيّ ، فالإضافة إليه إضافة إلى ما قطع بوجوده » .
ج - الأجل أمر زائد على أصل التّصرّف . وذلك يحقّقه أنّ التّصرّفات قد تتمّ منجّزةً ، وتترتّب أحكامها عليها فور صدور التّصرّف ، ولا يلحقها تأجيل ، وقد يلحقها الأجل ، كتأجيل الدّين ، أو العين أو تأجيل تنفيذ آثار العقد ( فيما يصحّ فيه ذلك ) قال السّرخسيّ والكاسانيّ ما حاصله : إنّ الأجل يعتبر أمراً لا يقتضيه العقد ، وإنّما شرع رعايةً للمدين على خلاف القياس .
( الألفاظ ذات الصّلة )
التّعليق
5 - هو لغةً : ربط أمر بآخر . واصطلاحاً : أن يربط أثر تصرّف بوجود أمر معدوم . والفرق بين التّعليق والأجل أنّ التّعليق يمنع المعلّق عن أن يكون سبباً للحكم في الحال ، أمّا الأجل فلا صلة له بالسّبب وإنّما هو لبيان زمن فعل التّصرّف .
( الإضافة )
6 - هي لغةً : نسبة الشّيء إلى الشّيء مطلقاً . واصطلاحاً : تأخير أمر التّصرّف عن وقت التّكلّم إلى زمن مستقبل يحدّده المتصرّف بغير أداة شرط . والفرق بين الإضافة والأجل أنّ الإضافة فيها تصرّف وأجل ، في حين أنّ الأجل قد يخلو من إيقاع تصرّف . ففي كلّ إضافة أجل . التّوقيت :
7 - هو لغةً : تقدير زمن الشّيء . واصطلاحاً ثبوت الشّيء في الحال وانتهاؤه في وقت معيّن . فالفرق بينه وبين الأجل أنّ الأجل وقت مضروب محدود في المستقبل .
( المدّة ) :
8 - باستقصاء ما يوجد في الفقه الإسلاميّ نجد أنّ للمدّة المستقبلة استعمالات أربعةً : هي مدّة الإضافة ، ومدّة التّوقيت ، ومدّة التّنجيم ، ومدّة الاستعجال . وبيانها فيما يلي : مدّة الإضافة :
9 - وهي المدّة المستقبلة الّتي يضاف إليها ابتداءً تنفيذ آثار العقد ، أو تسليم العين ، أو تسليم الثّمن ( للدّين ) .
فمثال الأوّل : ما إذا قال : « إذا جاء عيد الأضحى فقد وكّلتك في شراء أضحيّة لي " فقد أضاف عقد الوكالة إلى زمن مستقبل ، وقد صرّح جمهور الفقهاء بصحّة ذلك .
ومثال الثّاني : ما جاء في السّلم ، من إضافة العين المسلم فيها إلى زمن معلوم لقوله صلى الله عليه وسلم : « من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم » .
ومثال الثّالث : ما إذا باع بثمن مؤجّل فإنّه يصحّ ؛ لقوله تعالى : « يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمًّى فاكتبوه » .
( مدّة التّوقيت )
10 - وهي المدّة المستقبلة الّتي يستمرّ فيها تنفيذ الالتزام حتّى انقضائها ، وذلك كما في العقود المؤقّتة ، كما في الإجارة ، فإنّها لا تصحّ إلاّ على مدّة معلومة ، أو على عمل معيّن يتمّ في زمن ، وبانتهائها ينتهي عقد الإجارة ومدّة عقد الإجارة تعتبر أجلاً . مصداق ذلك قوله تعالى { قال إنّي أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشقّ عليك ستجدني إن شاء اللّه من الصّالحين . قال ذلك بيني وبينك أيّما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ واللّه على ما نقول وكيل . } كما أنّ اللّغة العربيّة تجعل " التّأجيل تحديد الوقت " " والتّوقيت تحديد الأوقات ، يقال : وقّته ليوم كذا توقيتاً مثل أجّل » . مدّة التّنجيم :
11 - جاء في مختار الصّحّاح : النّجم لغةً الوقت المضروب ، ومنه سمّي المنجّم ، ويقال : نجّم المال تنجيماً إذا أدّاه نجوماً ( أقساطاً ) ، والتّنجيم اصطلاحاً هو " التّأخير لأجل معلوم ، نجماً أو نجمين " أو هو " المال المؤجّل بأجلين فصاعداً ، يعلم قسط كلّ نجم ومدّته من شهر أو سنة أو نحوهما " فالتّنجيم نوع من الأجل يرد على الدّين المؤجّل فيوجب استحقاق بعضه عند زمن مستقبل معيّن ، ثمّ يليه البعض الآخر لزمن آخر معلوم يلي الزّمن الأوّل وهكذا . ومن بين ما برز فيه التّنجيم : أ - دين الكتابة : فقد اتّفق الفقهاء على جواز تنجيم مال الكتابة . ( والمراد بالكتابة اتّفاق السّيّد وعبده على مال ينال العبد نظيره حرّيّة التّصرّف في الحال ، والرّقبة في المال ، بعد أداء المال ) ، واختلفوا في لزوم ذلك ، فيرى المالكيّة على الرّاجح ، والشّافعيّة والحنابلة أنّ الكتابة لا تكون إلاّ بمال مؤجّل منجّم ، وسيأتي التّعرّض لذلك في الدّيون المؤجّلة . والفقه الإسلاميّ يجعل التّنجيم نوعاً من الأجل .
ب - الدّية في القتل شبه العمد والخطأ : تجب الدّية في القتل شبه العمد والخطأ على العاقلة مؤجّلةً منجّمةً على ثلاث سنوات في كلّ سنة ثلث الدّية ، وهذا ما صرّح به فقهاء الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
ج - الأجرة : جاء في المغني أنّه " إذا شرط تأجيل الأجر فهو إلى أجله ، وإن شرطه منجّماً يوماً يوماً ، أو شهراً شهراً ، أو أقلّ من ذلك أو أكثر ، فهو على ما اتّفقا عليه ؛ لأنّ إجارة العين كبيعها ، وبيعها يصحّ بثمن حالّ أو مؤجّل ، فكذلك إجارتها » .
( مدّة الاستعجال ) :
12 - المراد بها : الوقت الّذي يقصد بذكره في العقد استعجال آثار العقد ، وذكر الوقت للاستعجال تعرّض له الفقهاء في الإجارة ، فقالوا إنّ الإجارة على ضربين . أحدهما : أن يعقدها على مدّة . والثّاني : أن يعقدها على عمل معلوم ، ومتى تقدّرت المدّة لم يجز تقدير العمل عند أبي حنيفة والشّافعيّة والحنابلة ؛ لأنّ الجمع بينهما يزيد الإجارة غرراً ؛ لأنّه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء المدّة . فإن استعمل في بقيّة المدّة فقد زاد على ما وقع عليه العقد ، وإن لم يعمل كان تاركاً للعمل في بعض المدّة ، وقد لا يفرغ من العمل في المدّة ، فإن أتمّه عمل في غير المدّة ، وإن لم يعمله لم يأت بما وقع عليه العقد ، وهذا غرر ، أمكن التّحرّز عنه ، ولم يوجد مثله في محلّ الوفاق ، فلم يجز العقد معه . ويرى أبو يوسف ومحمّد ، وهو مرويّ عن الإمام أحمد أنّه تجوز الإجارة هنا ؛ لأنّ الإجارة معقودة على العمل ، والمدّة مذكورة للتّعجيل فلا يمتنع ذلك . فعلى هذا إذا فرغ من العمل قبل انقضاء المدّة لم يلزمه شيء آخر ، كما لو قضى الدّين قبل أجله ، وإن مضت المدّة قبل العمل فللمستأجر فسخ الإجارة ؛ لأنّ الأجير لم يف له بشرطه ، وإن رضي بالبقاء عليه لم يملك الأجير الفسخ ؛ لأنّ الإخلال بالشّرط منه ، فلا يكون ذلك وسيلةً إلى الفسخ ، كما لو تعذّر أداء المسلم فيه في وقته فيملك المسلم إليه الفسخ . ويملكه المسلم ، فإن اختار إمضاء العقد طالبه بالعمل لا غير ، كالمسلم إذا صبر عند تعذّر المسلم فيه إلى حين وجوده لم يكن له أكثر من المسلم فيه ، وإن فسخ العقد قبل عمل شيء من العمل سقط الأجر والعمل ، وإن كان بعد عمل شيء منه فله أجر مثله ؛ لأنّ العقد قد انفسخ فسقط المسمّى ، ورجع إلى أجل المثل .
تقسيمات الأجل باعتبار مصدره
ينقسم الأجل باعتبار مصدره إلى ثلاثة أقسام : أجل شرعيّ ، وأجل قضائيّ ، وأجل اتّفاقيّ . ونتناول فيما يلي التّعريف بكلّ قسم ، وذكر ما يندرج تحته من أنواع . جاعلين لكلّ قسم فصلاً مستقلّاً . الفصل الأوّل الأجل الشّرعيّ الأجل الشّرعيّ : هو المدّة الّتي حدّدها الشّرع الحكيم سبباً لحكم شرعيّ .
ويندرج تحت هذا النّوع الآجال الآتية :
( مدّة الحمل )
13 - مدّة الحمل هي الزّمن الّذي يمكثه الجنين في بطن أمّه ، وقد بيّن الفقه الإسلاميّ أقلّ مدّة الحمل وأكثره ، وقد استنبطت هذه المدّة ممّا ورد في القرآن الكريم ، وذلك لما روى الأثرم بإسناده عن أبي الأسود أنّه : رفع إلى عمر أنّ امرأةً ولدت لستّة أشهر ، فهمّ عمر برجمها ، فقال له عليّ : ليس لك ذلك ، قال اللّه تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين } وقال تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } فحولان وستّة أشهر ثلاثون شهراً ، لا رجم عليها . فخلّى عمر سبيلها ، وولدت مرّةً أخرى لذلك الحدّ . كما بيّن الفقه الإسلاميّ أكثر مدّة الحمل ، فيرى جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في أصحّ الرّوايتين ) أنّها أربع سنوات . وفي رأي للمالكيّة أنّها خمس سنوات ، ويرى الحنفيّة ، وهو رواية في مذهب الحنابلة ، أنّها سنتان . وقد جاء في مغني المحتاج أنّ أكثر مدّة الحمل دليله الاستقراء ، وحكي عن مالك أنّه قال : « جارتنا امرأة محمّد بن عجلان ، امرأة صدق ، وزوجها رجل صدق ، حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنةً ، تحمل كلّ بطن أربع سنين » . وقد روي هذا عن غير المرأة المذكورة ، وقيل إنّ أبا حنيفة حملت أمّه به ثلاث سنين وفي صحّته كما قال ابن شيبة نظر ؛ لأنّ مذهبه أنّ أكثر مدّة الحمل سنتان ، فكيف يخالف ما وقع في نفسه ؟ " قال ابن عبد السّلام : وهذا مشكل مع كثرة الفساد في هذا الزّمان » .
مدّة الهدنة :
14 - يرى الحنفيّة والمالكيّة وهو ظاهر الرّواية عن الإمام أحمد أنّه يجوز موادعة أهل الحرب عشر سنين ، كما « وادع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أهل مكّة » . ويجوز أن تكون المدّة أقلّ من ذلك أو أكثر أو دون تحديد ، ما دامت مصلحة المسلمين في ذلك . أمّا إذا لم تكن مصلحة المسلمين في ذلك فلا يجوز ، لقوله تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السّلم وأنتم الأعلون } . ويرى الإمام الشّافعيّ وهو رواية أخرى عند الحنابلة أنّه لا تجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين ، استناداً إلى ما يروى عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية . فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فالهدنة منتقضة ؛ لأنّ الأصل فرض قتال المشركين حتّى يؤمنوا أو يعطوا الجزية . والتّفصيلات في مصطلح ( هدنة ) .
مدّة تعريف اللّقطة :
15 - مدّة تعريفها ثبتت بالشّرع ، والأصل فيها ما روي عن زيد بن خالد بن زيد الجهنيّ صاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن اللّقطة الذّهب أو الورق فقال : اعرف وكاءها وعفاصها ، ثمّ عرّفها سنةً . فإن جاء طالبها يوماً من الدّهر فأدّها إليه . وسأله عن ضالّة الإبل ، فقال : مالك ولها ؟ دعها ، فإنّ معها حذاءها وسقاءها ، ترد الماء وتأكل الشّجر ، حتّى يجدها ربّها . وسأله عن الشّاة فقال : خذها فإنّما هي لك ، أو لأخيك أو للذّئب » . رواه مسلم . وللفقهاء في الزّيادة عن هذه المدّة أو النّقص منها حسب أهمّيّة المال أقوال يرجع إليها في مصطلح ( لقطة ) .
مدّة وجوب الزّكاة :
16 - روى أبو عبد اللّه بن ماجه في السّنن بإسناده عن عمر عن عائشة قالت : « سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « لا زكاة في مال حتّى يحول عليه الحول » وقد اعتبر الحول في زكاة السّوائم ، والأثمان ( الذّهب والفضّة ) وقيم عروض التّجارة . وأمّا الزّروع والثّمار والمعدن فإنّه لا يعتبر فيها الحول .
( مدّة تأجيل العنّين ) :
17 - إذا ثبتت عنّة الزّوج ضرب القاضي له سنةً كما فعل عمر رضي الله عنه ، رواه الشّافعيّ والبيهقيّ وغيرهما ، وروي أيضاً عن عليّ وابن مسعود وعثمان والمغيرة بن شعبة ، وقال في النّهاية : أجمع المسلمون على اتّباع قضاء عمر رضي الله عنه في قاعدة الباب . والمعنى فيه مضيّ الفصول الأربعة ؛ لأنّ تعذّر الجماع قد يكون لعارض حرارة فتزول في الشّتاء . أو برودة فتزول في الصّيف ، أو يبوسة فتزول في الرّبيع ، أو رطوبة فتزول في الخريف . فإذا مضت السّنة ، ولا إصابة ، علمنا أنّه عجز خلقيّ .
مدّة الإمهال في الإيلاء :
18 - إذا آلى الرّجل من زوجته أمهل وجوباً أربعة أشهر ، لقوله تعالى { للّذين يؤلون من نسائهم تربّص أربعة أشهر فإن فاءوا فإنّ اللّه غفور رحيم } . فإن وطئها في الأربعة الأشهر حنث في يمينه ولزمته الكفّارة ، وسقط الإيلاء بالإجماع ، وإن لم يقربها حتّى مضت الأربعة أشهر بانت منه بتطليقة عند الحنفيّة ، وهو قول ابن مسعود ، ويرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو ثور أنّه إذا انقضت هذه المدّة يخيّر المولى بين الفيئة والتّكفير ، وبين الطّلاق للمحلوف عليها ، وهو قول عليّ وابن عمر .
مدّة الرّضاع
19 - يرى جمهور الفقهاء : المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة ، أنّ مدّة الرّضاع الّتي إذا وقع الرّضاع فيها تعلّق به التّحريم سنتان ، لقوله تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } ومدّة الحمل أدناها ستّة أشهر ، فبقي للفصال حولان . وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عبّاس : قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا رضاع إلاّ ما كان في الحولين » رواه الدّارقطنيّ ، وظاهر " أنّ المراد نفي الأحكام ، وقال : لم يسنده عن ابن عيينة إلاّ الهيثم بن جميل ، وهو ثقة حافظ " ويرى أبو حنيفة أنّ مدّة الرّضاع ثلاثون شهراً ؛ لقوله تعالى { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } ووجهه أنّ اللّه سبحانه وتعالى ذكر شيئين وضرب لهما مدّةً ، فكانت تلك المدّة لكلّ واحد منهما بكمالها ، كالأجل المضروب للدّينين على شخصين ، بأن قال أجّلت الدّين الّذي لي على فلان ، والدّين الّذي لي على فلان سنةً ، فإنّه يفهم منه أنّ السّنة بكمالها لكلّ ، وكالأجل المضروب للدّينين على شخص ، مثل أن يقول : لفلان عليّ ألف درهم وعشرة أقفزة إلى سنة ، فصدّقه المقرّ له في الأجل ، فإذا مضت السّنة يتمّ أجلهما جميعاً ، إلاّ أنّه قام المنقّص في أحدهما ، يعني في مدّة الحمل ، وهو قول عائشة رضي الله عنها الولد لا يبقى في بطن أمّه أكثر من سنتين ولو بقدر فلكة مغزل " وفي رواية " ولو بقدر ظلّ مغزل ومثله ممّا لا يقال إلاّ سماعاً ؛ لأنّ المقدّرات لا يهتدي إليها العقل . وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الولد لا يبقى في بطن أمّه أكثر من سنتين » فتبقى مدّة الفصال على ظاهرها . ويرى زفر أنّ مدّة الرّضاع ثلاثة أحوال ، وذلك لأنّه لا بدّ للصّبيّ من مدّة يتعوّد فيها غذاءً آخر غير اللّبن ، لينقطع الإنبات باللّبن ، وذلك بزيادة مدّة يتعوّد فيها الصّبيّ تغيّر الغذاء ، والحول حسن للتّحوّل من حال إلى حال ، لاشتماله على الفصول الأربعة ، فقدّر بثلاثة أحوال .
أجل العدّة
20 - العدّة أجل ضربه الشّرع للمطلّقة أو المتوفّى عنها زوجها أو من فسخ نكاحها . فالحامل في كلّ ما ذكر عدّتها وضع الحمل . والمتوفّى عنها زوجها - ما لم تكن حاملاً - عدّتها أربعة أشهر وعشر ، سواء كانت مدخولاً بها أم لا . والمطلّقة المدخول بها غير الحامل والآيسة والصّغيرة ثلاثة أقراء ، على الخلاف بين الفقهاء في تفسير القرء أهو الطّهر أم الحيض ، وعدّة الصّغيرة الّتي لم تحض والآيسة ثلاثة أشهر . وتفصيل ذلك في مصطلح ( عدّة ) .
مدّة خيار الشّرط ) :
21 - يرى جمهور الفقهاء جواز خيار الشّرط واختلفوا في تحديد هذه المدّة ، فيرى أبو حنيفة وزفر والشّافعيّة أنّه يجوز خيار الشّرط في البيع للبائع أو المشتري ، أو لهما ، ثلاثة أيّام فما دونها ، والأصل فيه ما روي « أنّ حبّان بن منقذ بن عمرو الأنصاريّ رضي الله عنه كان يغبن في البياعات ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إذا بايعت فقل : لا خلابة ، ولي الخيار ثلاثة أيّام . » ويرى أبو يوسف ومحمّد وابن المنذر والحنابلة أنّه يجوز إذا سمّى مدّةً معلومةً وإن طالت . وحكي ذلك عن الحسن بن صالح وابن أبي ليلى وإسحاق وأبي ثور . واستدلّوا بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه أجاز البيع إلى شهرين ، وأنّ الخيار حقّ يعتمد على الشّرط ، فرجع في تقديره إلى مشترطه ، كالأجل ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : « المسلمون عند شروطهم » . ولأنّ الخيار إنّما شرع للحاجة إلى التّروّي ليندفع الغبن ، وقد تمسّ الحاجة إلى أكثر من ثلاثة أيّام ، كالتّأجيل في الثّمن ، فإنّ الأجل شرع للحاجة إلى التّأخير ، مخالفاً لمقتضى العقد ، ثمّ جاز أيّ مقدار تراضيا عليه . ويرى المالكيّة أنّ مدّة الخيار تختلف باختلاف السّلع ، فإنّ القصد ما تختبر فيه تلك السّلعة ، وذلك يختلف باختلاف السّلع بقدر الحاجة ، ويضرب من الأجل أقلّ ما يمكن ؛ تقليلاً للغرر ، كشهر في دار ، وكثلاث في دابّة . وإذا كانت المدّة المشترطة مجهولةً ، كما إذا شرط الخيار أبداً ، أو متى شاء ، أو قال أحدهما : ولي الخيار ، ولم يذكر مدّته ، أو شرطاه إلى مدّة مجهولة كقدوم زيد ، أو نزول المطر ، أو مشاورة إنسان ، ونحو ذلك ، لم يصحّ في الصّحيح من مذهب الحنابلة ومذهب الشّافعيّة . وروي عن أحمد أنّه يصحّ ، وهما على خيارهما أبداً أو يقطعاه ، أو تنتهي مدّته إن كان مشروطاً إلى مدّة ، وهو قول ابن شبرمة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « المسلمون عند شروطهم » . وقال مالك : يصحّ ، ويضرب لهما مدّة يختبر المبيع في مثلها في العادة ، لأنّ ذلك مقرّر في العادة " ، وقال أبو حنيفة : إن أسقطا الشّرط قبل مضيّ الثّلاث ، أو حذف الزّائد عليها وبيّنّا مدّته ، صحّ ؛ لأنّهما حذفا المفسد قبل اتّصاله بالعقد ، فوجب أن يصحّ كما لو لم يشترطاه .
مدّة الحيض :
22 - أقلّ مدّة الحيض يوم وليلة عند الشّافعيّة والحنابلة ، وأكثرها خمسة عشر يوماً بلياليها ، وذلك لأنّه ورد في الشّرع مطلقاً دون تحديد ، ولا حدّ له في اللّغة ولا في الشّريعة ، فيجب الرّجوع فيه إلى العرف والعادة ، كما في القبض والإحراز والتّفرّق وأشباهها . وقد وجد حيض معتاد يوماً . قال عطاء : رأيت من النّساء من تحيض يوماً وتحيض خمسة عشر . ويرى الحنفيّة أنّ أقلّ الحيض ثلاثة أيّام ولياليها ، وما نقص عن ذلك فهو استحاضة ، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام : « أقلّ حيض الجارية البكر والثّيّب ثلاثة أيّام ، وأكثر ما يكون عشرة أيّام ، فإذا زاد فهي مستحاضة » ، وعن أبي يوسف أنّه يومان والأكثر من الثّالث ، إقامةً للأكثر مقام الكلّ ، وأكثر الحيض عشرة أيّام ولياليها ، والزّائد استحاضة . ويرى المالكيّة أنّه لا حدّ لأقلّ الحيض بالزّمان ، وأكثره لمبتدأة غير حامل تمادى بها نصف شهر ، وأكثره لمعتادة غير حامل سبق لها حيض ولو مرّةً ثلاثة أيّام زيادةً على أكثر عادتها أيّاماً لا وقوعاً . وفي ذلك تفصيل موطنه مصطلح ( حيض ) .
مدّة الطّهر
23 - يرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والثّوريّ أنّ أقلّ الطّهر بين الحيضتين خمسة عشر يوماً ، واستدلّ الحنفيّة على ذلك بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أقلّ الحيض ثلاثة ، وأكثره عشرة أيّام ، وأقلّ ما بين الحيضتين خمسة عشر يوماً » منقول عن إبراهيم النّخعيّ ، وقد قيل : أجمعت الصّحابة عليه ؛ ولأنّه مدّة اللّزوم ، فكان كمدّة الإقامة . واستدلّ الشّافعيّة على ذلك بأنّ الشّهر غالباً لا يخلو عن حيض وطهر ، وإذا كان أكثر الحيض - على رأيهم - خمسة عشر يوماً لزم أن يكون أقلّ الطّهر كذلك ، ولا حدّ لأكثر الطّهر بالإجماع ، فقد لا تحيض المرأة في عمرها إلاّ مرّةً ، وقد لا تحيض أصلاً . ويرى الحنابلة أنّ أقلّ الطّهر بين الحيضتين ثلاثة عشر ، لما روي عن عليّ : « أنّ امرأةً جاءته ، وقد طلّقها زوجها ، فزعمت أنّها حاضت في شهر ثلاث حيض ، طهرت عند كلّ قرء وصلّت . فقال عليّ لشريح : قل فيها . فقال شريح : إن جاءت ببيّنة من بطانة أهلها ، ممّن يرضى دينه وأمانته ، فشهدت بذلك ، وإلاّ فهي كاذبة . فقال عليّ : قالون " أي جيّد ، بالرّوميّة . رواه الإمام أحمد بإسناده . وهذا لا يقوله إلاّ توقيفاً ، ولأنّه قول صحابيّ انتشر ، ولم يعلم خلافه .
سنّ الإياس :
24 - اختلف الفقهاء في تقدير سنّ الإياس اختلافاً كبيراً : فيرى بعضهم أنّه لا تقدير لسنّ الإياس ، وإياس المرأة على هذا أن تبلغ من السّنّ ما لا يحيض فيه مثلها . فإذا بلغت هذا المبلغ ، وانقطع الدّم ، حكم بإياسها ، ويمكن أن يراد بمثلها فيما ذكر المماثلة في تركيب البدن ، والسّمن ، والهزال ، وهو رأي في مذهب الحنفيّة . ويرى بعض الفقهاء تقديره بخمسين سنةً ، وهو قول للشّافعيّة ، ورواية عن الإمام أحمد . وقال إسحاق بن راهويه : لا يكون حيض بعد الخمسين ، ويكون حكمها فيما تراه من الدّم حكم المستحاضة ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : إذا بلغت المرأة خمسين سنةً خرجت من حدّ الحيض " وروي عنها أنّها قالت : « لن ترى المرأة في بطنها ولداً بعد الخمسين . ويرى بعض الشّافعيّة ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، أنّها لا تيأس من المحيض يقيناً إلى ستّين سنةً . ويرى الشّافعيّة - على أشهر الأقوال - أنّ سنّ الإياس اثنتان وستّون سنةً . ويرى المالكيّة أنّه يتحقّق في سنّ السّبعين ، ومثله عن بعض الشّافعيّة ، وأنّها بعد الخامسة والخمسين مشكوك في يأسها ، فيرجع فيما تراه إلى النّساء لمعرفة هل هو حيض ، أو ليس بحيض ، أمّا من بلغت سنّ السّبعين فلا يسأل عنها .
( مدّة النّفاس ) :
25 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا حدّ لأقلّ النّفاس ، فأيّ وقت رأت المرأة الطّهر اغتسلت ، وهي طاهر ، واختلفوا في أكثره : فيرى جمع من العلماء أنّ أكثر النّفاس أربعون يوماً . قال أبو عيسى التّرمذيّ : أجمع أهل العلم من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم على أنّ النّفساء تدع الصّلاة أربعين يوماً ، إلاّ أن ترى الطّهر قبل ذلك ، فتغتسل وتصلّي . وقال أبو عبيد : وعلى هذا جماعة النّاس ، وروي هذا عن عمر وابن عبّاس وعثمان بن أبي العاص وعبد اللّه بن عمر وأنس وأمّ سلمة رضي الله عنهم ، وبه قال الثّوريّ وإسحاق والحنفيّة والحنابلة . واستدلّوا بما روى أبو سهل كثير بن زياد عن مسّة الأزديّة عن أمّ سلمة قالت : « كانت النّفساء تجلس على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً وأربعين ليلةً . » وروى الحكم بن عتيبة عن مسّة الأزديّة عن « أمّ سلمة أنّها سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم : كم تجلس المرأة إذا ولدت ؟ قال : أربعين يوماً ، إلاّ أن ترى الطّهر قبل ذلك » رواه الدّارقطنيّ ، قال ابن قدامة : ولأنّه قول من سمّينا من الصّحابة ، ولم نعرف لهم مخالفاً في عصرهم فكان إجماعاً ، وقد حكاه التّرمذيّ إجماعاً ، ونحوه حكى أبو عبيد . ويرى المالكيّة والشّافعيّة أنّ أكثره ستّون يوماً ، وحكى ابن عقيل عن أحمد بن حنبل روايةً مثل قولهما ، لأنّه روي عن الأوزاعيّ أنّه قال : عندنا امرأة ترى النّفاس شهرين ، وروي مثل ذلك عن عطاء أنّه وجده ، والمرجع في ذلك إلى الوجود ، وقال الشّافعيّة : إنّ غالبه أربعون يوماً .
سنّ البلوغ :
26 - لقد جعل الشّارع البلوغ أمارةً على تكامل العقل ؛ لأنّ الاطّلاع على تكامل العقل متعذّر ، فأقيم البلوغ مقامه . وقد اختلف في سنّ البلوغ : فيرى الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة ، وبرأيهما يفتى في المذهب ، والأوزاعيّ ، أنّ البلوغ بالسّنّ يكون بتمام خمس عشرة سنةً قمريّةً للذّكر والأنثى ( تحديديّة كما صرّح الشّافعيّة ) ، لخبر « ابن عمر . عرضت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنةً ، فلم يجزني ولم يرني بلغت ، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنةً ، فأجازني ، ورآني بلغت » . رواه ابن حبّان ، وأصله في الصّحيحين قال الشّافعيّ : « ردّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سبعة عشر من الصّحابة وهم أبناء أربع عشرة سنةً ، لأنّه لم يرهم بلغوا ، ثمّ عرضوا عليه وهم أبناء خمس عشرة ، فأجازهم ، منهم زيد بن ثابت ، ورافع بن خديج ، وابن عمر » . وروي عن أنس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا استكمل المولود خمس عشرة سنةً كتب ما له وما عليه ، وأخذت منه الحدود » . ويرى المالكيّة أنّ البلوغ يكون بتمام ثماني عشرة سنةً ، وقيل بالدّخول فيها ، أو الحلم أي الإنزال ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاث : عن الصّبيّ حتّى يحتلم . . . » ، أو الحيض لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل اللّه صلاة حائض إلاّ بخمار » ، أو الحبل للأنثى ، أو الإنبات الخشن للعانة . وقد أورد الحطّاب خمسة أقوال في المذهب ، ففي رواية ثمانية عشر وقيل سبعة عشر ، وزاد بعض شرّاح الرّسالة ستّة عشر ، وتسعة عشر ، وروى ابن وهب خمسة عشر لحديث ابن عمر . ويرى أبو حنيفة أنّ بلوغ الغلام بالسّنّ هو بلوغه ثماني عشرة سنةً ، والجارية سبع عشر سنةً . وذلك لقوله تعالى « ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالّتي هي أحسن حتّى يبلغ أشدّه » قال ابن عبّاس رضي الله عنه : ثماني عشرة سنةً وهي أقلّ ما قيل فيه ، فأخذ به احتياطاً . هذا أشدّ الصّبيّ ، والأنثى أسرع بلوغاً من الغلام فنقصناها سنةً ، ويرجع في تفصيل الأحكام إلى مصطلحي ( احتلام ) ( وبلوغ ) .
مدّة المسح على الخفّ
27 - يرى الجمهور جواز المسح على الخفّ مدّة يوم وليلة للمقيم ، وثلاثة أيّام ولياليها للمسافر ، وهو رأي الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة والثّوريّ والأوزاعيّ والحسن بن صالح بن حيّ وإسحاق بن راهويه ومحمّد بن جرير الطّبريّ . قال ابن سيّد النّاس في شرح التّرمذيّ : وثبت التّوقيت عن عمر بن الخطّاب ، وعليّ بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وابن عبّاس ، وحذيفة ، والمغيرة ، وأبي زيد الأنصاريّ . هؤلاء من الصّحابة ، وروي عن جماعة من التّابعين منهم شريح القاضي ، وعطاء بن أبي رباح ، والشّعبيّ ، وعمر بن عبد العزيز . قال أبو عمر بن عبد البرّ : وأكثر التّابعين والفقهاء على ذلك . واستدلّوا بأحاديث وآثار كثيرة ، منها ما روى صفوان بن عسّال ، قال : « أمرنا - يعني النّبيّ صلى الله عليه وسلم - أن نمسح على الخفّين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثةً إذا سافرنا ، ويوماً وليلةً إذا أقمنا ، ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم ، ولا نخلعهما إلاّ من جنابة » . رواه أحمد وابن خزيمة . وقال الخطّابيّ : هو صحيح الإسناد ، وعن عوف بن مالك الأشجعيّ « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفّين في غزوة تبوك ثلاثة أيّام ولياليهنّ للمسافر ، ويوماً وليلةً للمقيم . » رواه أحمد ، وقال : هو أجود حديث في المسح على الخفّين ؛ لأنّه في غزوة تبوك ، وهي آخر غزاة غزاها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، وهو آخر فعله . ويرى المالكيّة أنّ المسح على الخفّين غير مؤقّت ، وأنّ لابس الخفّين وهو طاهر يمسح عليهما ما بدا له ، والمسافر والمقيم في ذلك سواء ، ما لم ينزعهما ، أو تصبه جنابة . إلاّ أنّه يندب نزعه كلّ يوم جمعة ، ويستحبّ كلّ أسبوع أيضاً ، وقد استدلّ لهذا الرّأي بما روي عن أبيّ بن عمارة « أنّه قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أمسح على الخفّين ؟ قال : نعم قال : يوماً ، قال : ويومين ؟ قال : وثلاثة أيّام ؟ قال : نعم وما شئت » . وفي رواية « حتّى بلغ سبعاً ، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : نعم ، وما بدا لك » رواه أبو داود ، وروي ذلك عن عمر بن الخطّاب ، وعقبة بن عامر ، وعبد اللّه بن عمر ، والحسن البصريّ ، واللّيث بن سعد . كما أنّهم قاسوه على مسح الرّأس والجبيرة ، فكما أنّ المسح عليهما لا يتوقّت ، فكذلك المسح على الخفّين .
مدّة السّفر
28 - السّفر لغةً قطع المسافة ، وليس كلّ سفر تتغيّر به الأحكام ، من جواز الإفطار ، وقصر الصّلاة الرّباعيّة ، ومسح الخفّ ، وإنّما سفر خاصّ ، حدّده الفقهاء ، وإن اختلفوا في هذا التّحديد : فيرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ طويل السّفر هو المجيز لقصر الصّلاة ، وقالوا : إنّ السّفر الطّويل هو أربعة برد فأكثر برّاً أو بحراً . وقد استدلّ أصحاب هذا الرّأي بما روي أنّ ابن عمر وابن عبّاس كانا يقصران ويفطران في أربعة برد فما فوقها . ولا يعرف لهما مخالف ، وأسنده البيهقيّ بسند صحيح ، قال الخطّابيّ : ومثل هذا لا يكون إلاّ عن توقيف . وروي عن جماعة من السّلف ما يدلّ على جواز القصر في أقلّ من يوم . فقال الأوزاعيّ : كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ . وروي عن عليّ رضي الله عنه أنّه خرج من قصره بالكوفة حتّى أتى النّخيلة فصلّى بها كلّاً من الظّهر والعصر ركعتين ، ثمّ رجع من يومه ، فقال : أردت أن أعلّمكم سنّتكم . ويرى الحنفيّة أنّ السّفر الّذي تتغيّر به الأحكام أن يقصد الإنسان مسيرة ثلاثة أيّام ولياليها ، بسير الإبل ، ومشي الأقدام ، لقوله عليه السلام : « يمسح المقيم كمال يوم وليلة ، والمسافر ثلاثة أيّام ولياليها » عمّ الجنس ، ومن ضرورته عموم التّقدير ؛ ولأنّ الثّلاثة الأيّام متّفق عليها ، وليس فيما دونها توقيف ولا اتّفاق . وقدّره أبو يوسف رحمه الله بيومين وأكثر الثّالث . والسّير المذكور هو الوسط ، ويعتبر في الجبل ما يليق به ، وفي البحر اعتدال الرّياح . فينظر كم يسير في مثله ثلاثة أيّام فيجعل أصلاً » .
الفصل الثّاني الأجل القضائي
29 - المراد بالأجل القضائيّ : الأجل الّذي يضربه القاضي لحضور الخصوم ، أو إحضار البيّنة ، أو إحضار الكفيل ، أو تأجيل المعسر إلى ميسرة . الحضور للتّقاضي :
30 - إنّ الأجل الّذي يضربه القاضي لحضور المتخاصمين موكول إلى تقديره وطبيعة موضوع النّزاع . وللفقهاء تفصيلات كثيرة في هذا ، هي من قبيل الأوضاع الزّمنيّة الّتي تتغيّر ، وتفصيلها في أبواب الدّعوى والقضاء من كتب الفقه .
( إحضار البيّنة ) :
31 - يرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّ للقاضي أن يمهل المدّعي ثلاثة أيّام لإحضار البيّنة ، بينما يرى المالكيّة والحنابلة أنّ ذلك موكول لاجتهاد القاضي .
الفصل الثّالث
الأجل الاتّفاقيّ
32 - يقصد به المدّة المستقلّة الّتي يحدّدها الملتزم للوفاء بالتزامه ، سواء أكان هذا الالتزام يقابله التزام من آخر أو لا يقابله ، أو يحدّدها لإنهاء هذا الالتزام . وينقسم هذا النّوع من الأجل إلى قسمين : أجل إضافة ، ومحلّ بيان أحكامه مصطلح ( إضافة ) وأجل توقيت ، وفيما يلي آراء الفقهاء في حكمه :
اشتراط تأجيل تسليم العين في التّصرّفات النّاقلة للملكيّة :
33 - اختلف الفقهاء في صحّة اشتراط تأجيل تسليم ( العين ) إلى المنقول إليه ملكيّتها مدّةً معلومةً للانتفاع بها على رأيين : الأوّل : يرى المالكيّة والحنابلة وهو رأي مرجوح في مذهب الشّافعيّة : أنّه يجوز أن يشترط تأجيل تسليم العين إلى المدّة الّتي يحدّدها المتعاقدان ، وأن يكون المنتفع بها هو النّاقل للملكيّة ، وهذا الرّأي منقول عن الأوزاعيّ ، وابن شبرمة ، وإسحاق ، وأبي ثور . ومن أمثلته : إذا باع داراً على أن يسكنها البائع شهراً ، ثمّ يسلّمها إليه ، أو أرضاً على أن يزرعها سنةً ، أو دابّةً على أن يركبها شهراً ، أو ثوباً على أن يلبسه أسبوعاً . واستدلّ لهذا الرّأي بأنّ عموم الآيات والأحاديث تأمر بالوفاء بالعقود . قال اللّه تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا أوفوا بالعقود . . . } وقال تعالى : { وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسئولاً } وقال عليه الصلاة والسلام : « المسلمون على شروطهم إلاّ شرطاً حرّم حلالاً ، أو أحلّ حراماً » ، فالآيات والأحاديث تأمر بالوفاء بكلّ عقد وشرط لا يخالف كتاب اللّه ، ولا سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم . وبخصوص ما روي عن جابر رضي الله عنه : « أنّه كان يسير على جمل قد أعيا ، فضربه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فسار سيراً لم يسر مثله . فقال : بعنيه . فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي » . متّفق عليه . فهذا الحديث يدلّ على جواز اشتراط تأجيل تسليم المبيع فترةً ينتفع فيها البائع به ، ثمّ يسلّمه إلى المشتري . ويؤيّده أنّه صلى الله عليه وسلم « نهى عن الثّنيا أي الاستثناء إلاّ أن تعلم » وهذه معلومة ، وأكثر ما فيه تأخير تسليم المبيع مدّة معلومة ، فصحّ . الثّاني : يرى الحنفيّة ، وهو الرّاجح عند الشّافعيّة ، عدم صحّة اشتراط تأجيل تسليم العين . واستدلّوا بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه « نهى عن بيع وشرط » ، وروي أنّ عبد اللّه بن مسعود اشترى جاريةً من امرأته زينب الثّقفيّة . وشرطت عليه أنّك إن بعتها فهي لي بالثّمن . فاستفتى عمر رضي الله عنه ، فقال : « لا تقربها » ، وفيها شرط لأحد وروي أنّ عبد اللّه بن مسعود اشترى جاريةً واشترط خدمتها ، فقال له عمر لا تقربها وفيها مثنويّة . وأمّا إذا جعل تأجيل تسليم العين لمصلحة أجنبيّ عن العقد ، كما إذا باعه بشرط أن ينتفع بها فلان « الأجنبيّ عن العقد » شهراً ، فلم ير صحّة هذا أحد من الفقهاء غير الحنابلة .
المبحث الثّالث
تأجيل الدّين الدّين : هو مال حكميّ يحدث في الذّمّة ببيع أو استهلاك أو غيرهما .
مشروعيّة تأجيل الدّيون
34 - لقد شرع جواز تأجيل الدّيون بالكتاب والسّنّة والإجماع . أمّا الكتاب فقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمًّى فاكتبوه . . . } فهذه الآية ، وإن كانت لا تدلّ على جواز تأجيل سائر الدّيون ، إلاّ أنّها تدلّ على أنّ من الدّيون ما يكون مؤجّلاً ، وهو ما نقصده هنا من الاستدلال بها على مشروعيّة الأجل . وأمّا السّنّة فما روي عن السّيّدة عائشة رضي الله عنها : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اشترى من يهوديّ طعاماً إلى أجل ، ورهنه درعاً له من حديد » . رواه مسلم واللّفظ له . فهو يدلّ على مشروعيّة تأجيل الأثمان ، وقد أجمعت الأمّة على ذلك . حكمة قبول الدّين التّأجيل دون العين :
35 - نصّ الفقهاء على أنّ الفرق بين الأعيان والدّيون من حيث جواز التّأجيل في الثّانية دون الأولى : أنّ الأعيان معيّنة ومشاهدة ، والمعيّن حاصل وموجود ، والحاصل والموجود ليس هناك مدعاة لجواز ورود الأجل عليه . أمّا الدّيون : فهي مال حكميّ يثبت في الذّمّة ، فهي غير حاصلة ولا موجودة ، ومن ثمّ شرع جواز تأجيلها ، رفقاً بالمدين ، وتمكيناً له من اكتسابها وتحصيلها في المدّة المضروبة ، حتّى إنّ المشتري لو عيّن النّقود الّتي اشترى بها لم يصحّ تأجيلها . الدّيون من حيث جواز التّأجيل وعدمه :
36 - أوضح الفقهاء أنّ الدّيون تكون حالّةً ، وأنّه يجوز تأجيلها إذا قبل الدّائن ، واستثنى جمهور الفقهاء من هذا الأصل عدّة ديون : أ - ( رأس مال السّلم ) :
37 - وذلك لأنّ حقيقته شراء آجل ، وهو المسلم فيه ( وهو السّلعة ) ، بعاجل ، وهو رأس المال ( وهو الثّمن ) فرأس مال السّلم لا بدّ من كونه حالّاً ، عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ؛ لأنّ من شرط صحّة هذا العقد قبض رأس المال قبل انتهاء مجلس العقد ولأنّه لو تأخّر لكان في معنى بيع الدّين بالدّين ، ( إن كان رأس المال في الذّمّة ) وهو منهيّ عنه ، لما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « نهى عن بيع الكالئ بالكالئ » أي النّسيئة بالنّسيئة ؛ ولأنّ في السّلم غرراً ، فلا يضمّ إليه غرر تأخير تسليم رأس المال ، فلا بدّ من حلول رأس المال ، كالصّرف ، فلو تفرّقا قبل قبض رأس المال بطل العقد . ويرى المالكيّة أنّ من شروط صحّة عقد السّلم قبض رأس المال كلّه في مجلس العقد ، ويجوز تأخير قبضه بعد العقد لمدّة لا تزيد على ثلاثة أيّام ، ولو بشرط ذلك في العقد ؛ لأنّ ما قارب الشّيء يعطى حكمه ، وهذا إذا لم يكن أجل السّلم قريباً كيومين ، وذلك فيما شرط قبضه في بلد آخر ، وإلاّ فلا يجوز تأخير هذه المدّة ؛ لأنّه عين الكالئ بالكالئ ، فيجب أن يقبض رأس المال بالمجلس أو ما يقرب منه . وفي فساد السّلم بالزّيادة على الثّلاث ( بلا شرط إن لم تكثر جدّاً - بألاّ يحلّ أجل المسلم فيه - ) وعدم فساده قولان لمالك .
ب - ( بدل الصّرف ) :
38 - من شروط صحّة الصّرف تقابض الثّمنين في مجلس العقد ، أي قبل افتراق المتعاقدين بأبدانهما ، فلو اشترط الأجل فيه فسد ؛ لأنّ الأجل يمنع القبض ، وإذا لم يتحقّق القبض لم يتحقّق شرط صحّته ، وهذا ما صرّح به الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « الذّهب بالذّهب ، والفضّة بالفضّة ، والبرّ بالبرّ ، والشّعير بالشّعير ، والتّمر بالتّمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواءً بسواء ، يداً بيد . فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد » ، أي مقابضةً . قال الرّافعيّ : ومن لوازمه الحلول . وقال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أنّ الصّرف فاسد ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الذّهب بالورق رباً إلاّ هاء وهاء » ، وقوله عليه الصلاة والسلام : « بيعوا الذّهب بالفضّة كيف شئتم يداً بيد » .
ج - ( الثّمن بعد الإقالة ) :
39 - الإقالة جائزة في البيع بمثل الثّمن الأوّل ، عليه إجماع المسلمين ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من أقال نادماً بيعته أقال اللّه عثرته يوم القيامة » . أخرجه أبو داود وابن ماجه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من أقال مسلماً بيعته أقال اللّه عثرته » زاد ابن ماجه : « يوم القيامة » . ورواه ابن حبّان في صحيحه والحاكم ، وقال على شرط الشّيخين ، وأمّا لفظ « نادماً " فعند البيهقيّ . والإقالة عند الجمهور عود المتعاقدين إلى الحال الأوّل ، بحيث يأخذ البائع المبيع والمشتري الثّمن . فإن شرط غير جنس الثّمن ، أو أكثر منه ، أو أجله ، بأن كان الثّمن حالّاً فأجّله المشتري عند الإقالة ، فإنّ التّأجيل يبطل ، وتصحّ الإقالة . وذهب المالكيّة إلى أنّ الإقالة بيع فتجري عليها أحكامه من التّأجيل وغيره .
د - ( بدل القرض ) :
40 - اختلف العلماء في جواز اشتراط تأجيل القرض : فيرى جمهور الفقهاء أنّه يجوز للمقرض المطالبة ببدله في الحال ، وأنّه لو اشترط فيه التّأجيل لم يتأجّل ، وكان حالّاً ، وبهذا قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة والحارث العكليّ والأوزاعيّ وابن المنذر . وذلك لأنّه سبب يوجب ردّ المثل في المثليّات ، فأوجبه حالّاً ، كالإتلاف ، ولو أقرضه بتفاريق ، ثمّ طالبه بها جملةً فله ذلك ؛ لأنّ الجميع حالّ ، فأشبه ما لو باعه بيوعاً حالّةً ، ثمّ طالبه بثمنها جملةً ؛ ولأنّ الحقّ يثبت حالّاً ، والتّأجيل تبرّع منه ووعد ، فلا يلزم الوفاء به ، كما لو أعاره شيئاً ، وهذا لا يقع عليه اسم الشّرط ، ولو سمّي شرطاً ، فلا يدخل في حديث : « المؤمنون عند شروطهم » .
هـ - ( ثمن المشفوع فيه ) :
41 - اختلف الفقهاء في كون ثمن المشفوع فيه هل يجب حالّاً ، أو يجوز فيه التّأجيل ، فيرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّه يجب حالّاً ولو كان الثّمن مؤجّلاً على المشتري ، ويرى المالكيّة والحنابلة أنّه إذا بيع العقار مؤجّلاً أخذه الشّفيع إلى أجله .
الدّيون المؤجّلة بحكم الشّرع
أ - ( الدّية ) :
42 - لمّا كانت الدّية قد تجب في القتل العمد ( إذا عفي عن القاتل ، وطلبها أولياء المقتول ، كما هو رأي الشّافعيّة والحنابلة - أو رضي أولياء الدّم ورضي القاتل بدفعها كما هو رأي الحنفيّة والمالكيّة ) ، وفي شبه العمد ، وفي الخطأ ، ولمّا كان الفقهاء قد اختلفوا في كيفيّة أدائها في كلّ نوع من أنواع القتل الّذي وجبت فيه ، كان لا بدّ من بيان آرائهم فيما يكون منها حالّاً أو مؤجّلاً . الدّية في القتل العمد :
43 - يرى جمهور الفقهاء ( المالكيّة ، والشّافعيّة والحنابلة ) أنّها تجب في مال القاتل حالّةً غير مؤجّلة ولا منجّمة ، وذلك لأنّ ما وجب بالقتل العمد كان حالّاً ، كالقصاص ، فإنّه يجب حالّاً ، ويرى الحنفيّة التّفريق بين الدّية الّتي تجب بالصّلح ، فيجعلونها حالّةً في مال القاتل ، وبين الّتي تجب بسقوط القصاص بشبهة ، كما إذا قتل الأب ابنه عمداً ، فإنّها تجب في مال القاتل في ثلاث سنين ، وذلك قياساً على القتل الخطأ .
الدّية في القتل شبه العمد :
44 - تجب الدّية في هذا النّوع من القتل على العاقلة في ثلاث سنين ، وهو رأي الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ( وهو المرويّ عن عمر وعليّ وابن عبّاس رضي الله عنهم ، وبه قال الشّعبيّ والنّخعيّ وقتادة وعبد اللّه بن عمر وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر ) . واستدلّوا بما روي أنّ عمر وعليّاً قضيا بالدّية على العاقلة في ثلاث سنين ، ولا مخالف لهما في عصرهما فكان إجماعاً ، ولأنّ المرويّ عنهما كالمرويّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأنّه ممّا لا يعرف بالرّأي .
الدّية في القتل الخطأ :
45 - يرى جمهور الفقهاء أنّ الدّية في القتل الخطأ تكون مؤجّلةً لمدّة ثلاث سنوات ، يؤخذ في كلّ سنة ثلث الدّية ، ويجب في آخر كلّ سنة ، وهو رأي الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . واستدلّوا بما روي عن عمر بن الخطّاب أنّه قضى بالدّية على العاقلة في ثلاث سنين ، وقد قال هذا أيضاً عليّ وعبد اللّه بن عبّاس ، وقد عزاه الإمام الشّافعيّ في المختصر إلى قضاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد نقل الرّافعيّ والتّرمذيّ في جامعه وابن المنذر الإجماع على ذلك .
ب - المسلم فيه :
46 - لمّا كان السّلم هو شراء آجل بعاجل ، والآجل هو المسلم فيه ، فقد اشترط الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والأوزاعيّ لصحّة السّلم أن يكون المسلم فيه مؤجّلاً إلى أجل معلوم ، ولا يصحّ السّلم الحالّ لقول النّبيّ عليه الصلاة والسلام : « من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ، أو وزن معلوم ، إلى أجل معلوم » . فأمر بالأجل ، وأمره يقتضي الوجوب ؛ ولأنّه أمر بهذه الأمور تبييناً لشروط السّلم ، ومنعاً منه بدونها ، وكذلك لا يصحّ إذا انتفى الكيل والوزن ، فكذلك الأجل ؛ ولأنّ السّلم إنّما جاز رخصةً للرّفق ، ولا يحصل الرّفق إلاّ بالأجل ، فإذا انتفى الأجل انتفى الرّفق ، فلا يصحّ ، كالكتابة ؛ ولأنّ الحلول يخرجه عن اسمه ومعناه . ويرى الشّافعيّة وأبو ثور وابن المنذر أنّه يجوز أن يكون السّلم في الحالّ ؛ لأنّه عقد يصحّ مؤجّلاً فصحّ حالّاً ، كبيوع الأعيان ؛ ولأنّه إذا جاز مؤجّلاً ، فحالّاً أجوز ، ومن الغرر أبعد .
ج - ( مال الكتابة ) :
47 - اختلف الفقهاء في وجوب تأجيل العوض المكاتب به إلى أجل معيّن : فيرى الحنفيّة ، وابن رشد من المالكيّة ، وابن عبد السّلام والرّويانيّ من الشّافعيّة ، أنّه لا يشترط ذلك ، بل تصحّ بمال مؤجّل وبمال حالّ ، ويرى المالكيّة - على الرّاجح عندهم - والشّافعيّة والحنابلة : أنّها لا تكون إلاّ بمال مؤجّل منجّم تيسيراً على المكاتب في الجملة .
د - توقيت القرض :
48 - سبق بيان آراء الفقهاء في جواز تأجيل بدل القرض وعدمه . أمّا عقد القرض فهو عقد لا يصدر إلاّ مؤقّتاً ، وذلك لأنّه عقد تبرّع ابتداءً ، ومعاوضة انتهاءً ، أو دفع مال إرفاقاً لمن ينتفع به ويردّ بدله . والانتفاع به يكون بمضيّ فترة ينتفع فيها المقترض بمال القرض ، وذلك باستهلاك عينه ؛ لأنّه لو كان الانتفاع به مع بقاء عينه كان إعارةً لا قرضاً ، ثمّ يردّ مثله إذا كان مثليّاً وقيمته إذا كان قيميّاً ، وقد اختلف الفقهاء في المدّة الّتي يلزم فيها هذا العقد : فيرى المالكيّة أنّه عقد لازم في حقّ الطّرفين طوال المدّة المشترطة في العقد ، فإن لم يكن اشتراط فللمدّة الّتي اعتيد اقتراض مثله لها ، ويرى الحنابلة أنّ عقد القرض عقد لازم بالقبض في حقّ المقرض ، جائز في حقّ المقترض ، ويثبت العوض عن القرض في ذمّة المقترض حالّاً ، وإن أجّله ؛ لأنّه عقد منع فيه من التّفاضل ، فمنع الأجل فيه ، كالصّرف ، إذ الحالّ لا يتأجّل بالتّأجيل ، وهو عدة تبرّع لا يلزم الوفاء به . قال أحمد : القرض حالّ ، وينبغي أن يفي بوعده ، ويحرم الإلزام بتأجيل القرض ؛ لأنّه إلزام بما لا يلزم . ويرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّ القرض عقد إرفاق جائز في حقّ الطّرفين ، وذلك لأنّ الملك في القرض غير تامّ ؛ لأنّه يجوز لكلّ واحد منهما أن ينفرد بالفسخ .
القسم الثّاني أجل التّوقيت
49 - يقصد بأجل التّوقيت : الزّمن الّذي يترتّب على انقضائه زوال التّصرّف ، أو انتهاء الحقّ الّذي اكتسب خلال هذه المدّة المتّفق عليها ، والعقود والتّصرّفات من حيث قبولها للتّوقيت تنقسم إلى : أ - ( عقود لا تصلح إلاّ ممتدّةً لأجل ) ( مؤقّتة ) .
ب - عقود تصحّ حالّةً ومؤقّتةً . كما أنّ هذه العقود منها ما لا يصحّ إلاّ بأجل معلوم ، ومنها ما لا يصحّ إلاّ بأجل مجهول ، ومنها ما يصحّ بأجل معلوم أو مجهول ، وفيما يلي بيان ذلك . المبحث الأوّل عقود لا تصحّ إلاّ ممتدّةً لأجل ( مؤقّتة ) .
وهذا القسم يشمل عقود : الإجارة ، والكتابة والقراض :
أ - ( عقد الإجارة ) :
50 - إنّ الإجارة مؤقّتة إمّا بمدّة ، وإمّا بعمل معيّن ، والعمل يتمّ في زمن عادةً ، وبانتهاء العمل ينتهي عقد الإجارة ، فهو عقد مؤقّت . ومثل عقد الإجارة : المساقاة والمزارعة .
عقد المساقاة :
51 - يرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة أنّ المساقاة تكون مؤقّتةً ، فإن لم يبيّنا مدّةً وقع على أوّل ثمر يخرج ، ويرى الحنابلة أنّها يصحّ توقيتها ؛ لأنّه لا ضرر في تقدير مدّتها ، ولا يشترط توقيتها .
( تأقيت المزارعة ) :
52 - المزارعة لا يجيزها الإمام أبو حنيفة ، ويجيزها الصّاحبان أبو يوسف ومحمّد وبقولهما يفتى في المذهب . كما لا يجيزها الشّافعيّة إلاّ إذا كان بين النّخل أو العنب بياض ( أي أرض لا زرع فيها ) صحّت المزارعة عليه مع المساقاة على النّخل أو العنب تبعاً للمساقاة ، ويرى المالكيّة ومحمّد بن الحسن والحنابلة أنّ عقد المزارعة يجوز بلا بيان مدّة ، وتقع على أوّل زرع يخرج ، ويرى جمهور الحنفيّة أنّ من شروط صحّة عقد المزارعة ذكر مدّة متعارفة ، فتفسد بما لا يتمكّن فيها من المزارعة ، وبما لا يعيش إليها أحدهما غالباً .
ب - ( عقد الكتابة ) :
53 - هو عقد بين السّيّد ومملوكه على مال يوجب تحرير يد المملوك ( أي تصرّفه ) في الحال ورقبته في المآل وهو من محاسن الإسلام ، إذ فيه فتح باب الحرّيّة للأرقّاء ، وعقد الكتابة يوجب تأجيل العوض المكاتب به إلى أجل معيّن عند جمهور الفقهاء ، فإذا أدّاه المكاتب عتق ، فيكون هذا العقد مؤقّتاً بتأقيت العوض فيه . فإذا وفّى بما التزمه انتهى عقد الكتابة ، وعتق ، وإن لم يوفّ أو عجز نفسه ، انتهى عقد الكتابة وعاد رقيقاً ، على تفصيل في ذلك .
المبحث الثّاني
عقود تصحّ مطلقةً ومقيّدةً تأقيت عقد العاريّة لأجل :
54 - لمّا كانت حقيقة العاريّة أنّها إباحة نفع عين يحلّ الانتفاع بها مع بقاء العين ، ليردّها على مالكها ، لذلك لم يختلف الفقهاء في أنّ هذه الإباحة موقوتة ، غير أنّ هذا الوقت قد يكون محدّداً ، وتسمّى عاريّة مقيّدة - وقد لا يكون ، وتسمّى العاريّة المطلقة ، ويرى جمهور الفقهاء أنّ العاريّة عقد غير لازم فلكلّ واحد من المتعاقدين الرّجوع متى شاء ، خلافاً للمالكيّة في المقيّدة ، وفي المطلقة إلى مدّة ينتفع فيها بمثلها عادةً .
تأقيت الوكالة لأجل :
55 - يجوز تأقيت الوكالة بأجل عند جميع الفقهاء ، كقوله " وكّلتك شهراً ، فإذا مضى الشّهر امتنع الوكيل عن التّصرّف " " ولو قال وكّلتك في شراء كذا في وقت كذا صحّ بلا خلاف " لأنّ الوكيل لا يملك من التّصرّف إلاّ ما يقتضيه إذن الموكّل ، وعلى الوجه الّذي أراده ، وفي الزّمن والمكان الّذي حدّده . والأصل في الوكالة أنّها عقد جائز من الطّرفين ، لكلّ واحد منهما فسخها متى شاء ، إلاّ إذا تعلّق بها حقّ للغير ؛ لأنّه إذن في التّصرّف ، فكان لكلّ واحد منها إبطاله ، كالإذن في أكل طعامه . وهذا ما صرّح به جمهور الفقهاء في الجملة . وللمالكيّة تفصيل في هذا تبعاً للعوض وعدمه ، يرجع فيه وفي التّفصيلات الأخرى إلى الوكالة .
توقيت المضاربة ( القراض ) :
56 - اختلف الفقهاء في جواز تأقيت المضاربة : فيرى الحنفيّة والحنابلة أنّه يجوز توقيت المضاربة ، مثل أن يقول : ضاربتك على هذه الدّراهم سنةً ، فإذا انقضت فلا تبع ولا تشتر . فإذا وقّت لها وقتاً انتهت بمضيّه ؛ لأنّ التّوقيت مقيّد ، وهو وكيل ، فيتقيّد بما وقّته ، كالتّقييد بالنّوع والمكان . ولأنّه تصرّف يتوقّت بنوع من المتاع ، فجاز توقيته في الزّمان ، كالوكالة ؛ ولأنّ لربّ المال منعه من البيع والشّراء في كلّ وقت إذا رضي أن يأخذ بماله عرضاً ، فإذا شرط ذلك فقد شرط ما هو من مقتضى العقد ، فصحّ ، كما لو قال : إذا انقضت السّنة فلا تشتر شيئاً . ويرى المالكيّة ، والشّافعيّة ، أنّه لا يجوز توقيت المضاربة .
تأقيت الكفالة بأجل :
57 - اختلف الفقهاء في جواز تأقيت الكفالة ، كما لو قال : « أنا كفيل بزيد إلى شهر وبعده أنا بريء » . فيرى الحنفيّة والشّافعيّة ( على الصّحيح عندهم ) والحنابلة أنّه يجوز توقيتها ، وكذلك المالكيّة بشروط تفصيلها في باب الضّمان من كتبهم ؛ لأنّه قد يكون له غرض في التّقيّد بهذه المدّة ، وقد أورد الحنفيّة بعض صور التّوقيت . واختلف المذهب في صحّة التّوقيت فيها يرجع إليها في الكفالة . ويرى الشّافعيّة ( على الأصحّ عندهم ) أنّه لا يجوز توقيت الكفالة .
( تأقيت الوقف بأجل ) :
58 - إذا صدر الوقف مؤقّتاً ، وذلك بأن علّق فسخه على مجيء زمن معيّن ، كما لو قال : « داري وقف إلى سنة ، أو إلى أن يقدم الحاجّ » . فقد اختلف الفقهاء في حكمه ، فيرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّه لا يصحّ ؛ لأنّ الوقف مقتضاه التّأبيد . ويرى المالكيّة ، وهو قول للحنابلة ، أنّه لا يشترط في صحّة الوقف التّأبيد ، فيصحّ مدّةً معيّنةً ، ثمّ يرجع ملكاً كما كان .
تأقيت البيع :
59 - لمّا كان البيع هو مبادلة المال بالمال بالتّراضي ، وكان حكمه هو ثبوت الملك للمشتري في المبيع ، وللبائع في الثّمن للحالّ ولمّا كان هذا الملك يثبت له على التّأبيد ، فإنّه لا يحتمل التّأقيت جاء في الأشباه والنّظائر للسّيوطيّ : « أنّ ممّا لا يقبل التّأقيت بحال ، ومتى أقّت بطل ، البيع بأنواعه » ... وذلك كما قال الكاسانيّ : « لأنّ عقود تمليك الأعيان لا تصحّ مؤقّتةً » . وقد أبطل الفقهاء كلّ شرط يؤدّي إلى تأقيت البيع ، أي إلى عودة المبيع إلى بائعه الأوّل ، سواء كان هذا التّأقيت ناتجاً عن الصّيغة ، كبعتك هذا سنةً ، أو عن شرط يؤدّي إلى توقيت البيع ، كبعتك هذا بشرط أن تردّه لي بعد مدّة كذا .
بيوع الآجال عند المالكيّة
60 - وهي بيوع دخل فيها الأجل ، واتّحدت فيها السّلعة ، واتّحد فيها المتعاقدان ، وقد أبرزها فقهاء المالكيّة ، وبيّنوا أنّ هذه البيوع ظاهرها الجواز ، لكنّها قد تؤدّي إلى ممنوع ، وذلك لأنّها قد تؤدّي إلى بيع وسلف ، أو سلف جرّ منفعةً ، وكلاهما ممنوع ، كما وضعوا ضابطاً لما يمنع من هذه البيوع . فقالوا : يمنع من هذه البيوع ما اشتمل على بيع وسلف ، وما اشتمل على سلف جرّ منفعةً ، أو يمنع منها ما كثر قصد النّاس إليه للتّوصّل إلى الرّبا الممنوع ، كبيع وسلف ، وسلف بمنفعة ، ولا يمنع ما قلّ قصده ، كضمان بجعل ، أي كبيع جائز أدّى إلى ضمان بجعل .
( صور بيوع الآجال ) :
61 - وصورها كما ذكرها المالكيّة متعدّدة ، وتشمل الصّور التّالية : إذا باع شيئاً لأجل ، ثمّ اشتراه بجنس ثمنه فهذا إمّا أن يكون :
1 - نقداً .
2 - أو لأجل أقلّ .
3 - أو لأجل أكثر .
4 - أو لأجل مساو للأجل الأوّل .
وكلّ ذلك إمّا أن يكون :
1 - بمثل الثّمن الأوّل .
2 - أو أقلّ من الثّمن الأوّل .
3 - أو أكثر من الثّمن الأوّل . فتكون هذه الصّور اثنتي عشرة صورةً ، يمنع من هذه الصّور ثلاث فقط وهي ما تعجّل فيه الأقلّ ، وهي :
1 - ما إذا باع سلعةً لأجل ، ثمّ اشتراها بأقلّ نقداً ( بيع العينة ) .
2 - وما إذا باع سلعةً لأجل ثمّ اشتراها لأجل دون الأجل الأوّل .
3 - وما إذا باع سلعةً لأجل ثمّ اشتراها لأجل أبعد من الأجل الأوّل ، وعلّة المنع في هذه الصّور هي دفع قليل في كثير ، وهو سلف بمنفعة ، إلاّ أنّه في الصّورتين الأوليين من البائع ، وفي الأخيرة من المشتري ، وأمّا الصّور التّسع الباقية فجائزة . والضّابط أنّه إذا تساوى الأجلان أو الثّمنان فالجواز ، وإن اختلف الأجلان والثّمنان فينظر إلى اليد السّابقة بالعطاء ، فإن دفعت قليلاً عاد إليها كثيراً فالمنع ، وإلاّ فالجواز :
62 - فمن صور « بيوع الآجال » بيع العينة . وبيع العينة قال الرّافعيّ : هو أن يبيع شيئاً من غيره بثمن مؤجّل ، ويسلّمه إلى المشتري ، ثمّ يشتريه قبل قبض الثّمن بثمن نقد أقلّ من ذلك القدر وقال ابن رسلان في شرح السّنن : وسمّيت هذه المبايعة عينةً لحصول النّقد لصاحب العينة ؛ لأنّ العين هو المال الحاضر ، والمشتري إنّما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره ، ليصل به إلى مقصوده ، وقد روي عدم جواز بيع العينة عن ابن عبّاس وعائشة وابن سيرين والشّعبيّ والنّخعيّ ، وبه قال الثّوريّ والأوزاعيّ وأبو حنيفة ومالك وإسحاق وأحمد . وقد استدلّوا بأحاديث ، منها : ما روي عن ابن عمر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا ضنّ النّاس بالدّينار والدّرهم وتبايعوا بالعينة ، واتّبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل اللّه ، أنزل اللّه بهم بلاءً ، فلا يرفعه حتّى يراجعوا دينهم » . رواه أحمد وأبو داود ، ولفظه : « إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزّرع ، وتركتم الجهاد ، سلّط اللّه عليكم ذلّاً لا ينزعه حتّى ترجعوا إلى دينكم » . واستدلّ ابن القيّم على عدم جواز بيع العينة بما روي عن الأوزاعيّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « يأتي على النّاس زمان يستحلّون الرّبا بالبيع » . قال : وهذا الحديث وإن كان مرسلاً فإنّه صالح للاعتضاد به بالاتّفاق ، وله من المسندات ما يشهد له ، وهي الأحاديث الدّالّة على تحريم العينة ، فإنّه من المعلوم أنّ العينة عند من يستعملها إنّما يسمّيها بيعاً ، وقد اتّفقا على حقيقة الرّبا الصّريح قبل العقد ، ثمّ غيّر اسمها إلى المعاملة ، وصورتها إلى التّبايع الّذي لا قصد لهما فيه ألبتّة ، وإنّما هو حيلة ومكر وخديعة للّه تعالى . وأجاز الشّافعيّة هذا البيع مستدلّين على الجواز بما وقع من ألفاظ البيع ، ولأنّه ثمن يجوز بيعها به من غير بائعها ، فجاز من بائعها ، كما لو باعها بثمن المثل ، ولم يأخذوا بالأحاديث المتقدّمة .
تأقيت الهبة :
63 - اتّفق الفقهاء على أنّ الهبة لا يجوز توقيتها لأنّها عقد تمليك لعين في الحال ، وتمليك الأعيان لا يصحّ مؤقّتاً ، كالبيع . فلو قال : وهبتك هذا سنةً ثمّ يعود إليّ ، لم يصحّ . وقد استثنى بعض الفقهاء من ذلك العمرى والرّقبى على خلاف وتفصيل موطنه في مصطلحيهما .
( تأقيت النّكاح )
تأقيت النّكاح له صور نبيّنها ونبيّن آراء الفقهاء في كلّ صورة منها :
أ - ( نكاح المتعة ) :
64 - وهو أن يقول لامرأة خالية من الموانع : أتمتّع بك مدّة كذا وقد ذهب إلى حرمته الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وكثير من السّلف . وتفصيله في نكاح المتعة
ب - ( النّكاح المؤقّت أو النّكاح لأجل ) :
65 - وهو أن يتزوّج امرأة بشهادة شاهدين إلى عشرة أيّام مثلاً . وهذا النّكاح أيضاً باطل عند الحنفيّة ( عدا زفر فإنّه قال بصحّة العقد وبطلان الشّرط ) والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لأنّه في معنى المتعة . وتفصيل أحكامه في موضع آخر ( ر : نكاح ) .
ج - النّكاح المؤقّت بمدّة عمره أو عمرها ، أو إلى مدّة لا يعيشان إليها :
66 - اختلف الفقهاء في حكم النّكاح المؤقّت إلى مدّة عمر الزّوج أو الزّوجة أو إلى مدّة لا يعيشان أو أحدهما إليها : فيرى الحنفيّة غير الحسن بن زياد والمالكيّة غير أبي الحسن والشّافعيّة غير البلقينيّ والحنابلة أنّه باطل ، لأنّه في معنى نكاح المتعة ، ويرى الحسن بن زياد أنّهما إذا ذكرا من الوقت ما يعلم أنّهما لا يعيشان إليه ، كمائة سنة أو أكثر ، كان النّكاح صحيحاً ؛ لأنّه في معنى التّأبيد ، وهو رواية عن أبي حنيفة . ويرى البلقينيّ أنّه يستثنى من بطلان النّكاح ما إذا نكحها مدّة عمره ، أو مدّة عمرها ، قال : فإنّ النّكاح المطلق لا يزيد على ذلك ، والتّصريح بمقتضى الإطلاق لا يضرّ ، فينبغي أن يصحّ النّكاح في هاتين الصّورتين ، قال : وفي نصّ الأمّ ما يشهد له ، وتبعه على ذلك بعض المتأخّرين . وجاء في حاشية الدّسوقيّ أنّ « ظاهر كلام أبي الحسن أنّ الأجل البعيد الّذي لا يبلغه عمرهما لا يضرّ بخلاف ما يبلغه عمر أحدهما فيضرّ » .
د - ( إضمار الزّوج تأقيت النّكاح ) :
67 - صرّح الحنفيّة والشّافعيّة بأنّه لو تزوّج وفي نيّته أن يطلّقها بعد مدّة نواها صحّ زواجه ، لكن الشّافعيّة قالوا بكراهة النّكاح ، إذ كلّ ما صرّح به أبطل يكون إضماره مكروهاً عندهم كما قال المالكيّة إنّ الأجل إذا لم يقع في العقد ، ولم يعلمها الزّوج بذلك ، وإنّما قصده في نفسه ، وفهمت المرأة أو وليّها المفارقة بعد مدّة ، فإنّه لا يضرّ وهذا هو الرّاجح ، وإن كان بهرام صدّر في « شرحه » وفي « شامله » بالفساد إذا فهمت منه ذلك الأمر الّذي قصده في نفسه فإن لم يصرّح للمرأة ولا لوليّها بذلك ولم تفهم المرأة ما قصده في نفسه فليس نكاح متعة . أمّا الحنابلة فقد صرّحوا بأنّه لو تزوّج الغريب بنيّة طلاقها إذا خرج ، فإنّ النّكاح يبطل ؛ لأنّه نكاح متعة ، وهو باطل . ولكن جاء في المغني : « وإن تزوّجها بغير شرط إلاّ أنّ في نيّته طلاقها بعد شهر ، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد ، فالنّكاح صحيح في قول عامّة أهل العلم إلاّ الأوزاعيّ ، قال : هو نكاح متعة . والصّحيح أنّه لا بأس به ، ولا تضرّ نيّته ، وليس على الرّجل أن ينوي حبس امرأته ، وحسبه إن وافقته وإلاّ طلّقها .
هـ - ( احتواء النّكاح على وقت يقع فيه الطّلاق ) :
68 - إذا تزوّج امرأةً بشرط أن يطلّقها في وقت معيّن ، لم يصحّ النّكاح ، وسواء كان معلوماً أو مجهولاً ، مثل أن يشترط عليه طلاقها إن قدم أبوها أو أخوها ، وقال أبو حنيفة : يصحّ النّكاح ، ويبطل الشّرط ، وهو أظهر قولي الشّافعيّ ، قاله في عامّة كتبه ؛ لأنّ النّكاح وقع مطلقاً ، وإنّما شرط على نفسه شرطاً ، وذلك لا يؤثّر فيه ، كما لو شرط ألاّ يتزوّج عليها أو لا يسافر بها . واستدلّ القائلون بالبطلان بأنّ هذا الشّرط مانع من بقاء النّكاح فأشبه نكاح المتعة ، ويفارق ما قاسوا عليها فإنّه لم يشترط قطع النّكاح .
تأقيت الرّهن بأجل :
69 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا يجوز تأقيت الرّهن بأجل ، كأن يقول : رهنتك هذا الشّيء شهراً ، في الدّين الّذي لك عليّ .
تقسيم الأجل باعتبار ضبطه وتحديده :
70 - ينقسم الأجل من حيث ضبطه وتحديده إلى أجل معلوم وأجل مجهول . ومعلوميّة الأجل وجهالته لها أثر على صحّة العقد ، وعدم صحّته ، لما تورثه الجهالة من الغرر ، إلاّ أنّ من الجهالة ما كان متقارباً ، ومنها ما كان متفاوتاً ، وفيما يلي آراء المذاهب في ذلك .
( المبحث الأوّل الأجل المعلوم )
71 - اتّفق الفقهاء على صحّة الأجل ( فيما يقبل التّأجيل ) إذا كان الأجل معلوماً فأمّا كيفيّة العلم به فإنّه يحتاج فيها إلى أن يعلم بزمان بعينه لا يختلف من شخص إلى شخص ومن جماعة إلى جماعة ، وذلك إنّما يكون إذا كان محدّداً باليوم والشّهر والسّنة . والدّليل على اشتراط معلوميّة الأجل : قوله تعالى { يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمًّى فاكتبوه } . ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في موضع شرط الأجل : « من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم » وقد انعقد الإجماع على صحّة التّأجيل إلى أجل معلوم . ولأنّ جهالة الأجل تفضي إلى المنازعة في التّسلّم والتّسليم ، فهذا يطالبه في قريب المدّة ، وذاك في بعيدها ، وكلّ ما يفضي إلى المنازعة يجب إغلاق بابه . ولأنّه . سيؤدّي إلى عدم الوفاء بالعقود ، وقد أمرنا بالوفاء بها . 72 - وقد اختلف الفقهاء في حقيقة العلم بالأجل ، أو معلوميّة الأجل : فصرّح بعضهم بأنّ الأجل المعلوم هو ما يعرفه النّاس ، كشهور العرب . وبعضهم جعله " ما يكون معلوماً للمتعاقدين ولو حكماً ، وأنّ الأيّام المعلومة للمتعاقدين كالمنصوصة ، وأنّ التّأجيل بالفعل الّذي يفعل في الأيّام المعتادة كالتّأجيل بالأيّام » . وإزاء هذين الاتّجاهين لا بدّ من بيان آراء الفقهاء في التّأجيل إلى أزمنة معلومة حقيقةً أو حكماً ، أو إلى فصول أو مناسبات ، أو إلى فعل يقع في أزمنة معتادة .
التّأجيل إلى أزمنة منصوصة
73 - اتّفق الفقهاء على صحّة التّأجيل إلى أزمنة منصوصة ، كما لو قال " خذ هذا الدّينار سلماً في إردبّ قمح إلى أوّل شهر رجب من هذا العام ، أو آخذه منك بعد عشرين يوماً » . والأصل في التّأجيل إلى الشّهور والسّنين عند الإطلاق أن تكون هلاليّةً ، فإذا ضرب أجلاً مدّته شهر أو شهران ، أو سنة أو سنتان ، مثلاً ، انصرف عند الإطلاق إلى الأشهر والسّنين الهلاليّة ، وذلك لأنّه عرف الشّرع ، قال تعالى : { يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للنّاس والحجّ } وقال تعالى : { إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السّموات والأرض منها أربعة حرم } وقد صرّح بهذا الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
التّأجيل بغير الشّهور العربيّة
74 - إذا جعل الأجل مقدّراً بغير الشّهور الهلاليّة فذلك قسمان : القسم الأوّل : ما يعرفه المسلمون ، وهو بينهم مشهور ، ككانون وشباط . فقد جاز ذلك عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) لأنّه أجل معلوم لا يختلف ، فصار كالتّأجيل بالشّهور الهلاليّة . القسم الثّاني : ما قد لا يعرفه المسلمون كالتّأجيل إلى النّيروز والمهرجان ونحوهما فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز التّأجيل إليه .
التّأجيل بالأشهر بإطلاق :
75 - إذا جعل التّأجيل بالأشهر ، دون النّصّ على أنّها هلاليّة أو روميّة أو فارسيّة ، فإنّ الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) قد اتّفقوا على أنّه عند التّأجيل بالأشهر بإطلاق تنصرف إلى الهلاليّة ، وذلك لأنّ الشّهور في عرف الشّرع شهور الأهلّة ، بدليل قوله تعالى : { إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السّموات والأرض منها أربعة حرم } وأراد الهلاليّة ، فعند الإطلاق يحمل العقد عليها ، واحتساب هذه المدّة إذا وقع العقد في أوّل الشّهر من أوّله . أمّا إذا لم يقع في أوّله ، فإمّا أن يكون لشهر أو أكثر ، أو سنة . فإن كان لشهر ، فإن وقع العقد في غرّة الشّهر ، يقع على الأهلّة بلا خلاف ، حتّى لو نقص الشّهر يوماً كان عليه كمال الأجرة ؛ لأنّ الشّهر اسم للهلال ، وإن وقع بعدما مضى بعض الشّهر ، ففي إجارة الشّهر يقع على ثلاثين يوماً بالإجماع ، لتعذّر اعتبار الأهلّة ، فتعتبر الأيّام . وأمّا في إجارة ثلاثة أشهر مثلاً فإنّهم قد اختلفوا ، فقد قيل : تكمل شهرين بالهلال ، وشهراً بالعدد ثلاثين يوماً ، وهو رأي للحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وقيل تكون الثّلاثة كلّها عدديّةً ، وهو رأي لأبي حنيفة ، ورأي عند الحنابلة ، ومثل ذلك في إجارة السّنة مثلاً .
بدء احتساب مدّة الأجل :
76 - يبدأ احتساب مدّة الأجل من الوقت الّذي حدّده المتعاقدان فإن لم يحدّدا كان من وقت العقد .
التّأجيل بأعياد المسلمين :
77 - إذا وقع التّأجيل إلى الأعياد جاز إذا كان العيد محدّداً معلوماً ، كعيد الفطر ، وعيد الأضحى ، فهذا يصحّ التّأجيل إليه .
التّأجيل إلى ما يحتمل أحد أمرين :
78 - إذا وقع الأجل بما يحتمل أمرين صرف إلى أوّلهما ، كما صرّح الشّافعيّة ( على الأصحّ عندهم ) والحنابلة ، كتأجيله بالعيد ، أو جمادى ، أو ربيع ، أو نفر الحجّ ؛ لأنّ العيد عيد الفطر وعيد الأضحى ، وجمادى الأولى والثّانية ، وربيع الأوّل والثّاني ، ونفر الحجّ ثاني أيّام التّشريق وثالثها ، فيحمل على الأوّل من ذلك ، لتحقّق الاسم به . والثّاني : لا ، بل يفسده ، لتردّده بين الأوّل والثّاني .
التّأجيل إلى مواسم معتادة :
79 - اختلف الفقهاء في جوازه ، كالحصاد ، والدّياس ، والجذاذ ، وقدوم الحاجّ ، إلى رأيين : يرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وابن المنذر أنّه لا يجوز التّأجيل إلى هذه الأشياء . واستدلّوا بما روي عن ابن عبّاس أنّه قال : لا تتبايعوا إلى الحصاد والدّياس ، ولا تتبايعوا إلاّ إلى شهر معلوم . ولأنّ التّأجيل بذلك يختلف ، ويقرب ويبعد ، فالحصاد والجذاذ يتأخّران أيّاماً إن كان المطر متواتراً ، ويتقدّمان بحرّ الهواء وعدم المطر ، وأمّا العطاء فقد ينقطع جملةً .
80 - وقد اختلف هؤلاء الفقهاء في أثر اشتراط التّأجيل إلى أجل مجهول جهالةً متقاربةً . فيرى الحنفيّة أنّه لا يجوز البيع إلى أجل مجهول سواء كانت الجهالة متقاربةً كالحصاد والدّياس مثلاً ، أو متفاوتةً ، كهبوب الرّيح وقدوم واحد من سفر ، فإن أبطل المشتري الأجل المجهول التّقارب قبل محلّه ، وقبل فسخ العقد بالفساد ، انقلب البيع جائزاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّد ، وعند زفر لا ينقلب ، ولو مضت المدّة قبل إبطال الأجل تأكّد الفساد ، ولا ينقلب جائزاً بإجماع علماء الحنفيّة ، ويرى الشّافعيّة فساد العقد ، وذلك لأنّه يشترط عندهم في المؤجّل العلم بالأجل ، بأن يكون معلوماً مضبوطاً ، فلا يجوز بما يختلف ، كالحصاد وقدوم الحاجّ ، للحديث « من أسلم في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم » . ( متّفق عليه ) ولأنّ ذلك غير معلوم ، لأنّه يتقدّم ويتأخّر . ويرى الحنابلة أنّه يلغو التّأجيل ويصحّ العقد ، وذلك لأنّهم يشترطون أن يكون الأجل مقدّراً بزمن معلوم ، فإن شرط خياراً أو أجلاً مجهولين - بأن باعه بشرط الخيار وأطلق ، أو إلى الحصاد ونحوه ، أو بثمن مؤجّل إلى الحصاد ونحوه - لم يصحّ الشّرط وصحّ البيع ، وللّذي فات غرضه بفساد الشّرط من بائع ومشتر - سواء علم بفساد الشّرط أو لا - أحد أمرين : فسخ البيع ؛ لأنّه لم يسلّم له ما دخل عليه من الشّرط ، أو أرش ، ( أي تعويض ) ما نقص من الثّمن بإلغاء الشّرط إن كان المشترط بائعاً ، أو ما زاد إن كان مشترياً - يعني إذا اشترى بزيادة على الثّمن . أمّا في السّلم فإنّه لا يصحّ العقد إذا وقع التّأجيل بذلك ، وذلك لفوات شرط صحّته ، وهو الأجل المعلوم ، لاختلاف هذه الأشياء . ويرى المالكيّة أنّه يجوز التّأجيل إليه ، ويعتبر في الحصاد والدّياس ونحوهما ميقات معظمه ، أي الوقت الّذي يحصل فيه غالب ما ذكر ، وهو وسط الوقت المعدّ لذلك ، وسواء وجدت الأفعال في بلد العقد ، أو عدمت - أي لم توجد - فالمراد وجود الوقت الّذي يغلب فيه الوقوع . ونحوه ما ذكره ابن قدامة في رواية أخرى عن الإمام أحمد أنّه قال : أرجو ألاّ يكون به بأس . وبه قال أبو ثور ، وعن ابن عمر أنّه كان يبتاع إلى العطاء ، وبه قال ابن أبي ليلى . وقال أحمد : إن كان شيء يعرف فأرجو ، وكذلك إن قال إلى قدوم الغزاة ، وهذا محمول على أنّه أراد وقت العطاء ، لأنّ ذلك معلوم . فأمّا نفس العطاء فهو في نفسه مجهول ، يختلف ، ويتقدّم ويتأخّر ، ويحتمل أنّه أراد نفس العطاء ، لكونه يتفاوت أيضاً ، فأشبه الحصاد . واحتجّ من أجاز ذلك بأنّه أجل يتعلّق بوقت من الزّمن يعرف في العادة ، لا يتفاوت فيه تفاوتاً كبيراً ، فأشبه ما إذا قال رأس السّنة .
الأجل المجهول التّأجيل إلى فعل غير منضبط الوقوع :
81 - اتّفق الفقهاء على عدم جواز التّأجيل إلى ما لا يعلم وقت وقوعه - حقيقةً أو حكماً - ولا ينضبط ، وهو الأجل المجهول ، وذلك كما لو باعه بثمن مؤجّل إلى قدوم زيد من سفره ، أو نزول مطر ، أو هبوب ريح . وكذا إذا باعه إلى ميسرة ، وقد استدلّوا على عدم جواز هذا النّوع من الأجل بالآثار الّتي استدلّ بها على عدم جواز التّأجيل بالفعل الّذي يقع في زمان معتاد ، كالحصاد والدّياس ، بل هذا النّوع أولى ؛ لأنّ الجهالة هناك متقاربة ، وهنا الجهالة فيها متفاوتة . ولأنّ التّأجيل بمثل ذلك غير معلوم ؛ لأنّ ذلك يختلف : يقرب ويبعد ، يتقدّم ويتأخّر ، ولأنّ جهالته تفضي إلى المنازعة في التّسليم والتّسلّم ، فهذا يطالبه في قريب المدّة ، وذاك في بعيدها ؛ ولأنّ الأجل المجهول لا يفيد ؛ لأنّه يؤدّي إلى الغرر .
أثر التّأجيل إلى أجل مجهول جهالةً مطلقةً :
82 - سبق بيان اتّفاق الفقهاء على عدم جواز التّأجيل إلى أجل مجهول جهالةً مطلقةً . واختلفوا في أثر هذا التّأجيل على التّصرّف فيرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رأي للحنابلة ، أنّه لا يصحّ العقد أيضاً ، وذلك لأنّه أجل فاسد فأفسد العقد ؛ لأنّ المتعاقدين رضيا به مؤجّلاً إلى هذا الأجل ، وإذا لم يصحّ الأجل ، فالقول بصحّته حالّاً يخالف إرادتهما وما تراضيا عليه ، والبيع - ونحوه - يقوم على التّراضي ، فأفسد العقد . غير أنّ الحنفيّة يرون أنّه إن أبطل المشتري الأجل المجهول المتفاوت قبل التّفرّق ، ونقد الثّمن ، انقلب جائزاً ، وعند زفر لا ينقلب جائزاً ، ولو تفرّقا قبل الإبطال تأكّد الفساد ، ولا ينقلب جائزاً بإجماع الحنفيّة . ويرى الحنابلة أنّ الأجل المجهول في البيع يفسد ، ويصحّ البيع ، وفي السّلم يفسد الأجل والسّلم ، وقد استدلّوا على صحّة البيع وبطلان الأجل المجهول بما روي عن « عائشة أنّها قالت : جاءتني بريرة ، فقالت كاتبت أهلي على تسع أواق ، في كلّ عام أوقيّة ، فأعينيني . فقلت : إن أحبّ أهلك أن أعدّها لهم عدّةً واحدةً ، ويكون ولاؤك لي فعلت . فذهبت بريرة إلى أهلها ، فقالت لهم ، فأبوا عليها . فجاءت من عندهم ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم جالس ، فقالت : إنّي عرضت عليهم فأبوا إلاّ أن يكون الولاء لهم . فسمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم . فأخبرت عائشة النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : خذيها واشترطي لهم الولاء ، فإنّما الولاء لمن أعتق ففعلت عائشة ، فقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في النّاس فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد فما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب اللّه تعالى ؟ ما كان من شرط ليس في كتاب اللّه فهو باطل ، وإن كان مائة شرط . قضاء اللّه أحقّ . وشرط اللّه أوثق . وإنّما الولاء لمن أعتق » متّفق عليه ، فأبطل الشّرط ولم يبطل العقد . قال ابن المنذر : خبر بريرة ثابت ، ولا نعلم خبراً يعارضه . فالقول به يجب .
الاعتياض عن الأجل بالمال
يرد الاعتياض عن الأجل بالمال في صور منها ما يلي :
الصّورة الأولى :
83 - صدور إيجاب مشتمل على صفقتين ، إحداهما بالنّقد ، والأخرى بالنّسيئة ، مثل أن يقول بعتك هذا نقداً بعشرة ، وبالنّسيئة بخمسة عشر . يرى جمهور العلماء أنّ هذا البيع إذا صدر بهذه الصّيغة لا يصحّ ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة ، » جاء في الشّرح الكبير : « كذلك فسّره مالك والثّوريّ ، وإسحاق ، وهذا قول أكثر أهل العلم ؛ لأنّه لم يجزم له ببيع واحد ، أشبه ما لو قال بعتك أحد هذين ؛ ولأنّ الثّمن مجهول فلم يصحّ ، كالبيع بالرّقم المجهول " ، وقد روي عن طاوس والحكم وحمّاد أنّهم قالوا : لا بأس أن يقول : أبيعك بالنّقد بكذا ، وبالنّسيئة بكذا ، فيذهب إلى أحدهما . فيحتمل أنّه جرى بينهما بعدما يجري في العقد ، فكأنّ المشتري قال : أنا آخذه بالنّسيئة بكذا ، فقال : خذه ، أو قال : قد رضيت ، ونحو ذلك ، فيكون عقداً كافياً ، فيكون قولهم كقول الجمهور ، فعلى هذا : إن لم يوجد ما يدلّ على الإيجاب أو ما يقوم مقامه لم يصحّ ؛ لأنّ ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجاباً ، فهذا الخلاف الوارد في صحّة هذا البيع مصدره الصّيغة الصّادرة مشتملة على صيغتين في آن واحد ، فلم يجزم البائع ببيع واحد ؛ ولأنّ الثّمن مجهول هل هو عشرة أو خمسة عشر . وإذا كان الإيجاب غير جازم لا يصلح ، ويكون عرضاً ، فإذا قبل الموجّه إليه العرض إحدى الصّفقتين كان إيجاباً موجّهاً إلى الطّرف الأوّل ، فإن قبل تمّ العقد ، وإلاّ لم يتمّ .
( الصّورة الثّانية ) :
84 - وهي بيع الشّيء بأكثر من سعر يومه لأجل النّساء . يرى جمهور الفقهاء جواز بيع الشّيء بأكثر من سعر يومه لأجل النّساء ، وذلك لعموم الأدلّة القاضية بجواز البيع . قال اللّه تعالى : { وأحلّ اللّه البيع } وهو عامّ في إباحة سائر البياعات إلاّ ما خصّ بدليل ، ولا يوجد دليل يخصّص هذا العموم .
( الصّورة الثّالثة ) :
وهي تأجيل الدّين الحالّ في مقابل زيادة :
85 - وهذه الصّورة تدخل في باب الرّبا " إذ الرّبا المحرّم شرعاً شيئان : ربا النّساء ، وربا التّفاضل . وغالب ما كانت العرب تفعله ، من قولها للغريم : أتقضي أم تربي ؟ فكان الغريم يزيد في المال ، ويصبر الطّالب عليه ، وهذا كلّه محرّم باتّفاق الأمّة » . قال الجصّاص : معلوم أنّ ربا الجاهليّة إنّما كان قرضاً مؤجّلاً بزيادة مشروطة ، فكانت الزّيادة بدلاً من الأجل ، فأبطله اللّه تعالى وحرّمه ، وقال : { وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم } وقال تعالى : { وذروا ما بقي من الرّبا } حظر أن يؤخذ للأجل عوض ، ولا خلاف أنّه لو كان عليه ألف درهم حالّةً ، فقال له : أجّلني وأزيدك فيها مائة درهم ، لا يجوز ؛ لأنّ المائة عوض من الأجل » .
الصّورة الرّابعة :
وهي تعجيل الدّين المؤجّل في مقابل التّنازل عن بعضه « ضع وتعجّل » . 86 - يرى جمهور الفقهاء أنّه إذا كان لرجل على آخر دين مؤجّل ، فقال المدين لغريمه : ضع عنّي بعضه وأعجّل لك بقيّته ، فإنّ ذلك لا يجوز عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . وكرهه زيد بن ثابت ، وابن عمر ، والمقداد ، وسعيد بن المسيّب ، وسالم ، والحسن ، وحمّاد ، والحكم ، والثّوريّ ، وهشيم ، وابن عليّة ، وإسحاق . فقد روي أنّ رجلاً سأل ابن عمر فنهاه عن ذلك . ثمّ سأله ، فقال : إنّ هذا يريد أن أطعمه الرّبا . وروي عن زيد بن ثابت أيضاً النّهي عن ذلك . وروي أنّ المقداد قال لرجلين فعلا ذلك : كلاكما قد أذن بحرب من اللّه ورسوله . واستدلّ جمهور الفقهاء على بطلان ذلك بشيئين : أحدهما : تسمية ابن عمر إيّاه ربا ، ومثل ذلك لا يقال بالرّأي وأسماء الشّرع توقيف . والثّاني : أنّه معلوم أنّ ربا الجاهليّة إنّما كان قرضاً مؤجّلاً بزيادة مشروطة ، فكانت الزّيادة بدلاً من الأجل ، فأبطله اللّه تعالى ، وحرّمه ، وقال : { وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم } وقال تعالى : { وذروا ما بقي من الرّبا } حظر أن يؤخذ للأجل عوض . فإذا كانت عليه ألف درهم مؤجّلة ، فوضع عنه على أن يعجّله ، فإنّما جعل الحطّ مقابل الأجل ، فكان هذا هو معنى الرّبا الّذي نصّ اللّه تعالى على تحريمه . ولا خلاف أنّه لو كان عليه ألف درهم حالّة ، فقال له : أجّلني وأزيدك فيها مائة درهم ، لا يجوز ؛ لأنّ المائة عوض من الأجل ، كذلك الحطّ في معنى الزّيادة ، إذ جعله عوضاً من الأجل ، وهذا هو الأصل في امتناع جواز أخذ الأبدال عن الآجال . فحرمة ربا النّساء ليست إلاّ لشبهة مبادلة المال بالأجل وإذا كانت شبهة الرّبا موجبةً للحرمة فحقيقته أولى بذلك . وأيضاً فإنّه لا يمكن حمل هذا على إسقاط الدّائن لبعض حقّه ؛ لأنّ المعجّل لم يكن مستحقّاً بالعقد ، حتّى يكون استيفاؤه استيفاءً لبعض حقّه ، والمعجّل خير من المؤجّل لا محالة ، فيكون ( فيما لو كانت له عليه ألف مؤجّلة فصالحه على خمسمائة حالّة ) خمسمائة في مقابل مثله من الدّين ، وصفة التّعجيل في مقابلة الباقي - وهو الخمسمائة - وذلك اعتياض عن الأجل ، وهو حرام . وأيضاً لأنّ الأجل صفة ، كالجودة ، والاعتياض عن الجودة لا يجوز ، فكذا عن الأجل . ويقول ابن قدامة : إنّه بيع الحلول ، فلم يجز ، كما لو زاده الّذي له الدّين ، فقال له : أعطيك عشرة دراهم وتعجّل لي المائة الّتي عليك ، ويقول صاحب الكفاية : والأصل فيه أنّ الإحسان متى وجد من الطّرفين يكون محمولاً على المعاوضة - كهذه المسألة - فإنّ الدّائن أسقط من حقّه خمسمائة ، والمديون أسقط حقّه في الأجل في الخمسمائة الباقية ، فيكون معاوضةً بخلاف ما إذا صالح من ألف على خمسمائة ، فإنّه يكون محمولاً على إسقاط بعض الحقّ ، دون المعاوضة ؛ لأنّ الإحسان لم يوجد إلاّ من طرف ربّ الدّين . وروي عن ابن عبّاس أنّه لم ير بأساً بهذا « ضع عنّي وتعجّل » ، وروي ذلك عن النّخعيّ ، وأبي ثور ؛ لأنّه آخذ لبعض حقّه ، تارك لبعضه ، فجاز كما لو كان الدّين حالّاً ، واستثنى من ذلك الحنفيّة والحنابلة ( وهو قول الخرقيّ من علمائهم ) أنّه يجوز أن يصالح المولى مكاتبه على تعجيل بدل الكتابة في مقابل الحطّ منه ، وذلك لأنّ معنى الإرفاق فيما بينهما أظهر من معنى المعاوضة ، فلا يكون هذا في مقابلة الأجل ببعض المال ، ولكن إرفاق من المولى بحطّ بعض المال ، ومساهلة من المكاتب فيما بقي قبل حلول الأجل ليتوصّل إلى شرف الحرّيّة ؛ ولأنّ المعاملة هنا هي معاملة المكاتب مع سيّده ، وهو يبيع بعض ماله ببعض ، فدخلت المسامحة فيه ، بخلاف غيره .
اختلاف المتعاقدين في الأجل
87 - اختلاف المتعاقدين في الأجل إمّا أن يكون في أصل الأجل ، أو في مقداره ، أو في حلوله ، أو في مضيّه وفيما يلي آراء الفقهاء في ذلك :
الاختلاف في أصل الأجل في البيع :
88 - إذا اختلف المتعاقدان في أصل الأجل ، بأن قال المشتري : اشتريته بدينار مؤجّل ، وأنكره البائع - فإنّ الفقهاء قد اختلفوا : فيرى الحنفيّة والحنابلة أنّ القول لمن ينفي الأجل ، وهو البائع ، مع يمينه ، وذلك لأنّ الأصل الحلول . والبيّنة على المشتري ؛ لأنّه يثبت خلاف الظّاهر ، والبيّنات للإثبات ، ويرى المالكيّة أنّه يعمل بالعرف باليمين ، سواء أكانت السّلعة قائمةً أو فاتت . فإن لم يكن عرف تحالفا وتفاسخا إن كانت قائمةً ، فتردّ السّلعة لبائعها ، وإن لم تكن قائمةً صدّق المشتري بيمين إن ادّعى أجلاً قريباً لا يتّهم فيه ، وإلاّ فالقول للبائع إن حلف . ويرى الشّافعيّة ، وهو رواية في مذهب الحنابلة ، أنّهما يتحالفان ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لو يعطى النّاس بدعواهم لادّعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدّعى عليه » . رواه مسلم ، وكلّ منهما مدّعًى عليه ، كما أنّه مدّع . ولأنّهما اختلفا في صفة العقد ، فوجب أن يتحالفا ، قياساً على الاختلاف في الثّمن .
( الاختلاف في مقدار الأجل )
89 - إذا اختلف المتعاقدان في مقدار الأجل ، كما إذا قال البائع بعتكه بثمن مؤجّل إلى شهر ، ويدّعي المشتري أكثر من ذلك ، فإنّ الفقهاء اختلفوا فيه : فيرى الحنفيّة والحنابلة أنّ القول قول مدّعي الأقلّ ، لإنكاره الزّيادة ، والبيّنة للمشتري ، لأنّه يثبت خلاف الظّاهر ، والبيّنات لإثبات خلاف الظّاهر . ويرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ( في رواية أخرى ) أنّهما يتحالفان ، للحديث المتقدّم ؛ ولأنّ كلّاً منهما مدّعًى عليه ، كما أنّه مدّع ، فإذا تحالفا فعند المالكيّة فسخ العقد إن كانت السّلعة قائمةً - على المشهور - إن حكم بالفسخ حاكم ، أو تراضيا عليه ، وتعود السّلعة على ملك البائع حقيقةً ، ظالماً أو مظلوماً . وقيل يحصل الفسخ بمجرّد التّحالف ، كاللّعان ، ولا يتوقّف على حكم . وحلف المشتري إن فات المبيع كلّه ، فإن فات البعض فلكلّ حكمه . ويرى الشّافعيّة أنّهما إذا تحالفا فالصّحيح أنّ العقد لا ينفسخ بنفس التّحالف ؛ لأنّ البيّنة أقوى من اليمين ، ولو أقام كلّ منهما بيّنةً لم ينفسخ فبالتّحالف أولى ، بل إن تراضيا على ما قال أحدهما أقرّ العقد وإن لم يتراضيا بأن استمرّ نزاعهما فيفسخانه ، أو أحدهما ، أو الحاكم لقطع النّزاع ، وحقّ الفسخ بعد التّحالف ليس على الفور ، فلو لم يفسخا في الحال كان لهما بعد ذلك لبقاء الضّرر المحوج للفسخ . وقيل إنّما يفسخه الحاكم ؛ لأنّه فسخ مجتهد فيه فلا يفسخ أحدهما . ومقابل الصّحيح أنّه ينفسخ بالتّحالف وتعود الحال إلى ما كانت عليه قبل العقد .
( الاختلاف في انتهاء الأجل ) :
90 - إذا اختلف المتعاقدان في مضيّ الأجل ، مع اتّفاقهما على التّأجيل - كما إذا قال البائع بعتكه بثمن مؤجّل إلى شهر أوّله هلال رمضان ، وقد انقضى ، ويقول المشتري بل أوّله نصف رمضان فانتهاء الأجل نصف شوّال - فقد اختلف الفقهاء في حكمه : فيرى الحنفيّة أنّ القول والبيّنة للمشتري ؛ لأنّهما لمّا اتّفقا على الأجل ، فالأصل بقاؤه ، فكان القول للمشتري في عدم مضيّه ؛ ولأنّه منكر توجّه المطالبة ، وأمّا تقديم بيّنته على بيّنة البائع فلكونها أكثر إثباتاً . ويرى المالكيّة أنّ القول لمنكر التّقضّي بيمينه ؛ لأنّ الأصل بقاء الأجل ، " أي أنّ القول لمن ادّعى بقاء الأجل ، وأنكر انقضاءه ، سواء كان بائعاً أو مشترياً ، كان مكرياً أو مكترياً ، إذا لم توجد بيّنة ، فإن كان لأحدهما بيّنة عمل بها ، وهذا إن أشبه قوله عادة النّاس في الأجل - أشبه الآخر أم لا - فإن لم يشبها معاً عادة النّاس حلفا ، وفسخ إن كانت السّلعة قائمةً ، وإلاّ فالقيمة ، ويقضى للحالف على النّاكل . . . » .
مسقطات الأجل
91 - الأجل إمّا أن يكون أجل إضافة ، وهو ما يترتّب على تحقّقه ترتّب أحكام التّصرّف . أو يترتّب على تحقّقه حلول الدّين أو حلول العين فيما يصحّ إضافته من الأعيان إلى أجل ، أو يكون أجل توقيت وهو الّذي يترتّب على تحقّقه انتهاء الحقّ الّذي كان له .
والمسقطات - بوجه عامّ - إمّا بطريق الإسقاط ، وإمّا بطريق السّقوط .
وفيما يلي بيان ذلك :
أوّلاً : إسقاط الأجل :
أ - إسقاط الأجل من قبل المدين :
92 - لمّا كان الأجل قد شرع رفقاً بالمدين وتمكيناً له من وفاء الدّين في الوقت المناسب له ، ورعايةً لحالة العدم الّتي يتعرّض لها ، كان من حقّه أن يسقط أجل الدّين ، ويصبح الدّين حالّاً ، وعلى الدّائن قبض الدّين . وهذا هو رأي جمهور الفقهاء : ( الحنفيّة مطلقاً وكذا المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إذا لم يؤدّ ذلك إلى الإضرار بالدّائن كأن كان الأداء في مكان مخوف ، أو كان له حمل ومؤنة أو كان في وقت كساد ) على تفصيل في هذه المذاهب الثّلاثة يرجع إليه في مواطنه .
ب - إسقاط الأجل من قبل الدّائن :
93 - تبيّن ممّا تقدّم أنّ الأجل حقّ لمن عليه الدّين ، وإذا كان حقّاً له فإنّه يستبدّ بإسقاطه ، طالما أنّه لا يؤدّي هذا الإسقاط إلى ضرر بالدّائن . أمّا الدّائن فإنّ إسقاطه الأجل يجب أن يفرّق فيه بين أجل لحق العقد وقت صدوره - كما لو باع بثمن مؤجّل - ففي هذه الحالة يكون الأجل لازماً للدّائن لأنّه التحق بصلب العقد باتّفاق الفقهاء ، وبين أجل أراده الدّائن والمدين بعد صدور العقد بثمن حالّ ، وهذا النّوع قد اختلف الفقهاء في لزومه للدّائن ، أي أنّه لا يمكنه أن يستبدّ بإسقاطه دون الرّجوع إلى المدين . فذهب الحنفيّة ( غير زفر ) والمالكيّة إلى أنّ من باع بثمن حالّ ، ثمّ أجّله إلى أجل معلوم أنّ الثّمن يصير مؤجّلاً ، كما لو باعه بثمن مؤجّل ابتداءً ، ويصبح الأجل لازماً للدّائن لا يصحّ رجوعه عنه دون رضا المدين . أمّا التّأجيل فلأنّ الثّمن حقّه ، فله أن يؤخّره تيسيراً على من عليه ؛ ولأنّ التّأجيل إثبات براءة مؤقّتة إلى حلول الأجل ، وهو يملك البراءة المطلقة بالإبراء عن الثّمن فلأن يملك البراءة المؤقّتة أولى ، وأمّا كونه لازماً له فذلك لأنّ الشّرع أثبت عن إسقاطه بالبراءة المطلقة السّقوط ، والتّأجيل التزام الإسقاط إلى وقت معيّن ، فيثبت شرعاً السّقوط إلى ذلك الوقت ، كما ثبت شرعاً سقوطه بإسقاطه مطلقاً . وقال زفر ( من علماء الحنفيّة ) والشّافعيّة والحنابلة : إنّ كلّ دين حالّ لا يصير مؤجّلاً بالتّأجيل ؛ لأنّه بعد أن كان حالّاً ليس إلاّ وعداً بالتّأخير ، وحينئذ يكون له الحقّ في الرّجوع عنه ، وكذلك اختلفوا في لزوم شرط تأجيل القرض ، وقد سبق أنّ جمهور الفقهاء لا يرون تأجيله ، حتّى لو اشترط فيه التّأجيل ، خلافاً للمالكيّة واللّيث الّذين يرون لزومه حسب التّفصيل الّذي سبق بيانه .
ج - إسقاط الأجل بتراضي الدّائن والمدين :
94 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه إذا تراضى الدّائن والمدين على إسقاط شرط التّأجيل أنّ ذلك جائز وصحيح .
ثانياً : سقوط الأجل
تناول الفقهاء عدّة أسباب إذا وقعت أدّت إلى سقوط شرط التّأجيل ، ومنها الموت والتّفليس والإعسار ، والجنون والأسر .
أ - سقوط الأجل بالموت :
95 - اختلف الفقهاء في سقوط الأجل بموت المدين أو الدّائن : فيرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّ الأجل يبطل بموت المدين لخراب ذمّته ، ولا يبطل بموت الدّائن ، سواء أكان موتاً حقيقيّاً ، أم حكميّاً ، وذلك لأنّ فائدة التّأجيل أن يتّجر فيؤدّي الثّمن من نماء المال ، فإذا مات من له الأجل تعيّن المتروك لقضاء الدّين ، فلا يفيد التّأجيل ؛ ولأنّ الأجل حقّ المدين ، لا حقّ صاحب الدّين ، فتعتبر حياته وموته في الأجل وبطلانه . ومثل الموت الحقيقيّ الموت الحكميّ ، وذلك كما . لو لحق مرتدّاً بدار الحرب - كما صرّح الحنفيّة - أو كالرّدّة المتّصلة بالموت أو استرقاق الحربيّ - كما صرّح الشّافعيّة . ويرى المالكيّة ذلك ، إلاّ أنّهم يستثنون ثلاث حالات . جاء في شرح الخرشيّ : إنّ الدّين المؤجّل على الشّخص يحلّ بفلسه أو موته على المشهور ، لأنّ الذّمّة في الحالتين قد خربت ، والشّرع قد حكم بحلوله ؛ ولأنّه لو لم يحلّ للزم إمّا تمكين الوارث من القسم ، أو عدمه ، وكلاهما باطل ، لقوله تعالى : { من بعد وصيّة يوصي بها أو دين } ، وللضّرورة الحاصلة بوقفه . وعلى المشهور : لو طلب بعض الغرماء بقاءه مؤجّلاً منع من ذلك " وأمّا لو طلب الكلّ لكان لهم ذلك » . ويستثنى من الموت من قتل مدينه ( عمداً ) فإنّ دينه المؤجّل لا يحلّ ، لحمله على استعجال ما أجّل . وأمّا الدّين الّذي له فلا يحلّ بفلسه ولا بموته ، ولغرمائه تأخيره إلى أجله ، أو بيعه الآن ، ومحلّ حلول الدّين المؤجّل بالموت أو الفلس ما لم يشترط من عليه أنّه لا يحلّ عليه الدّين بذلك ، وإلاّ عمل بشرطه . قد ذكر ذلك ابن الهنديّ في الموت ، وإمّا إن شرط من له أنّه يحلّ بموته على المدين فهل يعمل بشرطه ، أو لا ؟ والظّاهر الأوّل ( أي أنّه يعمل بشرطه ) حيث كان الشّرط غير واقع في صلب عقد البيع ، فإن وقع في صلب عقد البيع فالظّاهر فساد البيع ؛ لأنّه آل أمره إلى البيع بأجل مجهول ، ويرى الحنابلة أنّه لا يحلّ الدّين المؤجّل بموت الدّائن ، وأمّا موت المدين فلهم رأيان : أحدهما : أنّه يحلّ بموت المدين كما هو رأي من ذكر من الفقهاء . والثّاني : أنّه لا يحلّ بموته إذا وثق الورثة ، فقد جاء في كشّاف القناع : « أنّه إذا مات شخص وعليه دين مؤجّل لم يحلّ الدّين بموته إذا وثق الورثة ، أو وثق غيرهم برهن أو كفيل مليء ، على أقلّ الأمرين : من قيمة التّركة أو الدّين " ، وهو قول ابن سيرين ، وعبيد اللّه بن الحسن ، وإسحاق ، وأبي عبيد لأنّ الأجل حقّ للميّت ، فورث عنه كسائر حقوقه ، وكما لا تحلّ الدّيون الّتي له بموته ، فتختصّ أرباب الدّيون الحالّة بالمال ، ويتقاسمونه بالمحاصّة ، ولا يترك منه للمؤجّل شيء ، ولا يرجع ربّه عليه بعد حلوله بل على من وثّقه ، فإن تعذّر التّوثّق لعدم وارث ، بأن مات عن غير وارث ، حلّ ، ولو ضمنه الإمام ، أو " تعذّر التّوثّق " لغير عدم وارث ، بأن خلف وارثاً لكنّه لم يوثق ، حلّ الدّين لغلبة الضّرر ، فيأخذه ربّه كلّه إن اتّسعت التّركة أو يحاصص به الغرماء ، ولا يسقط منه شيء في مقابلة الأجل . وإن ضمنه ضامن وحلّ على أحدهما لم يحلّ على الآخر . وقد استدلّ الحنابلة على قولهم بأنّ الدّين المؤجّل لا يحلّ بالموت إذا وثّق الورثة ، فقالوا : إنّ الأجل حقّ للمدين فلا يسقط بموته ، كسائر حقوقه ؛ ولأنّ الموت ما جعل مبطلاً للحقوق ، وإنّما هو ميقات للخلافة وعلامة على الوراثة ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من ترك حقّاً أو مالاً فلورثته » وما قيل بسقوطه بالموت هو حكم مبنيّ على المصلحة ، ولا يشهد لها شاهد الشّرع باعتبار ، ولا خلاف في فساد هذا ، فعلى هذا يبقى الدّين في ذمّة الميّت كما كان ويتعلّق بعين ماله كتعلّق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه ، فإن أحبّ الورثة أداء الدّين ، والتزامه للغريم ، على أن يتصرّفوا في المال ، لم يكن لهم ذلك إلاّ أن يرضى الغريم ، أو يوثّقوا الحقّ بضمين مليء ، أو رهن يثق به لوفاء حقّه ، فإنّهم قد لا يكونون أملياء ، ولم يرض بهم الغريم ، فيؤدّي إلى فوات الحقّ . ويرى طاوس وأبو بكر بن محمّد ، والزّهريّ وسعد بن إبراهيم أنّ الدّين المؤجّل لا يحلّ بموت المدين ، ويبقى إلى أجله ، وحكي ذلك عن الحسن .
ب - سقوط الأجل بالتّفليس :
96 - إذا حكم الحاكم بالحجر على المدين للإفلاس ، فهل تحلّ ديون المفلس المؤجّلة ؟ يرى الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة ( في الأظهر ) وهو قول للمالكيّة أنّه لا تحلّ ديون المفلس المؤجّلة ؛ لأنّ الأجل حقّ للمفلس ، فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه ، ولأنّه لا يوجب حلول ماله ، فلا يوجب حلول ما عليه - كالجنون والإغماء - ولأنّه دين مؤجّل على حيّ ، فلم يحلّ قبل أجله ، كغير المفلس ، والفرق بين الفلس والموت أنّ ذمّة الميّت خربت وبطلت بخلاف المفلس . والمشهور عند المالكيّة ورأي للشّافعيّة أنّ الدّين المؤجّل يحلّ بالإفلاس الأخصّ ( أي الشّخص الّذي حكم الحاكم بخلع ماله للغرماء ) لخراب ذمّة المفلس ، ما لم يشترط المدين عدم حلوله بالتّفليس ، وما لم يتّفق الغرماء جميعاً على بقاء ديونهم مؤجّلةً . أمّا حقوق المفلس المؤجّلة قبل الغير فباتّفاق الفقهاء تبقى على حالها ؛ لأنّ الأجل حقّ للغير ، فليس لغير صاحبه الحقّ في إسقاطه .
ج - سقوط الأجل بالجنون :
97 - إذا جنّ من عليه الدّين المؤجّل أو من له الدّين ، فهل يسقط الأجل بجنونه ؟ يرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة جنون المدين لا يوجب حلول الدّين عليه لإمكان التّحصيل عند حلول الأجل بواسطة وليّه ، فالأجل باق ، ولصاحب الحقّ عند حلول الأجل مطالبة وليّه بماله . ولأنّ الأجل حقّ للمجنون فلا يسقط بجنونه كسائر حقوقه ؛ ولأنّه لا يوجب حلول ما له قبل الغير ، فلا يوجب حلول ما عليه ، وأمّا المالكيّة فقد نصّوا على أنّ الدّين المؤجّل يحلّ بالفلس والموت ما لم يشترط المدين عدم حلوله بهما وما لم يقتل الدّائن المدين عمداً ، ولم ينصّوا على الجنون معهما ممّا يدلّ على أنّ الجنون عندهم لا يحلّ الدّين المؤجّل .
د - سقوط الأجل بالأسر أو الفقد :
98 - يرى الفقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الأسير في أرض العدوّ إذا علم خبره ومكانه ، كان حكمه كالغائب ، والغائب تبقى ديونه على ما هي عليه من تأجيل أو حلول ، سواء كان دائناً أم مديناً . أمّا إذا لم يعلم خبره ولا مكانه ، فيرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ حكمه حكم المفقود لأنّه حيّ في حقّ نفسه ، ميّت في حقّ غيره . ويرى المالكيّة أنّ ديونه تبقى على حالها من تأجيل أو حلول ، كالغائب - ولا يأخذ حكم المفقود لأنّه قد عرف أنّه أسر ؛ لأنّه إذا كانت أموال المفقود تبقى كما هي ، فهو أولى بهذا الحكم . أمّا إذا علم موت الأسير ، فإنّه يأخذ حكم الميّت ، وكذا إذا علم ردّته يأخذ حكم المرتدّ ، وهو موت حكماً كما سبق الإشارة إلى ذلك من أنّ الآجال تسقط بموت المدين موتاً حقيقيّاً أو حكميّاً .
هـ - سقوط الأجل بانتهاء مدّته :
99 - لمّا كان هذا النّوع من الأجل يحدّد لنا المدى الزّمنيّ لاستيفاء الحقّ ، فالعقد أو التّصرّف المقترن بأجل التّوقيت ، أو المؤقّت ، إذا انقضى أجله انتهى بذلك العقد وعاد الحقّ إلى صاحبه ، كما كان أوّلاً ، فيكون على المتعاقد ردّ العين إلى مالكها إذا كان المعقود عليه عيناً ، ويكون عليه عدم التّصرّف إذا كان العقد يجيز للشّخص تصرّفاً ما من التّصرّفات . والعقد المؤقّت - إذا لم يكن مضافاً ولا معلّقاً - هو عقد ناجز يتمّ ترتّب آثاره عليه من وقت صدور المدّة المحدّدة له شرعاً أو اتّفاقاً . فإن أضيف إلى زمن - وكان من التّصرّفات الّتي تقبل الإضافة فمدّة التّوقيت تبدأ من وقت حلول أجل الإضافة . وكذلك إذا علّق على شرط - وكان من التّصرّفات الّتي تقبل التّعليق - فمدّة التّوقيت تبدأ من وقت وجود الشّرط المعلّق عليه العقد . وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الأجل ينقضي بانقضاء العقد نفسه الّذي اقترن به الأجل ؛ لأنّ الأجل وصف للعقد وشرط لاعتباره شرعاً ، فإذا انتهى الموصوف انتهى الوصف .
استمرار العمل بموجب العقد المنقضي أجله دفعاً للضّرر :
100 - قد ينقضي العقد المؤقّت . وحينئذ على المنتفع ردّ العين إلى صاحبها ، ولكن قد يؤدّي ذلك إلى ضرر ، ومن ثمّ أجاز الفقهاء تأخير الرّدّ إلى الوقت الملائم ، الّذي لا يؤدّي إلى ضرر ، مع ضمان حقوق الطّرف الآخر . ولذلك تطبيقات في الإجارة والإعارة تنظر فيهما .
إجماع
التّعريف
1 - الإجماع في اللّغة يراد به تارةً العزم ، يقال : أجمع فلان كذا ، أو أجمع على كذا ، إذا عزم عليه وتارةً يراد به الاتّفاق ، فيقال : أجمع القوم على كذا ، أي اتّفقوا عليه ، وعن الغزاليّ أنّه مشترك لفظيّ . وقيل إنّ المعنى الأصليّ له العزم ، والاتّفاق لازم ضروريّ إذا وقع من جماعة ، والإجماع في اصطلاح الأصوليّين : اتّفاق جميع المجتهدين من أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم في عصر ما بعد عصره صلى الله عليه وسلم على أمر شرعيّ ، والمراد بالأمر الشّرعيّ : ما لا يدرك لولا خطاب الشّارع ، سواء أكان قولاً أم فعلاً أم اعتقاداً أم تقريراً .
بيان من ينعقد بهم الإجماع :
2 - جمهور أهل السّنّة على أنّ الإجماع ينعقد باتّفاق المجتهدين من الأمّة ، ولا عبرة باتّفاق غيرهم مهما كان مقدار ثقافتهم ، ولا بدّ من اتّفاق المجتهدين ولو كانوا أصحاب بدعة إن لم يكفروا ببدعتهم ، فإن كفروا بها كالرّافضة الغالين فلا يعتدّ بهم ، وأمّا البدعة غير المكفّرة أو الفسق فإنّ الاعتداد بخلافهم أو عدم الاعتداد فيه خلاف وتفصيل بين الفقهاء والأصوليّين موضعه الملحق الأصوليّ . وذهب قوم إلى أنّ العبرة باتّفاق الخلفاء الرّاشدين فقط ، لما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين من بعدي ، عضّوا عليها بالنّواجذ » . وهذا خبر آحاد لا يفيد اليقين ، وعلى فرض التّسليم فإنّه يفيد رجحان الاقتداء بهم لا إيجابه ، وقال قوم إنّ الإجماع هو إجماع أهل المدينة دون غيرهم ، وهذا ظاهر مذهب مالك فيما كان سبيله النّقل والتّواتر ، كبعض أفعاله صلى الله عليه وسلم كالأذان والإقامة وتحديد الأوقات وتقدير الصّاع والمدّ وغير ذلك ممّا يعتمد على النّقل وحده لا على الاجتهاد ، وما سبيله الاجتهاد فلا يعتدّ عنده بإجماعهم .
إمكان الإجماع :
3 - اتّفق الأصوليّون على أنّ الإجماع ممكن عقلاً ، وذهب جمهورهم إلى أنّه ممكن عادةً ، وخالف في ذلك النّظّام وغيره . وخالف البعض في إمكان نقله .
حجّيّة الإجماع :
4 - الإجماع حجّة قطعيّة على الصّحيح ، وإنّما يكون قطعيّاً حيث اتّفق المعتبرون على أنّه إجماع ، لا حيث اختلفوا ، كما في الإجماع السّكوتيّ وما ندر مخالفه .
ما يحتجّ عليه بالإجماع :
5 - يحتجّ بالإجماع على الأمور الدّينيّة الّتي لا تتوقّف حجّيّة الإجماع عليها ، سواء أكانت اعتقاديّةً كنفي الشّريك عن اللّه تعالى ، أو عمليّةً كالعبادات والمعاملات ، وقيل لا أثر للإجماع في العقليّات ، فإنّ المعتبر فيها الأدلّة القاطعة ، فإذا انتصبت لم يعارضها شقاق ولم يعضّدها وفاق . أمّا ما تتوقّف عليه حجّيّة الإجماع ، كوجود الباري تعالى ، ورسالة محمّد صلى الله عليه وسلم فلا يحتجّ عليه بالإجماع ؛ لئلاّ يلزم الدّور .
مستند الإجماع :
6 - لا بدّ للإجماع من مستند ، نصّ أو قياس ، وقد يكون النّصّ أو القياس خفيّاً . فإذا أجمع على مقتضاه سقط البحث عنه ، وحرمت مخالفته مع عدم العلم به ، ويقطع بحكمه وإن كان ظنّيّاً .
إنكار الإجماع :
7 - قيل : يكفر منكر حكم الإجماع القطعيّ ، وفصّل بعض الأصوليّين بين ما كان من ضروريّات دين الإسلام ، وهو ما يعرفه الخواصّ والعوامّ ، من غير قبول للتّشكيك ، كوجوب الصّلاة والصّوم ، وحرمة الزّنا والخمر ، فيكفر منكره ، وبين ما سوى ذلك ، فلا يكفر منكره ، كالإجماع على بعض دقائق علم المواريث الّتي قد تخفى على العوّام . وفرّق فخر الإسلام بين الإجماع القطعيّ من إجماع الصّحابة نصّاً ، كإجماعهم على قتال مانعي الزّكاة ، أو مع سكوت بعضهم ، فيكفر منكره ، وبين إجماع غيرهم فيضلّل .
الإجماع السّكوتيّ :
8 - يتحقّق الإجماع السّكوتيّ إذا أفتى بعض المجتهدين في مسألة اجتهاديّة ، أو قضى ، واشتهر ذلك بين أهل عصره ، وعرفه جميع من سواه من المجتهدين ، ولم يخالفوه ، واستمرّت الحال على هذا إلى مضيّ مدّة التّأمّل ، وقد ذهب أكثر الحنفيّة وبعض الشّافعيّة إلى أنّه إذا تحقّق ذلك فهو إجماع قطعيّ ، وإنّما يكون إجماعاً عندهم حيث لا يحمل سكوتهم على التّقيّة خوفاً . وموضع اعتبار سكوتهم إجماعاً إنّما هو قبل استقرار المذاهب ، وأمّا بعد استقرارها فلا يعتبر السّكوت إجماعاً ؛ لأنّه لا وجه للإنكار على صاحب مذهب في العمل على موجب مذهبه ، وذهب أبو هاشم الجبّائيّ إلى أنّه حجّة وليس إجماعاً . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه ليس بحجّة فضلاً أن يكون إجماعاً ، وبه قال ابن أبان والباقلاّنيّ وبعض المعتزلة وأكثر المالكيّة وأبو زيد الدّبوسيّ من الحنفيّة ، والرّافعيّ والنّوويّ من الشّافعيّة .
التّعارض بين الإجماع وغيره :
9 - الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به عند الجمهور ؛ لأنّ الإجماع لا يكون إلاّ بعد وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم والنّسخ لا يكون بعد موته . ولا ينسخ الإجماع الإجماع ، وإذا جاء الإجماع مخالفاً لشيء من النّصوص استدللنا على أنّ ذلك النّصّ منسوخ . فيكون الإجماع دليل النّسخ وليس هو النّاسخ .
رتبة الإجماع بين الأدلّة :
1 - بنى بعض الأصوليّين على المسألة السّابقة تقديم الإجماع على غيره . قال الغزاليّ : « يجب على المجتهد في كلّ مسألة أن يردّ نظره إلى النّفي الأصليّ قبل ورود الشّرع . ثمّ يبحث عن الأدلّة السّمعيّة ، فينظر أوّل شيء في الإجماع ، فإن وجد في المسألة إجماعاً ، ترك النّظر في الكتاب والسّنّة ، فإنّهما يقبلان النّسخ ، والإجماع لا يقبله . فالإجماع على خلاف ما في الكتاب والسّنّة دليل قاطع على النّسخ ، إذ لا تجتمع الأمّة على الخطأ » . وقد حرّر ذلك ابن تيميّة فقال " كلّ من عارض نصّاً بإجماع ، وادّعى نسخه ، من غير نصّ يعارض ذلك النّصّ ، فإنّه مخطئ في ذلك ، فإنّ النّصوص لم ينسخ منها شيء إلاّ بنصّ باق محفوظ لدى الأمّة » . وفي موضع آخر قال " لا ريب أنّه إذا ثبت الإجماع كان دليلاً على أنّه منسوخ ، فإنّ الأمّة لا تجتمع على ضلالة ، ولكن لا يعرف إجماع على ترك نصّ إلاّ وقد عرف النّصّ النّاسخ له ، ولهذا كان أكثر من يدّعي نسخ النّصوص بما يدّعيه من الإجماع إذا حقّق الأمر عليه ، لم يكن الإجماع الّذي ادّعاه صحيحاً ، بل غايته أنّه لم يعرف فيه نزاعاً » . وفي الإجماع تفصيل وخلاف أوسع ممّا ذكر ، موطنه الملحق الأصوليّ .
إجمال
التّعريف
1 - الإجمال مصدر أجمل ، ومن معانيه في اللّغة : جمع الشّيء من غير تفصيل . وللأصوليّين في الإجمال اصطلاحان ، تبعاً لاختلافهم في تعريف المجمل : الأوّل : اصطلاح الأصوليّين غير الحنفيّة ( المتكلّمين ) ، وهو أنّ المجمل ما لم تتّضح دلالته . فيكون عامّاً في كلّ ما لم تتّضح دلالته . وما لحقه البيان خرج من الإجمال بالاتّفاق ( ر : بيان ) ، وكما يكون الإجمال عندهم في الأقوال ، يكون في الأفعال . وقد مثّل له بعض الأصوليّين بما ورد « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سلّم في صلاة رباعيّة من اثنتين » ، فدار فعله بين أن يكون سلّم سهواً ، وبين أن تكون الصّلاة قد قصرت . فاستفسر منه ذو اليدين ، فبيّن لهم أنّه سها . الثّاني : اصطلاح الأصوليّين من الحنفيّة ، وهو أنّ المجمل ما لا يعرف المراد منه إلاّ ببيان يرجى من جهة المجمل ، ومعنى ذلك أنّ خفاءه لا يعرف بمجرّد التّأمّل ، ومثّلوا له بالأمر بالصّلاة والزّكاة ونحوهما ، قبل بيان مراد الشّارع منها .
( الألفاظ ذات الصّلة )
أ - المشكل :
2 - إن كان المعنى ممّا يدرك بالتّأمّل فليس عند الحنفيّة مجملاً ، بل يسمّى " مشكلاً " ، ومثّلوا له بقول اللّه تعالى : { فأتوا حرثكم أنّى شئتم } ، فإنّ « أنّى » دائرة بين معنى « أين » ومعنى « كيف » ، وبالتّأمّل يظهر أنّ المراد الثّاني ، بقرينة الحارث ، وتحريم الأذى .
ب - المتشابه :
3 - وأمّا إن كان لا يرجى معرفة معناه في الدّنيا فهو عندهم " متشابه " ، وهو ما استأثر اللّه تعالى بعلمه ، كالحروف المقطّعة في أوائل السّور .
ج - الخفيّ :
4 - وهو ما كان خفاؤه في انطباقه على بعض أفراده لعارض هو تسمية ذلك الفرد باسم آخر ، كلفظ « السّارق " ، فهو ظاهر في مفهومه الشّرعيّ ، ولكنّه خفيّ في الطّرّار والنّبّاش . حكم المجمل :
5 - ذهب أصوليّو الحنفيّة إلى أنّ حكم المجمل التّوقّف فيه إلى أن يتبيّن المراد به ، بالاستفسار من صدر منه المجمل . وذهب غيرهم إلى أنّ حكم المجمل التّوقّف فيه إلى أن يتبيّن من جهة المجمل ، أو بالقرائن ، أو بالعرف ، أو بالاجتهاد . وفي ذلك تفصيل موطنه الملحق الأصوليّ .
أجنبيّ
التّعريف
1 - الأجنبيّ في اللّغة الغريب ، ويقال للغريب أيضاً جنب ، وأجنب ، ومن معاني الجنابة : الغربة . واجتنب فلان فلاناً إذا تجنّبه وابتعد عنه ، ونقل في التّاج عن الأساس : « ومن المجاز : هو أجنبيّ عن كذا ، أي لا تعلّق له به ولا معرفة " يعني كما تقول : فلان أجنبيّ عن هذا العلم ، أو عن هذه القضيّة . فيطلق الأجنبيّ على من هو غريب حسّاً أو معنًى .
2 - ولم نجد أحداً من الفقهاء عرّف هذا المصطلح ، ولكن باستقراء . مواضع وروده في كلامهم تبيّن أنّه لفظ ليس له معنًى واحد ، بل يفسّر في كلّ مقام بحسبه . فمن معانيه ما يلي : أ - الأجنبيّ البعيد عنك في القرابة ، وهو الّذي لا تصله بك رابطة النّسب ، كقول المحلّيّ في شرح منهاج الطّالبين : « الأجنبيّ أن يحجّ عن الميّت حجّة الإسلام بغير إذن » . قال عميرة في حاشيته : « المراد بالأجنبيّ غير الوارث . قاله شيخنا . وقياس الصّوم أن يراد به غير القريب » .
ب - والأجنبيّ الغريب عن الأمر من عقد أو غيره ، كقولهم : « لو أتلف المبيع أجنبيّ قبل قبضه فسد العقد " أي شخص غريب عن العقد ، ليس هو البائع ولا المشتري . وكقولهم : « هل يصحّ شرط الخيار لأجنبيّ " ويسمّى الأجنبيّ إذا تصرّف فيما ليس له : « فضوليّاً " ج - والأجنبيّ : الغريب عن الوطن ، ودار الإسلام كلّها وطن للمسلم . فالأجنبيّ عنها من ليس بمسلم ولا ذمّيّ .
د - والأجنبيّ عن المرأة من لم يكن محرماً لها . والمحرم من يحرم عليه نكاحها على التّأبيد بنسب أو بسبب مباح وقيل بمطلق سبب ، ولو كان قريباً كابن عمّها وابن خالها .
انقلاب الأجنبيّ إلى ذي علاقة ، وعكسه :
3 - ينقلب الأجنبيّ إلى ذي علاقة في أحوال ، منها : أ - بالعقد ، كعقد النّكاح ، فإنّه تنقلب به المرأة الأجنبيّة إلى زوجة ، وكعقد الشّركة ، وعقد الوكالة ونحوهما . وتفصيل ذلك في أبوابه من الفقه .
ب - بالإذن والتّفويض ونحوهما ، كتفويض الطّلاق إلى المرأة أو إلى غيرها ، وكالتّوكيل والإيصاء .
ج - بالاضطرار ، كأخذ من اشتدّ جوعه ما في يد غيره من الطّعام فائضاً عن ضرورته بغير رضاه .
د - حكم القضاء ، كنصب الأجنبيّ وصيّاً أو ناظراً على الوقف .
4 - وينقلب ذو العلاقة إلى أجنبيّ في أحوال :
منها : أ - ارتفاع السّبب الّذي به صار الأجنبيّ ذا علاقة ، كطلاق المرأة ، وفسخ عقد البيع ، ونحو ذلك .
ب - قيام المانع الّذي يحول دون كون السّبب مؤثّراً ، وذلك كردّة أحد الزّوجين ، يصبح به كلّ منهما أجنبيّاً عن الآخر ، فلا عشرة ولا ميراث .
ج - حكم القضاء ، كالحجر على السّفيه ، والتّفريق بين المولي وزوجته عند تمام المدّة عند الجمهور ، والتّفريق للضّرر ، والحكم باستحقاق العين لغير ذي اليد .
اجتماع ذي العلاقة والأجنبيّ :
5 - إذا اجتمع ذو علاقة وأجنبيّ ، فذو العلاقة هو الأولى ، كما يلي .
( الحكم الإجماليّ )
يختلف الحكم الإجماليّ للأجنبيّ بحسب معانيه المختلفة : أوّلاً : الأجنبيّ الّذي هو خلاف القريب :
6 - للقريب حقوق وميزات ينفرد بها عن الأجنبيّ ، ومن ذلك أنّه أولى من الأجنبيّ برعاية الشّخص المحتاج إلى الرّعاية والنّظر كما في الأمثلة التّالية : أ - أنّ القريب له حقّ الولاية على نفس الصّغير والمجنون وتزويج المرأة دون الأجنبيّ .
ب - وأنّ له حقّ الحضانة للصّغير والمجنون دون الأجنبيّ ، ويقدّم أولى الأقارب في استحقاق الحضانة حسب ترتيب معيّن . وإذا تزوّجت الحاضنة من أجنبيّ من المحضون سقط حقّها في الحضانة ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم للأمّ : أنت أحقّ به ما لم تنكحي » . وتفصيل ذلك في أبواب الحضانة من كتب الفقه .
ج - وأنّ القريب أولى من الأجنبيّ بتغسيل الميّت ، وبالإمامة في الصّلاة عليه ، على تفصيل يعرف في أبواب الجنائز .
ثانياً : الأجنبيّ في التّصرّفات والعقود :
7 - المراد بالأجنبيّ هنا من ليست له صلاحية التّصرّف ، والّذي له صلاحية التّصرّف هو صاحب الحقّ والوصيّ والوكيل ونحوهم ، فمن سواهم أجنبيّ . فإن تصرّف الإنسان في حقّ هو فيه أجنبيّ ، على أنّ تصرّفه لنفسه ، فتصرّفه باطل . أمّا إن تصرّف عن غيره من غير أن تكون له ولاية أو نيابة فهو الّذي يسمّى عند الفقهاء الفضوليّ واختلفوا في تصرّفه ذاك ، فمنهم من أبطله ، ومنهم من جعله موقوفاً على الإجازة . ( ر : إجازة . فضوليّ ) .
ب - الأجنبيّ والعبادة :
8 - لا يختلف حكم الأجنبيّ عن حكم الوليّ في شأن أداء العبادات البدنيّة عن الغير ، فلا تصحّ الصّلاة والصّيام عن الحيّ ، إذ لا بدّ في ذلك من النّيّة ، ولا يجب على الوليّ أو غيره القضاء عن الميّت لما في ذمّته من العبادات . ، إن تبرّع به الوليّ أو الأجنبيّ ففي إجزائه عن الميّت خلاف . أمّا العبادات الماليّة المحضة كالزّكاة وبعض الكفّارات وفدية الصّوم ، أو الماليّة البدنيّة كالحجّ ، فلا يصحّ كذلك فعلها عن الغير بغير إذنه ، إن كان حيّاً قادراً . وأمّا فعلها عن الميّت فيجب على الوليّ أو الوصيّ إذا أوصى من هو عليه قبل وفاته بذلك ، في حدود ثلث التّركة ، على مذهب الحنفيّة . وعند غيرهم تنفذ من كلّ المال ، سواء أوصى بها أم لم يوص ، كسائر الدّيون . وفي المسألة خلاف وتفصيل يرجع لمعرفته إلى أبواب الزّكاة والحجّ والصّوم والكفّارات .
ج - تبرّع الأجنبيّ بأداء الحقوق :
9 - تبرّع الأجنبيّ بأداء ما ترتّب على الغير من الحقوق جائز ، وذلك كوفاء دينه ، ودفع مهر زوجته ونفقتها ونفقة أولاده . وله حقّ الرّجوع إن كان فعل ذلك بإذن حاكم ، أو نوى الرّجوع به ، وفي ذلك تفصيل وخلاف يرجع لمعرفته إلى الأبواب الخاصّة بتلك الحقوق من كتب الفقه .
ثالثاً : الأجنبيّ بمعنى من لم يكن من أهل الوطن :
10 - الأجنبيّ عن دار الإسلام هو الحربيّ ، وهو من لم يكن مسلماً ولا ذمّيّاً ، ولا يحقّ لمن لم يكن كذلك دخول دار الإسلام إلاّ بأمان ، فإذا دخل دار الإسلام بالأمان سمّي مستأمناً . ولمعرفة أحكام الأجنبيّ بهذا المعنى ( ر : أمان . مستأمنون . أهل الحرب ) .
رابعاً : الأجنبيّ عن المرأة :
11 - خصّصت الشّريعة الأجانب بأحكام خاصّة ، دون الزّوج وذوي المحرم . وذلك رعايةً لسلامة المرأة ، ومحافظةً عليها من أن يصل إليها ما يجرح كرامتها . وقد يسّرت الشّريعة في العلاقة بين المرأة وزوجها ، إذ أنّ عقد الزّواج يبيح لكلّ من الزّوجين من التّمتّع بالآخر ما يكون سبباً للسّكن بينهما ، لتتمّ حكمة اللّه بدوام النّسل ونشوئه في كنف الأبوين على أحسن وجه ، ولم تضيّق الشّريعة أيضاً في العلاقة بين المرأة ومحرمها لأنّ ما يقوم بأنفسهما من المودّة والاحترام يحجب نوازع الرّغبة ، ولكي تتمكّن المرأة وأقاربها الأقربون من العيش معاً بيسر وسهولة ، والزّوج والمحرم في ذلك مخالفان للأجنبيّ ، فوضعت الشّريعة حدوداً للعلاقة بين المرأة وبينه ، تتلخّص فيما يلي : أ - النّظر :
12 - فيحرم على الأجنبيّ النّظر إلى زينة المرأة وبدنها ، كلّه على رأي بعض الفقهاء ، أو ما عدا الوجه والكفّين والقدمين عند البعض الآخر . وكذلك يجب على المرأة أن تستتر عن الأجنبيّ بتغطية ما لا يحلّ له رؤيته ، وعليها أن تمتنع عن النّظر من بدن الأجنبيّ - والمحرم مثله - إلاّ إلى ما سوى العورة ، أو إلى ما عدا ما تنظره المرأة من المرأة .
ب - اللّمس :
13 - فلا يلمس الأجنبيّ بدن المرأة .
ج - الخلوة :
14 - فلا يحلّ للرّجل والمرأة إذا كانا أجنبيّين أن يخلو أحدهما بالآخر ، لما ورد في حديث البخاريّ مرفوعاً « إيّاكم والدّخول على النّساء » وحديثه الآخر « لا يخلونّ رجل بامرأة إلاّ مع ذي محرم » د - صوت المرأة :
15 - فيحرم استماع الأجنبيّ لصوت المرأة على القول المرجوح عند الحنفيّة لأنّه عورة . وفي كثير ممّا ذكرناه خلاف بين الفقهاء وتفصيل واستثناءات يرجع لمعرفتها إلى باب الحظر والإباحة من كتب الحنفيّة ، وإلى أوائل أبواب النّكاح وباب ستر العورة من شروط الصّلاة في كتب سائر المذاهب .
أجنبيّة
انظر : أجنبيّ .
إجهاز
التّعريف
1 - من معاني الإجهاز في اللّغة : الإسراع ، فالإجهاز على الجريح : إتمام قتله . ويستعمل الفقهاء " الإجهاز " بهذا المعنى . كما يستعملون لهذا المعنى أيضاً كلمة " تذفيف » . الحكم العامّ :
2 - الإجهاز على الإنسان الجريح : الإجهاز على جرحى الكفّار المقاتلين جائز ، وكذلك جرحى البغاة المقاتلين إذا كانت لهم فئة ، فإن لم تكن لهم فئة فلا يجوز قتل جريحهم . أمّا الإجهاز على من وجب عليه الموت في حدّ أو قصاص فهو واجب بالاتّفاق .
3 - الإجهاز على الحيوان : الحيوان على نوعين : نوع يجوز ذبحه ، بأن كان مأكول اللّحم ، أو قتله ، بأن كان مؤذياً . وهذا النّوع يجوز الإجهاز عليه إن أصابه مرض أو جرح ؛ لأنّه يجوز ذبحه أو قتله ابتداءً ، ونوع لا يجوز قتله كالحمار ونحوه ، وفي جواز الإجهاز عليه إن أصابه مرض أو جرح - إراحةً له - خلاف ، أجاز ذلك الحنفيّة والمالكيّة ، ومنعه الشّافعيّة والحنابلة . وقد ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الذّبائح ، وذكره الحنفيّة في كتاب الحظر والإباحة .
إجهاض
التّعريف
1 - يطلق الإجهاض في اللّغة على صورتين : إلقاء الحمل ناقص الخلق ، أو ناقص المدّة ، سواء من المرأة أو غيرها ، والإطلاق اللّغويّ يصدق سواء كان الإلقاء بفعل فاعل أم تلقائيّاً .
2 - ولا يخرج استعمال الفقهاء لكلمة إجهاض عن هذا المعنى . وكثيراً ما يعبّرون عن الإجهاض بمرادفاته كالإسقاط والإلقاء والطّرح والإملاص .
صفة الإجهاض ( حكمه التّكليفيّ ) :
3 - من الفقهاء من فرّق بين حكم الإجهاض بعد نفخ الرّوح ، وبين حكمه قبل ذلك وبعد التّكوّن في الرّحم والاستقرار ، ولمّا كان حكم الإجهاض بعد نفخ الرّوح موضع اتّفاق كان الأنسب البدء به ثمّ التّعقيب بحكمه قبل نفخ الرّوح ، مع بيان آراء الفقهاء واتّجاهاتهم فيه :
أ - حكم الإجهاض بعد نفخ الرّوح :
4 - نفخ الرّوح يكون بعد مائة وعشرين يوماً ، كما ثبت في الحديث الصّحيح الّذي رواه ابن مسعود مرفوعاً : « إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمّه أربعين يوماً نطفةً ، ثمّ يكون علقةً مثل ذلك ، ثمّ يكون مضغةً مثل ذلك ، ثمّ يرسل الملك فينفخ فيه الرّوح » . ولا يعلم خلاف بين الفقهاء في تحريم الإجهاض بعد نفخ الرّوح . فقد نصّوا على أنّه إذا نفخت في الجنين الرّوح حرّم الإجهاض إجماعاً . وقالوا إنّه قتل له ، بلا خلاف . والّذي يؤخذ من إطلاق الفقهاء تحريم الإجهاض بعد نفخ الرّوح أنّه يشمل ما لو كان في بقائه خطر على حياة الأمّ وما لو لم يكن كذلك . وصرّح ابن عابدين بذلك فقال : لو كان الجنين حيّاً ، ويخشى على حياة الأمّ من بقائه ، فإنّه لا يجوز تقطيعه ؛ لأنّ موت الأمّ به موهوم ، فلا يجوز قتل آدميّ لأمر موهوم .
ب - حكم الإجهاض قبل نفخ الرّوح :
5 - في حكم الإجهاض قبل نفخ الرّوح اتّجاهات مختلفة وأقوال متعدّدة ، حتّى في المذهب الواحد ، فمنهم من قال بالإباحة مطلقاً ، وهو ما ذكره بعض الحنفيّة ، فقد ذكروا أنّه يباح الإسقاط بعد الحمل ، ما لم يتخلّق شيء منه . والمراد بالتّخلّق في عبارتهم تلك نفخ الرّوح . وهو ما انفرد به من المالكيّة اللّخميّ فيما قبل الأربعين يوماً ، وقال به أبو إسحاق المروزيّ من الشّافعيّة قبل الأربعين أيضاً ، وقال الرّمليّ : لو كانت النّطفة من زناً فقد يتخيّل الجواز قبل نفخ الرّوح . والإباحة قول عند الحنابلة في أوّل مراحل الحمل ، إذ أجازوا للمرأة شرب الدّواء المباح لإلقاء نطفة لا علقة ، وعن ابن عقيل أنّ ما لم تحلّه الرّوح لا يبعث ، فيؤخذ منه أنّه لا يحرم إسقاطه ، وقال صاحب الفروع : ولكلام ابن عقيل وجه .
6 - ومنهم من قال بالإباحة لعذر فقط ، وهو حقيقة مذهب الحنفيّة . فقد نقل ابن عابدين عن كراهة الخانيّة عدم الحلّ لغير عذر ، إذ المحرم لو كسر بيض الصّيد ضمن لأنّه أصل الصّيد . فلمّا كان يؤاخذ بالجزاء فلا أقلّ من أن يلحقها - من أجهضت نفسها - إثم هنا إذا أسقطت بغير عذر ، ونقل عن ابن وهبان أنّ من الأعذار أن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل وليس لأبي الصّبيّ ما يستأجر به الظّئر ( المرضع ) ويخاف هلاكه ، وقال ابن وهبان : إنّ إباحة الإسقاط محمولة على حالة الضّرورة . ومن قال من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بالإباحة دون تقييد بالعذر فإنّه يبيحه هنا بالأولى ، وقد نقل الخطيب الشّربينيّ عن الزّركشيّ : أنّ المرأة لو دعتها ضرورة لشرب دواء مباح يترتّب عليه الإجهاض فينبغي أنّها لا تضمن بسببه .
7 - ومنهم من قال بالكراهة مطلقاً . وهو ما قال به عليّ بن موسى من فقهاء الحنفيّة . فقد نقل ابن عابدين عنه : أنّه يكره الإلقاء قبل مضيّ زمن تنفخ فيه الرّوح ؛ لأنّ الماء بعدما وقع في الرّحم مآله الحياة ، فيكون له حكم الحياة ، كما في بيضة صيد الحرم . وهو رأي عند المالكيّة فيما قبل الأربعين يوماً ، وقول محتمل عند الشّافعيّة . يقول الرّمليّ : لا يقال في الإجهاض قبل نفخ الرّوح إنّه خلاف الأولى ، بل محتمل للتّنزيه والتّحريم ، ويقوى التّحريم فيما قرب من زمن النّفخ لأنّه جريمة .
8 - ومنهم من قال بالتّحريم ، وهو المعتمد عند المالكيّة . يقول الدّردير : لا يجوز إخراج المنيّ المتكوّن في الرّحم ولو قبل الأربعين يوماً ، وعلّق الدّسوقيّ على ذلك بقوله : هذا هو المعتمد . وقيل يكره . ممّا يفيد أنّ المقصود بعدم الجواز في عبارة الدّردير التّحريم . كما نقل ابن رشد أنّ مالكاً قال : كلّ ما طرحته المرأة جناية ، من مضغة أو علقة ، ممّا يعلم أنّه ولد ، ففيه الغرّة وقال : واستحسن مالك الكفّارة مع الغرّة . والقول بالتّحريم هو الأوجه عند الشّافعيّة ؛ لأنّ النّطفة بعد الاستقرار آيلة إلى التّخلّق مهيّأة لنفخ الرّوح . وهو مذهب الحنابلة مطلقاً كما ذكره ابن الجوزيّ ، وهو ظاهر كلام ابن عقيل ، وما يشعر به كلام ابن قدامة وغيره بعد مرحلة النّطفة ، إذ رتّبوا الكفّارة والغرّة على من ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً ، وعلى الحامل إذا شربت دواءً فألقت جنيناً .
بواعث الإجهاض ووسائله :
9 - بواعث الإجهاض كثيرة ، منها قصد التّخلّص من الحمل سواء أكان الحمل نتيجة نكاح أم سفاح ، أو قصد سلامة الأمّ لدفع خطر عنها من بقاء الحمل أو خوفاً على رضيعها ، على ما سبق بيانه . كما أنّ وسائل الإجهاض كثيرة قديماً وحديثاً ، وهي إمّا إيجابيّة وإمّا سلبيّة . فمن الإيجابيّة : التّخويف أو الإفزاع كأن يطلب السّلطان من ذكرت عنده بسوء فتجهض فزعاً ، ومنها شمّ رائحة ، أو تجويع ، أو غضب ، أو حزن شديد ، نتيجة خبر مؤلم أو إساءة بالغة ، ولا أثر لاختلاف كلّ هذا . ومن السّلبيّة امتناع المرأة عن الطّعام ، أو عن دواء موصوف لها لبقاء الحمل . ومنه ما ذكره الدّسوقيّ من أنّ المرأة إذا شمّت رائحة طعام من الجيران مثلاً ، وغلب على ظنّها أنّها إن لم تأكل منه أجهضت فعليها الطّلب . فإن لم تطلب ، ولم يعلموا بحملها ، حتّى ألقته ، فعليها الغرّة لتقصيرها ولتسبّبها .
عقوبة الإجهاض :
10 - اتّفق الفقهاء على أنّ الواجب في الجناية على جنين الحرّة هو غرّة . لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وغيره : « أنّ امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى ، فطرحت جنينها ، فقضى فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بغرّة عبد أو وليدة » .
11 - واتّفق فقهاء المذاهب على أنّ مقدار الغرّة في ذلك هو نصف عشر الدّية الكاملة ، وأنّ الموجب للغرّة كلّ جناية ترتّب عليها انفصال الجنين عن أمّه ميّتاً ، سواء أكانت الجناية نتيجة فعل أم قول أم ترك ، ولو من الحامل نفسها أو زوجها ، عمداً كان أو خطأً .
12 - ويختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة - وهي العقوبة المقدّرة حقّاً للّه تعالى - مع الغرّة . ( والكفّارة هنا هي عتق رقبة مؤمنة ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) فالحنفيّة والمالكيّة يرون أنّها مندوبة وليست واجبةً ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقض إلاّ بالغرّة . كما أنّ الكفّارة فيها معنى العقوبة ؛ لأنّها شرعت زاجرةً ، وفيها معنى العبادة ؛ لأنّها تتأدّى بالصّوم . وقد عرف وجوبها في النّفوس المطلقة فلا يتعدّاها لأنّ العقوبة لا يجري فيها القياس ، والجنين يعتبر نفساً من وجه دون وجه لا مطلقاً . ولهذا لم يجب فيه كلّ البدل ، فكذا لا تجب فيه الكفّارة لأنّ الأعضاء لا كفّارة فيها . وإذا تقرّب بها إلى اللّه كان أفضل . وعلى هذا فإنّها غير واجبة . ويرى الشّافعيّة والحنابلة وجوب الكفّارة مع الغرّة . لأنّها إنّما تجب حقّاً للّه تعالى لا لحقّ الآدميّ ؛ ولأنّه نفس مضمونة بالدّية ، فوجبت فيه الكفّارة . وترك ذكر الكفّارة لا يمنع وجوبها . فقد ذكر الرّسول صلى الله عليه وسلم في موضع آخر الدّية ، ولم يذكر الكفّارة . وهذا الخلاف إنّما هو في الجنين المحكوم بإيمانه لإيمان أبويه أو أحدهما ، أو المحكوم له بالذّمّة . كما نصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّه إذا اشترك أكثر من واحد في جناية الإجهاض لزم كلّ شريك كفّارة ، وهذا لأنّ الغاية من الكفّارة الزّجر . أمّا الغرّة فواحدة لأنّها للبدليّة .
الإجهاض المعاقب عليه :
13 - يتّفق الفقهاء على وجوب الغرّة بموت الجنين بسبب الاعتداء ، كما يتّفقون على اشتراط انفصاله ميّتاً ، أو انفصال البعض الدّالّ على موته . إذ لا يثبت حكم المولود إلاّ بخروجه ؛ ولأنّ الحركة يجوز أن تكون لريح في البطن سكنت ، وبالإلقاء ظهر تلفه بسبب الضّرب أو الفزع ونحوهما ، غير أنّ الشّافعيّة قالوا : لو علم موت الجنين وإن لم ينفصل منه شيء فكالمنفصل . والحنفيّة يعتبرون انفصال الأكثر كانفصال الكلّ ، فإن نزل من قبل الرّأس فالأكثر خروج صدره ، وإن كان من قبل الرّجلين فالأكثر انفصال سرّته . والحنفيّة والمالكيّة على أنّه لا بدّ أن يكون ذلك قبل موت أمّه يقول ابن عابدين : وإن خرج جنين ميّت بعد موت الأمّ فلا شيء فيه ؛ لأنّ موت الأمّ سبب لموته ظاهراً ، إذ حياته بحياتها ، فيتحقّق موته بموتها ، فلا يكون في معنى ما ورد به النّصّ ، إذ الاحتمال فيه أقلّ ، فلا يضمن بالشّكّ ؛ ولأنّه يجري مجرى أعضائها ، وبموتها سقط حكم أعضائها . وقال الحطّاب والموّاق : الغرّة واجبة في الجنين بموته قبل موت أمّه . وقال ابن رشد : ويشترط أن يخرج الجنين ميّتاً ولا تموت أمّه من الضّرب . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فيوجبون الغرّة سواء أكان انفصال الجنين ميّتاً حدث في حياة الأمّ أو بعد موتها لأنّه كما يقول ابن قدامة : جنين تلف بجناية ، وعلم ذلك بخروجه ، فوجب ضمانه كما لو سقط في حياتها . ولأنّه لو سقط حيّاً ضمنه ، فكذلك إذا سقط ميّتاً كما لو أسقطته في حياتها . ويقول القاضي زكريّا الأنصاريّ : ضرب الأمّ ، فماتت ، ثمّ ألقت ميّتاً ، وجبت الغرّة ، كما لو انفصل في حياتها . يتّفق الفقهاء في أصل ترتّب العقوبة إذا استبان بعض خلق الجنين ، كظفر وشعر ، فإنّه يكون في حكم تامّ الخلق اتّفاقاً ولا يكون ذلك كما يقول ابن عابدين إلاّ بعد مائة وعشرين يوماً ، وتوسّع المالكيّة فأوجبوا الغرّة حتّى لو لم يستبن شيء من خلقه ، ولو ألقته علقةً أي دماً مجتمعاً ، ونقل ابن رشد عن الإمام مالك قوله : كلّ ما طرحت من مضغة أو علقة ممّا يعلم أنّه ولد ففيه غرّة والأجود أن يعتبر نفخ الرّوح فيه . والشّافعيّة يوجبون الغرّة أيضاً لو ألقته لحماً في صورة آدميّ ، وعند الحنابلة إذا ألقت مضغةً ، فشهد ثقات من القوابل أنّه مبتدأ خلق آدميّ ، وجهان : أصحّهما لا شيء فيه ، وهو مذهب الشّافعيّ فيما ليس فيه صورة آدميّ . أمّا عند الحنفيّة ففيه حكومة عدل ، إذ ينقل ابن عابدين عن الشّمنّيّ : أنّ المضغة غير المتبيّنة الّتي يشهد الثّقات من القوابل أنّها بدء خلق آدميّ فيها حكومة عدل .
تعدّد الأجنّة في الإجهاض :
14 - لا خلاف بين فقهاء المذاهب في أنّ الواجب الماليّ من غرّة أو دية يتعدّد بتعدّد الأجنّة . فإن ألقت المرأة بسبب الجناية جنينين أو أكثر تعدّد الواجب بتعدّدهم ؛ لأنّه ضمان آدميّ ، فتعدّد بتعدّده ، كالدّيات . والقائلون بوجوب الكفّارة مع الغرّة - وهم الشّافعيّة والحنابلة كما تقدّم - يرون أنّها تتعدّد بتعدّد الجنين أيضاً .
من تلزمه الغرّة :
15 - الغرّة تلزم العاقلة في سنة بالنّسبة للجنين الحرّ عند فقهاء الحنفيّة ، للخبر الّذي روي عن محمّد بن الحسن « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قضى بالغرّة على العاقلة في سنة » ، ولا يرث الجاني وهذا هو الأصحّ عند الشّافعيّة ، فقد قالوا : الغرّة على عاقلة الجاني ولو الحامل نفسها ؛ لأنّ الجناية على الجنين لا عمد فيها حتّى يقصد بالجناية ، بل يجري فيها الخطأ وشبه العمد . سواء أكانت الجناية على أمّه خطأً أم عمداً أم شبه عمد . وللحنفيّة تفصيل : فلو ضرب الرّجل بطن امرأته ، فألقت جنيناً ميّتاً ، فعلى عاقلة الأب الغرّة ، ولا يرث فيها ، والمرأة إن أجهضت نفسها متعمّدةً دون إذن الزّوج ، فإنّ عاقلتها تضمن الغرّة ولا ترث فيها ، وأمّا إن أذن الزّوج ، أو لم تتعمّد ، فقيل . لا غرّة ؛ لعدم التّعدّي ، لأنّه هو الوارث والغرّة حقّه ، وقد أذن بإتلاف حقّه . والصّحيح أنّ الغرّة واجبة على عاقلتها أيضاً ؛ لأنّه بالنّظر إلى أنّ الغرّة حقّه لم يجب بضربه شيء ، ولكن لأنّ الآدميّ لا يملك أحد إهدار آدميّته وجبت على العاقلة ، فإن لم يكن لها عاقلة فقيل في مالها ، وفي ظاهر الرّواية : في بيت المال ، وقالوا : إنّ الزّوجة لو أمرت غيرها أن تجهضها ، ففعلت ، لا تضمن المأمورة ، إذا كان ذلك بإذن الزّوج . ويرى المالكيّة وجوب الغرّة في مال الجاني في العمد مطلقاً ، وكذا في الخطأ ، إلاّ أن يبلغ ثلث ديته فأكثر فعلى عاقلته ، كما لو ضرب مجوسيّ حرّةً حبلى ، فألقت جنيناً ، فإنّ الغرّة الواجبة هنا أكثر من ثلث دية الجاني . ويوافقهم الشّافعيّة في قول غير صحيح عندهم فيما إذا كانت الجناية عمداً ، إذ قالوا : وقيل : إن تعمّد الجناية فعليه الغرّة لا على عاقلته ، بناءً على تصوّر العمد فيه والأصحّ عدم تصوّره لتوقّفه على علم وجوده وحياته . أمّا الحنابلة فقد جعلوا الغرّة على العاقلة إذا مات الجنين مع أمّه وكانت الجناية عليها خطأً أو شبه عمد . أمّا إذا كان القتل عمداً ، أو مات الجنين وحده ، فتكون في مال الجاني ، وما تحمله العاقلة يجب مؤجّلاً في ثلاث سنين ، وقيل : من لزمته الكفّارة ففي ماله مطلقاً على الصّحيح من المذهب ، وقيل ما حمله بيت المال من خطأ الإمام والحاكم ففي بيت المال . والتّفصيل في مصطلحات ( عاقلة . غرّة . جنين . دية . كفّارة ) .
الآثار التّبعيّة للإجهاض :
16 - بالإجهاض ينفصل الجنين عن أمّه ميّتاً ، ويسمّى سقطاً . والسّقط هو الولد تضعه المرأة ميّتاً أو لغير تمام أشهره ولم يستهلّ . وقد تكلّم الفقهاء عن حكم تسميته وتغسيله وتكفينه والصّلاة عليه ودفنه . وموضع بيان ذلك وتفصيله مصطلح سقط . أثر الإجهاض في الطّهارة والعدّة والطّلاق :
17 - لا خلاف في أنّ الإجهاض بعد تمام الخلق تترتّب عليه الأحكام الّتي تترتّب على الولادة . من حيث الطّهارة ، وانقضاء العدّة ، ووقوع الطّلاق المعلّق على الولادة ، لتيقّن براءة الرّحم بذلك ، ولا خلاف في أنّ الإجهاض لا أثر له فيما يتوقّف فيه استحقاق الجنين على تحقّق الحياة وانفصاله عن أمّه حيّاً كالإرث والوصيّة والوقف . أمّا الإجهاض في مراحل الحمل الأولى قبل نفخ الرّوح ففيه الاتّجاهات الفقهيّة الآتية : فبالنّسبة لاعتبار أمّه نفساء ، وما يتطلّبه ذلك من تطهّر ، يرى المالكيّة في المعتمد عندهم ، والشّافعيّة ، اعتبارها نفساء ، ولو بإلقاء مضغة هي أصل آدميّ ، أو بإلقاء علقة . ويرى الحنفيّة والحنابلة أنّه إذا لم يظهر شيء من خلقه فإنّ المرأة لا تصير به نفساء . ويرى أبو يوسف ومحمّد في رواية عنه أنّه لا غسل عليها ، لكن يجب عليها الوضوء ، وهو الصّحيح . وبالنّسبة لانقضاء العدّة ووقوع الطّلاق المعلّق على الولادة فإنّ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة يرون أنّ العلقة والمضغة الّتي ليس فيها أيّ صورة آدميّ لا تنقضي بها العدّة ، ولا يقع الطّلاق المعلّق على الولادة ؛ لأنّه لم يثبت أنّه ولد بالمشاهدة ولا بالبيّنة . أمّا المضغة المخلّقة والّتي بها صورة آدميّ ولو خفيّةً ، وشهدت الثّقات القوابل بأنّها لو بقيت لتصوّرت ، فإنّها تنقضي بها العدّة ويقع الطّلاق ؛ لأنّه علم به براءة الرّحم عند الحنفيّة والحنابلة . لكن الشّافعيّة لا يوقعون الطّلاق المعلّق على الولادة ؛ لأنّه لا يسمّى ولادةً ، أمّا المالكيّة فإنّهم ينصّون على أنّ العدّة تنقضي بانفصال الحمل كلّه ولو علقةً .
إجهاض جنين البهيمة :
18 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وهو الصّحيح عند الحنابلة ، إلى أنّه يجب في جنين البهيمة إذا ألقته بجناية ميّتاً ما نقصت الأمّ ، أي حكومة عدل ، وهو أرش ما نقص من قيمتها . وإذا نزل حيّاً ثمّ مات من أثر الجناية فقيمته مع الحكومة ، وفي المسائل الملقوطة الّتي انفرد بها مالك أنّ عليه عشر قيمة أمّه ، وهو ما قال به أبو بكر من الحنابلة . ولم نقف للشّافعيّة على كلام في هذا أكثر من قولهم : لو صالت البهيمة وهي حامل على إنسان ، فدفعها ، فسقط جنينها ، فلا ضمان . وهذا يفيد أنّ الدّفع لو كان عدواناً لزمه الضّمان .
أجير
التّعريف
1 - الأجير هو المستأجر ، والجمع أجراء . ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن هذا المعنى ، وهو على قسمين : أجير خاصّ : وهو الّذي يقع العقد عليه في مدّة معلومة يستحقّ المستأجر منفعته المعقود عليها في تلك المدّة ، ويسمّى بالأجير الوحد ؛ لأنّه لا يعمل لغير مستأجره ، كمن استؤجر شهراً للخدمة . وأجير مشترك : وهو من يعمل لعامّة النّاس كالنّجّار والطّبيب .
( الحكم الإجماليّ )
2 - استئجار الآدميّ جائز شرعاً لقول اللّه تعالى : { قال إنّي أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه » . ومتى كان الأجير جائز التّصرّف ، مستوفياً لشروط العقد من سلامة الأسباب والآلات ، قادراً على تسليم المنفعة المطلوبة منه حسّاً وشرعاً ، ولم يكن فيما يستأجر عليه معصية ، فإنّه يجب عليه الوفاء بما تمّ العقد عليه . فإن كان أجيراً خاصّاً وجب عليه تسليم نفسه لمستأجره ، وتمكينه من استيفاء منفعته المعقود عليها في هذه المدّة ، وامتناعه من العمل لغير مستأجره فيها ، إلاّ أداء الصّلاة المفروضة باتّفاق ، والسّنن على خلاف ، وإذا سلّم نفسه في المدّة فإنّه يستحقّ الأجرة المسمّاة ، وإن لم يعمل شيئاً ، وإن كان أجيراً مشتركاً وجب عليه الوفاء بالعمل المطلوب منه والتّسليم للمستأجر ، ويستحقّ الأجرة بالوفاء بذلك . وما مرّ محلّ اتّفاق بين الفقهاء .
( مواطن البحث )
3 - هذا ، وللأجير أحكام كثيرة باعتباره أحد طرفي عقد الإجارة ، وباعتبار المنفعة المطلوبة منه ، وبيان مدّتها ، أو نوعها ومحلّها ، والأجرة وتعجيلها ، أو تأجيلها ، ومن ناحية خياره وعدمه ، ومتى تنفسخ معه الإجارة ومتى لا تنفسخ ، وغير ذلك . وينظر في مصطلح ( إجارة ) .
إحالة
انظر : حوالة .
أحباس
انظر : وقف .
إحبال
انظر : حمل
احتباء
التّعريف
1 - الاحتباء في اللّغة القعود على مقعدته وضمّ فخذيه إلى بطنه واشتمالهما مع ظهره بثوب أو نحوه ، أو باليدين . وهو عند الفقهاء كذلك . الفرق بين الاحتباء والإقعاء :
2 - الإقعاء وضع الأليتين واليدين على الأرض مع نصب الرّكبتين وعلى هذا يكون الفرق بينهما أنّه يرافق الاحتباء ضمّ الفخذين إلى البطن ، والرّكبتين إلى الصّدر ، والتزامهما باليدين أو بثوب بينما لا يكون في الإقعاء ذلك الالتزام . الحكم العامّ ومواطن البحث :
3 - الاحتباء خارج الصّلاة مباح إن لم يرافقه محظور شرعيّ آخر ككشف العورة مثلاً . والأولى تركه وقت الخطبة وعند انتظار الصّلاة ؛ لأنّه يكون متهيّئاً للنّوم والوقوع وانتقاض الوضوء . هو مكروه في الصّلاة لما ورد من النّهي عنه ، وما فيه من مخالفة الوضع المسنون في الصّلاة .
4 - وقد فصّل الفقهاء حكم الاحتباء في كتاب الصّلاة ، عند كلامهم على مكروهات الصّلاة .
احتباس
التّعريف
1 - الحبس والاحتباس ، ضدّ التّخلية ، أو هو المنع من حرّيّة السّعي ، ولكن الاحتباس - كما يقول أهل اللّغة - يختصّ بما يحبسه الإنسان لنفسه ، قال في لسان العرب : احتبست الشّيء إذا اختصصته لنفسك خاصّةً . وكما أنّه يأتي متعدّياً فإنّه يأتي لازماً ، مثل ما في الحديث : « احتبس جبريل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم » وقولهم : احتبس المطر أو اللّسان .
( الألفاظ ذات الصّلة )
أ - الحبس :
2 - الفرق بين الحبس والاحتباس ، أنّ الحبس لا يأتي إلاّ متعدّياً ، وليس كذلك الاحتباس فإنّه يأتي متعدّياً ولازماً .
ب - الحجر :
3 - والفرق بين الاحتباس والحجر ، أنّ الحجر منع شخص من التّصرّف في ماله رعايةً لمصلحته . وبذلك يكون الفرق بينهما أنّ الاحتباس هو منع لصالح المحتبس ( بكسر الباء ) ، والحجر منع لصالح المحجور عليه .
ج - الحصر :
4 - والفرق بين الاحتباس والحصر ، أنّ الحصر هو الحبس مع التّضييق ، والتّضييق لا يرد إلاّ على ذي روح ، والاحتباس يرد على ذي الرّوح وغيره ، كما لا يلزم أن يكون في الاحتباس تضييق .
د - الاعتقال :
5 - والفرق بين الاحتباس والاعتقال : أنّ الاعتقال هو الحبس عن حاجته ، أو هو الحبس عن أداء ما هو من وظيفته ، ومن هنا يقولون : اعتقل لسانه إذا حبس ومنع عن الكلام . وليس كذلك الاحتباس ، إذ لا يقصد منه المنع من أداء الوظيفة .
( الحكم الإجماليّ ومواطن البحث )
6 - يجوز الاحتباس في حالتين :
الحالة الأولى : عندما يكون حقّ المحتبس في المحبوس هو الغالب ، كحبس المرهون بالدّين - كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الرّهن ، وحبس الأجير المشترك العين الّتي له فيها أثر حتّى يتسلّم الأجرة ، واحتباس البائع ما في يده من البيع حتّى يسلّم المشتري ما في يده من الثّمن إلاّ بشرط مخالف .
الحالة الثّانية : عندما تتطلّب المصلحة هذا الاحتباس ، كاحتباس المال عن مالكه السّفيه ، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الحجر ، واحتباس ما غنمه أهل العدل من أموال البغاة حتّى يتوبوا ، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب البغاة ، واحتباس الأرض المفتوحة عنوةً للمسلمين ، وعدم توزيعها بين المحاربين ، ونحو ذلك .
7 - ويمتنع الاحتباس في أحوال :
الحال الأولى : عندما يكون حقّ الغير هو الغالب ، كحقّ المرتهن في العين المرهونة ففي هذه الحال يمتنع على المالك ( الرّاهن ) حقّه الأصليّ في الاحتباس .
الحال الثّانية : حالة الضّرورة ، كاحتباس الضّروريّات لإغلاء السّعر على النّاس ، وتفصيل الكلام على ذلك موطنه مصطلح « احتكار » . الحال الثّالثة : حال الحاجة ، ولذلك كره حبس الأشياء المعتاد إعارتها عن الغير إن احتاج إليه ذلك الغير .
من آثار الاحتباس :
8 - من احتبس إنساناً أو حيواناً وجبت عليه مؤنته ، ولذلك وجبت النّفقة للزّوجة ، والقاضي ، والمغصوب ، والحيوان المحتبس ، ووجبت الأجرة للأجير الخاصّ بمجرّد الاحتباس ، ونحو ذلك . وتكره الصّلاة مع احتباس الرّيح أو الغائط - مدافعة الأخبثين - وقد ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الصّلاة عند كلامهم على مكروهات الصّلاة ، وتسنّ صلاة الاستسقاء عند احتباس المطر ، وتفصيل ذلك في كتاب الصّلاة ، فصل صلاة الاستسقاء من كتب الفقه . ويعامل محتبس الكلام - أي من اعتقل لسانه - معاملة الأخرس إذا طال احتباس الكلام عنه كما سنفصّل ذلك في كلمة « أخرس » .
احتجام
التّعريف
1 - ( الاحتجام طلب الحجامة ) . والحجم في لغة : المصّ ، يقال : حجم الصّبيّ ثدي أمّه ، أي ، مصّه ، ومن هنا سمّي الحجام بذلك ، لأنّه يمصّ الجرح ، وفعل المصّ واحترافه يسمّى الحجامة ، ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذه الكلمة عن هذا المعنى . والفرق بين الحجامة والفصد : أنّ الفصد هو شقّ العرق لإخراج الدّم منه فهو غير الاحتجام .
( الحكم الإجماليّ )
2 - الاحتجام مباح للتّطبيب ، ويكره في الوقت الّذي يحتاج فيه المسلم للقوّة والنّشاط لأداء عبادة ونحوها ، لما يورثه من ضعف في البدن ، وكذلك للصّائم . كما نصّ الفقهاء على ذلك في كتاب الصّوم ، عند كلامهم على مكروهات الصّيام . وذهب الحنابلة إلى فساد الصّيام بالحجامة ، وقد ذكروا ذلك في كتاب الصّوم عند كلامهم على ما يفسد الصّوم ولا يوجب الكفّارة .
3 - والحجامة حرفة دنيئة لمخالطة محترفها النّجاسة ، ويترتّب عليها من الآثار ما يترتّب على الحرف الدّنيئة . وتفصيل ذلك في مصطلح احتراف " ويذكره الفقهاء في الكفاءة من باب النّكاح ، وفي باب الإجارة .
4 - الحجامة تطبيب ، فيترتّب عليها ما يترتّب على التّطبيب من آثار : كجواز نظر الحاجم إلى عورة المحجوم عند الضّرورة . وذكر الحنفيّة ذلك في كتاب الحظر والإباحة في باب النّظر ، ويذكره غيرهم غالباً في كتاب النّكاح استطراداً أو في كتاب الصّلاة عند كلامهم على ستر العورة ، وكضمان ما تلف بفعل الحجّام ، ذكر ذلك جمهور الفقهاء في كتاب الجنايات . وذكره المالكيّة في الإجارة ، وذكره ابن قدامة من الحنابلة في التّعزير .
5 - ودم الحجامة نجس كغيره ، ولكن يجزئ المسح في تطهير مكان الجرح منه للضّرورة ، ويجب أن ينزّه المسجد عن الحجامة فيه .
احتراف
التّعريف
1 - الاحتراف في اللّغة : الاكتساب ، أو طلب حرفة للكسب . والحرفة كلّ ما اشتغل به الإنسان واشتهر به ، فيقولون حرفة فلان كذا ، يريدون دأبه وديدنه . وهي بهذا ترادف كلمتي صنعة ، وعمل . أمّا الامتهان فإنّه لا فرق بينه وبين احتراف ؛ لأنّ معنى المهنة يرادف معنى الحرفة ، وكلّ منهما يراد به حذق العمل . ويوافق الفقهاء اللّغويّين في هذا ، فيطلقون الاحتراف على مزاولة الحرفة وعلى الاكتساب نفسه .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : أ - الصّناعة :
2 - الاحتراف يفترق عن " الصّناعة " لأنّها عند أهل اللّغة ترتيب العمل على ما تقدّم علم به ، وبما يوصّل إلى المراد منه ، ولذا قيل للنّجّار صانع ولا يقال للتّاجر صانع . فلا يشترطون في الصّناعة أن يجعلها الشّخص دأبه وديدنه ، ويخصّ الفقهاء ، كلمة " صناعة " بالحرف الّتي تستعمل فيها الآلة ، فقالوا : الصّناعة ما كان بآلة .
ب - العمل .
3 - يفترق الاحتراف عن العمل ، بأنّ العمل يطلق على الفعل سواء حذقه الإنسان أو لم يحذقه ، اتّخذه ديدناً له أو لم يتّخذه ، ولذلك قالوا : العمل المهنة والفعل . وغالب استعمال الفقهاء إطلاق العمل على ما هو أعمّ من الاحتراف والصّنعة ، كما أنّ الاحتراف أعمّ من الصّنعة .
ج - الاكتساب أو الكسب :
4 - يفترق معنى الاحتراف عن معنى الاكتساب أو الكسب ، بأنّ كلّاً منهما أعمّ من الاحتراف ، لأنّهما عند أهل اللّغة ما يتحرّاه الإنسان ممّا فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظّ ، فلا يشترط فيه أن يجعله الشّخص دأبه وديدنه كما هو الحال في الاحتراف ، ويطلق الفقهاء الاكتساب أو الكسب على تحصيل المال بما حلّ أو حرم من الأسباب سواء أكان باحتراف أو بغير احتراف ، كما يطلقون الكسب على الحاصل بالاكتساب . الحكم التّكليفيّ إجمالاً :
5 - الاحتراف فرض كفاية على العموم لاحتياج النّاس إليه وعدم استغنائهم عنه . وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد إن شاء اللّه .
تصنيف الحرف :
6 - تصنّف الحرف إلى صنفين : الصّنف الأوّل : حرف شريفة ، والصّنف الثّاني حرف دنيئة . والأصل في هذا التّصنيف ما رواه عمر بن الخطّاب ، قال : « سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : إنّي وهبت لخالتي غلاماً ، وأنا أرجو أن يبارك لها فيه . فقلت لها : لا تسلّميه حجّاماً ، ولا صائغاً ، ولا قصّاباً » . قال ابن الأثير : الصّائغ ربّما كان من صنعه شيء للرّجال وهو حرام ، أو كان من آنية وهي حرام ، أمّا القصّاب فلأجل النّجاسة الغالبة على ثوبه وبدنه مع تعذّر الاحتراز . وروي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « العرب أكفاء بعضهم لبعض إلاّ حائكاً أو حجّاماً » . قيل للإمام أحمد : وكيف تأخذ بهذا الحديث وأنت تضعّفه ؟ قال : العمل عليه .
تفاوت الحرف الشّريفة فيما بينها :
7 - فاضل الفقهاء بين الحرف الشّريفة لاعتبارات ذكروها ، فاتّفقوا على أنّ أشرف الحرف العلم وما آل إليه ، كالقضاء والحكم ونحو ذلك ، ولذلك نصّ الحنفيّة على أنّ المدرّس كفء لبنت الأمير . وذكر ابن مفلح إجماع العلماء على أنّ أشرف الكسب الغنائم إذا سلم من الغلول . ثمّ اختلفوا فيما يتلوه في الفضل . هذا وإنّ للفقهاء في كتبهم كلاماً في المفاضلة بين الحرف الشّريفة ، من علم أو تجارة أو صناعة أو زراعة . . إلخ ولهم في اتّجاهاتهم المختلفة فيما هو أشرف استدلال بأحاديث ووجوه من المعقول ظنّيّة الورود أو الدّلالة ، ولعلّ في آرائهم تلك مراعاةً لبعض الأعراف والملابسات الّتي كانت سائدةً في زمانهم ، ونجتزئ بهذه الإشارة عن إيراد الاتّجاهات المختلفة في هذه المسألة .
الحرف الدّنيئة :
8 - لقد حرص الفقهاء على تحديد الحرف الدّنيئة ليبقى ما وراءها من الحرف شريفاً . فقالوا : الحرف الدّنيئة هي كلّ حرفة دلّت ملابستها على انحطاط المروءة وسقوط النّفس . وقد اتّفق الفقهاء على اعتبارهم الحرف المحرّمة ، كاحتراف الزّنا وبيع الخمر ونحو ذلك ، حرفاً دنيئةً كما سيأتي ، وقد سلك الفقهاء في تحديد الحرف الدّنيئة - فيما عدا المحرّمة منها - مسلكين : الأوّل : تحديدها بالضّابط ، ومنه ما نصّ عليه الشّافعيّة من أنّ كلّ حرفة فيها مباشرة نجاسة هي حرفة دنيئة . الثّاني : تحديدها بالعرف ، وهو مسلك جمهور الفقهاء ، ومنهم الشّافعيّة أيضاً ، واجتهدوا استناداً إلى الأعراف السّائدة في عصورهم في تحديد الحرف الدّنيئة . هذا ، وإنّ ما جاء في بعض الكتب الفقهيّة من وصف بعض أنواع من الحرف بالدّناءة - تبعاً لأوضاع زمنيّة - فإنّ القائلين بذلك صرّحوا بأنّه تزول كراهة الاحتراف بحرفة دنيئة إذا كان احترافها للقيام بفرض الكفاية ، إذ ينبغي أن يكون في كلّ بلد جميع الصّنائع المحتاج إليها .
التّحوّل من حرفة إلى حرفة :
9 - قال ابن مفلح في الآداب الشّرعيّة : قال القاضي أبو يعلى : يستحبّ إذا وجد الخير في نوع من التّجارة أن يلزمه ، وإن قصد إلى جهة من التّجارة فلم يقسم له فيها رزقه ، عدل إلى غيره ، لما روى ابن أبي الدّنيا عن موسى بن عقبة مرفوعاً : « إذا رزق أحدكم في الوجه من التّجارة فليلزمه . » وروى ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطّاب قال : من اتّجر في شيء ثلاث مرّات ، فلم يصب فيه فليتحوّل إلى غيره . وقال عبد اللّه بن عمر : من اتّجر في شيء ثلاث مرّات فلم يصب فيه ، فليتحوّل إلى غيره . ولكن هل لهذا التّحوّل أثر في الكفاءة بين الزّوجين في الحرفة ؟ ( ر : كفاءة . نكاح )
الحكم التّكليفيّ للاحتراف تفصيلاً
10 - أ - يندب للمرء أن يختار حرفةً لكسب رزقه ، قال عمر بن الخطّاب : إنّي لأرى الرّجل فيعجبني ، فأقول : له حرفة ؟ فإن قالوا : لا ، سقط من عيني .
ب - ويجب - على الكفاية - أن يتوفّر في بلاد المسلمين أصول الحرف جميعها ، احتيج إليها أو لا . قال ابن تيميّة : قال غير واحد من أصحاب الشّافعيّ وأحمد وغيرهم كالغزاليّ ، وابن الجوزيّ ، وغيرهم : إنّ هذه الصّناعات فرض على الكفاية ، فإنّه لا تتمّ مصلحة النّاس إلاّ بها . وقد اختار ابن تيميّة أنّ احتراف بعض الحرف يصبح فرض كفاية إذا احتاج المسلمون إليها ، فإن استغنوا عنها بما يجلبونه أو يجلب إليهم فقد سقط وجوب احترافها . فإذا امتنع المحترفون عن القيام بهذا الفرض أجبرهم الإمام عليه بعوض المثل . قال ابن تيميّة : إنّ هذه الأعمال الّتي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها إلاّ إنسان بعينه صارت فرض عين عليه ، إن كان غيره عاجزاً عنها ، فإذا كان النّاس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجباً يجبرهم وليّ الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل ، ولا يمكّنهم من مطالبة النّاس بزيادة عن عوض المثل .
11 - ج - ولمّا كان إقامة الصّناعات فرض كفاية كان توفير المحترفين الّذين يعملون في هذه الصّناعات فرضاً ، لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب ، وهو ما ذهب إليه الشّافعيّة ، قال القليوبيّ في حاشيته ما مفاده : يجب أن يسلّم الوليّ الصّغير لذي حرفة يتعلّم منه الحرفة . ورغم أنّ الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة لم ينصّوا على وجوب دفع الوليّ الصّغير إلى من يعلّمه الحرفة إلاّ أنّ كلامهم يقتضي ذلك .
حكم الحرف الدّنيئة :
12 - د - وجمهور الفقهاء على أنّ المكاسب غير المحرّمة كلّها في الإباحة سواء . ولكن هذه الإباحة تكتنفها الكراهة إذا اختار المرء لنفسه أو ولده حرفةً دنيئةً إن وسعه احتراف ما هو أصلح منها . ومع هذا فقد قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : مكسبة فيها بعض الدّناءة خير من مسألة النّاس . وقال ابن عقيل : يكره تعلّم الصّنائع الرّديئة مع إمكان ما هو أصلح منها . ونصّ الشّافعيّة على زوال هذه الكراهة إذا كانت الحرفة الدّنيئة هي حرفة أبيه . ونصّ ابن مفلح الحنبليّ على زوال هذه الكراهة إذا احترف المرء حرفةً دنيئةً للقيام بفرض الكفاية . وقال بعض المتشدّدين من الحنفيّة : ما يرجع إلى الدّناءة من المكاسب في عرف النّاس لا يسع الإقدام عليه إلاّ عند الضّرورة لقوله صلى الله عليه وسلم : « ليس لمؤمن أن يذلّ نفسه » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه يحبّ معالي الأمور ويبغض سفسافها » ، ولكنّ الصّحيح عند الحنفيّة الأوّل .
الحرف المحظورة
13 - أ - الأصل أنّه لا يجوز احتراف عمل محرّم بذاته ، ومن هنا منع الاتّجار بالخمر واحتراف الكهانة .
ب - كما لا يجوز احتراف ما يؤدّي إلى الحرام أو ما يكون فيه إعانة عليه ، كالوشم : لما فيه من تغيير خلق اللّه وككتابة الرّبا : لما فيه من الإعانة على أكل أموال النّاس بالباطل ونحو ذلك . وتعرّض الفقهاء إلى اتّخاذ حرف يتكسّب منها المحترف من غير أن يبذل فيها جهداً ، أو يزيد زيادةً ، كالخيّاط يتسلّم الثّوب ليخيطه بدينارين فيعطيه لمن يخيطه بدينار ويأخذ الفرق . فذهب الفقهاء إلى جواز ذلك ؛ لأنّ مثل هذه الإجارة كالبيع ، وبيع المبيع يجوز برأس المال وبأقلّ منه وبأكثر ، فكذلك الإجارة إلاّ أنّ الحنفيّة نصّوا على أنّه إذا كانت الأجرة الثّانية من جنس الأجرة الأولى فإنّ الزّيادة لا تطيب له إلاّ إذا بذل جهداً أو زاد زيادةً ، فإنّها تطيب ولو اتّحد الجنس .
آثار الاحتراف :
14 - أ - يعطى الفقير المحترف الّذي لا يملك آلات حرفته من الزّكاة ما يشتري به آلة حرفته . وتفصيل ذلك في ( زكاة ) .
ب - إذا فعل المحترف فعلاً في حدود حرفته ، فأخطأ فيه خطأً يحتمل أن يخطئ فيه المحترفون ، فلا ضمان عليه ، كالطّبيب . أمّا من عداه فيضمن . وتفصيل ذلك في باب الضّمان .
ج - يرى بعض الفقهاء جواز إفطار رمضان لمن يحترف حرفةً شاقّةً يتعذّر عليه الصّيام معها ، وليس بإمكانه تركها في رمضان .
د - للمعتدّة - ولا سيّما المحترفة - الخروج في حوائجها نهاراً سواء أكانت مطلّقةً أو متوفًّى عنها وليس لها المبيت في غير بيتها ولا الخروج ليلاً إلاّ لضرورة . وتفصيله في ( عدّة ) ( وإحداد ) .
هـ - للاحتراف أثر في الكفاءة بين الزّوجين وتفصيله في ( نكاح ) ، وللاحتراف أثر في تخفيف بعض الأحكام الشّرعيّة ، كالتّرخيص للقصّاب بالصّلاة في ثياب مهنته مع ما عليها من الدّم ، ما لم يفحش . وتفصيله في ( نجاسة - ما يعفى عنه من النّجاسات ) .
احتساب
التّعريف
1 - تأتي كلمة " احتساب " في اللّغة بمعان عديدة منها : أ - الاعتداد بالشّيء ، من الحسب ، وهو العدّ .
ب - طلب الثّواب ، وقد استعمل الفقهاء هذا اللّفظ بهذين المعنيين كليهما ، على أنّه عند الإطلاق ينصرف إلى معنى طلب الثّواب . الاحتساب بمعنى الاعتداد أو الاعتبار :
2 - يطلق الفقهاء كلمة " احتساب " عندما يأتي المكلّف بالفعل على غير وجه الكمال ، ومع ذلك فإنّ الشّارع يعتبره صحيحاً مقبولاً . فالمسبوق في الصّلاة إذا أدرك الرّكوع مع الإمام احتسبت له ركعة ، وإن لم يأت بالفرائض الّتي قبله ، ومن دخل المسجد ، فرأى الجماعة قائمةً لصلاة الظّهر فنوى تحيّة المسجد وصلاة الظّهر ودخل معهم في صلاتهم ، احتسبت له تلك الصّلاة تحيّة مسجد وصلاة ظهر . وتفصيل ذلك في " الصّلاة » . الاحتساب بمعنى طلب الثّواب من اللّه تعالى :
3 - طلب الثّواب من اللّه تعالى بالاحتساب يتحقّق في أمور كثيرة منها : أ - تنازل المسلم عن حقّه المترتّب على الغير طلباً لثواب اللّه تعالى ، لا عجزاً ، كعتق الرّقيق ، احتساباً ، ووضع السّيّد بعض مال الكتابة احتساباً والعفو عن القصاص دون مقابل احتساباً ، وإرضاع الصّغير دون مقابل احتساباً .
ب - أداء حقّ من حقوق اللّه تعالى المحضة كالصّلاة ، والصّوم ، وأداء الشّهادة دون طلب في حقّ من حقوق اللّه المحضة ، وفيما للّه تعالى فيه حقّ غالب مؤكّد ، وهو ما لا يتأثّر برضا الآدميّ - كطلاق ، وعتق ، وعفو عن قصاص ، وبقاء عدّة ، وانقضائها ، وحدّ ، ونسب . وقد فصّل الفقهاء القول في ذلك في كتاب الشّهادات عند كلامهم على ما يؤدّى حسبةً من الشّهادات ، وما يتّصل بأحكام المحتسب ينظر في مصطلح « حسبة » .
احتشاش
التّعريف
1 - الاحتشاش معناه في اللّغة طلب الحشيش وجمعه ، والحشيش يابس الكلأ . قال الأزهريّ : لا يقال للرّطب حشيش . واصطلاحاً : قطع الحشيش ، سواء أكان يابساً أم رطباً . وإطلاقه في الرّطب من قبيل المجاز ، باعتبار ما يؤول إليه .
( الحكم الإجماليّ )
2 - اتّفقت المذاهب في الجملة على إباحة الاحتشاش ، رطباً كان الكلأ أو جافّاً ، في غير الحرم ، ما دام غير مملوك لأحد . أمّا إذا كان مملوكاً فلا يجوز احتشاشه إلاّ بإذن مالكه . أمّا في الحرم فقد اتّفقت المذاهب على أنّه لا يحلّ قطع حشيش الحرم غير المملوك لأحد ، إلاّ أنّهم أباحوا الإذخر وملحقاته والسّواك والعوسج ، وقد أباح الشّافعيّة والحنابلة في رأي وأبو يوسف في رأي أيضاً الاحتشاش في الحرم لعلف الدّوابّ . ولتفصيل ذلك ينظر الجنايات في الإحرام .
السّرقة في الاحتشاش :
3 - قال المالكيّة والشّافعيّة ، وهو رأي للحنابلة : تقطع اليد في العشب المحتشّ إذا أخذ من حرز وبلغت قيمته نصاباً ، وقال الحنفيّة وهو رأي للحنابلة : لا قطع فيه .
حماية الكلأ من الاحتشاش :
4 - قال الحنفيّة والحنابلة وهو رأي للشّافعيّة أنّه يجوز للإمام أن يمنع الاحتشاش في مكان معيّن يجعله حمًى لرعي خيل المجاهدين ، ولما يشبه ذلك من المصالح العامّة . أمّا المالكيّة والشّافعيّة فهم لا يجيزون المنع من الاحتشاش .
الشّركة في الاحتشاش :
5 - الحنفيّة والشّافعيّة لا يجيزون عقد الشّركة في تحصيل المباحات العامّة ولا التّوكيل فيها . والاحتشاش والاحتطاب من هذا القبيل . أمّا المالكيّة والحنابلة فقد أجازوا ذلك . ولتفصيل ذلك يرجع إلى أبواب الشّركة والوكالة .
احتضار
التّعريف
1 - الاحتضار لغةً : الإشراف على الموت بظهور علاماته . وقد يطلق على الإصابة باللّمم أو الجنون ، ولا يخرج معناه في الاصطلاح عن المعنى اللّغويّ الأوّل .
علامات الاحتضار :
2 - للاحتضار علامات كثيرة يعرفها المختصّون ، ذكر منها الفقهاء : استرخاء القدمين ، واعوجاج الأنف ، وانخساف الصّدغين ، وامتداد جلدة الوجه .
ملازمة أهل المحتضر له :
3 - يجب على أقارب المحتضر أن يلازموه ، فإن لم يكن فعلى أصحابه ، فإن لم يكن فعلى جيرانه ، فإن لم يكن فعلى عموم المسلمين على وجه الكفاية ، ويستحبّ أن يليه من أقاربه أحسنهم خلقاً وخلقاً وديناً ، وأرفقهم به ، وأعلمهم بسياسته ، وأتقاهم للّه . وندب أن يحضروا عنده طيباً ، وأن يبعدوا النّساء لقلّة صبرهنّ ، وندب إظهار التّجلّد لمن حضر من الرّجال . ولا بأس بحضور الحائض والنّفساء والجنب عند المحتضر وقت الموت ، إذ إنّه قد لا يمكن منعهنّ ، للشّفقة ، أو للاحتياج إليهنّ . وعن الحسن أنّه كان لا يرى بأساً أن تحضر الحائض الميّت والكراهة قول الحنابلة . وقالت المالكيّة : يندب تجنّب حائض وجنب وتمثال وآلة لهو .
من يجري عليهم حكم الاحتضار :
4 - يجري حكم الاحتضار على من قدّم للقتل حدّاً ، أو قصاصاً ، أو ظلماً ، أو من أصيب إصابةً قاتلةً ، كما يجري على من كان عند التحام صفوف المعركة .
ما يفعله المحتضر :
5 - أ - ينبغي للمحتضر تحسين الظّنّ باللّه تعالى ، فيندب لمن حضرته الوفاة أن يرجو رحمة ربّه ومغفرته وسعة عفوه ، زيادةً على حالة الصّحّة ، ترجيحاً للرّجاء على الخوف ، لما روي عن جابر رضي الله عنه قال " سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث : « لا يموتنّ أحدكم إلاّ وهو يحسن الظّنّ باللّه تعالى » ولخبر الشّيخين في الحديث القدسيّ قال اللّه تعالى : « أنا عند حسن ظنّ عبدي بي ، فلا يظنّ بي إلاّ خيراً » . ولحديث أنس رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على شابّ وهو بالموت ، فقال : كيف تجدك ؟ قال : واللّه يا رسول اللّه إنّي أرجو اللّه ، وإنّي أخاف ذنوبي ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلاّ أعطاه اللّه ما يرجو وأمّنه ممّا يخاف » .
ب - وجوب الإيصاء بأداء الحقوق لأصحابها .
ج - توصية أهله باتّباع ما جرت به السّنّة في التّجهيز والدّفن واجتناب البدع في ذلك اتّباعاً لأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقد وردت الآثار الكثيرة عنهم في هذا المجال ، منها ما ورد عن أبي بردة قال : أوصى أبو موسى رضي الله عنه حين حضره الموت ، قال : إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا بي المشي ، ولا تتبعوني بمجمّر ، ولا تجعلوا على لحدي شيئاً يحول بيني وبين التّراب ، ولا تجعلوا على قبري بناءً . وأشهدكم أنّي بريء من كلّ حالقة أو سالقة أو خارقة . قالوا : سمعت فيه شيئاً ؟ قال : نعم من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
د - التّوصية لأقربائه الّذين لا يرثون منه ، إن لم يكن وصّى لهم في حال صحّته ، لقوله تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين والأقربين بالمعروف حقّاً على المتّقين } . ولحديث « سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال : كنت مع رسول اللّه في حجّة الوداع ، فمرضت مرضاً أشفيت منه على الموت ، فعادني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول اللّه إنّ لي مالاً كثيراً ، وليس يرثني إلاّ ابنة لي ، أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال : لا . قلت : بشطر مالي ؟ قال : لا . قلت : فثلث مالي ؟ قال : الثّلث ، والثّلث كثير ، إنّك يا سعد إن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالةً يتكفّفون النّاس » .
( التّوبة إلى اللّه )
6 - يجب على المحتضر ومن في حكمه أن يتوب إلى اللّه من ذنوبه قبل وصول الرّوح إلى الحلقوم ؛ لأنّ قرب الموت لا يمنع من قبول التّوبة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « إنّ اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر » . وتفصيل ما يتّصل بالتّوبة من أحكام في مصطلح « توبة » .
تصرّفات المحتضر ومن في حكمه
7 - يجري على تصرّفات المحتضر ومن في حكمه ما يجري على تصرّفات المريض مرض الموت من أحكام ، إذا كان في وعيه ، وتفصيله في مصطلح « مرض الموت » .
ما يسنّ للحاضرين أن يفعلوه عند الاحتضار : أوّلاً : التّلقين :
8 - ينبغي تلقين المحتضر : « لا إله إلاّ اللّه » لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم : « لقّنوا موتاكم لا إله إلاّ اللّه » . قال النّوويّ : المراد بالموتى في الحديث المحتضرون الّذين هم في سياق الموت ، سمّوا موتى لقربهم من الموت ، تسميةً للشّيء باسم ما يصير إليه مجازاً . وظاهر الحديث يقتضي وجوب التّلقين ، وإليه مال القرطبيّ ، والّذي عليه الجمهور أنّه مندوب ، وأنّه لا يسنّ زيادة " محمّد رسول اللّه " وهو ما صحّحه في الرّوضة ، والمجموع . ويكون التّلقين قبل الغرغرة ، جهراً وهو يسمع ؛ لأنّ الغرغرة تكون قرب كون الرّوح في الحلقوم ، وحينئذ لا يمكن النّطق بها . والتّلقين إنّما يكون لمن حضر عقله وقدر على الكلام ، فإنّ شارد اللّبّ لا يمكن تلقينه ، والعاجز عن الكلام يردّد الشّهادة في نفسه . والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام : « لقّنوا موتاكم لا إله إلاّ اللّه » ذكّروا المحتضر « لا إله إلاّ اللّه » لكي تكون آخر كلامه ، كما في الحديث : « من كان آخر كلامه لا إله إلاّ اللّه دخل الجنّة » . ويرى جماعة أنّه يلقّن الشّهادة ، وقالوا : صورة التّلقين أن يقال عنده في حالة النّزع قبل الغرغرة ، جهراً وهو يسمع : « أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأشهد أنّ محمّداً رسول اللّه " ولا يقال له : قل ، ولا يلحّ عليه في قولها ، مخافة أن يضجر فيأتي بكلام غير لائق . فإذا قالها مرّةً لا يعيدها عليه الملقّن ، إلاّ أن يتكلّم بكلام غيرها . ويستحبّ أن يكون الملقّن غير متّهم بالمسرّة بموته ، كعدوّ أو حاسد أو وارث غير ولده ، وأن يكون ممّن يعتقد فيه الخير . وإذا ظهرت من المحتضر كلمات توجب الكفر لا يحكم بكفره ، ويعامل معاملة موتى المسلمين . ثانياً : قراءة القرآن :
9 - يندب قراءة سورة ( يس ) عند المحتضر ، لما روى أحمد في مسنده عن صفوان ، قال : « كانت المشيخة يقولون : إذا قرئت ( يس ) عند الموت خفّف عنه بها . وأسنده صاحب مسند الفردوس إلى أبي الدّرداء وأبي ذرّ ، قالا : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ما من ميّت يموت فتقرأ عنده يس إلاّ هوّن اللّه عليه » . قال ابن حبّان : أراد به من حضرته المنيّة ، لا أنّ الميّت يقرأ عليه . وبه قال الشّافعيّة والحنابلة . وزادت الحنابلة قراءة الفاتحة . وقال الشّعبيّ : « كان الأنصار يقرءون عند الميّت بسورة البقرة » . وعن جابر بن زيد أنّه كان يقرأ عند الميّت سورة الرّعد . وقالت المالكيّة : يكره قراءة شيء من القرآن عند الموت وبعده وعلى القبور ؛ لأنّه ليس من عمل السّلف . ثالثاً : التّوجيه :
10 - يوجّه المحتضر للقبلة عند شخوص بصره إلى السّماء ، لا قبل ذلك ، لئلاّ يفزعه ، ويوجّه إليها مضطجعاً على شقّه الأيمن اعتباراً بحال الوضع في القبر ؛ لأنّه أشرف عليه . وفي توجيه المحتضر إلى القبلة ورد : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا قدم المدينة سأل عن البراء بن معرور . فقالوا : توفّي وأوصى بثلث ماله لك ، وأن يوجّه للقبلة لمّا احتضر . فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أصاب الفطرة ، وقد رددت ثلث ماله على ولده ، ثمّ ذهب فصلّى عليه ، وقال : اللّهمّ اغفر له وارحمه وأدخله جنّتك ، وقد فعلت » . قال الحاكم : ولا أعلم في توجيه المحتضر إلى القبلة غيره . وفي اضطجاعه على شقّه الأيمن قيل : يمكن الاستدلال عليه بحديث النّوم ، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أتيت مضجعك فتوضّأ وضوءك للصّلاة ، ثمّ اضطجع على شقّك الأيمن ، وقل : اللّهمّ إنّي أسلمت نفسي إليك . . . إلى أن قال : فإن متّ متّ على الفطرة » وليس فيه ذكر القبلة . ولم يذكر ابن شاهين في باب المحتضر من كتاب الجنائز له غير أثر عن إبراهيم النّخعيّ قال : « يستقبل بالميّت القبلة " وزاد عطاء بن أبي رباح : « على شقّه الأيمن . ما علمت أحداً تركه من ميّت " ، ولأنّه قريب من الوضع في القبر ، ومن اضطجاعه في مرضه ، والسّنّة فيهما ذلك ، فكذلك فيما قرب منهما . ويستدلّ عليه أيضاً بما روى أحمد أنّ فاطمة رضي الله عنها عند موتها استقبلت القبلة ، ثمّ توسّدت يمينها . ويصحّ أن يوجّه المحتضر إلى القبلة مستلقياً على ظهره ، فذلك أسهل لخروج الرّوح ، وأيسر لتغميضه وشدّ لحييه ، وأمنع من تقوّس أعضائه ، ثمّ إذا ألقي على القفا يرفع رأسه قليلاً ليصير وجهه إلى القبلة دون السّماء . ويقول بعض الفقهاء : إنّه لم يصحّ حديث في توجيه المحتضر إلى القبلة ، بل كره سعيد بن المسيّب توجيهه إليها . فقد ورد عن زرعة بن عبد الرّحمن : « أنّه شهد سعيد بن المسيّب في مرضه ، وعنده أبو سلمة بن عبد الرّحمن ، فغشي على سعيد ، فأمر أبو سلمة أن يحوّل فراشه إلى الكعبة ، فأفاق ، فقال : حوّلتم فراشي ؟ قالوا : نعم ، فنظر إلى أبي سلمة فقال : أراه بعلمك ، فقال : أنا أمرتهم . فأمر سعيد أن يعاد فراشه » . رابعاً : بلّ حلق المحتضر بالماء :
11 - يسنّ للحاضرين أن يتعاهدوا بلّ حلق المحتضر بماء أو شراب ، وأن يتعاهدوا تندية شفتيه بقطنة لأنّه ربّما ينشف حلقه من شدّة ما نزل به فيعجز عن الكلام . وتعاهده بذلك يطفئ ما نزل به من الشّدّة ، ويسهّل عليه النّطق بالشّهادة . خامساً : ذكر اللّه تعالى :
12 - يستحبّ للصّالحين ممّن يحضرون عند المحتضر أن يذكروا اللّه تعالى ، وأن يكثروا من الدّعاء له بتسهيل الأمر الّذي هو فيه ، وأن يدعوا للحاضرين ، إذ هو من مواطن الإجابة ؛ لأنّ الملائكة يؤمّنون على قولهم قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا حضرتم المريض ، أو الميّت ، فقولوا خيراً ، فإنّ الملائكة يؤمّنون على ما تقولون » . سادساً : تحسين ظنّ المحتضر باللّه تعالى :
13 - إذا رأى الحاضرون من المحتضر أمارات اليأس والقنوط وجب عليهم أن يحسّنوا ظنّه بربّه ، وأن يطمّعوه في رحمته ، إذ قد يفارق على ذلك فيهلك ، فتعيّن عليهم ذلك ، أخذاً من قاعدة النّصيحة الواجبة . وهذا الحال من أهمّها .
ما يسنّ للحاضرين أن يفعلوه عند موت المحتضر :
14 - إذا تيقّن الحاضرون موت المحتضر ، وعلامة ذلك انقطاع نفسه وانفراج شفتيه تولّى أرفق أهله به إغماض عينيه ، والدّعاء له ، وشدّ لحييه بعصابة عريضة تشدّ في لحييه للأسفل وتربط فوق رأسه ، لأنّه لو ترك مفتوح العينين والفم حتّى يبرد بقي مفتوحهما فيقبح منظره ، ولا يؤمن دخول الهوامّ فيه والماء في وقت غسله ، ويليّن مفاصله ويردّ ذراعيه إلى عضديه ثمّ يمدّهما ، ويردّ أصابع يديه إلى كفّيه ثمّ يمدّها ، ويردّ فخذيه إلى بطنه ، وساقيه إلى فخذيه ثمّ يمدّهما . ويقول مغمضه : « باسم اللّه ، وعلى ملّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . اللّهمّ يسّر عليه أمره ، وسهّل عليه ما بعده ، وأسعده بلقائك ، واجعل ما خرج إليه خيراً ممّا خرج منه » . فقد روي عن أمّ سلمة أنّها قالت : « دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شقّ بصره ، فأغمضه ثمّ قال : إنّ الرّوح إذا قبض تبعه البصر . فضجّ ناس من أهله فقال : لا تدعوا على أنفسكم إلاّ بخير ، فإنّ الملائكة يؤمّنون على ما تقولون . ثمّ قال : اللّهمّ اغفر لأبي سلمة ، وارفع درجته في المهديّين المقرّبين واخلفه في عقبه في الغابرين ، واغفر لنا وله يا ربّ العالمين ، وأفسح له في قبره ، ونوّر له فيه » . وعن شدّاد بن أوس : قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر . وإنّ البصر يتبع الرّوح . وقولوا خيراً ، فإنّه يؤمّن على ما قال أهل الميّت » .
كشف وجه الميّت والبكاء عليه :
15 - يجوز للحاضرين وغيرهم كشف وجه الميّت وتقبيله ، والبكاء عليه ثلاثة أيّام بكاءً خالياً من الصّراخ والنّواح ، لما ورد عن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنه قال : « لمّا قتل أبي جعلت أكشف الثّوب عن وجهه أبكي ، ونهوني ، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم لا ينهاني ، فأمر به النّبيّ صلى الله عليه وسلم فرفع فجعلت عمّتي فاطمة تبكي . فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : تبكين أو لا تبكين ، ما زالت الملائكة تظلّه بأجنحتها حتّى رفعتموه » . ولما ورد عن عائشة رضي الله عنها : أنّ أبا بكر كشف وجه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقبّله بين عينيه ، ثمّ بكى ، وقال : بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه ، طبت حيّاً وميّتاً ، « وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون وهو ميّت ، فكشف عن وجهه ، ثمّ أكبّ عليه ، فقبّله وبكى حتّى رأيت الدّموع تسيل على وجنتيه » وعن عبد اللّه بن جعفر رضي الله عنه « أنّ النّبيّ أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم ، ثمّ أتاهم ، فقال : لا تبكوا على أخي بعد اليوم » .
احتطاب
التّعريف
1 - الاحتطاب مصدر احتطب ، يقال احتطب بمعنى جمع الحطب ، والحطب : ما أعدّ من شجر وقوداً للنّار . والمعنى الاصطلاحيّ لا يخرج عن المعنى اللّغويّ . صفته ( حكمه التّكلّفيّ ) :
2 - اتّفقت المذاهب في الجملة على إباحة الاحتطاب رطباً كان الشّجر أو جافّاً في غير الحرم ما دام لا يملكه أحد . أمّا إذا كان محوزاً أو مملوكاً ، فلا يجوز أخذه أو الاحتطاب منه إلاّ بإذن صاحبه . الحكم الإجماليّ ) :
3 - يأخذ الاحتطاب حكم الاحتشاش التّكليفيّ ( ر : احتشاش ) ، غير أنّه يخالفه في أمرين : الأوّل : يباح في الاحتشاش في الحرم قطع الإذخر والعوسج وملحقاتهما ولا يباح ذلك في الاحتطاب . الثّاني : أباح بعض العلماء في الاحتشاش من الحرم علف الدّوابّ منه بخلاف الاحتطاب الّذي لم يبح فيه ذلك .
احتقان
التّعريف
1 - الاحتقان لغةً : مصدر احتقن ، بمعنى احتبس . يقال : حقن الرّجل بوله : حبسه وجمعه ، فهو حاقن ومطاوعه : الاحتقان : وحقنت المريض إذا أوصلت الدّواء إلى باطنه بالمحقن . ويطلق في الشّريعة على احتباس البول ، كما يطلقونه على تعاطي الدّواء بالحقنة في الدّبر .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - الاحتباس . مصدر احتبس . يقال : حبسته فاحتبس بمعنى منعته فامتنع . فالاحتباس أعمّ . الحصر : هو الإحاطة والمنع والحبس . يقال حصره العدوّ في منزله : حبسه ، وأحصره المرض : منعه من السّفر . ويطلق على احتباس النّجو من ضيق المخرج ، فهو كذلك أعمّ . الحقب : حقب بالكسر حقباً فهو حقيب : تعسّر عليه البول ، أو أعجله . وقيل : الحاقب الّذي احتبس غائطه . فهو على المعنى الثّاني مباين للاحتقان . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
3 - يختلف حكم الاحتقان تبعاً لإطلاقاته ، فيطلق الاحتقان على امتناع خروج البول لمرض أو غيره ، وهذا هو الاحتقان الطّبيعيّ . ويعتبر أحد الأعذار الّتي يسقط معها الحكم التّكليفيّ ما دامت موجودةً . أمّا منع الإنسان نفسه من خروج البول عند الشّعور بالحاجة للتّبوّل فهو الحقن . ويسمّى الإنسان حينئذ حاقناً . وحكمه التّكليفيّ الكراهة أو الحرمة - على خلاف سيأتي ذكره - في حالتي الصّلاة ، والقضاء بين النّاس . ويطلق الاحتقان أيضاً على تعاطي الدّواء أو الماء عن طريق الشّرج ، وحكمه التّكليفيّ تارةً الإباحة ، وتارةً الحظر ، على خلاف وتفصيل سيأتي بيانه . ودليل حكم الحقن في الصّلاة أو القضاء بين النّاس هو حديث عائشة ، رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا صلاة بحضرة الطّعام ولا وهو يدافع الأخبثين » وحديث « لا يحلّ لامرئ مسلم أن ينظر في جوف امرئ حتّى يستأذن ، ولا يقوم إلى الصّلاة وهو حاقن » . وحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الّذي رواه أبو بكرة عنه قال : « لا يحكم أحدكم بين اثنين وهو غضبان » . وقاسوا عليه الحاقن . ودليل الاحتقان للتّداوي هو دليل التّداوي نفسه بشروط . ( ر : تداوي ) .
أوّلاً - احتقان البول وضوء الحاقن :
4 - في المسألة رأيان : ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا ينتقض وضوء الحاقن ؛ لأنّهم اعتبروا لانتقاض الوضوء الخروج الفعليّ من السّبيلين ، لا الخروج الحكميّ . والحاقن لم يخرج منه شيء من السّبيلين . أمّا المالكيّة فإنّهم اعتبروا الخروج الفعليّ أو الحكميّ ناقضاً للوضوء ، واعتبروا الحقن الشّديد خروجاً حكميّاً ينقض الوضوء . ولكنّهم انقسموا إلى رأيين في تحديد درجة الاحتقان الّتي تنقض الوضوء ، فقال بعضهم : إذا كان الاحتقان شديداً بحيث يمنع من الإتيان بشيء من أركان الصّلاة حقيقةً أو حكماً ، كما لو كان يقدر على الإتيان بها بعسر ، فقد أبطل الحقن الوضوء ، فليس له أن يفعل به ما يتوقّف على الطّهارة ، كمسّ المصحف . واعتبروا هذا خروجاً حكميّاً ينقض الوضوء . وقال البعض الآخر : الحقن الشّديد ينقض الوضوء ، وإن لم يمنع من الإتيان بشيء من أركان الصّلاة .
صلاة الحاقن :
5 - للفقهاء في حكم صلاة الحاقن اتّجاهان : فذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو رأي للشّافعيّة ، إلى أنّ صلاة الحاقن مكروهة ، لما ورد من الأحاديث السّابقة . وقال الخراسانيّون وأبو زيد المروزيّ من الشّافعيّة : إذا كانت مدافعة الأخبثين شديدةً لم تصحّ الصّلاة . واستدلّ الجميع بحديث عائشة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا صلاة بحضرة الطّعام ، ولا وهو يدافعه الأخبثان » . وما روى ثوبان عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا يحلّ لامرئ أن ينظر في جوف بيت امرئ حتّى يستأذن ، ولا يقوم إلى الصّلاة وهو حاقن » ، فالقائلون بالكراهة حملوا النّهي في الأحاديث على الكراهة . وأخذ بظاهر الحديث أصحاب الرّأي الثّاني فحملوه على الفساد . أمّا المالكيّة فقد ذهبوا إلى أنّ الحقن الشّديد ناقض للوضوء ، فتكون صلاته باطلةً .
إعادة الحاقن للصّلاة :
6 - لم يقل بإعادة صلاة الحاقن أحد ممّن قال بصحّة الصّلاة مع الكراهة ، إلاّ الحنابلة على رأي ، فقد صرّحوا بإعادة الصّلاة للحاقن لظاهر الحديثين السّابقين . وقد تقدّم أنّ المالكيّة يرون بطلان صلاة الحاقن حقناً شديداً فلا بدّ من إعادتها .
الحاقن وخوف فوت الوقت :
7 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا كان في الوقت متّسع فينبغي أن يزيل العارض أوّلاً ، ثمّ يشرع في الصّلاة . فإن خاف فوت الوقت ففي المسألة رأيان : ذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو رأي للشّافعيّة ، إلى أنّه يصلّي وهو حاقن ، ولا يترك الوقت يضيع منه ، إلاّ أنّ الحنابلة قالوا بالإعادة في الظّاهر عند ابن أبي موسى للحديث . وذهب الشّافعيّة في رأي آخر حكاه المتولّي إلى أنّه يزيل العارض أوّلاً ويتوضّأ وإن خرج الوقت ، ثمّ يقضيها ، لظاهر الحديث ؛ ولأنّ المراد من الصّلاة الخشوع ، فينبغي أن يحافظ عليه وإن فات الوقت .
الحاقن وخوف فوت الجماعة أو الجمعة :
8 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه إن خاف فوت الجماعة أو الجمعة صلّى وهو حاقن ، وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الأولى ترك الجماعة وإزالة العارض ، وذهب الحنابلة إلى أنّه يعتبر عذراً مبيحاً لترك الجماعة والجمعة ، لعموم لفظ الحديث ، وهو عامّ في كلّ صلاة . أمّا رأي المالكيّة في حقن البول فقد سبق .
قضاء القاضي الحاقن :
9 - لا يعلم خلاف بين أهل العلم في أنّ القاضي لا ينبغي له أن يحكم ، وهو حاقن ، ولكنّهم اختلفوا في حكم قضائه ونفاذ حكمه على رأيين : فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رأي للحنابلة ، وقول شريح وعمر بن عبد العزيز ، إلى أنّه يكره أن يقضي القاضي وهو حاقن ؛ لأنّ ذلك يمنع حضور القلب واستيفاء الفكر الّذي يتوصّل به إلى إصابة الحقّ في الغالب ، فهو في معنى الغضب المنصوص عليه في الحديث المتّفق عليه عن أبي بكرة أنّه قال . سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان . . » . فإذا قضى وهو حاقن ينفذ قضاؤه قياساً على قضاء الغضبان عند الجمهور . وذهب الحنابلة في رأي ثان لهم ، حكاه القاضي أبو يعلى ، إلى أنّه لا يجوز قضاء القاضي وهو حاقن . فإذا حكم وهو على تلك الحالة لا ينفذ قضاؤه ؛ لأنّه منهيّ عنه في الحديث المتقدّم ، والنّهي يقتضي فساد المنهيّ عنه . وقيل عند الحنابلة : إنّما يمنع الغضب الحاكم إذا كان قبل أن يتّضح له الحكم في المسألة . فأمّا إن اتّضح له الحكم ثمّ عرض الغضب لا يمنعه ؛ لأنّ الحقّ قد استبان قبل الغضب فلا يؤثّر الغضب فيه .
ثانياً - الاحتقان للتّداوي
10 - في نقض وضوء المحتقن في القبل أو الدّبر ثلاثة اتّجاهات : ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى نقض الوضوء . وذكروا أنّه إذا أدخل رجل أو امرأة في القبل أو الدّبر شيئاً من حقنة أو نحوها ، ثمّ خرج ، انتقض الوضوء ، سواء اختلط به أذًى أم لا ، ولكنّهم اختلفوا في تعليل ذلك تبعاً لقواعدهم : فقال الحنفيّة : إنّ هذه الأشياء وإن كانت طاهرةً في نفسها لكنّها لا تخلو عن قليل النّجاسة يخرج معها ، والقليل من السّبيلين ناقض . وعلّل الشّافعيّة ذلك بقولهم : إنّ الدّاخل إذا خرج يعتبر خروجاً من السّبيلين ، فينتقض الوضوء ، سواء اختلط به أم لا ، وسواء أخرج كلّه أو قطعة منه ؛ ؛ لأنّه خارج من السّبيل وذهب المالكيّة : إلى أنّه لا ينقض الوضوء وذكروا أنّ إدخال الحقنة في الدّبر لا ينقض الوضوء مع احتمال أن يصحبها نجاسة عند خروجها ؛ وعلّلوا ذلك بقولهم : إنّه خارج غير معتاد فلا ينقض الوضوء ، مثل الدّود والحصى ولو صاحبه بلل . وذهب الحنابلة إلى التّفصيل : فاتّفقوا على أنّه إذا كان الدّاخل حقنةً أو قطناً أو غيره ، فإن خرج وعليه بلل نقض الوضوء . ؛ لأنّ البلل لو خرج منفرداً لنقض ؛ ؛ لأنّه خارج من السّبيلين ، فأشبه سائر ما يخرج منهما ، وإن خرج الدّاخل وليس عليه بلل ظاهر ففيه وجهان : الأوّل : ينقض الوضوء ؛ لأنّه خارج من السّبيلين ، فأشبه سائر ما يخرج منهما . والثّاني : لا ينقض ؛ لأنّه ليس بين المثانة والجوف منفذ فلا يكون خارجاً من الجوف .
احتقان الصّائم :
11 - احتقان الصّائم إمّا أن يكون في دبر أو في قبل أو في جراحة جائفة ( أي الّتي تصل إلى الجوف ) الاحتقان في الدّبر : في المسألة رأيان :
12 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة في المشهور ، وهو المذهب عند كلّ من الشّافعيّة والحنابلة ، إلى أنّ الاحتقان في الدّبر يفطر الصّائم ، وعليه القضاء ، لقول عائشة رضي الله عنها : « دخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال يا عائشة هل من كسرة ؟ فأتيته بقرص ، فوضعه في فيه ، فقال : يا عائشة هل دخل بطني منه شيء ؟ كذلك قبلة الصّائم ، إنّما الإفطار ممّا دخل وليس ممّا خرج » . وعن ابن عبّاس وعكرمة : الفطر ممّا دخل وليس ممّا خرج . ولأنّ هذا شيء وصل إلى جوفه باختياره ، فأشبه الأكل ، ولوجود معنى الفطر وهو وصول ما فيه صلاح البدن . غير أنّ المالكيّة اشترطوا أن يكون الدّاخل مائعاً . ولم يشترط ذلك غيرهم ، وذهب المالكيّة في غير المشهور عندهم ، وهو رأي القاضي حسين من الشّافعيّة - وصف بأنّه شاذّ - وهو اختيار ابن تيميّة ، إلى أنّه إذا احتقن الصّائم في الدّبر لا يفطر ، وليس عليه قضاء . وعلّلوا ذلك بأنّ الصّيام من دين المسلمين الّذي يحتاج إلى معرفته الخاصّ والعامّ ، فلو كانت هذه الأمور ممّا حرّمها اللّه سبحانه لكان واجباً على الرّسول صلى الله عليه وسلم بيانه ، ولو ذكر ذلك لعلمه الصّحابة ، وبلّغوه الأمّة ، كما بلّغوا سائر شرعه ، فلمّا لم ينقل أحد من أهل العلم عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً علم أنّه لم يذكر شيئاً من ذلك .
( الاحتقان في القبل ) :
13 - الاحتقان في القبل إذا لم يصل إلى المثانة فلا شيء فيه ، ولا يؤدّي إلى فطر عند الجمهور . وذهب الشّافعيّة في أصحّ الوجوه عندهم إلى أنّه يفطر ، وفي وجه لهم : إن جاوز الحشفة أفطر وإلاّ فلا . أمّا إذا وصل المثانة فإنّ حكم الاحتقان بالنّسبة لقبل المرأة يأخذ حكم الاحتقان في الدّبر . وأمّا الاحتقان ؛ في قبل الرّجل ( الإحليل ) فإن وصل إلى المثانة ففيه رأيان : ذهب أبو حنيفة ومحمّد والمالكيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة ورأي للشّافعيّة ، إلى أنّه لا يفطر وليس عليه شيء . وعلّلوا ذلك بأنّه لم يرد فيه نصّ ، ومن قاسه على غيره جانب الحقّ ؛ لأنّ هذا لا ينفذ إلى الجوف ولا يؤدّي إلى التّغذية الممنوعة . وذهب أبو يوسف والشّافعيّة في الأصحّ عندهم ، وهو قول للحنابلة ، إلى أنّه إذا قطّر في إحليله فسد صومه ؛ لأنّ هذا شيء وصل إلى جوفه باختياره فأشبه الأكل . الاحتقان في الجائفة :
14 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة وهو المذهب عند الحنابلة إلى أنّه إذا تداوى بما يصل إلى جوفه فسد صومه ؛ ؛ لأنّه يصل إلى الجوف ؛ ولأنّ غير المعتاد كالمعتاد ، ولأنّه أبلغ وأولى ، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم وسلّم « أمر بالإثمد عند النّوم ، وقال ليتّقه الصّائم » ولأنّه وصل إلى جوفه باختياره ، فأشبه الأكل ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : « الفطر ممّا دخل » . وذهب المالكيّة ، وهو رأي لكلّ من الشّافعيّة والحنابلة ، إلى أنّه لا يفسد الصّوم ، وعلّل ابن تيميّة ذلك بما سبق في الاحتقان مطلقاً .
الاحتقان بالمحرّم :
15 - أجاز العلماء استعمال الحقنة في الدّواء من مرض أو هزال بطاهر ، ولم يجز الحنفيّة استعمال الحقنة للتّقوّي على الجماع أو السّمن . أمّا بالنّسبة للاحتقان بالمحرّم فقد منعه العلماء من غير ضرورة لعموم النّهي عن المحرّم . أمّا إذا كان الاحتقان لضرورة ، ومتعيّناً ، فقد أجاز الحنفيّة والشّافعيّة الاحتقان لضرورة إذا كانت الضّرورة يخشى معها على نفسه ، وأخبره طبيب مسلم حاذق أنّ شفاءه يتعيّن التّداوي بالمحرّم ، على أن يستعمل قدر حاجته . وقالوا : إنّ حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم » نفى الحرمة عند العلم بالشّفاء ، فصار معنى الحديث : إنّ اللّه تعالى أذن لكم بالتّداوي ، وجعل لكلّ داء دواءً ، فإذا كان في ذلك الدّواء شيء محرّم وعلمتم أنّ فيه الشّفاء فقد زالت حرمة استعماله ؛ لأنّ اللّه تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم . وأيّد هذا ابن حزم . أمّا إذا كان التّداوي بالمحرّم لتعجيل الشّفاء ففي المسألة رأيان للحنفيّة والشّافعيّة . فبعضهم منعه لعدم الضّرورة في ذلك ما دام هناك ما يحلّ محلّه . وبعضهم أجازه إذا أشار بذلك طبيب مسلم حاذق . ويرى المالكيّة وهو رأي للحنابلة : أنّه لا يجوز الطّلاء ولا الاحتقان والتّداوي بالخمر والنّجس ، ولو أدّى ذلك إلى الهلاك لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه لم يجعل شفاء أمّتي فيما حرّم عليها » ؛ ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر له النّبيذ يصنع للدّواء فقال : « إنّه ليس بدواء ولكنّه داء » .
حقن الصّغير باللّبن وأثره في تحريم النّكاح
16 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة في المرجوح عندهم ، وهو رأي لكلّ من الشّافعيّة والحنابلة واللّيث بن سعد ، إلى أنّه إذا حقن الصّغير في الشّرج باللّبن فلا يترتّب عليه حرمة النّكاح . وعلّلوا ذلك بأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم حرّم بالرّضاعة الّتي تقابل المجاعة ، ولم يحرّم بغيرها شيئاً ، فلا يقع تحريم ما لم تقابل به المجاعة ؛ ولأنّه لا ينبت اللّحم ، ولا ينشز العظم ، ولا يكتفي به الصّبيّ . وفي رأي لكلّ من الشّافعيّة والحنابلة يثبت التّحريم . وعلّلوا ذلك بأنّ ما في الحقنة يصل إلى الجوف فيكون غذاءً . وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا كان حقن الصّغير باللّبن في مدّة الرّضاع للغذاء وقبل أن يستغني ، فالرّاجح ترتّب التّحريم .
نظر الحاقن إلى العورة :
17 - منع العلماء النّظر إلى العورة إلاّ في حالات الضّرورة الّتي تختلف باختلاف الأحوال . وعدّوا من هذه الضّرورة الاحتقان . فإذا انتفت الضّرورة حرم النّظر إلى العورة . وللتّفصيل : ( ر : تطبيب . ضرورة . عورة )
احتكار
التّعريف
1 - الاحتكار لغةً : حبس الطّعام إرادة الغلاء ، والاسم منه : الحكرة . أمّا في الشّرع فقد عرّفه الحنفيّة بأنّه : اشتراء طعام ونحوه وحبسه إلى الغلاء . وعرّفه المالكيّة بأنّه رصد الأسواق انتظاراً لارتفاع الأثمان ، وعرّفه الشّافعيّة بأنّه اشتراء القوت وقت الغلاء ، وإمساكه وبيعه بأكثر من ثمنه للتّضييق . وعرّفه الحنابلة . بأنّه اشتراء القوت وحبسه انتظاراً للغلاء . الألفاظ ذات الصّلة :
2 - الادّخار : ادّخار الشّيء تخبئته لوقت الحاجة . وعلى هذا فيفترق الادّخار عن الاحتكار في أنّ الاحتكار لا يكون إلاّ فيما يضرّ بالنّاس حبسه ، على التّفصيل السّابق ، أمّا الادّخار فإنّه يتحقّق فيما يضرّ وما لا يضرّ ، وفي الأموال النّقديّة وغيرها . كما أنّ الادّخار قد يكون مطلوباً في بعض صوره ، كادّخار الدّولة حاجيّات الشّعب . وتفصيل ذلك في مصطلح « ادّخار » . صفة الاحتكار ( حكمه التّكليفيّ ) :
3 - يتّفق الفقهاء على أنّ الاحتكار بالقيود الّتي اعتبرها كلّ منهم محظور ، لما فيه من الإضرار بالنّاس ، والتّضييق عليهم . وقد اختلفت عبارات الفقهاء في التّعبير عن هذا الحظر . فجمهور الفقهاء صرّحوا بالحرمة ، مستدلّين بقوله تعالى { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } فقد فهم منها صاحب الاختيار أنّها أصل في إفادة التّحريم وقد ذكر القرطبيّ عند تفسير هذه الآية أنّ أبا داود روى عن يعلى بن أميّة أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال : « احتكار الطّعام في الحرم إلحاد فيه . » وهو قول عمر بن الخطّاب . واستدلّ الكاسانيّ على ذلك بحديث : « المحتكر ملعون » وحديث : « من احتكر طعاماً أربعين ليلةً فقد برئ من اللّه ، وبرئ اللّه منه . » ثمّ قال الكاسانيّ : ومثل هذا الوعيد لا يلحق إلاّ بارتكاب الحرام ، ولأنّه ظلم ؛ لأنّ ما يباع في المصر فقد تعلّق به حقّ العامّة ، فإذا امتنع المشتري عن بيعه عند شدّة حاجتهم إليه فقد منعهم حقّهم ، ومنع الحقّ عن المستحقّ ظلم وحرام ، يستوي في ذلك قليل المدّة وكثيرها ، لتحقّق الظّلم .
4 - كما اعتبره ابن حجر الهيتميّ من الكبائر . ويقول : إنّ كونه كبيرةً هو ظاهر الأحاديث ، من الوعيد الشّديد ، كاللّعنة وبراءة ذمّة اللّه ورسوله منه والضّرب بالجذام والإفلاس . وبعض هذه دليل على الكبيرة وممّا استدلّ به الحنابلة على التّحريم ما روى الأثرم عن أبي أمامة ، قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يحتكر الطّعام » ، وما روي بإسناده عن سعيد بن المسيّب أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من احتكر فهو خاطئ » ، وما روي : أنّ عمر بن الخطّاب خرج مع أصحابه ، فرأى طعاماً كثيراً قد ألقي على باب مكّة ، فقال : ما هذا الطّعام ؟ فقالوا : جلب إلينا . فقال : بارك اللّه فيه وفيمن جلبه . فقيل له : فإنّه قد احتكر . قال : من احتكره ؟ قالوا : فلان مولى عثمان ، وفلان مولاك ، فاستدعاهما ، وقال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « من احتكر على المسلمين طعامهم لم يمت حتّى يضربه اللّه بالجذام أو الإفلاس » .
5 - لكن أكثر الفقهاء الحنفيّة وبعض الشّافعيّة عبّروا عنه بالكراهة إذا كان يضرّ بالنّاس . وتصريح الحنفيّة بالكراهة على سبيل الإطلاق ينصرف إلى الكراهة التّحريميّة . وفاعل المكروه تحريماً عندهم يستحقّ العقاب ، كفاعل الحرام ، كما أنّ كتب الشّافعيّة الّتي روت عن بعض الأصحاب القول بالكراهة قد قالوا عنه : ليس بشيء .
الحكمة في تحريم الاحتكار :
6 - يتّفق الفقهاء على أنّ الحكمة في تحريم الاحتكار رفع الضّرر عن عامّة النّاس . ولذا فقد أجمع العلماء على أنّه لو احتكر إنسان شيئاً ، واضطرّ النّاس إليه ، ولم يجدوا غيره ، أجبر على بيعه - على ما سيأتي بيانه - دفعاً للضّرر عن النّاس ، وتعاوناً على حصول العيش . وهذا ما يستفاد ممّا نقل عن مالك من أنّ رفع الضّرر عن النّاس هو القصد من التّحريم ، إذ قال : إن كان ذلك لا يضرّ بالسّوق فلا بأس وهو ما يفيده كلام الجميع .
ما يجري فيه الاحتكار :
7 - هناك ثلاث اتّجاهات : الأوّل : ما ذهب إليه أبو حنيفة ومحمّد والشّافعيّة والحنابلة أنّه لا احتكار إلاّ في القوت خاصّةً . الاتّجاه الثّاني : أنّ الاحتكار يجري في كلّ ما يحتاجه النّاس ، ويتضرّرون من حبسه ، من قوت وإدام ولباس وغير ذلك . وهذا ما ذهب إليه المالكيّة وأبو يوسف من الحنفيّة . الاتّجاه الثّالث : أنّه لا احتكار إلاّ في القوت والثّياب خاصّةً . وهذا قول لمحمّد بن الحسن . واستدلّ الجمهور - أصحاب الاتّجاه الأوّل - بأنّ الأحاديث الواردة في هذا الباب بعضها عامّ ، كالحديث الّذي رواه مسلم وأبو داود عن سعيد بن المسيّب عن معمر بن عبد اللّه ، أنّه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من احتكر فهو خاطئ » ، وفي رواية أخرى رواها مسلم وأحمد : « لا يحتكر إلاّ خاطئ » ، وحديث أحمد عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من احتكر حكرةً يريد أن يغلّي بها على المسلمين فهو خاطئ » . وزاد الحاكم : « وقد برئت منه ذمّة اللّه » . فهذه نصوص عامّة في كلّ محتكر . وقد وردت نصوص أخرى خاصّة ، منها حديث ابن ماجه بسنده : « من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه اللّه بالجذام والإفلاس » . وما رواه أحمد والحاكم وابن أبي شيبة والبزّار وأبو يعلى بلفظ : « من احتكر الطّعام أربعين ليلةً فقد برئ من اللّه وبرئ اللّه منه » . وزاد الحاكم . « وأيّما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمّة اللّه » . وإذا اجتمعت نصوص عامّة وأخرى خاصّة في مسألة واحدة حمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد ، واستدلّ المالكيّة وأبو يوسف بالأحاديث العامّة ، وقالوا : إنّ ما ورد من النّصوص الخاصّة فهي من قبيل اللّقب ، واللّقب لا مفهوم له . وأمّا ما ذهب إليه محمّد بن الحسن في قوله الثّاني فإنّه حمل الثّياب على القوت باعتبار أنّ كلّاً منهما من الحاجات الضّروريّة .
ما يتحقّق به الاحتكار :
8 - يتحقّق الاحتكار في صور بعضها متّفق على تحريمه وهي ما إذا اجتمع فيه كون الشّيء المحتكر طعاماً وأن يحوزه بطريق الشّراء وأن يقصد الإغلاء على النّاس وأن يترتّب على ذلك الإضرار والتّضييق عليهم ، وهناك صور مختلف في تحريمها بحسب الشّروط .
شروط الاحتكار :
9 - يشترط في الاحتكار ما يأتي :
1 - أن يكون تملّكه للسّلعة بطريق الشّراء . وهذا ما ذهب إليه الجمهور ، وذهب بعض المالكيّة ، وهو منقول عن أبي يوسف من الحنفيّة ، إلى أنّ العبرة إنّما هي باحتباس السّلع بحيث يضرّ بالعامّة ، سواء أكان تملّكها بطريق الشّراء ، أو الجلب ، أو كان ادّخاراً لأكثر من حاجته ومن يعول . وعلى ما ذهب إليه الجمهور لا احتكار فيما جلب مطلقاً ، وهو ما كان من سوق غير سوق المدينة ، أو من السّوق الّذي اعتادت المدينة أن تجلب طعامها منه . ويرى كلّ من صاحب الاختيار وصاحب البدائع أنّه إذا كان من سوق اعتادت المدينة أن تجلب طعامها منه ، فاشتراه قاصداً حبسه ، يكون محتكراً ويتفرّع على اشتراط الشّراء لتحقّق الاحتكار أنّ حبس غلّة الأرض المزروعة لا يكون احتكاراً . وهذا هو رأي الجمهور . وهناك من علماء المالكيّة من اعتبر حبس هذه الغلّة من قبيل الاحتكار . ومن علماء الحنفيّة من يرى - أيضاً - أنّ هذا رأي لأبي يوسف . وقد نقل الرّهونيّ عن الباجيّ أنّ ابن رشد قال : « إذا وقعت الشّدّة أمر أهل الطّعام بإخراجه مطلقاً ، ولو كان جالباً له ، أو كان من زراعته » . والمعتمد ما أفاده ابن رشد .
2 - أن يكون الشّراء وقت الغلاء للتّجارة انتظاراً لزيادة الغلاء . وهذا ما ذهب إليه الشّافعيّة . فلو اشترى في وقت الرّخص ، وحبسه لوقت الغلاء ، فلا يكون احتكاراً عندهم .
3 - واشترط الحنفيّة أن يكون الحبس لمدّة ، ولم نقف لفقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على كلام في هذا ، وإنّما الّذي تعرّض لذكر المدّة فقهاء الحنفيّة ، فيقول الحصكفيّ نقلاً عن الشرنبلالي عن الكافي : إنّ الاحتكار شرعاً اشتراء الطّعام ونحوه وحبسه إلى مدّة اختلفوا في تقديرها ، فمن قائل إنّها أربعون يوماً ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والحاكم بسنده : « من احتكر الطّعام أربعين ليلةً فقد برئ من اللّه وبرئ اللّه منه » . لكن حكى ابن أبي حاتم عن أبيه أنّه منكر . ومن قائل إنّها شهر ؛ لأنّ ما دونه قليل عاجل والشّهر وما فوقه كثير آجل . ويقع التّفاوت في المأثم بين أن يتربّص قلّة الصّنف ، وبين أن يتربّص القحط . وقيل إنّ هذه المدد للمعاقبة في الدّنيا . أمّا الإثم الأخرويّ فيتحقّق وإن قلّت المدّة . وقد أورد الحصكفيّ هذا الخلاف ، وأضاف إليه أنّ من الفقهاء من قال بأكثر من المدّتين . وقد نقل ذلك ابن عابدين في حاشيته .
4 - أن يكون المحتكر قاصداً الإغلاء على النّاس وإخراجه لهم وقت الغلاء .
احتكار العمل :
10 - تعرّض بعض الفقهاء لمثل هذا لا على أنّه من قبيل الاحتكار الاصطلاحيّ ، ولكن فيه معنى الاحتكار ، لما فيه من ضرر العامّة ، فقد نقل ابن القيّم أنّ غير واحد من العلماء ، كأبي حنيفة وأصحابه ، منعوا القسّامين - الّذين يقسمون العقار وغيره بالأجرة - أن يشتركوا ، فإنّهم إذا اشتركوا والنّاس يحتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجرة . وكذلك ينبغي لوالي الحسبة أن يمنع مغسّلي الموتى والحمّالين لهم من الاشتراك ، لما في ذلك من إغلاء الأجرة عليهم ، وكذلك اشتراك كلّ طائفة يحتاج النّاس إلى منافعهم .
احتكار الصّنف :
11 - وقد صوّره ابن القيّم بقوله : أن يلزم النّاس ألاّ يبيع الطّعام أو غيره من الأصناف إلاّ ناس معروفون ، فلا تباع تلك السّلع إلاّ لهم ، ثمّ يبيعونها هم بما يريدون . فهذا من البغي في الأرض والفساد بلا تردّد في ذلك عند أحد من العلماء . ويجب التّسعير عليهم ، وأن يبيعوا ويشتروا بقيمة المثل منعاً للظّلم . وكذلك إيجار الحانوت على الطّريق أو في القرية بأجرة معيّنة ، على ألاّ يبيع أحد غيره ، نوع من أخذ أموال النّاس قهراً وأكلها بالباطل ، وهو حرام على المؤجّر والمستأجر .
العقوبة الدّنيويّة للمحتكر :
12 - اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الحاكم يأمر المحتكر بإخراج ما احتكر إلى السّوق وبيعه للنّاس . فإن لم يمتثل فهل يجبر على البيع ؟ في هذه المسألة تفصيل وخلاف بين الفقهاء : أوّلاً : إذا خيف الضّرر على العامّة أجبر ، بل أخذ منه ما احتكره ، وباعه ، وأعطاه المثل عند وجوده ، أو قيمته . وهذا قدر متّفق عليه بين الأئمّة ، ولا يعلم خلاف في ذلك . ثانياً : إذا لم يكن هناك خوف على العامّة فالمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة يرون أنّ للحاكم جبره إذا لم يمتثل الأمر بالبيع . وأمّا أبو حنيفة وأبو يوسف فيريان أنّه لا يجبر على البيع ، وإنّما إذا امتنع عن البيع عزّره الحاكم . وعند من يرى الجبر فمنهم من يرى الجبر بادئ ذي بدء . ومنهم من يرى الإنذار مرّةً ، قب وقيل اثنتين ، وقيل ثلاثاً . وتدلّ النّقول عن الفقهاء أنّ هذه المسألة مرجعها مراعاة المصلحة . وهو من قبيل السّياسة الشّرعيّة .
احتلام
التّعريف
1 - من معاني الاحتلام في اللّغة رؤيا المباشرة في المنام . ويطلق في اللّغة أيضاً على الإدراك والبلوغ . ومثله الحلم . وهو عند الفقهاء اسم لما يراه النّائم من المباشرة ، فيحدث معه إنزال المنيّ غالباً .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - أ - الإمناء : يذكر الاحتلام ويراد به الإمناء ، إلاّ أنّ الإمناء أعمّ منه ، إذ لا يقال لمن أمنى في اليقظة محتلم .
ب - الجنابة : أعمّ من وجه من الاحتلام فقد تكون من الاحتلام ، وقد تكون من غيره كالتقاء الختانين كما أنّ الاحتلام قد يكون بلا إنزال فلا تحصل الجنابة .
ج - البلوغ : البلوغ يحصل بعلامات كثيرة منها الاحتلام ، فهو علامة البلوغ .
ممّن يكون الاحتلام ؟
3 - الاحتلام كما يكون من الرّجل يكون من المرأة ، فقد روى مسلم والبخاريّ أنّ « أمّ سليم حدّثت أنّها سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؟ قال : نعم إذا رأت الماء . »
بم يتحقّق احتلام المرأة ؟
4 - للفقهاء في حصول الاحتلام من المرأة ثلاثة آراء :
أ - حصول الاحتلام بوصول المنيّ إلى ظاهر الفرج . وهو قول الحنابلة ، وظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، وهو قول الشّافعيّة بالنّسبة للثّيّب . والمراد بظاهر الفرج : ما يظهر عند قضاء الحاجة ، أو عند الجلوس عند القدمين .
ب - حصول الاحتلام بوصول المنيّ خارج الفرج ، وهو قول المالكيّة مطلقاً ، وقول الشّافعيّة بالنّسبة للبكر ؛ لأنّ داخل فرجها كباطن الجسم . ح - حصول الاحتلام بمجرّد إنزال المرأة في رحمها وإن لم يخرج المنيّ إلى ظاهر الفرج ؛ لأنّ منيّ المرأة عادةً ينعكس داخل الرّحم ليتخلّق منه الولد ، وهو قول محمّد بن الحسن من الحنفيّة .
أثر الاحتلام في الغسل ؟
5 - إن كان المحتلم كافراً ثمّ أسلم فللعلماء في ذلك رأيان : الأوّل : وجوب الغسل من الجنابة ، وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة والأصحّ عند الحنفيّة ، وهو قول للمالكيّة ، لبقاء صفة الجنابة بعد الاحتلام ، ولا يجوز أداء الصّلاة ونحوها إلاّ بزوال الجنابة . الثّاني : ندب الغسل ، وهو قول ابن القاسم والقاضي إسماعيل من المالكيّة ، ومقابل الأصحّ عند الحنفيّة ؛ لأنّ الكافر وقت الاحتلام لم يكن مكلّفاً بفروع الشّريعة .
الاحتلام بلا إنزال :
6 - من احتلم ولم يجد منيّاً فلا غسل عليه . قال ابن المنذر : أجمع على هذا كلّ من أحفظ عنه من أهل العلم . ولو استيقظ ووجد المنيّ ولم يذكر احتلاماً فعليه الغسل ، لما روت عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الرّجل يجد البلل ولا يذكر الاحتلام ، قال : يغتسل ، وعن الرّجل يرى أنّه احتلم ولا يجد البلل قال : لا غسل عليه » . ولا يوجد من يقول غير ذلك ، إلاّ وجهاً شاذّاً للشّافعيّة ، وقولاً للمالكيّة .
7 - وإذا رأى المنيّ في فراش ينام فيه مع غيره ممّن يمكن أن يمني ، ونسبه كلّ منهما لصاحبه ، فالغسل مستحبّ لكلّ واحد منهما عند الشّافعيّة والحنابلة ، ولا يلزم ، ولا يجوز أن يصلّي أحدهما خلف الآخر قبل الاغتسال ، للشّكّ ، وهو لا يرتفع به اليقين . وقال الحنفيّة بوجوب الغسل على كلّ منهما . وفصّل المالكيّة فقالوا : إنّه إن كانا زوجين وجب على الزّوج وحده . ؛ لأنّ الغالب خروج المنيّ من الزّوج وحده ، ويعيد الصّلاة من آخر نومة ، ويجب عليهما معاً الغسل إن كانا غير زوجين . ولا فرق بين الزّوجين وغيرهما عند بقيّة المذاهب .
8 - والثّوب الّذي ينام فيه هو وغيره كالفراش عند الشّافعيّة والحنابلة ، ويعيد كلّ صلاة لا يحتمل خلوّها عن الإمناء قبلها عند الشّافعيّة ومن آخر نومة عند الحنابلة ما لم تظهر أمارة على أنّه حدث قبلها . وقال المالكيّة يستحبّ الغسل .
9 - ولو استيقظ فوجد شيئاً وشكّ في كونه منيّاً أو غيره ( والشّكّ : استواء الطّرفين دون ترجيح أحدهما على الآخر ) فللفقهاء في ذلك عدّة آراء : أ - وجوب الغسل ، وهو قول الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، إلاّ أنّ الحنفيّة أوجبوا الغسل إن تذكّر الاحتلام وشكّ في كونه منيّاً أو مذياً ، أو منيّاً أو ودياً ، وكذا إن شكّ في كونه مذياً أو ودياً ؛ ؛ لأنّ المنيّ قد يرقّ لعارض كالهواء ، لوجود القرينة ، وهي تذكّر الاحتلام . فإن لم يتذكّر الاحتلام فالحكم كذلك عند أبي حنيفة ومحمّد ، أخذاً بالحديث « في جوابه صلى الله عليه وسلم عن الرّجل يجد البلل ولم يذكر احتلاماً قال : يغتسل » . للإطلاق في كلمة « البلل » . وقال أبو يوسف : لا يجب ، وهو القياس ؛ لأنّ اليقين لا يزول بالشّكّ ، وهذا كلّه مقيّد عند الحنفيّة والحنابلة بألاّ يسبقه انتشار قبل النّوم ، فإن سبقه انتشار ترجّح أنّه مذي . وزاد الحنابلة : أو كانت بها إبردة ؛ لاحتمال أن يكون مذياً ، وقد وجد سببه . ويجب منه حينئذ الوضوء ، وقصر المالكيّة وجوب الغسل على ما إذا كان الشّكّ بين أمرين أحدهما منيّ . فإن شكّ في كونه واحداً من ثلاثة فلا يجب الغسل ، لضعف الشّكّ بالنّسبة للمنيّ ، لتعدّد مقابله .
ب - عدم وجوب الغسل ، وهو وجه للشّافعيّة ، وقول مجاهد وقتادة ؛ ؛ لأنّ اليقين لا يزول بالشّكّ . والأولى الاغتسال لإزالة الشّكّ . وأوجبوا من ذلك الوضوء مرتّباً .
ج - التّخيير في اعتباره واحداً ممّا اشتبه فيه ، وهو مشهور مذهب الشّافعيّة ، وذلك لاشتغال ذمّته بطهارة غير معيّنة .
د - وللشّافعيّة وجه آخر وهو لزوم مقتضى الجميع . أي الغسل والوضوء ، للاحتياط .
أثر الاحتلام في الصّوم والحجّ :
10 - لا أثر للاحتلام في الصّوم ، ولا يبطل به باتّفاق ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « ثلاث لا يفطرن الصّائم : الحجامة ، والقيء ، والاحتلام » ، ولأنّ فيه حرجاً ، لعدم إمكان التّحرّز عنه إلاّ بترك النّوم ، والنّوم مباح ، وتركه غير مستطاع . ولأنّه لم توجد صورة الجماع ، ولا معناه وهو الإنزال عن شهوة بمباشرة ولا أثر له كذلك في الحجّ باتّفاق .
أثر الاحتلام في الاعتكاف
11 - يتّفق الفقهاء على أنّ الاعتكاف لا يبطل بالاحتلام ، ولا يفسد إن خرج المعتكف للاغتسال خارج المسجد ، إلاّ في حالة واحدة ذكرها الحنفيّة وهي إن أمكنه الاغتسال في المسجد ، ولم يخش تلويثه فإن خيف تلويثه منع ؛ لأنّ تنظيف المسجد واجب . وبقيّة الفقهاء منهم من يجيز الخروج للاغتسال ولو مع أمن المسجد في التّلوّث ، ومنهم من يوجب الخروج ويحرّم الاغتسال في المسجد مطلقاً ، فإن تعذّر الخروج فعليه تيمّم . والخروج لا يقطع التّتابع باتّفاق ما لم يطل .
12 - وفي اعتبار زمن الجنابة من الاعتكاف خلاف بين الفقهاء . فالشّافعيّة لا يعدّون زمن الجنابة من الاعتكاف إن اتّفق المكث معها لعذر أو غيره ؛ لمنافاة ذلك للاحتلام ، وهو قول الحنفيّة والمالكيّة ، ويحسب عند الحنابلة ، فقد صرّحوا بعدم قضائه لكونه معتاداً ، ولا كفّارة فيه .
البلوغ بالاحتلام :
13 - يتّفق الفقهاء على أنّ البلوغ يحصل بالاحتلام مع الإنزال ، وينقطع به اليتم لما روي عن عليّ رضي الله عنه عن النّبيّ عليه الصلاة والسلام قال : « لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى اللّيل » .
احتواش
التّعريف
1 - الاحتواش لغةً الإحاطة . يقال : احتوش القوم على فلان إذا جعلوه وسطهم ، واحتوش القوم الصّيد أحاطوا به . ومن استعمله من الفقهاء - وهم الشّافعيّة - أطلقوه على إحاطة خاصّة ، وهي إحاطة الدّمين بطهر ، وإن كان غيرهم تعرّض للمسألة من غير استعمال هذه التّسمية .
( الحكم الإجماليّ )
2 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ عندهم إلى أنّ الطّهر الّذي يعتبر في العدّة هو المحتوش بين دمين ، فلو طلّق صغيرةً ومضى قدر زمن الطّهر ثمّ حاضت فلا يعتبر قرءاً . ومقابل الأصحّ اعتباره قرءاً ؛ لأنّ القرء هو انتقال من طهر إلى حيض ولا يخفى أنّ هذا لا يسمّى احتواشاً . ويذكر الفقهاء ذلك في عدّة ذوات الأقراء . ولا ترد هذه المسألة في مذهب الحنفيّة ، ولا على الأصحّ عند الحنابلة ؛ لأنّ العدّة عندهم بالحيض لا بالأطهار .
احتياط
التّعريف
1 - من معاني الاحتياط لغةً : الأخذ في الأمور بالأحزم والأوثق ، وبمعنى المحاذرة ، ومنه القول السّائر : أوسط الرّأي الاحتياط ، وبمعنى الاحتراز من الخطأ واتّقائه . ويستعمل الفقهاء الاحتياط بهذه المعاني كذلك . أمّا الورع فهو اجتناب الشّبهات خوفاً من الوقوع في المحرّمات .
( الحكم الإجماليّ )
2 - كثير من الأحكام الفقهيّة تثبت لأجل الاحتياط ، فمن نسي الظّهر والعصر من يومين لا يدري أي اليومين أسبق ، فإنّه يصلّي الظّهر ثمّ العصر ثمّ الظّهر في أحد الاحتمالات ، والباعث على ذلك الاحتياط . ولتعارض الاحتياط مع أصل براءة الذّمّة ، ومع قاعدة التّحرّي والتّوخّي عند الحرج ، يأتي التّردّد والخلاف في الأحكام المبنيّة على الاحتياط . ويذكر الأصوليّون ما عبّر عنه الأنصاريّ شارح مسلم الثّبوت أنّه " ليس كلّ ما كان أحوط يجب ، بل إنّما هو فيما ثبت وجوبه من قبل ، فيجب فيه ما تخرج به عن العهدة يقيناً ، كالصّلاة المنسيّة ، كما إذا فاتت صلاة من يوم فنسيها ، فيجب عليه قضاء الصّلوات الخمس من ذلك اليوم ليخرج عن عهدة المنسيّة يقيناً " قال : « ومنه نسيان المستحاضة أيّامها يجب عليها التّطهّر لكلّ صلاة أو لوقت كلّ صلاة " على خلاف تفصيله في " حيض » . ثمّ ذكر الحالة الثّانية الّتي يجب فيها الفعل احتياطاً فقال : « أو كان الوجوب هو الأصل ثمّ يعرض ما يوجب الشّكّ ، كصوم الثّلاثين من رمضان ، فإنّ الوجوب فيه الأصل ، وعروض عارض الغمام لا يمنعه ، فيجب احتياطاً ، لا كصوم يوم الشّكّ ، فلا يثبت الوجوب للاحتياط في صوم يوم الشّكّ ؛ لأنّ الوجوب فيه ليس هو الأصل ، ولا هو ثابت يقيناً » .
( مواطن البحث )
3 - يذكر الأصوليّون في باب تعارض الأدلّة ترجيح الدّليل المقتضي للتّحريم على ما يقتضي غيره من الأحكام لاستناد ذلك التّرجيح للاحتياط ، وفي تعارض العلل ترجيح العلّة المقتضية للتّحريم على المقتضية لغيره . وذكروا أيضاً مسألة جريان الاحتياط في الوجوب والنّدب والتّحريم ، في الباب نفسه أيضاً . ومحلّ ذلك الملحق الأصوليّ . ويذكر الفقهاء القواعد المبنيّة على الاحتياط ، ومنها قاعدة تغليب الحرام عند اجتماع الحرام والحلال ، وما يدخل في هذه القاعدة وما يخرج عنها ، في كتب القواعد الفقهيّة .
احتيال
التّعريف
1 - يأتي الاحتيال بمعنى طلب الحيلة ، وهي الحذق في تدبير الأمور ، أي تقليب الفكر حتّى يهتدي إلى المقصود . ويأتي بمعنى الاحتيال بالدّين . ولا يخرج استعمال الأصوليّين والفقهاء له عن هذا ، إلاّ أنّ ابن القيّم ذكر أنّه غلب على الحيلة في العرف استعمالها في سلوك الطّرق الخفيّة الّتي يتوصّل بها الرّجل إلى حصول غرضه بحيث لا يتفطّن له إلاّ بنوع من الذّكاء والفطنة . فهذا أخصّ من موضوعها في أصل اللّغة ، وسواء أكان المقصود أمراً جائزاً أم محرّماً ، وأخصّ من هذا استعمالها في التّوصّل إلى الغرض الممنوع منه شرعاً أو عقلاً أو عادةً . وهذا هو الغالب عليها في عرف النّاس . إطلاقاته : الأوّل : بمعنى استعمال الطّرق الّتي يتوصّل بها الإنسان إلى غرضه . الثّاني : بمعنى نقل الدّين من ذمّة إلى ذمّة ، وهو الحوالة .
( الحكم الإجماليّ )
أوّلاً : بالمعنى الأوّل : يختلف حكم الاحتيال باختلاف القصد والنّيّة ، وباختلاف مآل العمل ، وذلك على الوجه الآتي :
2 - يكون الاحتيال حراماً إذا تسبّب به المكلّف في إسقاط ما وجب شرعاً ، حتّى يصير غير واجب في الظّاهر ، أو في جعل المحرّم حلالاً في الظّاهر . ذلك أنّ العمل إذا قصد به إبطال حكم شرعيّ وتحويله في الظّاهر إلى حكم آخر ، حتّى يصير مآل ذلك العمل خرم قواعد الشّريعة في الواقع ، فهو حرام منهيّ عنه . وذلك كما لو دخل عليه وقت الصّلاة فشرب خمراً أو دواءً منوّماً حتّى يخرج وقتها وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه ، أو كان له مال يقدر به على الحجّ فوهبه كي لا يجب عليه الحجّ . وكذلك يحرم التّصرّف في المال بهبة أو غيرها قبل الحول للفرار من الزّكاة عند المالكيّة والحنابلة . وقد اختلف الحنفيّة في ذلك ، فقال أبو يوسف : لا يكره ذلك ؛ لأنّه امتناع عن الوجوب لإبطال حقّ الغير . وفي المحيط أنّه الأصحّ . وقال محمّد : يكره . واختاره الشّيخ حميد الدّين الضّرير ؛ لأنّ فيه إضراراً بالفقراء ، وإبطال حقّهم مآلاً . وقيل : الفتوى على قول محمّد ، كذلك الأمر بالنّسبة للشّافعيّة ، ففي نهاية المحتاج والشّروانيّ : يكره تنزيهاً إن قصد به الفرار من الزّكاة . وقال الشّروانيّ : وفي الوجيز يحرم . زاد في الإحياء : ولا تبرأ به الذّمّة باطناً ، وأنّ هذا من الفقه الضّارّ ، وقال ابن الصّلاح يأثم بقصده لا بفعله . كذلك يحرم الاحتيال لأخذ أموال النّاس وظلمهم في نفوسهم وسفك دمائهم وإبطال حقوقهم . والدّليل على حرمة الاحتيال قوله تعالى : { ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت . . . } ؛ لأنّهم احتالوا للاصطياد في السّبت بصورة الاصطياد في غيره . وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يجمع بين متفرّق ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصّدقة » .
3 - ويكون الاحتيال جائزاً إذا قصد به أخذ حقّ ، أو دفع باطل ، أو التّخلّص من الحرام ، أو التّوصّل إلى الحلال ، وسواء أكانت الوسيلة محرّمةً أم مشروعةً ، إلاّ أنّها إن كانت محرّمةً فهو آثم على الوسيلة دون المقصود ، وقد يطلب الاحتيال ولا سيّما في الحرب ؛ ؛ لأنّها خدعة . والأصل في الجواز قول اللّه تعالى : { وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث } .
4 - ومنه ما يختلف فيه وهو ما لم يتبيّن فيه مقصد للشّارع يتّفق على أنّه مقصود له ، ولا ظهر أنّه على خلاف المصلحة الّتي وضعت لها الشّريعة بحسب المسألة المفروضة . فمن رأى من الفقهاء أنّ الاحتيال في أمر ما غير مخالف للمصلحة فالتّحيّل جائز عنده فيه ، ومن رأى أنّه مخالف فالتّحيّل ممنوع عنده فيه . على أنّه من المقرّر أنّ من يجيز التّحيّل في بعض المسائل فإنّما يجيزه بناءً على تحرّي قصد المكلّف المحتال ، وأنّه غير مخالف لقصد الشّارع ؛ لأنّ مصادمة الشّارع صراحاً ، علماً أو ظنّاً ، ممنوع ، كما أنّ المانع إنّما منع بناءً على أنّ ذلك مخالف لقصد الشّارع ؛ ولما وضع في الأحكام من المصالح . ومن ذلك نكاح المحلّل ، فإنّه تحيّل إلى رجوع الزّوجة إلى مطلّقها الأوّل بحيلة توافق في الظّاهر قوله اللّه تعالى : { فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره } فقد نكحت المرأة هذا المحلّل ، فكان رجوعها إلى الأوّل بعد تطليق الثّاني موافقاً . ونصوص الشّارع مفهمة لمقاصده ، ومن ذلك بيوع الآجال .
5 - وأكثر الّذين أخذوا بالاحتيال هم الحنفيّة فالشّافعيّة . أمّا المالكيّة والحنابلة فإنّ الأصل عندهم هو منع الاحتيال غالباً ، وهو لا يفيد في العبادات ولا في المعاملات ؛ لأنّ تجويز الحيل يناقض سدّ الذّرائع ، فإنّ الشّارع يسدّ الطّريق إلى المفاسد بكلّ ممكن ، والمحتال يفتح الطّريق إليها بحيلة . ثانياً بالمعنى الثّاني :
6 - الاحتيال بالحقّ من جهة المحيل يكون نتيجة عقد الحوالة ، فالحوالة عقد يقتضي نقل دين من ذمّة إلى أخرى ، وهي مستثناة - كما يقول بعض الفقهاء - من بيع الدّين بالدّين .
7 - وهي جائزة للحاجة إليها . والأصل فيها قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل » والحكم فيها براءة ذمّة المحيل من دين المحال له . وقد اشترط الفقهاء لصحّتها شروطاً ، كرضا المحيل المحال له ، والعلم بما يحال به وعليه . وغير ذلك من التّفاصيل تنظر في مصطلح ( حوالة ) .
( مواطن البحث )
8 - للاحتيال بمعنى الطّرق الّتي يتوصّل بها الإنسان إلى غرضه أحكام مفصّلة في مصطلح ( حيلة ) وفي كتب الأصول ولها علاقتها بمقاصد الشّريعة وبالذّرائع . وينظر في الملحق الأصوليّ .
إحداد
التّعريف
1 - من معاني الإحداد في اللّغة : المنع ، ومنه امتناع المرأة عن الزّينة وما في معناها إظهاراً للحزن . وهو في الاصطلاح : امتناع المرأة من الزّينة وما في معناها مدّةً مخصوصةً في أحوال مخصوصة ، وكذلك من الإحداد امتناعها من البيتوتة في غير منزلها .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : الاعتداد :
2 - وهو تربّص المرأة مدّةً محدّدةً شرعاً لفراق زوجها بوفاة أو طلاق أو فسخ . والعلاقة بين الاعتداد والإحداد أنّ الاعتداد طرف للإحداد ، ففي العدّة . تترك المرأة زينتها لموت زوجها . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
3 - أجمع العلماء على وجوب الإحداد في عدّة الوفاة من نكاح صحيح ولو من غير دخول بالزّوجة . والدّليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث ليال إلاّ على زوج ، أربعة أشهر وعشراً » . كما أجمعوا على أنّه لا إحداد على الرّجل . وقد أجمعوا أيضاً على أنّه لا إحداد على المطلّقة رجعيّاً ، بل يطلب منها أن تتعرّض لمطلّقها وتتزيّن له لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمراً . على أنّ للشّافعيّ رأياً بأنّه يستحبّ للمطلّقة رجعيّاً الإحداد إذا لم ترج الرّجعة .
4 - وأمّا المعتدّة من طلاق بائن بينونةً صغرى أو كبرى فقد اختلف العلماء فيه على اتّجاهين : الأوّل : ذهب الحنفيّة والشّافعيّ في قديمه ، وهو إحدى الرّوايتين في مذهب أحمد ، أنّ عليها الإحداد ، لفوات نعمة النّكاح . فهي تشبه من وجه من توفّي عنها زوجها . الثّاني : ذهب المالكيّة والشّافعيّ في جديده وهو إحدى الرّوايتين عن الإمام أحمد ( وقيل في بعض الكتب إنّها المذهب ) إلاّ أنّه لا إحداد عليها ؛ لأنّ الزّوج هو الّذي فارقها نابذاً لها ، فلا يستحقّ أن تحدّ عليه . وإلى هذا ذهب جماعة من التّابعين ، منهم سعيد بن المسيّب ، وأبو ثور ، وعطاء ، وربيعة ، ومالك ، وابن المنذر . إلاّ أنّ الشّافعيّ يرى في جديده أنّه يستحبّ لها أن تحدّ .
5 - وأمّا المنكوحة نكاحاً فاسداً إذا مات عنها زوجها فالجمهور على أنّه لا إحداد عليها ؛ ؛ لأنّها ليست زوجةً على الحقيقة ، وأنّ بقاء الزّواج الفاسد نقمة ، وزواله نعمة ، فلا محلّ للإحداد . وذهب القاضي أبو يعلى من الحنابلة إلى وجوب الإحداد عليها تبعاً لوجوب العدّة ، وذهب القاضي الباجيّ المالكيّ إلى أنّه إذا ثبت بينها وبين زوجها المتوفّي شيء من أحكام النّكاح ، كالتّوارث وغيره ، فإنّها تعتدّ عدّة الوفاة ، ويلزمها الإحداد .
6 - أمّا إحداد المرأة على قريب غير زوج فإنّه جائز لمدّة ثلاثة أيّام فقط ، ويحرم الزّيادة عليها . والدّليل على ذلك ما روته زينب بنت أبي سلمة ، قالت : « لمّا أتى أمّ حبيبة نعي أبي سفيان دعت في اليوم الثّالث بصفرة ، فمسحت به ذراعيها وعارضيها ، وقالت : كنت عن هذا غنيّة ، سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ فوق ثلاث إلاّ على زوج فإنّها تحدّ عليه أربعة أشهر وعشراً . » أخرجه البخاريّ ومسلم ، واللّفظ له . وللزّوج منعها من الإحداد على القريب .
إحداد زوجة المفقود :
7 - المفقود : هو من انقطع خبره ، ولم تعلم حياته من مماته . فإذا حكم باعتباره ميّتاً فقد أجمع العلماء على أنّ زوجته تعتدّ عدّة وفاة من حين الحكم ، ولكن أيجب عليها الإحداد ؟ ذهب جمهور العلماء إلى وجوبه باعتبار أنّها معتدّة عدّة وفاة ، فتأخذ حكمها . وذهب ابن الماجشون من المالكيّة إلى أنّه وإن وجبت عليها العدّة فإنّه لا إحداد عليها .
بدء مدّة الإحداد :
8 - يبدأ الإحداد عقيب الوفاة سواء علمت الزّوجة بوقتها ، أو تأخّر علمها ، وعقيب الطّلاق البائن عند من يرى ذلك . هذا إذا كانت الوفاة والطّلاق معلومين . أمّا إذا مات الزّوج ، أو طلّقها ، وهو بعيد عنها فيبدأ الإحداد من حين علمها . وليس عليها قضاء ما فات ، وينقضي بانقضاء العدّة ، وإذا انتهت مدّة الإحداد وبقيت محدّةً بلا قصد فلا إثم عليها .
حكمة تشريع الإحداد :
9 - شرع إحداد المرأة المتوفّى عنها زوجها وفاءً للزّوج ، ومراعاةً لحقّه العظيم عليها ، فإنّ الرّابطة الزّوجيّة أقدس رباط ، فلا يصحّ شرعاً ولا أدباً أن تنسى ذلك الجميل ، وتتجاهل حقّ الزّوجيّة الّتي كانت بينهما . وليس من الوفاء أن يموت زوجها من هنا ، ثمّ تنغمس في الزّينة وترتدي الثّياب الزّاهية المعطّرة ، وتتحوّل عن منزل الزّوجيّة ، كأنّ عشرةً لم تكن بينهما . وقد كانت المرأة قبل الإسلام تحدّ على زوجها حولاً كاملاً تفجّعاً وحزناً على وفاته ، فنسخ اللّه ذلك وجعله أربعه أشهر وعشراً . هكذا قرّر علماء أئمّة المذاهب الأربعة فيما يستخلص من كلامهم على أحكام الإحداد . فقد ذكروا " أنّ الحداد واجب على من توفّي عنها زوجها ، إظهاراً للتّأسّف على ممات زوج وفّى بعهدها ، وعلى انقطاع نعمة النّكاح ، وهي ليست نعمةً دنيويّةً فحسب ، ولكنّها أيضاً أخرويّة ؛ ؛ لأنّ النّكاح من أسباب النّجاة في المعاد والدّنيا " وشرع الإحداد أيضاً ؛ لأنّه يمنع تشوّف الرّجال إليها ؛ لأنّها إذا تزيّنت يؤدّي إلى التّشوّف ، وهو يؤدّي إلى العقد عليها ، وهو يؤدّي إلى الوطء ، وهو يؤدّي إلى اختلاط الأنساب ، وهو حرام . وما أدّى إلى الحرام حرام » .
من تحدّ ومن لا تحدّ ؟
10 - تبيّن فيما سبق من يطلب منها الإحداد في الجملة . وهناك حالات وقع فيها خلاف بين الفقهاء ، منها : الكتابيّة زوجة المسلم ، والصّغيرة .
11 - أمّا الكتابيّة فقد ذهب مالك - في رواية ابن القاسم - والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّها يجب عليها الإحداد مدّة العدّة إذا مات زوجها المسلم ، وذلك ؛ لأنّ الإحداد تبع للعدّة فمتى وجبت عليها عدّة الوفاة وجب عليها الإحداد . وذهب الحنفيّة ومالك في رواية أشهب إلى أنّه لا إحداد عليها ؛ لأنّ الإحداد مطلوب من المسلمة ، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر . . . » الحديث .
12 - وأمّا الصّغيرة فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّها تحدّ ، وعلى وليّها أن يمنعها من فعل ما ينافي الإحداد ؛ لأنّ الإحداد تبع للعدّة . ولما روي عن أمّ سلمة رضي الله عنها « أنّ امرأةً أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول اللّه ، إنّ ابنتي توفّي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ فقال : لا مرّتين ، أو ثلاثاً » الحديث ، ولم يسأل عن سنّها ، وترك الاستفصال في مقام السّؤال دليل على العموم . وذهب الحنفيّة إلى عدم وجوب الإحداد عليها لحديث : « رفع القلم عن ثلاث : عن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن المبتلى حتّى يبرأ ، وعن الصّبيّ حتّى يكبر » . فإن بلغت في العدّة حدّت فيما بقي . ومثلها المجنونة الكبيرة إذا أفاقت . وأمّا الأمة فالفقهاء على أنّه يلزمها الإحداد مدّة عدّتها ؛ لعموم الحديث في وجوب الإحداد ، وحكى الشّافعيّة الإجماع على ذلك » .
ما تتجنّبه المحدّة :
13 - تجتنب المحدّة كلّ ما يعتبر زينةً شرعاً أو عرفاً ، سواء أكان يتّصل بالبدن أو الثّياب أو يلفت الأنظار إليها ، كالخروج من مسكنها ، أو التّعرّض للخطّاب . وهذا القدر مجمع عليه في الجملة . وقد اختلف الفقهاء في بعض الحالات فاعتبرها البعض من المحظورات على المحدّة ، ولم يعتبرها الآخرون . وذلك كبعض الملابس المصبوغة ، واختلافهم في الملابس السّوداء والبيضاء والمصبوغة بغير الزّعفران والمعصفر . وعند التّحقيق نجد أنّ اختلافهم - فيما عدا المنصوص عليه - ناشئ عن اختلاف العرف : فما اعتبر في العرف زينة اعتبروه محرّماً ، وما لم يعتبر اعتبر مباحاً . والممنوع يرجع كلّه إمّا إلى البدن ، أو الثّياب ، أو الحليّ ، أو التّعرّض للخطّاب ، أو البيتوتة .
14 - فأمّا ما يتّصل بالبدن فالّذي يحرم عليها كلّ ما يعتبر مرغّباً فيها من طيب وخضاب وكحل للزّينة . ومن ذلك الأشياء المستحدثة للزّينة ، وليس من ذلك ما تتعاطاه المرأة للتّداوي كالكحل والامتشاط بمشط واسع لا طيب فيه . وذهب الحنفيّة إلى كراهية الامتشاط بمشط الأسنان وهو بلا طيب ؛ لأنّه يعتبر من الزّينة عندهم . على أنّ من لا كسب لها إلاّ من الاتّجار بالطّيب أو صناعته فإنّ الشّافعيّة ينصّون على جواز مسّها له . وهذا كلّه في بدء التّطيّب بعد لزوم الإحداد ، أمّا لو تطيّبت قبل ذلك فهل عليها إزالته بعد لزوم الإحداد ؟ ذهب الشّافعيّة - إلى وجوب ذلك - وهو قول للمالكيّة اختاره ابن رشد . والرّأي الآخر للمالكيّة واختاره القرافيّ أنّه ليس عليها إزالته .
15 - واختلفوا في الأدهان غير المطيّبة ، كالزّيت والشّيرج ، فالحنفيّة والشّافعيّة يرون أنّ استعمالها من الزّينة الممنوعة على المحدّة ، خلافاً للمالكيّة والحنابلة . ففي حديث أمّ سلمة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها حين توفّي زوجها أبو سلمة ، فنهاها أن تمتشط بالطّيب ولا بالحنّاء ، فإنّه خضاب . قالت : قلت بأيّ شيء أمتشط ؟ قال : بالسّدر تغلّفين به رأسك » أي تجعلين عليه من السّدر ما يشبه الغلاف .
16 - وأمّا ما يتّصل بالملابس فهو كما قلنا كلّ ما جرى العرف باعتباره زينةً ، بصرف النّظر عن اللّون ، فقد يكون الثّوب الأسود محظوراً إذا كان يزيدها جمالاً ، أو جرى العرف عند قومها باعتباره من ملابس الزّينة . ولكن ورد النّصّ بالنّهي عن المعصفر والمزعفر من الثّياب ؛ لأنّهما يفوح منهما الطّيب ، لحديث أمّ عطيّة في الصّحيحين « كنّا ننهى أن نحدّ على ميّت فوق ثلاث ، إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشراً ، وأن نكتحل ، وأن نتطيّب ، وأن نلبس ثوباً مصبوغاً . » وأمّا من لم يكن عندها إلاّ ثوب واحد من المنهيّ عن لبسه فلا يحرم عليها لبسه حتّى تجد غيره ؛ لأنّ ستر العورة أوجب من الإحداد . ونقل عن الخرقيّ من الحنابلة أنّه يحرم عليها استعمال النّقاب ، فإن اضطرّت إلى ستر وجهها ؛ فلتسدل النّقاب وتبعده عن وجهها وذلك ؛ لأنّه اعتبر المحدّة كالمحرمة ولكن المذهب على غير ذلك فلها استعمال النّقاب مطلقاً .
17 - أمّا الحليّ : فقد أجمع الفقهاء على حرمة الذّهب بكلّ صوره عليها ، فيلزمها أن تنزعه حينما تعلم بموت زوجها ، لا فرق في ذلك بين الأساور والدّمالج والخواتم ، ومثله الحليّ من الجواهر . ويلحق به ما يتّخذ للحلية من غير الذّهب والفضّة كالعاج وغيره . وجوّز بعض الفقهاء لبس الحليّ من الفضّة ، ولكنّه قول مردود لعموم النّهي عن لبس الحليّ على المحدّة . وقصر الغزاليّ من الشّافعيّة الإباحة على لبس الخاتم من الفضّة ؛ لأنّه ليس ممّا تختصّ بحلّه النّساء . وتحرم على المحدّة التّعرّض للخطّاب بأيّ وسيلة من الوسائل تلميحاً أو تصريحاً ، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه النّسائيّ وأبو داود : « ولا تلبس المعصفر من الثّياب ، ولا الحليّ » .
ما يباح للمحدّة
18 - للمعتدّة الخروج في حوائجها نهاراً سواء كانت مطلّقةً أو متوفًّى عنها ، لما روى « جابر قال : طلقت خالتي ثلاثاً ، فخرجت تجذّ نخلها ، فلقيها رجل فنهاها . فذكرت ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : اخرجي فجذّي نخلك ، لعلّك أن تتصدّقي منه أو تفعلي خيراً . » رواه النّسائيّ وأبو داود . وروى مجاهد قال : « استشهد رجال يوم أحد ، فجاء نساؤهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، وقلن : يا رسول اللّه نستوحش باللّيل ، أفنبيت عند إحدانا ، فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : تحدّثن عند إحداكنّ ، حتّى إذا أردتنّ النّوم فلتؤب كلّ واحدة إلى بيتها » . وليس لها المبيت في غير بيتها ، ولا الخروج ليلاً إلاّ لضرورة ؛ لأنّ اللّيل مظنّة الفساد ، بخلاف النّهار فإنّه مظنّة قضاء الحوائج والمعاش وشراء ما يحتاج إليه . وإن وجب عليها حقّ لا يمكن استيفاؤه إلاّ بها ، كاليمين والحدّ ، وكانت ذات خدر ، بعث إليها الحاكم من يستوفي الحقّ منها في منزلها . وإن كانت برزةً جاز إحضارها لاستيفائه . فإذا فرغت رجعت إلى منزلها . على أنّ المالكيّة صرّحوا بأنّه لا بأس للمحدّة أن تحضر العرس ، ولكن لا تتهيّأ فيه بما لا تلبسه المحدّة . اتّفق أئمّة المذاهب الأربعة على أنّه يباح للمحدّة في عدّة وفاتها الأشياء التّالية : يباح لها أن تلبس ثوباً غير مصبوغ صبغاً فيه طيب وإن كان نفيساً . ويباح لها من الثّياب كلّ ما جرى العرف على أنّه ليس بزينة مهما كان لونه . ولمّا كان الإحداد خاصّاً بالزّينة في البدن أو الحليّ والثّياب على التّفصيل السّابق ، فلا تمنع من تجميل فراش بيتها ، وأثاثه ، وستوره والجلوس على أثاث وثير . ولا بأس بإزالة الوسخ والتّفث من ثوبها وبدنها ، كنتف الإبط ، وتقليم الأظافر إلخ ، والاغتسال بالصّابون غير المطيّب ، وغسل رأسها ويديها ، ولا يخفى أنّ للمرأة المحدّة أن تقابل من الرّجال البالغين من لها حاجة إلى مقابلته ما دامت غير مبدية زينتها ولا مختلية به .
سكن المحدّة :
19 - ذهب جمهور الفقهاء من السّلف والخلف ، ولا سيّما أصحاب المذاهب الأربعة ، إلى أنّه يجب على المعتدّة من وفاة أن تلزم بيت الزّوجيّة الّذي كانت تسكنه عندما بلغها نعي زوجها ، سواء كان هذا البيت ملكاً لزوجها ، أو معاراً له ، أو مستأجراً . ولا فرق في ذلك بين الحضريّة والبدويّة ، والحائل والحامل . والأصل في ذلك قوله تعالى : { لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ } وحديث « فريعة بنت مالك وأنّها جاءت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنّ زوجها خرج في طلب أعبد له فقتلوه بطرف القدوم ، فسألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي ، فإنّ زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة . قالت : فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : نعم . قالت : فخرجت حتّى إذا كنت في الحجرة ، أو في المسجد دعاني ، أو أمر بي فدعيت له ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : كيف قلت ؟ فرددت عليه القصّة ، فقال : امكثي في بيتك حتّى يبلغ الكتاب أجله ، فاعتدّت فيه أربعة أشهر وعشراً ، فلمّا كان عثمان بن عفّان رضي الله عنه أرسل إليّ فسألني عن ذلك ، فأخبرته ، فاتّبعه وقضى به » . رواه مالك في الموطّأ . وذهب جابر بن زيد والحسن البصريّ وعطاء من التّابعين إلى أنّها تعتدّ حيث شاءت . وروي ذلك عن عليّ وابن عبّاس وجابر وعائشة رضي الله عنهم . وحاصل ما استدلّوا به : أنّ الآية الّتي جعلت عدّة المتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً وهي قوله تعالى : { والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشراً } نسخت الآية الّتي جعلت عدّة المتوفّى عنها زوجها حولاً ، وهي قوله تعالى : { والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج } . والنّسخ إنّما وقع على ما زاد عن أربعة أشهر وعشر ، فبقي ما سوى ذلك من الأحكام ، ثمّ جاء الميراث فأسقط تعلّق حقّ إسكانها بالتّركة .
مسوّغات ترك مسكن الإحداد :
20 - إن طرأ على المحدّة ما يقتضي تحوّلها عن المسكن الّذي وجب عليها الإحداد فيه ، جاز لها الانتقال إلى مسكن آخر تأمن فيه على نفسها ومالها ، كأن خافت هدماً أو عدوّاً ، أو أخرجت من السّكن من مستحقّ أخذه ، كما لو كان عاريّةً أو إجارةً انقضت مدّتها ، أو منعت السّكنى تعدّياً ، أو طلب به أكثر من أجرة المثل . وإذا انتقلت تنتقل حيث شاءت إلاّ عند الشّافعيّة ، وهو اختيار أبي الخطّاب من الحنابلة ، فعليها أن تنتقل إلى أقرب ما يمكنها الانتقال إليه قياساً على ما إذا وجبت الزّكاة ولم يوجد من يستحقّها في مكان وجوبها ، فإنّها تنقل إلى أقرب موضع يجدهم فيه . وللجمهور أنّ الواجب سقط لعذر ولم يرد الشّرع له ببدل فلا يجب ، ولعدم النّصّ على اختيار الأقرب . أمّا البدويّة إذا انتقل جميع أهل المحلّة الّذين هي معهم أو بقي منهم من لا تأمن معه على نفسها ومالها فإنّها تنتقل عن السّكن الّذي بدأت فيه الإحداد كذلك . وإذا مات ربّان السّفينة ، أو أحد العاملين فيها ، وكانت معه زوجته ، ولها مسكن خاصّ بها في السّفينة ، فإنّها تحدّ فيه ، وتجري عليها الأحكام السّابقة .
أجرة سكن المحدّة ، ونفقتها :
21 - اختلفت مذاهب الفقهاء فيمن يلزمه أجر سكن المحدّة هل هو عليها أم من مال المتوفّى عنها . فذهب الحنفيّة إلى أنّ أجرة سكن المحدّة من وفاة ، من مالها ؛ ؛ لأنّ الشّرع ورد بتوريثها ، ولم يثبت لها أكثر من ذلك . أمّا المحدّة من طلاق بائن - عندهم - فأجرة سكناها على الزّوج ؛ لأنّ نفقتها عليه في مدّة العدّة ، فإن دفعت من مالها رجعت عليه . وذهب المالكيّة إلى التّفرقة بين المدخول بها وغيرها ، فغير المدخول بها سكناها مع أهلها أو من مالها ، للدّليل السّابق عند الحنفيّة . وأمّا المدخول بها فإن كانت تسكن في ملكه أو في مسكن استأجره لها وعجّل أجرته فليس للورثة إخراجها حتّى لو بيعت الدّار ، فيستثنى منها مدّة إحدادها . فإن لم يكن كذلك فأجرة سكناها من مالها ، وليس لها الرّجوع على مال التّركة بشيء ، سواء في ذلك الحامل والحائل » . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ المحدّة تستحقّ أجرة السّكن من التّركة ، بل تتعلّق بأعيان التّركة . وتقدّم على مؤنة التّجهيز والدّيون المرسلة في الذّمّة في الأظهر ، سواء أكانت حائلاً أم حاملاً ، مدخولاً بها أو غير مدخول . وفي غير الأظهر أنّ أجرة السّكنى عليها ؛ لأنّها وارثة ، فتلزمها ، كالنّفقة . وهناك قول آخر : أنّ الّذي يقدّم على مؤنة التّجهيز أجرة سكنى يوم الوفاة ، وهذا إذا لم تكن تسكن فيما يملكه أو يملك منفعته أو لم يكن قد عجّل الأجرة قبل الوفاة . وذهب الحنابلة إلى التّفرقة بين الحامل والحائل ، فالحائل أجرة سكناها في الإحداد من مالها بلا خلاف عندهم ، للدّليل المذكور سابقاً . وأمّا الحامل فعندهم روايتان ، إحداهما : لها أجرة السّكنى من مال المتوفّى عنها ؛ لأنّها حامل من زوجها ، فكانت لها السّكنى والنّفقة ، كالمفارقة في الحياة . والثّانية : ليس لها ذلك . وصحّح القاضي أبو يعلى هذه الرّواية . هذا عن أجرة سكنى المحدّة ، أمّا نفقتها فموطن بحثه مصطلح ( عدّة ) ؛ لأنّ حكم النّفقة تابع للاعتداد لا للإحداد .
حجّ المحدّة :
22 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا تخرج المعتدّة إلى الحجّ في عدّة الوفاة ؛ ؛ لأنّ الحجّ لا يفوت ، والعدّة تفوت . روي ذلك عن عمر وعثمان ، وبه قال سعيد بن المسيّب والثّوريّ وأصحاب الرّأي . وروي عن سعيد بن المسيّب قال : توفّي أزواج نساؤهنّ حاجّات أو معتمرات ، فردّهنّ عمر رضي الله عنه من ذي الحليفة حتّى يعتددن في بيوتهنّ . فإذا خرجت المرأة إلى الحجّ فتوفّي عنها زوجها وهي بالقرب ، أي دون مسافة قصر الصّلاة ، رجعت لتقضي العدّة ؛ لأنّها في حكم الإقامة . ومتى رجعت وقد بقي من عدّتها شيء ، أتت به في منزلها . وإن كانت قد تباعدت بأن قطعت مسافة القصر فأكثر ، مضت في سفرها ؛ لأنّ عليها في الرّجوع مشقّةً ، فلا يلزمها . فإن خافت أن تتعرّض لمخاطر في الرّجوع ، مضت في سفرها ولو كانت قريبةً ؛ لأنّ عليها ضرراً في رجوعها . وإن أحرمت بعد موته لزمتها الإقامة ؛ لأنّ العدّة أسبق . وفي رأي للحنفيّة : أنّ المرأة إذا خرجت إلى الحجّ ، فتوفّي عنها زوجها ، فالرّجوع أولى لتعتدّ في منزلها ، فلا ينبغي لمعتدّة أن تحجّ ، ولا تسافر مع محرم أو غير محرم ، فقد توفّي أزواج نساؤهنّ حاجّات أو معتمرات ، فردّهنّ عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه من قصر النّجف . فدلّ على أنّ المعتدّة تمنع من ذلك . أمّا المالكيّة فيقولون : إذا أحرمت بحجّ أو عمرة ، ثمّ طرأت عليها عدّة بأن توفّي زوجها ، بقيت على ما هي فيه ، ولا ترجع لمسكنها لتعتدّ به ؛ لأنّ الحجّ سابق على العدّة . وإن أحرمت بحجّ أو عمرة بعد موجب العدّة من طلاق أو وفاة ، فإنّها تمضي على إحرامها الطّارئ ، وأثمت بإدخال الإحرام على نفسها بعد العدّة بخروجها من مسكنها . ولم يعتبر الشّافعيّة المسافة الّتي تقطعها المحدّة المحرمة بالأيّام الّتي تقصر فيها الصّلاة . ولكن قالوا : إن فارقت البنيان ، فلها الخيار بين الرّجوع والتّمام ؛ لأنّها صارت في موضع أذن لها زوجها فيه وهو السّفر ، فأشبه ما لو بعدت .
23 - ومثل الحجّ كلّ سفر ، فليس لها أن تنشئ ذلك السّفر وهي محدّة . وذهب أبو يوسف ومحمّد إلى أنّه إذا كان معها محرم فلا بأس بأن تخرج من المصر قبل أن تعتدّ . وحاصل ما تفيده عبارات فقهاء المذاهب المختلفة أنّه إذا أذن الزّوج بالسّفر لزوجته ، ثمّ طلّقها ، أو مات عنها وبلغها الخبر ، فإن كان الطّلاق رجعيّاً فلا يتغيّر الحكم ؛ لقيام الزّوجيّة ، حتّى لو كان معها في السّفر تمضي معه ، وإن لم يكن معها والطّلاق بائن وكانت أقرب إلى بيت الزّوجيّة وجب عليها أن تعود لتعتدّ وتحدّ في بيت الزّوجيّة . وإن كانت أقرب إلى مقصدها فهي مخيّرة بين المضيّ إلى مقصدها وبين العودة ، والعودة أولى . إلاّ أنّ المالكيّة يوجبون العودة ، ولو بلغت مقصدها ، ما لم تقم ستّة أشهر ، إلاّ إذا كانت في حجّة الإسلام وأحرمت فإنّها تمضي عندهم في حجّتها .
اعتكاف المحدّة :
24 - المعتكفة إذا توفّي عنها زوجها ، لزمها الخروج لقضاء العدّة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ؛ لأنّ خروجها لقضاء العدّة أمر ضروريّ ، كما إذا خرج المعتكف للجمعة وسائر الواجبات ، كإنقاذ غريق ، أو إطفاء حريق ، أو أداء شهادة تعيّن عليه ، أو لفتنة يخشاها على نفسه أو أهله أو ماله . وإذا خرجت المعتكفة لهذه الضّرورات ، فهل يبطل اعتكافها ؟ وهل تلزمها كفّارة يمين ، أو لا كفّارة عليها ؟ ذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو أصحّ القولين للشّافعيّة ، أنّه لا يبطل اعتكافها ، فتقضي عدّتها ، ثمّ تعود إلى المسجد ، وتبني على ما مضى من اعتكافها . والقول الثّاني للشّافعيّة : يبطل اعتكافها ، وقد خرّجه ابن سريج ، وذكر البغويّ أنّها إذا لزمها الخروج للعدّة ، فمكثت في الاعتكاف ، عصت وأجزأها الاعتكاف . قاله الدّارميّ . أمّا المالكيّة فيقولون : « تمضي المعتكفة على اعتكافها إن طرأت عليها عدّة من وفاة أو طلاق . وبهذا قال ربيعة وابن المنذر . أمّا إذا طرأ اعتكاف على عدّة فلا تخرج له ، بل تبقى في بيتها حتّى تتمّ عدّتها ، فلا تخرج للطّارئ ، بل تستمرّ على السّابق " ( ر : اعتكاف ) .
عقوبة غير الملتزمة بالإحداد :
25 - يستفاد من كلام أئمّة المذاهب الأربعة في الإحداد أنّ المحدّة المكلّفة لو تركت الإحداد الواجب كلّ المدّة أو بعضها ، فإن كان ذلك عن جهل فلا حرج ، وإن كان عمداً ، فقد أثمت متى علمت حرمة ذلك ، كما قاله ابن المقري من الشّافعيّة . ولكنّها لا تعيد الإحداد ؛ لأنّ وقته قد مضى ، ولا يجوز عمل شيء في غير موضعه في غير وقته ، وانقضت العدّة مع العصيان ، كما لو فارقت المعتدّة المسكن الّذي يجب عليها ملازمته بلا عذر ، فإنّها تعصي وتنقضي عدّتها . ( ف 24 ) وعلى وليّ غير المكلّفة إلزامها بالإحداد في مدّته وإلاّ كان آثماً . ولم ترد في الشّرع عقوبة محدّدة لمن تركت الإحداد ، ولكنّها توصف بأنّها عصت . هذا ومن المعلوم أنّ الإمام من حقّه أن يعزّر المرأة المكلّفة على ترك الإحداد إذا تعمّدت ذلك بما يراه من وسائل التّعزير .
26 - وإذا أمر المطلّق أو الميّت قبل الموت ، الزّوجة بترك الإحداد ، فلا تتركه ؛ لأنّه حقّ الشّرع ، فلا يملك العبد إسقاطه ؛ لأنّ هذه الأشياء دواعي الرّغبة ، وهي ممنوعة عن النّكاح فتجتنبها لئلاّ تصير ذريعةً إلى الوقوع في المحرّم .
إحراز
التّعريف
1 - الإحراز لغةً : حفظ الشّيء وصيانته عن الأخذ . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ المذكور فقد عرّفه النّسفيّ بأنّه : جعل الشّيء في الحرز ، وهو الموضع الحصين . هذا والإحراز إمّا أن يكون بحصانة موضعه ، وهو كلّ بقعة معدّة للإحراز ، ممنوع من الدّخول فيها إلاّ بإذن ، كالدّور والحوانيت والخيم والخزائن والصّناديق ، وإمّا أن يكون بحافظ يحرسه . والمحكّم في الحرز العرف ، إذ لم يحدّ في الشّرع ولا في اللّغة . وهو يختلف باختلاف الأموال والأحوال والأوقات . وضبطه الغزاليّ بما لا يعدّ صاحبه مضيّعاً له .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - الحيازة : هي وضع اليد على الشّيء والاستيلاء عليه . وقد يكون الشّيء المحوز في حرز أو لا يكون ، لهذا فالحيازة أعمّ من الإحراز .
3 - الاستيلاء : هو القهر والغلبة ولو حكماً في أخذ الشّيء من حرزه ووضع اليد عليه . فهو مختلف أيضاً عن مطلق الإحراز ، وأخصّ منه . الحكم الإجماليّ :
4 - الإحراز عند جمهور الفقهاء شرط من شروط القطع في السّرقة للمال المملوك . مواطن البحث :
5 - يبحث الإحراز في السّرقة عند الحديث عن شروطها ، وفي العقود الّتي بها ضمان كالوديعة وغيرها .
إحراق
التّعريف
1 - الإحراق لغةً مصدر أحرق . أمّا استعماله الفقهيّ فيؤخذ من عبارات بعض الفقهاء أنّ الإحراق هو إذهاب النّار الشّيء بالكلّيّة ، أو تأثيرها فيه مع بقائه ، ومن أمثلة النّوع الأخير : الكيّ والشّيّ ( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - للإحراق صلة بألفاظ اصطلاحيّة كثيرة أهمّها : أ - الإتلاف : وهو الإفناء ، وهو أعمّ من الإحراق .
ب - التّسخين : وهو تعريض الشّيء للحرارة ، فهو غير الإحراق .
ج - الغلي : وهو آخر درجات التّسخين ، ويختلف باختلاف المادّة المراد غليها ، فهو غير الإحراق . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
3 - يختلف حكم الإحراق باختلاف ما يراد إحراقه ، فتعتريه الأحكام التّكليفيّة الخمسة . أثر الإحراق من حيث التّطهير :
4 - ذهب المالكيّة في المعتمد ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة وهو المختار للفتوى وهو غير ظاهر المذهب عند الحنابلة إلى أنّ الإحراق إذا تبدّلت به العين النّجسة بتبدّل أوصافها أو انقلاب حقيقتها حتّى صارت شيئاً آخر ، وذلك كالميتة إذا احترقت فصارت رماداً أو دخاناً ، فإنّ ما يتخلّف من الإحراق يكون طاهراً ، ومن باب أولى إذا كانت العين طاهرةً في الأصل وتنجّست ، كالثّوب المتنجّس . ودليلهم قياس ذلك على الخمر إذا تخلّلت والإهاب إذا دبغ . وذهب الشّافعيّة والمالكيّة في غير المعتمد ، وأبو يوسف ، وهو ظاهر المذهب الحنبليّ ، إلى أنّ الإحراق لا يجعل ما يتخلّف منه شيئاً آخر ، فيبقى على نجاسته . وسواء في ذلك العين النّجسة ، أو المتنجّسة ، لقيام النّجاسة ؛ لأنّ المتخلّف من الإحراق جزء من العين النّجسة . وفصّل بعض المالكيّة فقالوا : إن أكلت النّار النّجاسة أكلاً قويّاً فرمادها طاهر ، وإلاّ فنجس . هذا وإنّ من قال من الفقهاء بنجاسة المتخلّف من إحراق النّجس ذهبوا إلى أنّه يعفى عن قليله للضّرورة ؛ ولأنّ المشقّة تجلب التّيسير .
طهارة الأرض بالشّمس والنّار :
5 - إذا أصابت الأرض نجاسة ، فجفّت بالشّمس أو النّار ، وذهب أثرها ، وهو هنا اللّون والرّائحة ، جازت الصّلاة مكانها عند الحنفيّة ، واستدلّوا بقول النّبيّ عليه الصلاة والسلام : « ذكاة الأرض يبسها » . وعن ابن عمر قال : « كنت أبيت في المسجد في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكنت فتًى شابّاً عزباً ، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد ولم يكونوا يرشّون شيئاً من ذلك » . كما ذهبوا إلى أنّه لا يجوز التّيمّم به ؛ لأنّ طهارة الصّعيد شرط بنصّ الكتاب وقال اللّه تعالى : { فتيمّموا صعيداً طيّباً } وطهارة الأرض بالجفاف ثبتت بدليل ظنّيّ ، فلا يتحقّق بها الطّهارة القطعيّة المطلوبة للتّيمّم بنصّ الآية . وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة إلى أنّ الأرض لا تطهر بالجفاف ، ولا يجوز الصّلاة على مكانها ولا التّيمّم بها ؛ لأنّ النّجاسة حصلت في المكان ، والمزيل لم يوجد .
تمويه المعادن بالنّجس :
6 - الإجماع على أنّه لو سقي الحديد بنجس ، فغسل ثلاثاً ، يطهر ظاهره ، فإذا استعمل بعدئذ في شيء لا ينجس . وعند الحنفيّة عدا محمّد وهو وجه عند الشّافعيّة أنّه يطهر مطلقاً لو سقي بالطّاهر ثلاثاً ، وذلك بالنّسبة لحمله في الصّلاة . وعند محمّد بن الحسن أنّه لا يطهر أبداً . وهذا بالنّسبة للحمل في الصّلاة . أمّا لو غسل ثلاثاً ثمّ قطع به نحو بطّيخ ، أو وقع في ماء قليل ، لا ينجّسه . فالغسل يطهّر ظاهره إجماعاً . وهناك قول آخر للشّافعيّة ، اختاره الشّاشيّ ، أنّه يكتفى لتطهير الحديد المسقيّ بنجس بتطهيره ظاهراً ؛ لأنّ الطّهارة كلّها جعلت على ما يظهر لا على الجوف . وعند المالكيّة إن سقي الحديد المحمى والنّحاس وغيرهما بنجس لا ينجّسهما ويبقيان على طهارتهما لعدم سريان النّجاسة فيهما لاندفاع النّجاسة بالحرارة .
الاستصباح بالنّجس والمتنجّس الاستصباح بالدّهن النّجس :
7 - عند الحنابلة ، وهو ظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، شحوم الميتة لا يجوز الاستصباح بها . وعلّلوا ذلك بأنّه عين النّجاسة وجزؤها . ويؤيّده ما في صحيح البخاريّ عن جابر أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عام الفتح يقول وهو بمكّة : « إنّ اللّه حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام . فقيل : يا رسول اللّه أرأيت شحوم الميتة ، فإنّه يطلى بها السّفن ، ويدهن بها الجلود ، ويستصبح بها النّاس ؟ قال : لا ، هو حرام » . الحديث . ونحوهم المالكيّة حيث قالوا : لا ينتفع بالنّجس إلاّ شحم ميتة لدهن العجلات ونحوها . وذلك في غير مسجد ، لا فيه . وعند الشّافعيّة : يحلّ مع الكراهة في غير المسجد الاستصباح بالدّهن النّجس .
الاستصباح بالدّهن المتنجّس
8 - اختلفت الآراء في الاستصباح بالأدهان المتنجّسة : ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في المشهور عندهم وهو رواية عند الحنابلة اختارها الخرقيّ ، أنّه يجوز الاستصباح به في غير المسجد ، إلاّ إذا كان المصباح خارج المسجد والضّوء فيه فيجوز ؛ لأنّه أمكن الانتفاع به من غير ضرر ، فجاز كالطّاهر . وهو مرويّ عن ابن عمر . وذهب الحنابلة في الرّواية الأخرى ، وهو اختيار ابن المنذر ، إلى أنّه لا يجوز مطلقاً ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « سئل عن شحوم الميتة تطلى بها السّفن ، وتدهن بها الجلود ، ويستصبح بها النّاس ؟ فقال : لا ، هو حرام » . متّفق عليه . فقد سوّوا بين النّجس والمتنجّس .
دخان وبخار النّجاسة المحرقة
9 - ذهب الحنفيّة في الصّحيح عندهم وهو المعتمد عند المالكيّة وهو اختيار ابن رشد وبعض من متأخّري الشّافعيّة وهو غير ظاهر المذهب عند الحنابلة إلى القول بالطّهارة مطلقاً . وذهب الحنفيّة في مقابل الصّحيح ، وهو ظاهر المذهب الحنبليّ ، واختاره من المالكيّة اللّخميّ والتّونسيّ والمازريّ وأبو الحسن وابن عرفة ووصفه بعضهم بأنّه المشهور ، إلى عدم طهارة الدّخان المتصاعد من وقود النّجاسة ، والبخار المتصاعد من الماء النّجس إذا اجتمعت منه نداوة على جسم صقيل ثمّ قطر فهو نجس ، وما يصيب الثّوب من بخار النّجاسة ينجّسه . وذهب بعض الشّافعيّة إلى أنّ دخان النّجاسة نجس يعفى عن قليله . وبخار النّجاسة إذا تصاعد بواسطة نار نجس ؛ لأنّ أجزاء النّجاسة تفصلها النّار بقوّتها فيعفى عن قليله . وإذا طبخ طعام بروث آدميّ ، أو بهيمة ، أو أوقد به تحت هباب فصار نشادراً ، فالطّعام طاهر إن لم يكن ما أصابه من دخان النّجاسة كثيراً ، وإلاّ تنجّس . وكذا النّشادر إن كان هبابه طاهراً ، وإلاّ فهو نجس . فالهباب المعروف المتّخذ من دخان السّرجين أو الزّيت المتنجّس إذا أوقد به نجس ، كالرّماد ، ويعفى عن قليله ؛ لأنّ المشقّة تجلب التّيسير .
التّيمّم بالرّماد :
10 - كلّ شيء أحرق حتّى صار رماداً لم يجز التّيمّم به بالإجماع . أمّا ما أحرق ولم يصر رماداً فذهب الحنفيّة وهو أصحّ الأقوال عند الشّافعيّة ، إلى جواز التّيمّم منه ؛ لأنّه بالإحراق لم يخرج عن أصله . وذهب المالكيّة ، وهو المعتمد عند الحنابلة ، وقول للشّافعيّة ، إلى أنّه لا يجوز التّيمّم بكلّ ما احترق ، لخروجه بذلك عن كونه صعيداً . وتفصيل ما يصحّ التّيمّم منه وما لا يصحّ في مصطلح ( تيمّم ) .
الماء المتجمّع تحت الجلد بالاحتراق ( النّفطة ) :
11 - النّفطة تحت الجلد لا يحكم عليها بنجاسة ولا نقض للوضوء . أمّا إذا خرج ماؤها فقد أجمعوا على نجاسته ، ويعفى عمّا يعتبر منه قليلاً تبعاً لكلّ مذهب في ضابط القلّة والكثرة في المعفوّات . أمّا نقض الوضوء بخروجه فهو مذهب الحنفيّة إن سال عن مكانه ، والحنابلة إن كان فاحشاً ، خلافاً للمالكيّة والشّافعيّة فهو غير ناقض عندهم ، كما يستفاد من عدم ذكرهم له بين نواقض الوضوء .
تغسيل الميّت المحترق :
12 - ذهب الفقهاء إلى أنّ من احترق بالنّار يغسّل كغيره من الموتى إن أمكن تغسيله ؛ لأنّ الّذي لا يغسّل إنّما هو شهيد المعركة ولو كان محترقاً بفعل من أفعالها . أمّا المحترق خارج المعركة فهو من شهداء الآخرة . ولا تجري عليه أحكام شهداء المعركة . فإن خيف تقطّعه بالغسل يصبّ عليه الماء صبّاً ولا يمسّ . فإن خيف تقطّعه بصبّ الماء لم يغسّل وييمّم إن أمكن ، كالحيّ الّذي يؤذيه الماء . وإن تعذّر غسل بعضه دون بعض غسّل ما أمكن غسله وييمّم الباقي كالحيّ سواء .
الصّلاة على المحترق المترمّد :
13 - ذهب ابن حبيب من المالكيّة والحنابلة وبعض المتأخّرين من الشّافعيّة إلى أنّه يصلّى عليه مع تعذّر الغسل والتّيمّم . ؛ لأنّه لا وجه لترك الصّلاة عليه ؛ لأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور ، لما صحّ من قوله عليه الصلاة والسلام : « وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » ، ولأنّ المقصود من هذه الصّلاة الدّعاء والشّفاعة للميّت . أمّا عند الحنفيّة وجمهور الشّافعيّة والمالكيّة فلا يصلّى عليه ؛ لأنّ بعضهم يشترط لصحّة الصّلاة على الجنازة تقدّم غسل الميّت ، وبعضهم يشترط حضوره أو أكثره ، فلمّا تعذّر غسله وتيمّمه لم يصلّ عليه لفوات الشّرط .
الدّفن في التّابوت
14 - يكره دفن الميّت في تابوت بالإجماع ؛ لأنّه بدعة ، ولا تنفّذ وصيّته بذلك ، ولا يكره للمصلحة ، ومنها الميّت المحترق إذا دعت الحاجة إلى ذلك .
الإحراق في الحدود والقصاص والتّعزير الإحراق العمد :
15 - يعتبر الإحراق بالنّار عمداً جناية عمد . وتجري عليه أحكام العمد ؛ لأنّها تعمل عمل المحدّد . وتفصيله في ( الجنايات ) .
القصاص بالإحراق :
16 - ذهب الشّافعيّة ؛ وهو المشهور عند المالكيّة ، ورواية عند الحنابلة ، إلى قتل القاتل بما قتل به ولو ناراً . ويكون القصاص بالنّار مستثنًى من النّهي عن التّعذيب بها . واستدلّوا بقوله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } وقوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وبما أخرجه البيهقيّ والبزّار عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث البراء ، وفيه : « من حرق حرقناه » . وذهب الحنفيّة ، وهو غير المشهور عند المالكيّة ، والمعتمد عند الحنابلة ، إلى أنّ القود لا يكون إلاّ بالسّيف وإن قتل بغيره ، قلو اقتصّ منه بالإلقاء في النّار عزّر . واستدلّوا بحديث النّعمان بن بشير مرفوعاً : « لا قود إلاّ بالسّيف » . ورواه ابن ماجه والبزّار والطّحاويّ والطّبرانيّ والبيهقيّ بألفاظ مختلفة .
موجب تعذيب السّيّد عبده بالنّار :
17 - اختلف العلماء في موجب تعذيب السّيّد عبده بالنّار ، فقال أكثرهم : لا يعتق عليه . وذهب مالك والأوزاعيّ ؛ واللّيث إلى عتق العبد بذلك ، ويكون ولاؤه له ، ويعاقبه السّلطان على فعله . واستدلّوا بأثر عمر رضي الله عنه ، أخرجه مالك في الموطّأ بلفظ : وليدة أتت عمر ، وقد ضربها سيّدها بنار ، فأصابها بها . فأعتقها عليه . وأخرجه أيضاً الحاكم في المستدرك .
العقوبة في اللّواط بالإحراق :
18 - يرى الإمام أبو حنيفة أنّ عقوبة اللّواط سواء اللاّئط والملوط به التّعزير ، ويجيز للحاكم أن يكون التّعزير بالإحراق . وإلى هذا الرّأي ذهب ابن القيّم وأوجب إحراقهما ابن حبيب من المالكيّة ، خلافاً للجمهور الّذين يرون أنّ عقوبتهما لا تكون بالإحراق وتفصيل ذلك في ( الحدود ) . واستدلّ من رأى الإحراق بفعل الصّحابة وعلى رأسهم أبو بكر . وتشدّد في ذلك عليّ رضي الله عنهم .
إحراق الدّابّة الموطوءة :
19 - لا يحدّ شخص بوطء بهيمة ، بل يعزّر وتذبح البهيمة ، ثمّ تحرق إذا كانت ممّا لا يؤكل ، وذلك لقطع امتداد التّحدّث به كلّما رئيت . وليس بواجب كما في الهداية . وإن كانت الدّابّة تؤكل جاز أكلها عند أبي حنيفة والمالكيّة ، وقال أبو يوسف ومحمّد من ، الحنفيّة : تحرق أيضاً ، وفي القنية : تذبح وتحرق على الاستحباب ولا يحرم أكلها . ولأحمد والشّافعيّ قول بقتلها بغير ذبح ؛ لأنّ بقاءها يذكّر بالفاحشة فيعيّر بها . والقول الآخر لا بأس بتركها .
التّحجير بالإحراق :
20 - من حجّر أرضاً ميّتةً بأن منع غيره منها بوضع علامة فهو أحقّ بها . وممّا يتحقّق به التّحجير إحراق ما في الأرض من الشّوك والأشجار لإصلاح الأرض .
إيقاد النّار في المساجد والمقابر :
21 - يكره إيقاد النّار في المسجد لغير مصلحة ، كالتّبخير والاستصباح والتّدفئة ؛ لأنّه إذا لم يكن لمصلحة كان تشبّهاً بعبدة النّار ، فهو حينئذ حرام . وأمّا إيقاد النّار ، كالسّرج وغيرها ، عند القبور فلا يجوز ، لحديث : « لعن اللّه زائرات القبور والمتّخذين عليها السّرج » . فإذا كانت هناك مصلحة ظاهرة تقتضي الإضاءة كدفن الميّت ليلاً فهو جائز .
التّبخير عند الميّت
22 - يستحبّ عند الجمهور تبخير أكفان الميّت بالعود ، وهو أن يترك العود على النّار في مجمر ، ثمّ يبخّر به الكفن حتّى تعبق رائحته ويطيب . ويكون ذلك بعد أن يرشّ عليه ماء الورد لتعلق الرّائحة به . وتجمر الأكفان قبل أن يدرج الميّت فيها وتراً . والأصل فيه ما روي عن جابر ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا أجمرتم الميّت فأجمروه ثلاثاً » رواه أحمد ، وأخرجه أيضاً البيهقيّ والبزّار . وقيل : رجاله رجال الصّحيح . وأخرج نحوه أحمد بن حنبل . . واختلفوا في الميّت المحرم على رأيين : فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى جواز تجميره ، قياساً على الحيّ ، ولأنّه انقطع إحرامه بموته ، وسقط عنه التّكليف . وقال الحنابلة : لا يبطل إحرامه ، فلا يجمر هو ولا أكفانه . والأصل في ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الّذي وقصته النّاقة « اغسلوه بماء وسدر ، وكفّنوه في ثوبين ، ولا تمسّوه طيباً ، ولا تخمّروا رأسه ، فإنّه يبعث يوم القيامة ملبّياً » .
اتّباع الجنازة بنار
23 - اتّفق الفقهاء على كراهة اتّباع الجنازة بنار في مجمرة أو غيرها ، وإن كانت بخوراً . وكذلك مصاحبتها للميّت ، للأخبار الآتية . ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على الكراهة ؛ لأنّ ذلك من فعل الجاهليّة ، وقد حرّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك ، وزجر عنه . فقد روي « أنّه خرج في جنازة ، فرأى امرأةً في يدها مجمر ، فصاح عليها وطردها حتّى توارت بالآكام » ، وروى أبو داود بإسناده عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار » ، وقد أوصى كثير من الصّحابة بألاّ يتبعوا بنار بعد موتهم . وروى ابن ماجه أنّ أبا موسى حين حضره الموت قال : لا تتبعوني بمجمر . قالوا له : أو سمعت فيه شيئاً ؟ قال : نعم من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . فإن دفن ليلاً ، فاحتاجوا إلى ضوء ، فلا بأس به . وإنّما كره المجامر الّتي فيها البخور .
الإحراق المضمون وغير المضمون
24 - إذا أوقد الشّخص ناراً في أرضه أو في ملكه ، أو في موات حجره ، أو فيما يستحقّ الانتفاع به ، فطارت شرارة إلى دار جاره فأحرقتها ، فإن كان الإيقاد بطريقة من شأنها ألاّ تنتقل النّار إلى ملك الغير ، فإنّه لا يضمن . أمّا إن كان الإيقاد بطريقة من شأنها انتقال النّار إلى ملك الغير ، فإنّه يضمن ما أتلفته النّار ، وذلك كأن كان الإيقاد والرّيح عاصفة ، أو وضع مادّةً من شأنها انتشار النّار ، إلى غير ذلك ممّا هو معروف . وعدم الضّمان في الحالة الأولى مرجعه إلى قياسها على سراية الجرح في قصاص الأطراف ، وفي الثّانية بسبب التّقصير . فإن أوقد ناراً في غير ملكه أو ما لا يملك الانتفاع ضمن ما أتلفته النّار ؛ لأنّه متعدّ .
ملكيّة المغصوب المتغيّر بالإحراق :
25 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وهو قول عند أحمد ، إلى أنّه إذا تغيّرت العين المغصوبة بفعل الغاصب حتّى زال اسمها وأعظم منافعها زال ملك المغصوب منه عنها ، وملكها الغاصب وضمنها . ولا يحلّ له الانتفاع بها حتّى يؤدّي بدلها ، كمن غصب شاةً وذبحها وشواها أو طبخها ، أو حديداً فاتّخذه سيفاً ، أو نحاساً فعمله آنيةً . وسبب انتقال الملكيّة أنّ الغاصب أحدث صنعةً متقوّمةً ؛ لأنّ قيمة الشّاة تزداد بطبخها أو شيّها ، وبهذا يعتبر حقّ المالك هالكاً من وجه ، ألا ترى أنّه تبدّل الاسم وفات معظم المقاصد . وحقّ الغاصب في الصّنعة قائم من كلّ وجه ، وما هو قائم من كلّ وجه مرجّح على الأصل الّذي هو فائت وهالك من وجه . وعلى هذا يخرج ما إذا كان المغصوب لحماً ، فشواه أو طبخه ، أو حديداً فضربه سكّيناً ، أو تراباً له قيمة فاتّخذه خزفاً ، ونحو ذلك ؛ لأنّه ليس للمالك أن يستردّ شيئاً من ذلك ، ويزول ملكه بضمان المثل أو القيمة ، وتبطل ولاية الاسترداد ، كما إذا استهلكه حقيقةً . وقال الشّافعيّة وهو المذهب عند الحنابلة ورواية عن أبي يوسف : لا ينقطع حقّ المالك ، ولا يزول ملك صاحبه عنه ؛ لأنّ بقاء العين المغصوبة يوجب بقاء ملك المالك ؛ لأنّ الواجب الأصليّ في الغصب ردّ العين عند قيامها ، والعين باقية ، فتبقى على ملكه ، وتتبعه الصّنعة الحادثة ؛ لأنّها تابعة للأصل ، ولا معتبر بفعله ؛ لأنّه محظور فلا يصلح سبباً للملك . وعن محمّد بن الحسن أنّه يخيّر بين القيمة أو العين مع الأرش . وذكر أبو الخطّاب : أنّ الغاصب يشارك المالك بكلّ الزّيادة ؛ لأنّها حصلت بمنافعه ، ومنافعه أجريت مجرى الأعيان ، فأشبه ما لو غصب ثوباً فصبغه ، وذلك بأن تقوّم العين المغصوبة غير مصنّعة ، ثمّ تقوّم مصنّعةً ، فالزّيادة تكون للغاصب على هذا الرّأي .
ما يباح إحراقه وما لا يباح :
26 - الأصل أنّ المصحف الصّالح للقراءة لا يحرق ، لحرمته ، وإذا أحرق امتهاناً يكون كفراً عند جميع الفقهاء . وهناك بعض المسائل الفرعيّة ، منها : قال الحنفيّة : المصحف إذا صار خلقاً ، وتعذّر القراءة منه ، لا يحرق بالنّار ، بل يدفن ، كالمسلم . وذلك بأن يلفّ في خرقة طاهرة ثمّ يدفن . وتكره إذابة درهم عليه آية ، إلاّ إذا كسر ، فحينئذ لا يكره إذابته ، لتفرّق الحروف ، أو ؛ لأنّ الباقي دون آية . وقال المالكيّة : حرق المصحف الخلق إن كان على وجه صيانته فلا ضرر ، بل ربّما وجب . وقال الشّافعيّة : الخشبة المنقوش عليها قرآن في حرقها أربعة أحوال : يكره حرقها لحاجة الطّبخ مثلاً ، وإن قصد بحرقها إحرازها لم يكره ، وإن لم يكن الحرق لحاجة ، وإنّما فعله عبثاً فيحرم ، وإن قصد الامتهان فظاهر أنّه يكفر . وذهب الحنابلة إلى جواز تحريق المصحف غير الصّالح للقراءة . أمّا كتب الحديث والفقه وغيرها فقال المالكيّة : إن كان على وجه الاستخفاف فإحراقها كفر مثل القرآن ، وأيضاً أسماء اللّه وأسماء الأنبياء المقرونة بما يدلّ على ذلك مثل : « عليه الصلاة والسلام " لا مطلق الأسماء . وقال الحنفيّة : هذه الكتب إذا كان يتعذّر الانتفاع بها يمحى عنها اسم اللّه وملائكته ورسله ويحرق الباقي .
إحراق السّمك والعظم وغيرهما :
27 - ذهب المالكيّة إلى جواز إلقاء السّمك في النّار حيّاً لشيّه . كما أباحوا إحراق العظم وغيره للانتفاع به . ووافقهم الشّافعيّة على الرّاجح في إحراق العظم . وكره الإمام أحمد شيّ السّمك الحيّ ولكن لا يكره أكله . ونصّ الحنابلة على أنّه لا يكره شيّ الجراد حيّاً ، لما أثر من فعل الصّحابة ذلك أمام عمر رضي الله عنه من غير نكير ، ولا يجوز عند الجميع إضاعة المال بالإحراق أو غيره .
الإحراق بالكيّ للتّداوي :
28 - إذا لم يكن حاجة إلى التّداوي بالكيّ فإنّه حرام ؛ لأنّه تعذيب بالنّار ، ولا يعذّب بالنّار إلاّ خالقها . وأمّا إذا تعيّن الكيّ فإنّه مباح سواء أكان ذلك الحديد أو غيره . وتفصيل ذلك في مصطلح ( تداوي ) .
الوسم بالنّار :
29 - الوسم في الوجه بالنّار منهيّ عنه بالإجماع في غير الآدميّ . ومن باب أولى وسم الآدميّ ، فهو حرام لكرامته ؛ ولأنّه لا حاجة إليه ، ولا يجوز تعذيبه . وذهب جماعة في غير الآدميّ إلى أنّ النّهي للكراهة ، وذهب جماعة آخرون إلى تحريمه ، وهو الأظهر ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعن فاعله ، واللّعن يقتضي التّحريم ، حيث قال : « أما بلغكم أنّي لعنت من وسم البهيمة في وجهها ؟ » أمّا وسم غير الآدميّ في بقيّة الجسم فالجمهور على أنّه جائز ، بل مستحبّ ، لما روي من فعل الصّحابة في ماشية الزّكاة والجزية . وذهب أبو حنيفة إلى كراهته لما فيه من تعذيب ومثلة .
الانتقال من سبب موت - لآخر أهون
30 - لو شبّت النّار في سفينة أو غيرها فما غلب على ظنّهم السّلامة فيه من بقائهم في أماكنهم أو تركها فعلوه . وإن استوى عندهم الأمران فقال الشّافعيّ وأحمد : كيف شاءوا صنعوا ، وقال الأوزاعيّ : هما موتتان فاختر أيسرهما ، وصرّح المالكيّة بوجوب الانتقال من سبب الموت الّذي حلّ ، إلى سبب آخر إن رجا به حياةً ، أو طولها ، ولو حصل له معها ما هو أشدّ من الموت ؛ لأنّ حفظ النّفوس واجب ما أمكن .
الإحراق في الحرب :
31 - إذا قدر على العدوّ بالتّغلّب عليه فلا يجوز تحريقه بالنّار من غير خلاف يعلم ، لما روى « حمزة الأسلميّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمّره على سريّة ، فقال : فخرجت فيها ، فقال : إن أخذتم فلاناً فأحرقوه بالنّار فولّيت ، فناداني ، فرجعت ، فقال : إن أخذتم فلاناً فاقتلوه ولا تحرّقوه ، فإنّه لا يعذّب بالنّار إلاّ ربّ النّار » . فأمّا رميهم بالنّار قبل القدرة عليهم مع إمكان أخذهم بغير التّحريق فلا يجوز ؛ لأنّهما حينئذ في حكم المقدور عليهم . وأمّا عند العجز عنهم بغير التّحريق فجائز في قول أكثر أهل العلم ، لفعل الصّحابة والتّابعين في غزواتهم . هذا وإن تترّس العدوّ في الحرب ببعض المسلمين ، فإن اضطررنا إلى رميهم بالنّار فهو جائز عند الجمهور . ومرجع ذلك إلى تقدير المصلحة العامّة . والحكم في البغاة والمرتدّين في هذه المسألة كالكفّار في حال القتال .
إحراق أشجار الكفّار في الحرب :
32 - إذا كان في ذلك نكاية بالعدوّ ، ولم يرج حصولها للمسلمين ، فالإحراق جائز اتّفاقاً . بل ذهب المالكيّة إلى تعيّن الإحراق . أمّا إذا رجي حصولها للمسلمين ، ولم يكن في إحراقها نكاية ، فإنّه محظور . وصرّح المالكيّة بحرمته . وأمّا إذا كان في إحراقها نكاية ، ويرجى حصولها للمسلمين ، فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى كراهة ذلك . بل صرّح الشّافعيّة بندب الإبقاء حفظاً لحقّ الفاتحين . وذهب المالكيّة إلى وجوب الإبقاء . وإذا كان لا نكاية في إحراقها ، ولا يرجى حصولها للمسلمين ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى جوازه . ومقتضى مذهب الشّافعيّة الكراهة ؛ لأنّه الأصل عندهم . أمّا الحنابلة فالأصل عندهم في هذه المسألة المعاملة بالمثل ، ومراعاة مصلحة المسلمين في القتال .
حرق ما عجز المسلمون عن نقله من أسلحة وبهائم وغيرها :
33 - اختلف الفقهاء في الحرق والإتلاف ، فقال الحنفيّة والمالكيّة : إذا أراد الإمام العود ، وعجز عن نقل أسلحة وأمتعة وبهائم لمسلم أو عدوّ ، وعن الانتفاع بها ، تحرق وما لا يحرق ، كحديد ، يتلف أو يدفن في مكان خفيّ لا يقف عليه الكفّار ، وذلك لئلاّ ينتفعوا بهذه الأشياء . أمّا المواشي والبهائم والحيوانات فتذبح وتحرق ، ولا يتركها لهم ؛ لأنّ الذّبح يجوز لغرض صحيح ، ولا غرض أصحّ من كسر شوكة الأعداء وتعريضهم للهلكة والموت ، ثمّ يحرق بالنّار لتنقطع منفعته عن الكفّار ، وصار كتخريب البنيان والتّحريق لهذا الغرض المشروع ، بخلاف التّحريق قبل الذّبح ، فلا يجوز ؛ لأنّه منهيّ عنه . وفيه أحاديث كثيرة منها ما أخرج البزّار في مسنده عن عثمان بن حبّان قال : « كنت عند أمّ الدّرداء رضي الله عنها ، فأخذت برغوثاً فألقيته في النّار ، فقالت : سمعت أبا الدّرداء يقول : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا يعذّب بالنّار إلاّ ربّ النّار » . وللمالكيّة تفصيل ، قالوا : يجهز على الحيوان وجوباً ، للإراحة من التّعذيب بإزهاق روحه أو قطع عرقوبه ، أو الذّبح الشّرعيّ ويحرق الحيوان ندباً بعد إتلافه إن كان الأعداء يستحلّون أكل الميتة ، ولو ظنّاً ، لئلاّ ينتفعوا به . فإن كانوا لا يستحلّون أكل الميتة لم يطلب التّحريق في هذه الحالة وإن كان جائزاً . والأظهر في المذهب طلب تحريقه مطلقاً ، سواء استحلّوا أكل الميتة أم لا ، لاحتمال أكلهم له حال الضّرورة . وقيل : التّحريق واجب ، ورجح . وقال اللّخميّ : إن كانوا يرجعون إليه قبل فساده وجب التّحريق ، وإلاّ لم يجب ؛ لأنّ المقصود عدم انتفاعهم به ، وقد حصل بالإحراق .
34 - وقال الشّافعيّة والحنابلة وعامّة أهل العلم ، منهم الأوزاعيّ واللّيث : لا يجوز في غير حال الحرب عقر الدّوابّ وإحراق النّحل وبيوته لمغايظة الكفّار والإفساد عليهم ، سواء خفنا أخذهم لها أو لم نخف . وذلك بخلاف حال الحرب حيث يجوز قتل المشركين ورميهم بالنّار ، فيجوز إتلاف البهائم ؛ لأنّه يتوصّل بإتلاف البهائم إلى قتل الأعداء . واستدلّوا بقوله تعالى : { وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنّسل واللّه لا يحبّ الفساد } . ولأنّ أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه قال في وصيّته ليزيد بن أبي سفيان ، حين بعثه أميراً : يا يزيد لا تقتل صبيّاً ولا امرأةً ولا هرماً ، ولا تخرّبنّ عامراً ، ولا تعقرنّ شجراً مثمراً ، ولا دابّةً عجماء ، ولا شاةً إلاّ لمأكلة ، ولا تحرّقن نحلاً ولا تغرقنّه ، ولا تغلل ولا تجبن ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل شيء من الدّوابّ صبراً ولأنّه حيوان ذو حرمة فلم يجز قتله لغيظ المشركين
ما يحرق للغالّ وما لا يحرق
35 - الغالّ هو الّذي يكتم ما يأخذه من الغنيمة ، فلا يطلع الإمام عليه ، ولا يضمّه إلى الغنيمة . وقد اختلف الفقهاء في تحريق مال الغالّ للغنيمة ، فقال الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة واللّيث : لا يحرق ماله . واستدلّوا بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعدم تحريقه فعن ابن عمر قال : « جاء رجل بزمام من شعر ، فقال : يا رسول اللّه هذا فيما كنّا أصبنا من الغنيمة ، فقال : سمعت بلالاً نادى ثلاثاً ؟ قال : نعم . قال : فما منعك أن تجيء به ؟ فاعتذر . فقال ؛ كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك » أخرجه أبو داود . ولأنّ إحراق المتاع إضاعة له ، وقد نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال وقال بإحراق مال الغالّ الحنابلة وفقهاء الشّام ، منهم مكحول والأوزاعيّ والوليد بن هشام . وقد أتي سعيد بن عبد الملك بغالّ فجمع ماله وأحرقه ، وعمر بن عبد العزيز حاضر ذلك فلم يعبه قال يزيد بن يزيد بن جابر : السّنّة في الّذي يغلّ أن يحرق رحله . رواهما سعيد في سننه . وقد استدلّوا بما روى صالح بن محمّد بن زائدة ، قال : « دخلت مع مسلمة أرض الرّوم ، فأتي برجل قد غلّ ، فسأل سالماً عنه ، فقال : سمعت أبي يحدّث عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : إذا وجدتم الرّجل قد غلّ فأحرقوا متاعه واضربوه . قال : فوجدنا في متاعه مصحفاً . فسأل سالماً عنه ، فقال : بعه وتصدّق بثمنه » . وروى عبد اللّه بن عمرو « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغالّ » .
36 - قال أحمد : إن لم يحرق رحله حتّى استحدث متاعاً آخر وكذلك إن رجع إلى بلده ، أحرق ما كان معه حال الغلول .
37 - ويشترط في الغالّ أن يكون بالغاً عاقلاً حرّاً ، فتوقع عقوبة الإحراق في متاع الرّجل والخنثى والمرأة والذّمّيّ ؛ لأنّهم من أهل العقوبة . وإن كان الغالّ صبيّاً لم يحرق متاعه عند الحنابلة والأوزاعيّ ؛ لأنّ الإحراق عقوبة ، والصّبيّ ليس من أهل العقوبة .
38 - ويسقط إحراق متاع الغالّ إذا مات قبل إحراق رحله ، نصّ عليه أحمد ، لأنّها عقوبة فتسقط بالموت ، كالحدود ؛ ولأنّه بالموت انتقل المتاع إلى ورثته ، فإحراقه يكون عقوبةً لغير الجاني . وإن انتقل ملكه إلى غير الغالّ بالبيع أو الهبة احتمل عدم تحريقه ، لصيرورته لغيره فأشبه انتقاله للوارث بالموت ، واحتمل أن ينقض البيع والهبة ويحرق ، لأنّه تعلّق به حقّ سابق على البيع والهبة ، فوجب تقديمه كالقصاص في حقّ الجاني .
39 - وما لا يحرق للغالّ بالاتّفاق المصحف ، والحيوان أمّا المصحف فلا يحرق ، لحرمته ، ولما تقدّم من قول سالم فيه . وإن كان مع الغالّ شيء من كتب الحديث أو العلم فينبغي ألاّ تحرق أيضاً ؛ لأنّ نفع ذلك يعود إلى الدّين ، وليس المقصود الإضرار به في دينه ، وإنّما القصد الإضرار به في شيء من دنياه ، ويحتمل أن يباع المصحف ويتصدّق به لقول سالم فيه .
40 - أمّا الحيوان فلا يحرق ولنهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعذّب بالنّار إلاّ ربّها ؛ ولحرمة الحيوان في نفسه ؛ ولأنّه لا يدخل في اسم المتاع المأمور بإحراقه . 41 - ولا تحرق ثياب الغالّ الّتي عليه ؛ لأنّه لا يجوز تركه عرياناً ، ولا سلاحه ؛ ؛ لأنّه يحتاج للقتال ، ولا نفقته ؛ لأنّ ذلك ممّا لا يحرق عادةً وللاحتياج إلى الإنفاق . 42 - ولا يحرق المال المغلول ؛ لأنّ ما غلّ من غنيمة المسلمين ، والقصد الإضرار بالغالّ في ماله وقيل لأحمد : أيّ شيء يصنع بالمال الّذي أصابه في الغلول ؟ قال : يرفع إلى الغنم . 43 - واختلف في آلة الدّابّة ، فنصّ أحمد على أنّها لا تحرق ؛ لأنّه يحتاج إليها للانتفاع بها ، ولأنّها تابعة لما لا يحرق فأشبه جلد المصحف وكيسه ؛ ولأنّها ملبوس حيوان ، فلا يحرق ، كثياب الغالّ . وقال الأوزاعيّ : يحرق سرجه وإكافه .
ملكيّة ما لم يحرق :
44 - جميع ما ذكر ممّا لم يحرق ، وكذلك ما بقي بعد الإحراق . من حديد أو غيره وهو لصاحبه ؛ لأنّ ملكه كان ثابتاً عليه ، ولم يوجد ما يزيله ، وإنّما عوقب الغالّ بإحراق متاعه ، فما لم يحرق يبقى على ما كان عليه .
إحرام الفصل الأوّل
التّعريف
1 - من معاني الإحرام في اللّغة : الإهلال بحجّ أو عمرة ومباشرة أسبابها ، والدّخول في الحرمة . يقال : أحرم الرّجل إذا دخل في الشّهر الحرام ، وأحرم : دخل في الحرم ، ومنه حرم مكّة ، وحرم المدينة ، وأحرم : دخل في حرمة عهد أو ميثاق . والحرم - بضمّ الحاء وسكون الرّاء - : الإحرام بالحجّ أيضاً ، وبالكسر : الرّجل المحرم ، يقال أنت حلّ ، وأنت حرم . والإحرام في اصطلاح الفقهاء يراد به عند الإطلاق الإحرام بالحجّ ، أو العمرة . وقد يطلق على الدّخول في الصّلاة ويستعملون مادّته مقرونةً بالتّكبيرة الأولى ، فيقولون : « تكبيرة الإحرام " ويسمّونها " التّحريمة " وتفصيل ذلك في مصطلح ( صلاة ) . ويطلق فقهاء الشّافعيّة الإحرام على الدّخول في النّسك ، وبه فسّروا قول النّوويّ في المنهاج : « باب الإحرام » . تعريف الحنفيّة للإحرام :
2 - الإحرام عند الحنفيّة هو الدّخول في حرمات مخصوصة غير أنّه لا يتحقّق شرعاً إلاّ بالنّيّة مع الذّكر أو الخصوصيّة . والمراد بالدّخول في حرمات : التزام الحرمات ، والمراد بالذّكر التّلبية ونحوها ممّا فيه تعظيم اللّه تعالى . والمراد بالخصوصيّة : ما يقوم مقامها من سوق الهدي ، أو تقليد البدن . تعريف المذاهب الثّلاثة للإحرام :
3 - أمّا تعريف الإحرام عند المذاهب الثّلاثة : المالكيّة - على الرّاجح عندهم - والشّافعيّة والحنابلة فهو : نيّة الدّخول في حرمات الحجّ والعمرة .
حكم الإحرام :
4 - أجمع العلماء على أنّ الإحرام من فرائض النّسك ، حجّاً كان أو عمرةً ، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّما الأعمال بالنّيّات » متّفق عليه لكن اختلفوا فيه أمن الأركان هو أم من الشّروط . فمذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الإحرام ركن للنّسك . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الإحرام شرط من شروط صحّة الحجّ ، غير أنّه عند الحنفيّة شرط من وجه ، ركن من وجه أو " هو شرط ابتداءً ، وله حكم الرّكن انتهاءً » . ويتفرّع على كون الإحرام شرطاً عند الحنفيّة وكونه يشبه الرّكن فروع . منها :
1 - أجاز الحنفيّة الإحرام بالحجّ قبل أشهر الحجّ ، مع الكراهة ، لكون الإحرام شرطاً عندهم ، فجاز تقديمه على الوقت .
2 - لو أحرم المتمتّع بالعمرة قبل أشهر الحجّ ، وأتى بأفعالها ، أو بركنها ، أو أكثر الرّكن - يعني أربعة أشواط من الطّواف - في أشهر الحجّ يكون متمتّعاً عند الحنفيّة .
3 - تفرّع على شبه الإحرام بالرّكن عند الحنفيّة أنّه لو أحرم الصّبيّ ، ثمّ بلغ بعدما أحرم ، فإنّه إذا مضى في إحرامه لم يجزه عن حجّة الإسلام . لكن لو جدّد الإحرام قبل الوقوف ونوى حجّة الإسلام ، جاز عن حجّة الإسلام عند الحنفيّة اعتباراً لشبه الرّكن في هذه الصّورة احتياطاً في العبادة .
حكمة تشريع الإحرام :
5 - فرضيّة الإحرام للنّسك لها حكم جليلة ، وأسرار ومقاصد تشريعيّة كثيرة ، أهمّها : استشعار تعظيم اللّه تعالى وتلبية أمره بأداء النّسك الّذي يريده المحرم ، وأنّ صاحبه يريد أن يحقّق به التّعبّد والامتثال للّه تعالى .
شروط الإحرام :
6 - يشترط الفقهاء لصحّة الإحرام : الإسلام والنّيّة . وزاد الحنفيّة ، وهو المرجوح عند المالكيّة ، اشتراط التّلبية أو ما يقوم مقامها .
7 - وقد اتّفقوا على أنّه لا يشترط في النّيّة للنّسك الفرض تعيين أنّه فرض في النّيّة ، ولو أطلق النّيّة ولم يكن قد حجّ حجّة الفرض يقع عنها اتّفاقاً . بخلاف ما لو نوى ، حجّة نفل فالمذهب المعتمد عند الحنفيّة وهو مذهب المالكيّة أنّه يقع عمّا نوى . وبهذا قال سفيان الثّوريّ وابن المنذر ، وهو رواية عن الإمام أحمد . وأمّا الشّافعيّة والحنابلة فقالوا : إن أحرم بتطوّع أو نذر من لم يحجّ حجّة الإسلام وقع عن حجّة الإسلام . وبهذا قال ابن عمر وأنس . وقالوا : من حجّ عن غيره ولم يكن حجّ عن نفسه ، ردّ ما أخذ ، وكانت الحجّة عن نفسه ، وبهذا قال الأوزاعيّ . استدلّ الحنفيّة ومن معهم : « بأنّ المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل ، فإن كان عليه حجّة الإسلام يقع عنها استحساناً ، في ظاهر المذهب أي إذا أطلق ولم يعيّن » . وجه الاستحسان : « أنّ الظّاهر من حال من عليه حجّة الإسلام أنّه لا يريد بإحرام الحجّ حجّة التّطوّع ، ويبقي نفسه في عهدة الفرض ، فيحمل على حجّة الإسلام ، بدلالة حاله ، فكان الإطلاق فيه تعييناً ، كما في صوم رمضان » . وقالوا في اعتباره عمّا نواه من غير الفرض : « إنّما أوقعناه عن الفرض عند إطلاق النّيّة بدلالة حاله ، والدّلالة لا تعمل مع النّصّ بخلافه » . ويشهد لهم نصّ الحديث المشهور الصّحيح : « وإنّما لكلّ امرئ ما نوى » واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول : لبّيك عن شبرمة . قال : من شبرمة ؟ قال : أخ لي ، أو قريب لي . قال : حججت عن نفسك ؟ قال : لا . قال : حجّ عن نفسك ، ثمّ حجّ عن شبرمة » . أخرجه أبو داود وابن ماجه وغيرهما . وفي رواية : « اجعل هذه عن نفسك . . . » فاستدلّوا بها . وقد صحّح النّوويّ أسانيده ، وتكلّم فيه غيره ، فرجّح إرساله ، ووقفه . واستدلّوا بحديث ابن عبّاس أيضاً : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا صرورة في الإسلام » أخرجه أحمد وأبو داود واختلف في صحّته كذلك . قال الخطّابيّ في معالم السّنن : « وقد يستدلّ به من يزعم أنّ الصّرورة لا يجوز له أن يحجّ عن غيره . وتقدير الكلام عنده : أنّ الصّرورة إذا شرع في الحجّ عن غيره صار الحجّ عنه ، وانقلب عن فرضه ، ليحصل معنى النّفي ، فلا يكون صرورةً ، وهذا مذهب الأوزاعيّ والشّافعيّ وأحمد وإسحاق . . . » . واستدلّوا من المعقول : « أنّ النّفل والنّذر أضعف من حجّة الإسلام ، فلا يجوز تقديمهما عليها ، كحجّ غيره على حجّه » . وبقياس النّفل والنّذر على من أحرم عن غيره وعليه فرضه .
التّلبية :
8 - التّلبية لغةً إجابة المنادي . والمراد بالتّلبية هنا : قول المحرم : « لبّيك اللّهمّ لبّيك ... » ، أي إجابتي لك يا ربّ . ولم يستعمل " لبّيك " إلاّ على لفظ التّثنية . والمراد بها التّكثير . والمعنى : أجبتك إجابةً بعد إجابة ، إلى ما لا نهاية . حكم التّلبية :
9 - التّلبية شرط في الإحرام عند أبي حنيفة ومحمّد وابن حبيب من المالكيّة ، لا يصحّ الإحرام بمجرّد النّيّة ، حتّى يقرنها بالتّلبية أو ما يقوم مقامها ممّا يدلّ على التّعظيم من ذكر ودعاء أو سوق الهدي . فإذا نوى النّسك الّذي يريده من حجّ أو عمرة أو هما معاً ولبّى فقد أحرم ، ولزمه كلّ أحكام الإحرام الآتية ، وأن يمضي ، في أداء ما أحرم به . والمعتمد عندهم " أنّه يصير محرماً بالنّيّة لكن عند التّلبية ، كما يصير شارعاً في الصّلاة بالنّيّة ، لكن بشرط التّكبير ، لا بالتّكبير » . وقد نقل هذا المذهب عن عبد اللّه بن مسعود ، وابن عمر ، وعائشة ، وإبراهيم النّخعيّ ، وطاوس ومجاهد ، وعطاء بل ادّعى فيه اتّفاق السّلف . وذهب غيرهم إلى أنّ التّلبية لا تشترط في الإحرام ، فإذا نوى فقد أحرم بمجرّد النّيّة ، ولزمته أحكام الإحرام الآتية ، والمضيّ في أداء ما أحرم به . ثمّ اختلفوا : فقال المالكيّة : هي واجبة في الأصل ، والسّنّة قرنها بالإحرام . ويلزم الدّم بطول فصلها عن النّيّة . ولو رجع ولبّى لا يسقط عنه الدّم . وسواء أكان التّرك أو طول الفصل عمداً أم نسياناً . وذهب الشّافعيّة والحنابلة - وهو منقول عن أبي يوسف - إلى أنّ التّلبية سنّة في الإحرام مطلقاً .
المقدار الواجب من لفظ التّلبية :
10 - الصّيغة الّتي أوردها الفقهاء للتّلبية : هي : « لبّيك اللّهمّ لبّيك . لبّيك لا شريك لك لبّيك . إنّ الحمد والنّعمة لك والملك . لا شريك لك » . هذه الصّبغة الّتي لزمها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع ، ولم يزد عليها والّذي يحصل به أداء التّلبية في الإحرام عند الحنفيّة هو ما يحصل به التّعظيم . فإنّ المشروط على الحقيقة عند الحنفيّة أن تقترن النّيّة " بذكر يقصد به التّعظيم ، كتسبيح ، وتهليل " ولو مشوباً بالدّعاء » .
النّطق بالتّلبية :
11 - يشترط لأداء التّلبية أن تلفظ باللّسان ، فلو ذكرها بقلبه لم يعتدّ بها عند من يقول إنّها شرط ، ومن يقول إنّها واجب ، ومن يقول إنّها سنّة . وتفرّع على ذلك عند الحنفيّة فرعان :
12 - الفرع الأوّل : لو كان لا يحسن العربيّة ، فنطق بالتّلبية بغير العربيّة ، أجزأه اتّفاقاً . أمّا لو كان يحسن العربيّة ، فنطق بها بغير العربيّة ، فلا يجزئه عند الجمهور ، خلافاً للحنفيّة في ظاهر المذهب . ودليلهم أنّه ذكر مشروع ، فلا يشرع بغير العربيّة ، كالأذان والأذكار المشروعة في الصّلاة . ودليل الحنفيّة أنّه ذكر مقصود به التّعظيم ، فإذا حصل هذا المقصود أجزأه ، ولو بغير العربيّة .
13 - الفرع الثّاني في الأخرس : الأصحّ أنّه عند الحنفيّة يستحبّ له تحريك لسانه بالتّلبية مع النّيّة ، ولا يجب . وقيل : يجب تحريك لسانه ، فإنّه نصّ الإمام محمّد على أنّه شرط . وعلى هذا " فينبغي " ألاّ يلزمه في الحجّ بالأولى ، فإنّ باب الحجّ أوسع ، مع أنّ القراءة فرض قطعيّ متّفق عليه ، والتّلبية أمر ظنّيّ مختلف فيه .
وقت التّلبية :
14 - الأفضل عند الحنفيّة والحنابلة أن يلبّي بنيّة الحجّ أو العمرة أو نيّتهما معاً عقب صلاته ركعتين سنّة الإحرام ، وبعد نيّة النّسك . وإن لبّى بعدما استوت به راحلته أو ركوبته جاز ، إلى أن يبلغ نهاية الميقات ، فإذا جاوز الميقات ولم يلبّ بنيّة النّسك صار مجاوزاً للميقات بغير إحرام عند الحنفيّة ، ولزمه ما يلزم ذاك عندهم . وعند الجمهور يستحبّ البدء بالتّلبية إذا ركب راحلته ، واستوت به ، لكن يلزمه الدّم عند المالكيّة إن تركها أو أخّرها حتّى طال الفصل بين الإحرام والتّلبية كما تقدّم ( ف 9 ) . ولا يلزمه شيء عند الشّافعيّة والحنابلة لقولهم إنّ التّلبية سنّة .
ما يقوم مقام التّلبية :
15 - يقوم مقام التّلبية عند الحنفيّة لصحّة الإحرام أمران : الأوّل : كلّ ذكر فيه تعظيم للّه تعالى ، كالتّسبيح ، والتّحميد ، والتّكبير ، ولو بغير اللّغة العربيّة ، كما سبق بيانه ( ف 10 ) الثّاني : تقليد الهدي وسوقه والتّوجّه معه . والهدي يشمل الإبل والبقر والغنم . لكن يستثنى من التّقليد الغنم ، لعدم سنّيّة تقليد الغنم عند الحنفيّة . ( ر : هدي ) والتّقليد هو أن يربط في عنق البدنة أو البقرة علامةً على أنّه هدي .
شروط إقامة تقليد الهدي وسوقه مقام التّلبية
16 - يشترط :
1 - النّيّة .
2 - سوق البدنة والتّوجّه معها .
3 - يشترط - إن بعث بها ولم يتوجّه معها - أن يدركها قبل الميقات ويسوقها ، إلاّ إذا كان بعثها لنسك متعة أو قران ، وكان التّقليد في أشهر الحجّ ، فإنّه يصير محرماً إذا توجّه بنيّة الإحرام وإن لم يلحقها ، استحساناً .
الفصل الثّاني
حالات الإحرام من حيث إبهام النّيّة وإطلاقها
إبهام الإحرام
تعريفه :
17 - هو أن ينوي مطلق نسك من غير تعيين ، كأن يقول : أحرمت للّه ، ثمّ يلبّي ، ولا يعيّن حجّاً أو عمرةً ، أو يقول : نويت الإحرام للّه تعالى ، لبّيك اللّهمّ . . ، أو ينوي الدّخول في حرمات نسك ، ولم يعيّن شيئاً . فهذا الإحرام صحيح باتّفاق المذاهب . ويترتّب عليه كلّ أحكام الإحرام ، وعليه اجتناب جميع محظوراته ، كالإحرام المعيّن ويسمّى هذا إحراماً مبهماً ، ويسمّونه أيضاً إحراماً مطلقاً .
تعيين النّسك :
18 - ثمّ على هذا المحرم التّعيين قبل أن يشرع في أفعال أحدهما ، وله أن يجعله للعمرة ، أو للحجّ ، أو لهما معاً حسبما يشاء . وترجع الأفضليّة فيما يختاره ويعيّنه إلى خلاف المذاهب في أيّ أوجه الإحرام أفضل : القران ، أو التّمتّع ، أو الإفراد ، وإلى حكم الإحرام بالحجّ قبل أشهر الحجّ ، إن وقع هذا الإحرام قبل أشهر الحجّ ، وأراد التّعيين قبلها . واختلفوا في كيفيّة التّعيين . فقال الحنفيّة : إن عيّن ما يريده قبل الطّواف فالعبرة لهذا التّعيين ، وإن لم يعيّن ثمّ طاف بالبيت للعمرة ، أو مطلقاً بغير تعيين ولو شوطاً ، جعل إحرامه للعمرة ، فيتمّ مناسك العمرة ، ثمّ يحرم بالحجّ ويصير متمتّعاً . وعلّة جعله للعمرة " أنّ الطّواف ركن في العمرة ، وطواف القدوم في الحجّ ليس بركن ، بل هو سنّة ، فإيقاعه عن الرّكن أولى ، وتتعيّن العمرة بفعله كما تتعيّن بقصده » . أمّا إن لم يعيّن ، ولم يطف بالبيت ، بل وقف بعرفة قبل أن يطوف ، فينصرف إحرامه للحجّ . وإن لم يقصد الحجّ في وقوفه ، فإنّه ينصرف إلى الحجّ شرعاً ، وعليه أن يتمّم مناسك الحجّ . هذا معتمد مذهب الحنفيّة . ومذهب المالكيّة ، وهو رواية عن أبي يوسف ومحمّد ، أنّه لا يفعل شيئاً إلاّ بعد التّعيين ، فإن طاف قبل أن يصرف إحرامه لشيء - سواء أكان أحرم في أشهر الحجّ أم لا - وجب صرفه للحجّ مفرداً ، ويكون هذا الطّواف الواقع قبل الصّرف والتّعيين طواف القدوم ، وهو ليس ركناً من أركان الحجّ فلا يضرّ وقوعه قبل الصّرف . ولا يصحّ صرف ذلك الإحرام لعمرة بعد الطّواف ؛ لأنّ الطّواف ركن منها ، وقد وقع قبل تعيينها . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فيشترطون التّعيين قبل الشّروع بأيّ عمل من المناسك . فلو عمل شيئاً من أركان الحجّ أو العمرة قبل التّعيين ، لم يجزئه ، ولم يصحّ فعله .
الإحرام بإحرام الغير
19 - هو أن ينوي المحرم في إحرامه مثل ما أحرم به فلان ، بأن يكون قاصداً مرافقته ، أو الاقتداء به لعلمه وفضله ، فيقول : اللّهمّ إنّي أهلّ أو أحرم أو أنوي مثل ما أهلّ أو نوى فلان ، ويلبّي . فهذا الإحرام صحيح ، وينعقد على مثل ما أحرم به ذلك الشّخص عند الجمهور وظاهر مذهب المالكيّة . ودليلهم حديث عليّ رضي الله عنه « أنّه قدم من اليمن ووافى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : بم أهللت ؟ قال : بما أهلّ به النّبيّ صلى الله عليه وسلم . فقال : لولا أنّ معي الهدي لأحللت » . زاد في رواية : قال : « فأهد وأمكث حراماً كما أنت » .
الاشتراط في الإحرام
20 - الاشتراط في الإحرام أن يقول عند إحرامه : « إن حبسني حابس ، فمحلّي حيث حبستني » .
21 - ذهب الشّافعيّة إلى صحّة الاشتراط ، وأنّه يفيد إباحة التّحلّل من الإحرام عند وجود الحابس كالمرض ، فإذا لم يشترط لم يجز له التّحلّل ثمّ إن اشترط في التّحلّل أن يكون مع الهدي وجب الهدي ، وإن لم يشترط فلا هدي عليه . على تفاصيل تجدها في بحث الإحصار . وتوسّع الحنابلة فقالوا : يستحبّ لمن أحرم بنسك حجّ أو عمرة أن يشترط عند إحرامه . ويفيد هذا الشّرط عندهم شيئين : أحدهما : إذا عاقه عدوّ أو مرض أو غيرهما يجوز له التّحلّل . الثّاني : أنّه متى أحلّ بذلك فلا دم عليه ولا صوم ، سواء أكان المانع عدوّاً ، أو مرضاً ، أو غيرهما . وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى عدم صحّة الاشتراط ، وعدم إفادته للتّحلّل عند حصول المانع له ، بل يأخذ حاله حكم ذلك المانع ، على ما هو مقرّر في مبحث الإحصار ، استدلّ الشّافعيّة والحنابلة بحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزّبير ، فقالت : يا رسول اللّه إنّي أريد الحجّ وأنا شاكية ؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : حجّي واشترطي أنّ محلّي حيث حبستني » . متّفق عليه . واستدلّ الحنفيّة والمالكيّة بالآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } وفي المسألة تفصيل موطنه مصطلح ( إحصار ) .
إضافة الإحرام إلى الإحرام
أوّلاً : إضافة إحرام الحجّ إلى العمرة :
22 - وهو أن يحرم بالعمرة أوّلاً ، ثمّ بالحجّ قبل أن يطوف لها ، أو بعدما طاف قبل أن يتحلّل منها . وتتنوّع صور إضافة إحرام الحجّ إلى العمرة بحسب حال إضافته ، وبحسب حال المحرم ، وتأخذ كلّ صورة حكمها .
23 - وللحنفيّة تفصيل خاصّ في هذا ، لقولهم بكراهة القران للمكّيّ ، وأنّه إن فعله جاز وأساء ، وعليه دم جبر لإساءته هذه . كما أنّ للمذاهب الأخرى تفصيلاً بحسب آرائهم في مسائل من الإحرام وأوجه الإحرام . والتّفصيل عند الحنفيّة : أنّ المحرم إمّا أن يكون مكّيّاً أو آفاقيّاً . وأمّا بالنّسبة لحال إضافة الإحرام بالحجّ إلى العمرة فعلى وجوه .
24 - الوجه الأوّل : أن يدخل الحجّ على العمرة قبل أن يطوف للعمرة : أ - إن كان آفاقيّاً صحّ ذلك ، بلا كراهة ، وكان قارناً ، باتّفاق المذاهب . بل هو مستحبّ ، على ما صرّح به الحنفيّة ، لحمل فعله صلى الله عليه وسلم على ذلك ، على ما حقّقه ابن حزم وغيره ، وتبعه النّوويّ وغيره . وممّا يدلّ على جواز ذلك « حديث عائشة في حجّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وفيه قولها : وكنت ممّن أهلّ بعمرة فحضت قبل أن أدخل مكّة ، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض ، فشكوت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : دعي عمرتك ، وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهّلي بالحجّ . . . » . متّفق عليه . وعلّل المالكيّة صحّة إرداف الحجّ على العمرة بقولهم : « لقوّته وضعفها » .
ب - وإن كان مكّيّاً ( أو ميقاتيّاً ) فترتفض عمرته اتّفاقاً عند الحنفيّة ، وعليه دم الرّفض ؛ لأنّ الجمع بين النّسكين غير مشروع للمكّيّ عندهم ، " والنّزوع عن المعصية لازم " ويرفض العمرة هنا ؛ لأنّها أقلّ عملاً ، والحجّ أكثر عملاً . فكانت العمرة أخفّ مؤنةً من الحجّة ، فكان رفضها أيسر ، ولأنّ المعصية حصلت بسببها ؛ لأنّها هي الّتي دخلت في وقت الحجّ ، فكانت أولى بالرّفض . ويمضي حجّته . وعليه دم لرفض عمرته . وعليه قضاء العمرة » . أمّا غير الحنفيّة فحكم الآفاقيّ والمكّيّ عندهم سواء في صحّة الإحرامين وصيرورته قارناً ، تبعاً لمذهبهم في تجويز القران للمكّيّ على تفصيل يأتي . ( ف 30 ) لكن شرط المالكيّة والشّافعيّة أن تكون العمرة صحيحةً . وهذا شرط لصحّة الإرداف في جميع صوره عند المالكيّة ، وعند الحنفيّة شرط لصحّة القران فقط وزاد الشّافعيّة اشتراط أن يكون إدخال الحجّ عليها في أشهر الحجّ .
25 - الوجه الثّاني : أن يدخل الحجّ على العمرة بعد أن طاف شيئاً قليلاً ، على ألاّ يتجاوز أقلّ أشواط طواف العمرة ، أي ثلاثة أشواط فما دون ذلك . فمذهب الحنفيّة في ذلك : أ - إذا كان آفاقيّاً كان قارناً .
ب - وإن كان مكّيّاً ( أي ميقاتيّاً ) : وجب عليه رفض أحد النّسكين ، على التّحقيق في عبارات فقهاء الحنفيّة ، وإنّما اختلفوا في أيّ الرّفضين أولى : قال أبو حنيفة : يرفض الحجّ . وعليه لرفضه دم . وعليه حجّة وعمرة ؛ لأنّه مثل فائت الحجّ ، وحكم فائت الحجّ أنّه يتحلّل بعمرة ، ثمّ يأتي بالحجّ من قابل حتّى لو حجّ في سنته سقطت العمرة ؛ لأنّه حينئذ ليس في معنى فائت الحجّ ، بل كالمحصر ، إذا تحلّل ثمّ حجّ من تلك السّنة ، فإنّه حينئذ لا تجب عليه عمرة ، بخلاف ما إذا تحوّلت السّنة ، فإنّه تجب عليه العمرة مع حجّته . وقال أبو يوسف ومحمّد : رفض العمرة أحبّ إلينا ، ويقضيها دون عمرة أخرى ، وعليه دم للرّفض . وكذلك هو الحكم عند أبي حنيفة لو اختار هذا المحرم رفض العمرة . استدلّ أبو حنيفة على استحباب رفض الحجّ بأنّ " إحرام العمرة قد تأكّد بأداء شيء من أعمالها ، وإحرام الحجّ لم يتأكّد ، ورفض غير المتأكّد أيسر . ولأنّ في رفض العمرة - والحالة هذه - إبطال العمل ، وفي رفض الحجّ امتناع عنه " والامتناع أولى من الإبطال ، واستدلّ الصّاحبان على أنّ رفض العمرة أولى : « بأنّها أدنى حالاً وأقلّ أعمالاً ، وأيسر قضاءً ، لكونها غير مؤقّتة » . وقال المالكيّة والحنابلة : يصحّ هذا الإرداف . ويصير قارناً ، ويتابع على ذلك . وتندرج العمرة في الحجّ . أمّا الشّافعيّة - وهو قول أشهب من المالكيّة - فقالوا : يصحّ إدخال الحجّة على العمرة قبل الشّروع في الطّواف ، فلو شرع في الطّواف ولو بخطوة فإنّه لا يصحّ إحرامه بالحجّ . واستدلّوا على ذلك : بأنّه " لاتّصال إحرامها بمقصوده ، وهو أعظم أفعالها ، فلا ينصرف بعد ذلك إلى غيرها » . لكن الشّافعيّة قرّروا أنّه " لو استلم الحجر بنيّة الطّواف فالأوجه جواز الإدخال ، إذ الاستلام مقدّمة الطّواف لا بعضه » .
26 - الوجه الثّالث : أن يدخل الحجّ على العمرة بعد أن يطوف أكثر أشواط طواف العمرة . فهذا حكمه عند الحنفيّة حكم ما لو أكمل الطّواف الآتي في الوجه الرّابع التّالي ؛ لأنّ للأكثر حكم الكلّ عندهم . وعند الجمهور حكمه حكم الوجه الثّاني السّابق .
27 - الوجه الرّابع : أن يدخل الحجّ على العمرة بعد إكمال طواف العمرة قبل التّحلّل . مذهب الحنفيّة التّفصيل المتقدّم في الوجه الثّاني . وفصّل المالكيّة تفصيلاً آخر فقالوا : أ - إرداف الحجّ على العمرة بعد طوافها قبل ركعتي الطّواف مكروه . فإن فعله صحّ ، ولزمه ، وصار قارناً ، وعليه دم القران .
ب - إرداف الحجّ على العمرة بعد أن طاف وصلّى ركعتي الطّواف قبل السّعي مكروه ، ولا يصحّ ، ولا يكون قارناً . وكذلك الإرداف في السّعي ، إن سعى بعض السّعي وأردف الحجّ على العمرة كره له ذلك . فإن فعل فليمض على سعيه ، فيحلّ ، ثمّ يستأنف الحجّ ، سواء أكان من أهل مكّة أم غيرها . وحيث إنّ الإرداف لم يصحّ بعد الرّكوع وقبل السّعي أو في أثنائه فلا يلزم قضاء الإحرام الّذي أردفه على المشهور .
ج - إرداف الحجّ على العمرة بعد السّعي للعمرة قبل الحلق لا يجوز الإقدام عليه ابتداءً ؛ لأنّه يستلزم تأخير الحلق . فإن أقدم على إرداف الإحرام في هذا الحال فإنّ إحرامه صحيح ، وهذا حجّ مستأنف . ويحرم عليه الحلق للعمرة ، لا خلاله بإحرام الحجّ ، ويلزمه هدي لتأخير حلق العمرة الّذي وجب عليه بسبب إحرامه بالحجّ ، ولا يكون قارناً ولا متمتّعاً ، إن أتمّ عمرته قبل أشهر الحجّ ، بل يكون مفرداً . وإن فعل بعض ركنها في وقت الحجّ يكون متمتّعاً . ولو قدّم الحلق بعد إحرامه بالحجّ وقبل فراغه من أعمال الحجّ فلا يفيده في سقوط الهدي ، ولا بدّ من الهدي ، وعليه حينئذ فدية أيضاً . وهي فدية إزالة الأذى عند المالكيّة . ومذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّه لا يصحّ إدخال الحجّ على العمرة بعد الطّواف ، لما ذكرنا من العلّة في الصّورة السّابقة . وبعد السّعي لا يصحّ ، من باب أولى . إلاّ أنّ الحنابلة استثنوا من كان معه هدي فقالوا : « يصحّ إدخال الحجّ على العمرة ممّن معه هدي ، ولو بعد سعيها ، بل يلزمه كما يأتي ؛ لأنّه مضطرّ إليه لقوله تعالى : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } ويصير قارناً على المذهب . وقال في الفروع ، وشرح المنتهى في موضع آخر : لا يصير قارناً ، ولو كان إدخال الحجّ على العمرة في غير أشهر الحجّ يصحّ على المذهب ، لصحّة الإحرام به قبلها عند الحنابلة .
ثانياً إضافة إحرام العمرة إلى الحجّ
28 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة - في الجديد وهو الأصحّ في المذهب - والحنابلة إلى أنّه لا يصحّ إحرامه بالعمرة بعدما أحرم بالحجّ . وعلى ذلك لا يصير قارناً ، ولا يلزمه دم القران ، ولا قضاء العمرة الّتي أهلّ بها . وبه قال إسحاق بن راهويه وأبو ثور وابن المنذر ، وصرّح الحنفيّة والمالكيّة بكراهة هذا العمل ، لكن قال الحنفيّة بصحّة الإحرام على تفصيل نذكره .
ثالثاً الإحرام بحجّتين معاً أو عمرتين معاً
29 - إن أحرم بحجّتين أو عمرتين انعقد بإحداهما ولغت الأخرى . وهذا مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ؛ لأنّهما عبادتان لا يلزمه المضيّ فيهما ، فلم يصحّ الإحرام بهما . وعلى هذا لو أفسد حجّه أو عمرته لم يلزمه إلاّ قضاؤها . ومذهب أبي حنيفة أنّ الإحرام ينعقد بهما ، وعليه قضاء إحداهما ؛ لأنّه أحرم بها ولم يتمّها . وفي الموضوع تفصيلات وفروع لا حاجة إلى إيرادها هنا لندرة وقوعها . الفصل الرّابع
حالات الإحرام
30 - ينقسم الإحرام بحسب ما يقصد المحرم أداءه به من النّسك إلى ثلاثة أقسام : الإفراد للحجّ أو العمرة أو الجمع بين النّسكين ، وهو إمّا تمتّع أو قران . الإفراد : هو اصطلاحاً : أن يهلّ - أي ينوي - في إحرامه الحجّ فقط ، أو العمرة فقط . القران : القران عند الحنفيّة : هو أن يجمع الآفاقيّ بين الحجّ والعمرة متّصلاً أو منفصلاً قبل أكثر طواف العمرة ، ولو من مكّة ، ويؤدّي العمرة في أشهر الحجّ . وعند المالكيّة : أن يحرم بالحجّ والعمرة معاً ، بنيّة واحدة ، أو نيّتين مرتّبتين يبدأ فيهما بالعمرة ، أو يحرم بالعمرة ويردف الحجّ عليها قبل طوافها أو بطوافها . وعند الشّافعيّة : القران أن يحرم بالعمرة والحجّ جميعاً ، أو يحرم بعمرة في أشهر الحجّ ثمّ يدخل الحجّ عليها قبل الطّواف . ومثل ذلك عند الحنابلة إلاّ أنّهم لم يشترطوا الإحرام في أشهر الحجّ . التّمتّع : التّمتّع عند الحنفيّة : هو التّرفّق بأداء النّسكين في أشهر الحجّ في سنة واحدة ، من غير إلمام بينهما بأهله إلماماً صحيحاً . والإلمام الصّحيح : هو الّذي يكون في حالة تحلّله من عمرته ، وقبل شروعه في حجّته . وعند المالكيّة : التّمتّع هو أن يحرم بعمرة ، ثمّ يحلّ منها في أشهر الحجّ ، ثمّ يحجّ بعدها . وعند الشّافعيّة : أن يحرم بالعمرة من ميقات بلده ويفرغ منها ثمّ ينشئ حجّاً . وعند الحنابلة : أن يحرم بعمرة في أشهر الحجّ ثمّ يحرم بالحجّ من أين شاء بعد فراغه منها .
واجبات الإحرام :
31 - تنحصر واجبات الإحرام في أمرين أساسيّين : الأوّل : كون الإحرام من الميقات . الثّاني : صون الإحرام عن المحظورات . وتفصيل ذلك فيما يلي : الفصل الرّابع
مواقيت الإحرام
32 - الميقات : من التّوقيت ، وهو : أن يجعل للشّيء وقت يختصّ به ، ثمّ اتّسع فيه فأطلق على المكان . ويطلق على الحدّ المحدّد للشّيء . وفي الاصطلاح : عرّفوا المواقيت بأنّها : « مواضع وأزمنة معيّنة لعبادة مخصوصة » . ومنه يعلم أنّ للإحرام نوعين من الميقات :
النّوع الأوّل : الميقات الزّمانيّ .
النّوع الثّاني : الميقات المكانيّ . الميقات الزّمانيّ إمّا أن يكون ميقاتاً للإحرام بالحجّ ، أو للإحرام بالعمرة .
فينقسم قسمين :
أوّلاً : الميقات الزّمانيّ للإحرام بالحجّ :
33 - ذهب الأئمّة الثّلاثة أبو حنيفة والشّافعيّ وأحمد وأصحابهم إلى أنّ وقت الإحرام بالحجّ شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجّة . وهو مذهب جمهور الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم . وذهب مالك إلى أنّ وقت الحجّ شوّال وذو القعدة وشهر ذي الحجّة إلى آخره . وليس المراد أنّ جميع هذا الزّمن الّذي ذكروه وقت لجواز الإحرام ، بل المراد أنّ بعض هذا الزّمن وقت لجواز ابتداء الإحرام ، وهو من شوّال لطلوع فجر يوم النّحر ، وبعضه وقت لجواز التّحلّل ، وهو من فجر يوم النّحر لآخر ذي الحجّة . وعلى هذا فالميقات الزّمانيّ بالنّسبة للإحرام متّفق عليه ، إنّما مرتّب على مذهب المالكيّة جواز تأخير الإحلال إلى آخر ذي الحجّة ، كما سيأتي . وهذا الّذي ذهب إليه المالكيّة " قد حكي أيضاً عن طاوس ، ومجاهد ، وعروة بن الزّبير ، والرّبيع بن أنس ، وقتادة » . والأصل للفريقين قوله تعالى : { الحجّ أشهر معلومات فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ } فالجمهور فسّروا الآية بأنّ المراد شهران وبعض الثّالث . واستدلّوا بالآثار عن الصّحابة . كما يدلّ لهم أنّ أركان الحجّ تؤدّى خلال تلك الفترة . وأمّا المالكيّة فدليلهم واضح ، وهو ظاهر الآية ؛ لأنّها عبّرت بالجمع " أشهر " وأقلّ الجمع ثلاث ، فلا بدّ من دخول ذي الحجّة بكماله . ثمّ اختلف الجمهور في نهار يوم النّحر هل هو من أشهر الحجّ أو لا . فقال الحنفيّة والحنابلة : هو من أشهر الحجّ . وقال الشّافعيّة : آخر أشهر الحجّ ليلة يوم النّحر . وهو مرويّ عن أبي يوسف . وفي وجه عند الشّافعيّة في ليلة النّحر أنّها ليست من أشهر الحجّ . والأوّل هو الصّحيح المشهور . استدلّ الحنفيّة والحنابلة بحديث ابن عمر « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النّحر بين الجمرات في الحجّة الّتي حجّ فقال : أيّ يوم هذا ؟ قالوا : يوم النّحر . قال : هذا يوم الحجّ الأكبر » أخرجه أبو داود وابن ماجه . قالوا : ولا يجوز أن يكون يوم الحجّ الأكبر ليس من أشهره . ويشهد له حديث بعث أبي بكر أبا هريرة يؤذّن في النّاس يوم النّحر أن لا يحجّ بعد العام مشرك ، فإنّه امتثال لقوله تعالى : { وأذان من اللّه ورسوله إلى النّاس يوم الحجّ الأكبر . . . } والحديث متّفق عليه . واحتجّوا بالدّليل المعقول ؛ لأنّ يوم النّحر فيه ركن الحجّ ، وهو طواف الزّيارة ، وفيه كثير من أفعال الحجّ ، منها : رمي جمرة العقبة ، والنّحر ، والحلق ، والطّواف ، والسّعي ، والرّجوع إلى منًى . ومستبعد " أن يوضع لأداء ركن عبادة وقت ليس وقتها ، ولا هو منه " واستدلّ الشّافعيّة برواية نافع عن ابن عمر أنّه قال : « أشهر الحجّ شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجّة " أي عشر ليال . وعن ابن مسعود وابن عبّاس وابن الزّبير مثله . رواها كلّها البيهقيّ ، وصحّح الرّواية عن ابن عبّاس . ورواية ابن عمر صحيحة .
أحكام الميقات الزّمانيّ للحجّ :
34 - أ - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه يصحّ الإحرام بالحجّ قبل أشهر الحجّ ، وينعقد حجّاً ، لكن مع الكراهة . وهو قول إبراهيم النّخعيّ ، وسفيان الثّوريّ ، وإسحاق بن راهويه ، واللّيث بن سعد . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا ينعقد الإحرام بالحجّ قبل أشهره ، فلو أحرم به قبل هلال شوّال لم ينعقد حجّاً ، وانعقد عمرةً على الصّحيح عندهم . وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد وأبو ثور .
35 - والأصل في المسألة قوله تعالى : { الحجّ أشهر معلومات } وقد تنازع الفريقان الاستدلال بها ، وأيّد كلّ فريق وجهته بدلائل أخرى . وهو خلاف وقع بين أهل العربيّة أيضاً . استدلّ الثّلاثة بأنّ معنى الآية : الحجّ ( حجّ ) أشهر معلومات ، فعلى هذا التّقدير يكون الإحرام بالحجّ فيها أكمل من الإحرام به فيما عداها ، وإن كان ذاك صحيحاً ؛ ولأنّه أحد نسكي القران ، فجاز الإحرام به في جميع السّنة كالعمرة ، أو : أحد الميقاتين ، فصحّ الإحرام قبله ، كميقات المكان . ووجّه الحنفيّة المسألة بناءً على مذهبهم بأنّه شرط عندهم ، فأشبه الطّهارة في جواز التّقديم على الوقت ، وثبتت الكراهة لشبهه بالرّكن . واستدلّ الشّافعيّة بقوله تعالى : { الحجّ أشهر معلومات } . ووجه الاستدلال أنّ ظاهره التّقدير الآخر الّذي ذهب إليه النّحاة ، وهو ( وقت الحجّ أشهر معلومات ) فخصّصه بها من بين سائر شهور السّنة ، فدلّ على أنّه لا يصحّ قبلها ، كميقات الصّلاة . واستدلّوا من المعقول : بأنّ الإحرام نسك من مناسك الحجّ ، فكان مؤقّتاً ، كالوقوف والطّواف .
36 - اتّفقوا بعد هذا على أنّه لو فعل أيّ شيء من أفعال الحجّ قبل أشهر الحجّ لم يجزه ، حتّى لو صام المتمتّع أو القارن ثلاثة أيّام قبل أشهر الحجّ لا يجوز ، وكذا السّعي بين الصّفا والمروة عقب طواف القدوم لا يقع عن سعي الحجّ إلاّ فيها .
ثانياً : الميقات الزّمانيّ للإحرام بالعمرة :
37 - اتّفقوا على أنّ ميقات العمرة الزّمانيّ هو جميع العام ، فيصحّ أن تفعل في جميع السّنة ، وينعقد إحرامها ، وذلك لعدم المخصّص لها بوقت دون وقت . وكذلك قرّروا أنّها أفضل في شهر رمضان منها في غيره . وعبّر الحنفيّة بقولهم : « تندب في رمضان " ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « عمرة في رمضان تقضي حجّةً » . متّفق عليه .
38 - ثمّ اختلفوا في أوقات يكره فيها الإحرام بالعمرة أو لا يكره . وهي : أ - يوم عرفة ويوم النّحر وأيّام التّشريق : ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى عدم الكراهة فيها ، لكن قال الرّمليّ الشّافعيّ : « وهي في يوم عرفة والعيد وأيّام التّشريق ليست كفضلها في غيرها ؛ لأنّ الأفضل فعل الحجّ فيها » . واستدلّوا لعدم الكراهة بأنّ الأصل عدم الكراهة ، ولا دليل عليها . وذهب الحنفيّة إلى أنّ العمرة تكره تحريماً يوم عرفة وأربعة أيّام بعده ، حتّى يجب الدّم على من فعلها في ذلك عندهم . واستدلّوا بقول عائشة رضي الله عنها : حلّت العمرة في السّنة كلّها إلاّ أربعة أيّام : يوم عرفة ، ويوم النّحر ويومان بعد ذلك أخرجه البيهقيّ » . ولأنّ هذه الأيّام أيّام شغل بأداء الحجّ ، والعمرة فيها تشغلهم عن ذلك ، وربّما يقع الخلل فيه فتكره » .
ب - استثنى المالكيّة المحرم بالحجّ من سعة الوقت للإحرام بالعمرة ، فقالوا : الحاجّ وقت إحرامه بالعمرة من وقت تحلّله من الحجّ ، وذلك " بالفراغ من جميع أفعاله من طواف وسعي ورمي اليوم الرّابع ، أو قدر رميه لمن تعجّل فنفر في ثالث أيّام النّحر ، فإنّ هذا ينتظر إلى أن يمضي - بعد الزّوال من اليوم الرّابع - ما يسع الرّمي حتّى يبدأ وقت الإحرام له للعمرة » . وبناءً على ذلك قرّر المالكيّة : إن أحرم بالعمرة قبل ذلك الّذي ذكرناه لم ينعقد إحرامه ، وأنّه يكره الإحرام بالعمرة بعد التّحلّل بالفراغ من جميع أفعال الحجّ وقبل غروب شمس اليوم الرّابع .
الميقات المكانيّ
الميقات المكانيّ ينقسم قسمين :
ميقات مكانيّ للإحرام بالحجّ ، وميقات مكانيّ للإحرام بالعمرة .
أوّلاً : الميقات المكانيّ للإحرام بالحجّ :
39 - يختلف الميقات المكانيّ للإحرام بالحجّ باختلاف مواقع النّاس ، فإنّهما في حقّ المواقيت المكانيّة على أربعة أصناف ، وهي :
الصّنف الأوّل : الآفاقيّ .
الصّنف الثّاني : الميقاتيّ .
الصّنف الثّالث : الحرميّ .
الصّنف الرّابع : المكّيّ ، ويشترك مع الحرميّ في أكثر من وجه ، فيكونان مسألةً واحدةً . ثمّ صنف خامس : هو من تغيّر مكانه ، ما ميقاته ؟ .
ميقات الآفاقيّ : وهو من منزله خارج منطقة المواقيت .
40 - اتّفق العلماء على تقرير الأماكن الآتية مواقيت لأهل الآفاق المقابلة لها ، وهذه الأماكن هي : أ - ذو الحليفة : ميقات أهل المدينة ، ومن مرّ بها من غير أهلها . وتسمّى الآن " آبار عليّ " فيما اشتهر لدى العامّة .
ب - الجحفة : ميقات أهل الشّام ، ومن جاء من قبلها من مصر ، والمغرب . ويحرم الحجّاج من " رابغ " ، وتقع قبل الجحفة ، إلى جهة البحر ، فالمحرم من " رابغ " محرم قبل الميقات . وقد قيل إنّ الإحرام منها أحوط لعدم التّيقّن بمكان الجحفة .
ج - قرن المنازل : ويقال له " قرن " أيضاً ، ميقات أهل نجد ، و " قرن " جبل مطلّ على عرفات . وهو أقرب المواقيت إلى مكّة ، وتسمّى الآن " السّيل » .
د - يلملم : ميقات باقي أهل اليمن وتهامة ، والهند . وهو جبل من جبال تهامة ، جنوب مكّة .
هـ - ذات عرق : ميقات أهل العراق ، وسائر أهل المشرق . أدلّة تحديد مواقيت الآفاق :
41 - والدّليل على تحديدها مواقيت للإحرام السّنّة والإجماع : أ - أمّا السّنّة فأحاديث كثيرة نذكر منها هذين الحديثين : حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال « : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشّام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم . هنّ لهنّ ؛ ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ ، ممّن أراد الحجّ والعمرة . ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ، حتّى أهل مكّة من مكّة » . متّفق عليه . وحديث عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « يهلّ أهل المدينة من ذي الحليفة ، وأهل الشّام من الجحفة ، وأهل نجد من قرن . قال عبد اللّه - يعني ابن عمر - وبلغني أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : ويهلّ أهل اليمن من يلملم » . متّفق عليه فهذه نصوص في المواقيت عدا ذات عرق . وقد اختلف في دليل توقيت ذات عرق هل وقّت بالنّصّ أم بالاجتهاد والإجماع . فقال جماعة من العلماء ومنهم الشّافعيّ ومالك ثبت باجتهاد عمر رضي الله عنه وأقرّه الصّحابة ، فكان إجماعاً . وصحّح الحنفيّة والحنابلة وجمهور الشّافعيّة أنّ توقيت ذات عرق منصوص عليه من النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأنّ عمر رضي الله عنه لم يبلغه تحديد النّبيّ صلى الله عليه وسلم فحدّده باجتهاده فوافق النّصّ .
ب - وأمّا دلالة الإجماع على هذه المواقيت فقال النّوويّ في المجموع : « قال ابن المنذر وغيره : أجمع العلماء على هذه المواقيت » . وقال أبو عمر بن عبد البرّ : « أجمع أهل العلم على أنّ إحرام العراقيّ من ذات عرق إحرام من الميقات » .
أحكام تتعلّق بالمواقيت :
42 - منها : أ - وجوب الإحرام منها لمن مرّ بالميقات قاصداً أحد النّسكين ، الحجّ أو العمرة ، وتحريم تأخير الإحرام عنها بالإجماع . والإحرام من أوّل الميقات ، أي الطّرف الأبعد من مكّة أفضل ، حتّى لا يمرّ بشيء ممّا يسمّى ميقاتاً غير محرم . ولو أحرم من آخره أي الطّرف الأقرب إلى مكّة جاز اتّفاقاً ، لحصول الاسم .
43 - ب - من مرّ بالمواقيت يريد دخول الحرم لحاجة غير النّسك اختلف فيه : ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه يجب عليه الإحرام لدخول مكّة أو الحرم المعظّم المحيط بها ، وعليه العمرة إن لم يكن محرماً بالحجّ . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا قصد مكّة أو منطقة الحرم لحاجة لا للنّسك جاز له ألاّ يحرم . ( انظر الأدلّة وفروع المسألة في مصطلح « حرم » ) .
44 - ج - الاعتبار في هذه المواقيت بتلك المواضع ، لا باسم القرية والبناء . فلو خرب البناء في الميقات ونقلت عمارته إلى موضع آخر قريب منه وسمّي باسم الأوّل لم يتغيّر الحكم ، بل الاعتبار بموضع الأوّل .
45 - د - لا يشترط أن يحرم من هذه المواقيت بأعيانها ، بل يكفي أن يحرم منها بذاتها ، أو من حذوها ، أي محاذاتها ومقابلتها ، وذلك لما سبق في توقيت ذات عرق ، أنّ عمر رضي الله عنه أخذ في توقيتها بالمحاذاة ، وأقرّ على ذلك . فدلّ على اتّفاق الصّحابة على الأخذ بقاعدة المحاذاة .
فروع : تفرّع على ذلك :
46 - من سلك طريقاً ليس فيه ميقات معيّن ، برّاً أو بحراً أو جوّاً ، اجتهد وأحرم إذا حاذى ميقاتاً من هذه المواقيت المذكورة . وينبغي أن يأخذ بالاحتياط لئلاّ يجاوز الميقات غير محرم ، وخصوصاً راكب الطّائرة . 47 - إن لم يعلم المحاذاة فإنّه يحرم على مرحلتين من مكّة . اعتباراً بمسافة أقرب المواقيت ، فإنّه على بعد مرحلتين من مكّة . وعلى ذلك قرّروا أنّ جدّة تدخل في المواقيت ؛ لأنّها أقرب إلى مكّة من قرن المنازل 48 - وتفرّع على ذلك مسألة من يمرّ بميقاتين ، كالشّاميّ إذا قدم من المدينة ، والمدنيّ ، فإنّه إذا مرّ بالجحفة يمرّ بميقاتين فمن أيّ الميقاتين يحرم ؟ ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجب عليه أن يحرم من الميقات الأبعد ، كأهل الشّام ومصر والمغرب ، ميقاتهم الجحفة ، فإذا مرّوا بالمدينة وجب عليهم الإحرام من ذي الحليفة ميقات أهل المدينة ، وإذا جاوزوه غير محرمين حتّى الجحفة كان حكمهم حكم من جاوز الميقات من غير إحرام . وذهب المالكيّة إلى أنّ من يمرّ بميقاتين الثّاني منهما ميقاته ندب له الإحرام من الأوّل ، ولا يجب عليه الإحرام منه ؛ لأنّ ميقاته أمامه . وذهب الحنفيّة إلى أنّ من يمرّ بميقاتين فالأفضل له الإحرام من الأوّل ، ويكره له تأخيره إلى الثّاني الأقرب إلى مكّة . ولم يقيّدوه - في الأصحّ عندهم - بأن يكون الميقات الثّاني ميقاتاً له . استدلّ الشّافعيّة والحنابلة بحديث المواقيت ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « هنّ لهنّ ؛ ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ » ، فإنّ هذا بعمومه يدلّ على أنّ الشّاميّ مثلاً إذا أتى ذا الحليفة فهو ميقاته ، يجب عليه أن يحرم منه . ولا يجوز له أن يجاوزه غير محرم . واستدلّ المالكيّة والحنفيّة بعموم التّوقيت لأهل المناطق المذكورة ، إلى جانب العموم الّذي استدلّ به الشّافعيّة ، فيحصل من ذلك له جواز الأمرين . فأخذ الحنفيّة بالعموم على ظاهره في العبارتين ، وجوّزوا الإحرام من أيّ الميقاتين ، مع كراهة التّأخير ، ويدلّ لهم ما ثبت أنّ ابن عمر أهلّ من الفرع وهو موضع بين ذي الحليفة ومكّة . وخصّ المالكيّة ذلك بغير المدنيّ . ويشهد لهم فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم والصّحابة ، فإنّهم أحرموا من ذي الحليفة . وهو محمول عند الحنفيّة على فعل الأفضل . ويدلّ للحنفيّة والمالكيّة من جهة النّظر : أنّ المقصود من الميقات تعظيم الحرم المحترم ، وهو يحصل بأيّ ميقات اعتبره الشّرع المكرّم ، يستوي القريب والبعيد في هذا المعنى . 49 - التّقدّم بالإحرام على المواقيت المكانيّة جائز بالإجماع ، وإنّما حدّدت لمنع مجاوزتها بغير إحرام . لكن اختلف هل الأفضل التّقدّم عليها ، أو الإحرام منها : فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يكره له الإحرام قبل الميقات . وذهب الحنفيّة إلى أنّ تقديم الإحرام على الميقات المكانيّ أفضل ، إذا أمن على نفسه مخالفة أحكام الإحرام . استدلّ الأوّلون بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحرموا من الميقات ، ولا يفعلون إلاّ الأفضل . وبأنّه يشبّه الإحرام بالحجّ قبل أشهره ، فيكون مثله في الكراهة . واستدلّ الحنفيّة بما أخرج أبو داود وابن ماجه عن أمّ سلمة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من أهلّ من المسجد الأقصى بعمرة أو حجّة غفر له » . وسئل عليّ رضي الله عنه عن قوله تعالى : { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه } فقال : أن تحرم من دويرة أهلك أخرجه الحاكم وصحّحه . واستدلّوا من حيث النّظر بأنّ " المشقّة فيه أكثر ، والتّعظيم أوفر " فيكون أفضل .
50 - من جاوز الميقات قاصداً الحجّ أو العمرة أو القران ، وهو غير محرم ، أثم ، ويجب عليه العود إليه والإحرام منه . فإن لم يرجع وجب عليه الدّم سواء ترك العود بعذر أو بغير عذر ، وسواء كان عالماً عامداً أو جاهلاً أو ناسياً . لكن من ترك العود لعذر لا يأثم بترك الرّجوع . ومن العذر خوف فوات الوقوف بعرفة لضيق الوقت ، أو المرض الشّاقّ ، أو خوف فوات الرّفقة . وذلك موضع وفاق بين المذاهب .
ميقات الميقاتيّ ( البستانيّ ) :
51 - الميقاتيّ هو الّذي يسكن في مناطق المواقيت ، أو ما يحاذيها ، أو في مكان دونها إلى الحرم المحيط بمكّة كقديد ، وعسفان ، ومرّ الظّهران . مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ ميقات إحرام المكانيّ للحجّ هو موضعه ، إلاّ أنّ المالكيّة قالوا : « يحرم من داره ، أو من مسجده ، ولا يؤخّر ذلك » . والأحسن أن يحرم من أبعدهما من مكّة . وقال الشّافعيّة والحنابلة ميقاته القرية الّتي يسكنها ، إن كان قرويّاً ، أو المحلّة الّتي ينزلها إن كان بدويّاً ، فإن جاوز القرية وفارق العمران إلى مكّة ثمّ أحرم كان آثماً ، وعليه الدّم للإساءة ، فإن عاد إليها سقط الدّم ، على التّفصيل الّذي سبق ، وبيان المذاهب فيه . وكذا إذا جاوز الخيام إلى جهة مكّة غير محرم ، وإن كان في برّيّة منفرداً أحرم من منزله . ويستحبّ أن يحرم من طرف القرية أو المحلّة الأبعد عن مكّة ، وإن أحرم من الطّرف الأقرب جاز . ومذهب الحنفيّة أنّ ميقاته منطقة الحلّ أي جميع المسافة من الميقات إلى انتهاء الحلّ ، ولا يلزمه كفّارة ، ما لم يدخل أرض الحرم بلا إحرام . وإحرامه من دويرة أهله أفضل . استدلّ الجميع بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المواقيت : « ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ » ، فحمله المالكيّة على منزله ، وقالوا : إنّ المسجد واسع للإحرام " ؛ لأنّه موضع الصّلاة ؛ ولأنّ أهل مكّة يأتون المسجد فيحرمون منه ، وكذلك أهل ذي الحليفة يأتون مسجدهم » . وفسّره الشّافعيّة والحنابلة بالقرية والمحلّة الّتي يسكنها ؛ لأنّه أنشأ منها . وقال الحنفيّة : « إنّ خارج الحرم كلّه كمكان واحد في حقّ الميقاتيّ ، والحرم في حقّه كالميقات في حقّ الآفاقيّ ، فلا يدخل الحرم إذا أراد الحجّ أو العمرة إلاّ محرماً » .
ميقات الحرميّ والمكّيّ :
52 - أ - اتّفقت المذاهب على أنّ من كان من هذين الصّنفين ، بأن كان منزله في الحرم ، أو في مكّة ، سواء أكان مستوطناً ، أم نازلاً ، فإنّه يحرم بالحجّ من حيث أنشأ ، لما سبق في الحديث : « فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتّى أهل مكّة من مكّه » .
ب - ثمّ اختلفوا في تفاصيل ذلك . فمذهب الحنفيّة أنّ من كان مكّيّاً ، أو منزله في الحرم ، كسكّان منًى ، فوقته الحرم للحجّ وللقران . ومن المسجد أفضل ، أو من دويرة أهله ، وهو قول عند الشّافعيّة بالنّسبة للمكّيّ فقط . وهذا على سبيل الوجوب عندهم ، فلو أنّه أهلّ من خارج منطقة الحرم ، لزمه العود إلى الحرم ، وإلاّ وجب عليه الدّم . ودليله حديث جابر في حجّة الوداع : « فأهللنا من الأبطح » وحديثه : « وجعلنا مكّة بظهر أهللنا بالحجّ » . أخرجهما مسلم ، وعلّقهما البخاريّ بصيغة الجزم . ومذهب المالكيّة التّفرقة بين من أهلّ بالحجّ ومن أهلّ بالقران ، فجعلوا ميقات القران ميقات العمرة الآتي تفصيله ، وهو قول عند الشّافعيّة . وأمّا من أهلّ بالحجّ وهو من سكّان مكّة أو الحرم فإمّا أن يكون مستوطناً ، أو آفاقيّاً نازلاً : أمّا المستوطن فإنّه يندب له أن يحرم من مكّة ، ومن المسجد الحرام أفضل ، وإن تركها وأحرم من الحرم أو الحلّ فخلاف الأولى ، ولا إثم ، فلا يجب الإحرام من مكّة . وأمّا الآفاقيّ فإن كان له سعة من الوقت - وعبّروا عنه ب " ذي النّفس " - فيندب له الخروج إلى ميقاته والإحرام منه . وإن لم يكن له سعة من الوقت فهو كالمستوطن . ومذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّ الحرميّ ( الّذي ليس بمكّة ) حكمه حكم الميقاتيّ . وأمّا المكّيّ : أي المقيم بمكّة ولو كان غير مكّيّ ، فعند الشّافعيّة وجهان في ميقات الحجّ له ، مفرداً كان أو قارناً : الأصحّ : أنّ ميقاته نفس مكّة ، لما سبق في الحديث : « حتّى أهل مكّة من مكّة » . والثّاني : ميقاته كلّ الحرم ، لاستواء مكّة ، وما وراءها من الحرم في الحرمة . وعند الحنابلة يحرم بالحجّ من مكّة من المسجد من تحت الميزاب ، وهو أفضل عندهم . وجاز وصحّ أن يحرم من بمكّة من سائر الحرم عند الحنابلة كما هو عند الحنفيّة .
الميقات المكانيّ للعمرة
53 - هو الميقات المكانيّ للحجّ بالنّسبة للآفاقيّ والميقاتيّ . وميقات من كان بمكّة من أهلها أو غير أهلها الحلّ من أيّ مكان ، ولو كان بعد الحرم ، ولو بخطوة . واختلفوا في الأفضل منهما ، فذهب الجمهور إلى أنّه من الجعرانة أفضل ، وذهب الحنفيّة إلى أنّه من التّنعيم أفضل . وقال أكثر المالكيّة هما متساويان . والأصل في ذلك حديث عائشة : « قالت : يا رسول اللّه أتنطلقون بعمرة وحجّة ، وأنطلق بالحجّ ؟ فأمر أخاها عبد الرّحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التّنعيم فاعتمرت بعد الحجّ في ذي الحجّة » . ( متّفق عليه ) . ومن جهة النّظر أنّ من شأن الإحرام أن تكون هنا رحلة بين الحلّ والحرم ، ولمّا كانت أركان العمرة كلّها في الحرم ، كان لا بدّ أن يكون الإحرام في الحلّ . ولا يعلم في ذلك خلاف بين العلماء .
الفصل الخامس
محظورات الإحرام
حكمة حظر بعض المباحات حال الإحرام
54 - من حكم الشّرع في ذلك تذكير المحرم بما أقدم عليه من نسك ، وتربية النّفوس على التّقشّف . وقد كان من سنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم المغايرة في حال العيش بين التّقشّف والتّرفّه ، وتقرير المساواة بين النّاس ، وإذكاء مراقبة الإنسان نفسه في خصائص أموره العادية ، والتّذلّل والافتقار للّه عزّ وجلّ ، واستكمال جوانب من عبادة البدن . وقد ورد : « إنّ اللّه عزّ وجلّ يباهي ملائكته عشيّة عرفة بأهل عرفة ، فيقول : انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً » . المحظورات من اللّباس 55 - يختلف تحريم الملبس في حقّ الرّجال عن تحريم الملبس في حقّ النّساء . أ - محظورات الإحرام في الملبس في حقّ الرّجال :
56 - ضابط هذه المحظورات أنّه لا يحلّ للرّجل المحرم أن يستر جسمه كلّه أو بعضه أو عضواً منه بشيء من اللّباس المخيط أو المحيط ، كالثّياب الّتي تنسج على هيئة الجسم قطعةً واحدةً دون خياطة ، إذا لبس ذلك الثّوب ، أو استعمله في اللّبس المعتاد له . ويستر جسمه بما سوى ذلك ، فيلبس رداءً يلفّه على نصفه العلويّ ، وإزاراً يلفّه على باقي جسمه ، أو ما أشبه ذلك . والدّليل على حظر ما ذكرنا ما ثبت في الحديث المشهور عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما « أنّ رجلاً سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ما يلبس المحرم من الثّياب ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا تلبسوا القمص ، ولا العمائم ، ولا السّراويلات ، ولا البرانس ، ولا الخفاف ، إلاّ أحد لا يجد النّعلين ، فليلبس الخفّين ، وليقطعهما أسفل من الكعبين . ولا تلبسوا من الثّياب شيئاً مسّه الزّعفران ولا الورس » أخرجه السّتّة . وفي رواية عن ابن عمر زيادة « ولا تنتقب المرأة المحرمة ، ولا تلبس القفّازين » أخرجها البخاريّ وأبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ . تفصيل أحكام هذه المحظورات : يشمل تحريم هذه الأصول المتّفق عليها أموراً كثيرةً نذكر منها ما يلي : لبس القباء والسّراويل ونحوهما :
57 - أوّلاً : لو وضع القباء ونحوه عليه من غير لبس أكمامه فهو محظور كاللّبس ، عند المالكيّة والشّافعيّة ، وهو المعتمد عند الحنابلة ، لنهيه عليه الصلاة والسلام عن لبسه للمحرم . رواه ابن المنذر ، ورواه النّجاد عن عليّ ، ولأنّه عادة لبسه كالقميص . وفصّل الحنفيّة فقالوا : لو ألقى القباء أو العباء ونحوهما على منكبيه من غير إدخال يديه أو إحداهما في كمّيه ولم يزرّه جاز مع الكراهة ، ولا فداء عليه ، وهو قول الخرقيّ من الحنابلة فإن زرّه أو أدخل يديه أو إحداهما في كمّيه فهو محظور ، حكمه حكم اللّبس في الجزاء . ووجهه : أنّ القباء لا يحيط بالبدن ، فلم تلزمه الفدية بوضعه على كتفيه ، إذا لم يدخل يديه كمّيه ، كالقميص يتّشح به . 58 - ثانياً : من لم يجد الإزار يجوز له أن يلبس السّراويل إلى أن يجد ما يتّزر به ، ولا فدية عليه عند الشّافعيّة والحنابلة . وفصّل الحنفيّة : فأجازوا لبس السّراويل إذا كان غير قابل لأن يشقّ ويؤتزر به ، وإلاّ يفتق ما حول السّراويل ما خلا موضع التّكّة ويتّزر به . ولو لبسه كما هو فعليه دم ، إلاّ إذا كان ضيّقاً غير قابل لذلك فيكون عليه فدية يتخيّر فيها . وعند المالكيّة قولان : قول بجواز لبس السّراويل إذا عدم الإزار ، ويفتدي ، وقول : لا يجوز ولو عدم الإزار ، وهو المعتمد .
لبس الخفّين ونحوهما :
59 - ثالثاً : من لم يجد النّعلين يقطع الخفّين أسفل من الكعبين ويلبسهما ، كما نصّ الحديث . وهو قول المذاهب الثّلاثة الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عن أحمد ، وقول عروة بن الزّبير والثّوريّ وإسحاق بن راهويه وابن المنذر ، وهو مرويّ عن عمر بن الخطّاب ، وعبد اللّه بن عمر ، والنّخعيّ . وقال الإمام أحمد : وهو المعتمد في المذهب : لا يقطع الخفّين ، ويلبسهما كما هما . وهو قول عطاء وعكرمة وسعيد بن سالم القدّاح ، بل قال الحنابلة : « حرم قطعهما " على المحرم . استدلّ الجمهور بحديث ابن عمر السّابق في محظورات الإحرام . واستدلّ الحنابلة بحديث ابن عبّاس ، وقالوا : « إنّ زيادة القطع - أي في حديث ابن عمر - اختلف فيها ، فإن صحّت فهي بالمدينة ، لرواية أحمد عنه : « سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر " فذكره ، وخبر ابن عبّاس بعرفات ، فلو كان القطع واجباً لبيّنه للجمع العظيم الّذي لم يحضر أكثرهم ذلك بالمدينة . وقد فسّر الجمهور الكعب الّذي يقطع الخفّ أسفل منه بأنّهما العظمان النّاتئان عند مفصل السّاق والقدم . وفسّره الحنفيّة بالمفصل الّذي في وسط القدم عند معقد الشّراك . ووجهه أنّه : « لمّا كان الكعب يطلق عليه وعلى النّاتئ حمل عليه احتياطاً » . 60 - رابعاً : ألحق المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بالخفّين كلّ ما ستر شيئاً من القدمين ستر إحاطة ، فلم يجيزوا لبس الخفّين المقطوعين أسفل من الكعبين إلاّ عند فقد النّعلين . ولو وجد النّعلين لم يجز له لبسهما ، ووجب عليه خلعهما إن كان قد لبسهما . وإن لبسهما لعذر كالمرض لم يأثم وعليه الفداء . وأمّا الحنفيّة فإنّهم قالوا : كلّ ما كان غير ساتر للكعبين ، اللّذين في ظاهر القدمين فهو جائز للمحرم .
تقلّد السّلاح :
61 - خامساً : حظر المالكيّة والحنابلة على المحرم تقلّد السّيف بدون حاجة ، ومثله الأسلحة المعاصرة . وأوجب عليه المالكيّة الفداء إذا تقلّده لغير حاجة ، وقالوا : هذا إذا كانت علاقته غير عريضة ، ولا متعدّدةً ، وإلاّ فالفدية لازمة على كلّ حال ، لكن لا يأثم في حال العذر . وأجاز الحنفيّة والشّافعيّة تقلّد السّيف مطلقاً ، لم يقيّدوه بالحاجة ، وكأنّهم لاحظوا أنّه ليس من اللّبس المعتاد المحظور على المحرم .
ستر الرّأس والاستظلال :
62 - سادساً : اتّفق العلماء على تحريم ستر المحرم رأسه أو بعضه ، أخذاً من تحريم لبس العمائم والبرانس ثمّ اختلفوا في ضابط هذا السّتر . فعند الحنفيّة والحنابلة يحرم ستره بما يقصد به التّغطية عادةً . وعند المالكيّة يحرم ستر المحرم رأسه بكلّ ما يعدّ ساتراً مطلقاً . وقريب منهم مذهب الشّافعيّة ، غير أنّهم قالوا : يحرم ما يعدّ ساتراً عرفاً ، فإن لم يكن ساتراً عرفاً فيحرم إن قصد به السّتر . يحرم ستر بعض الرّأس كذلك بما يعدّ ساتراً ، أو يقصد به السّتر ، على الخلاف الّذي ذكرناه . فلا يجوز له أن يعصب رأسه بعصابة ، ولا سير ، ولا يجعل عليه شيئاً يلصق به . وقد ضبطه المالكيّة بما يبلغ مساحة درهم فأكثر . وجعل الحنفيّة فيما كان أقلّ من ربع الرّأس الكراهة وصدقةً بشرط الدّوام الّذي سيأتي . واتّفقوا على جواز نحو خيط ، ويحرم عند المالكيّة وضع اليد على الرّأس ، لأنّها ساتر مطلقاً ، وكذا عند الشّافعيّة إن قصد بها ستر الرّأس ، وإلاّ فلا . ولا يحرم عند الحنفيّة والحنابلة . 63 - وأمّا وضع حمل على الرّأس : فيحرم عند الحنفيّة والحنابلة إن كان ممّا يقصد به التّغطية بحسب العادة ، كما لو حمل على رأسه ثياباً ، فإنّه يكون تغطيةً ، وإن كان ممّا لا يقصد به تغطية الرّأس عادةً لا يحرم ، كحمل طبق أو قفّة ، أو طاسة قصد بها السّتر ؛ لأنّها ليست ممّا يقصد به السّتر غالباً ، فصار كوضع اليد . وهذا متّفق مع الشّافعيّة ، لكن عند الشّافعيّة إذا حمل ما لا يعتبر ساتراً كالقفّة وقصد به السّتر حرم ولزمه الفداء . وأمّا المالكيّة فقالوا : يجوز للمحرم أن يحمل على رأسه ما لا بدّ منه من خرجه وجرابه ، وغيره ، والحال أنّه لا يجد من يحمل خرجه مثلاً لا بأجرة ولا بغيرها . فإن حمل لغيره أو للتّجارة ، فالفدية ، وقال أشهب : إلاّ أن يكون عيشه ذلك . أي إلاّ أن يكون ما ذكر من الحمل للغير أو التّجارة لعيشه . وهو معتمد في المذهب المالكيّ . 64 - والتّظلّل بما لا يلامس الرّأس ، وهو ثابت في أصل تابع له ، جائز اتّفاقاً ، كسقف الخيمة ، والبيت ، من داخلهما ، أو التّظلّل بظلّهما من الخارج ، ومثل مظلّة المحمل إذا كانت ثابتةً عليه من الأصل . وعلى ذلك يجوز ركوب السّيّارات المسقفة اتّفاقاً ؛ لأنّ سقوفها من أصل صناعتها ، فصارت كالبيت والخيمة . وإن لم يكن المظلّ ثابتاً في أصل يتبعه فجائز كذلك مطلقاً عند الحنفيّة والشّافعيّة وقول عند الحنابلة . وقال المالكيّة : لا يجوز التّظلّل بما لا يثبت في المحمل . ونحو هذا قول عند الحنابلة ، واختاره الخرقيّ ، وضبطه عندهم في هذا القول : « أنّه ستر رأسه بما يستدام ويلازمه غالباً ، فأشبه ما لو ستره بشيء يلاقيه " وفي التّظلّل بنحو ثوب يجعل على عصاً أو على أعواد ( مظلّة أو بشيء يرفعه على رأسه من الشّمس أو الرّيح ) ، أقوال ثلاثة أقربها الجواز ، للحديث الآتي في دليل الجمهور . ويجوز الاتّقاء بذلك من المطر . وأمّا البناء والخباء ونحوهما فيجوز الاتّقاء به من الحرّ والبرد والمطر . وأجاز التّظلّل بذلك الحنابلة ، وكذا الحنفيّة والشّافعيّة ، لما عرفت من أصل مذهبهم . واستدلّوا بحديث أمّ الحصين قالت : « حججت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حجّة الوداع ، فرأيت أسامة وبلالاً ، وأحدهما آخذ بخطام ناقة النّبيّ صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحرّ ، حتّى رمى جمرة العقبة » . أخرجه مسلم . ولأنّ ما حلّ للحلال - كما في المغني - حلّ للمحرم إلاّ ما قام على تحريمه دليل .
ستر الوجه
65 - سابعاً : يحظر على المحرم ستر وجهه عند الحنفيّة والمالكيّة وليس بمحظور عند الشّافعيّة والحنابلة وعزاه النّوويّ في المجموع إلى الجمهور . استدلّ الحنفيّة والمالكيّة بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما « أنّ رجلاً وقصته راحلته وهو محرم فمات ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : اغسلوه بماء وسدر ، وكفّنوه في ثوبيه ، ولا تخمّروا رأسه ولا وجهه ، فإنّه يبعث يوم القيامة ملبّياً » أخرجه مسلم . وجه الاستدلال أنّه : « أفاد أنّ للإحرام أثراً في عدم تغطية الوجه » . واستدلّوا أيضاً من المعقول بأنّ المرأة لا تغطّي وجهها ، مع أنّ في الكشف فتنةً ، فالرّجل بطريق الأولى . واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة بما ورد من الآثار عن بعض الصّحابة بإباحة تغطية المحرم وجهه ، من فعلهم أو قولهم . روي ذلك عن عثمان بن عفّان ، وعبد الرّحمن بن عوف ، وزيد بن ثابت ، وابن الزّبير ، وسعد بن أبي وقّاص ، وجابر . وروى القاسم وطاوس والثّوريّ من غير الصّحابة . لبس القفّازين :
66 - ثامناً : يحرم على الرّجل لبس القفّازين ، باتّفاق العلماء ، كما نصّ على ذلك النّوويّ ، وهو كذلك في مصادر المذاهب .
ب - محظورات الإحرام من الملبس في حقّ النّساء :
ينحصر محظور الإحرام من الملبس في حقّ النّساء في أمرين فقط ، هما الوجه واليدان ، نفصّل بحثهما فيما يلي : ستر الوجه :
67 - اتّفق العلماء على أنّه يحرم على المرأة في الإحرام ستر وجهها ، لا خلاف بينهم في ذلك . والدّليل عليه من النّقل ما سبق في الحديث : « ولا تنتقب المرأة المحرمة ، ولا تلبس القفّازين » . وضابط السّاتر هنا عند المذاهب هو كما مرّ في ستر الرّأس للرّجل . وإذا أرادت أن تحتجب بستر وجهها عن الرّجال جاز لها ذلك اتّفاقاً بين العلماء ، إلاّ إذا خشيت الفتنة أو ظنّت فإنّه يكون واجباً . والدّليل على هذا الاستثناء حديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كان الرّكبان يمرّون بنا ونحن مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم محرمات ، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها ، فإذا جاوزونا كشفناه » أخرجه أبو داود . وعن فاطمة بنت المنذر قالت : كنّا نخمّر وجوهنا ونحن محرمات ، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصّدّيق . أخرجه مالك والحاكم . ومرادها من هذا ستر الوجه بغير النّقاب على معنى التّستّر . وقد اشترط الحنفيّة والشّافعيّة - وهو قول عند الحنابلة - ألاّ يلامس السّاتر الوجه ، كأن تضع على رأسها تحت السّاتر خشبةً أو شيئاً يبعد السّاتر عن ملامسة وجهها " لأنّه بمنزلة الاستظلال بالمحمل " كما في الهداية . وأجاز لها المالكيّة أن تستر وجهها إذا قصدت السّتر عن أعين النّاس ، بثوب تسدله من فوق رأسها دون ربط ، ولا غرز بإبرة أو نحوها ممّا يغرز به . ومثل ذلك عند الحنابلة ، لكن عبّروا بقولهم : « إن احتاجت إلى ستره " ؛ لأنّ العلّة في السّتر المحرّم أنّه ممّا يربط ، وهذا لا يربط ، كما تشير عبارة المالكيّة .
لبس القفّازين :
68 - يحظر على المرأة المحرمة لبس القفّازين عند المالكيّة والحنابلة ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة . وذهب الحنفيّة ، وهو رواية عند الشّافعيّة ، إلى أنّه يجوز لها اللّبس بكفّيها ، كالقفّاز وغيره ، ويقتصر إحرامها على وجهها فقط . استدلّ الجمهور بحديث ابن عمر بزيادة : « ولا تنتقب المرأة المحرمة ، ولا تلبس القفّازين » . واستدلّ الحنفيّة بحديث ابن عمر قال : « إحرام المرأة في وجهها » ، وبما ورد من آثار عن الصّحابة . وكان سعد بن أبي وقّاص يلبس بناته القفّازين وهنّ محرمات . ورخّص فيه عليّ وعائشة . وهو قول عطاء وسفيان والثّوريّ . يجوز للمحرمة تغطية يدها فقط من غير شدّ ، وأن تدخل يديها في أكمامها وفي قميصها .
المحرّمات المتعلّقة ببدن المحرم
69 - ضابط هذه المحظورات كلّ شيء يرجع إلى تطييب الجسم ، أو إزالة الشّعث ، أو قضاء التّفث . والدّليل على تحريمها قوله تعالى : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } . ومن السّنّة قوله صلى الله عليه وسلم : « ولا تلبسوا شيئاً من الثّياب مسّه الزّعفران ولا الورس » . أخرجه السّتّة .
فتحرم الأشياء الآتية :
أ - حلق الرّأس .
ب - إزالة الشّعر من أيّ موضع من الجسم .
ج - قصّ الظّفر .
د - الأدهان .
هـ - التّطيّب .
تفصيل أحكام هذه المحظورات
حلق الرّأس :
70 - يحظر على المحرم حلق رأسه أو رأس محرم غيره . وكذا لو حلق له غيره حلالاً أو محرماً يحظر عليه تمكينه من ذلك . والتّقصير كالحلق في ذلك كلّه . وقليل الشّعر كذلك يحظر حلقه أو قطعه . وكذلك إزالة الشّعر عن الرّأس بأيّ شيء كالنّتف ، والحرق ، أو استعمال النّورة لإزالته . ومثلها أيّ علاج مزيل للشّعر . وذلك كلّه ما لم يفرغ الحالق والمحلوق له من أداء نسكهما . فإذا فرغا لا يدخلان في الحظر . ويسوغ لهما أن يحلق أحدهما للآخر ، باتّفاق المذاهب على ذلك كلّه . والدّليل هو ما سبق من نصّ الآية ، وهي وإن ذكرت الحلق فإنّ غيره ممّا ذكرنا مثله في التّرفّه ، فيقاس عليه ، ويأخذ حكمه . واختلفوا في حلق المحرم للحلال . فحظره الحنفيّة . وهو قول للمالكيّة . وأجازه المالكيّة في قول آخر والشّافعيّة والحنابلة . استدلّ الثّلاثة بأنّ المحرم حلق شعراً لا حرمة له من حيث الإحرام ، فلا يمنع ، ولا جزاء عليه . واستدلّ الحنفيّة : بأنّ المحرم كما هو ممنوع من حلق رأس نفسه ممنوع من حلق رأس غيره ، لقوله عزّ وجلّ : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } . والإنسان لا يحلق رأس نفسه عادةً ، إلاّ أنّه لمّا حرم عليه حلق رأس غيره يحرم عليه حلق رأس نفسه من طريق الأولى . وسواء كان المحلوق حلالاً أو حراماً ، لما قلنا . إزالة الشّعر من أيّ موضع من الجسم :
71 - يحظر إزالة الشّعر وذلك قياساً على شعر الرّأس ، بجامع التّرفّه في كلّ منهما .
الادّهان :
73 - الدّهن مادّة دسمة من أصل حيوانيّ أو نباتيّ . وقد اختلفوا في الدّهن غير المطيّب : فالجمهور - عدا الإمام أحمد - على تفصيل بينهم - ذهبوا إلى حظر استعمال الدّهن ولو كان غير مطيّب ، كالزّيت ، لما فيه من التّرفّه والتّزيين ، وتحسين الشّعر ، وذلك ينافي الشّأن الّذي يجب أن يكون عليه المحرم من الشّعث والغبار افتقاراً وتذلّلاً للّه تعالى . وقد أوردوا في الدّهن وأشباهه الاستدلال بحديث ابن عمر ، قال : « قام رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : من الحاجّ يا رسول اللّه ؟ قال : الشّعث التّفل » . أخرجه التّرمذيّ وابن ماجه .
والشّعث : بكسر العين الوصف ، وبفتحها المصدر ، ومعناه انتشار الشّعر وتغبّره لقلّة التّعهّد . والتّفل : من التّفل ، وهو ترك الطّيب حتّى يوجد منه رائحة كريهة . فشمل بذلك ترك الدّهن . فقال الحنفيّة والمالكيّة يحظر على المحرم استعمال الدّهن في رأسه ولحيته وعامّة بدنه لما ذكرنا من عموم الاستدلال فيما سبق . وقال الشّافعيّة يحظر دهن شعر الرّأس للرّجل والمرأة واللّحية وما ألحق بهما كالشّارب والعنفقة فقط ، حتّى لو كان أصلع جاز دهن رأسه ، أمّا إذا كانا محلوقين فيحظر دهنهما ؛ لأنّه يزيّنهما إذا نبتا . ويباح له دهن ما عدا الرّأس واللّحية وما ألحق بهما ، ولا يحظر ، ظاهراً كان أو باطناً ، ويباح سائر شعور بدنه ، ويباح له أكل الدّهن من غير أن يصيب اللّحية أو الشّارب أو العنفقة . واستدلّوا بأنّه ليس في الدّهن طيب ولا تزيين ، فلا يحرم إلاّ فيما ذكرنا ؛ لأنّه به يحصل التّزيين . وإنّ الّذي جاء به الشّرع استعمال الطّيب ، وهذا ليس منه ، فلا يثبت تحريمه . وقال الحنابلة - على المعتمد عندهم من إباحته في كلّ البدن : « إنّ وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ، ولا دليل فيه من نصّ ولا إجماع . ولا يصحّ قياسه على الطّيب ، فإنّ الطّيب يوجب الفدية وإن لم يزل شيئاً ، ويستوي فيه الرّأس وغيره ، والدّهن بخلافه » .
هـ - التّطيّب :
74 - الطّيب عند الحنفيّة : ما له رائحة مستلذّة ويتّخذ منه الطّيب . وعند الشّافعيّة : ما يقصد منه رائحته غالباً ، ولو مع غيره . ويشترط في الطّيب الّذي يحكم بتحريمه أن يكون معظم الغرض منه الطّيب ، واتّخاذ الطّيب منه ، أو يظهر فيه هذا الغرض . وعند الحنابلة : ما تطيب رائحته ويتّخذ للشّمّ . وقسّمه المالكيّة إلى قسمين : مذكّر ومؤنّث . فالمذكّر : هو ما يخفى أثره أي تعلّقه بما مسّه من ثوب أو جسد ويظهر ريحه . والمراد به أنواع الرّياحين : كالرّيحان ، والورد ، والياسمين . وأمّا المياه الّتي تعتصر ممّا ذكر فليس من قبيل المؤنّث . والمؤنّث : هو ما يظهر لونه وأثره ، أي تعلّقه بما مسّه مسّاً شديداً ، كالمسك ، والكافور ، والزّعفران . فالمؤنّث يكره شمّه ، واستصحابه ، ومكث في المكان الّذي هو فيه ، ويحرم منه . والمذكّر يكره شمّه ، وأمّا مسّه من غير شمّ واستصحابه ومكث بمكان هو فيه فهو جائز . تفصيل أحكام التّطيّب للمحرم : تطييب الثّوب :
75 - وهو أصل في الباب ، للتّنصيص عليه في الحديث السّابق ، ومن هنا قالوا : المحرم ممنوع من استعمال الطّيب في إزاره ، أو ردائه ، وجميع ثيابه ، وفراشه ، ونعله حتّى لو علق بنعله طيب وجب أن يبادر لنزعه ، ولا يضع عليه ثوباً مسّه الورس أو الزّعفران ، أو نحوهما من صبغ له طيب . كذلك لا يجوز له حمل طيب تفوح رائحته ، أو شدّه بطرف ثوبه ، كالمسك ، بخلاف شدّ عود أو صندل . أمّا الثّوب الّذي فيه طيب قبل الإحرام فلا يجوز عند الحنفيّة والمالكيّة لبسه . ويجوز عند الشّافعيّة والحنابلة تطييب ثوب الإحرام عند إرادة الإحرام . ولا يضرّ بقاء الرّائحة في الثّوب بعد الإحرام ، كما لا يضرّ بقاء الرّائحة الطّيّبة في البدن اتّفاقاً ، قياساً للثّوب على البدن ، لكن نصّوا على أنّه لو نزع ثوب الإحرام أو سقط عنه فلا يجوز له أن يعود إلى لبسه ما دامت الرّائحة فيه ، بل يزيل منه الرّائحة ثمّ يلبسه .
تطييب البدن :
76 - يحظر على المحرم استعمال الطّيب في بدنه ، وعليه الفدية ، ولو للتّداوي . ولا يخضّب رأسه أو لحيته أو شيئاً من جسمه ، ولا يغسله بما فيه طيب ، ومنه عند الحنفيّة الخطميّ والحنّاء ، على ما مرّ من الخلاف فيهما . 77 - وأكل الطّيب الخالص أو شربه لا يحلّ للمحرم اتّفاقاً بين الأئمّة . أمّا إذا خلط الطّيب بطعام قبل الطّبخ ، وطبخه معه ، فلا شيء عليه ، قليلاً كان أو كثيراً ، عند الحنفيّة والمالكيّة . وكذا عند الحنفيّة لو خلطه بطعام مطبوخ بعد طبخه فإنّه يجوز للمحرم أكله . أمّا إذا خلطه بطعام غير مطبوخ : فإن كان الطّعام أكثر فلا شيء ، ولا فدية إن لم توجد الرّائحة ، وإن وجدت معه الرّائحة الطّيّبة يكره أكله عند الحنفيّة . وإن كان الطّيب أكثر وجب في أكله الدّم سواء ظهرت رائحته أو لم تظهر . وأمّا عند المالكيّة فكلّ طعام خلط بطيب من غير أن يطبخ الطّيب معه فهو محظور في كلّ الصّور ، وفيه الفداء . أمّا إن خلط الطّيب بمشروب ، كماء الورد وغيره ، وجب فيه الجزاء ، قليلاً كان الطّيب أو كثيراً ، عند الحنفيّة والمالكيّة . وقال الشّافعيّة والحنابلة : إذا خلط الطّيب بغيره من طعام أو شراب ، ولم يظهر له ريح ولا طعم ، فلا حرمة ولا فدية ، وإلاّ فهو حرام وفيه الفدية .
شمّ الطّيب :
78 - شمّ الطّيب دون مسّ يكره عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، ولا جزاء فيه عندهم . أمّا الحنابلة فقالوا : يحرم تعمّد شمّ الطّيب ، ويجب فيه الفداء ، كالمسك والكافور ، ونحوهما ممّا يتطيّب بشمّه .
الصّيد وما يتعلّق به
79 - تعريف الصّيد لغةً : الصّيد لغةً : مصدر بمعنى ، الاصطياد ، والقنص ، وبمعنى المصيد ، وكلّ من المعنيين داخل فيما يحظر بالإحرام . تعريف الصّيد اصطلاحاً :
80 - الصّيد عند الحنفيّة هو الحيوان البرّيّ الممتنع عن أخذه بقوائمه ، أو جناحيه ، المتوحّش في أصل الخلقة . وعند المالكيّة هو الحيوان البرّيّ المتوحّش في أصل الخلقة . وعند الشّافعيّة والحنابلة هو الحيوان البرّيّ المتوحّش المأكول اللّحم .
أدلّة تحريم الصّيد :
81 - وقد ثبت تحريم الصّيد على المحرم بالكتاب والسّنّة والإجماع : أمّا الكتاب : فقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرم } . وقال عزّ من قائل : { وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً } . وكلّ منهما نصّ قاطع في الموضوع . وأمّا السّنّة فمنها حديث أبي قتادة « حين أحرم أصحابه ولم يحرم ، ورأى حمار وحش . وفي الحديث فأسرجت فرسي ، وأخذت رمحي ، ثمّ ركبت ، فسقط منّي سوطي ، فقلت لأصحابي - وكانوا محرمين - ناولوني السّوط . فقالوا : واللّه لا نعينك عليه بشيء ، فنزلت ، فتناولته ثمّ ركبت . وفي رواية أخرى : فنزلوا ، فأكلوا من لحمها ، وقالوا : أنأكل لحم صيد ونحن محرمون ؟ فحملنا ما بقي من لحم الأتان ، فلمّا أتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول اللّه إنّا كنّا أحرمنا ، وقد كان أبو قتادة لم يحرم ، فرأينا حمر وحش ، فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتاناً ، فنزلنا ، فأكلنا من لحمها ، ثمّ قلنا : أنأكل لحم صيد ونحن محرمون ، ؟ فحملنا ما بقي من لحمها . قال : أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ قالوا : لا قال : فكلوا ما بقي من لحمها » متّفق عليه . وأمّا الإجماع فقد حكاه النّوويّ وابن قدامة كما ذكر ابن قدامة إجماع أهل العلم على وجوب الجزاء بقتله .
إباحة صيد البحر :
82 - وأمّا صيد البحر : فحلال للحلال وللمحرم بالنّصّ ، والإجماع : أمّا النّصّ فقوله تعالى : { أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسّيّارة وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً } . والإجماع حكاه النّوويّ وأبو بكر الجصّاص .
أحكام تحريم الصّيد على المحرم :
83 - يشمل تحريم الصّيد على المحرم أموراً نصنّفها فيما يلي : تحريم قتل الصّيد ، لصريح النّصوص الواردة في ذلك . وتحريم إيذاء الصّيد ، أو الاستيلاء عليه . ومن ذلك : كسر قوائم الصّيد ، أو كسر جناحه ، أو شيّ بيضه أو كسره ، أو نتف ريشه ، أو جزّ شعره ، أو تنفير الصّيد ، أو أخذه ، أو دوام إمساكه ، أو التّسبّب في ذلك كلّه أو في شيء منه بدليل الآية : { وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً } . والآية تفيد تحريم سائر أفعالنا في الصّيد في حال الإحرام » . والدّليل من القياس : « أنّ ما منع من إتلافه لحقّ الغير منع من إتلاف أجزائه ، كالآدميّ ، فإن أتلف جزءاً منه ضمنه بالجزاء . . . » . وللقياس على حظر تنفير صيد الحرم ، لقوله صلى الله عليه وسلم في مكّة : « إنّ هذا البلد حرّمه اللّه ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفّر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلاّ من عرّفها » فإذا حرم تنفير صيد الحرم وجب أن يحرم في الإحرام .
84 - وتحرم المساعدة على الصّيد بأيّ وجه من الوجوه : مثل الدّلالة عليه ، أو الإشارة ، أو إعارة سكّين ، أو مناولة سوط . وكذا يحرم الأمر بقتل الصّيد اتّفاقاً في ذلك . والدّليل عليه حديث أبي قتادة السّابق .
تحريم تملّك الصّيد
85 - يحرم تملّك الصّيد ابتداءً ، بأيّ طريق من طرق التّملّك ، فلا يجوز بيعه ، أو شراؤه ، أو قبوله هبةً ، أو وصيّةً ، أو صدقةً ، أو إقالةً . والدّليل على تحريم ذلك الآية : { وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً } . قال في فتح القدير : « أضاف التّحريم إلى العين ، فيكون ساقط التّقوّم في حقّه ، كالخمر . وأنت علمت أنّ إضافة التّحريم إلى العين تفيد منع سائر الانتفاعات » . ويستدلّ أيضاً من السّنّة بحديث الصّعب بن جثّامة « أنّه أهدى إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حمار وحش ، فردّه عليه ، فلمّا رأى ما في وجهه قال : إنّا لم نردّه عليك إلاّ أنّا حرم » . متّفق عليه . ويستدلّ بإجماع العلماء .
تحريم الانتفاع بشيء من الصّيد
86 - يحرم على المحرم أكل لحمه ، وحلبه ، وأكل بيضه ، وشيّه . وذلك لعموم الأدلّة الّتي سبقت في تحريم تملّك الصّيد ؛ ولأنّ الانتفاع فرع من الملك ، فإذا حرّم الملك لم يبق محلّ لأثره . 87 - إذا صاد الحلال صيداً فهل يحلّ للمحرم أكله ؟ في المسألة مذاهب : المذهب الأوّل : لا يحلّ للمحرم الصّيد أصلاً ، سواء أمر به أم لا ، وسواء أعان على صيده أم لا ، وسواء أصاده الحلال له أم لم يصده له . وهذا قول طائفة من أهل العلم ، منهم من الصّحابة : عليّ وابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم . وكره ذلك طاوس وجابر بن زيد وسفيان الثّوريّ . المذهب الثّاني : ما صاده الحلال للمحرم ومن أجله فلا يجوز للمحرم أكله ، فأمّا ما لم يصده من أجل المحرم بل صاده لنفسه أو لحلال آخر فلا يحرم على المحرم أكله . وهذا مذهب الجمهور ، المالكيّة والشّافعيّة الحنابلة . وهو قول إسحاق بن راهويه ، وأبي ثور . وقال ابن عبد البرّ : وهو الصّحيح عن عثمان في هذا الباب . إلاّ أنّ المالكيّة قالوا : ما صيد للمحرم هو ميتة على كلّ أحد ، المحرم المذبوح له وغيره ، وعلى المحرم الجزاء إن علم أنّه صيد لمحرم ولو غيره ، وأكل . وإن لم يعلم وأكل منه فلا جزاء عليه . ووافقهم الحنابلة في لزوم الجزاء ، وفصّلوا فأوجبوه كاملاً إن أكله كلّه ، وقسطه إن أكل بعضه ، لكنّهم لم يجعلوه حراماً إلاّ على من ذبح له . وقال الشّافعيّة - على ما هو الأصحّ الجديد في المذهب - لا جزاء في الأكل . ولم يعمّموا الحرمة على غير من صيد له الصّيد . المذهب الثّالث : يحلّ للمحرم أكل ما صاده الحلال من الصّيد ، ما لم يأمر به ، أو تكون منه إعانة عليه أو إشارة أو دلالة ، وهو مذهب الحنفيّة . وقال ابن المنذر : « كان عمر بن الخطّاب وأبو هريرة ومجاهد وسعيد بن جبير يقولون : للمحرم أكل ما صاده الحلال ، وروي ذلك عن الزّبير بن العوّام ، وبه قال أصحاب الرّأي » . استدلّ أصحاب المذهب الأوّل القائلون بتحريم أكل لحم الصّيد على المحرم مطلقاً بإطلاق الكتاب والسّنّة فيما سبق . واستدلّ الجمهور أصحاب المذهب الثّاني بأنّ ما صاده الحلال يحلّ أكله للمحرم بشرط ألاّ يكون صيد لأجله بأدلّة من السّنّة منها : حديث أبي قتادة السّابق فقد أحلّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم للمحرمين أكل ما صاده الحلال . واستدلّ الجمهور أيضاً بحديث جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « صيد البرّ لكم حلال ، ما لم تصيدوه أو يصد لكم » . أخرجه أبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ وصحّحه الحاكم . وقد تكلّم في سنده ، لكن رجّح النّوويّ صحّته . واستدلّ أصحاب المذهب الثّالث الحنفيّة ومن معهم - القائلون : يحلّ للمحرم أن يأكل من صيد صاده الحلال ، وذبحه ، ما لم يكن من المحرم دلالة ولا أمر للحلال به ، وإن صاده الحلال لأجل المحرم - بأدلّة كثيرة من السّنّة والآثار . منها حديث أبي قتادة السّابق ، في صيده حمار وحش وهو حلال وأكل منه الصّحابة وأقرّهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم منه . وجه دلالة الحديث : « أنّهم لمّا سألوه عليه الصلاة والسلام لم يجب بحلّه لهم حتّى سألهم عن موانع الحلّ ، أكانت موجودةً أم لا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها ، أو أشار إليها ؟ قالوا : لا . قال : فكلوا إذن » . فلو كان من الموانع أن يصاد لهم لنظمه في سلك ما يسأل عنه منها في التّفحّص عن الموانع ، ليجيب بالحكم عند خلوّه منها . وهذا المعنى كالصّريح في نفي كون الاصطياد للمحرم مانعاً ، فيعارض حديث جابر ، ويقدّم عليه ، لقوّة ثبوته .
صيد الحرم :
88 - المراد بالحرم هنا مكّة والمنطقة المحرّمة المحيطة بها . وللحرم أحكام خاصّة ، منها تحريم صيده على الحلال كما يحرم على المحرم أيضاً ، وذلك باتّفاق العلماء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ هذا البلد حرّمه اللّه ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفّر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلاّ من عرّفها » . متّفق عليه . فقرّر العلماء من تحريم الصّيد على الحلال في الحرم أحكاماً نحو تحريم الصّيد على المحرم ، وتفرّعت لذلك فروع في المذاهب لا نطيل ببسطها ( ر : حرم . )
ما يستثنى من تحريم قتل الصّيد :
89 - أ - اتّفق على جواز قتل الحيوانات التّالية في الحلّ والحرم ، للمحرم وغيره ، سواء ابتدأت بأذًى أو لا ، ولا جزاء على من قتلها - وهي : الغراب ، والحدأة ، والذّئب ، والحيّة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور ، لما ورد من الأحاديث في إباحة قتلها : روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « خمس من الدّوابّ ليس على المحرم في قتلهنّ جناح : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور » . متّفق عليه . وقد ورد ذكر الغراب في الحديث مطلقاً ، ومقيّداً ، ففسّروه بالغراب الأبقع الّذي يأكل الجيف . قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : « اتّفق العلماء على إخراج الغراب الصّغير الّذي يأكل الحبّ من ذلك ، ويقال له : غراب الزّرع » . ا هـ . يعني أنّه لا يدخل في إباحة قتل الصّيد ، بل يحرم صيده . إلاّ أنّ المالكيّة فصلّوا فقالوا : يجوز قتل الفأرة والحيّة والعقرب مطلقاً ، صغيرةً أو كبيرةً ، بدأت بالأذيّة أم لا . وأمّا الغراب والحدأة ففي قتل صغيرهما - وهو ما لم يصل لحدّ الإيذاء - خلاف عند المالكيّة : قول بالجواز نظراً للفظ « غراب " الواقع في الحديث ، فإنّه مطلق يصدق على الكبير والصّغير : وقول بالمنع نظراً للعلّة في جواز القتل ، وهي الإيذاء ، وذلك منتف في الصّغير . وعلى القول بالمنع ، فلا جزاء فيه ، مراعاةً للقول الآخر . ثمّ قرّر المالكيّة شرطاً لجواز قتل ما يقبل التّذكية ، كالغراب ، والحدأة ، والفأرة ، والذّئب ، وهو أن يكون قتلها بغير نيّة الذّكاة ، بل لدفع شرّها ، فإن قتل بقصد الذّكاة ، فلا يجوز ، وفيه الجزاء . 90 - ب - يجوز قتل كلّ مؤذ بطبعه ممّا لم تنصّ عليه الأحاديث ، مثل الأسد ، والنّمر ، والفهد ، وسائر السّباع . بل صرّح الشّافعيّة والحنابلة أنّه مستحبّ بإطلاق دون اشتراط شيء . وكذا الحكم عندهم فيما سبق استحباب قتل تلك المؤذيات . وأمّا المالكيّة فعندهم التّفصيل السّابق بالنّسبة للكبار والصّغار ، واشتراط عدم قصد الذّكاة بقتلها . واشترطوا في الطّير الّذي لم ينصّ عليه أن يخاف منه على نفس أو مال ، ولا يندفع إلاّ بقتله . وأمّا الحنفيّة فقالوا : السّباع ونحوها كالبازي والصّقر ، معلّماً وغير معلّم ، صيود لا يحلّ قتلها . إلاّ إذا صالت على المحرم ، فإن صالت جاز له قتلها ولا جزاء عليه . وفي رواية عندهم جواز قتلها مطلقاً . استدلّ الجمهور على تعميم الحكم في كلّ مؤذ بأدلّة : منها : حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يقتل المحرم السّبع العادي ، والكلب العقور ، والفأرة ، والعقرب ، والحدأة والغراب . » . أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وابن ماجه . وقال التّرمذيّ : هذا حديث حسن ، والعمل على هذا عند أهل العلم ، قالوا : « المحرم يقتل السّبع العادي » . واستدلّوا بما ورد في الأحاديث المتّفق عليها من الأمر بقتل " الكلب العقور » . قال الإمام مالك : « إنّ كلّ ما عقر النّاس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد ، والنّمر ، والفهد ، والذّئب ، فهو الكلب العقور » .
91 - ج - ألحق الشّافعيّة والحنابلة بما يقتل في الحرم والإحرام كلّ ما لا يؤكل لحمه .
الهوامّ والحشرات
92 - د - لا تدخل الهوامّ والحشرات في تحريم الصّيد عند أصحاب المذاهب الثّلاثة : الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . أمّا عند الحنفيّة : فلأنّها ليست ممتنعةً ، وقد ذكروا في تعريف الصّيد أنّه الممتنع . وعلى ذلك فلا جزاء في قتلها عند الحنفيّة ، لكن لا يحلّ عندهم قتل ما لا يؤذي ، وإن لم يجب فيه الجزاء . وأمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فلا تدخل في الصّيد ، لكونهم اشترطوا فيه أن يكون مأكولاً . وهذه غير مأكولة ، وقد عرفت تفصيل حكمها عندهم في المسألة السّابقة . وأمّا المالكيّة فقالوا : يحظر قتل ما لا يؤذي من الحشرات بالإحرام والحرم ، وفيه الجزاء عندهم . لكن قالوا في الوزغ : لا يجوز للمحرم قتله ، ويجوز للحلال قتله في الحرم ، " إذ لو تركها الحلال بالحرم لكثرت في البيوت وحصل منها الضّرر » .
الجماع ودواعيه :
93 - يحرم على المحرم باتّفاق العلماء وإجماع الأمّة الجماع ودواعيه الفعليّة أو القوليّة وقضاء الشّهوة بأيّ طريق . والجماع أشدّ المحظورات حظراً ؛ لأنّه يؤدّي إلى فساد النّسك . والدّليل على تحريم ذلك النّصّ القرآنيّ : { فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ } . فسّر الرّفث بأنّه ما قيل عند النّساء من ذكر الجماع وقول الفحش . وثبت ذلك عن ابن عبّاس فتكون الآية دليلاً على تحريم الجماع على المحرم بطريق دلالة النّصّ ، أي من باب الأولى ؛ لأنّه إذا حرم ما دون الجماع ، كان تحريمه معلوماً بطريق الأولى . وفسّر الرّفث أيضاً بذكر إتيان النّساء ، الرّجال والنّساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم . ونقل ذلك عن ابن عمر وبعض التّابعين . فتدلّ الآية على حرمة الجماع لدخوله في عمومها . كما فسّر بالجماع أيضاً ، ونسب ذلك إلى جماعة من السّلف منهم ابن عبّاس وابن عمر ، فتكون الآية نصّاً فيه .
الفسوق والجدال :
94 - الفسوق : هو الخروج عن الطّاعة . وهو حرام في كلّ حال ، وفي حال الإحرام آكد وأغلظ ، لذلك نصّ عليه في الكتاب الكريم : { ولا فسوق ولا جدال في الحجّ } . وقد اختار جمهور المفسّرين والمحقّقون أنّ المراد به في الآية إتيان معاصي اللّه تعالى . وهذا هو المراد والصّواب ، لما هو معلوم من استعمال القرآن والسّنّة والشّرع لكلمة الفسق بمعنى الخروج عن الطّاعة . والجدال : المخاصمة . وقد قال جمهور المفسّرين المتقدّمين : أن تماري صاحبك حتّى تغضبه . وهذا يقتضي النّهي عن كلّ مساوئ الأخلاق والمعاملات . لكن ما يحتاج إليه من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لا يدخل في حظر الجدال .
الفصل السّادس مكروهات الإحرام
95 - وهي أمور يكون فاعلها مسيئاً ، لكن لا يلزمه جزاء لو فعلها . وفي بيانها تنبيه هامّ ، وإزاحة لما قد يقع من اشتباه .
96 - فمنها غسل الرّأس والجسد واللّحية بالسّدر ونحوه ، عند الحنفيّة ؛ لأنّه يقتل الهوامّ ويليّن الشّعر .
97 - ومشط الرّأس بقوّة ، وحكّه ، وكذا حكّ الجسد حكّاً شديداً ، وذلك لأنّه يؤدّي إلى قطع الشّعر أو نتفه . أمّا لو فعل ذلك برفق فإنّه مباح ، لذلك قالوا : يحكّ ببطون أنامله . قال النّوويّ : « وأمّا حكّ المحرم رأسه فلا أعلم خلافاً في إباحته بل هو جائز » . 98 - والتّزيّن ، صرّح بكراهته الحنفيّة وعبارات غيرهم تدلّ عليه . قال الحنفيّة في الاكتحال بكحل غير مطيّب لقصد الزّينة إنّه مكروه ، فإن اكتحل لا لقصد الزّينة بكحل غير مطيّب بل للتّداوي أو لتقوية الباصرة فمباح . أمّا المالكيّة فالاكتحال بغير مطيّب محظور عندهم ، وفيه الفداء ، إلاّ لضرورة فلا فداء فيه . ومذهب الشّافعيّة والحنابلة الاكتحال بما لا طيب فيه ، إن لم يكن فيه زينة ، غير مكروه ، كالكحل الأبيض ، وإن كان فيه زينة كالإثمد فإنّه يكره ، لكن لا يلزم فيه فدية . فإن اكتحل بما فيه زينة لحاجة كالرّمد فلا كراهة . أمّا الاكتحال بكحل مطيّب فإنّه محظور اتّفاقاً على الرّجال والنّساء .
ما يباح في الإحرام
99 - الأمور الّتي تباح في الإحرام كلّ ما ليس محظوراً ولا مكروهاً ، لأنّ الأصل في الأشياء الإباحة . ونذكر منها ما يلي :
100 - الاغتسال بالماء القراح ، وماء الصّابون ونحوه .
101 - ولبس الخاتم جائز عند الحنفيّة أو الشّافعيّة والحنابلة للرّجال والنّساء . ولا يجوز عند المالكيّة للرّجل المحرم لبس الخاتم ، وفيه الفداء . وأمّا المرأة : فيجوز لها لبس المحيط لسائر أعضائها ، ما عدا الوجه والكفّين عند الثّلاثة ، وما عدا الوجه فقط عند الحنفيّة . وشدّ الهميان والمنطقة جائز عند الحنفيّة بإطلاق وكذا الشّافعيّة . وقيّد المالكيّة والحنابلة إباحة شدّهما بالحاجة لنفقته .
102 - والنّظر في المرآة مباح عند الحنفيّة والشّافعيّة مطلقاً . وعند الحنابلة جائز لحاجة لا لزينة ، وأمّا المالكيّة فيكره عندهم النّظر في المرآة ، خيفة أن يرى شعثاً فيزيله .
103 - والسّواك نصّ على إباحته الحنفيّة وليس هو محلّ خلاف .
104 - ونزع الظّفر المكسور مباح باتّفاق الأئمّة ، وصرّح الشّافعيّة بألاّ يجاوز القسم المكسور ، وهذا لا يختلف فيه .
105 - والفصد والحجامة بلا نزع شعر جائزة عند فقهاء المذاهب الأربعة . ومثلهما الختان . لكن تحفّظ المالكيّة بالنّسبة للفصد ، فقالوا : يجوز الفصد لحاجة إن لم يعصب العضو المفصود ، وإن لم يكن له حاجة للفصد فهو مكروه ، وإن عصبه ففيه الفدية .
106 - والارتداء والاتّزار بمخيط أو محيط أي أن يجعل الثّوب المخيط أو المحيط رداءً أو إزاراً ، دون لبس . وكذا إلقاؤه على جسمه كلّ ذلك مباح عندهم جميعاً .
107 - وذبح الإبل والبقر والحيوانات الأهليّة مباح وذلك لأنّها لا تدخل في تحريم الصّيد ولا محرّمات الإحرام باتّفاقهم .
الفصل السّابع
في سنن الإحرام
وهي أمور يثاب فاعلها ، ويكون تاركها مسيئاً ولا يلزمه بالتّرك شيء .
وجملة ذلك أربعة :
أوّلاً : الاغتسال :
108 - وهو سنّة عند الأئمّة الأربعة لما ورد فيه من الأحاديث ، كحديث زيد بن ثابت : « أنّه رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم تجرّد لإهلاله واغتسل » . أخرجه التّرمذيّ وحسّنه . وقد اتّفقوا على أنّ هذا الغسل سنّة لكلّ محرم صغير أو كبير ، ذكر أو أنثى ، ويطلب أيضاً من المرأة الحائض والنّفساء في حال الحيض والنّفاس . فعن ابن عبّاس مرفوعاً إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ النّفساء والحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلّها ، غير أن لا تطوف بالبيت حتّى تطهر » أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وحسّنه واللّفظ للتّرمذيّ . ووقت هذا الاغتسال موسّع عند الحنفيّة في الأظهر من مذهبهم . وهو مذهب الحنابلة والشّافعيّة . وثمرة الخلاف أنّه لو اغتسل ثمّ أحدث ثمّ توضّأ ينال فضيلة السّنّة ، ولا يضرّه ذلك . وألحق الشّافعيّة هذا الغسل بغسل الجمعة ، فدلّ على أنّه موسّع ، كما هو حكم غسل الجمعة . أمّا المالكيّة فقيّدوا سنّيّة الغسل بأن يكون متّصلاً بالإحرام .
ثانياً : التّطيّب
109 - وهو من محظورات الإحرام ، لكنّه سنّ استعداداً للإحرام ، عند الجمهور ، وكرهه مالك . التّطيّب في البدن :
110 - ودليل سنّيّته ما روت عائشة رضي الله عنها قالت : « كنت أطيّب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ، ولحلّه قبل أن يطوف بالبيت » . متّفق عليه . وعنها رضي الله عنها أيضاً قالت : « كأنّي أنظر إلى وبيص الطّيب في مفارق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو محرم » . متّفق عليه . والصّحيح عندهم جواز التّطيّب بما يبقى جرمه بعد الإحرام ، لتصريح حديث عائشة الثّاني . وأمّا المالكيّة فحظروا بقاء جرم الطّيب ولم يجوّزوا بقاء رائحته . التّطيّب في ثوب الإحرام :
111 - أمّا تطييب الثّوب قبل الإحرام فمنعه الجمهور وأجازه الشّافعيّ في القول المعتمد . فلا يضرّ بقاء الرّائحة الطّيّبة في الثّوب بعد الإحرام ، كما لا يضرّ بقاء الرّائحة الطّيّبة في البدن اتّفاقاً ، قياساً للثّوب على البدن . لكن نصّوا على أنّه لو نزع ثوب الإحرام . أو سقط عنه . فلا يجوز له أن يعود إلى لبسه ما دامت الرّائحة فيه ، بل يزيل منه الرّائحة ثمّ يلبسه . وذهب الحنفيّة إلى عدم جواز التّطيّب في الثّوب للإحرام ، ولا يجوز أن يلبس ثوب إحرام مطيّباً لأنّه بذلك يكون مستعملاً للطّيب في إحرامه باستعمال الثّوب ، وهو محظور على المحرم . وذهب المالكيّة إلى أنّه إن تطيّب قبل الإحرام يجب إزالته ، سواء في ذلك بدنه أو ثوبه ، فإن بقي في البدن أو الثّوب بعد الإحرام شيء من جرم الطّيب الّذي تطيّب به قبل الإحرام فإنّ الفدية تكون واجبةً ، وأمّا إن كان الباقي في الثّوب رائحته ، فلا يجب نزع الثّوب لكن يكره استدامته ، ولا فدية . وأمّا اللّون ففيه قولان عند المالكيّة . وهذا كلّه في الأثر اليسير ، وأمّا الأثر الكثير ففيه الفدية . استدلّ المالكيّة بحديث يعلى بن أميّة قال : « أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجل متضمّخ بطيب وعليه جبّة ، فقال : يا رسول اللّه : كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبّة بعدما تضمّخ بطيب ؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أمّا الطّيب الّذي بك فاغسله ثلاث مرّات ، وأمّا الجبّة فانزعها ، ثمّ اصنع في عمرتك ما تصنع في حجّك » . متّفق عليه . فاستدلالهم بهذا الحديث لحظر الطّيب في الإحرام في البدن والثّوب .
ثالثاً : صلاة الإحرام
112 - يسنّ للمحرم أن يصلّي ركعتين قبل الإحرام باتّفاق الأئمّة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين » . أخرجه مسلم . ولا يصلّيهما في الوقت المكروه ، اتّفاقاً بين الأئمّة ، إلاّ من أحرم بالحرم عند الشّافعيّة ، فإنّه يصلّيهما ولو في الوقت المكروه عندهم . وتجزئ الصّلاة المكتوبة عن سنّة الإحرام اتّفاقاً كذلك ، كما في تحيّة المسجد .
رابعاً : التّلبية :
113 - التّلبية سنّة في الإحرام متّفق على سنّيّتها إجمالاً ، فيما عدا الخلاف في حكم قرنها بالنّيّة هل هي فرض في الإحرام مع النّيّة ، أو واجب أو سنّة ؟ ( ف . . . ) فاتّفقوا فيما عدا ذلك على سنّيّتها للمحرم ، وعلى استحباب الإكثار منها ، وسنّيّة رفع الصّوت بها . 114 - والأفضل أن يلبّي عقب صلاة الإحرام ناوياً الحجّ أو العمرة ، على ما قاله الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . وهو قول عند الشّافعيّة ، وفي قول - وهو الأصحّ - يلبّي إذا ركب . ولا خلاف في جواز ذلك كلّه لورود الرّواية به . عن ابن عمر رضي الله عنهما « أنّه صلى الله عليه وسلم أهلّ حين استوت به راحلته قائمةً » متّفق عليه . 115 - وأمّا انتهاء التّلبية : فهو للحاجّ ابتداء رمي جمرة العقبة يوم النّحر عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ويقطعها عند الطّواف والسّعي للاشتغال بالأذكار والأدعية الواردة فيها . وأمّا المالكيّة فعندهم قولان : الأوّل : يستمرّ في التّلبية حتّى يبلغ مكّة ، فيقطع التّلبية حتّى يطوف ويسعى ، ثمّ يعاودها حتّى تزول الشّمس من يوم عرفة ويروح إلى مصلاّها . الثّاني : يستمرّ في التّلبية حتّى الابتداء بالطّواف والشّروع فيه .
116 - وأمّا تلبية إحرام العمرة فالجمهور أنّها تنتهي ببدء الطّواف باستلام الرّكن . وقال المالكيّة : المعتمر الآفاقيّ يلبّي حتّى الحرم ، لا إلى رؤية بيوت مكّة ، والمعتمر من الجعرانة والتّنعيم يلبّي إلى دخول بيوت مكّة ، لقرب المسافة . يدلّ للجمهور حديث ابن عبّاس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يلبّي المعتمر حتّى يستلم الحجر » . أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وصحّحه . واستدلّ مالك بما رواه عن نافع عن ابن عمر من فعله في المناسك قال : وكان يترك التّلبية في العمرة إذا دخل الحرم .
كيفيّة الإحرام المستحبّة :
117 - من أراد أن يحرم بحجّ أو عمرة أو بهما معاً يستحبّ له إزالة التّفث عن جسمه ، وأن يتزيّن على الصّورة المألوفة الّتي لا تتنافى مع الشّريعة وآدابها ، وأن يغتسل بنيّة الإحرام ، وإذا كان جنباً فيكفيه غسل واحد بنيّة إزالة الجنابة والإحرام ، وأن يتطيّب . والأولى أن يتطيّب بطيب لا يبقى جرمه ، على التّفصيل والخلاف السّابق ، ثمّ يلبس ثوبين نظيفين جديدين أو غسيلين ، على ألاّ يكونا مصبوغين بصبغ له رائحة . وأمّا المرأة فتلبس ما يستر عورتها إلاّ وجهها وكفّيها . ثمّ يصلّي ركعتين بنيّة الإحرام . فإذا أتمّهما نوى بقلبه وقال بلسانه : اللّهمّ إنّي أريد الحجّ فيسّره لي ، وتقبّله منّي . ثمّ يلبّي . وإذا كان يريد العمرة فيقول : اللّهمّ إنّي أريد العمرة ، فيسّرها لي ، وتقبّلها منّي . ثمّ يلبّي . وإذا كان قارناً فيستحبّ أن يقدّم ذكر العمرة على ذكر الحجّ حتّى لا يشتبه أنّه أدخل العمرة على الحجّ . ويقول : اللّهمّ إنّي أريد الحجّ والعمرة . . . إلخ ، ويلبّي . فيصير بذلك محرماً ، وتجري عليه . أحكام الإحرام الّتي تقدّم بيانها . وإذا كان يؤدّي الحجّ والعمرة عن غيره فلا بدّ أن يعيّن ذلك بقلبه ولسانه . ويسنّ له الإكثار من التّلبية . وأفضل صيغها الصّيغة المأثورة : « لبّيك اللّهمّ لبّيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك ، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك ، لا شريك لك » . ويستحبّ ألاّ ينقص منها . قال الطّحاويّ والقرطبيّ : « أجمع العلماء على هذه التّلبية » . وأمّا الزّيادة على التّلبية ، فإن كانت من المأثور فمستحبّ . وما ليس مرويّاً فجائز أو حسن ، على تفصيل يذكر في موضع آخر ( ر : تلبية )
موجب الإحرام :
118 - إذا أحرم شخص بنسك وجب عليه إتمامه ولو كان نفلاً في الأصل . ويلزمه جميع ما يجب على المحرم فعله . ولا يتحلّل من إحرامه إلاّ بعد أداء هذا النّسك ، على التّفصيل المتقدّم . ويتّصل بهذا بيان أحكام ما يبطل الحجّ وما يفسده وما يمنع المضيّ فيه . 119 - أمّا ما يبطله فهو الرّدّة ، فإذا ارتدّ بطل نسكه ولا يمضي فيه . 120 - أمّا ما يفسد النّسك فهو الجماع ، وعليه أن يمضي في نسكه ثمّ القضاء من قابل إن كان حجّاً على ما يأتي بيانه . وإن كان عمرةً فعليه أن يمضي أيضاً فيها ثمّ يقضيها ولو في عامه على التّفصيل . 121 - أمّا ما يمنع الاستمرار في النّسك ، وهو الإحصار والفوات ، فإنّ أحكام ذلك ترد في موضع آخر ( ر : إحصار . فوات ) .
الفصل الثّامن
التّحلّل من الإحرام
المراد بالتّحلّل هنا الخروج من الإحرام وحلّ ما كان محظوراً عليه وهو محرم .
وهو قسمان : تحلّل أصغر ، وتحلّل أكبر .
التّحلّل الأصغر
122 - يكون التّحلّل الأصغر بفعل أمرين من ثلاثة : رمي جمرة العقبة ، والنّحر ، والحلق أو التّقصير . ويحلّ بهذا التّحلّل لبس الثّياب وكلّ شيء ما عدا النّساء بالإجماع ، والطّيب عند البعض ، والصّيد عند المالكيّة . والأصل في هذا الخلاف ما ورد عن السّيّدة « عائشة رضي الله عنها أنّها ضمّخت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمسك قبل أن يطوف طواف الإفاضة » . وقد جاء في بعض الأحاديث : أنّه « إذا رمى جمرة العقبة فقد حلّ له كلّ شيء إلاّ النّساء والطّيب » ، لما أخرجه مالك في الموطّأ عن عمر رضي الله عنه أنّه خطب النّاس بعرفة ، وعلّمهم أمر الحجّ ، وقال لهم فيما قال : إذا جئتم فمن رمى الجمرة فقد حلّ له ما حرّم على الحاجّ إلاّ النّساء والطّيب . وأمّا ما ذهب إليه مالك من تحريم الصّيد كذلك فإنّه أخذ بعموم قوله تعالى : { لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرم } ووجه الاستدلال بالآية أنّ الحاجّ يعتبر محرماً ما لم يطف طواف الإفاضة .
التّحلّل الأكبر :
123 - هو التّحلّل الّذي تحلّ به جميع محظورات الإحرام دون استثناء . ويبدأ الوقت الّذي تصحّ أفعال التّحلّل الأكبر فيه عند الحنفيّة والمالكيّة من طلوع فجر يوم النّحر ، وعند الشّافعيّة والحنابلة من منتصف ليلة النّحر ، وذلك تابع لاختلافهم فيما يحصل به التّحلّل الأكبر . أمّا نهاية وقته فبحسب ما يتحلّل به ، فهو لا ينتهي إلاّ بفعل ما يتحلّل به عند الحنفيّة والمالكيّة ؛ لأنّه لا يفوت ، كما ستعلم ، وهو الطّواف . وأمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فكذلك إن توقّف التّحلّل الأكبر على الطّواف أو الحلق ، أو السّعي . أمّا الرّمي فإنّه مؤقّت بغروب شمس آخر أيّام التّشريق ، فإذا توقّف عليه التّحلّل ، ولم يرم حتّى آخر أيّام التّشريق ، فات وقت الرّمي بالكلّيّة ، فيحلّ عند الحنابلة بمجرّد فوات الوقت ، وإن بقي عليه الفداء مقابل ذلك . وهذا قول عند الشّافعيّة ، لكن الأصحّ عندهم أنّه بفوات وقت الرّمي ينتقل التّحلّل إلى كفّارته ، فلا يحلّ حتّى يؤدّيها .
ما يحصل به التّحلّل الأكبر :
124 - يحصل التّحلّل الأكبر عند الحنفيّة والمالكيّة بطواف الإفاضة ، بشرط الحلق هنا باتّفاق الطّرفين . فلو أفاض ولم يحلق لم يتحلّل حتّى يحلق عند المذهبين . زاد المالكيّة : أن يكون الطّواف مسبوقاً بالسّعي ، وإلاّ لا يحلّ به حتّى يسعى ، لأنّ السّعي ركن عند المالكيّة . وقال الحنفيّة : لا مدخل للسّعي في التّحلّل ؛ لأنّه واجب مستقلّ . وعند الشّافعيّة والحنابلة يحصل التّحلّل الأكبر باستكمال أفعال التّحلّل الّتي ذكرناها : ثلاثة على القول بأنّ الحلق نسك ، واثنان على القول الآخر غير المشهور أنّه ليس بنسك . وحصول التّحلّل الأكبر باستكمال الأفعال الثّلاثة : رمي جمرة العقبة ، والحلق ، وطواف الإفاضة المسبوق بالسّعي ، محلّ اتّفاق العلماء ، وبه تحلّ جميع محظورات الإحرام بالإجماع . 125 - ثمّ إذا حصل التّحلّل الأكبر في اليوم الأوّل لجوازه مثلاً فلا يعني انتهاء كلّ أعمال الحجّ ، بل يجب عليه الإتيان بها ، وإن كان حلالاً ، وقد ضربوا لهذا مثلاً لطيفاً يبيّن حسن موقع هذه الأعمال بعد التّحلّلين ، نحو قول الرّمليّ : « ويجب عليه الإتيان بما بقي من أعمال الحجّ ، وهو الرّمي والمبيت ، مع أنّه غير محرم ، كما يخرج بالتّسليمة الأولى من صلاته ، ويطلب منه الثّانية . "
التّحلّل من إحرام العمرة :
126 - اتّفقوا على أنّ للعمرة تحلّلاً واحداً يحلّ به للمحرم جميع محظورات الإحرام . ويحصل هذا التّحلّل بالحلق أو التّقصير باتّفاق المذاهب على اختلافهم في حكمه في مناسك العمرة .
ما يرفع الإحرام
127 - يرفع الإحرام ، بتحويله عمّا نواه المحرم ، أمران :
1 - فسخ الإحرام .
2 - رفض الإحرام .
ذهب الحنابلة خلافاً للجمهور إلى أنّ من كان مفرداً أو قارناً ( إذا لم يكن قد ساق الهدي ) يستحبّ له إذا طاف وسعى أن يفسخ نيّته بالحجّ ، وينوي عمرةً مفردةً ، ثمّ يهلّ بالحجّ . وهذا مبنيّ عندهم على أفضليّة التّمتّع . واستدلّ الحنابلة بما روى ابن عمر « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمّا قدم مكّة قال للنّاس : من كان منكم أهدى فإنّه لا يحلّ من شيء حرم منه حتّى يقضي حجّه ، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصّفا والمروة ، وليقصّر ، وليحلل ، ثمّ ليهلّ بالحجّ ، وليهد » . أخرجه البخاريّ ومسلم . واستدلّ الجمهور على منع فسخ الحجّ بأدلّة منها قوله تعالى : { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه } فقد أمر اللّه تعالى بإكمال أفعال الحجّ وأفعال العمرة لمن شرع في أيّ منهما ، والفسخ ضدّ الإتمام ، فلا يكون مشروعاً ، ومنها الأحاديث الّتي شرع بها الإفراد والقران ، وقد سبق ذكرها .
رفض الإحرام
128 - رفض الإحرام : هو ترك المضيّ في النّسك بزعم التّحلّل منه قبل إتمامه . ورفض الإحرام لغو باتّفاق العلماء ، ولا يبطل به الإحرام ، ولا يخرج به عن أحكامه .
ما يبطل الإحرام :
129 - يبطل الإحرام بأمر واحد فقط ، متّفق عليه بين الجميع : هو الرّدّة عن الإسلام ، عياذاً باللّه تعالى وذلك لأنّهم اتّفقوا على كون الإسلام شرطاً لصحّة النّسك . ويتفرّع على بطلان الإحرام أنّه لا يمضي في متابعة أعمال ما أحرم به ، خلافاً للفاسد . وأمّا إذا أسلم وتاب عن ردّته فلا يمضي أيضاً ؛ لبطلان إحرامه . الفصل التّاسع
أحكام خاصّة في الإحرام
130 - وهي أحكام مستثناة من عموم أحكام الإحرام العامّة ، بسبب وضع خاصّ لبعض الأشخاص ، أو بسبب طروء بعض الطّوارئ ، كما في السّرد التّالي : أ - إحرام المرأة .
ب - إحرام الصّبيّ .
ج - إحرام العبد والأمة .
د - إحرام المغمى عليه .
هـ - نسيان ما أحرم به . وقد تقدّم بعض ذلك ، وندرس ما بقي منها ، كلّاً منها وحده . إحرام الصّبيّ مشروعيّة حجّ الصّبيّ وصحّة إحرامه :
131 - اتّفق العلماء على صحّة حجّ الصّبيّ ، وعمرته ، وأنّ ما يؤدّيه من عبادة أو من حجّ أو من عمرة يكون تطوّعاً ، فإذا بلغ وجب عليه حجّة فرض الإسلام . وإذا كان أداء الصّبيّ للنّسك صحيحاً كان إحرامه صحيحاً قطعاً . صفة إحرام الصّبيّ :
132 - ينقسم الصّبيّ بالنّسبة إلى مرحلة صباه إلى قسمين : صبيّ مميّز ، وصبيّ غير مميّز . وضابط المميّز : هو الّذي يفهم الخطاب ويردّ الجواب ، دون اعتبار للسّنّ . 133 - أمّا الصّبيّ المميّز : فعند الحنفيّة والمالكيّة ينعقد إحرامه بنفسه ، ولا تصحّ النّيابة عنه في الإحرام ، لعدم جواز النّيابة عند عدم الضّرورة . ولا تتوقّف صحّة إحرامه على إذن الوليّ ، بل يصحّ إحرامه بإذن الوليّ ، وبغير إذن الوليّ ، لكن إذا أحرم بغير إذن الوليّ فقد صرّح المالكيّة أنّ للوليّ تحليله ، وله إجازة فعله وإبقاؤه على إحرامه بحسب ما يرى من المصلحة . فإن كان يرتجي بلوغه فالأولى تحليله ليحرم بالفرض بعد بلوغه . فإن أحرم بإذنه لم يكن له تحليله ، أمّا إذا أراد الوليّ الرّجوع عن الإذن قبل الإحرام فقال الحطّاب : « الظّاهر أنّ له الرّجوع ، لا سيّما إذا كان لمصلحته » . ولم يصرّح بذلك الحنفيّة . ولعلّه يدخل في الإحصار بمنع السّلطان عندهم . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا ينعقد إحرامه إلاّ بإذن وليّه ، بل قال الشّافعيّة : يصحّ إحرام وليّه عنه ، على الأصحّ عندهم في المسألتين . أمّا عند الحنابلة فلا يحرم عنه وليّه لعدم الدّليل . ويفعل الصّبيّ الصّغير المميّز كلّ ما يستطيع أن يفعله بنفسه ، فإن قدر على الطّواف علّمه فطاف ، وإلاّ طيف به ، وكذلك السّعي وسائر المناسك . ولا تجوز النّيابة عنه فيما قدر عليه بنفسه ، وكلّ ما لا يقدر الصّبيّ على أدائه ينوب عنه وليّه في أدائه . 134 - وأمّا الصّبيّ غير المميّز - ومثله المجنون جنوناً مطبقاً - فيحرم عنه وليّه ، بأن يقول : نويت إدخال هذا الصّبيّ في حرمات الحجّ ، مثلاً . وليس المراد أنّ الوليّ يحرم في نفسه ويقصد النّيابة عن الصّبيّ . ولا ينعقد إحرام الصّبيّ غير المميّز بنفسه اتّفاقاً . 135 - ويؤدّي الوليّ بالصّبيّ غير المميّز المناسك ، فيجرّده من المخيط والمحيط إن كان ذكراً ، ويكشف وجه الأنثى وكفّيها كالكبيرة على ما سبق فيه ويطوف به ويسعى ، ويقف به بعرفة والمزدلفة ، ويرمي عنه ، ويجنّبه محظورات الإحرام ، وهكذا . لكن لا يصلّي عنه ركعتي الإحرام أو الطّواف ، بل تسقطان عنه عند الحنفيّة والمالكيّة ، أمّا عند الشّافعيّة فيصلّيهما الوليّ عنه ، وهو ظاهر كلام الحنابلة . إلاّ أنّ المالكيّة خفّفوا في الإحرام والتّجرّد من الثّياب ، فقالوا : « يحرم الوليّ بالصّغير غير المميّز ، ويجرّده من ثيابه قرب مكّة ، لخوف المشقّة وحصول الضّرر . فإن كانت المشقّة أو الضّرر يتحقّق بتجريده قرب مكّة أحرم بغير تجريده ، كما هو الظّاهر من كلامهم - ويفدي » .
بلوغ الصّبيّ في أثناء النّسك :
136 - إن بلغ الصّبيّ الحلم بعدما أحرم ، فمضى في نسكه على إحرامه الأوّل ، لم يجزه حجّه عن فرض الإسلام عند الحنفيّة والمالكيّة . وقال الحنفيّة : لو جدّد الصّبيّ الإحرام قبل الوقوف بعرفة ، ونوى حجّة الإسلام ، جاز عن حجّة الإسلام ؛ لأنّ إحرام الصّبيّ غير لازم لعدم أهليّته للّزوم عليه . وقال المالكيّة لا يرتفض إحرامه السّابق ، ولا يجزيه إرداف إحرام عليه ، ولا ينقلب إحرامه عن الفرض ، لأنّه اختلّ شرط الوقوع فرضاً ، وهو ثبوت الحرّيّة والتّكليف ، وقت الإحرام . وهذا لم يكن مكلّفاً وقت الإحرام ، فلا يقع نسكه هذا إلاّ نفلاً . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فقالوا : إن بلغ الصّبيّ في أثناء الحجّ ينظر إلى حاله من الوقوف فينقسم إلى قسمين : الأوّل : أن يبلغ بعد خروج وقت الوقوف ، أو قبل خروجه وبعد مفارقة عرفات لكن لم يعد إليها بعد البلوغ ، فهذا لا يجزيه حجّه عن حجّة الإسلام . الثّاني : أن يبلغ في حال الوقوف ، أو يبلغ بعد وقوفه بعرفة ، فيعود ويقف بها في وقت الوقوف ، أي قبل طلوع فجر يوم النّحر ، فهذا يجزيه حجّه عن حجّة الإسلام . لكن يجب عليه إعادة السّعي إن كان سعى عقب طواف القدوم قبل البلوغ ، ولا دم عليه . أمّا في العمرة : فالطّواف في العمرة كالوقوف بعرفة في الحجّ ، إذا بلغ قبل طواف العمرة أجزأه عن عمرة الإسلام ، عند من يقول بوجوبها .
إحرام المغمى عليه
137 - للمغمى عليه حالان : أن يغمى عليه قبل الإحرام ، أو يغمى عليه بعد الإحرام .
أوّلاً : من أغمي عليه قبل الإحرام :
138 - في المذاهب الثّلاثة المالكيّ والشّافعيّ والحنبليّ : لا إحرام له ، ولا يحرم عنه أحد من رفقته ولا غيرهم ، سواء أمرهم بذلك قبل أن يغمى عليه أو لم يأمرهم ، ولو خيف فوات الحجّ عليه ؛ لأنّ الإغماء مظنّة عدم الطّول ، ويرجى زواله عن قرب غالباً . وذهب الحنفيّة إلى جواز الإحرام عن المغمى عليه ، على تفصيل بين الإمام وصاحبيه :
أ - من توجّه إلى البيت الحرام يريد الحجّ فأغمي عليه قبل الإحرام ، أو نام وهو مريض فنوى عنه ولبّى أحد رفقته ، وكذا من غير رفقته وكان قد أمرهم بالإحرام عنه قبل الإغماء ، صحّ الإحرام عنه ، ويصير المغمى عليه محرماً بنيّة رفيقه وتلبيته عنه اتّفاقاً بين أئمّة الحنفيّة . ويجزيه عن حجّة الإسلام .
ب - إن أحرم عنه بعض رفقته أو غيرهم بلا أمر سابق على الإغماء صحّ كذلك عند الإمام أبي حنيفة ، ولم يصحّ عند صاحبيه أبي يوسف ومحمّد .
فروع
139 - أ - إن أفاق المغمى عليه بعدما أحرم عنه غيره ، فهو عند الحنفيّة محرم يتابع النّسك . وعند غيرهم لا عبرة بإحرام غيره عنه ، فإن كان بحيث يدرك الوقوف بعرفة أحرم بالحجّ ، وأدّى المناسك ، وإلاّ فإنّه يحرم بعمرة . ولا ينطبق عليه حكم الفوات عند الثّلاثة ؛ لأنّه لم يكن محرماً .
140 - ب - لا يجب على من أحرم عن المغمى عليه تجريده من المخيط وإلباسه غير المخيط لصحّة الإحرام ؛ لأنّ ذلك ليس هو الإحرام ، بل كفّ عن بعض محظورات الإحرام . حتّى إذا أفاق وجب عليه أفعال النّسك ، والكفّ عن المحظورات .
141 - ج - لو ارتكب المغمى عليه الّذي أحرم عنه غيره محظوراً من محرّمات الإحرام لزمه موجبه ، أي كفّارته ، وإن كان غير قاصد للمحظور . ولا يلزم الرّفيق الّذي أحرم عنه ؛ لأنّ هذا الرّفيق أحرم عن نفسه بطريق الأصالة ، وعن المغمى عليه بطريق النّيابة ، كالوليّ يحرم عن الصّغير . فينتقل إحرامه إليه ، فيصير محرماً كما لو نوى هو ولبّى ، ولذا لو ارتكب هو أيضاً - أي الوليّ - محظوراً لزمه جزاء واحد لإحرام نفسه ، ولا شيء عليه من جهة إهلاله عن غيره عند الحنفيّة كما سبق .
142 - د - إذا لم يفق المغمى عليه فهل يشهد به رفقته المشاهد ، على أساس الإحرام عنه الّذي قال به الحنفيّة ؟ هناك قولان عند الحنفيّة : قيل : لا يجب على الرّفقاء أن يشهدوا به المشاهد ، كالطّواف والوقوف والرّمي والوقوف بمزدلفة ، بل مباشرتهم عنه تجزيه ، لكن إحضاره أولى ، على ما صرّح به بعض أصحاب هذا القول . وهذا الأصحّ على ما أفاد في ردّ المحتار المعتمد في الفتوى في مذهب الحنفيّة ، لكن لا بدّ للإجزاء عنه من نيّة الوقوف عنه ، والطّواف عنه بعد طواف النّائب عن نفسه ، وهكذا .
ثانياً : من أغمي عليه بعد إحرامه بنفسه :
143 - الإغماء بعد الإحرام لا يؤثّر في صحّته ، باتّفاق الأئمّة . وعلى ذلك فهذا حمله متعيّن على رفقائه ، ولا سيّما للوقوف بعرفة ، فإنّه يصحّ ولو كان نائماً أو مغمًى عليه ، على تفصيل في أداء المناسك له يطلب في موضعه من مصطلح « حجّ " ومصطلح « عمرة » .
نسيان ما أحرم به
144 - من أحرم بشيء معيّن ، مثل حجّ ، أو عمرة ، أو قران ، ثمّ نسي ما أحرم به ، لزمه حجّ وعمرة . ويعمل عمل القران في المذاهب الثّلاثة : الحنفيّ والمالكيّ والشّافعيّ . وذهب الحنابلة إلى أنّه يصرف إحرامه إلى أيّ نسك شاء ، ويندب صرفه إلى العمرة خاصّةً .
الفصل العاشر
في كفّارات محظورات الإحرام
تعريفها :
145 - المراد بالكفّارة هنا : الجزاء الّذي يجب على من ارتكب شيئاً من محظورات الإحرام . وهذه الأجزية أنواع :
1 - الفدية : حيث أطلقت فالمراد الفدية المخيّرة الّتي نصّ عليها القرآن في قوله تعالى : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } .
2 - الهدي : وربّما عبّر عنه بالدّم . وكلّ موضع أطلق فيه الدّم أو الهدي تجزئ فيه الشّاة ، إلاّ من جامع بعد الوقوف بعرفة فعليه بدنة ( أي من الإبل ) اتّفاقاً . أمّا من جامع قبل الوقوف فإنّه يفسد حجّه اتّفاقاً وعليه بدنة عند الثّلاثة ، وقال الحنفيّة : عليه شاة ، ويمضي في حجّه ، ويقضيه .
3 - الصّدقة : حيث أطلق وجوب " صدقة " عند الحنفيّة من غير بيان مقدارها فإنّه يجب نصف صاع من برّ ( قمح ) أو صاع من شعير أو تمر .
4 - الصّيام : يجب الصّيام على التّخيير في الفدية ، وهو ثلاثة أيّام . ويجب في مقابلة الإطعام .
5 - الضّمان بالمثل : في جزاء الصّيد ، على ما سيأتي .
146 - يستوي إحرام العمرة مع إحرام الحجّ في عقوبة الجناية عليه . إلاّ من جامع في العمرة قبل أداء ركنها ، فتفسد اتّفاقاً كما ذكرنا ، وعليه شاة عند الحنفيّة والحنابلة ، وقال الشّافعيّة والمالكيّة : عليه بدنة . المبحث الأوّل في كفّارة محظورات التّرفّه .
147 - يتناول هذا البحث كفّارة محظورات اللّبس ، وتغطية الرّأس ، والادّهان ، والتّطيّب ، وحلق الشّعر أو إزالته أو قطعة من الرّأس أو غيره ، وقلم الظّفر . أصل كفّارة محظورات التّرفّه .
148 - اتّفقوا على أنّ من فعل من المحظورات شيئاً لعذر مرض أو دفع أذًى فإنّ عليه الفدية ، يتخيّر فيها : إمّا أن يذبح هدياً ، أو يتصدّق بإطعام ستّة مساكين ، أو يصوم ثلاثة أيّام ، لقوله تعالى : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } . ولما ورد عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له حين رأى هوامّ رأسه : « أيؤذيك هوامّ رأسك ؟ قال : قلت : نعم . قال : فاحلق ، وصم ثلاثة أيّام ، أو أطعم ستّة مساكين ، أو انسك نسيكةً » متّفق عليه . 149 - وأمّا العامد الّذي لا عذر له فقد اختلفوا فيه : فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يتخيّر ، كالمعذور ، وعليه إثم ما فعله . واستدلّوا بالآية . وذهب الحنفيّة إلى أنّ العامد لا يتخيّر ، بل يجب عليه الدّم عيناً أو الصّدقة عيناً ، حسب جنايته . واستدلّوا على ذلك بالأدلّة السّابقة . وجه الاستدلال : أنّ التّخيير شرع فيها عند العذر من مرض أو أذًى ، وغير المعذور جنايته أغلظ ، فتتغلّظ عقوبته ، وذلك بنفي التّخيير في حقّه . 150 - وأمّا المعذور بغير الأذى والمرض : كالنّاسي والجاهل بالحكم والمكره والنّائم والمغمى عليه ، فحكمه عند الحنفيّة المالكيّة حكم العامد ، على ما سبق . ووجه حكمه هذا : أنّ الارتفاق حصل له ، وعدم الاختيار أسقط الإثم عنه ، كما وجّهه الحنفيّة . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى التّمييز بين جناية فيها إتلاف ، وهي هنا الحلق أو قصّ الشّعر أو قلم الظّفر ، وجناية ليس فيها إتلاف ، وهي : اللّبس وتغطية الرّأس ، والادّهان والتّطيّب . فأوجبوا الفدية في الإتلاف ؛ لأنّه يستوي عمده وسهوه ، ولم يوجبوا فديةً في غير الإتلاف ، بل أسقطوا الكفّارة عن صاحب أيّ عذر من هذه الأعذار .
تفصيل كفّارة محظورات التّرفّه
151 - الأصل في هذا التّفصيل هو القياس على الأصل السّابق المنصوص عليه في الكتاب والسّنّة بخصوص الحلق ، فقاس الفقهاء عليه سائر مسائل الفصل بجامع اشتراك الجميع في العلّة وهي التّرفّه ، أو الارتفاق . وقد اختلفوا في بعض التّفاصيل ، في القدر الّذي يوجب الفدية من المحظور ، وفي تفاوت الجزاء بتفاوت الجناية ، وذلك بسبب اختلاف أنظارهم في المقدار الّذي يحصل به التّرفّه والارتفاق الّذي هو علّة وجوب الفدية ، فالحنفيّة اشترطوا كمال الجناية ، فلم يوجبوا الدّم أو الفداء إلاّ لمقادير تحقّق ذلك في نظرهم ، وغيرهم مال إلى اعتبار الفعل نفسه جنايةً . وتفصيل المذاهب في كلّ محظور من محظورات التّرفّه فيما يلي :
أوّلاً : اللّباس :
152 - من لبس شيئاً من محظور اللّبس ، أو ارتكب تغطية الرّأس ، أو غير ذلك ، فقال فقهاء الحنفيّة : إن استدام ذلك نهاراً كاملاً أو ليلةً وجب عليه الدّم . وكذا إذا غطّت المرأة وجهها بساتر يلامس بشرتها على ما سبق من التّفصيل فيه ( ف 67 ) وإن كان أقلّ من يوم أو أقلّ من ليلة فعليه صدقة عند الحنفيّة . وفي أقلّ من ساعة عرفيّة قبضة من برّ ، وهي مقدار ما يحمل الكفّ . ومذهب الشّافعيّ وأحمد أنّه يجب الفداء بمجرّد اللّبس ، ولو لم يستمرّ زمناً ؛ لأنّ الارتفاق يحصل بالاشتمال على الثّوب ، ويحصل محظور الإحرام ، فلا يتقيّد وجوب الفدية بالزّمن . وعند المالكيّة يشترط لوجوب الفدية من لبس الثّوب أو الخفّ أو غيرهما من محظورات اللّبس أن ينتفع به من حرّ أو برد ، فإن لم ينتفع به من حرّ أو برد بأن لبس قميصاً رقيقاً لا يقي حرّاً ولا برداً يجب الفداء إن امتدّ لبسه مدّةً كاليوم .
ثانياً : التّطيّب :
153 - يجب الفداء عند الثّلاثة المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لأيّ تطيّب ممّا سبق بيان حظره ، دون تقييد بأن يطيّب عضواً كاملاً ، أو مقداراً من الثّوب معيّناً . وفرّق الحنفيّة بين تطيّب وتطيّب ، وفصّلوا : أمّا في البدن فقالوا : تجب شاة إن طيّب المحرم عضواً كاملاً مثل الرّأس واليد والسّاق ، أو ما يبلغ عضواً كاملاً . والبدن كلّه كعضو واحد إن اتّحد مجلس التّطيّب ، وإن تفرّق المجلس فلكلّ طيب كفّارة ، وتجب إزالة الطّيب ، فلو ذبح ولم يزله لزمه دم آخر . ووجه وجوب الشّاة : أنّ الجناية تتكامل بتكامل الارتفاق ، وذلك في العضو الكامل ، فيترتّب كمال الموجب . وإن طيّب أقلّ من عضو فعليه الصّدقة لقصور الجناية ، إلاّ أن يكون الطّيب كثيراً فعليه دم . ولم يشرط الحنفيّة استمرار الطّيب لوجوب الجزاء ، بل يجب بمجرّد التّطيّب . وأمّا تطييب الثّوب : فيجب فيه الدّم عند الحنفيّة بشرطين : أوّلهما : أن يكون كثيراً ، وهو ما يصلح أن يغطّي مساحةً تزيد على شبر في شبر . والثّاني : أن يستمرّ نهاراً ، أو ليلةً . فإن اختلّ أحد الشّرطين وجبت الصّدقة ، وإن اختلّ الشّرطان معاً وجب التّصدّق بقبضة من قمح .
154 - لو طيّب محرم محرماً أو حلالاً فلا شيء على الفاعل ما لم يمسّ الطّيب ، عند الحنفيّة . وعلى الطّرف الآخر الدّم إن كان محرماً وإن كان مكرهاً . وعند الثّلاثة التّفصيل الآتي في مسألة الحلق ( ف 157 ) لكن عليه في حال لا تلزمه فيه الفدية ألاّ يستديمه ، بل يبادر بإزالته . فإن تراخى لزمه الفداء .
ثالثاً : الحلق أو التّقصير :
155 - مذهب الحنفيّة أنّ من حلق ربع رأسه أو ربع لحيته يجب عليه دم ؛ لأنّ الرّبع يقوم مقام الكلّ ، فيجب فيه الفداء الّذي دلّت عليه الآية الكريمة . ولو حلق رأسه ولحيته وإبطيه وكلّ بدنه في مجلس واحد فعليه دم واحد ، وإن اختلفت المجالس فلكلّ مجلس موجبه . وإن حلق خصلةً من شعره أقلّ من الرّبع يجب عليه الصّدقة ، أمّا إن سقط من رأسه أو لحيته عند الوضوء أو الحكّ ثلاث شعرات فعليه بكلّ شعرة صدقة ( كفّ من طعام ) . وإن حلق رقبته كلّها ، أو إبطيه ، أو أحدهما ، يجب الدّم . أمّا إن حلق بعض واحد منهما ، وإن كثر . فتجب الصّدقة ؛ لأنّ حلق جزء عضو من هذه الأشياء ليس ارتفاقاً كاملاً ، لعدم جريان العادة بحلق البعض فيها ، فلا يجب إلاّ الصّدقة . وقرّر الحنفيّة أنّ في حلق الشّارب حكومة عدل ، بأن ينظر إلى هذا المأخوذ كم يكون من ربع اللّحية ، فيجب عليه بحسابه من الطّعام . وذهب المالكيّة إلى أنّه إن أخذ عشر شعرات فأقلّ ، ولم يقصد إزالة الأذى ، يجب عليه أن يتصدّق بحفنة قمح ، وإن أزالها بقصد إماطة الأذى تجب الفدية ، ولو كانت شعرةً واحدةً . وتجب الفدية أيضاً إذا أزال أكثر من عشر شعرات لأيّ سبب كان . وشعر البدن كلّه سواء . وذهب الشّافعيّ وأحمد إلى أنّه تجب الفدية لو حلق ثلاث شعرات فأكثر ، كما تجب لو حلق جميع الرّأس ، بل جميع البدن ، بشرط اتّحاد المجلس ، أي الزّمان والمكان . ولو حلق شعرةً أو شعرتين ففي شعرة مدّ ، وفي شعرتين مدّان من القمح ، وسواء في ذلك كلّه شعر الرّأس وشعر البدن .
156 - أمّا إذا سقط شعر المحرم بنفسه من غير صنع آدميّ فلا فدية باتّفاق المذاهب .
157 - إذا حلق محرم رأس غيره ، أو حلق غيره رأسه - ومحلّ المسألة إذا كان الحلق لغير التّحلّل - فعلى المحرم المحلوق الدّم عند الحنفيّة ، ولو كان كارهاً . وأمّا غيرهم فعندهم تفصيل في حقّ الحالق والمحلوق . ولهذه المسألة ثلاث صور تقتضيها القسمة العقليّة نبيّن حكمها فيما يلي : الصّورة الأولى : أن يكونا محرمين ، فعلى المحرم الحالق صدقة عند الحنفيّة ، سواء حلق بأمر المحلوق أو بغير أمره طائعاً أو مكرهاً ، ما لم يكن حلقه في أوان الحلق . فإن كان فيه ، فلا شيء عليه . وقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إن حلق له بغير رضاه فالفدية على الحالق ، وإن كان برضاه فعلى المحلوق فدية ، وعلى الحالق فدية ، وقيل حفنة . الصّورة الثّانية : أن يكون الحالق محرماً والمحلوق حلالاً ، فكذلك على الحالق المحرم صدقة عند الحنفيّة . وقال المالكيّة : يفتدي الحالق . وعندهم في تفسيره قولان : قول أنّه يطعم قدر حفنة ، أي ملء يد واحدة من طعام ، وقول أنّ عليه الفدية . وقال الشّافعيّة والحنابلة : لا فدية على الحالق ، ولو حلق له المحرم بغير إذنه ، إذ لا حرمة لشعره في حقّ الإحرام . الصّورة الثّالثة : أن يكون الحالق حلالاً والمحلوق محرماً ، فعلى الحالق صدقة عند الحنفيّة . وقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إن كان بإذن المحرم أو عدم ممانعته فعلى المحرم الفدية . وإن كان الحلق بغير إذن المحرم فعلى الحلال الفدية .
رابعاً : تقليم الأظفار :
158 - قال الحنفيّة : إذا قصّ أظفار يديه ورجليه جميعها في مجلس واحد تجب عليه شاة . وكذا إذا قصّ أظفار يد واحدة ، أو رجل واحدة ، تجب شاة . وإن قصّ أقلّ من خمسة أظفار من يد واحدة ، أو خمسةً متفرّقةً من أظفاره ، تجب عليه صدقة لكلّ ظفر . ومذهب المالكيّة أنّه إن قلم ظفراً واحداً عبثاً أو ترفّهاً ، لا لإماطة أذًى ، ولا لكسره ، يجب عليه صدقة : حفنة من طعام . فإن فعل ذلك لإماطة الأذى أو الوسخ ففيه فدية . وإن قلّمه لكسره فلا شيء عليه إذا تأذّى منه . ويقتصر على ما كسر منه . وإن قلّم ظفرين في مجلس واحد ففدية ، ولو لم يقصد إماطة الأذى ، وإن قطع واحداً بعد آخر فإن كانا في فور ففدية ، وإلاّ ففي كلّ ظفر حفنة . وعند الشّافعيّة والحنابلة : يجب الفداء في تقليم ثلاثة أظفار فصاعداً في مجلس واحد ، ويجب في الظّفر والظّفرين ما يجب في الشّعرتين .
خامساً : قتل القمل :
159 - وهو ملحق بهذا المبحث ؛ لأنّ فيه إزالة الأذى ، لذا يختصّ البحث بما على بدن المحرم أو ثيابه . فقد ذهب الشّافعيّة إلى ندب قتل المحرم لقمل بدنه وثيابه لأنّه من الحيوانات المؤذية ، وقد صحّ أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتل الفواسق الخمس في الحلّ والحرم ، وألحقوا بها كلّ حيوان مؤذ . أمّا قمل شعر الرّأس واللّحية خاصّةً فيكره تنزيهاً تعرّضه له لئلاّ ينتتف الشّعر . ومقتضى تعليلهم الكراهة بالخوف من انتتاف الشّعر زوال هذه الكراهة فيما لو قتله بوسيلة لا يخشى معها الانتتاف كما إذا رشّه بدواء مطهّر مثلاً . وعلى أيّة حال فإذا قتل قمل شعر رأسه ولحيته لم يلزمه شيء لكن يستحبّ له أن يفدي الواحدة منه ولو بلقمة . وفي رواية عن أحمد إباحة قتل القمل مطلقاً دون تفريق بين قمل الرّأس وغيره لأنّه من أكثر الهوامّ أذًى فأبيح قتله كالبراغيث ، وسائر ما يؤذي . وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم » يدلّ بمعناه على إباحة قتل كلّ ما يؤذي بني آدم في أنفسهم وأموالهم . وفي رواية أخرى عنه حرمة قتله ، إلاّ أنّه لا جزاء فيه إذ لا قيمة له وليس بصيد . وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى وجوب الصّدقة ولا ريب أنّه إذا آذاه بالفعل ، ولم يمكنه التّخلّص منه إلاّ بقتله ، جاز له قتله طبقاً لقاعدة : « الضّرر يزال » ، وقاعدة : « الضّرورات تبيح المحظورات » .
المبحث الثّاني
في قتل الصّيد وما يتعلّق به
160 - أجمع العلماء على وجوب الجزاء في قتل الصّيد ، استدلالاً بقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمّداً فجزاء مثل ما قتل من النّعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفّارة طعام مساكين ، أو عدل ذلك صياماً ليذوق وبال أمره عفا اللّه عمّا سلف ومن عاد فينتقم اللّه منه واللّه عزيز ذو انتقام } .
أوّلاً : قتل الصّيد :
161 - وجوب الجزاء في قتل الصّيد عمداً متّفق عليه عملاً بنصّ الآية الكريمة السّابقة . 162 - إنّ غير العمد في هذا الباب كالعمد ، يجب فيه الجزاء باتّفاق المذاهب الأربعة ؛ لأنّ العقوبة هنا شرعت ضماناً للمتلف ، وذلك يستوي فيه العمد والخطأ والجهل والسّهو والنّسيان .
163 - إنّ هذا الجزاء هو كما نصّت الآية : { مثل ما قتل من النّعم } . ويخيّر فيه بين الخصال الثّلاث . لكن اختلفوا بعد هذا في تفسير هذين الأمرين : ذهب الحنفيّة : إلى أنّه تقدّر قيمة الصّيد بتقويم رجلين عدلين ، سواء أكان للصّيد المقتول نظير من النّعم أم لم يكن له نظير . وتعتبر القيمة في موضع قتله ، ثمّ يخيّر الجاني بين ثلاثة أمور : الأوّل - أن يشتري هدياً ويذبحه في الحرم إن بلغت القيمة هدياً . ويزاد على الهدي في مأكول اللّحم إلى اثنين أو أكثر إن زادت قيمته ، لكنّه لا يتجاوز هدياً واحداً في غير مأكول اللّحم ، حتّى لو قتل فيلاً لا يجب عليه أكثر من شاة . الثّاني - أن يشتري بالقيمة طعاماً ويتصدّق به على المساكين ، لكلّ مسكين نصف صاع من برّ ، أو صاع من شعير أو تمر كما في صدقة الفطر . ولا يجوز أن يعطي المسكين أقلّ ممّا ذكر ، إلاّ إن فضل من الطّعام أقلّ منه ، فيجوز أن يتصدّق به . ولا يختصّ التّصدّق بمساكين الحرم . الثّالث - أن يصوم عن طعام كلّ مسكين يوماً ، وعن أقلّ من نصف صاع - إذا فضل - يوماً أيضاً . وذهب الأئمّة الثّلاثة المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى التّفصيل فقالوا : الصّيد ضربان : مثليّ : وهو ما له مثل من النّعم ، أي مشابه في الخلقة من النّعم ، وهي الإبل والبقر والغنم . وغير مثليّ ، وهو ما لا يشبه شيئاً من النّعم . أمّا المثليّ : فجزاؤه على التّخيير والتّعديل ، أي أنّ القاتل يخيّر بين ثلاثة أشياء على الوجه التّالي : الأوّل - أن يذبح المثل المشابه من النّعم في الحرم ، ويتصدّق به على مساكين الحرم . الثّاني - أن يقوّم المثل دراهم ثمّ يشتري بها طعاماً ، ويتصدّق به على مساكين الحرم . ولا يجوز تفرقة الدّراهم عليهم . وقال مالك بل يقوّم الصّيد نفسه ويشتري به طعاماً يتصدّق به على مساكين موضع الصّيد ، فإن لم يكن فيه مساكين فعلى مساكين أقرب المواضع فيه . الثّالث - إن شاء صام عن كلّ مدّ يوماً . وفي أقلّ من مدّ يجب صيام يوم . ويجوز الصّيام في الحرم وفي جميع البلاد . وأمّا غير المثليّ : فيجب فيه قيمته ويتخيّر فيها بين أمرين : الأوّل - أن يشتري بها طعاماً يتصدّق به على مساكين الحرم ، وعند مالك : على المساكين في موضع الصّيد . الثّاني - أن يصوم عن كلّ مدّ يوماً كما ذكر سابقاً . ثمّ قالوا في بيان المثليّ : المعتبر فيه التّشابه في الصّورة والخلقة . وكلّ ما ورد فيه نقل عن السّلف فيتبع ؛ لقوله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم } ، وما لا نقل فيه يحكم بمثله عدلان فطنان بهذا الأمر ، عملاً بالآية . ويختلف الحكم فيه بين الدّوابّ والطّيور : أمّا الدّوابّ ففي النّعامة بدنة ، وفي بقر الوحش وحمار الوحش بقرة إنسيّة ، وفي الغزال عنز ، وفي الأرنب عناق ، وفي اليربوع جفرة . وعند مالك في الأرنب واليربوع والضّبّ القيمة . وأمّا الطّيور : ففي أنواع الحمام شاة . والمراد بالحمام كلّ ما عبّ في الماء ، وهو أن يشربه جرعاً ، فيدخل فيه اليمام اللّواتي يألفن البيوت ، والقمريّ ، والقطا . والعرب تسمّي كلّ مطوّق حماماً . وإن كان الطّائر أصغر من الحمام جثّةً ففيه القيمة . وإن كان أكبر من الحمام ، كالبطّة والإوزّة ، فالأصحّ أنّه يجب فيه القيمة ، إذ لا مثل له . وقال مالك : تجب شاة في حمام مكّة والحرم ويمامهما ، وفي حمام ويمام غيرهما تجب القيمة ، وكذا في سائر الطّيور . 164 - وعند الشّافعيّة والحنابلة : الواجب في الكبير والصّغير والسّمين والهزيل والمريض من الصّيد المثليّ مثله من النّعم ؛ لقوله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل } وهذا مثليّ فيجزئ . وقال مالك : يجب فيه كبير ؛ لقوله تعالى : { هدياً بالغ الكعبة } ؟ والصّغير لا يكون هدياً ، وإنّما يجزئ في الهدي ما يجزئ في الأضحيّة .
ثانياً : إصابة الصّيد
165 - إذا أصاب الصّيد بضرر ، ولم يقتله ، يجب عليه الجزاء بحسب تلك الإصابة عند الثّلاثة : الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . فإن جرح المحرم صيداً ، أو نتف شعره . ضمن قيمة ما نقص منه ، اعتباراً للجزء بالكلّ ، فكما تجب القيمة بالكلّ تجب بالجزء . وهذا الجزاء يجب إذا برئ الحيوان وظهر أثر الجناية عليه ، أمّا إذا لم يبق لها أثر فلا يضمن عند الحنفيّة ، لزوال الموجب . وعند الشّافعيّة والحنابلة إن جرح صيداً يجب عليه قدر النّقص من مثله من النّعم إن كان مثليّاً ، وإلاّ بقدر ما نقص من قيمته ، وإذا أحدث به عاهةً مستديمةً فوجهان عندهم ، أصحّهما يلزمه جزاء كامل . أمّا إذا أصابه إصابةً أزالت امتناعه عمّن يريد أخذه وجب الجزاء كاملاً عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو أحد القولين عند الشّافعيّة ؛ لأنّه فوّت عليه الأمن بهذا . وفي قول عند الشّافعيّة : يضمن النّقص فقط . أمّا المالكيّة فعندهم لا يضمن ما غلب على ظنّه سلامته من الصّيد بإصابته بنقص ، ولا جزاء عليه ، ولا يلزمه فرق ما بين قيمته سليماً وقيمته بعد إصابته .
ثالثاً : حلب الصّيد أو كسر بيضه أو جزّ صوفه :
166 - يجب فيه قيمة كلّ من اللّبن والبيض والصّوف عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ويضمن أيضاً قيمة ما يلحق الصّيد نفسه من نقص بسبب من ذلك . ونصّ المالكيّة على البيض أنّ فيه عشر دية الأمّ ما لم يخرج منه فرخ ويستهلّ ثمّ يموت ، فإنّه حينئذ يلزمه الدّية كاملةً . وهذا الأخير متّفق عليه .
رابعاً : التّسبّب في قتل الصّيد :
167 - يجب في التّسبّب بقتل الصّيد الجزاء ، وذلك :
1 - بأن يصيح به وينفّره ، فيتسبّب ذلك بموته .
2 - بنصب شبكة وقع بها صيد فمات ، أو إرسال كلب .
3 - المشاركة بقتل الصّيد ، كأن يمسكه ليقتله آخر ، أو يذبحه .
4 - الدّلالة على الصّيد ، أو الإشارة ، أو الإعانة بغير المشاركة في اليد ، كمناولة آلة أو سلاح ، يضمن فاعلها عند الحنفيّة والحنابلة ، ولا يضمن عند المالكيّة والشّافعيّة .
خامساً : التّعدّي بوضع اليد على الصّيد :
168 - إذا مات الصّيد في يده فعليه الجزاء ؛ لأنّه تعدّى بوضع اليد عليه فيضمنه ولو كان وديعةً .
سادساً : أكل المحرم من ذبيحة الصّيد أو قتيله :
169 - إن أكل المحرم من ذبيحة أو صيد محرم أو ذبيحة صيد الحرم فلا ضمان عليه للأكل ، ولو كان هو قاتل الصّيد أيضاً أو ذابحه فلا جزاء عليه للأكل ، إنّما عليه جزاء قتل الصّيد أو ذبحه إن فعل ذلك هو ، وذلك عند جمهور العلماء ، ومنهم الأئمّة الثّلاثة ، وصاحبا أبي حنيفة . وقال أبو حنيفة كذلك بالنّسبة للمحرم إذا أكل من صيد غيره ، أو صيد الحرم إذا أكل منه الحلال الّذي صاده ، وأوجب على المحرم إذا أكل من صيده أو ذبيحته من الصّيد الضّمان سواء أكل منه قبل الضّمان أو بعده . استدلّ الجمهور بأنّه صيد مضمون بالجزاء ، فلم يضمن ثانياً ، كما لو أتلفه بغير الأكل ؛ ولأنّ تحريمه لكونه ميتةً ، والميتة لا تضمن بالجزاء . واستدلّ أبو حنيفة بأنّ " حرمته باعتبار أنّه محظور إحرامه ؛ لأنّ إحرامه هو الّذي أخرج الصّيد عن المحلّيّة ، والذّابح عن الأهليّة في حقّ الذّكاة ، فصارت حرمة التّناول بهذه الوسائط مضافةً إلى إحرامه » .
المبحث الثّالث
في الجماع ودواعيه
170 - اتّفق العلماء على أنّ الجماع في حالة الإحرام جناية يجب فيها الجزاء . والجمهور على أنّ العامد والجاهل والسّاهي والنّاسي والمكره في ذلك سواء . وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . قال ابن قدامة : « لأنّه معنًى يتعلّق به قضاء الحجّ ، فاستوى عمده وسهوه كالفوات » . لكن استثنى الحنابلة من الفداء الموطوءة كرهاً ، فقالوا : لا فداء عليها ، بل يجب عليها القضاء فقط . وقال الشّافعيّة : النّاسي والمجنون والمغمى عليه والنّائم والمكره والجاهل لقرب عهده بالإسلام أو نشوئه ببادية بعيدة عن العلماء ، فلا يفسد الإحرام بالنّسبة إليهم بالجماع .
أوّلاً : الجماع في إحرام الحجّ : يكون الجماع في إحرام الحجّ جنايةً في ثلاثة أحوال :
171 - الأوّل - الجماع قبل الوقوف بعرفة . فمن جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجّه بإجماع العلماء ، ووجب عليه ثلاثة أمور :
1 - الاستمرار في حجّه الفاسد إلى نهايته لقوله تعالى : { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه } وجه الاستدلال أنّه " لم يفرّق بين صحيح وفاسد » .
2 - أداء حجّ جديد في المستقبل قضاءً للحجّة الفاسدة ، ولو كانت نافلةً . ويستحبّ أن يفترقا في حجّة القضاء هذه عند الأئمّة الثّلاثة منذ الإحرام بحجّة القضاء ، وأوجب المالكيّة عليهما الافتراق .
3 - ذبح الهدي في حجّة القضاء . وهو عند الحنفيّة شاة ، وقال الأئمّة الثّلاثة : لا تجزئ الشّاة ، بل يجب عليه بدنة . استدلّ الحنفيّة بما ورد أنّ « رجلاً جامع امرأته وهما محرمان ، فسألا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال لهما : اقضيا نسككما وأهديا هدياً » رواه أبو داود في المراسيل والبيهقيّ ، وبما روي من الآثار عن الصّحابة أنّه يجب عليه شاة . واستدلّ الجمهور بما قال الرّمليّ : « لفتوى جماعة من الصّحابة ، ولم يعرف لهم مخالف » .
172 - الثّاني : الجماع بعد الوقوف قبل التّحلّل الأوّل : فمن جامع بعد الوقوف قبل التّحلّل يفسد حجّه ، وعليه بدنة - كما هو الحال قبل الوقوف - عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يفسد حجّه ، ويجب عليه أن يهدي بدنةً . استدلّ الثّلاثة : بما روي عن ابن عمر أنّ رجلاً سأله فقال : إنّي وقعت على امرأتي ونحن محرمان ؟ فقال : أفسدت حجّك . انطلق أنت وأهلك مع النّاس ، فاقضوا ما يقضون ، وحلّ إذا حلّوا . فإذا كان في العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك ، وأهديا هدياً ، فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعةً إذا رجعتم . وجه الاستدلال : أنّه ونحوه ممّا روي عن الصّحابة مطلق في المحرم إذا جامع ، لا تفصيل فيه بين ما قبل الوقوف وبين ما بعده ، فيكون حكمهما واحداً ، وهو الفساد ووجوب بدنة . واستدلّ الحنفيّة بقوله صلى الله عليه وسلم : « الحجّ عرفة » . أخرجه أحمد وأصحاب السّنن والحاكم ، وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث « عروة بن مضرّس الطّائيّ : وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تمّ حجّه وقضى تفثه » أخرجه أحمد وأصحاب السّنن ، وصحّحه التّرمذيّ ، وقال الحاكم : « صحيح على شرط كافّة أئمّة الحديث » . وجه الاستدلال : أنّ حقيقة تمام الحجّ المتبادرة من الحديثين غير مرادة ؛ لبقاء طواف الزّيارة ، وهو ركن إجماعاً ، فتعيّن القول بأنّ الحجّ قد تمّ حكماً ، والتّمام الحكميّ يكون بالأمن من فساد الحجّ بعده ، فأفاد الحديث أنّ الحجّ لا يفسد بعد عرفة مهما صنع المحرم . وإنّما أوجبنا البدنة بما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنًى قبل أن يفيض ، فأمره أن ينحر بدنةً . رواه مالك وابن أبي شيبة .
173 - الثّالث : الجماع بعد التّحلّل الأوّل : اتّفقوا على أنّ الجماع بعد التّحلّل الأوّل لا يفسد الحجّ . وألحق المالكيّة به الجماع بعد طواف الإفاضة ولو قبل الرّمي ، والجماع بعد يوم النّحر قبل الرّمي والإفاضة . ووقع الخلاف في الجزاء الواجب : فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجب عليه شاة . قالوا في الاستدلال : « لخفّة الجناية ، لوجود التّحلّل في حقّ غير النّساء » . وقال مالك ، وهو قول عند الشّافعيّة والحنابلة : يجب عليه بدنة . وعلّله الباجيّ بأنّه لعظم الجناية على الإحرام . وأوجب مالك والحنابلة على من فعل هذه الجناية بعد التّحلّل الأوّل قبل الإفاضة أن يخرج إلى الحلّ ، ويأتي بعمرة ، لقول ابن عبّاس ذلك . قال الباجيّ في المنتقى : « وذلك لأنّه لمّا أدخل النّقص على طوافه للإفاضة بما أصاب من الوطء كان عليه أن يقضيه بطواف سالم إحرامه من ذلك النّقص ، ولا يصلح أن يكون الطّواف في إحرام إلاّ في حجّ أو عمرة » . ولم يوجب الحنفيّة والشّافعيّة ذلك .
ثانياً : الجماع في إحرام العمرة :
174 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لو جامع قبل أن يؤدّي ركن العمرة ، وهو الطّواف أربعة أشواط ، تفسد عمرته ، أمّا لو وقع المفسد بعد ذلك لا تفسد العمرة ؛ لأنّه بأداء الرّكن أمن الفساد . وذهب المالكيّة إلى أنّ المفسد إن حصل قبل تمام سعيها ولو بشرط فسدت ، أمّا لو وقع بعد تمام السّعي قبل الحلق فلا تفسد ؛ لأنّه بالسّعي تتمّ أركانها ، والحلق من شروط الكمال عندهم . ومذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّه إذا حصل المفسد قبل التّحلّل من العمرة فسدت . والتّحلّل بالحلق ، وهو ركن عند الشّافعيّة واجب عند الحنابلة . 175 يجب في إفساد العمرة ما يجب في إفساد الحجّ من الاستمرار فيها ، والقضاء والفداء باتّفاق العلماء . لكن اختلفوا في فداء إفساد العمرة : فمذهب الحنفيّة والحنابلة وأحد القولين عند الشّافعيّة أنّه يلزمه شاة ؛ لأنّ العمرة أقلّ رتبةً من الحجّ ، فخفّت جنايتها ، فوجبت شاة . ومذهب المالكيّة والشّافعيّة أنّه يلزمه بدنة قياساً على الحجّ . أمّا فداء الجماع الّذي لا يفسد العمرة فشاة فقط عند الحنفيّة وبدنة عند المالكيّة .
ثالثاً : مقدّمات الجماع :
176 - المقدّمات المباشرة أو القريبة ، كاللّمس بشهوة ، والتّقبيل ، والمباشرة بغير جماع : يجب على من فعل شيئاً منها الدّم سواء أنزل منيّاً أو لم ينزل . ولا يفسد حجّه اتّفاقاً بين الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، إلاّ أنّ الحنابلة قالوا : إن أنزل وجب عليه بدنة . ومذهب المالكيّة : إن أنزل بمقدّمات الجماع منيّاً فحكمه حكم الجماع في إفساد الحجّ ، وعليه ما على المجامع ممّا ذكر سابقاً ، وإن لم ينزل فليهد بدنةً . 177 - المقدّمات البعيدة : كالنّظر بشهوة والتّفكّر كذلك ، صرّح الحنفيّة والشّافعيّة أنّه لا يجب في شيء منهما الفداء ، ولو أدّى إلى الإنزال . وهو مذهب الحنابلة في الفكر . ومذهب المالكيّة : إذا فعل أيّ واحد منها بقصد اللّذّة ، واستدامه حتّى خرج المنيّ ، فهو كالجماع في إفساد الحجّ . وإن خرج المنيّ بمجرّد الفكر أو النّظر من غير استدامة فلا يفسد ، وإنّما فيه الهدي ( بدنة ) . ومذهب الحنابلة : إن نظر فصرف بصره فأمنى فعليه دم ، وإن كرّر النّظر حتّى أمنى فعليه بدنة .
رابعاً : في جماع القارن :
178 - قرّر الحنفيّة في جماع القارن - بناءً على مذهبهم أنّه يطوف طوافين ويسعى سعيين - التّفصيل الآتي :
1 - إن جامع قبل الوقوف ، وقبل طواف العمرة ، فسد حجّه وعمرته كلاهما ، وعليه المضيّ فيهما ، وعليه شاتان للجناية على إحرامهما ، وعليه قضاؤهما ، وسقط عنه دم القران .
2 - إن جامع بعدما طاف لعمرته كلّ أشواطه أو أكثرها فسد حجّه دون عمرته لأنّه أدّى ركنها قبل الجماع ، وسقط عنه دم القران ، وعليه دمان لجنايته المتكرّرة حكماً ، دم لفساد الحجّ ، ودم للجماع في إحرام العمرة لعدم تحلّله منها ، وعليه قضاء الحجّ فقط ، لصحّة عمرته .
3 - إن جامع بعد طواف العمرة وبعد الوقوف قبل الحلق ولو بعرفة لم يفسد الحجّ ولا العمرة ، لإدراكه ركنهما ، ولا يسقط عنه دم القران ؛ لصحّة أداء الحجّ والعمرة ، لكن عليه بدنة للحجّ وشاة للعمرة .
4 - لو لم يطف لعمرته - ثمّ جامع بعد الوقوف - فعليه بدنة للحجّ ، وشاة لرفض العمرة ، وقضاؤها .
5 - لو طاف القارن طواف الزّيارة قبل الحلق ، ثمّ جامع ، فعليه شاتان بناءً على وقوع الجناية على إحراميه ؛ لعدم التّحلّل الأوّل المرتّب عليه التّحلّل الثّاني .
المبحث الرّابع
في أحكام كفّارات محظورات الإحرام
كفّارات محظورات الإحرام أربعة أمور ، هي : الهدي ، والصّدقة ، والصّيام ، والقضاء ، والكلام هنا على أحكامها الخاصّة بهذا الموضوع : المطلب الأوّل الهدي .
179 - تراعى في الهدي وذبحه وأنواعه الشّروط والأحكام الموضّحة في مصطلح « هدي » .
المطلب الثّاني
الصّدقة
180 - يراعى في المال الّذي تخرج منه الصّدقة أن يكون من الأصناف الّتي تخرج منها صدقة الفطر ، كما تراعى أحكام الزّكاة في الفقير الّذي تدفع إليه . ويراعى في إخراج القيمة ، ومقدار الصّدقة لكلّ مسكين ما هو مقرّر في صدقة الفطر ، وهذا في الإطعام الواجب في الفدية . وأمّا في جزاء الصّيد فالمالكيّة والشّافعيّة لم يقيّدوا الصّدقة فيه بمقدار معيّن . وتفصيلات ذلك وآراء الفقهاء يرجع إليها في مصطلح هدي وكفّارة وصدقة الفطر .
المطلب الثّالث
الصّيام
181 - أوّلاً : من كفّر بالصّيام يراعي فيه أحكام الصّيام ولا سيّما تبييت النّيّة بالنّسبة للواجب غير المعيّن ( ر : صوم ) .
182 - ثانياً : الصّيام المقرّر جزاءً عن المحظور لا يتقيّد بزمان ولا مكان ولا تتابع اتّفاقاً ، إلاّ الصّيام لمن عجز عن هدي القران والتّمتّع ، فإنّه يصوم ثلاثة أيّام في الحجّ ، وسبعةً إذا رجع إلى أهله . فلا يصحّ صيام الأيّام الثّلاثة قبل أشهر الحجّ ، ولا قبل إحرام الحجّ والعمرة في حقّ القارن ، ولا قبل إحرام العمرة في حقّ المتمتّع اتّفاقاً . أمّا تقديمها للمتمتّع على إحرام الحجّ فمنعه المالكيّة والشّافعيّة لقوله تعالى : { فصيام ثلاثة أيّام في الحجّ } وأجازه الحنفيّة والحنابلة لأنّه كما قال ابن قدامة : « وقت كامل جاز فيه نحر الهدي ، فجاز فيه الصّيام ، كبعد إحرام الحجّ . ومعنى قوله تعالى ( في الحجّ ) أي في وقته » . وأمّا الأيّام السّبعة الباقية على من عجز عن هدي القران والتّمتّع ، فلا يصحّ صيامها إلاّ بعد أيّام التّشريق ، ثمّ يجوز صيامها بعد الفراغ من أفعال الحجّ ، ولو في مكّة ، إذا مكث بها ، عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . والأفضل المستحبّ أن يصومها إذا رجع إلى أهله ، وهو قول عند الشّافعيّة ، لكن الأظهر عند الشّافعيّة أنّه يصوم الأيّام السّبعة إذا رجع إلى أهله ، ولا يجوز أن يصومها في الطّريق ، إلاّ إذا أراد الإقامة بمكّة صامها بها . والدّليل للجميع قوله تعالى : { وسبعة إذا رجعتم } . فحمله الشّافعيّ على ظاهره ، وقال غيرهم : إنّ الفراغ من الحجّ هو المراد بالرّجوع ، فكأنّه بالفراغ رجع عمّا كان مقبلاً عليه .
183 - ثالثاً : من فاته أداء الأيّام الثّلاثة في الحجّ يقضيها عند الثّلاثة ، ويرجع إلى الدّم عند الحنفيّة ، لا يجزيه غيره . وهو قول عند الحنابلة . ثمّ عند المالكيّة ، وهو قول عند الحنابلة : إن صام بعضها قبل يوم النّحر كمّلها أيّام التّشريق ، وإن أخّرها عن أيّام التّشريق صامها متى شاء ، وصلها بالسّبعة أو لا . ولم يجز الشّافعيّة والحنابلة في القول الآخر عندهم صيامها أيّام النّحر والتّشريق ، بل يؤخّرها إلى ما بعد .
184 - ويجب عند الشّافعيّة في الأظهر في قضاء الأيّام الثّلاثة : « أن يفرّق في قضائها بينها وبين السّبعة بقدر أربعة أيّام ، يوم النّحر وأيّام التّشريق ، ومدّة إمكان السّير إلى أهله ، على العادة الغالبة ، كما في الأداء ، فلو صام عشرة أيّام متتاليةً حصلت الثّلاثة ، ولا يعتدّ بالبقيّة لعدم التّفريق » .
المطلب الرّابع في القضاء
185 - وهو من واجب إفساد النّسك بالجماع . ومن أحكامه ما يلي : أوّلاً : يراعى في قضاء النّسك أحكام الأداء العامّة ، مع تعيين القضاء في نيّة الإحرام به . ثانياً : قال الحنفيّة وهو قول عند الشّافعيّة : عليه القضاء من قابل أي من سنة آتية ، ولم يجعلوه على الفور . ومذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ القضاء واجب على الفور ولو كان النّسك الفاسد تطوّعاً ، فيأتي بالعمرة عقب التّحلّل من العمرة الفاسدة ، ويحجّ في العام القادم . ثالثاً : قرّر المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ المفسد عندما يقضي نسكه الفاسد يحرم في القضاء حيث أحرم في النّسك المفسد ، فإن أحرم من الجحفة مثلاً أحرم في القضاء منها . وعند الشّافعيّة : إن سلك في القضاء طريقاً آخر أحرم من مثل مسافة الميقات الأوّل ما لم يجعله ذلك يجاوز الميقات بغير إحرام ، فإنّه يحرم من الميقات . وإن أحرم في العام الأوّل قبل المواقيت لزمه كذلك عند الشّافعيّة والحنابلة . وعند المالكيّة لا يجب الإحرام بالقضاء إلاّ من المواقيت . أمّا إن جاوز في العام الأوّل الميقات غير محرم فإنّه في القضاء يحرم من الميقات ولا يجوز أن يجاوزه غير محرم . وقال المالكيّة : إن تعدّى الميقات في عام الفساد لعذر مشروع " كأن يجاوز الميقات حلالاً لعدم إرادته دخول مكّة ، ثمّ بعد ذلك أراد الدّخول ، وأحرم بالحجّ ، ثمّ أفسده ، فإنّه في عام القضاء يحرم ممّا أحرم منه أوّلاً » .
إحصار
التّعريف
1 - من معاني الإحصار في اللّغة المنع من بلوغ المناسك بمرض أو نحوه ، وهو المعنى الشّرعيّ أيضاً على خلاف عند الفقهاء فيما يتحقّق به الإحصار .
2 - واستعمل الفقهاء مادّة ( حصر ) بالمعنى اللّغويّ في كتبهم استعمالاً كثيراً . ومن أمثلة ذلك : قول صاحب تنوير الأبصار وشارحه في الدّرّ المختار : « والمحصور فاقد الماء والتّراب الطّهورين ، بأن حبس في مكان نجس ، ولا يمكنه إخراج مطهّر ، وكذا العاجز عنهما لمرض يؤخّر الصّلاة عند أبي حنيفة ، وقالا يتشبّه بالمصلّين وجوباً ، فيركع ويسجد إن وجد مكاناً يابساً ، وإلاّ يومئ قائماً ثمّ يعيد » . ومنه أيضاً قول صاحب تنوير الأبصار : « وكذا يجوز له أن يستخلف إذا حصر عن قراءة قدر المفروض » . وقال أبو إسحاق الشّيرازيّ : « ويجوز أن يصلّي بتيمّم واحد ما شاء من النّوافل ؛ لأنّها غير محصورة ، فخفّ أمرها » . وتفصيله في مصطلح ( صلاة ) . إلاّ أنّهم غلّبوا استعمال هذه المادّة ( حصر ) ومشتقّاتها في باب الحجّ والعمرة للدّلالة على منع المحرم من أركان النّسك ، وذلك اتّباعاً للقرآن الكريم ، وتوافقت على ذلك عباراتهم حتّى أصبح ( الإحصار ) اصطلاحاً فقهيّاً معروفاً ومشهوراً .
2 - ويعرّف الحنفيّة الإحصار بأنّه : هو المنع من الوقوف بعرفة والطّواف جميعهما بعد الإحرام بالحجّ الفرض ، والنّفل ، وفي العمرة عن الطّواف ، وهذا التّعريف لم يعترض عليه . ويعرّفه المالكيّة بأنّه المنع من الوقوف والطّواف معاً أو المنع من أحدهما . وبمثل مذهب الشّافعيّة هذا التّعريف الّذي أورده الرّمليّ الشّافعيّ في نهاية المحتاج ، ونصّه : « هو المنع من إتمام أركان الحجّ أو العمرة » . وينطبق هذا التّعريف للشّافعيّة على مذهب الحنابلة في الإحصار ؛ لأنّهم يقولون بالإحصار عن أيّ من أركان الحجّ أو العمرة ، على تفصيل يسير في كيفيّة التّحلّل لمن أحصر عن الوقوف دون الطّواف . الأصل التّشريعيّ في موجب الإحصار :
3 - موجب الإحصار - إجمالاً - التّحلّل بكيفيّة سيأتي تفصيلها . والأصل في هذا المبحث حادثة الحديبية المعروفة ، وفي ذلك نزل قوله تبارك وتعالى : { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } . وقال ابن عمر رضي الله عنهما « : خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فحال كفّار قريش دون البيت ، فنحر النّبيّ صلى الله عليه وسلم هديه وحلق رأسه » . أخرجه البخاريّ .
ما يتحقّق به الإحصار
4 - يتحقّق الإحصار بوجود ركنه ، وهو المنع من المضيّ في النّسك ، حجّاً كان أو عمرةً ، إذا توافرت فيه شروط بعضها متّفق عليه وبعضها مختلف فيه . ركن الإحصار :
5 - اختلف الفقهاء في المنع الّذي يتحقّق به الإحصار هل يشمل المنع بالعدوّ والمنع بالمرض ونحوه من العلل ، أم يختصّ بالحصر بالعدوّ ؟ فقال الحنفيّة : « الإحصار يتحقّق بالعدوّ ، وغيره ، كالمرض ، وهلاك النّفقة ، وموت محرم المرأة ، أو زوجها ، في الطّريق " ويتحقّق الإحصار بكلّ حابس يحبسه ، يعني المحرم ، عن المضيّ في موجب الإحرام . وهو رواية عن الإمام أحمد . وهو قول ابن مسعود ، وابن الزّبير ، وعلقمة ، وسعيد بن المسيّب ، وعروة بن الزّبير ، ومجاهد ، والنّخعيّ ، وعطاء ، ومقاتل بن حيّان ، وسفيان الثّوريّ ، وأبي ثور . ومذهب المالكيّة : أنّ الحصر يتحقّق بالعدوّ ، والفتنة ، والحبس ظلماً . كذلك هو مذهب الشّافعيّة والمشهور عند الحنابلة ، مع أسباب أخرى من الحصر بما يقهر الإنسان ، ممّا سيأتي ذكره ، كمنع الزّوج زوجته عن المتابعة . واتّفقت المذاهب الثّلاثة على أنّ من يتعذّر عليه الوصول إلى البيت بحاصر آخر غير العدوّ ، كالحصر بالمرض أو بالعرج أو بذهاب نفقة ونحوه ، أنّه لا يجوز له التّحلّل بذلك . لكن من اشترط التّحلّل إذا حبسه حابس له حكم خاصّ عند الشّافعيّة والحنابلة يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى . وهذا القول ينفي تحقّق الإحصار بالمرض ونحوه من علّة وهو قول ابن عبّاس وابن عمر وطاوس والزّهريّ وزيد بن أسلم ومروان بن الحكم .
6 - استدلّ الحنفيّة ومن معهم بالأدلّة من الكتاب والسّنّة والمعقول : أمّا الكتاب فقوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } . ووجه دلالة الآية قول أهل اللّغة إنّ الإحصار ما كان بمرض أو علّة ، وقد عبّرت الآية بأحصرتم ، فدلّ على تحقّق الإحصار شرعاً بالنّسبة للمرض وبالعدوّ . وقال الجصّاص : « لمّا ثبت بما قدّمته من قول أهل اللّغة أنّ اسم الإحصار يختصّ بالمرض ، وقال اللّه { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } وجب أن يكون اللّفظ مستعملاً فيما هو حقيقة فيه ، وهو المرض ، ويكون العدوّ داخلاً فيه بالمعنى » . وأمّا السّنّة : فقد أخرج أصحاب السّنن الأربعة بأسانيد صحيحة ، كما قال النّوويّ ، عن عكرمة ، قال : سمعت الحجّاج بن عمرو الأنصاريّ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من كسر أو عرج فقد حلّ ، وعليه الحجّ من قابل » . قال عكرمة سألت ابن عبّاس وأبا هريرة عن ذلك فقالا : صدق . وفي رواية عند أبي داود وابن ماجه : « من كسر أو عرج أو مرض . . . » . وأمّا العقل : فهو قياس المرض ونحوه على العدوّ بجامع الحبس عن أركان النّسك في كلّ ، وهو قياس جليّ ، حتّى جعله بعض الحنفيّة أولويّاً .
7 - واستدلّ الجمهور بالكتاب والآثار والعقل : أمّا الكتاب فآية : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } قال الشّافعيّ : « فلم أسمع مخالفاً ممّن حفظت عنه ممّن لقيت من أهل العلم بالتّفسير في أنّها نزلت بالحديبية . وذلك إحصار عدوّ ، فكان في الحصر إذن اللّه تعالى لصاحبه فيه بما استيسر من الهدي . ثمّ بيّن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ الّذي يحلّ منه المحرم الإحصار بالعدوّ ، فرأيت أنّ الآية بأمر اللّه تعالى بإتمام الحجّ والعمرة للّه عامّة على كلّ حاجّ ومعتمر ، إلاّ من استثنى اللّه ، ثمّ سنّ فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الحصر بالعدوّ . وكان المريض عندي ممّن عليه عموم الآية » . يعني { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه } . وأمّا الآثار : فقد ثبت من طرق عن ابن عبّاس أنّه قال : لا حصر إلاّ حصر العدوّ ، فأمّا من أصابه مرض ، أو وجع ، أو ضلال ، فليس عليه شيء ، إنّما قال اللّه تعالى : { فإذا أمنتم } وروي عن ابن عمرو والزّهريّ وطاوس وزيد بن أسلم نحو ذلك . وروى الشّافعيّ في الأمّ عن مالك - وهو عنده في الموطّأ - عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أنّ عبد اللّه بن عمر ، ومروان بن الحكم ، وابن الزّبير أفتوا ابن حزابة المخزوميّ ، وأنّه صرع ببعض طريق مكّة وهو محرم ، أن يتداوى بما لا بدّ له منه ، ويفتدي ، فإذا صحّ اعتمر فحلّ من إحرامه ، وكان عليه أن يحجّ عاماً قابلاً ويهدي . وهذا إسناد صحيح . وأمّا الدّليل من المعقول : فقال فيه الشّيرازيّ : « إن أحرم وأحصره المرض لم يجز له أن يتحلّل ؛ لأنّه لا يتخلّص بالتّحلّل من الأذى الّذي هو فيه ، فهو كمن ضلّ الطّريق » .
شروط تحقّق الإحصار :
8 - لم ينصّ الفقهاء صراحةً على شروط تحقّق الإحصار أنّها كذا وكذا ، ولكن يمكن استخلاصها ، وهي : الشّرط الأوّل : سبق الإحرام بالنّسك ، بحجّ أو عمرة ، أو بهما معاً ؛ لأنّه إذا عرض ما يمنع من أداء النّسك ، ولم يكن أحرم ، لا يلزمه شيء . ويتحقّق الإحصار عن الإحرام الفاسد كالصّحيح ، ويستتبع أحكامه أيضاً . الشّرط الثّاني : ألاّ يكون قد وقف بعرفة قبل حدوث المانع من المتابعة ، إذا كان محرماً بالحجّ . وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة ، أمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فيتحقّق الإحصار عن الطّواف بالبيت ، كما سيتّضح في أنواع الإحصار . أمّا في العمرة فالإحصار يتحقّق بمنعه عن أكثر الطّواف بالإجماع . الشّرط الثّالث : أن ييأس من زوال المانع ، بأن يتيقّن أو يغلب على ظنّه عدم زوال المانع قبل فوات الحجّ ، " بحيث لم يبق بينه وبين ليلة النّحر زمان يمكنه فيه السّير لو زال العذر » . وهذا نصّ عليه المالكيّة والشّافعيّة ، وقدّر الرّمليّ الشّافعيّ المدّة في العمرة إلى ثلاثة أيّام . فإذا وقع مانع يتوقّع زواله عن قريب فليس بإحصار . ويشير إلى أصل هذا الشّرط تعليل الحنفيّة إباحة التّحلّل بالإحصار بأنّه معلّل بمشقّة امتداد الإحرام . الشّرط الرّابع : نصّ عليه المالكيّة وتفرّدوا به ، وهو ألاّ يعلم حين إحرامه بالمانع من إتمام الحجّ أو العمرة . فإن علم فليس له التّحلّل ، ويبقى على إحرامه حتّى يحجّ في العام القابل ، إلاّ أن يظنّ أنّه لا يمنعه فمنعه ، فله أن يتحلّل حينئذ ، كما وقع للنّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّه أحرم بالعمرة عام الحديبية عالماً بالعدوّ ، ظانّاً أنّه لا يمنعه ، فمنعه العدوّ ، فلمّا منعه تحلّل » .
أنواع الإحصار
بحسب الرّكن المحصر عنه يتنوّع الإحصار بحسب الرّكن الّذي أحصر عنه المحرم ثلاثة أنواع :
الأوّل : الإحصار عن الوقوف بعرفة وعن طواف الإفاضة :
9 - هذا الإحصار يتحقّق به الإحصار الشّرعيّ ، بما يتربّب عليه من أحكام ستأتي ( ف 26 ) وذلك باتّفاق الأئمّة ، مع اختلافهم في بعض أسباب الإحصار .
الثّاني : الإحصار عن الوقوف بعرفة دون الطّواف :
10 - من أحصر عن الوقوف بعرفة ، دون الطّواف بالبيت ، فليس بمحصر عند الحنفيّة ، وهو رواية عن أحمد . ووجه ذلك عندهم أنّه يستطيع أن يتحلّل بمناسك العمرة ، فيجب عليه أن يؤدّي مناسك العمرة بالإحرام السّابق نفسه . ويتحلّل بتلك العمرة . قال في المسلك المتقسّط : « وإن منع عن الوقوف فقط يكون في معنى فائت الحجّ ، فيتحلّل بعد فوت الوقوف عن إحرامه بأفعال العمرة ، ولا دم عليه ، ولا عمرة في القضاء » . وهذا يفيد بظاهره أنّه ينتظر حتّى يفوت الوقوف ، فيتحلّل بعمرة ، أي بأعمال عمرة بإحرامه السّابق ، كما صرّح بذلك في المبسوط بقوله : « إن لم يكن ممنوعاً من الطّواف يمكنه أن يصبر حتّى يفوته الحجّ ، فيتحلّل بالطّواف والسّعي " ومذهب المالكيّة والشّافعيّة أنّه يعتبر من أحصر عن الوقوف فقط محصراً ، ويتحلّل بأعمال العمرة . لكنّه وإن تشابهت الصّورة عند هؤلاء الأئمّة إلاّ أنّ النّتيجة تختلف فيما بينهم . فالحنفيّة يعتبرونه تحلّل فائت حجّ ، فلا يوجبون عليه دماً ، ويعتبره المالكيّة والشّافعيّة تحلّل إحصار ، فعليه دم أمّا الحنابلة فقالوا : له أن يفسخ نيّة الحجّ ، ويجعله عمرةً ، ولا هدي عليه ، لإباحة ذلك له من غير إحصار ، ففيه أولى ، فإن كان طاف وسعى للقدوم ثمّ أحصر أو مرض ، حتّى فاته الحجّ ، تحلّل بطواف وسعي آخر ، لأنّ الأوّل لم يقصد به طواف العمرة ولا سعيها ، وليس عليه أن يجدّد إحراماً .
الثّالث : الإحصار عن طواف الرّكن :
11 - مذهب الحنفيّة والمالكيّة أنّ من وقف بعرفة ثمّ أحصر لا يكون محصراً ، لوقوع الأمن عن الفوات ، كما قال الحنفيّة . ويفعل ما سوى ذلك من أعمال الحجّ ، ويظلّ محرماً في حقّ النّساء حتّى يطوف طواف الإفاضة . وقال الشّافعيّة : إن منع المحرم من مكّة دون عرفة وقف وتحلّل ، ولا قضاء عليه في الأظهر . وأمّا الحنابلة ففرّقوا بين أمرين فقالوا : إن أحصر عن البيت بعد الوقوف بعرفة قبل رمي الجمرة فله التّحلّل . وإن أحصر عن طواف الإفاضة بعد رمي الجمرة فليس له أن يتحلّل . واستدلّوا على التّحلّل في الصّورة الأولى في الإحصار قبل الرّمي بأنّ " الحصر يفيده التّحلّل من جميعه ، فأفاد التّحلّل من بعضه » . وهو دليل لمذهب الشّافعيّة أيضاً . واستدلّوا لعدم التّحلّل بعد رمي جمرة العقبة إذا أحصر عن البيت : بأنّ إحرامه أي بعد الرّمي عندهم إنّما هو عن النّساء ، والشّرع إنّما ورد بالتّحلّل الإحرام التّامّ الّذي يحرم جميع محظوراته ، فلا يثبت - التّحلّل - بما ليس مثله . ومتى زال الحصر أتى بالطّواف ، وقد تمّ حجّه .
أنواع الإحصار من حيث سببه
الإحصار بسبب فيه قهر ( أو سلطة ) :
12 - ذكروا من صوره ما يلي : الحصر بالعدوّ - الفتنة بين المسلمين - الحبس - منع السّلطان عن المتابعة - السّبع - منع الدّائن مدينه عن المتابعة - منع الزّوج زوجته عن المتابعة - موت المحرم أو الزّوج أو فقدهما - العدّة الطّارئة - منع الوليّ الصّبيّ والسّفيه عن المتابعة - منع السّيّد عبده عن المتابعة . وقبل الدّخول في تفصيل البحث لا بدّ من إجمال مهمّ ، هو : أنّ المالكيّة قصروا الحصر الّذي يبيح التّحلّل للمحصر بثلاثة أسباب ، أحصوها بالعدد ، وهي : الحصر بالعدوّ ، والحصر بالفتنة ، والحبس ظلماً . وبالتّالي فإنّ هذه الأسباب متّفق عليها بين المذاهب . وأمّا الشّافعيّة والحنابلة فاتّفقوا مع الحنفيّة على جميع الصّور الّتي صدر بها الموضوع ما عدا ثلاثة أسباب هي : منع السّلطان عن المتابعة ، والحصر بالسّبع ، والعدّة الطّارئة . فهذه الثّلاثة تفرّد بها الحنفيّة . هذا مع مراعاة تفصيل في بعض الأسباب الّتي ذكر اتّفاق الحنفيّة مع الشّافعيّة والحنابلة عليها ويأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى . أ - الحصر بالعدوّ الكافر :
13 - وهو أن يتسلّط العدوّ على بقعة تقع في طريق الحجّاج ، فيقطع على المحرمين السّبل ، ويصدّهم عن المتابعة لأداء مناسكهم . وتحقّق الحصر الشّرعيّ بهذه الصّورة محلّ إجماع العلماء ، وفيها نزل القرآن الكريم . كما سبق . وقد قرّر الحنفيّة والمالكيّة أنّه لو أحصر العدوّ طريقاً إلى مكّة أو عرفة ، ووجد المحصر طريقاً آخر ، ينظر فيه : فإن أضرّ به سلوكها لطوله ، أو صعوبة طريقه ، ضرراً معتبراً ، فهو محصر شرعاً . وإن لم يتضرّر به فلا يكون محصراً شرعاً . أمّا الشّافعيّة فقد ألزموا المحصر بالطّريق الآخر ولو كان أطول أو فيه مشقّة ، ما دامت النّفقة تكفيهم لذلك الطّريق . أمّا الحنابلة فعباراتهم مطلقة عن التّقييد بأيّ من هذين الأمرين ، ممّا يشير إلى أنّهم يلزمونه بالطّريق الآخر ولو كان أطول أو أشقّ ، ولو كانت النّفقة لا تكفيهم . وهذا يشير إلى ترجيح وجوب القضاء عند الحنابلة لفوات الحجّ بسبب الطّريق الثّاني ، ولعلّه لذلك ذكره ابن قدامة أوّلاً . فإذا سلك الطّريق الأطول ففاته الحجّ بطول الطّريق أو خشونته أو غيرهما ، فما يحصل الفوات بسببه فقولان مشهوران في المذهبين الشّافعيّ والحنبليّ أصحّهما عند الشّافعيّة : لا يلزمه القضاء ، بل يتحلّل تحلّل المحصر ؛ لأنّه محصر ، ولعدم تقصيره . والثّاني : يلزمه القضاء ، كما لو سلكته ابتداءً ، ففاته بضلال في الطّريق ونحوه ، ولو استوى الطّريقان من كلّ وجه وجب القضاء بلا خلاف ؛ لأنّه فوات محض .
ب - الإحصار بالفتنة :
14 - بأن تحصل حرب بين المسلمين عياذاً باللّه تعالى ، ويحصر المحرم بسبب ذلك ، مثل الفتنة الّتي ثارت بحرب الحجّاج وعبد اللّه بن الزّبير سنة 73 هـ . وهذا يتحقّق به الإحصار شرعاً أيضاً باتّفاق الأئمّة كالإحصار بالعدوّ سواءً بسواء .
ج - الحبس :
15 - بأن يسجن المحرم بعدما تلبّس بالإحرام . وقد فرّق المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بين الحبس بحقّ أو بغير حقّ . فإن حبس بغير حقّ ، بأن اعتقل ظلماً ، أو كان مديناً ثبت إعساره فإنّه يكون محصراً . وإن حبس بحقّ عليه يمكنه الخروج منه فلا يجوز له التّحلّل ولا يكون محصراً ، ويكون حكمه حكم المرض . أمّا الحنفيّة فقد أطلقوا الحبس سبباً للإحصار .
د - منع الدّائن مدينه عن المتابعة :
16 - عدّ الشّافعيّة والحنابلة الدّين مانعاً من موانع النّسك في باب الإحصار . وأمّا المالكيّة فقد صرّحوا بأنّه إن حبس ظلماً كان محصراً ، وإلاّ فلا ، فآلت المسألة عندهم إلى الحبس ، كالحنفيّة .
هـ - منع الزّوج زوجته عن المتابعة :
17 - منع الزّوج زوجته عن المتابعة يتحقّق به إحصارها باتّفاق المذاهب الأربعة ( الحنفيّة المالكيّة ، على الأصحّ عندهم ، والشّافعيّة والحنابلة ) ، وذلك في حجّ النّفل ، أو عمرة النّفل ، عند الجميع ، وعمرة الإسلام ، عند الحنفيّة والمالكيّة لقولهم بعدم فرضيّتها . وإن أذن لها الزّوج ابتداءً بحجّ النّفل أو عمرة النّفل ولها محرم فإنّه ليس له منعها بعد الإحرام ؛ لأنّه تغرير ، ولا تصير محصرةً بمنعه . وحجّة الإسلام ، أو الحجّ الواجب ، كالنّذر ، إذا أحرمت الزّوجة بهما بغير إذن الزّوج ، ولها محرم ، فلا تكون محصرةً عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، لأنّهم لا يشترطون إذن الزّوج لوجوب الحجّ عليها ، وليس له أن يمنعها من حجّ الفرض ، ولا يجوز له أن يحلّلها بمحظور من محظورات الإحرام ، ولو تحلّلت هي لم يصحّ تحلّلها . وأمّا الشّافعيّة فيقولون باشتراط إذن الزّوج لفرضيّة الحجّ ، فإذا لم يأذن لها قبل إحرامها ، وأحرمت ، كان له منعها ، فصارت كالصّورة الأولى على الأصحّ عندهم . وإن أحرمت بحجّة الفرض وكان لها زوج وليس معها محرم ، فمنعها الزّوج ، فهي محصرة في ظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، وكذا عند الشّافعيّة والحنابلة . وأمّا عند المالكيّة فلا تكون محصرةً إذا سافرت مع الرّفقة المأمونة ، وكانت هي مأمونةً أيضاً ، لأنّهم يكتفون بهذا لسفر المرأة في الحجّ الفرض ، ولا يشترطون إذن الزّوج للسّفر في الحجّ الفرض .
و - منع الأب ابنه عن المتابعة :
18 - مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ للأبوين أو أحدهما منع ابنه عن حجّ التّطوّع لا الفرض . وفي رواية عند المالكيّة والفرض أيضاً ، لكن لا يصير عند المالكيّة والحنابلة محصراً بمنعهما ، لما عرف من حصر المالكيّة أسباب الإحصار بما لا يدخل هذا فيه . ومذهب الحنفيّة : يكره الخروج إلى الحجّ إذا كره أحد أبويه وكان الوالد محتاجاً إلى خدمة الولد ، وإن كان مستغنياً عن خدمته فلا بأس . وذكر في السّير الكبير إذا كان لا يخاف عليه الضّيعة فلا بأس بالخروج . وحجّ الفرض أولى من طاعة الوالدين ، وطاعتهما أولى من حجّ النّفل .
ز - العدّة الطّارئة :
19 - والمراد طروء عدّة الطّلاق بعد الإحرام : فإذا أهلّت المرأة بحجّة الإسلام أو حجّة نذر أو نفل ، فطلّقها زوجها ، فوجبت عليها العدّة ، صارت محصرةً ، وإن كان لها محرم ، عند الحنفيّة دون أن تتقيّد بمسافة السّفر . وأمّا المالكيّة فأجروا على عدّة الطّلاق حكم وفاة الزّوج . وقال الشّافعيّة : لو أحرمت بحجّ أو قران بإذنه أو بغيره ، ثمّ طلّقها أو مات ، وخافت فوته لضيق الوقت ، خرجت وجوباً وهي معتدّة ؛ لتقدّم الإحرام . وإن أمنت الفوات لسعة الوقت جاز لها الخروج لذلك ، لما في تعيّن التّأخير من مشقّة مصابرة الإحرام . وأمّا الحنابلة ففرّقوا بين علّة الطّلاق المبتوت والرّجعيّ ، فلها أن تخرج إليه - يعني الحجّ - في عدّة الطّلاق المبتوت ، وأمّا عدّة الرّجعيّة فالمرأة في الإحصار كالزّوجة .
المنع بعلّة تمنع المتابعة
20 - ومن صوره : الكسر أو العرج - المرض - هلاك النّفقة - هلاك الرّاحلة - العجز عن المشي - الضّلالة عن الطّريق . وتحقّق الإحصار بسبب من هذه الأسباب هو مذهب الحنفيّة . أمّا الجمهور فيقولون إنّها لا تجعل صاحبها محصراً شرعاً ، فإذا حبس بشيء منها لا يتحلّل حتّى يبلغ البيت ، فإن أدرك الحجّ فيها ، وإلاّ تحلّل بأعمال العمرة ، ويكون حكمه حكم ( الفوات ) . انظر مصطلح ( فوات ) الكسر أو العرج :
21 - والمراد بالعرج المانع من الذّهاب والأصل في هذا السّبب ما سبق في الحديث : « من كسر أو عرج فقد حلّ » . المرض :
22 - والمعتبر هنا المرض الّذي لا يزيد بالذّهاب ، بناءً على غلبة الظّنّ ، أو بإخبار طبيب حاذق متديّن . والأصل في الإحصار بالمرض من السّنّة الحديث الّذي سبق فقد ورد في بعض رواياته : « أو مرض » . هلاك النّفقة أو الرّاحلة :
23 - إن سرقت نفقة المحرم في الطّريق بعد أن أحرم ، أو ضاعت ، أو نهبت ، أو نفدت ، إن قدر على المشي فليس بمحصر ، وإن لم يقدر على المشي فهو محصر ، على ما في التّجنيس . العجز عن المشي :
24 - إن أحرم وهو عاجز عن المشي ابتداءً من أوّل إحرامه ، وله قدرة على النّفقة دون الرّاحلة ، فهو محصر حينئذ . والضّلالة عن الطّريق :
25 - أي طريق مكّة أو عرفة . فمن ضلّ الطّريق فهو محصر .
أحكام الإحصار
تندرج أحكام الإحصار في أمرين : التّحلّل ، وما يجب على المحصر بعد التّحلّل .
التّحلّل
تعريف التّحلّل :
26 - التّحلّل لغةً : أن يفعل الإنسان ما يخرج به من الحرمة . واصطلاحاً : هو فسخ الإحرام ، والخروج منه بالطّريق الموضوع له شرعاً .
جواز التّحلّل للمحصر :
27 - إذا تحقّق للمحرم وصف الإحصار فإنّه يجوز له التّحلّل . وهذا الحكم متّفق عليه بين العلماء ، كلّ حسب الأسباب الّتي يعتبرها موجبةً لتحقّق الإحصار الشّرعيّ . والأصل في الإحرام وجوب المضيّ على المحرم في النّسك الّذي أحرم به ، وألاّ يخرج من إحرامه إلاّ بتمام موجب هذا الإحرام ، لقوله تعالى : { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه } . لكن جاز التّحلّل للمحصر قبل إتمام موجب إحرامه استثناءً من هذا الأصل ، لما دلّ عليه الدّليل الشّرعيّ . والدّليل على جواز التّحلّل قوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } . وجه الاستدلال بالآية : أنّ الكلام على تقدير مضمر ، ومعناه واللّه أعلم ، فإن أحصرتم عن إتمام الحجّ أو العمرة ، وأردتم أن تحلّوا فاذبحوا ما تيسّر من الهدي . والدّليل على هذا التّقدير أنّ الإحصار نفسه لا يوجب الهدي ، ألا ترى أنّ له أن لا يتحلّل ويبقى محرماً كما كان ، إلى أن يزول المانع ، فيمضي في موجب الإحرام . ومن السّنّة : « فعله صلى الله عليه وسلم فقد تحلّل وأمر أصحابه بالتّحلّل عام الحديبية حين صدّهم المشركون عن الاعتمار بالبيت العتيق » ، كما وردت الأحاديث الصّحيحة السّابقة .
المفاضلة بين التّحلّل ومصابرة الإحرام :
28 - أطلق الحنفيّة الحكم على المحصر أنّه " جاز له التّحلّل " وأنّه رخصة في حقّه ، حتّى لا يمتدّ إحصاره ، فيشقّ عليه ، وأنّ له أن يبقى محرماً . يرجع إلى أهله بغير تحلّل ويعتبر محرماً حتّى يزول الخوف . وقال المالكيّة إن منعه بعض ما ذكر من أسباب الإحصار الثّلاثة المعتبرة عندهم ، عند إتمام حجّ ، بأن أحصر عن الوقوف والبيت معاً ، أو عن إكمال عمرة ، بأن أحصر عن البيت أو السّعي ، فله التّحلّل بالنّيّة ، ممّا هو محرم به ، في أيّ محلّ كان ، قارب مكّة أو لا ، دخلها أو لا . وله البقاء لقابل أيضاً ، إلاّ أنّ تحلّله أفضل . أمّا من منع عن إتمام نسكه بغير الأسباب الثّلاثة ( العدوّ والفتنة والحبس ) كالمرض ، فإن قارب مكّة كره له إبقاء إحرامه بالحجّ لقابل ، ويتحلّل بفعل عمرة . أمّا الشّافعيّة ففرّقوا بين حالي اتّساع الوقت وضيقه : فإن كان الوقت واسعاً فالأفضل أن لا يعجّل التّحلّل ، فربّما زال المنع فأتمّ الحجّ ، ومثله العمرة ، وإن كان الوقت ضيّقاً فالأفضل تعجيل التّحلّل ؛ لئلاّ يفوت الحجّ . وذلك ما لم يغلب على ظنّ المحرم المحصر إدراكه بعد الحصر ، أو إدراك العمرة في ثلاثة أيّام فيجب الصّبر كما سبق . وأطلق الحنابلة فقالوا " المستحبّ له الإقامة مع إحرامه رجاء زوال الحصر ، فمتى زال قبل تحلّله فعليه المضيّ لإتمام نسكه . والحاصل أنّ جواز التّحلّل متّفق عليه ، إنّما اختلفوا في المفاضلة بينه وبين البقاء على الإحرام ، فإن اختار المحصر التّحلّل تحلّل متى شاء ، إذا صنع ما يلزمه للتّحلّل ، ممّا سيأتي ذكره في موضعه . وهذا الحكم سواء فيه المحصر عن الحجّ ، أو عن العمرة ، أو عنهما معاً ، عند عامّة العلماء .
التّحلّل من الإحرام الفاسد :
29 - يجوز للمحرم الّذي فسد إحرامه - إذا أحصر - أن يتحلّل من إحرامه الفاسد ، فإذا جامع المحرم بالحجّ جماعاً مفسداً ثمّ أحصر تحلّل ، ويلزمه دم للإفساد ، ودم للإحصار ، ويلزمه القضاء بسبب الإفساد اتّفاقاً هنا ؛ لأنّ الخلاف في القضاء هو في الإحصار بعد الإحرام الصّحيح . فلو لم يتحلّل حتّى فاته الوقوف ، ولم يمكنه الطّواف بالكعبة ، تحلّل في موضعه تحلّل المحصر ، ويلزمه ثلاثة دماء : دم للإفساد ، ودم للفوات ، ودم للإحصار . فدم الإفساد بدنة ، والآخران شاتان ، ويلزمه قضاء واحد . لكن عند المالكيّة يكفيه في الصّورة الأولى هدي واحد هو هدي الإفساد : بدنة ؛ لأنّه لا هدي على المحصر عند المالكيّة . وعليه في الصّورة الثّانية هديان عند الحنفيّة والمالكيّة : هدي الإفساد وهدي الإحصار عند الحنفيّة ؛ لأنّه لا دم عندهم للفوات ، وهدي الإفساد . وهدي الفوات عند المالكيّة .
البقاء على الإحرام :
30 - إن اختار المحصر البقاء على الإحرام ومصابرته حتّى يزول المانع فله بالنّسبة للحجّ حالان : الحالة الأولى : أن يتمكّن من إدراك الحجّ بإدراك الوقوف بعرفة ، فبها ونعمت . الحالة الثّانية : أن لا يتمكّن من إدراك الحجّ ، بأن يفوته الحجّ لفوات الوقوف بعرفة . فاتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه يتحلّل تحلّل فوات الحجّ ، بأن يؤدّي أعمال العمرة . ثمّ اختلفوا : فقال : الحنفيّة لا دم عليه لأنّ ذلك هو حكم الفوات وعليه القضاء . وأمّا الشّافعيّة والحنابلة فقالوا : عليه دم الفوات دون دم الإحصار . والأصحّ أنّه لا قضاء عليه عند الشّافعيّة وعليه القضاء عند الحنابلة ، كما هي القاعدة عندهم : « إنّ من لم يتحلّل حتّى فاته الحجّ لزمه القضاء » . وأمّا المالكيّة فقالوا : لو استمرّ المحصر على إحرامه حتّى دخل وقت الإحرام من العام القابل ، وزال المانع فلا يجوز له أن يتحلّل بالعمرة ليسر ما بقي . فقد أجاز المالكيّة البقاء على الإحرام بعد الفوات ، ولم يلزموه بالتّحلّل بعمرة ، وعندهم يجزئه الإحرام السّابق للحجّ في العام القابل .
31 - وأمّا إذا بقي الإحصار قائماً وفات الحجّ : فعند المالكيّة والشّافعيّة له أن يحلّ تحلّل المحصر ، ولا قضاء عليه . وعليه دم عند الشّافعيّة . وفي قول عليه القضاء . أمّا الحنابلة فأوجبوا عليه القضاء ، فيما يظهر من كلامهم . وأمّا الحنفيّة فحكمه عندهم حكم الفوات ، ولا أثر للحصر .
حكمة مشروعيّة التّحلّل :
32 - المحصر كما قال الكاسانيّ محتاج إلى التّحلّل ؛ لأنّه منع عن المضيّ في موجب الإحرام ، على وجه لا يمكنه الدّفع ، فلو لم يجز له التّحلّل لبقي محرماً لا يحلّ له ما حظره الإحرام إلى أن يزول المانع فيمضي في موجب الإحرام ، وفيه من الضّرر والحرج ما لا يخفى ، فمسّت الحاجة إلى التّحلّل والخروج من الإحرام ، دفعاً للضّرر والحرج . وسواء كان الإحصار عن الحجّ ، أو عن العمرة ، أو عنهما عند عامّة العلماء .
ما يتحلّل به المحصر
33 - الإحصار بحسب إطلاق الإحرام الّذي وقع فيه أو تقييده بالشّرط نوعان : النّوع الأوّل : الإحصار في الإحرام المطلق ، وهو الّذي لم يشترط فيه المحرم لنفسه حقّ التّحلّل إذا طرأ له مانع . النّوع الثّاني : الإحصار في الإحرام الّذي اشترط فيه المحرم التّحلّل . التّحلّل بالإحصار في الإحرام المطلق 34 - ينقسم هذا الإحصار إلى قسمين ، حسبما يستخلص من الفقه الحنفيّ : القسم الأوّل : الإحصار بمانع حقيقيّ ، أو شرعيّ لحقّ اللّه تعالى ، لا دخل لحقّ العبد فيه . القسم الثّاني : الإحصار بمانع شرعيّ لحقّ العبد لا لحقّ اللّه تعالى . وقد وجدت نتيجة التّقسيم من حيث الحكم مطابقةً لغير الحنفيّة إجمالاً ، فيما اتّفقوا مع الحنفيّة على كونه إحصاراً .
كيفيّة تحلّل المحصر أوّلاً : نيّة التّحلّل :
35 - إنّ مبدأ نيّة التّحلّل بالمعنى الواسع متّفق عليه كشرط لتحلّل المحصر من إحرامه ، ثمّ وقع الخلاف فيما وراء ذلك : أمّا الشّافعيّة والحنابلة فقد شرطوا نيّة التّحلّل عند ذبح الهدي ، بأن ينوي التّحلّل بذبحه ؛ لأنّ الهدي قد يكون للتّحلّل وقد يكون لغيره فوجب أن ينوي ليميّز بينهما ثمّ يحلق ؛ ولأنّ من أتى بأفعال النّسك فقد أتى بما عليه فيحلّ منها بإكمالها ، فلم يحتج إلى نيّة ، بخلاف المحصور ، فإنّه يريد الخروج من العبادة قبل إكمالها ، فافتقر إلى قصده . كذلك تشترط نيّة التّحلّل عند الحلق ، بناءً على الأصحّ عند الشّافعيّة أنّ الحلق نسك ، وأنّه شرط لحصول التّحلّل ، كما سيأتي ( ف . . . . ) وذلك من الدّليل على شرطيّة النّيّة عند ذبح الهدي . وأمّا المالكيّة فقالوا : نيّة التّحلّل وحدها هي ركن التّحلّل فقط ، بالنّسبة لتحلّل المحصر بالعدوّ ، أو الفتنة ، أو الحبس بغير حقّ . هؤلاء يتحلّلون عند المالكيّة بالنّيّة فحسب ، ولا يغني عنها غيرها ، حتّى لو نحر الهدي وحلق ولم ينو التّحلّل لم يتحلّل . وأمّا الحنفيّة فقالوا : « إذا أحصر المحرم بحجّة أو عمرة ، وكذا إذا كان محرماً بهما ، وأراد التّحلّل - بخلاف من أراد الاستمرار على حاله ، منتظراً زوال إحصاره - يجب عليه أن يبعث الهدي . . . إلخ " فقد علّقوا التّحلّل ببعث الهدي وذبحه على إرادة التّحلّل ، واحترزوا عمّن أراد الاستمرار على حاله . فلو بعث هدياً ، وهو مريد الانتظار لا يحلّ بذبح الهدي إلاّ إذا قصد به التّحلّل .
ثانياً : ذبح الهدي : تعريف الهدي :
36 - الهدي ما يهدى إلى الحرم من حيوان وغيره . لكن المراد هنا وفي أبحاث الحجّ خاصّةً : ما يهدى إلى الحرم من الإبل والبقر والغنم والماعز خاصّةً . حكم ذبح الهدي لتحلّل المحصر :
36 م - ذهب جمهور العلماء إلى وجوب ذبح الهدي على المحصر ، لكي يتحلّل من إحرامه ، وأنّه لو بعث به واشتراه ، لا يحلّ ما لم يذبح . وهو مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وقول أشهب من المالكيّة . وذهب المالكيّة إلى أنّ المحصر يتحلّل بالنّيّة فقط ، ولا يجب عليه ذبح الهدي ، بل هو سنّة ، وليس شرطاً . استدلّ الجمهور بقوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } على ما سبق . واحتجّ الجمهور أيضاً بالسّنّة : « بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يحلّ يوم الحديبية ولم يحلق رأسه حتّى نحر الهدي » ، فدلّ ذلك على أنّ من شرط إحلال المحصر ذبح هدي إن كان عنده . وأمّا وجه قول المالكيّة ودليلهم فهو دليل من جهة القياس ، وهو كما ذكره أبو الوليد الباجيّ أنّه تحلّل مأذون فيه ، عار من التّفريط وإدخال النّقص ، فلم يجب به هدي ، أصل ذلك إذا أكمل حجّه .
ما يجزئ من الهدي في الإحصار
37 - يجزئ في الهدي الشّاة عن واحد ، وكذا الماعز باتّفاق العلماء ، وأمّا البدنة وهي من الإبل والبقر ، فتكفي عن سبعة عند الجماهير ومنهم الأئمّة الأربعة . وللتّفصيل ( ر : هدي ) .
ما يجب من الهدي على المحصر :
38 - اتّفق الفقهاء على أنّ المحرم بالعمرة مفردةً ، أو الحجّ مفرداً ، إذا أحصر يلزمه ذبح هدي واحد للتّحلّل من إحرامه . أمّا القارن فقد اختلفوا فيما يجب عليه من الهدي للتّحلّل بالإحصار : فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يحلّ بدم واحد ، حيث أطلقوا وجوب هدي على المحصر دون تفصيل ، والمسألة مشهورة . وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يحلّ إلاّ بدمين يذبحهما في الحرم . ومنشأ الخلاف هو اختلاف الفريقين في حقيقة إحرام القارن . ( انظر مصطلح إحرام ) . فالشّافعيّة ومن معهم : القارن عندهم محرم بإحرام واحد يجزئ عن الإحرامين : إحرام الحجّ وإحرام العمرة ، لذلك قالوا : يكفيه طواف واحد وسعي واحد للحجّ والعمرة مقرونين ، فألزموه إذا أحصر بهدي واحد . وأمّا الحنفيّة فالقارن عندهم محرم بإحرامين : إحرام الحجّ وإحرام العمرة ، لذلك ألزموه بطوافين وسعيين ، فألزموه إذا أحصر بهديين . وقالوا : الأفضل أن يكونا معيّنين مبيّنين ، هذا لإحصار الحجّ ، وهذا لإحصار العمرة ، كما ألزموه في جنايات الإحرام على القران الّتي يلزم فيها المفرد دم ألزموا القارن بدمين ، وكذا الصّدقة .
مكان ذبح هدي الإحصار :
39 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة في رواية إلى أنّ المحصر يذبح الهدي حيث أحصر ، فإن كان في الحرم ذبحه في الحرم ، وإن كان في غيره ذبحه في مكانه . حتّى لو كان في غير الحرم وأمكنه الوصول إلى الحرم فذبحه في موضعه أجزأه على الأصحّ في المذهبين . وذهب الحنفيّة - وهو رواية عن الإمام أحمد - إلى أنّ ذبح هدي الإحصار مؤقّت بالمكان ، وهو الحرم ، فإذا أراد المحصر أن يتحلّل يجب عليه أن يبعث الهدي إلى الحرم فيذبح بتوكيله نيابةً عنه في الحرم ، أو يبعث ثمن الهدي ليشتري به الهدي ويذبح عنه في الحرم . ثمّ لا يحلّ ببعث الهدي ولا بوصوله إلى الحرم ، حتّى يذبح في الحرم ، ولو ذبح في غير الحرم لم يتحلّل من الإحرام ، بل هو محرم على حاله . ويتواعد مع من يبعث معه الهدي على وقت يذبح فيه ليتحلّل بعده . وإذا تبيّن للمحصر أنّ الهدي ذبح في غير الحرم فلا يجزي . وفي رواية أخرى عن أحمد أنّه إن قدر على الذّبح في أطراف الحرم ففيه وجهان . استدلّ الشّافعيّة والحنابلة بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّه نحر هديه في الحديبية حين أحصر ، وهي من الحلّ . بدليل قوله تعالى : { والهدي معكوفاً أن يبلغ محلّه } . واستدلّوا كذلك من جهة العقل بما يرجع إلى حكمة تشريع التّحلّل من التّسهيل ورفع الحرج ، كما قال في المغني : « لأنّ ذلك يفضي إلى تعذّر الحلّ ، لتعذّر وصول الهدي إلى الحرم » ، أي وإذا كان كذلك دلّ على ضعف هذا الاشتراط . واستدلّ الحنفيّة على توقيت ذبح الهدي بالحرم بقوله تعالى : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } . وتوجيه الاستدلال بالآية عندهم من وجهين : الأوّل : التّعبير ب " الهدي » . الثّاني : الغاية في قوله { حتّى يبلغ الهدي محلّه } وتفسير قوله " محلّه " بأنّه الحرم . واستدلّوا بالقياس على دماء القربات ، لأنّ الإحصار دم قربة ، والإراقة لم تعرف قربةً إلاّ في زمان ، أو مكان ، فلا يقع قربةً دونه . أي دون توقيت بزمان ولا مكان ، والزّمان غير مطلوب ، فتعيّن التّوقيت بالمكان .
زمان ذبح هدي الإحصار :
40 - ذهب أبو حنيفة والشّافعيّ وأحمد - على المعتمد في مذهبه - إلى أنّ زمان ذبح الهدي هو مطلق الوقت ، لا يتوقّت بيوم النّحر ، بل أيّ وقت شاء المحصر ذبح هديه ، سواء كان الإحصار عن الحجّ أو عن العمرة . وقال أبو يوسف ومحمّد - وهو رواية عن الإمام أحمد - لا يجوز الذّبح للمحصر بالحجّ إلاّ في أيّام النّحر الثّلاثة ، ويجوز للمحصر بالعمرة متى شاء . استدلّ الجمهور بقوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } . فقد ذكر الهدي في الآية مطلقاً عن التّوقيت بزمان ، وتقييده بالزّمان نسخ أو تخصيص لنصّ الكتاب القطعيّ فلا يجوز إلاّ بدليل قاطع ولا دليل . واستدلّ أبو يوسف ومحمّد بأنّ هذا دم يتحلّل به من إحرام الحجّ ، فيختصّ بيوم النّحر في الحجّ . وربّما يعتبرانه بدم التّمتّع والقران فيقيسانه عليه ، حيث إنّه يجب أن يذبح في أيّام النّحر . ويتفرّع على هذا الخلاف أنّ المحصر يستطيع على مذهب الجمهور أن يتحلّل متى تحقّق إحصاره بذبح الهدي ، دون مشقّة الانتظار . أمّا على قول الصّاحبين : فلا يحلّ إلى يوم النّحر ؛ لأنّ التّحلّل متوقّف على ذبح الهدي ، ولا يذبح الهدي عندهما إلاّ أيّام النّحر .
العجز عن الهدي :
41 - مذهب الشّافعيّة والحنابلة وهو مرويّ عن أبي يوسف من عجز عن الهدي فله بدل يحلّ محلّ الهدي ، وفي تعيين هذا البدل ثلاثة أقوال عند الشّافعيّة . القول الأوّل وهو الأظهر : أنّ بدل الهدي طعام تقوّم به الشّاة ويتصدّق به ، فإن عجز عن قيمة الطّعام صام عن كلّ مدّ يوماً ، وهو قول أبي يوسف ، لكنّه قال : يصوم لكلّ نصف صاع يوماً . ثمّ إذا انتقل إلى الصّيام فله التّحلّل في الحال في الأظهر عند الشّافعيّة بالحلق والنّيّة عنده ؛ لأنّ الصّوم يطول انتظاره ، فتعظم المشقّة في الصّبر على الإحرام إلى فراغه . القول الثّاني : بدل الهدي الطّعام فقط ، وفيه وجهان : الأوّل أن يقوّم كما سبق . الثّاني أنّه ثلاث آصع لستّة مساكين ، مثل كفّارة جناية الحلق . القول الثّالث للشّافعيّة وهو مذهب الحنابلة أنّ بدل الدّم الصّوم فقط . وهو عشرة أيّام كصوم التّمتّع . وقال أبو حنيفة ومحمّد ، وهو قول عند الشّافعيّة وهو المعتمد في المذهب الحنفيّ لا بدل للهدي . فإن عجز المنحصر عن الهدي بأن لم يجده ، أو لم يجد ثمنه ، أو لم يجد من يبعث معه الهدي إلى الحرم بقي محرماً أبداً ، لا يحلّ بالصّوم ، ولا بالصّدقة ، وليسا ببدل عن هدي المحصر . وأمّا المالكيّة فلا يجب الهدي من أصله على المحصر عندهم ، فلا بحث في بدله عندهم . استدلّ الشّافعيّة والحنابلة القائلون بمشروعيّة البدل لمن عجز عن الهدي بالقياس ، ووجهه " أنّه دم يتعلّق وجوبه بإحرام ، فكان له بدل ، كدم التّمتّع » . وقاسوه أيضاً على غيره من الدّماء الواجبة ، فإنّ لها بدلاً عند العجز عنها ( ر : إحرام ) . واستدلّ الحنفيّة بقوله تعالى : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } . وجه دلالة الآية كما قال في البدائع : « نهى اللّه عن حلق الرّأس ممدوداً إلى غاية ذبح الهدي ، والحكم المدوّد إلى غاية لا ينتهي قبل وجود الغاية ، فيقتضي أن لا يتحلّل ما لم يذبح الهدي ، سواء صام ، أو أطعم ، أو لا » . وبتوجيه آخر : أنّه تعالى " ذكر الهدي ، ولم يذكر له بدلاً ، ولو كان له بدل لذكره ، كما ذكره في جزاء الصّيد » . واستدلّوا بالعقل وذلك " لأنّ التّحلّل بالدّم قبل إتمام موجب الإحرام عرف بالنّصّ ، بخلاف القياس ، فلا يجوز إقامة غيره مقامه بالرّأي » .
ثالثاً : الحلق أو التّقصير :
42 - مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف في رواية عنه - ومحمّد ومالك وهو قول عند الحنابلة الحلق ليس بشرط لتحلّل المحصر من الإحرام . ويحلّ المحصر عند الحنفيّة بالذّبح بدون الحلق ، وإن حلق فحسن ، وصرّح المالكيّة أنّ الحلق سنّة . وقال أبو يوسف في رواية ثانية : إنّه واجب ، ولو تركه لا شيء عليه . أي أنّه سنّة ، وفي رواية ثالثة عن أبي يوسف أنّه قال في الحلق للمحصر : « هو واجب لا يسعه تركه " وهو قوله آخراً ، وأخذ به الطّحاويّ . والأظهر عند الشّافعيّة وهو قول عند الحنابلة أنّ الحلق أو التّقصير شرط للتّحلّل ، وذلك بناءً على القول بأنّ الحلق نسك من مناسك الحجّ والعمرة ، كما هو المشهور الرّاجح في المذهبين ، ولا بدّ من نيّة التّحلّل بالحلق أو التّقصير لما ذكر في النّيّة عند الذّبح . استدلّ أبو حنيفة ومن معه بالقران وهو قوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } ووجه دلالة الآية : أنّ المعنى : « إن أحصرتم وأردتم أن تحلّوا فاذبحوا ما استيسر من الهدي . جعل ذبح الهدي في حقّ المحصر إذا أراد الحلّ كلّ موجب الإحصار ، فمن أوجب الحلق فقد جعله بعض الموجب ، وهذا خلاف النّصّ » . واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف : « بفعله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فإنّه حلق ، وأمر أصحابه أن يحلقوا ، ولمّا تباطئوا عظم عليه صلى الله عليه وسلم حتّى بادر فحلق بنفسه ، فأقبل النّاس فحلقوا وقصّروا ، فدعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اللّهمّ اغفر للمحلّقين قالوا : والمقصّرين ؟ ، فقال والمقصّرين في الثّالثة أو الرّابعة » . ولولا أنّ الحلق نسك ما دعا لهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وإذا كان نسكاً وجب فعله كما يجب عند القضاء لغير المحصر . واستدلّ لهم أيضاً بالآية { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } . ووجه الاستدلال بها أنّ التّعبير بالغاية يقتضي " أن يكون حكم الغاية بضدّ ما قبلها ، فيكون تقديره ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه فإذا بلغ فاحلقوا . وذلك يقتضي وجوب الحلق » .
تحلّل المحصر لحقّ العبد
43 - المحصر لحقّ العبد - على التّفصيل والخلاف السّابق - يكون تحليله على النّحو الآتي : عند الحنفيّة بأن يأتي من له الحقّ في الإحصار عملاً من محظورات الإحرام ناوياً التّحليل كقصّ شعر أو تقليم ظفر أو نحوهما ، ولا يكفي القول ، وعند المالكيّة على الرّاجح : يكون التّحلّل بنيّة المحصر ، فإن امتنع عن التّحلّل قام من كان الإحصار لحقّه بتحليله بنيّته أيضاً . وعند الشّافعيّة والحنابلة للزّوج تحليل زوجته ، وللأب تحليل ابنه ، وللسّيّد تحليل عبده في الأحوال السّابقة . ومعنى التّحليل عندهم على ما ذكروا في الزّوج والسّيّد : أن يأمر الزّوج زوجته بالتّحلّل ، فيجب عليها التّحلّل بأمره ، ويمتنع عليها التّحلّل قبل أمره . وتحلّلها كتحلّل المحصر بالذّبح ثمّ الحلق ، بنيّة التّحلّل فيهما . ولا يحصل التّحلّل إلاّ بما يحصل به تحلّل المحصر عند الشّافعيّة . ويقاس عليه تحليل الأب للابن أيضاً . ولو لم تتحلّل الزّوجة بعد أن أمرها زوجها بالتّحلّل ، فللزّوج أن يستمتع بها ، والإثم عليها .
إحصار من اشترط في إحرامه التّحلّل إذا حصل له مانع
معنى الاشتراط والخلاف فيه :
44 - الاشتراط في الإحرام : هو أن يقول المحرم عند الإحرام : « إنّي أريد الحجّ " مثلاً ، أو " العمرة ، فإن حبسني حابس فمحلّي حيث حبستني » . وقد اختلفت المذاهب في مشروعيّة الاشتراط في الإحرام ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الاشتراط في الإحرام غير مشروع ، ولا أثر له في إباحة التّحلّل وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى مشروعيّة الاشتراط في الإحرام ، وأنّ له أثراً في التّحلّل . وتفصيله في مصطلح : ( إحرام ) .
آثار الاشتراط :
45 - أمّا عند الحنفيّة والمالكيّة المانعين لشرعيّة الاشتراط في الإحرام . فإنّ الاشتراط في الإحرام لا يفيد المحرم شيئاً ، ولا يجيز له أن يتحلّل إذا طرأ له مانع عن المتابعة ، من عدوّ ، أو مرض ، فلا يسقط عنه الهدي الّذي يتحلّل به المحصر عند الحنفيّة إذا أراد التّحلّل ، ولا يجزئه عن نيّة التّحلّل الّتي بها يتحلّل عند المالكيّة . ومذهب الشّافعيّة أنّ الاشتراط في الإحرام يفيد المحرم المشترط جواز التّحلّل إذا طرأ له مانع ممّا لا يعتبر سبباً للإحصار عند الشّافعيّة كالمرض ونفاد النّفقة ، وضلال الطّريق ، والأوجه في المرض أن يضبط بما يحصل معه مشقّة لا تحتمل عادةً في إتمام النّسك . ثمّ يراعي في كيفيّة التّحلّل ما شرطه عند الإحرام ، وفي هذا يقول الرّمليّ الشّافعيّ : إن شرطه بلا هدي لم يلزمه هدي ، عملاً بشرطه . وكذا لو أطلق - أي لم يتعرّض لنفي الهدي ولا لإثباته - لعدم شرطه ، ولظاهر خبر ضباعة . فالتّحلّل فيهما يكون بالنّيّة فقط . وإن شرطه بهدي لزمه ، عملاً بشرطه . ولو قال : إن مرضت فأنا حلال ، فمرض صار حلالاً بالمرض من غير نيّة وعليه حملوا خبر أبي داود وغيره بإسناد صحيح : « من كسر أو عرج فقد حلّ ، وعليه الحجّ من قابل » . وإن شرط قلب حجّه عمرةً بالمرض أو نحوه ، جاز ، كما لو شرط التّحلّل به ، بل أولى ، ولقول عمر لأبي أميّة سويد بن غفلة : حجّ واشترط ، وقل : اللّهمّ الحجّ أردت وله عمدت ، فإن تيسّر ، وإلاّ فعمرة رواه البيهقيّ بسند حسن . ولقول عائشة لعروة : هل تستثني إذا حججت ؟ فقال : ماذا أقول ؟ قالت : قل : اللّهمّ الحجّ أردت وله عمدت ، فإن يسّرته فهو الحجّ ، وإن حبسني حابس فهو عمرة . رواه الشّافعيّ والبيهقيّ بسند صحيح على شرط الشّيخين . فله في ذلك - أي إذا شرط قلب حجّه عمرةً - إذا وجد العذر أن يقلب حجّه عمرةً ، وتجزئه عن عمرة الإسلام . والأوجه أنّه لا يلزمه في هذه الحالة الخروج إلى أدنى الحلّ ولو بيسير ، إذ يغتفر في الدّوام ما لا يغتفر في الابتداء . ولو شرط أن ينقلب حجّه عمرةً عند العذر ، فوجد العذر ، انقلب حجّه عمرةً ، وأجزأته عن عمرة الإسلام ، بخلاف عمرة التّحلّل بالإحصار فإنّها لا تجزئ عن عمرة الإسلام ؛ لأنّها في الحقيقة ليست عمرةً ، وإنّما هي أعمال عمرة . وحكم التّحلّل بالمرض ونحوه حكم التّحلّل بالإحصار . وقال الحنابلة : يفيد الاشتراط عند الإحرام جواز التّحلّل على نحو ما قاله الشّافعيّ ، إلاّ أنّ الحنابلة توسّعوا ، فقالوا : يفيد اشتراط التّحلّل المطلق شيئين : أحدهما : أنّه إذا عاقه عائق من عدوّ ، أو مرض ، أو ذهاب نفقة ، ونحوه أنّ له التّحلّل . الثّاني : أنّه متى حلّ بذلك فلا دم عليه ولا صوم أي بدلاً عن الدّم - بل يحلّ بالحلق عليه التّحلّل . وهذا يوافق ما قاله الشّافعيّة ، إلاّ أنّ الحنابلة سوّوا في الاشتراط بين الموانع الّتي تعتبر سبباً للإحصار كالعدوّ ، وبين الموانع الّتي لا تعتبر سبباً للإحصار عندهم . أمّا الشّافعيّة فلم يجروا الاشتراط فيما يعتبر سبباً للإحصار . وملحظهم في ذلك أنّ التّحلّل بالإحصار جائز بلا شرط ، فشرطه لاغ . وإذا كان لاغياً ، لا يؤثّر في سقوط الدّم .
تحلّل من أحصر عن الوقوف بعرفة دون الطّواف
46 - هذا لا يعتبر محصراً عند الحنفيّة والحنابلة ، ويعتبر محصراً عند الشّافعيّة والمالكيّة ، ويتحلّل عند جميعهم بعمل عمرة ، على التّفصيل والاعتبار الخاصّ لهذه العمرة ، عند كلّ مذهب ، كما سبق . هذا وإنّ من أحصر عن الوقوف دون الطّواف إذا تحلّل قبل فوات وقت الوقوف بعرفة أجري عليه حكم المحصر . أمّا إن تأخّر في التّحلّل حتّى فات الوقوف أصبح حكمه حكم الفوات لا الحصر ، على ما قرّره المالكيّة . وهذا ينبغي أن يجري عند الشّافعيّ أيضاً . وقد قرّر الحنابلة أن يجري هذا الحكم عندهم إذا لم يفسخ الحجّ إلى عمرة حتّى فاته الحجّ .
تحلّل من أحصر عن البيت دون الوقوف
47 - من أحصر عن البيت دون الوقوف يعتبر محصراً عند الشّافعيّة والحنابلة ، على تفصيل سبق ذكره . وهذا يجب عليه أن يقف بعرفة ثمّ يتحلّل . ويحصل تحلّله بما يتحلّل به المحصر ، وهو الذّبح والحلق بنيّة التّحلّل فيهما . أمّا الحنفيّة والمالكيّة فلا يكون محصراً عندهم ، وعليه أن يأتي بطواف الإفاضة ، ويظلّ محرماً بالنّسبة للنّساء حتّى يفيض . وكذا هو عند الحنابلة إذا أحصر عن البيت بعد الرّمي ، على ما سبق بيانه . وكذا لو لم يتحلّل عند الشّافعيّة والحنابلة . ويؤدّي طواف الإفاضة بإحرامه الأوّل ؛ لأنّه ما دام لم يتحلّل التّحلّل الأكبر فإحرامه قائم ، إذ التّحلّل يكون بالطّواف ، ولم يوجد الطّواف ، فيكون الإحرام قائماً ، ولا يحتاج إلى إحرام جديد .
تفريع على شروط تحلّل المحصر
أجزية محظورات الإحرام قبل تحلّل المحصر :
48 - يتفرّع على شروط التّحلّل للمحصر أنّ المحصر إذا لم يتحلّل ، ووقع في بعض محظورات الإحرام ، أو تحلّل لكن وقع قبل التّحلّل في شيء من محظورات الإحرام فإنّه يجب عليه من الجزاء ما يجب على المحرم غير المحصر ، باتّفاق المذاهب الأربعة . إلاّ أنّ الحنابلة فيما ذهب إليه أكثرهم وقال المرداويّ : إنّه المذهب . قالوا : من كان محصراً فنوى التّحلّل قبل ذبح الهدي - أو الصّوم عند عدم الهدي - لم يحلّ . لفقد شرطه ، وهو الذّبح أو الصّوم بالنّيّة : أي بنيّة التّحلّل ، ولزم دم لكلّ محظور فعله بعد التّحلّل ، ودم لتحلّله بالنّيّة . فزادوا على الجمهور دماً لتحلّله بالنّيّة ، ووجهه عندهم : أنّه عدل عن الواجب عليه من هدي أو صوم - أي عند عدم الهدي - فلزمه دم .
ما يجب على المحصر بعد التّحلّل
قضاء ما أحصر عنه المحرم قضاء النّسك الواجب الّذي أحصر عنه المحرم :
49 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجب على المحصر قضاء النّسك الّذي أحصر عنه إذا كان واجباً ، كحجّة الإسلام ، والحجّ والعمرة المنذورين عند جميعهم ، وكعمرة الإسلام عند الشّافعيّة والحنابلة ، ولا يسقط هذا الواجب عنه بسبب الإحصار . وهذا ظاهر ؛ لأنّ الخطاب بالوجوب لا يسقط عن المكلّف إلاّ بأداء ما وجب عليه . لكن الشّافعيّة فصلوا بين الواجب المستقرّ وبين الواجب غير المستقرّ ، فقالوا : « إن كان واجباً مستقرّاً كالقضاء ، والنّذر ، وحجّة الإسلام الّتي استقرّ وجوبها قبل هذه السّنة بقي الوجوب في ذمّته كما كان ، وإنّما أفاده الإحصار جواز الخروج منها ، وإن كان واجباً غير مستقرّ ، وهي حجّة الإسلام في السّنة الأولى من سني الإمكان سقطت الاستطاعة فلا حجّ عليه إلاّ أن تجتمع فيه شروط الاستطاعة بعد ذلك . فلو تحلّل بالإحصار ثمّ زال الإحصار والوقت واسع وأمكنه الحجّ من سنته استقرّ الوجوب عليه لوجود الاستطاعة لكن له أن يؤخّر الحجّ عن هذه السّنة لأنّ الحجّ على التّراخي » . 50 - أمّا من أحصر عن نسك التّطوّع فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجب عليه القضاء ، واستدلّوا بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين رجع عن البيت في عام الحديبية لم يأمر أحداً من أصحابه ولا ممّن كان معه أن يقضوا شيئاً ولا أن يعودوا لشيء ، ولا حفظ ذلك عنه بوجه من الوجوه ، ولا قال في العام المقبل : إنّ عمرتي هذه قضاء عن العمرة الّتي حصرت فيها . ولم ينقل ذلك عنه ، وإنّما سمّيت عمرة القضاء وعمرة القضيّة لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قاضى قريشاً وصالحهم في ذلك العام على الرّجوع عن البيت ، وقصده من قابل فسمّيت بذلك عمرة القضيّة . وصرّح ابن رشد من المالكيّة بوجوب القضاء على الزّوجة والسّفيه وعزاه إلى ابن القاسم روايةً عن مالك . وقال الدّردير : يجب القضاء على الزّوجة فقط . وعلّله الدّسوقيّ بأنّ الحجر على الزّوجة ضعيف ؛ لأنّه لحقّ غيرها ، بخلاف الحجر على السّفيه ومن يشبهه لأنّه لحقّ نفسه . وذهب الحنفيّة إلى أنّه يجب قضاء النّفل الّذي أحصر عنه المحرم ؛ لأنّ اعتمار النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العام المقبل من عام الحديبية إنّما كان قضاءً لتلك العمرة ، ولذلك قيل لها عمرة القضاء . وروي ذلك عن الإمام أحمد . وهي رواية مقابلة للصّحيح .
ما يلزم المحصر في القضاء :
51 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ المحصر عن الحجّ إذا تحلّل وقضى فيما يستقبل يجب عليه حجّ وعمرة ، والقارن عليه حجّة وعمرتان . أمّا المعتمر فيقضي العمرة فقط . وعليه نيّة القضاء في ذلك كلّه . وذهب الأئمّة الثّلاثة إلى أنّ النّسك الّذي وجب فيه القضاء للتّحلّل بالإحصار يلزم فيه قضاء ما فاته بالإحصار فحسب ، إن حجّةً فحجّةً فقط ، وإن عمرةً فعمرةً ، وهكذا . وعليه نيّة القضاء عندهم أيضاً . استدلّ الحنفيّة بما روي عن بعض الصّحابة كابن مسعود وابن عبّاس ، فإنّهما قالا في المحصر بالحجّ : « عليه عمرة وحجّة " وذلك لا يكون إلاّ عن توقيف . وتابعهما في ذلك علقمة ، والحسن ، وإبراهيم ، وسالم ، والقاسم ، ومحمّد بن سيرين . واستدلّ الجمهور بحديث : « من كسر أو عرج فقد حلّ ، وعليه الحجّ من قابل » . وجه الاستدلال به أنّه لم يذكر العمرة ، ولو كانت واجبةً مع الحجّ لذكرها .
موانع المتابعة بعد الوقوف بعرفة :
52 - موانع المتابعة بعد الوقوف بعرفة لها حالان : الحال الأولى : أن تمنع من الإفاضة وما بعدها . الحال الثّانية : أن تمنع ممّا بعد طواف الإفاضة . سبق البحث فيمن منع من طواف الإفاضة ، هل يكون محصراً أو لا ، مع بيان الخلاف في ذلك . أمّا على القول بأنّه يتحقّق فيه الإحصار إذا استوفى المانع شروط الإحصار فحكم تحلّله حكم تحلّل المحصر ، بكلّ التّفاصيل الّتي سبقت . وأمّا على القول بأنّه لا يتحقّق فيه الإحصار فإنّه يظلّ محرماً حتّى يؤدّي طواف الإفاضة ، وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة . وعليه جزاء ما فاته من واجبات ، كما سيأتي .
موانع المتابعة بعد طواف الإفاضة :
53 - اتّفق العلماء على أنّ الحاجّ إذا منع عن المتابعة بعد أداء الوقوف بعرفة وطواف الإفاضة فليس بمحصر ، أيّاً كان المانع عدوّاً أو مرضاً أو غيرهما وليس له التّحلّل بهذا الإحصار ؛ لأنّ صحّة الحجّ لا تقف على ما بعد الوقوف والطّواف ، ويجب عليه فداء ترك ما تركه من أعمال الحجّ . فروع : ويتفرّع على هذين الأصلين فروع في المذاهب الفقهيّة هي . 54 - قال الحنفيّة : لو وقف بعرفة ، ثمّ عرض له مانع لا يكون محصراً شرعاً كما تقدّم ، ويبقى محرماً في حقّ كلّ شيء من محظورات الإحرام إن لم يحلق ، وإن حلق فهو محرم في حقّ النّساء لا غير إلى أن يطوف للزّيارة . وإن منع عن بقيّة أفعال حجّه بعد وقوفه حتّى مضت أيّام النّحر فعليه أربعة دماء مجتمعة ، لترك الوقوف بمزدلفة ، والرّمي ، وتأخير الطّواف ، وتأخير الحلق . وعليه دم خامس لو حلق في الحلّ ، بناءً على القول بوجوبه في الحرم ، وسادس لو كان قارناً أو متمتّعاً لفوات التّرتيب ، وعليه أن يطوف للزّيارة ولو إلى آخر عمره ، ويطوف للصّدر إن خلّى بمكّة وكان آفاقيّاً . وقال المالكيّة : لا يحلّ إلاّ بطواف الإفاضة إذا كان قدّم السّعي قبل الوقوف ثمّ حصر بعد ذلك . وأمّا إن كان حصر قبل سعيه فلا يحلّ إلاّ بالإفاضة والسّعي . وعليه هدي واحد للرّمي ومبيت ليالي منًى ونزول مزدلفة إذا تركها للحصر عنها ، كما لو تركها بنسيانها جميعها ، فإنّه يكون عليه هدي واحد . « وكأنّهم لاحظوا أنّ الموجب واحد ، لا سيّما وهو معذور » . وقال الشّافعيّة : إن كان الإحصار بعد الوقوف ، فإن تحلّل فذاك ، وإن لم يتحلّل حتّى فاته الرّمي والمبيت بمنًى فهو فيما يرجع إلى وجوب الدّم لفواتهما كغير المحصر . وقال الحنابلة : إن أحصر عن البيت بعد الوقوف بعرفة فله التّحلّل ؛ لأنّ الحصر يفيده التّحلّل من جميعه فأفاد التّحلّل من بعضه . وإن كان ما حصر عنه ليس من أركان الحجّ كالرّمي ، وطواف الوداع ، والمبيت بمزدلفة ، أو بمنًى في لياليها فليس له تحلّل الإحصار ؛ لأنّ صحّة الحجّ لا تقف على ذلك ، ويكون عليه دم لتركه ذلك ، وحجّه صحيح ، كما لو تركه من غير حصر .
زوال الإحصار :
55 - اختلفت المذاهب في الآثار المترتّبة على زوال الإحصار ، فعند الحنفيّة تأتي الأحوال الآتية . الحالة الأولى : أن يزول الإحصار قبل بعث الهدي مع إمكان إدراك الحجّ . والحالة الثّانية : أن يزول الإحصار بعد بعث الهدي ، وهناك متّسع لإدراك الهدي والحجّ جميعاً . ففي هاتين الحالتين يجب عليه المضيّ في موجب إحرامه وأداء النّسك الّذي أحرم به . الحالة الثّالثة : أن لا يقدر على بعث الهدي ولا الحجّ معاً . فلا يلزمه المضيّ ، ويجوز له التّحلّل ، لعدم الفائدة من المضيّ ، فتقرّر الإحصار ، فيتقرّر حكمه . فيصبر حتّى يتحلّل بنحر الهدي في الوقت الّذي واعد عليه . وله أن يتوجّه ليتحلّل بأفعال العمرة ؛ لأنّه فائت الحجّ . فإذا تحلّل يلزمه في القضاء أداء عمرة إضافةً لما فاته ، لما سبق . الحالة الرّابعة : أن يقدر على إدراك الهدي ولا يقدر على إدراك الحجّ . فلا يلزمه المضيّ في أداء الحجّ أيضاً ؛ لعدم الفائدة في إدراك الهدي بدون إدراك الحجّ ، إذ الذّهاب لأجل إدراك الحجّ ، فإذا كان لا يدركه فلا فائدة في الذّهاب ، فكانت قدرته على إدراك الهدي وعدمها بمنزلة واحدة . الحالة الخامسة : أن يقدر على إدراك الحجّ ولا يقدر على إدراك الهدي : قياس مذهب أبي حنيفة في هذا الوجه أن يلزمه المضيّ ، ولا يجوز له التّحلّل ؛ لأنّه إذا قدر على إدراك الحجّ لم يعجز عن المضيّ في الحجّ ، فلم يوجد عذر الإحصار ، فلا يجوز له التّحلّل ، ويلزمه المضيّ . ووجه الاستحسان أنّا لو ألزمناه التّوجّه لضاع ماله ؛ لأنّ المبعوث على يديه الهدي يذبحه ولا حصل مقصوده . والأولى في توجيه الاستحسان أن نقول : يجوز له التّحلّل ؛ لأنّه إذا كان لا يقدر على إدراك الهدي صار كأنّ الإحصار زال عنه بالذّبح ، فيحلّ بالذّبح عنه ؛ ولأنّ الهدي قد مضى في سبيله ، بدليل أنّه لا يجب الضّمان بالذّبح على من بعث على يده بدنةً ، فصار كأنّه قدر على الذّهاب بعد ما ذبح عنه ، واللّه أعلم . وأمّا المالكيّة فقالوا . أ - من أحصر فلمّا قارب أن يحلّ انكشف العدوّ قبل أن يحلق وينحر فله أن يحلّ ويحلق ، كما لو كان العدوّ قائماً إذا فاته الحجّ في عامه ، وهو أيضاً على بعد من مكّة .
ب - إن انكشف الحصر وكان في الإمكان إدراك الحجّ في عامه فلا يحلّ .
ج - وأمّا إن انكشف الحصر وقد ضاق الوقت عن إدراك الحجّ إلاّ أنّه بقرب مكّة لم يحلّ إلاّ بعمل عمرة ؛ لأنّه قادر على الطّواف والسّعي من غير كبير مضرّة . وأمّا الشّافعيّة فقالوا : أ - إن زال الإحصار وكان الوقت واسعاً بحيث يمكنه تجديد الإحرام وإدراك الحجّ ، وكان حجّه تطوّعاً ، فلا يجب عليه شيء .
ب - وإن كان الوقت واسعاً وكانت الحجّة قد تقدّم وجوبها بقي وجوبها كما كان . والأولى أن يحرم بها في هذه السّنة ، وله التّأخير .
ج - وإن كانت الحجّة حجّة الإسلام وجبت هذه السّنة بأن استطاع هذه السّنة دون ما قبلها فقد استقرّ الوجوب في ذمّته لتمكّنه ، والأولى أن يحرم بها في هذه السّنة ، وله التّأخير ؛ لأنّ الحجّ عند الشّافعيّة على التّراخي . انظر مصطلح ( حجّ ) .
د - وإن كان الوقت ضيّقاً بحيث لا يمكنه إدراك الحجّ ، أي ولم يستقرّ الوجوب في ذمّته لكونها وجبت هذه السّنة - سقط عنه الوجوب في هذه السّنة ، فإن استطاع بعده لزمه ، وإلاّ فلا . وأمّا الحنابلة فقالوا : أ - إن لم يحلّ المحصر حتّى زال الحصر لم يجز له التّحلّل ؛ لأنّه زال العذر .
ب - إن زال العذر بعد الفوات تحلّل بعمرة ، وعليه هدي للفوات ، لا للحصر ؛ لأنّه لم يحلّ بالحصر .
ج - إن فاته الحجّ مع بقاء الحصر فله التّحلّل به ؛ لأنّه إذا حلّ بالحصر قبل الفوات فمعه أولى ، وعليه الهدي للحلّ ، ويحتمل أن يلزمه هدي آخر للفوات .
د - إن حلّ بالإحصار ثمّ زال الإحصار وأمكنه الحجّ من عامه لزمه ذلك إن قلنا بوجوب القضاء أو كانت الحجّة واجبةً لأنّ الحجّ على الفور ، وإن لم نقل بوجوب القضاء ولم تكن الحجّة واجبةً فلا يجب شيء .