الموسوعة الفقهية

طباعة الموضوع

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ما تراه المرأة من الدّم بين الولادتين : إن كانت حاملاً بتوأمين :
23 - التّوأم : اسم ولدٍ إذا كان معه آخر في بطنٍ واحدٍ ، فالتّوأمان هما الولدان في بطنٍ واحدٍ إذا كان بينهما أقلّ من ستّة أشهرٍ ، يقال لكلّ واحدٍ توأمٌ ، وللأنثى توأمةٌ . فإن كان بين الأوّل والثّاني أقلّ من ستّة أشهرٍ فالدّم الّذي تراه النّفساء بين الولادتين دمٌ صحيحٌ ، أي نفاسٌ في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ، وعند محمّدٍ وزفر دمٌ فاسدٌ أي استحاضةٌ ، وذلك بناءً على أنّ المرأة إذا ولدت وفي بطنها ولدٌ آخر ، فالنّفاس من الولد الأوّل عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وعند محمّدٍ وزفر من الولد الثّاني ، وانقضاء العدّة بالولد الثّاني بالإجماع . وجه قول محمّدٍ وزفر : أنّ النّفاس يتعلّق بوضع ما في البطن ، كانقضاء العدّة ، فيتعلّق بالولد الأخير ، وهذا لأنّها لا تزال حبلى ، وكما لا يتصوّر انقضاء عدّة الحمل بدون وضع الحمل ، لا يتصوّر وجود النّفاس من الحبلى ؛ لأنّ النّفاس بمنزلة الحيض ، فكان الموجود قبل وضع الولد الثّاني نفاساً من وجهٍ دون وجهٍ ، فلا تسقط الصّلاة عنها بالشّكّ . ولأبي حنيفة وأبي يوسف : أنّ النّفاس إن كان دماً يخرج عقيب الولادة فقد وجد بولادة الأوّل ، بخلاف انقضاء العدّة ؛ لأنّه يتعلّق بفراغ الرّحم ولم يوجد ، وبقاء الولد الثّاني في البطن لا ينافي النّفاس . ويتّفق الحنابلة في إحدى الرّوايتين مع الشّيخين ، وفي الرّواية الثّانية مع محمّدٍ وزفر وذكر أبو الخطّاب أنّ أوّل النّفاس من الولد الأوّل . وتبدأ للثّاني بنفاسٍ جديدٍ .
24 - وعند المالكيّة : الدّم الّذي بين التّوأمين نفاسٌ ، وقيل حيضٌ ، والقولان في المدوّنة . وعند الشّافعيّة : ثلاثة أوجهٍ كالّتي رويت عن الحنابلة .
أحكام المستحاضة :
25 - دم الاستحاضة حكمه كالرّعاف الدّائم ، أو كسلس البول ، حيث تطالب المستحاضة بأحكامٍ خاصّةٍ تختلف عن أحكام الأصحّاء ، وعن أحكام الحيض والنّفاس ، وهي :
أ - يجب ردّ دم الاستحاضة ، أو تخفيفه إذا تعذّر ردّه بالكلّيّة ، وذلك برباطٍ أو حشوٍ أو بالقيام أو بالقعود ، كما إذا سال أثناء السّجود ولم يسل بدونه ، فتومئ من قيامٍ أو من قعودٍ ، وكذا لو سال الدّم عند القيام صلّت من قعودٍ ؛ لأنّ ترك السّجود أو القيام أو القعود أهون من الصّلاة مع الحدث . وهكذا إذا كانت المستحاضة تستطيع منع سيلان الدّم بالاحتشاء فيلزمها ذلك ، فإذا نفذت البلّة أو أخرجت الحشوة المبتلّة انتقض وضوءها . فإذا ردّت المستحاضة الدّم بسببٍ من الأسباب المذكورة أو نحوها خرجت عن أن تكون صاحبة عذرٍ . واعتبر المالكيّة المستحاضة صاحبة عذرٍ كمن به سلسٌ ، فإذا فارقها الدّم أكثر زمن وقت الصّلاة لم تعدّ صاحبة عذرٍ . ونصّ المالكيّة على أنّها إذا رأت الدّم عند الوضوء فإذا قامت ذهب عنها ، قال مالكٌ : تشدّ ذلك بشيءٍ ولا تترك الصّلاة . ويستثنى من وجوب الشّدّ أو الاحتشاء أمران : الأوّل : أن تتضرّر المستحاضة من الشّدّ أو الاحتشاء . الثّاني : أن تكون صائمةً فتترك الاحتشاء نهاراً لئلاّ يفسد صومها . وإذا قامت المستحاضة ومن في حكمها من المعذورين بالشّدّ أو الاحتشاء ثمّ خرج الدّم رغم ذلك ولم يرتدّ ، أو تعذّر ردّه واستمرّ وقت صلاةٍ كاملٍ ، فلا يمنع خروج الدّم أو وجوده من صحّة الطّهارة والصّلاة ، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : « قالت فاطمة بنت أبي حبيشٍ لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّي امرأةٌ أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصّلاة ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّ ذلك عرقٌ ، وليس بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصّلاة ، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدّم وصلّي » ، وفي روايةٍ : « توضّئي لكلّ صلاةٍ » ، وفي روايةٍ : « توضّئي لوقت كلّ صلاةٍ » ، وفي روايةٍ أخرى : « وإن قطر الدّم على الحصير » . وذكر الحنفيّة للمستحاضة ولغيرها من المعذورين ثلاثة شروطٍ : الأوّل : شرط الثّبوت : حيث لا يصير من ابتلي بالعذر معذوراً ، ولا تسري عليه أحكام المعذورين ، حتّى يستوعبه العذر وقتاً كاملاً لصلاةٍ مفروضةٍ ولو حكماً ، وليس فيه انقطاعٌ - في جميع ذلك الوقت - زمناً بقدر الطّهارة والصّلاة ، وهذا شرطٌ متّفقٌ عليه بين الفقهاء . الثّاني : شرط الدّوام ، وهو أن يوجد العذر في كلّ وقتٍ آخر ، سوى الوقت الأوّل الّذي ثبت به العذر ولو مرّةً واحدةً . الثّالث : شرط الانقطاع ، وبه يخرج صاحبه عن كونه معذوراً ، وذلك بأن يستمرّ الانقطاع وقتاً كاملاً فيثبت له حينئذٍ حكم الأصحّاء من وقت الانقطاع .
ما تمتنع عنه المستحاضة :
26 - قال البركويّ من علماء الحنفيّة : الاستحاضة حدثٌ أصغر كالرّعاف . فلا تسقط بها الصّلاة ولا تمنع صحّتها أي على سبيل الرّخصة للضّرورة ، ولا تحرّم الصّوم فرضاً أو نفلاً ، ولا تمنع الجماع - لحديث حمنة : أنّها كانت مستحاضةً وكان زوجها يأتيها - ولا قراءة قرآنٍ ، ولا مسّ مصحفٍ ، ولا دخول مسجدٍ ، ولا طوافاً إذا أمنت التّلويث . وحكم الاستحاضة كالرّعاف الدّائم ، فتطالب المستحاضة بالصّلاة والصّوم . وكذلك الشّافعيّة ، والحنابلة ، قالوا : لا تمنع المستحاضة عن شيءٍ ، وحكمها حكم الطّاهرات في وجوب العبادات ، واختلف عن أحمد في الوطء ، فهناك روايةٌ أخرى عنه بالمنع كالحيض ما لم يخف على نفسه الوقوع في محظورٍ . وقال المالكيّة كما في الشّرح الصّغير : هي طاهرٌ حقيقةً . وهذا في غير المستحاضة المتحيّرة ، فإنّ لها أحكاماً خاصّةً تنظر تحت عنوان ( متحيّرةٌ ) .
طهارة المستحاضة :
27 - يجب على المستحاضة عند الشّافعيّة ، والحنابلة الاحتياط في طهارتي الحدث والنّجس ، فتغسل عنها الدّم ، وتحتشي بقطنةٍ أو خرقةٍ دفعاً للنّجاسة أو تقليلاً لها ، فإن لم يندفع الدّم بذلك وحده تحفّظت بالشّدّ والتّعصيب . وهذا الفعل يسمّى استثفاراً وتلجّماً ، وسمّاه الشّافعيّ التّعصيب . قال الشّافعيّة : وهذا الحشو والشّدّ واجبٌ إلاّ في موضعين : أحدهما أن تتأذّى بالشّدّ . والثّاني : أن تكون صائمةً فتترك الحشو نهاراً وتقتصر على الشّدّ والتّلجّم فإذا استوثقت على الصّفة المذكورة ، ثمّ خرج دمها بلا تفريطٍ لم تبطل طهارتها ولا صلاتها 28 - وأمّا إذا خرج الدّم لتقصيرها في التّحفّظ فإنّه يبطل طهرها . وأمّا عند الحنفيّة فيجب على المعذور ردّ عذره ، أو تقليله إن لم يمكن ردّه بالكلّيّة . وبردّه لا يبقى ذا عذرٍ . أمّا إن كان لا يقدر على الرّبط أو منع النّشّ فهو معذورٌ . وأمّا غسل المحلّ وتجديد العصابة والحشو لكلّ فرضٍ ، فقال الشّافعيّة : ينظر إن زالت العصابة عن موضعها زوالاً له تأثيرٌ ، أو ظهر الدّم على جوانبها ، وجب التّجديد بلا خلافٍ ؛ لأنّ النّجاسة كثرت وأمكن تقليلها والاحتراز عنها . فإن لم تزل العصابة عن موضعها ولا ظهر الدّم ، فوجهان عند الشّافعيّة ، أصحّهما : وجوب التّجديد كما يجب تجديد الوضوء ، والثّاني : إذ لا معنى للأمر بإزالة النّجاسة مع استمرارها ، بخلاف الأمر بتجديد طهارة الحدث مع استمراره فإنّه معهودٌ في التّيمّم . وعند الحنابلة لا يلزمها إعادة الغسل والعصب لكلّ صلاةٍ إن لم تفرّط ، قالوا : لأنّ الحدث مع قوّته وغلبته لا يمكن التّحرّز منه ، ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت « اعتكف مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم امرأةٌ من أزواجه ، فكانت ترى الدّم والصّفرة والطّست تحتها وهي تصلّي » رواه البخاريّ .
ب - حكم ما يسيل من دم المستحاضة على الثّوب :
28ـ إذا أصاب الثّوب من الدّم مقدار مقعّر الكفّ فأكثر وجب عند الحنفيّة غسله ، إذا كان الغسل مفيداً ، بأن كان لا يصيبه مرّةً بعد أخرى ، حتّى لو لم تغسل وصلّت لا يجوز ، وإن لم يكن مفيداً لا يجب ما دام العذر قائماً . أي إن كان لو غسلت الثّوب تنجّس ثانياً قبل الفراغ من الصّلاة ، جاز ألاّ تغسل ؛ لأنّ في إلزامها التّطهير مشقّةً وحرجاً . وإن كان لو غسلته لا يتنجّس قبل الفراغ من الصّلاة ، فلا يجوز لها أن تصلّي مع بقائه ، إلاّ في قولٍ مرجوحٍ . وعند الشّافعيّة إذا تحفّظت لم يضرّ خروج الدّم ، ولو لوّث ملبوسها في تلك الصّلاة خاصّةً . ولا يضرّ كذلك عند الحنابلة ؛ لقولهم : إن غلب الدّم وقطر بعد ذلك لم تبطل طهارتها .
متى يلزم المستحاضة أن تغتسل :
29 - نقل صاحب المغني في ذلك أقوالاً : الأوّل : تغتسل عندما يحكم بانقضاء حيضها أو نفاسها . وليس عليها بعد ذلك إلاّ الوضوء ويجزيها ذلك . وهذا رأي جمهور العلماء . « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيشٍ : إنّما ذلك عرقٌ وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت فدعي الصّلاة ، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدّم وصلّي ، وتوضّئي لكلّ صلاةٍ » قال التّرمذيّ : هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ . ولحديث عديّ بن ثابتٍ عن أبيه عن جدّه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في المستحاضة : تدع الصّلاة أيّام أقرائها ثمّ تغتسل وتصلّي ، وتتوضّأ لكلّ صلاةٍ » . الثّاني : أنّها تغتسل لكلّ صلاةٍ . روي ذلك عن عليٍّ وابن عمر وابن عبّاسٍ وابن الزّبير ، وهو أحد قولي الشّافعيّ في المتحيّرة ؛ لأنّ عائشة روت « أنّ أمّ حبيبة استحيضت ، فأمرها النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن تغتسل لكلّ صلاةٍ » متّفقٌ عليه . إلاّ أنّ أصحاب القول الأوّل قالوا : إنّ ذكر الوضوء لكلّ صلاةٍ زيادةٌ يجب قبولها . ومن هنا قال المالكيّة والحنابلة : يستحبّ لها أن تغتسل لكلّ صلاةٍ . ويكون الأمر في الحديث للاستحباب . الثّالث : أنّها تغتسل لكلّ يومٍ غسلاً واحداً ، روي هذا عن عائشة وابن عمر وسعيد بن المسيّب . الرّابع : تجمع بين كلّ صلاتي جمعٍ بغسلٍ واحدٍ ، وتغتسل للصّبح .
وضوء المستحاضة وعبادتها :
30 - قال الشّافعيّ : تتوضّأ المستحاضة لكلّ فرضٍ وتصلّي ما شاءت من النّوافل ، لحديث فاطمة بنت أبي حبيشٍ السّابق ؛ ولأنّ اعتبار طهارتها ضرورةٌ لأداء المكتوبة ، فلا تبقى بعد الفراغ منها . وقال مالكٌ في أحد قولين : تتوضّأ لكلّ صلاةٍ ، واحتجّ بالحديث المذكور . فمالكٌ عمل بمطلق اسم الصّلاة ، والشّافعيّ قيّده بالفرض ؛ لأنّ الصّلاة عند الإطلاق تنصرف إلى الفرض ، والنّوافل أتباع الفرائض ؛ لأنّها شرعت لتكميل الفرائض جبراً للنّقصان المتمكّن فيها ، فكانت ملحقةً بأجزائها ، والطّهارة الواقعة لصلاةٍ مفروضةٍ واقعةٌ لها بجميع أجزائها ، بخلاف فرضٍ آخر لأنّه ليس بتبعٍ ، بل هو أصلٌ بنفسه . والقول الثّاني للمالكيّة : أنّ تجديد الوضوء لوقت كلّ صلاةٍ مستحبٌّ ، وهو طريقة العراقيّين من المالكيّة . وعند الحنفيّة والحنابلة : تتوضّأ المستحاضة وأمثالها من المعذورين لوقت كلّ صلاةٍ مفروضةٍ ، وتصلّي به في الوقت ما شاءت من الفرائض والنّذور والنّوافل والواجبات ، كالوتر والعيد وصلاة الجنازة والطّواف ومسّ المصحف . واستدلّ الحنفيّة بقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيشٍ : « وتوضّئي لوقت كلّ صلاةٍ » . ولا ينتقض وضوء المستحاضة بتجدّد العذر ، بعد أن يكون الوضوء في حال سيلان الدّم . قال الحنفيّة : فلو توضّأت مع الانقطاع ثمّ سال الدّم انتقض الوضوء . ولو توضّأت من حدثٍ آخر - غير العذر - في فترة انقطاع العذر ، ثمّ سال الدّم انتقض الوضوء أيضاً . وكذا لو توضّأت من عذر الدّم ، ثمّ أحدثت حدثاً آخر انتقض الوضوء . بيان ذلك : لو كان معها سيلانٌ دائمٌ مثلاً ، وتوضّأت له ، ثمّ أحدثت بخروج بولٍ انتقض الوضوء .
31 - ثمّ اختلف الحنفيّة في طهارة المستحاضة ، هل تنتقض عند خروج الوقت ؟ أم عند دخوله ؟ أم عند كلٍّ من الخروج والدّخول ؟ قال أبو حنيفة ومحمّدٌ : تنتقض عند خروج الوقت لا غير ؛ لأنّ طهارة المعذور مقيّدةٌ بالوقت فإذا خرج ظهر الحدث . وقال زفر : عند دخول الوقت لا غير ، وهو ظاهر كلام أحمد ؛ لحديث « توضّئي لكلّ صلاةٍ » وفي روايةٍ « لوقت كلّ صلاةٍ » . وقال أبو يوسف : عند كلٍّ منهما ، أي للاحتياط . وهو قول أبي يعلى من الحنابلة . وثمرة الخلاف تظهر في موضعين : أحدهما : أن يوجد الخروج بلا دخولٍ ، كما إذا توضّأت في وقت الفجر ثمّ طلعت الشّمس ، فإنّ طهارتها تنتقض عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّدٍ لوجود الخروج ، وعند زفر وأحمد لا تنتقض لعدم دخول الوقت ؛ لأنّ من طلوع الشّمس إلى الظّهر ليس بوقت صلاةٍ ، بل هو وقتٌ مهملٌ . والثّاني : أن يوجد الدّخول بلا خروجٍ ، كما إذا توضّأت قبل الزّوال ثمّ زالت الشّمس ، فإنّ طهارتها لا تنتقض عند أبي حنيفة ومحمّدٍ لعدم الخروج ، وعند أبي يوسف وزفر وأحمد تنتقض لوجود الدّخول . فلو توضّأت لصلاة الضّحى أو لصلاة العيد فلا يجوز لها أن تصلّي الظّهر بتلك الطّهارة ، على قول أبي يوسف وزفر وأحمد ، بل تنتقض الطّهارة لدخول وقت الظّهر . وأمّا على قول أبي حنيفة ومحمّدٍ فتجوز لعدم خروج الوقت . أمّا عند الشّافعيّة فينتقض وضوءها بمجرّد أداء أيّ فرضٍ ، ولو لم يخرج الوقت أو يدخل كما تقدّم . وأمّا عند المالكيّة فهي طاهرٌ حقيقةً على ما سبق .
برء المستحاضة وشفاؤها :
32 - عند الشّافعيّة إذا انقطع دم المستحاضة انقطاعاً محقّقاً حصل معه برؤها وشفاؤها من علّتها ، وزالت استحاضتها ، نظر : إن حصل هذا خارج الصّلاة :
أ - فإن كان بعد صلاتها ، فقد مضت صلاتها صحيحةً ، وبطلت طهارتها فلا تستبيح بها بعد ذلك نافلةً .
ب - وإن كان ذلك قبل الصّلاة بطلت طهارتها ، ولم تستبح تلك الصّلاة ولا غيرها . أمّا إذا حصل الانقطاع في نفس الصّلاة ففيه قولان : أحدهما : بطلان طهارتها وصلاتها . والثّاني : لا تبطل كالتّيمّم . والرّاجح الأوّل . وإذا تطهّرت المستحاضة وصلّت فلا إعادة عليها . ولا يتصوّر هذا التّفصيل عند الحنفيّة ؛ لأنّهم يعتبرونها معذورةً لوجود العذر في الوقت ولو لحظةً كما سبق . ولا يتصوّر هذا عند المالكيّة أيضاً ؛ لأنّها طاهرٌ حقيقةً . أمّا الحنابلة فعندهم تفصيلٌ . قالوا : إن كان لها عادةٌ بانقطاعٍ زمناً يتّسع للوضوء والصّلاة تعيّن فعلهما فيه . وإن عرض هذا الانقطاع لمن عادتها الاتّصال بطلت طهارتها ، ولزم استئنافها . فإن وجد الانقطاع قبل الدّخول في الصّلاة لم يجز الشّروع فيها . وإن عرض الانقطاع في أثناء الصّلاة أبطلها مع الوضوء . ومجرّد الانقطاع يوجب الانصراف إلاّ أن يكون لها عادةٌ بانقطاعٍ يسيرٍ . ولو توضّأت ثمّ برئت بطل وضوءها إن وجد منها دمٌ بعد الوضوء .
عدّة المستحاضة :
33 - سبقت الإشارة إلى بعض أحكامها . وتفصيل ذلك في مصطلح ( عدّةٌ ) .


*استحالةٌ
التّعريف
1 - من معاني الاستحالة لغةً : تغيّر الشّيء عن طبعه ووصفه ، أو عدم الإمكان . ولا يخرج استعمال الفقهاء والأصوليّين للفظ ( استحالةٍ ) عن هذين المعنيين اللّغويّين .
الحكم الإجماليّ وموطن البحث :
يختلف الحكم تبعاً للاستعمالات الفقهيّة أو الأصوليّة :
2 - الاستعمال الفقهيّ الأوّل : بمعنى تحوّل الشّيء وتغيّره عن وصفه . ومن ذلك استحالة العين النّجسة . وبم تكون الاستحالة ؟ الأعيان النّجسة ، كالعذرة ، والخمر ، والخنزير ، قد تتحوّل عن أعيانها وتتغيّر أوصافها ، وذلك بالاحتراق أو بالتّخليل ، أو بالوقوع في شيءٍ طاهرٍ ، كالخنزير يقع في الملاحة ، فيصير ملحاً . وقد اتّفق الفقهاء على طهارة الخمر باستحالتها بنفسها خلاًّ ، ويختلفون في طهارتها بالتّخليل . أمّا النّجاسات الأخرى الّتي تتحوّل عن أصلها فقد اختلفوا في طهارتها . ويفصّل ذلك الفقهاء في مبحث الأنجاس ، وكيفيّة تطهيرها ، فمن يحكم بطهارتها يقول : إنّ استحالة العين تستتبع زوال الوصف المرتّب عليها عند بعض الفقهاء . ويرتّبون على ذلك فروعاً كثيرةً ، تفصيلها في مصطلح ( تحوّلٌ ) .
3 - الاستعمال الفقهيّ الثّاني : بمعنى عدم إمكان الوقوع . ومن ذلك استحالة وقوع المحلوف عليه ، أو استحالة الشّرط الّذي علّق عليه الطّلاق ونحوه . فمن الشّرائط الّتي ذكرها الفقهاء في المحلوف عليه : ألاّ يكون مستحيل التّحقّق عقلاً أو عادةً ، أي بأن يكون متصوّر الوجود حقيقةً أو عادةً ، ويضربون لذلك أمثلةً ، كمن يحلف : لأشربنّ الماء الّذي في الكوز ، ولا ماء فيه ، وهذا في المستحيل حقيقةً . وكحلفه ليصعدنّ إلى السّماء ، فهو مستحيلٌ عادةً . وهم يختلفون في الحنث وعدمه ، والكفّارة وعدمها ، وهل يكون ذلك في يمين البرّ أو الحنث ؟ وهل الحكم يستوي في ذلك إن كانت اليمين مؤقّتةً أو مطلقةً ؟ ويفصّل الفقهاء ذلك في مسائل الأيمان ، ومسائل الطّلاق ، ومسائل العتق .
الاستعمال الأصوليّ :
4 - يستعمل الأصوليّون لفظ استحالةٍ بمعنى : عدم إمكان الوقوع ، ومن ذلك حكم التّكليف بالمستحيل لذاته أو لغيره وقد اختلف الأصوليّون في جواز التّكليف بالممتنع ، وقسّموه إلى : ممتنعٍ لذاته ، وممتنعٍ لغيره . فالممتنع لذاته ، كالجمع بين الضّدّين . اختار جمهور الأصوليّين أنّه لا يجوز التّكليف به . والمستحيل لغيره إن كانت استحالته عادةً ، كالتّكليف بحمل الجبل ، فالجمهور على جواز التّكليف به عقلاً ، وعدم وقوعه شرعاً . وإن كانت استحالته لعدم تعلّق إرادة اللّه به ، كإيمان أبي جهلٍ ، فالكلّ مجمعٌ على جوازه عقلاً ، ووقوعه شرعاً . وتفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ .


*استحبابٌ
التّعريف
1 - الاستحباب في اللّغة : مصدر استحبّه إذا أحبّه ، ويكون الاستحباب بمعنى الاستحسان ، واستحبّه عليه : آثره . والاستحباب عند الأصوليّين غير الحنفيّة : اقتضاء خطاب اللّه العقل اقتضاءً غير جازمٍ ، بأن يجوز تركه . وضدّه الكراهية .
2 - ويرادف المستحبّ : المندوب والتّطوّع والطّاعة والسّنّة والنّافلة والنّفل والقربة والمرغّب فيه والإحسان والفضيلة والرّغيبة والأدب والحسن . وخالف بعض الشّافعيّة في التّرادف المذكور - كالقاضي حسينٍ وغيره - فقالوا : إنّ الفعل إن واظب عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم فهو السّنّة ، وإن لم يواظب عليه - كأن فعله مرّةً أو مرّتين - فهو المستحبّ ، وإن لم يفعله - وهو ما ينشئه الإنسان باختياره من الأوراد - فهو التّطوّع ، ولم يتعرّضوا للمندوب هنا لعمومه للأقسام الثّلاثة بلا شكٍّ . وهذا الخلاف لفظيٌّ ، إذ حاصله أنّ كلاًّ من الأقسام الثّلاثة ، كما يسمّى باسمٍ من الأسماء الثّلاثة كما ذكر ، هل يسمّى بغيره منها ؟ فقال البعض : لا يسمّى ، إذ السّنّة : الطّريقة والعادة ، والمستحبّ : المحبوب ، والتّطوّع : الزّيادة . والأكثر قالوا : نعم يسمّى ، ويصدق على كلٍّ من الأقسام الثّلاثة أنّه طريقةٌ أو عادةٌ في الدّين ، ومحبوبٌ للشّارع بطلبه ، وزائدٌ على الواجب . وذهب الحنفيّة إلى أنّ المستحبّ هو ما فعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّةً وتركه أخرى ، فيكون دون السّنن المؤكّدة كما قال التّهانويّ ، بل دون سنن الزّوائد كما قال أبو البقاء الكفويّ . ويسمّى عندهم بالمندوب لدعاء الشّارع إليه ، وبالتّطوّع لكونه غير واجبٍ ، وبالنّفل لزيادته على غيره . وإنّما سمّي المستحبّ مستحبّاً لاختيار الشّارع إيّاه على المباح . وهم بهذا يقتربون ممّا ذهب إليه القاضي حسينٌ ، لولا أنّهم يختلفون معه في التّطوّع ، حيث يجعلونه مرادفاً للمستحبّ ، ويجعله قسيماً له على ما تقدّم ، ويفرّقون بين المستحبّ وبين السّنّة بأنّها هي : الطّريقة المسلوكة في الدّين من غير التزامٍ على سبيل المواظبة ، فيخرج المستحبّ بالقيد الأخير ، إذ لا مواظبة عليه من قبل النّبيّ عليه الصّلاة والتّسليم . وبعض الحنفيّة لم يفرّق بين المستحبّات وسنن الزّوائد ، فقال : المستحبّ هو الّذي يكون على سبيل العادة ، سواءٌ أترك أحياناً أم لا . وفي نور الأنوار شرح المنار : السّنن الزّوائد في معنى المستحبّ ، إلاّ أنّ المستحبّ ما أحبّه العلماء ، والسّنن الزّوائد ما اعتاده النّبيّ عليه السلام . هذا وقد يطلق المستحبّ على كون الفعل مطلوباً ، طلباً جازماً أو غير جازمٍ ، فيشمل الفرض والسّنّة والنّدب ، وعلى كونه مطلوباً طلباً غير جازمٍ فيشمل الأخيرين فقط . حكم المستحبّ :
3 - ذهب الأصوليّون - من غير الحنفيّة - إلى أنّ المستحبّ يمدح فاعله ويثاب ، ولا يذمّ تاركه ولا يعاقب . وذلك لأنّ ترك المستحبّ جائزٌ . غير أنّ هذا التّرك إن ورد فيه نهيٌ غير جازمٍ نظر : فإن كان مخصوصاً ، كالنّهي في حديث الصّحيحين : « إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتّى يصلّي ركعتين » كان مكروهاً ، وإن كان نهياً غير مخصوصٍ ، وهو النّهي عن ترك المندوبات عامّةً المستفاد من أوامرها ، فإنّ الأمر بالشّيء يفيد النّهي عن تركه ، فيكون خلاف الأولى ، كترك صلاة الضّحى . وذلك لأنّ الطّلب بدليلٍ خاصٍّ آكد من الطّلب بدليلٍ عامٍّ . والمتقدّمون يطلقون المكروه على ذي النّهي المخصوص وغير المخصوص ، وقد يقولون في الأوّل : مكروهٌ كراهةً شديدةً ، كما يقال في المندوب : سنّةٌ مؤكّدةٌ . أمّا الحنفيّة فإنّهم ينصّون على أنّ الشّيء إذا كان مستحبّاً أو مندوباً عندهم وليس سنّةً فلا يكون تركه مكروهاً أصلاً ، ولا يوجب تركه إساءةً أيضاً فلا يوجب عتاباً في الآخرة ، كترك سنن الزّوائد ، بل أولى في عدم الإساءة وعدم استحقاق العتاب ؛ لأنّه دونها في الدّوام والمواظبة ، وإن كان فعله أفضل ولمعرفة ما تبقّى من مباحث الاستحباب ، ككون المستحبّ مأموراً به ، وهل يلزم بالشّروع فيه ؟ يرجع إلى الملحق الأصوليّ .


*استحدادٌ
التّعريف
1 - الاستحداد لغةً : مأخوذٌ من الحديدة ، يقال : استحدّ إذا حلق عانته . استعمل على طريق الكناية والتّورية . والتعريف الاصطلاحيّ لا يفترق عن المعنى اللّغويّ ، حيث عرّفه الفقهاء بقولهم : الاستحداد حلق العانة ، وسمّي استحداداً ، لاستعمال الحديدة وهي : الموسى .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإحداد :
2 - الإحداد : مصدر أحدّ . وإحداد المرأة على زوجها تركها للزّينة ، فعلى هذا يكون الاستحداد مخالفاً للإحداد ، ولا يشترك معه في وجهٍ من الوجوه .
ب - التّنوّر :
3 - التّنوّر هو : الطّلاء بالنّورة . يقال : تنوّر . تطلّى بالنّورة ليزيل الشّعر . والنّورة من الحجر الّذي يحرق ، ويسوّى من الكلس ، ويزال به الشّعر . فعلى هذا يكون الاستحداد أعمّ في الاستعمال من التّنوّر ، لأنّه كما يكون بالحديدة يكون بغيرها كالنّورة وغيرها .
حكمه التّكليفيّ :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ الاستحداد سنّةٌ للرّجال والنّساء على السّواء . وصرّح الشّافعيّة ، والمالكيّة دون غيرهم بالوجوب للمرأة إذا طلب منها زوجها ذلك .
دليل مشروعيّته :
5 - يستدلّ على مشروعيّة الاستحداد بالسّنّة ؛ لما روى سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أنّه قال : الفطرة خمسٌ ، أو خمسٌ من الفطرة : الختان ، والاستحداد ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظافر ، وقصّ الشّارب » . ولما روي عن عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : عشرٌ من الفطرة : قصّ الشّارب ، وإعفاء اللّحية ، والسّواك ، والاستنشاق ، وقصّ الأظافر ، وغسل البراجم ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وانتقاص الماء » - قال زكريّا - ( الرّاوي ) : ونسيت العاشرة إلاّ أن تكون المضمضة .
ما يتحقّق به الاستحداد :
6 - اختلف الفقهاء فيما يتحقّق به الاستحداد على أقوالٍ . فقال الحنفيّة : السّنّة الحلق للرّجل ، والنّتف للمرأة . وقال المالكيّة : الحلق للرّجل والمرأة ، ويكره النّتف للمرأة ؛ لأنّه يعدّ من التّنمّص المنهيّ عنه ، وهذا رأي بعض الشّافعيّة . وقال جمهور الشّافعيّة : النّتف للمرأة الشّابّة ، والحلق للعجوز . ونسب هذا الرّأي إلى ابن العربيّ . وقال الحنابلة : لا بأس بالإزالة بأيّ شيءٍ ، والحلق أفضل .
وقت الاستحداد :
7 - يكره تركه بعد الأربعين ، كما أخرجه مسلمٌ من حديث أنسٍ : « وقّت لنا في قصّ الشّارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة ألاّ يترك أكثر من أربعين يوماً » . والضّابط في ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والأزمان والأماكن ، بشرط ألاّ يتجاوز الأربعين يوماً ، وهو التّوقيت الّذي جاء في الحديث الصّحيح .
الاستعانة بالآخرين في الاستحداد :
8 - الأصل عند الفقهاء جميعاً أنّه يحرم على الإنسان ذكراً كان أو أنثى أن يظهر عورته لأجنبيٍّ إلاّ لضرورةٍ . ويرجع إلى تفصيل ذلك في : ( استتارٌ ، وعورةٌ ) . واعتبر الفقهاء حلق العانة لمن لا يستطيع أن يحلقها بالحديدة أو يزيلها بالنّورة ضرورةً .
آداب الاستحداد :
9 - تكلّم الفقهاء على آداب الاستحداد في ثنايا الكلام على الاستحداد ، وخصال الفطرة ، والعورة . فقالوا : يستحبّ أن يبدأ في حلق العانة من تحت السّرّة ، كما يستحبّ أن يحلق الجانب الأيمن ، ثمّ الأيسر ، كما يستحبّ أن يستتر ، وألاّ يلقي الشّعر في الحمّام أو الماء ، وأن يواري ما يزيله من شعرٍ وظفرٍ .
مواراة الشّعر المزال أو إتلافه :
10 - صرّح الفقهاء باستحباب مواراة شعر العانة بدفنه ؛ لما روى الخلاّل بإسناده عن ممل بنت مشرّحٍ الأشعريّة قالت : « رأيت أبي يقلّم أظافره ، ويدفنها ويقول : رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك » . وسئل أحمد ، يأخذ الرّجل من شعره وأظافره أيلقيه أم يدفنه ؟ قال : يدفنه ، قيل : بلغك في ذلك شيءٌ ؟ قال : كان ابن عمر يدفنه . وروي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بدفن الشّعر والأظافر » ، قال الحافظ ابن حجرٍ : وقد استحبّ أصحابنا دفنها ؛ لكونها أجزاءٍ من الآدميّ ، ونقل ذلك عن ابن عمر وهو متّفقٌ عليه بين المذاهب .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
*استحسانٌ
التّعريف
1 - الاستحسان في اللّغة : هو عدّ الشّيء حسناً ، وضدّه الاستقباح . وفي علم أصول الفقه عرّفه بعض الحنفيّة بأنّه : اسمٌ لدليلٍ يقابل القياس الجليّ يكون بالنّصّ أو الإجماع أو الضّرورة أو القياس الخفيّ . كما يطلق عند الحنفيّة - في كتاب الكراهية والاستحسان - على استخراج المسائل الحسان ، فهو استفعالٌ بمعنى إفعالٍ ، كاستخراجٍ بمعنى إخراجٍ . قال النّجم النّسفيّ : فكأنّ الاستحسان هاهنا إحسان المسائل ، وإتقان الدّلائل .
حجّيّة الاستحسان عند الأصوليّين :
2 - اختلف الأصوليّون في قبول الاستحسان ، فقبله الحنفيّة ، وردّه الشّافعيّة وجمهور الأصوليّين . أمّا المالكيّة فقد نسب إمام الحرمين القول به إلى مالكٍ ، وقال بعضهم : الّذي يظهر من مذهب مالكٍ القول بالاستحسان لا على ما سبق ، بل حاصله : استعمال مصلحةٍ جزئيّةٍ في مقابلة قياسٍ كلّيٍّ ، فهو يقدّم الاستدلال المرسل على القياس . وأمّا الحنابلة فقد حكي عنهم القول به أيضاً . والتّحقيق أنّ الخلاف لفظيٌّ ؛ لأنّ الاستحسان إن كان هو القول بما يستحسنه الإنسان ويشتهيه من غير دليلٍ فهو باطلٌ ، ولا يقول به أحدٌ ، وإن كان هو العدول عن دليلٍ إلى دليلٍ أقوى منه ، فهذا ممّا لا ينكره أحدٌ .
أقسام الاستحسان :
ينقسم الاستحسان بحسب تنوّع الدّليل الّذي يثبت به إلى أربعة أنواعٍ :
أوّلاً - استحسان الأثر أو السّنّة :
3 - وهو أن يرد في السّنّة النّبويّة حكمٌ لمسألةٍ ما مخالفٌ للقاعدة المعروفة في الشّرع في أمثالها ؛ لحكمةٍ يراعيها الشّارع ، كبيع السّلم ، جوّزته السّنّة نظراً للحاجة ، على خلاف الأصل في بيع ما ليس عند الإنسان وهو المنع .
ثانياً - استحسان الإجماع :
4 - وهو أن ينعقد الإجماع في أمرٍ على خلاف مقتضى القاعدة ، كما في صحّة عقد الاستصناع ، فهو في الأصل أيضاً بيع معدومٍ لا يجوز ، وإنّما جوّز بالإجماع استحساناً للحاجة العامّة إليه .
ثالثاً - استحسان الضّرورة :
5 - وهو أن يخالف المجتهد حكم القاعدة نظراً إلى ضرورةٍ موجبةٍ من جلب مصلحةٍ أو دفع مفسدةٍ ، وذلك عندما يكون اطّراد الحكم القياسيّ مؤدّياً إلى حرجٍ في بعض المسائل ، كتطهير الآبار والحياض ؛ لأنّ القياس ألاّ تطهر إلاّ بجريان الماء عليها ، وفيه حرجٌ شديدٌ . رابعاً - الاستحسان القياسيّ :
6 - وهو أن يعدل عن حكم القياس الظّاهر المتبادر إلى حكمٍ مخالفٍ بقياسٍ آخر هو أدقّ وأخفى من القياس الأوّل ، لكنّه أقوى حجّةً وأسدّ نظراً . فهو على الحقيقة قياسٌ سمّي استحساناً أي قياساً مستحسناً للفرق بينهما . وذلك كالحكم على سؤر سباع الطّير ، فالقياس نجاسة سؤرها قياساً على نجاسة سؤر سباع البهائم كالأسد والنّمر ؛ لأنّ السّؤر معتبرٌ باللّحم ، ولحمها نجسٌ . والاستحسان طهارة سؤرها قياساً على طهارة سؤر الآدميّ ، فإنّ ما يتّصل بالماء من كلٍّ منهما طاهرٌ . وإنّما رجح القياس الثّاني لضعف المؤثّر في الحكم في القياس الأوّل ، وهو مخالطة اللّعاب النّجس للماء في سؤر سباع البهائم ، فإنّه منتفٍ في سباع الطّير إذ تشرب بمنقارها ، وهو عظمٌ طاهرٌ جافٌّ لا لعاب فيه ، فانتفت علّة النّجاسة فكان سؤرها طاهراً كسؤر الآدميّ ، لكنّه مكروهٌ ؛ لأنّها لا تحترز عن الميتة فكانت كالدّجاجة المخلاة . ولبيان أقسام الاستحسان الأخرى من حيث قوّته وترجيحه على القياس وبقيّة مباحثه ينظر الملحق الأصوليّ .


*استحقاقٌ
التعريف
1 - الاستحقاق لغةً : إمّا ثبوت الحقّ ووجوبه ، ومنه قوله تعالى : « فإن عثر على أنّهما استحقّا إثماً » أي : وجبت عليهما عقوبةٌ ، وإمّا بمعنى طلب الحقّ . واصطلاحاً عرّفه الحنفيّة بأنّه : ظهور كون الشّيء حقّاً واجباً للغير . وعرّفه ابن عرفة من المالكيّة بأنّه : رفع ملك شيءٍ بثبوت ملكٍ قبله بغير عوضٍ . والشّافعيّة ، والحنابلة يستعملونه بالمعنى اللّغويّ . ولم نقف للشّافعيّة والحنابلة على تعريفٍ للاستحقاق ، ولكن باستقراء كلامهم وجد أنّهم يستعملونه بالمعنى الاصطلاحيّ ، ولا يخرجون فيه عن الاستعمال اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّملّك :
2 - التّملّك ثبوت ملكيّةٍ جديدةٍ ، إمّا بانتقالها من مالكٍ إلى مالكٍ جديدٍ ، أو بالاستيلاء على مباحٍ ، والاستحقاق إخراج المستحقّ من غير المالك إلى المالك ، فالاستحقاق يختلف عن التّملّك ؛ لأنّ التّملّك يحتاج إلى إذن المالك ورضاه ، أو حكم حاكمٍ في خروج الملكيّة ، بخلاف الاستحقاق فإنّ المستحقّ يعود لمالكه ولو دون رضا المستحقّ منه .
حكم الاستحقاق :
3 - الأصل في الاستحقاق ( بمعنى الطّلب ) الجواز ، وقد يصير واجباً إذا تيسّرت أسبابه وترتّب على عدم القيام به الوقوع في الحرام ، نصّ عليه المالكيّة ، وقواعد المذاهب الأخرى لا تأبى ذلك .
إثبات الاستحقاق :
4 - يثبت الاستحقاق بالبيّنة عند عامّة الفقهاء ، والبيّنة تختلف من حقٍّ لآخر ، ومنها ما هو مختلفٌ فيه بين المذاهب في الحقّ الواحد . كذلك يثبت بإقرار المشتري للمستحقّ ، أو بنكوله عن يمين نفي العلم بالاستحقاق . هذا في الجملة ، وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في البيّنات .
ما يظهر به الاستحقاق :
5 - ذكر المالكيّة أنّ سبب الاستحقاق ( بمعنى ثبوت الحقّ ) قيام البيّنة على عين الشّيء المستحقّ أنّه ملكٌ للمدّعي ، لا يعلمون خروجه ، ولا خروج شيءٍ منه عن ملكه حتّى الآن ، وبقيّة الفقهاء لا يخالفون في ذلك ، فالبيّنة سبب إظهار الواجب لغير حائزه ، ولا بدّ من إقامتها حتّى يظهر الاستحقاق ؛ لأنّ الثّبوت كان بسببٍ سابقٍ على الشّهادة . وأمّا سبب ادّعاء العين المستحقّة فهو سبب تملّك العين المدّعاة من إرثٍ ، أو شراءٍ ، أو وصيّةٍ ، أو وقفٍ ، أو هبةٍ إلى غير ذلك من أسباب الملكيّة . وهل يشترط في دعوى الاستحقاق بيان سببه وشروطه في كلّ الدّعاوى ؟ أم في بعضها كالمال والنّكاح ونحو ذلك ؟ للفقهاء خلافٌ وتفصيلٌ . موضع استيفائه مصطلح ( دعوى ) .
موانع الاستحقاق :
6 - موانع الاستحقاق ، كما صرّح بها المالكيّة نوعان : فعلٌ ، وسكوتٌ . فالفعل : مثل أن يشتري ما ادّعاه من عند حائزه من غير بيّنةٍ - يشهدها سرّاً - قبل الشّراء بأنّي إنّما اشتريته خوف أن يغيب عليّ ، فإذا أثبته رجعت عليه بالثّمن . ولو اشتراه وهو يرى أن لا بيّنة له ، ثمّ وجد بيّنةً ، فله المطالبة . وأمّا السّكوت : فمثل أن يترك المطالبة من غير مانعٍ أمد الحيازة . وبقيّة الفقهاء لم يصرّحوا بذكر موانع الاستحقاق إلاّ أنّ قواعدهم لا تأبى المانع الأوّل . وهو الفعل ، أمّا السّكوت مدّة أمد الحيازة وكونه يبطل الاستحقاق ، فلم نقف على من صرّح به غيرهم سوى الحنفيّة ، على تفصيلٍ عندهم في مدّته ، وفي الحقوق الّتي تسقط به والّتي لا تسقط ، ويتعرّضون لذلك في باب الدّعوى .
شروط الحكم بالاستحقاق :
7 - عدّد المالكيّة للحكم بالاستحقاق ثلاثة شروطٍ ، شاركهم بعض الفقهاء في اثنين منها : الشّرط الأوّل : الإعذار إلى الحائز لقطع حجّته ، فإن ادّعى الحائز ما يدفع به الدّعوى أجّله القاضي بحسب ما يراه للإثبات . وقد صرّح الحنفيّة والمالكيّة بهذا الشّرط ، وأشار إليه غيرهم في البيّنات . الشّرط الثّاني : يمين الاستبراء ( وتسمّى أيضاً يمين الاستظهار ) ، وللمالكيّة في لزومها ثلاثة آراءٍ أشهرها : أنّه لا بدّ منها في جميع الأشياء ، قاله ابن القاسم وابن وهبٍ وابن سحنونٍ ، وهو قول أبي يوسف ، والمفتى به عند الحنفيّة . وكيفيّة الحلف كما في الحطّاب وجامع الفصولين وغيرهما : أن يحلف المستحقّ باللّه أنّه ما باعه ، ولا وهبه ، ولا فوّته ، ولا خرج عن ملكه بوجهٍ من الوجوه حتّى الآن . والشّرط الثّالث الّذي تفرّد المالكيّة بالقول به هو : الشّهادة على العين المستحقّة إن أمكن ، وهو في المنقول ، وإلاّ فعلى الحيازة ، وهو في العقار ، وكيفيّتها أن يبعث القاضي عدلين ، وقيل : أو عدلاً مع الشّهود الّذين شهدوا بالملكيّة ، فإن كانت داراً قالوا لهما مثلاً : هذه الدّار هي الّتي شهدنا فيها عند القاضي الشّهادة المقيّدة أعلاه .
الاستحقاق في البيع علم المشتري باستحقاق المبيع :
8 - يحرم شراء الشّيء المستحقّ عند العلم بالاستحقاق ، فإن حصل البيع مع علم المشتري بالاستحقاق ، فللمشتري الرّجوع بالثّمن على البائع عند الاستحقاق إذا ثبت بالبيّنة ، فإن ثبت بإقرار المشتري أو نكوله عن اليمين بالاستحقاق ، فإنّه لا يرجع عند جمهور الفقهاء ، وهو خلاف المشهور عند المالكيّة . والمشهور عند المالكيّة أنّه يرجع . وفي هذه المسألة تفصيلٌ يرد فيما يأتي .
استحقاق المبيع كلّه .
9 - إذا استحقّ المبيع كلّه فذهب الشّافعيّة ، والحنابلة إلى أنّ البيع يبطل ، وهو قول الحنفيّة إن كان الاستحقاق مبطلاً للملك ، وهو الاستحقاق الّذي يرد على محلٍّ لا يقبل التّملّك . وهو المفهوم من فروع مذهب المالكيّة . فإن كان الاستحقاق ناقلاً للملكيّة - وهو الّذي يرد على محلٍّ قابلٍ للتّملّك - كان العقد موقوفاً على إجازة المستحقّ ، فإن أجازه نفذ ، وإن لم يجزه انفسخ ، وهذا عند الحنفيّة ، ولهم في وقت الانفساخ بالاستحقاق ثلاثة أقوالٍ ، الصّحيح منها : أنّه لا ينفسخ العقد ما لم يرجع المشتري على البائع بالثّمن ، وقيل : ينفسخ بنفس القضاء ، وقيل : إذا قبضه المستحقّ .
الرّجوع بالثّمن :
10 - عند الفسخ يختلف الفقهاء في رجوع المشتري بالثّمن على البائع وعدمه إذا بطل البيع بالاستحقاق ، ولهم في ذلك رأيان : الأوّل : أنّ المشتري يرجع بالثّمن على البائع مطلقاً ، سواءٌ أثبت الاستحقاق بالبيّنة أم بالإقرار أم بالنّكول ، وهو قول الحنابلة ، وهو أيضاً قول الحنفيّة ، والشّافعيّة إن ثبت الاستحقاق بالبيّنة . وقال المالكيّة : إن لم يعلم المشتري بصحّة ملك البائع ولا عدمه يرجع . وكذلك إن علم عدم ملك البائع على المشهور نظراً لسبق ظلم البائع ، لبيعه ما ليس في ملكه ، فهو أحقّ بالحمل عليه . الثّاني : أنّ المشتري لا يرجع على البائع إن أقرّ المشتري باستحقاق المبيع ، أو نكل عن اليمين ، وهو قول الحنفيّة ، والشّافعيّة ، وقد علّل الشّافعيّة ذلك بتقصير المشتري باعترافه بالاستحقاق مع الشّراء ، أو بنكوله . وهو قول ابن القاسم من المالكيّة ، إن أقرّ المشتري أنّ جميع المبيع للبائع ، وقال أشهب وغيره : لا يمنع إقراره من الرّجوع .
استحقاق بعض المبيع :
11 - يختلف الفقهاء كذلك إن حصل الاستحقاق في البعض دون الكلّ حسب الأقوال التّالية :
أ - بطلان البيع في الجميع سواءٌ أكان المبيع قيميّاً أم مثليّاً ، وهو روايةٌ عند الحنابلة ، وقولٌ للشّافعيّة ، واقتصر عليه الشّافعيّ في الأمّ ؛ لأنّ الصّفقة جمعت شيئين : حراماً وهو المستحقّ ، وحلالاً وهو الباقي ، فبطل بيع الجميع وهو أيضاً قول المالكيّة إن استحقّ الأكثر .
ب - تخيير المشتري بين ردّ المبيع بالفسخ ، وبين التّمسّك بالباقي والرّجوع بحصّة القدر المستحقّ والثّمن . وهو الرّواية الثّانية للحنابلة . والتّخيير أيضاً هو قول الحنفيّة لو استحقّ المبيع قبل قبضه ، سواءٌ أورث الاستحقاق في الباقي عيباً أم لا ؛ لتفرّق الصّفقة قبل التّمام ، وكذا لو استحقّ : البعض بعد القبض وأورث في الباقي عيباً .
ج - بطلان البيع في القدر المستحقّ وصحّته في الباقي ، وهو القول الآخر للشّافعيّة ، وهو أيضاً قول الحنفيّة إن استحقّ البعض بعد قبض الكلّ ، ولم يحدث الاستحقاق عيباً في الباقي ، كثوبين استحقّ أحدهما ، أو كيليٍّ أو وزنيٍّ استحقّ بعضه ، وكذا كلّ ما لا يضرّ تبعيضه . وأمّا المالكيّة فقد فرّقوا بين الاستحقاق في الشّائع وغيره ، وكون المستحقّ الثّلث أو أقلّ من الثّلث . قال البنانيّ : حاصل استحقاق البعض أن تقول : لا يخلو إمّا أن يكون شائعاً أو معيّناً فإن كان شائعاً ممّا لا ينقسم ، وليس من رباع الغلّة - أي العقارات المستغلّة - خيّر المشتري في التّمسّك والرّجوع بحصّة المستحقّ من الثّمن ، وفي ردّه لضرر الشّركة ، سواءٌ استحقّ الأقلّ أو الأكثر . وإن كان ممّا ينقسم ، أو كان متّخذاً لغلّةٍ خيّر في استحقاق الثّلث ، ووجب التّمسّك فيما دون الثّلث . وإن استحقّ جزءٌ معيّنٌ ، فإن كان مقوّماً كالعروض والحيوان رجع بحصّة البعض المستحقّ بالقيمة لا بالتّسمية . وإن استحقّ وجه الصّفقة تعيّن ردّ الباقي ، ولا يجوز التّمسّك بالأقلّ . وإن كان الجزء المعيّن مثليّاً ، فإن استحقّ الأقلّ رجع بحصّته من الثّمن ، وإن استحقّ الأكثر خيّر في التّمسّك والرّجوع بحصّته من الثّمن ، وفي الرّدّ .
12 - وكيفيّة الرّجوع هي : أن ينظر لقيمة المبيع كلّه يوم استحقاقه ، فيرجع المشتري على البائع بما يخصّه من الثّمن بميزان القيمة . مثلاً إذا قيل : قيمة المبيع كلّه ( 1000 ) وقيمة المستحقّ ( 200 ) وقيمة الباقي ( 800 ) فيكون الرّجوع عليه بخمس الثّمن .
استحقاق الثّمن :
13 - أكثر الفقهاء - خلافاً لروايةٍ ضعيفةٍ عند الحنابلة - على بطلان البيع إن استحقّ الثّمن المعيّن . قال الحنفيّة ، والمالكيّة : يرجع البائع بعين المبيع إن كان قائماً ، وبقيمته إن كان تالفاً ، ولا يرجع بقيمة المستحقّ . غير أنّ بعض الشّافعيّة قيّد التّعيين بكونه في العقد لا بعده . فإن كان الثّمن غير معيّنٍ فلا يفسد العقد باستحقاقه ، ويرجع بقيمته إن كان مقوّماً ، وبمثله إن كان مثليّاً ، مع ملاحظة خلاف الفقهاء فيما يتعيّن بالتّعيين وما لا يتعيّن به .
زيادة المبيع المستحقّ :
14 - زيادة المبيع المستحقّ محلّ خلافٍ وتفصيلٍ بين الفقهاء على النّحو التّالي : ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا كانت الزّيادة منفصلةً متولّدةً - كالولد والثّمر - وثبت الاستحقاق بالبيّنة فهي للمستحقّ . واختلف هل يجب القضاء بالزّيادة مقصوداً أو يكتفى بالقضاء بالأصل ؟ على رأيين . أمّا إذا كانت الزّيادة متّصلةً غير متولّدةٍ - كالبناء والغرس - واستحقّ الأصل ، فإنّه يخيّر المستحقّ بين أخذ الزّيادة بقيمتها مقلوعةً ، وبين أمر المأخوذ منه بقلعها مع تضمينه نقصان الأرض . ولهذا الأخير الرّجوع على البائع بالثّمن . وإذا كانت الزّيادة متّصلةً متولّدةً كالسّمن فاستحقّ الأصل فهي للمستحقّ ، وجاء في الحامديّة أنّ المأخوذ منه يرجع على بائعه بما زاد ، بأن تقوّم قبل الزّيادة وبعدها ويرجع بالفرق ( ولا يرجع المشتري على البائع بما أنفق ) . وذهب المالكيّة إلى أنّ غلّة المستحقّ من أجرةٍ أو استعمالٍ ، أو لبنٍ ، أو صوفٍ ، أو ثمرةٍ هي للمستحقّ منه من يوم وضع يده إلى يوم الحكم . وهذا في غير الغصب ، فإن كان المستحقّ مغصوباً والمشتري من الغاصب يجهل ذلك ، فالزّيادة للمستحقّ . والحنابلة كالحنفيّة في أنّ الزّيادة للمستحقّ ، سواءٌ أكانت متّصلةً أم منفصلةً ، فإن أحدث فيها شيئاً كأن أتلفها أو أكل الثّمرة أخذت منه القيمة ، وإن تلفت بغير فعل المستحقّ منه فإنّه لا يغرم شيئاً ، فإن ردّت الزّيادة على المستحقّ ، فالمأخوذ منه يردّ له النّفقة أو قيمة الغراس ، إن كان قد غرس أو زرع ، والعبرة في القيمة بيوم الاستحقاق ، وذكر القاضي أبو يعلى أنّ الّذي يدفع النّفقة هو المالك ( المستحقّ ) ، ويرجع بها على من غرّ المأخوذ منه . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الزّيادة للمأخوذ منه ، وقيّدوا ذلك بما إذا أخذت العين المستحقّة ببيّنةٍ مطلقةٍ لم تصرّح بتاريخ الملك ، ولا يرجع بالنّفقة عندهم ، لأنّه بيعٌ فاسدٌ . وفصّل المالكيّة في ذلك فقالوا : إنّ الغلّة للمستحقّ مطلقاً إلاّ كانت غير ثمرةٍ ، أو ثمرةً غير مؤبّرةٍ ، ( وفي المدوّنة : إن يبست ، وفي رواية ابن القاسم : إن جذّت ) . واختلفوا في رجوع المستحقّ منه بما سقى وعالج إن كان فيه سقيٌ وعلاجٌ ، وكانت الثّمرة لم تؤبّر - كاختلافهم في الرّجوع في الرّدّ بالعيب على رأيين .
استحقاق الأرض المشتراة :
15 - إذا كانت الزّيادة غرساً أو بناءً ، كما لو اشترى أرضاً فبنى فيها أو غرس ، فأكثر الفقهاء ( الحنفيّة ، والحنابلة ، وظاهر الشّافعيّة ) على أنّ للمستحقّ قلع الزّرع والبناء . وصرّح الحنابلة ، وهو ظاهر الشّافعيّة بأنّ المشتري يرجع على البائع بما غرم من ثمنٍ أقبضه ، وأجرة الباني ، وثمن مؤنٍ مستهلكةٍ ، وأرش نقصٍ بقلعٍ ونحو ذلك ؛ لأنّ البائع غرّ المشتري ببيعه إيّاها ، وأوهمه أنّها ملكه ، وكان سبباً في غراسه وبنائه وانتفاعه فرجع عليه بما غرمه ، قال الحنابلة : والقيمة تعتبر بيوم الاستحقاق . أمّا عند الحنفيّة فيرجع بالثّمن ، ولا يرجع بقيمة الشّجرة ، ولا بما ضمن من نقصان الأرض ، هذا إن استحقّت قبل ظهور الثّمر ، فإن كان الاستحقاق بعد ظهور الثّمر - بلغ الجذاذ أو لم يبلغ - كان للمستحقّ قلع الشّجر أيضاً ، فإن كان بائع الأرض حاضراً كان للمشتري أن يرجع على البائع بقيمة الشّجر نابتاً في الأرض ، ويسلّم الشّجر قائماً إلى البائع ، ولا يرجع على البائع بقيمة الثّمر ، ويجبر المشتري على قطع الثّمر بلغ أو لم يبلغ . ويجبر البائع على قلع الشّجر ، وإن اختار المستحقّ أن يدفع إلى المشتري قيمة الشّجر مقلوعاً ويمسك الشّجر ، وأعطاه القيمة ثمّ ظفر المشتري بالبائع ، فإنّه يرجع على البائع بالثّمن ، ولا يرجع بقيمة الشّجر ، ولا يكون للمستحقّ أن يرجع على البائع ولا على المشتري بنقصانٍ . وأمّا المالكيّة فليس للمستحقّ عندهم قلع البناء والغرس والزّرع ، وقال الدّردير من المالكيّة : إن غرس ذو الشّبهة أو بنى ، وطالبه المستحقّ ، قيل للمالك : أعطه قيمته قائماً منفرداً عن الأرض ، فإن أبى المالك فللغارس أو الباني دفع قيمة الأرض بغير غرسٍ وبناءٍ ، فإن أبى فهما شريكان بالقيمة ، هذا بقيمة أرضه ، وهذا بقيمة غرسه أو بنائه ، ويعتبر التّقويم يوم الحكم لا يوم الغرس والبناء . ويستثنى من ذلك الأرض الموقوفة ، وتفصيله في موطنه . وقد صرّح المالكيّة بأنّ للمستحقّ كراء تلك السّنة ، إن كانت تزرع مرّةً واحدةً في السّنة ، وكان الاستحقاق قبل فوات وقت ما تراد تلك الأرض لزراعته ، فلو استحقّت بعد فوات إبّان الزّرع فلا شيء لمستحقّها ؛ لأنّ الزّارع قد استوفى المنفعة ، والغلّة له . وغرس المكتري ، والموهوب له ، والمستعير ، كغرس المشتري عند المالكيّة والحنابلة في امتناع القلع . وهذا كلّه إذا كان هناك شبهةٌ ، كأن لم يعلم أنّها ليست للبائع ، أو المؤجّر ونحوهما . وقد نقل ابن رجبٍ مثل هذا في قواعده عن أحمد ، وقال : لم يصحّ عن أحمد غيره .
الاستحقاق في الصّرف :
16 - إذا استحقّ العوضان في الصّرف ( بيع النّقد بالنّقد ) أو أحدهما ، فللفقهاء في بطلانه وعدمه ثلاثة آراءٍ :
أ - بطلان العقد وهو قول الشّافعيّة ، والمذهب عند الحنابلة ، وهو قول المالكيّة أيضاً في المصوغ مطلقاً ، سواءٌ أكان قبل التّفرّق وطول المجلس أم بعده ؛ لأنّ المصوغ يراد لعينه فغيره لا يقوم مقامه ، وفي المسكوكين ، أو المسكوك والمصوغ إن استحقّ المسكوك بعد افتراق المتصارفين ، أو قبل أن يفترقا ولكن بعد طول المجلس طولاً لا يصحّ معه الصّرف ، ومع البطلان لا يجوز البدل ، ويعني بالمسكوك ما قابل المصوغ ، فيشمل التّبر والمصوغ المكسور .
ب - صحّة العقد وهو مذهب الحنفيّة ، وروايةٌ عن أحمد ، وهو قول المالكيّة أيضاً في المسكوك إن كان الاستحقاق قبل التّفرّق وطول المجلس . وللعاقد إعطاء بدل المستحقّ ، وهل الإبدال على سبيل التّراضي أو الإجبار ؟ لم أجد من صرّح بالإجبار إلاّ متأخّري المالكيّة في طريقةٍ من طريقتين لهم ، والأخرى بالتّراضي .
ج - البطلان في الدّراهم المعيّنة ، وعدمه في غيرها قبل التّفرّق وطول المجلس ، وهو قول أشهب من المالكيّة .
استحقاق المرهون :
17 - إن استحقّ المرهون المعيّن كلّه بطل الرّهن اتّفاقاً ، وإن استحقّ المرهون المعيّن قبل القبض خيّر المرتهن بين فسخ عقد المداينة من بيعٍ ونحوه ، وبين إمضائه مع إبقاء الدّين بلا رهنٍ ، وكذلك يخيّر المرتهن إن كان الاستحقاق بعد القبض وغرّه . الرّاهن ، فإن لم يغرّه بقي الدّين بلا رهنٍ ، وإن كان المرهون غير معيّنٍ واستحقّ بعد قبضه أجبر الرّاهن على الإتيان برهنٍ بدله على القول الرّاجح ، ولا يتصوّر استحقاق غير المعيّن قبل قبضه .
18 - لو استحقّ بعض المرهون ففي بطلان الرّهن وبقائه ثلاثة آراءٍ :
أ - صحّة الرّهن ، والباقي من المرهون رهن جميع الدّين ، وهو قول المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة .
ب - بطلان الرّهن ، وهو قول الحنفيّة ، إن كان الباقي ممّا لا يجوز رهنه ابتداءً عندهم ، كأن كان مشاعاً .
ج - بطلان الرّهن بحصّته ، والباقي من المرهون رهنٌ بحصّته من الدّين ، وهو قول ابن شعبان من المالكيّة ، وهو قول الحنفيّة إن كان الباقي ممّا يجوز رهنه ابتداءً .
تلف المرهون المستحقّ في يد المرتهن :
19 - لو تلفت العين المرهونة في يد المرتهن ، ثمّ استحقّت ، فللعلماء فيمن يضمن العين التّالفة المرهونة ثلاثة آراءٍ :
أ - للمستحقّ تضمين الرّاهن أو المرتهن ؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما متعدٍّ ، أمّا الرّاهن فإنّه متعدٍّ بالتّسليم ، وأمّا المرتهن فإنّه متعدٍّ بالقبض ، واستقرار الضّمان على الرّاهن فلا يرجع على غيره لو ضمن ، فإن ضمن المرتهن رجع على الرّاهن بما ضمن وبدينه ، وهو قول الحنفيّة ، والشّافعيّة ، إلاّ أنّ الشّافعيّة اشترطوا أن يكون المرتهن جاهلاً ، فإن كان عالماً فالقرار عليهما .
ب - للمستحقّ تضمين الرّاهن أو المرتهن واستقرار الضّمان على المرتهن ، فإن ضمن لم يرجع على أحدٍ ، وهو قول الحنابلة إن علم المرتهن بالغصب ، وإن ضمن الرّاهن رجع على المرتهن ، فإن لم يعلم بالغصب حتّى تلف بتفريطٍ فالحكم كذلك ؛ لأنّ الضّمان يستقرّ عليه ، فإن تلف بغير تفريطٍ ففيه ثلاثة أوجهٍ : أحدها : يضمن المرتهن ويستقرّ الضّمان عليه ؛ لأنّ مال غيره تلف تحت يده العادية . والثّاني : لا ضمان عليه لأنّه قبضه على أنّه أمانةٌ من غير علمه ، فلم يضمنه كالوديعة ، فعلى هذا يرجع المالك على الغاصب لا غيره . والثّالث : أنّ للمالك تضمين أيّهما شاء ، ويستقرّ الضّمان على الغاصب ، فإن ضمن الغاصب لم يرجع على أحدٍ ، وإن ضمن المرتهن رجع على الغاصب لأنّه غرّه فرجع عليه .
ج - للمستحقّ تضمين المرتهن إن حدث التّلف قبل ظهور الاستحقاق ، فإن حصل الاستحقاق وتركها المستحقّ تحت يد المرتهن بلا عذرٍ فلا يضمن ، لأنّ المرهون خرج عن الرّهنيّة بالاستحقاق وصار المرتهن أميناً فلا يضمن ، وهذا ما صرّح به المالكيّة .
استحقاق المرهون بعد بيع العدل له :
20 - إذا وضع المرهون بيد عدلٍ ، وباعه العدل برضا الرّاهن والمرتهن ، وأوفى المرتهن الثّمن ، ثمّ استحقّ المرهون المبيع ، فللفقهاء فيمن يرجع وعلى من يرجع آراءٌ :
أ - رجوع المستحقّ على العدل أو الرّاهن ، وهو قول الحنفيّة إن كان المبيع هالكاً ، فإن ضمن الرّاهن قيمته صحّ البيع والقبض ؛ لأنّه ملكه بأداء الضّمان فتبيّن أنّه باع ملك نفسه ، وإن ضمن العدل كان العدل بالخيار إن شاء رجع على الرّاهن بالقيمة ؛ لأنّه وكيلٌ من جهته عاملٌ له ، فيرجع عليه بما لحقه من العهدة ، ونفذ البيع وصحّ اقتضاء المرتهن لدينه ، وإن شاء العدل رجع على المرتهن ؛ لأنّه تبيّن أنّه أخذ الثّمن بغير حقٍّ ، وإذا رجع بطل اقتضاء المرتهن دينه منه ، فيرجع على الرّاهن بدينه . فإن كان المبيع قائماً أخذه المستحقّ من المشتري ؛ لأنّه وجد عين ماله ، ثمّ يرجع المشتري على العدل بالثّمن ، لأنّه العاقد ، فتتعلّق به حقوق العقد لصيرورته وكيلاً بعد الإذن بالبيع ، وهذا من حقوقه حيث وجب له بالبيع ، وإنّما أدّاه ليسلم له المبيع ولم يسلم . ثمّ العدل بالخيار إن شاء رجع على الرّاهن بالقيمة ؛ لأنّه هو الّذي أدخله في هذه العهدة فيجب عليه تخليصه ، وإذا رجع عليه صحّ قبض المرتهن ؛ لأنّ المقبوض سلم له ، وإن شاء رجع على المرتهن ؛ لأنّه إذا انتقض العقد بطل الثّمن ، وقد قبض ثمناً فيجب نقض قبضه ضرورةً ، وإذا رجع عليه عاد حقّ المرتهن كما كان فيرجع به على الرّاهن .
ب - رجوع المشتري على الرّاهن ؛ لأنّ المبيع له ، فالعهدة عليه ، ولا يرجع على العدل إن علم أنّه وكيلٌ ، فإن لم يعلم بالمال رجع عليه ، وهو مذهب الحنابلة .
ج - رجوع المستحقّ على المرتهن بالثّمن وإجازة البيع ، ويرجع المرتهن على الرّاهن ، وهو قولٌ للمالكيّة ، وقال ابن القاسم ، يرجع على الرّاهن إلاّ أن يكون مفلساً فيرجع على المرتهن ، ورأى المالكيّة هذا عند تسليم السّلطان الثّمن للمرتهن ، إذ لم يظهر نصٌّ صريحٌ لهم في ضمان العدل غير السّلطان .
د - تخيير المشتري في الرّجوع على العدل ، ( ما لم يكن العدل حاكماً أو مأذوناً من قبل الحاكم ) أو الرّاهن ، أو المرتهن إذا كان المرتهن قد تسلّم الثّمن ، وهو قول الشّافعيّة .
استحقاق ما باعه المفلس :
21 - المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة على أنّه لو استحقّ ما باعه المفلس قبل الحجر فالمشتري يشارك الغرماء من غير نقص القسمة ، إن كان الثّمن تالفاً وتعذّر ردّه ، وإن كان غير تالفٍ فالمشتري أولى به . وإن استحقّ شيءٌ بعد أن باعه الحاكم قدّم المشتري بالثّمن على باقي الغرماء ، صرّح بذلك الشّافعيّة والمالكيّة ، وفي قولٍ عند الشّافعيّة يحاصّ الغرماء . وهذه المسألة لا يمكن تصوّرها على قول أبي حنيفة إذ لا يرى جواز الحجر بالإفلاس ، ولكن يمكن تصوّرها على قول الصّاحبين ، إذ أنّهما قالا بالحجر على المفلس بشروطه ، ولكن لم يتعرّض الحنفيّة لهذه المسألة بالذّات تفريعاً على قولهما فيما اطّلعنا عليه .
الاستحقاق في الصّلح :
22 - يفرّق الحنفيّة والحنابلة في الصّلح بين أن يكون عن إقرارٍ ، أو عن إنكارٍ ، أو سكوتٍ . فإن كان الصّلح عن إقرارٍ ، فهو بمنزلة البيع عندهم ، بالنّسبة لطرفي الصّلح ، وقد تقدّم حكم الاستحقاق في المبيع . أمّا إذا كان الصّلح عن إنكارٍ أو سكوتٍ ، فهو في حقّ المدّعي معاوضةٌ ، وفي حقّ المدّعى عليه افتداءٌ لليمين وقطعٌ للخصومة ، وينبني عليه أنّه إذا استحقّ بدل الصّلح كلّه يبطل الصّلح ، ويعود المدّعي إلى الخصومة ، وإذا استحقّ بعضه عاد المدّعي للخصومة في ذلك البعض . أمّا إذا استحقّ محلّ النّزاع ( المصالح عنده ) فإنّ المدّعى عليه يرجع على المدّعي بكلّ البدل أو بعضه ؛ لأنّ المدّعي إنّما أخذ البدل بدون وجه حقٍّ فلصاحبه استرداده . وعند المالكيّة إن كان الصّلح عن إقرارٍ فاستحقّ بدل الصّلح رجع المدّعي بالعين المدّعاة إن كانت قائمةً ، فإن فاتت رجع بعوضها - وهو القيمة - إن كانت قيميّةً ، والمثل إن كانت مثليّةً ... فإن كان الصّلح عن إنكارٍ واستحقّ بدل الصّلح رجع بالعوض مطلقاً ، ولا يرجع بالعين ولو كانت قائمةً . أمّا إن استحقّ المصالح عنه وهو محلّ النّزاع ، فإن كان الصّلح عن إنكارٍ رجع المدّعى عليه على المدّعي بما دفع له إن كان قائماً ، فإن فات رجع بقيمته إن كان قيميّاً ، وبمثله إن كان مثليّاً . وإن كان الصّلح عن إقرارٍ لا يرجع المقرّ على المدّعي بشيءٍ لاعترافه أنّه ملكه ، وأنّ المستحقّ أخذه منه ظلماً . وعند الشّافعيّة لا صلح إلاّ مع الإقرار ، فإن استحقّ بدل الصّلح وكان معيّناً بطل الصّلح ، سواءٌ استحقّ كلّه أو بعضه ، وإن كان بدل الصّلح غير معيّنٍ ، أي موصوفاً في الذّمّة أخذ المدّعي بدله ، ولا ينفسخ الصّلح .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
استحقاق عوض الصّلح عن دم العمد :
23 - يصحّ الصّلح عن دم العمد على مالٍ ، فإن استحقّ العوض فلا يبطل الصّلح ، ويأخذ المستحقّ عوض المستحقّ عند الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة . وعند الشّافعيّة يرجع إلى أرش الجناية .
ضمان الدّرك :
24 - من الفقهاء من قال : إنّ ضمان الدّرك استعمل في ضمان الاستحقاق عرفاً ، وهو أن يضمن الثّمن عند استحقاق المبيع ، ومنهم من جعله نوعاً من ضمان العهدة ، ومنهم من قال : إنّ ضمان الدّرك هو ضمان العهدة . ويتّفق الفقهاء على أنّه يجوز ضمان الثّمن عند استحقاق المبيع لمسيس الحاجة إلى ذلك ، في نحو غريبٍ لو خرج مبيعه أو ثمنه مستحقّاً لم يظفر به . ولتفصيل القول في ضمان الدّرك ( ر : ضمان الدّرك ) .
الاستحقاق في الشّفعة :
25 - يتّفق الفقهاء على أنّه لو استحقّ المشفوع بطلت الشّفعة ، ورجع الشّفيع بالثّمن على من أخذه منه ، وقرار الضّمان ( أي نهايته ) على البائع . ويختلفون عند استحقاق الثّمن الّذي وقع عليه البيع الأوّل ، ولهم في ذلك رأيان :
أ - الأوّل : بطلان البيع والشّفعة ، وهو قول الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وقول غير المقدّم عند المالكيّة إن كان الثّمن معيّناً ؛ لأنّ مالكه لم يأذن فيه ، ويرجع الشّفيع بمثل ما دفع ، وهو قول المالكيّة إن كان الاستحقاق قبل الأخذ بالشّفعة حيث كان الثّمن غير نقدٍ .
ب - والثّاني : صحّة الشّفعة ، وهو قول المالكيّة الّذي هو المذهب إن حصل الاستحقاق بعد الأخذ بالشّفعة ، ويرجع البائع بقيمة الشّفعة لا بقيمة المستحقّ ، إلاّ إن كان المستحقّ نقداً مسكوكاً فيرجع بمثله . أمّا إن كان الثّمن غير معيّنٍ فيصحّ البيع والشّفعة اتّفاقاً - كأن اشترى في الذّمّة ودفع عمّا فيها فخرج المدفوع مستحقّاً - وأبدل الثّمن بما يحلّ محلّه في الأخذ بالشّفعة عند صحّة البيع والشّفعة . فإن استحقّ بعض الثّمن المعيّن بطل البيع فيه عند الشّافعيّة والحنابلة ، وصحّ في الباقي عند الشّافعيّة ، وفيه خلافٌ عند الحنابلة بناءً على روايتي تفريق الصّفقة . وإن دفع الشّفيع بدلاً مستحقّاً لم تبطل شفعته عند الشّافعيّة والمالكيّة ، زاد الشّافعيّة : وإن علم أنّه مستحقٌّ ، لأنّه لم يقصّر في الطّلب والأخذ ، سواءٌ أكان بمعيّنٍ أم لا ، فإن كان بمعيّنٍ احتاج إلى تملّكٍ جديدٍ .
الاستحقاق في المساقاة :
26 - الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة على أنّ المساقاة تنفسخ باستحقاق الأشجار ، ولا حقّ للعامل في الثّمرة حينئذٍ ؛ لأنّه عمل فيها بغير إذن المالك . وللعامل على من تعاقد معه أجرة المثل ، غير أنّ الحنفيّة اشترطوا لوجوب الأجرة ظهور الثّمر ، فإن لم تظهر الثّمار حتّى استحقّت الأشجار فلا أجرة ، وقال الشّافعيّة : إنّ الأجرة تستحقّ في حالة جهله بالاستحقاق ؛ لأنّ الّذي تعاقد معه غرّه ، فإن علم فلا أجرة له . ولو خرج الثّمر في الشّجر ثمّ استحقّت الأرض ، فالكلّ للمستحقّ ( الأرض والشّجر والثّمر ) ويرجع العامل على من تعاقد معه بأجر مثل عمله . وقال المالكيّة : إنّ المستحقّ مخيّرٌ بين إبقاء العامل وبين فسخ عقده ، فإن فسخ دفع له أجر عمله . والحكم في ضمان تلف الأشجار والثّمار - بعد الاستحقاق - يرجع فيه إلى باب الضّمان .
الاستحقاق في الإجارة استحقاق العين المكتراة :
27 - يختلف الفقهاء عند استحقاق العين المكتراة ، فمنهم من يقول ببطلان الإجارة ، ومنهم من يقول بتوقّفها على إجازة المستحقّ ، بالأوّل قال الشّافعيّة ، والحنابلة ، وبالثّاني قال الحنفيّة ، والمالكيّة ، وهو احتمالٌ عند الحنابلة ، بناءً على جواز بيع الفضوليّ وتوقّفه على إجازة المالك كذلك يختلفون فيمن يستحقّ الأجرة ، ولهم في هذا ثلاثة آراءٍ :
أ - الأجرة للعاقد ، وهو قول الحنفيّة إن كانت الإجازة بعد استيفاء المنفعة ، ولا اعتبار للإجازة حينئذٍ ، وهو قول المالكيّة إن كان الاستحقاق بعد الأمد ، وهو قول الشّافعيّة إن كانت العين المكتراة غير مغصوبةٍ ؛ لأنّه استحقّها بالملك ظاهراً .
ب - إنّ الأجرة للمستحقّ ، وهو قول الحنابلة ، وهو قول الحنفيّة إن كانت الإجازة قبل استيفاء المنفعة ، وكذا إن كانت بعد استيفاء بعض المنفعة في قول أبي يوسف ، وهو قول الشّافعيّة إن كانت العين المؤجّرة مغصوبةً ويجهل المستأجر الغصب . ويرجع المالك على الغاصب أو المستأجر عند الشّافعيّة بالمنفعة الّتي استوفاها ، والقرار ( أي نهاية الضّمان ) على المستأجر إن كان قد استوفى المنفعة ، فإن لم يستوفها فقرار الضّمان على المؤجّر الغارّ . ويرجع المستحقّ عليهما أيضاً عند الحنابلة والقرار على المستأجر ، وفي المواهب السّنيّة أنّ الأرض الموقوفة المستحقّة إن آجرها النّاظر وأخذ الأجرة وسلّمها للمستحقّين ، فإنّ المالك يرجع على المستأجر لا على النّاظر ، ورجوع المستأجر على من أخذ دراهمه .
ج - أجر ما مضى للعاقد ، وما بعده للمستحقّ ، وهو قول المالكيّة ، وهو قول محمّد بن الحسن من الحنفيّة ، ويتصدّق العاقد عنده بنصيبه بعد ضمان النّقص . والمراد بما مضى عند المالكيّة ما قبل الحكم بالاستحقاق .
تلف العين المستحقّة المكتراة :
28 - لو تلفت العين المؤجّرة أو نقصت ثمّ ظهر أنّها مستحقّةٌ فللمستحقّ تضمين المستأجر أو المؤجّر ، والقرار على المؤجّر ، هذا عند الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة . والرّجوع يكون بأعلى قيمةٍ من يوم الغصب إلى يوم التّلف عند الشّافعيّة ، والحنابلة ؛ لأنّها مغصوبةٌ في الحال الّتي زادت فيها قيمتها ، فالزّيادة لمالكها مضمونةٌ على الغاصب . وقال المالكيّة : يرجع المستحقّ على المكتري إن كان متعدّياً ، ولا يرجع عليه إذا لم يتعدّ وفعل ما يجوز له ، فلو اكترى داراً فهدمها ، ثمّ ظهر مستحقٌّ ، فله أخذ النّقص إن وجده وقيمة الهدم من الهادم ، أي قيمة ما أفسد الهدم من البناء .
استحقاق الأجرة :
29 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ الأجرة لو استحقّت فإمّا أن تكون مثليّةً أو عيناً قيميّةً ، فإن كانت الأجرة عيناً قيميّةً واستحقّت بطلت الإجارة ، وتجب قيمة المنفعة ( أجر المثل ) لا قيمة البدل ، وإن كانت الأجرة مثليّةً لم تبطل الإجارة ويجب المثل . فلو دفع عشرة دراهم أجرةً فاستحقّت ينبغي أن تجب عشرةٌ مثلها لا قيمة المنفعة . وقال المالكيّة : إن استحقّت الأجرة المعيّنة من يد المؤجّر ، كالدّابّة ونحوها ، فإن كان الاستحقاق قبل حرث الأرض المؤجّرة أو قبل زرعها ، فإنّ الإجارة تنفسخ من أصلها ، ويأخذ الأرض صاحبها ، وإن استحقّت بعد حرث الأرض أو زرعها فإنّ الإجارة بين المؤجّر والمستأجر لا تنفسخ ، وفي هذه الحالة إن أخذ المستحقّ ماله من المؤجّر ، ولم يجز الإجارة ، كان للمؤجّر على المستأجر أجرة المثل ، وتبقى الأرض له ، كما كانت أوّلاً . وإن لم يأخذ المستحقّ ماله من المؤجّر وأبقاه له وأجاز الإجارة ، فإن دفع للمستأجر أجرة حرثه كان الحقّ له في منفعة الأرض مدّة الإجارة ، وإن أبى المستحقّ دفع أجرة الحرث قيل للمستأجر : ادفع للمستحقّ أجرة الأرض ، ويكون لك منفعتها ، فإن دفع انتهى الأمر ، وإن لم يدفع قيل له : سلّم الأرض له مجّاناً مدّة الإجارة بلا مقابلٍ عن الحرث . أمّا إذا كانت الأجرة شيئاً غير معيّنٍ كالنّقود والمكيل والموزون واستحقّ ، فإنّ الإجارة لا تنفسخ ، سواءٌ أكان الاستحقاق قبل الحرث أم بعده ، وذلك لقيام عوضه مقامه .
استحقاق الأرض الّتي بها غراسٌ أو بناءٌ للمستأجر :
30 - لو استحقّت الأرض المؤجّرة وقد غرس فيها المستأجر ، فإنّ الفقهاء يختلفون في قلع الغراس ، وفي إبقائه وتملّكه ، ولهم في ذلك ثلاثة آراءٍ :
أحدها : للمستحقّ قلع الغراس دون مقابلٍ . وهو قول الحنفيّة فيما بعد انقضاء المدّة والشّافعيّة . قال الشّافعيّة : وليس للمالك تملّك الغراس بالقيمة أو الإبقاء له بالأجرة ؛ لتمكّن الغاصب من القلع . ويغرّم المستأجر المؤجّر قيمة الشّجر مقلوعاً عند الحنفيّة ، وعند الشّافعيّة يرجع المستأجر بالأرش على الغاصب لشروعه في العقد على ظنّ السّلامة . والثّاني : للمستحقّ تملّك الغراس بقيمته قائماً ، وهو قول المالكيّة إن فسخ المستحقّ قبل مضيّ المدّة ، وليس له قلع الغراس ولا دفع قيمته مقلوعاً ، لأنّ المكتري غرس بوجه شبهةٍ ، فإن أبى المستحقّ دفع قيمة الغراس قائماً قيل للمكتري : ادفع له قيمة الأرض ، فإن أبى كانا شريكين : المكتري بقيمة غرسه ، والمستحقّ بقيمة أرضه ، فإن أجاز بعد مضيّ المدّة يدفع قيمة الغراس مقلوعاً بعد طرح أجر القلع .
الثّالث : تملّك المستحقّ للغراس بما أنفقه المستأجر على الغراس ، وهو المنصوص عند الحنابلة ، والمتوجّه على قول القاضي ومن وافقه أنّ غرسه كغرس الغاصب ، ولهم قولٌ آخر ، وهو أنّ الغراس للمستأجر ، وعليه الأجرة لصاحب الأرض ، ويرجع على من آجره . والبناء كالغراس عند فقهاء المذاهب الأربعة .
استحقاق الهبة بعد التّلف :
31 - للعلماء عند استحقاق الهبة التّالفة اتّجاهان :
أ - تخيير المستحقّ بين الرّجوع على الواهب أو على الموهوب له ، أمّا على الواهب فلأنّه سبب إتلاف ماله ، وأمّا على الموهوب له فلأنّه هو المستهلك له ، وهو قول المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، غير أنّ المالكيّة جعلوا الرّجوع على الموهوب له عند تعذّر الرّجوع على الواهب ، ويكون للموهوب له من الغلّة قيمة عمله وعلاجه . فإن رجع على الواهب فلا شيء له على الموهوب له ، صرّح بذلك الشّافعيّة ، والحنابلة . وإن رجع على الموهوب له رجع هذا على الواهب عند الحنابلة ، ذكر ذلك صاحب كشّاف القناع قولاً واحداً ، وشهّره ابن رجبٍ لأنّه دخل على أنّه غير ضامنٍ لشيءٍ فهو مغرورٌ . والخلاف يجري كذلك في رجوع الموهوب له على الواهب عند الشّافعيّة ، وقيل : لا يرجع على الواهب ؛ لأنّ الواهب لم يأخذ منه عوضاً فيرجع بعوضه ، وإنّما هو رجلٌ غرّه من أمرٍ قد كان له ألاّ يقبله .
ب - الرّجوع على الموهوب له دون الواهب ، وهو قول الحنفيّة ؛ لأنّ الهبة عقد تبرّعٍ والواهب غير عاملٍ له ، فلا يستحقّ الموهوب له السّلامة ، ولا يثبت به الغرور ؛ ولأنّ الموهوب له يقبض لنفسه .
استحقاق الموصى به :
32 - تبطل الوصيّة باستحقاق الموصى به ، فإن استحقّ بعضه بقيت الوصيّة في الباقي ، لأنّها تبطل بخروج الموصى به عن ملك الموصي ، وبالاستحقاق تبيّن أنّه أوصى بمالٍ غير مملوكٍ له ، والوصيّة بما لا يملك باطلةٌ .
استحقاق الصّداق :
33 - يتّفق الفقهاء على أنّ النّكاح لا يبطل باستحقاق الصّداق ، لأنّه ليس شرطاً لصحّة النّكاح . لكنّهم يختلفون فيما يجب للزّوجة عند الاستحقاق ، ولهم في ذلك اتّجاهان :
الأوّل : الرّجوع بقيمة المتقوّم ومثل المثليّ وهو مذهب الحنفيّة ، والحنابلة ، وهو قولٌ للشّافعيّة ، والمالكيّة معهم في المثليّ مطلقاً ، وفي المتقوّم إن كان معيّناً ، فإن كان متقوّماً موصوفاً رجعت بالمثل .
والثّاني : الرّجوع بمهر المثل ، وهو قول الشّافعيّة .
استحقاق العوض في الخلع :
34 - اتّفق فقهاء المذاهب المشهورة على أنّ الخلع لا يبطل بخروج العوض مستحقّاً ، واختلفوا فيما يجب للزّوج عند الاستحقاق ، ولهم في ذلك اتّجاهان :
أحدهما : الرّجوع بالقيمة أو بالمثل ، وهو مذهب الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة ؛ لتعذّر تسليم العوض مع بقاء السّبب الموجب تسليمه ، وهو الخلع إذ هو لا يقبل النّقض بعد تمامه . إلاّ أنّ الحنابلة قالوا بالقيمة إن كان العوض مقوّماً ، وبالمثل إن كان مثليّاً ، وقال المالكيّة بوجوب القيمة إن كان معيّناً ، فإن كان موصوفاً ففيه المثل .
والثّاني : بينونة المرأة بمهر المثل ، وهو قول الشّافعيّة ، لأنّه المراد عند فساد العوض .
استحقاق الأضحيّة :
35 - الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة على أنّ الأضحيّة المستحقّة لا تجزئ عن الذّابح ولا عن المستحقّ ، استثنى الحنفيّة من ذلك ما لو ضمّنه المالك قيمتها فإنّها تجزئ عن الذّابح . وفي لزوم البدل قال الحنفيّة ، يلزم كلاًّ منهما أن يضحّي عند عدم الإجزاء ، فإن فات وقت النّحر فعلى الذّابح أن يتصدّق بقيمة شاةٍ وسطٍ ، وقال الحنابلة يلزمه بدلها إن تعيّنت قبل الاستحقاق ، وكانت واجبةً قبل التّعيين ، كأن نذرها للأضحيّة ، فإن كان الاستحقاق قبل التّعيين فلا يلزمه بدلها لعدم صحّة التّعيين حينئذٍ . وقال المالكيّة : تتوقّف الأضحيّة المستحقّة على إجازة المستحقّ ، فإن أجاز البيع أجزأت قطعاً .
استحقاق بعض المقسوم :
36 - للفقهاء في بطلان القسمة وبقائها صحيحةً - عند استحقاق بعض المقسوم - اتّجاهاتٌ :
أ - أوّلها : بقاء القسمة صحيحةً إن كان المستحقّ بعضاً معيّناً وهو قول الحنفيّة ، سواءٌ عندهم في ذلك كون الجزء المستحقّ المعيّن في نصيب أحد الشّريكين أم في نصيب كلٍّ منهما ، فإن كان في نصيب أحدهما رجع على شريكه بحصّته من المستحقّ . والشّافعيّة والحنابلة يرون بقاءها صحيحةً إن كان الاستحقاق في نصيب الشّريكين على السّواء .
ب - بطلان القسمة وهو قول الحنفيّة إن كان الاستحقاق شائعاً في الكلّ ، أو شائعاً في أحد الأنصبة عند أبي يوسف . والبطلان أيضاً قول الشّافعيّة ، والحنابلة إن كان المستحقّ بعضاً شائعاً ؛ لأنّ المستحقّ شريكٌ لهما وقد اقتسما من غير حضوره ولا إذنه ، فأشبه ما لو كان لهما شريكٌ يعلّمانه فاقتسما دونه ، ومثل الشّائع عند الشّافعيّة والحنابلة أيضاً المعيّن المستحقّ في نصيب أحدهما فقط أو في نصيب أحدهما أكثر من الآخر ؛ لأنّها قسمةٌ لم تعدل فيها السّهام فكانت باطلةً .
ج - بطلان القسمة في القدر المستحقّ إن كان شائعاً وثبوت الخيار في الباقي بين إنفاذه القسمة أو إلغائها . وهو أظهر الطّريقين عند الشّافعيّة .
د - التّخيير بين التّمسّك بالباقي وعدم الرّجوع بشيءٍ ، وبين رجوعه فيما بيد شريكه بنصف قدر المستحقّ إن كان قائماً ، وإلاّ فبنصف قيمته يوم قبضه ، وهو قول المالكيّة إن استحقّ النّصف أو الثّلث ، فإن كان المستحقّ الرّبع فلا خيار له والقسمة باقيةٌ لا تنقض ، وليس له الرّجوع إلاّ بنصف قيمة ما استحقّ .
هـ - التّخيير بين إبقاء القسمة على حالها فلا يرجع بشيءٍ وبين فسخ القسمة ، وهو قول المالكيّة إن استحقّ الأكثر ، وهو ما زاد عن النّصف و - التّخيّر بين ردّ الباقي والاقتسام ثانياً ، وبين الإبقاء على القسمة والرّجوع على الشّريك بقدر ما استحقّ ، وهو قول أبي حنيفة إن استحقّ جزءٌ شائعٌ من نصيب أحدهما وحده ، وتنتقض القسمة عند أبي يوسف كما تقدّم .


*استحلالٌ
التّعريف
1 - هو مصدر استحلّ الشّيء : بمعنى اتّخذه حلالاً ، أو سأل غيره أن يحلّه له وتحلّلته واستحللته : إذا سألته أن يجعلك في حلٍّ من قبله . ويستعمله الفقهاء بالمعنى اللّغويّ ، وبمعنى اعتقاد الحلّ .
الحكم الإجماليّ :
2 - الاستحلال بمعنى : اعتبار الشّيء حلالاً ،
فإن كان فيه تحليل ما حرّمه الشّارع فهو حرامٌ ، وقد يكفر به إذا كان التّحريم معلوماً من الدّين بالضّرورة . فمن استحلّ على جهة الاعتقاد محرّماً - علم تحريمه من الدّين بالضّرورة - دون عذرٍ يكفر وسبب التّكفير بهذا أنّ إنكار ما ثبت ضرورةً أنّه من دين محمّدٍ صلى الله عليه وسلم فيه تكذيبٌ له صلى الله عليه وسلم ، وقد ضرب الفقهاء أمثلةً لذلك باستحلال القتل والزّنى ، وشرب الخمر ، ، والسّحر . وقد يكون الاستحلال حراماً ، ويفسق به المستحلّ ، لكنّه لا يكفر ، كاستحلال البغاة أموال المسلمين ودماءهم . ووجه عدم التّكفير أنّهم متأوّلون . ويترتّب على الفسق بالاستحلال حينئذٍ عدم قبول قضاء قاضيهم عند عامّة الفقهاء ، إلاّ رأياً للمالكيّة يقضي بتعقّب أقضيتهم ، فما كان منها صواباً نفذ ، وما كان على خلاف كذلك ردّ . وردّ شهادتهم كنقض قضائهم كما صرّح بذلك كثيرٌ من الفقهاء . ولتفصيل هذه الأحكام ( ر : بغيٌ ) .
وأمّا الاستحلال بمعنى : اتّخاذ الشّيء حلالاً . كاستحلال الفروج بطريق النّكاح ، فقد يكون مكروهاً ، أو مباحاً ، أو مستحبّاً .
وأمّا الاستحلال بمعنى : طلب جعل الشّخص في حلٍّ فقد يكون واجباً ، كالاستحلال من الغيبة إن علم بها المغتاب ، وقد يكون مباحاً كاستحلال الغاصب من المغصوب بدلاً من ردّ المغصوب ، وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في أحكام الغيبة والغصب .
مواطن البحث :
3 - جاء لفظ الاستحلال في كثيرٍ من المواطن ، كالقتل ، وحدّ الزّنى ، وشرب الخمر ، والبغي ، والرّدّة ، والتّوبة ، والغيبة . ويرجع في كلّ محرّمٍ إلى موطنه لمعرفة حكم استحلاله .


*استحياءٌ
التّعريف
1 - الاستحياء يأتي في اللّغة بمعانٍ متعدّدةٍ منها :
أ - بمعنى الحياء ، وهو : الانزواء والانقباض ، وقيّد بعضهم هذا الانقباض ليكون استحياءً بأن يكون انقباضاً عن القبائح . وقد ورد الاستحياء بهذا المعنى في عددٍ من آيات القرآن الكريم ، منها قوله جلّ شأنه في سورة القصص : { فجاءته إحداهما تمشي على استحياءٍ قالت إنّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } وقوله عزّ وجلّ في سورة البقرة : { إنّ اللّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها } وقوله عزّ من قائلٍ في سورة الأحزاب { واللّه لا يستحيي من الحقّ } والاستحياء - بهذا المعنى - مرغّبٌ فيه في الجملة ، وتفصيله في مصطلح ( حياءٌ ) .
ب - بمعنى الإبقاء على الحياة ، فيقال : استحييت فلاناً إذا تركته حيّاً ولم أقتله ، ومن ذلك قوله تعالى في سورة القصص : { يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم } أي يبقيهم أحياءً . واستعمل الفقهاء كلمة استحياءٍ بهذين المعنيين ، فقالوا في البكر : تستأذن في النّكاح ، وإذنها صماتها ، لأنّها تستحيي من النّطق . وقالوا في الأسرى يقعون في يد المسلمين : إن شاء أمير المؤمنين استحياهم ، وإن شاء قتلهم . وكثيراً ما يعبّرون عن الاستحياء بلفظ الإبقاء على الحياة ، فيقولون في الصّغير يأبى الرّضاع من غير أمّه : تجبر أمّه على إرضاعه إبقاءً على حياته الاستحياء بمعنى إدامة الحياة .
الألفاظ ذات الصّلة
الإحياءٌ :
2 - كلمة « إحياءٌ » تستعمل في إيجاد الحياة فيما لا حياة فيه ، كقوله تعالى : { كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتاً فأحياكم } . أمّا كلمة « استحياءٍ » فإنّها تستعمل في إدامة الحياة الموجودة ، وعدم إعدامها ، كما تقدّم في الأمثلة السّابقة . فالفرق بينهما أنّ الإحياء مسبوقٌ بالعدم ، بخلاف الاستحياء .
صفته : الحكم التّكليفيّ :
3 - لا يمكن اطّراد الاستحياء على حكمٍ واحدٍ ، نظراً لاختلاف أحوال الاستحياء ، بل تتعاقبه أكثر الأحكام التّكليفيّة .
فأحياناً يكون الاستحياء واجباً ، كما هو الحال في استحياء من بذلنا له الأمان ( ر : أمانٌ ) ، واستحياء الصّغير بالإجبار على الرّضاعة ( ر : رضاعٌ ) ، واستحياء الإنسان العاجز عن الكسب ، والحيوان المحبوس بالإنفاق عليه ( ر : نفقةٌ ) ، واستحياء الذّراريّ والنّساء من السّبي ( ر : سبيٌ ) ، واستحياء الجنين في بطن أمّه ( ر : إجهاضٌ ) .
وأحياناً يكون الاستحياء مكروهاً ، كاستحياء الحيوان المؤذي بطبعه .
وأحياناً يكون الاستحياء محرّماً ، كاستحياء من وجب قتله في حدٍّ ( ر : حدٌّ ) ، واستحياء ما يستفيد منه جنود العدوّ قطعاً في حربهم لنا ، كالحيوانات الّتي عجزنا عن حملها إلى بلاد المسلمين ( ر : جهادٌ ) .
وأحياناً يكون الاستحياء مباحاً ، كتخيير الإمام في أسرى المشركين بين القتل أو المنّ أو الفداء أو الاسترقاق .
المستحيي :
إمّا أن يكون هو نفس المستحيا ( كاستحياء الإنسان نفسه ) أو غيره .
استحياء الإنسان نفسه :
4 - يجب على المرء أن يعمل على استحياء نفسه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، ويكون ذلك بأمرين :
أوّلهما : بدفع التّلف عنها بإزالة سببه ، كالجوع والعطش ، وإطفاء الحريق أو الهرب منه ، كما إذا احترقت سفينةٌ ولم يمكن إطفاؤها ، وغلب على الظّنّ أنّ ركابها لو ألقوا أنفسهم في الماء نجوا ، وجب عليهم ذلك .
وليس من هذا تناول الدّواء ؛ لأنّ المرض غير مفضٍ إلى الموت حتماً ؛ ولأنّ الشّفاء بتناول الدّواء غير مقطوعٍ به ، لكن التّداوي مطلوبٌ شرعاً ؛ لحديث « تداووا عباد اللّه » فإن لم يكن في دفع التّلف عن نفسه إتلافٌ للغير ، أو لعضوٍ من أعضائه ، أو كان فيه إتلافٌ لنفسٍ غير محترمةٍ وجب عليه استحياء نفسه ، كما هو الحال في طلب الزّاد ممّن هو معه وهو مستغنٍ عنه ، أو في دفع الصّائل على النّفس . وإن كان في إحياء نفسه إتلافٌ لنفسٍ محترمةٍ ، فإنّه لا يجوز له الإقدام على هذا الإتلاف إحياءً لنفسه ؛ لأنّ الضّرر لا يزال بضرر مثله .
ثانيهما : عدم الإقدام على إماتة نفسه بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ ، أمّا إماتة نفسه بشكلٍ مباشرٍ كما إذا بعج بطنه بحديدةٍ ، أو ألقى نفسه من شاهقٍ ليموت ، فمات ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من تردّى من جبلٍ فهو في نار جهنّم ، يتردّى خالداً مخلّداً فيها أبداً ، ومن تحسّى سمّاً فسمّه بيده ، يتحسّاه في نار جهنّم خالداً مخلّداً فيها أبداً ، ومن وجأ بطنه بحديدةٍ فحديدته في يده ، يجأ بها في بطنه في نار جهنّم خالداً مخلّداً فيها أبداً » وتفصيل ذلك في كتاب الجنايات من كتب الفقه ، أو كتاب الحظر والإباحة ، عند كلامهم على الانتحار ( ر : انتحارٌ ) .
وأمّا إماتة نفسه بشكلٍ غير مباشرٍ ، كما إذا اقتحم عدوّاً ، أو مجموعةً من اللّصوص ، وهو موقنٌ أنّه مقتولٌ لا محالة ، دون أن يقتل منهم أحداً ، أو يوقع فيهم نكايةً ، أو يؤثّر فيهم أثراً ينتفع به المسلمون ؛ لأنّ هذا إلقاءٌ للنّفس في التّهلكة ، واللّه تعالى يقول : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة } ، ومحلّ تفصيل ذلك كتاب الجهاد من كتب الفقه ( ر : جهادٌ ) .
5 - واستحياء نفسه مقدّمٌ على استحياء غيره ؛ لأنّ حرمة نفسه عليه فوق حرمة نفسٍ أخرى ، وبناءً على ذلك فإنّ من قتل نفسه كان إثمه أكثر ممّن قتل غيره ، ومن هنا قرّر الفقهاء أنّ المرء يكلّف بالإنفاق على نفسه أوّلاً ، ثمّ على غيره كما هو معروفٌ في النّفقات ( ر : نفقةٌ ) ، وكمن اضطرّ إلى طعام غيره استحياءً لنفسه ، وصاحب الطّعام مضطرٌّ لطعامه استحياءً لنفسه أيضاً ، فصاحب الطّعام أولى به من غيره .
استحياء الإنسان غيره :
6 - يشترط في المستحيي لغيره حتّى يجب عليه الاستحياء ما يلي :
1 - أن يكون المستحيي مكلّفاً عالماً بحاجة المستحيا إلى الاستحياء ؛ لأنّه لا يثبت الوجوب على غير المكلّف .
2 - أن يكون قادراً على الاستحياء ، فإن لم يكن قادراً عليه فإنّه لا يكلّف به ، لقوله تعالى : { لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها } ، قال في المغني : « كلّ من رأى إنساناً في مهلكةٍ فلم ينجّه منها مع قدرته على ذلك لم يلزمه ضمانه وقد أساء » وقال أبو الخطّاب : يضمنه لأنّه لم ينجّه من الهلاك مع قدرته عليه ، كما لو منعه من الطّعام والشّراب ، فالخلاف واقعٌ في الضّمان ، لا في الاستحياء ، وتفصيل ذلك في الجنايات ( ر : جنايةٌ ) . فإذا تحقّقت هذه الشّروط في مجموعةٍ من النّاس وجب الاستحياء على الأقرب منهم إلى المستحيا فالأقرب ، على حسب ترتيبهم في النّفقة ( ر : نفقةٌ ) . فإذا امتنع أحدهم عن الاستحياء انتقل الوجوب إلى من يليه ، إن كان الوقت لا يتّسع إلى إجباره على الاستحياء ، وكذا إن اختلّ فيه شرطٌ من الشّروط السّابقة ، إلى أن يصل الوجوب إلى من علم من النّاس .
المستحيا :
7 - يشترط في المستحيا حتّى يجب استحياؤه أن يكون ذا حياةٍ محترمةٍ - سواءٌ أكان إنساناً أم حيواناً - وتبدأ الحياة المحترمة بنفخ الرّوح في الجنين بلا خلافٍ . وفي ابتدائها قبل نفخ الرّوح خلافٌ . ( ر : إجهاضٌ ) . وتهدر هذه الحرمة للحياة ويسقط وجوب الاستحياء بما يلي :
أ - بإهدار اللّه تعالى لها أصلاً ، كما هو الحال في إهدار حرمة حياة الخنزير .
ب - أو بتصرّفه تصرّفاً اعتبره الشّارع موجباً لإهدار دمه ، كقتال المسلمين ( ر : بغيٌ ) ( وجهادٌ ) والقتل ( ر : جنايةٌ ) والرّدّة ( ر : ردّةٌ ) وزنى المحصن ( ر : إحصانٌ ) والسّحر عند البعض ( ربّ سحرٍ ) .
ج - أو بالضّرر ، بأصل خلقته ، كالحيوانات المؤذية بأصل خلقتها ، كالخمس الفواسق الّتي نصّ عليها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقوله : « خمسٌ من الدّوابّ ليس على المحرم في قتلهنّ جناحٌ : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور » وزاد أبو داود « السّبع العادي » ( المتعدّي ) ونحو ذلك .
د - أو بالضّرر وقوعاً إذا لم يمكن دفع ضرره إلاّ بقتله ، كالصّائل من الحيوان والإنسان .
الإجبار على الاستحياء :
9 - إذا تعيّن وجوب الاستحياء أجبر عليه عند توفّر الشّروط السّابقة وتعيّن لذلك ، كما إذا رفض الصّغير الرّضاع من ثديٍ غير ثدي أمّه ، فإنّها تجبر على إرضاعه استحياءً له . ( ر : رضاعٌ ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وجوب الاستحياء في الزّمن الّذي يتّسع له :
10 - يجب الاستحياء في الزّمن الّذي يمكن أن يتحقّق به الاستحياء ، وأوّله وقت الحاجة إلى الاستحياء ، وآخره هو الفراغ من الاستحياء ، فإنقاذ الغريق حدّد له الشّرع الزّمان ، فأوّله : ما يلي زمن السّقوط ، وآخره الفراغ من إنقاذه .


*استخارةٌ
التّعريف
1 - الاستخارة لغةً : طلب الخيرة في الشّيء . يقال : استخر اللّه يخر لك . وفي الحديث : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلّها » .
واصطلاحاً : طلب الاختيار . أي طلب صرف الهمّة لما هو المختار عند اللّه والأولى ، بالصّلاة ، أو الدّعاء الوارد في الاستخارة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الطّيرة :
2 - الطّيرة : ما يتشاءم به من الفأل الرّديء ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم « أنّه كان يحبّ الفأل ، ويكره الطّيرة » .
ب - الفأل :
3 - الفأل ما يستبشر به ، كأن يكون مريضاً فيسمع من يقول : يا سالمٌ ، أو يكون طالباً فيسمع من يقول : يا واجدٌ ، وفي الحديث : « كان صلى الله عليه وسلم يحبّ الفأل » .
ج - الرّؤيا :
4 - الرّؤيا بالضّمّ مهموزاً ، وقد يخفّف : ما رأيته في منامك .
د - الاستقسام :
5 - الاستقسام بالأزلام : هو ضربٌ بالقداح ليخرج له قدحٌ منها يأتمر بما كتب عليه ، وهو منهيٌّ عنه لقوله تعالى : { وأن تستقسموا بالأزلام } .
هـ - الاستفتاح :
6 - الاستفتاح : طلب النّصر وفي الحديث : « كان صلى الله عليه وسلم يستفتح ويستنصر بصعاليك المسلمين » وبعض النّاس قد يستفتح ويستطلع الغيب من المصحف أو الرّمل أو القرعة ، وهذا لا يجوز لحرمته . قال الطّرطوشي وأبو الحسن المغربيّ وابن العربيّ : هو من الأزلام ، لأنّه ليس لأحدٍ أن يتعرّض للغيب ويطلبه ؛ لأنّ اللّه قد رفعه بعد نبيّه صلى الله عليه وسلم إلاّ في الرّؤيا .
صفتها : حكمها التّكليفيّ :
7 - أجمع العلماء على أنّ الاستخارة سنّةٌ ، ودليل مشروعيّتها ما رواه البخاريّ عن جابرٍ رضي الله عنه قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلّها ، كالسّورة من القرآن : إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثمّ يقول » : إلخ ، وقال صلى الله عليه وسلم : « من سعادة ابن آدم استخارة اللّه عزّ وجلّ » .
حكمة مشروعيّتها :
8 - حكمة مشروعيّة الاستخارة ، هي التّسليم لأمر اللّه ، والخروج من الحول والطّول ، والالتجاء إليه سبحانه . للجمع بين خيري الدّنيا والآخرة . ويحتاج في هذا إلى قرع باب الملك ، ولا شيء أنجع لذلك من الصّلاة والدّعاء ؛ لما فيها من تعظيم اللّه ، والثّناء عليه ، والافتقار إليه قالاً وحالاً .
سببها : ما يجري فيه الاستخارة :
9 - اتّفقت المذاهب الأربعة على أنّ الاستخارة تكون في الأمور الّتي لا يدري العبد وجه الصّواب فيها ، أمّا ما هو معروفٌ خيره أو شرّه كالعبادات وصنائع المعروف والمعاصي والمنكرات فلا حاجة إلى الاستخارة فيها ، إلاّ إذا أراد بيان خصوص الوقت كالحجّ مثلاً في هذه السّنّة ؛ لاحتمال عدوٍّ أو فتنةٍ ، والرّفقة فيه ، أيرافق فلاناً أم لا ؟ وعلى هذا فالاستخارة لا محلّ لها في الواجب والحرام والمكروه ، وإنّما تكون في المندوبات والمباحات . والاستخارة في المندوب لا تكون في أصله ؛ لأنّه مطلوبٌ ، وإنّما تكون عند التّعارض ، أي إذا تعارض عنده أمران أيّهما يبدأ به أو يقتصر عليه ؟ أمّا المباح فيستخار في أصله . وهل يستخير في معيّنٍ أو مطلقٍ ؟ اختار بعضهم الأوّل ؛ لظاهر الحديث . لأنّ فيه « إن كنت تعلم أنّ هذا الأمر » إلخ ، واختار ابن عرفة الثّاني ، وقال الشّعرانيّ : وهو أحسن ، وقد جرّبناه فوجدناه صحيحاً .
متى يبدأ الاستخارة ؟
10 - ينبغي أن يكون المستخير خالي الذّهن ، غير عازمٍ على أمرٍ معيّنٍ ، فقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : « إذا همّ » يشير إلى أنّ الاستخارة تكون عند أوّل ما يرد على القلب ، فيظهر له ببركة الصّلاة والدّعاء ما هو الخير ، بخلاف ما إذا تمكّن الأمر عنده ، وقويت فيه عزيمته وإرادته ، فإنّه يصير إليه ميلٌ وحبٌّ ، فيخشى أن يخفى عنه الرّشاد ؛ لغلبة ميله إلى ما عزم عليه . ويحتمل أن يكون المراد بالهمّ العزيمة ؛ لأنّ الخاطر لا يثبت فلا يستمرّ إلاّ على ما يقصد التّصميم على فعله من غير ميلٍ . وإلاّ لو استخار في كلّ خاطرٍ لاستخار فيما لا يعبأ به ، فتضيع عليه أوقاته . ووقع في حديث أبي سعيدٍ « إذا أراد أحدكم أمراً فليقل ... » .
الاستشارة قبل الاستخارة :
11 - قال النّوويّ : يستحبّ أن يستشير قبل الاستخارة من يعلم من حاله النّصيحة والشّفقة والخبرة ، ويثق بدينه ومعرفته . قال تعالى : { وشاورهم في الأمر } وإذا استشار وظهر أنّه مصلحةٌ ، استخار اللّه تعالى في ذلك . قال ابن حجرٍ الهيثميّ : حتّى عند المعارض ( أي تقدّم الاستشارة ) لأنّ الطّمأنينة إلى قول المستشار أقوى منها إلى النّفس لغلبة حظوظها وفساد خواطرها . وأمّا لو كانت نفسه مطمئنّةً صادقةٌ إرادتها متخلّيةً عن حظوظها ، قدّم الاستخارة .
كيفيّة الاستخارة :
12 - ورد في الاستخارة حالاتٌ ثلاثٌ :
الأولى : وهي الأوفق ، واتّفقت عليها المذاهب الأربعة ، تكون بركعتين من غير الفريضة بنيّة الاستخارة ، ثمّ يكون الدّعاء المأثور بعدها .
الثّانية : قال بها المذاهب الثّلاثة : الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة ، تجوز بالدّعاء فقط من غير صلاةٍ ، إذا تعذّرت الاستخارة بالصّلاة والدّعاء معاً .
الثّالثة : ولم يصرّح بها غير المالكيّة ، والشّافعيّة ، فقالوا : تجوز بالدّعاء عقب أيّ صلاةٍ كانت مع نيّتها ، وهو أولى ، أو بغير نيّتها كما في تحيّة المسجد . ولم يذكر ابن قدامة إلاّ الحالة الأولى ، وهي الاستخارة بالصّلاة والدّعاء . وإذا صلّى الفريضة أو النّافلة ، ناوياً بها الاستخارة ، حصل له بها فضل سنّة صلاة الاستخارة ، ولكن يشترط النّيّة ؛ ليحصل الثّواب قياساً على تحيّة المسجد ، وعضّد هذا الرّأي ابن حجرٍ الهيثميّ ، وقد خالف بعض المتأخّرين في ذلك ونفوا حصول الثّواب واللّه أعلم .
وقت الاستخارة :
13 - أجاز القائلون بحصول الاستخارة بالدّعاء فقط وقوع ذلك في أيّ وقتٍ من الأوقات ؛ لأنّ الدّعاء غير منهيٍّ عنه في جميع الأوقات . أمّا إذا كانت الاستخارة بالصّلاة والدّعاء فالمذاهب الأربعة تمنعها في أوقات الكراهة . نصّ المالكيّة والشّافعيّة صراحةً على المنع غير أنّ الشّافعيّة أباحوها في الحرم المكّيّ في أوقات الكراهة ، قياساً على ركعتي الطّواف . لما روي عن جبير بن مطعمٍ : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : يا بني عبد منافٍ لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلّى في أيّ ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ » . وأمّا الحنفيّة والحنابلة فلعموم المنع عندهم . فهم يمنعون صلاة النّفل في أوقات الكراهة ، لعموم أحاديث النّهي ، ومنها : روى ابن عبّاسٍ قال : « شهد عندي رجالٌ مرضيّون ، وأرضاهم عندي عمر رضي الله عنه ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الصّلاة بعد الصّبح حتّى تشرق الشّمس ، وبعد العصر حتّى تغرب » . وعن « عمرو بن عبسة قال : قلت يا رسول اللّه : أخبرني عن الصّلاة . قال : صلّ صلاة الصّبح ، ثمّ اقصر عن الصّلاة حين تطلع الشّمس حتّى ترتفع ، فإنّها تطلع بين قرني الشّيطان ، وحينئذٍ يسجد لها الكفّار ، ثمّ صلّ فإنّ الصّلاة محضورةٌ مشهودةٌ حتّى يستقلّ الظّلّ بالرّمح ، ثمّ اقصر عن الصّلاة فإنّه حينئذٍ تسجر جهنّم ، فإذا أقبل الفيء فصلّ ، فإنّ الصّلاة مشهودةٌ محضورةٌ حتّى تصلّي العصر ، ثمّ اقصر عن الصّلاة حتّى تغرب الشّمس ، فإنّها تغرب بين قرني الشّيطان ، وحينئذٍ يسجد لها الكفّار »
كيفيّة صلاة الاستخارة :
14 - اتّفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنّ الأفضل في صلاة الاستخارة أن تكون ركعتين . ولم يصرّح الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة ، بأكثر من هذا ، أمّا الشّافعيّة فأجازوا أكثر من الرّكعتين ، واعتبروا التّقييد بالرّكعتين لبيان أقلّ ما يحصل به .
القراءة في صلاة الاستخارة :
15 - فيما يقرأ في صلاة الاستخارة ثلاثة آراءٍ :
أ - قال الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة : يستحبّ أن يقرأ في الرّكعة الأولى بعد الفاتحة { قل يا أيّها الكافرون } ، وفي الثّانية { قل هو اللّه أحدٌ } . وذكر النّوويّ تعليلاً لذلك فقال : ناسب الإتيان بهما في صلاةٍ يراد منها إخلاص الرّغبة وصدق التّفويض وإظهار العجز ، وأجازوا أن يزاد عليهما ما وقع فيه ذكر الخيرة من القرآن الكريم .
ب - واستحسن بعض السّلف أن يزيد في صلاة الاستخارة على القراءة بعد الفاتحة بقوله تعالى : { وربّك يخلق ما يشاء ويختار . ما كان لهم الخيرة سبحان اللّه وتعالى عمّا يشركون . وربّك يعلم ما تكنّ صدورهم وما يعلنون . وهو اللّه لا إله إلاّ هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون } . في الرّكعة الأولى ، وفي الرّكعة الثّانية قوله تعالى : { وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً }
ج - أمّا الحنابلة وبعض الفقهاء فلم يقولوا بقراءةٍ معيّنةٍ في صلاة الاستخارة .
دعاء الاستخارة :
16 - روى البخاريّ ومسلمٌ عن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلّها ، كالسّورة من القرآن إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثمّ ليقل : اللّهمّ إنّي أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنّك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علاّم الغيوب . اللّهمّ إن كنت تعلم أنّ هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسّره لي ، ثمّ بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أنّ هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال عاجل أمري وآجله - فاصرفه عنّي واصرفني عنه . واقدر لي الخير حيث كان ، ثمّ رضّني به . قال : ويسمّي حاجته » . قال الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة : يستحبّ افتتاح الدّعاء المذكور وختمه بالحمد للّه والصّلاة والتّسليم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
استقبال القبلة في الدّعاء :
17 - يستقبل القبلة في دعاء الاستخارة رافعاً يديه مراعياً جميع آداب الدّعاء .
موطن دعاء الاستخارة :
18 - قال الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة : يكون الدّعاء عقب الصّلاة ، وهو الموافق لما جاء في نصّ الحديث الشّريف عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وزاد الشّوبريّ وابن حجرٍ من الشّافعيّة ، والعدويّ من المالكيّة جوازه في أثناء الصّلاة في السّجود ، أو بعد التّشهّد .
ما يطلب من المستخير بعد الاستخارة :
19 - يطلب من المستخير ألاّ يتعجّل الإجابة ؛ لأنّ ذلك مكروهٌ ، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « يستجاب لأحدكم ما لم يعجل . يقول : دعوت فلم يستجب لي » . كما يطلب منه الرّضا بما يختاره اللّه له .
تكرار الاستخارة :
20 - قال الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة : ينبغي أن يكرّر المستخير الاستخارة بالصّلاة والدّعاء سبع مرّاتٍ ؛ لما روى ابن السّنّيّ عن أنسٍ . قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : يا أنس إذا هممت بأمرٍ فاستخر ربّك فيه سبع مرّاتٍ ، ثمّ انظر إلى الّذي يسبق إلى قلبك فإنّ الخير فيه » . ويؤخذ من أقوال الفقهاء أنّ تكرار الاستخارة يكون عند عدم ظهور شيءٍ للمستخير ، فإذا ظهر له ما ينشرح به صدره لم يكن هناك ما يدعو إلى التّكرار . وصرّح الشّافعيّة بأنّه إذا لم يظهر له شيءٌ بعد السّابعة استخار أكثر من ذلك . أمّا الحنابلة فلم نجد لهم رأياً في تكرار الاستخارة في كتبهم الّتي تحت أيدينا رغم كثرتها .
النّيابة في الاستخارة :
21 - الاستخارة للغير قال بجوازها المالكيّة ، والشّافعيّة أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم « من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه » . وجعله الحطّاب من المالكيّة محلّ نظرٍ . فقال : هل ورد أنّ الإنسان يستخير لغيره ؟ لم أقف في ذلك على شيءٍ ، ورأيت بعض المشايخ يفعله . ولم يتعرّض لذلك الحنابلة ، والحنفيّة .
أثر الاستخارة :
أ - علامات القبول :
22 - اتّفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنّ علامات القبول في الاستخارة انشراح الصّدر ، لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدّم في ( فقرة 20 ) : « ثمّ انظر إلى الّذي سبق إلى قلبك فإنّ الخير فيه » أي فيمضي إلى ما انشرح به صدره ، وشرح الصّدر : عبارةٌ عن ميل الإنسان وحبّه للشّيء من غير هوًى للنّفس ، أو ميلٍ مصحوبٍ بغرضٍ ، على ما قرّره العدويّ . قال الزّملكانيّ من الشّافعيّة : لا يشترط شرح الصّدر . فإذا استخار الإنسان ربّه في شيءٍ فليفعل ما بدا له ، سواءٌ انشرح له صدره أم لا ، فإنّ فيه الخير ، وليس في الحديث انشراح الصّدر .
ب - علامات عدم القبول :
23 - وأمّا علامات عدم القبول فهو : أن يصرف الإنسان عن الشّيء ، لنصّ الحديث ، ولم يخالف في هذا أحدٌ من العلماء ، وعلامات الصّرف : ألاّ يبقى قلبه بعد صرف الأمر عنه معلّقاً به ، وهذا هو الّذي نصّ عليه الحديث : « فاصرفه عنّي واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثمّ رضّني به » .


*استخدامٌ
التّعريف
1 - الاستخدام لغةً : سؤال الخدمة ، أو اتّخاذ الخادم . ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ عن هذين المعنيين .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستعانة :
2 - الاستعانة لغةً واصطلاحاً : طلب الإعانة . فيتّفق الاستخدام مع الاستعانة في أنّ كلاًّ منهما فيه نوع معاونةٍ ، غير أنّ الاستخدام يكون من العبد وله ، وتكون الاستعانة باللّه تعالى ، وقد تكون بالعبد .
ب - الاستئجار :
3 - الاستئجار لغةً واصطلاحاً : طلب إجارة العين أو الشّخص . فبين الاستئجار والاستخدام عمومٌ وخصوصٌ من وجهٍ ، فالاستئجار للزّراعة ، ورعي الأغنام لا يسمّى خدمةً ، وكذلك لا يقال للمستأجر لتعليم القرآن خادمٌ ، وينفرد الاستخدام إن كان بغير أجرةٍ .
الحكم الإجماليّ :
4 - يختلف حكم الاستخدام باختلاف الخادم والمخدوم ، والغرض الدّاعي إلى الاستخدام ، ممّا يجعل الأحكام الخمسة تعتريه . فالوالي يباح أن يخصّص له خادمٌ - كجزءٍ من عمالته الّتي هي أجرة مثله - ما لم يكن ذلك ترفّهاً » . ويكون خلاف الأولى إن استعان بمن يصبّ عليه ماء الوضوء دون عذرٍ . فإن استعان بدون عذرٍ في غسل أعضاء الوضوء كره ويكون واجباً ، كالعاجز عن الوضوء يستخدم من يعينه على تلك العبادة . ويكون مندوباً كخدمة أهل المجاهد وخدمة المسجد . ويكون حراماً ، كاستئجار الكافر للمسلم ، والابن أباه عند من يقول بذلك على ما سيأتي ، ويجب على الحاكم منع الاستخدام المحرّم . وفي استخدام المسلم للكافر وعكسه ، واستخدام الذّكر للأنثى وعكسه تجري القاعدة في أمن الفتنة وعدمه ، وفي الامتهان والإذلال وعدمه ، وتفصيل ذلك في مصطلح إجارةٌ ( ف / 102 )
5 - ويمتنع استخدام الابن أباه سواءٌ أكان على سبيل الاستعارة أم على سبيل الاستئجار ؛ صيانةً له عن الإذلال .
6 - والاستخدام حقٌّ للزّوجة ، ويجب على الزّوج للزّوجة إخدامها إن كان موسراً ، وكانت شريفةً يخدم مثلها ، ولا يحلّ للزّوجة استخدام زوجها إذا كان للإهانة والإذلال .


*استخفافٌ
التّعريف
1 - من معاني الاستخفاف لغةً : الاستهانة . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك . وقد يعبّر الفقهاء عن الاستخفاف بالاحتقار ، والازدراء ، والانتقاص .
حكمه التّكليفيّ :
2 - ليس للاستخفاف حكمٌ عامٌّ جامعٌ ، وإنّما يختلف حكمه باختلاف ما يتعلّق به . فقد يكون محظوراً ، وقد يكون مطلوباً .
فمن المطلوب : الاستخفاف بالكافر لكفره ، والمبتدع لبدعته ، والفاسق لفسقه . وكذلك الاستخفاف بالأديان الباطلة والملل المنحرفة ، وعدم احترامها ، واعتقاد ذلك بين المسلمين أفراداً وجماعاتٍ إذا علم تحريفها ، وهذا من الدّين ؛ لأنّه استخفافٌ بكفرٍ أو بباطلٍ . وأمّا المحظور : فهو ما سيأتي .
ما يكون به الاستخفاف :
يكون الاستخفاف بالأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات .
أ - الاستخفاف باللّه تعالى :
3 - قد يكون بالقول ، مثل الكلام الّذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف في مفهوم النّاس على اختلاف اعتقاداتهم ، كاللّعن والتّقبيح ، سواءٌ أكان هذا الاستخفاف القوليّ باسمٍ من أسمائه أم صفةٍ من صفاته تعالى ، منتهكاً لحرمته انتهاكاً يعلم هو نفسه أنّه منتهكٌ مستخفٌّ مستهزئٌ . مثل وصف اللّه بما لا يليق ، أو الاستخفاف بأمرٍ من أوامره ، أو وعدٍ من وعيده ، أو قدره . وقد يكون بالأفعال ، وذلك بكلّ عملٍ يتضمّن الاستهانة ، أو الانتقاص ، أو تشبيه الذّات المقدّسة بالمخلوقات ، مثل رسم صورةٍ للحقّ سبحانه ، أو تصويره في مجسّمٍ كتمثالٍ وغيره . وقد يكون بالاعتقاد ، مثل اعتقاد حاجة اللّه تعالى إلى الشّريك حكم الاستخفاف باللّه تعالى :
4 - أجمع الفقهاء على أنّ الاستخفاف باللّه تعالى بالقول ، أو الفعل ، أو الاعتقاد حرامٌ ، فاعله مرتدٌّ عن الإسلام تجري عليه أحكام المرتدّين ، سواءٌ أكان مازحاً أم جادّاً . قال تعالى : { ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض ونلعب قل أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } .
الاستخفاف بالأنبياء :
5 - الاستخفاف بالأنبياء وانتقاصهم والاستهانة بهم ، كسبّهم ، أو تسميتهم بأسماءٍ شائنةٍ ، أو وصفهم بصفاتٍ مهينةٍ ، مثل وصف النّبيّ بأنّه ساحرٌ ، أو خادعٌ ، أو محتالٌ ، وأنّه يضرّ من اتّبعه ، وأنّ ما جاء به زورٌ وباطلٌ ونحو ذلك . فإنّ نظم ذلك شعراً كان أبلغ في الشّتم ؛ لأنّ الشّعر يحفظ ويروى ، ويؤثّر في النّفوس كثيراً – مع العلم ببطلانه – أكثر من تأثير البراهين ، وكذلك إذا استعمل في الغناء أو الإنشاد .
حكم الاستخفاف بالأنبياء :
6 - اتّفق العلماء على أنّ الاستخفاف بالأنبياء حرامٌ ، وأنّ المستخفّ بهم مرتدٌّ ، وهذا فيمن ثبتت نبوّته بدليلٍ قطعيٍّ ، لقوله تعالى : { ومنهم الّذين يؤذون النّبيّ } ، وقوله تعالى : { إنّ الّذين يؤذون اللّه ورسوله لعنهم اللّه في الدّنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهيناً } . وقوله تعالى : { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } . وسواءٌ أكان المستخفّ هازلاً أم كان جادّاً ، لقوله تعالى ، { قل أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون . لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } . إلاّ أنّ العلماء اختلفوا في استتابته قبل القتل ، فالرّاجح عند الحنفيّة ، وقولٌ للمالكيّة ، والصّحيح عند الحنابلة ، أنّ المستخفّ بالرّسول والأنبياء لا يستتاب بل يقتل ، ولا تقبل توبته في الدّنيا ؛ لقوله تعالى : { إنّ الّذين يؤذون اللّه ورسوله لعنهم اللّه في الدّنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهيناً } . وقال المالكيّة ، وهو الرّاجح عندهم ، والشّافعيّة ، وهو رأيٌ للحنفيّة ، والحنابلة : يستتاب مثل المرتدّ ، وتقبل توبته إن تاب ورجع ، لقوله تعالى : { قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } ولخبر : « فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم » .
7 - وفرّق بعض الفقهاء بين الاستخفاف بالسّلف ، وبين الاستخفاف بغيرهم ، وأرادوا بالسّلف الصّحابة والتّابعين . فقال الحنفيّة والشّافعيّة في سابّ الصّحابة وسابّ السّلف : إنّه يفسّق ويضلّل ، والمعتمد عند المالكيّة أنّه يؤدّب . ولكن من سبّ السّيّدة عائشة - بالإفك الّذي برّأها اللّه منه - أو أنكر صحبة أبي بكرٍ الّتي ثبتت بنصّ القرآن يكفر ؛ لإنكاره تلك النّصوص الدّالّة على براءتها وصحبة أبيها ، ولما روي عن ابن عبّاسٍ أنّه قال في قوله تعالى : { إنّ الّذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدّنيا والآخرة ولهم عذابٌ عظيمٌ } قال : هذا في شأن عائشة وأزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّةً ، وليس فيها توبةٌ . وأمّا الاستخفاف بغيرهم من المسلمين ، ولو كان مستور الحال ، فقد قال فقهاء المذاهب الأربعة : إنّه ذنبٌ يوجب العقاب والزّجر على ما يراه السّلطان ، مع مراعاة قدر القائل وسفاهته ، وقدر المقول فيه ؛ لأنّ الاستخفاف والسّخرية من المسلم منهيٌّ عنه ، لقوله تعالى : { لا يسخر قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكنّ خيراً منهنّ ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب . بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } .
حكم الاستخفاف بالملائكة :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ من استخفّ بملكٍ ، بأن وصفه بما لا يليق به ، أو سبّه ، أو عرّض به كفر وقتل . وهذا كلّه فيما تحقّق كونه من الملائكة بدليلٍ قطعيٍّ كجبريل ، وملك الموت ، ومالكٍ خازن النّار .
حكم الاستخفاف بالكتب والصّحف السّماويّة :
9 - اتّفق الفقهاء على أنّه من استخفّ بالقرآن ، أو بالمصحف ، أو بشيءٍ منه ، أو جحد حرفاً منه ، أو كذب بشيءٍ ممّا صرّح به من حكمٍ أو خبرٍ ، أو شكّ في شيءٍ من ذلك ، أو حاول إهانته بفعلٍ معيّنٍ ، مثل إلقائه في القاذورات كفر بهذا الفعل . وقد أجمع المسلمون على أنّ القرآن هو المتلوّ في جميع الأمصار ، المكتوب في المصحف الّذي بأيدينا ، وهو ما جمعته الدّفّتان من أوّل { الحمد للّه ربّ العالمين } إلى آخر { قل أعوذ بربّ النّاس } . وكذلك من استخفّ بالتّوراة والإنجيل ، أو كتب اللّه المنزّلة ، أو كفر بها ، أو سبّها فهو كافرٌ . والمراد بالتّوراة والإنجيل وكتب الأنبياء ما أنزله اللّه تعالى ، لا ما في أيدي أهل الكتاب بأعيانها ؛ لأنّ عقيدة المسلمين المأخوذة من النّصوص فيها : أنّ بعض ما في تلك الكتب باطلٌ قطعاً ، وبعضٌ منه صحيح المعنى وإن حرّفوا لفظه . وكذلك من استخفّ بالأحاديث النّبويّة الّتي ظهر له ثبوتها .
الاستخفاف بالأحكام الشّرعيّة :
10 - اتّفق الفقهاء على كفر من استخفّ بالأحكام الشّرعيّة من حيث كونها أحكاماً شرعيّةً ، مثل الاستخفاف بالصّلاة ، أو الزّكاة ، أو الحجّ ، أو الصّيام ، أو الاستخفاف بحدود اللّه كحدّ السّرقة والزّنى .
الاستخفاف بالأزمنة والأمكنة الفاضلة وغيرها :
11 - منع العلماء سبّ الدّهر والزّمان والاستخفاف بهما ، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « لا تقولوا خيبة الدّهر ، فإنّ اللّه هو الدّهر » وحديث « يؤذيني ابن آدم يسبّ الدّهر وأنا الدّهر ، بيدي اللّيل والنّهار » . وكذلك الأزمنة والأمكنة الفاضلة والاستخفاف بها ، فإنّه يأخذ الحكم السّابق من المنع والحرمة . أمّا إذا قصد من ذلك الاستخفاف بالشّريعة ، كأن يستخفّ بشهر رمضان ، أو بيوم عرفة ، أو بالحرم والكعبة ، فإنّه يأخذ حكم الاستخفاف بالشّريعة أو بحكمٍ من أحكامها ، وقد مرّ حكم ذلك .


*استخلافٌ
التّعريف
1 - الاستخلاف لغةً : مصدر استخلف فلانٌ فلاناً إذا جعله خليفةً ، ويقال : خلف فلانٌ فلاناً على أهله وماله صار خليفته ، وخلفته جئت بعده ، فخليفةٌ يكون بمعنى فاعلٍ ، وبمعنى مفعولٍ . وفي الاصطلاح : استنابة الإنسان غيره لإتمام عمله ، ومنه استخلاف الإمام غيره من المأمومين لتكميل الصّلاة بهم لعذرٍ قام به ، ومنه أيضاً إقامة إمام المسلمين من يخلفه في الإمامة بعد موته ، ومنه الاستخلاف في القضاء على ما سيأتي . وسيقتصر البحث هنا على الاستخلاف في الصّلاة والقضاء ، وأمّا الاستخلاف في الإمامة العظمى فموضع بيانه مصطلح ( خلافةٌ ) ومصطلح ( ولاية العهد ) .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّوكيل :
2 - التّوكيل في اللّغة : التّفويض ونحوه الإنابة أو الاستنابة أو النّيابة . وفي الاصطلاح : إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في تصرّفٍ جائزٍ معلومٍ ممّن يملكه . ويتبيّن من هذا أنّ الاستخلاف والتّوكيل لفظان متقاربان ، إلاّ أنّ مجال الاستخلاف أوسع ، إذ هو في بعض إطلاقاته يظهر أثره بعد وفاة المستخلف ، ويشمل الصّلاة وغيرها . في حين أنّ التّوكيل يقتصر أثره على حياة الموكّل .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
صفة الاستخلاف : حكمه التّكليفيّ :
3 - يختلف حكم الاستخلاف باختلاف الأمر المستخلف فيه ، والشّخص المستخلف . فقد يكون واجباً على المستخلف والمستخلف ، كما إذا تعيّن شخصٌ للقضاء ، بأن لم يوجد من يصلح ليكون قاضياً غيره ، فحينئذٍ يجب على من بيده الاستخلاف أن يستخلفه ، ويجب على المستخلف أن يجيبه . وقد يكون حراماً كاستخلاف من لا يصلح للقضاء لجهله ، أو لطلبه القضاء بالرّشوة . وقد يكون مندوباً في مثل ما ذهب إليه المالكيّة من استخلاف الإمام غيره في الصّلاة إذا سبقه حدثٌ ليتمّ الصّلاة بالنّاس ، فهو مندوبٌ عندهم على الإمام ، وواجبٌ على المأمومين إن لم يستخلف في الجمعة ، ومندوبٌ في غيرها . وقد يكون الاستخلاف جائزاً ، كاستخلاف إمام المسلمين عليهم من يخلفه بعد وفاته ، إذ يجوز له أن يترك لهم الاختيار بعده .
أوّلاً : الاستخلاف في الصّلاة :
4 - مذهب الحنفيّة ، والأظهر عند الشّافعيّة ، وهو المذهب القديم للشّافعيّ ، وإحدى روايتين للإمام أحمد : أنّ الاستخلاف جائزٌ في الصّلاة . وغير الأظهر عند الشّافعيّة ، وروايةٌ أخرى عن الإمام أحمد : أنّه غير جائزٍ . وقال أبو بكرٍ من الحنابلة : إذا سبق الإمام في الصّلاة حدثٌ بطلت صلاته وصلاة المأمومين روايةٌ واحدةٌ . ومذهب المالكيّة أنّ استخلاف الإمام لغيره مندوبٌ في الجمعة وغيرها ، وواجبٌ على المأمومين ، في الجمعة إن لم يستخلف الإمام . لأنّه ليس لهم أن يصلّوا الجمعة أفذاذاً ، بخلاف غيرها . وذهب الحنفيّة إلى أنّه لو أحدث الإمام وكان الماء في المسجد فإنّه يتوضّأ ويبني ، ولا حاجة إلى الاستخلاف ، وإن لم يكن في المسجد ماءٌ ، فالأفضل الاستخلاف . وظاهر المتون أنّ الاستخلاف أفضل في حقّ الكلّ استدلّ المجوّزون بأنّ عمر لمّا طعن - وهو في الصّلاة - أخذ بيد عبد الرّحمن بن عوفٍ فقدّمه ، فأتمّ بالمأمومين الصّلاة ، وكان ذلك بمحضرٍ من الصّحابة وغيرهم ، ولم ينكر ، فكان إجماعاً . واستدلّ المانعون بأنّ صلاة الإمام قد بطلت ؛ لأنّه فقد شرط صحّة الصّلاة ، فتبطل صلاة المأمومين كما لو تعمّد الحدث .
كيفيّة الاستخلاف :
5 - قال صاحب الدّرّ المختار من الحنفيّة : يأخذ الإمام بثوب رجلٍ إلى المحراب ، أو يشير إليه ، ويفعله محدودب الظّهر ، آخذاً بأنفه ، يوهم أنّه رعف ، ويشير بأصبعٍ لبقاء ركعةٍ ، وبأصبعين لبقاء ركعتين ، ويضع يده على ركبته لترك ركوعٍ ، وعلى جبهته لترك سجودٍ ، وعلى فمه لترك قراءةٍ ، وعلى جبهته ولسانه لسجود تلاوةٍ ، وصدره لسجود سهوٍ . ولم يذكر هذا غير الحنفيّة ، إلاّ أنّ المالكيّة ذكروا أنّه يندب للإمام إذا خرج أن يمسك بيده على أنفه ستراً على نفسه . وإذا حصل للإمام سبب الاستخلاف في ركوعٍ أو سجودٍ فإنّه يستخلف ، كما يستخلف في القيام وغيره ، ويرفع بهم من السّجود الخليفة بالتّكبير ، ويرفع الإمام رأسه بلا تكبيرٍ ؛ لئلاّ يقتدوا به ، ولا تبطل صلاة المأمومين إن رفعوا رءوسهم برفعه ، وقيل تبطل صلاتهم .
أسباب الاستخلاف :
6 - جمهور الفقهاء يجوّزون الاستخلاف لعذرٍ لا تبطل به صلاة المأمومين ، والعذر إمّا خارجٌ عن الصّلاة أو متعلّقٌ بها ، والمتعلّق بها إمّا مانعٌ من الإمامة دون الصّلاة ، وإمّا مانعٌ من الصّلاة . والقائلون بجواز الاستخلاف اتّفقوا على أنّ الإمام إذا سبقه الحدث في الصّلاة من بولٍ ، أو ريحٍ أو غيرهما ، انصرف واستخلف ، وفي كلّ مذهبٍ أسبابٌ وشروطٌ .
7 - فعند الحنفيّة أنّ لجواز البناء شروطاً ، وأنّ الأسباب المجوّزة للاستخلاف هي المجوّزة للبناء . والشّروط هي :
( أ ) أن يكون سبب الاستخلاف حدثاً ، فلو كانت نجاسةً لم يجز الاستخلاف ، حتّى لو كانت من بدنه ، خلافاً لأبي يوسف الّذي أجاز الاستخلاف إن كانت النّجاسة خارجةً من بدنه .
( ب ) كون الحدث سماويّاً ، وفسّروا السّماويّ بأنّه : ما ليس للعبد - ولو غير المصلّي - اختيارٌ فيه ، ولا في سببه ، فلو أحدث عمداً لا يجوز له الاستخلاف ، وكذلك الحكم لو أصابته شجّةٌ أو عضّةٌ ، أو سقط عليه حجرٌ من رجلٍ مثلاً عند أبي حنيفة ومحمّدٍ ، لأنّه حدثٌ حصل بصنع العباد . وعند أبي يوسف يجوز الاستخلاف ؛ لأنّه لا صنع فيه فصار كالسّماويّ .
( ج ) أن يكون الحدث من بدنه ، فلو أصابته نجاسةٌ من خارجٍ ، أو كان من جنونٍ فلا استخلاف .
( د ) أن يكون الحدث غير موجبٍ للغسل .
( هـ ) ألاّ يكون الحدث نادر الوجود .
( و ) وألاّ يؤدّي المستخلف ركناً مع حدثٍ ، ويحترز بذلك عمّا إذا سبقه الحدث وهو راكعٌ أو ساجدٌ فرفع رأسه قاصداً الأداء .
( ز ) وألاّ يؤدّي ركناً مع مشيٍ ، كما لو قرأ وهو آيبٌ بعد الطّهارة .
( ح ) وألاّ يفعل فعلاً منافياً ، فلو أحدث عمداً بعد سبق الحدث لا يجوز الاستخلاف .
( ط ) وألاّ يفعل فعلاً له منه بدٌّ ، فلو تجاوز ماءً إلى أبعد منه بأكثر من قدر صفّين بلا عذرٍ فلا يجوز الاستخلاف .
( ي ) وألاّ يتراخى قدر أداء الرّكن بلا عذرٍ . أمّا لو تراخى بعذرٍ كزحمةٍ أو نزول دمٍ فإنّه يبني .
( ك ) وألاّ يظهر حدثه السّابق ، كمضيّ مدّة مسحه على الخفّين .
( ل ) وألاّ يتذكّر فائتةً وهو ذو ترتيبٍ ، فلو تذّكّرها فلا يصحّ بناؤه حتماً .
( م ) أن يتمّ المؤتمّ في مكانه ، وذلك يشمل الإمام الّذي سبقه الحدث ، فإنّه يصير مؤتمّاً بعد أن كان إماماً ، فإذا توضّأ وكان إمامه لم يفرغ من صلاته فعليه أن يعود ليتمّ صلاته خلف إمامه ، إن كان بينهما ما يمنع الاقتداء ، فلو أتمّ في مكانه مع وجود ما يمنع الاقتداء فسدت صلاته خاصّةً ، وهذا شرطٌ لصحّة بناء من سبقه الحدث على ما سبق من صلاته ، لا لصحّة الاستخلاف .
( ن ) أن يستخلف الإمام من يصلح للإمامة ، فلو استخلف صبيّاً أو امرأةً أو أمّيّاً - وهو من لا يحسن شيئاً من القرآن - فسدت صلاة الإمام والمأمومين . واختلفوا فيما إذا حصر الإمام عن قراءة ما تصحّ به الصّلاة ، هل له أن يستخلف أو لا ؟ فقال أبو يوسف ومحمّدٌ : لا يجوز الاستخلاف ، لأنّ الحصر عن القراءة يندر وجوده فأشبه الجنابة في الصّلاة ، ويتمّ الصّلاة بلا قراءةٍ كالأمّيّ إذا أمّ قوماً أمّيّين ، وعنهما روايةٌ أخرى : أنّ الصّلاة تفسد ، وقال الإمام أبو حنيفة : يجوز الاستخلاف ؛ لأنّه في باب الحدث جاز للعجز عن المضيّ في الصّلاة ، والعجز هنا ألزم ؛ لأنّ المحدث قد يجد في المسجد ماءً فيمكنه إتمام صلاته من غير استخلافٍ ، أمّا الّذي نسي جميع ما يحفظ فلا يستخلف بإجماع الحنفيّة ، لأنّه لا يقدر على الإتمام إلاّ بالتّعلّم والتّعليم والتّذكير ، ومتى عجز عن البناء لم يصحّ الاستخلاف عندهم ، وذكر الإمام التّمرتاشيّ أنّ الرّازيّ قال : إنّما يستخلف إذا لم يمكنه أن يقرأ شيئاً ، فإن أمكنه قراءة آيةٍ فلا يستخلف ، وإن استخلف فسدت صلاته ، وقال صدر الإسلام : صورة المسألة إذا كان حافظاً للقرآن إلاّ أنّه لحقه خجلٌ أو خوفٌ فامتنعت عليه القراءة ، أمّا إذا نسي فصار أمّيّاً لم يجز الاستخلاف .
8 - وعند المالكيّة : أنّه يندب لمن ثبتت إمامته بالنّيّة وتكبيرة الإحرام أن يستخلف في ثلاثة مواضع : الأوّل : إذا خشي تلف نفسٍ محترمةٍ - ولو كافرةً - أو تلف مالٍ ، سواءٌ أكان المال له أم لغيره ، قليلاً كان المال أم كثيراً ، ولو كان المال لكافرٍ ، وقيّد بعضهم المال بكونه ذا بالٍ بحسب الأشخاص . والثّاني : إذا طرأ على الإمام ما يمنع الإمامة لعجزٍ عن ركنٍ يعجزه عن الرّكوع أو عن القراءة في بقيّة صلاته ، وأمّا عجزه عن السّورة فلا يجيز الاستخلاف . والثّالث : ما اتّفق عليه جمهور الفقهاء من سبق الحدث أو الرّعاف . وإذا طرأ على الإمام ما يمنعه الإمامة كالعجز عن بعض الأركان فإنّه يستخلف ويتأخّر وجوباً بالنّيّة ، بأن ينوي المأموميّة ، فإن لم ينوها بطلت صلاته .
9 - وعند الشّافعيّة : للإمام أن يستخلف إذا بطلت صلاته ، أو أبطلها عمداً ، جمعةً كانت أو غيرها ، بحدثٍ أو غيره ، بشروطٍ هي : أن يكون الاستخلاف قبل أن يأتي المأمومون بركنٍ ، وأن يكون المستخلف صالحاً للإمامة ، وأن يكون مقتدياً بالإمام قبل حدثه ، ولو صبيّاً أو متنفّلاً .
10 - وعند الحنابلة : للإمام أن يستخلف إذا سبقه الحدث في الرّواية المقدّمة عندهم ، كأن قاء أو رعف ، وكذلك إذا تذكّر نجاسةً ، أو جنابةً لم يغتسل منها ، أو تنجّس في أثناء الصّلاة ، أو عجز عن إتمام الفاتحة ، أو عن ركنٍ يمنع الائتمام كالرّكوع والسّجود .
ثانياً : الاستخلاف لإقامة الجمعة ونحوها :
11 - اختلف فقهاء الحنفيّة في جواز الاستخلاف ( بمعنى الإنابة ) من الخطيب المأذون له من وليّ الأمر بالخطبة ( بناءً على اشتراطهم الإذن لإقامة الجمعة ) وهل يملك الاستنابة للخطبة ؟ وهذا الاختلاف بين المتأخّرين ناشئٌ من اختلافهم في فهم عبارات مشايخ المذهب . فقال صاحب الدّرّ : لا يملك ذلك مطلقاً ، أي سواءٌ أكان الاستخلاف لضرورةٍ أم لا ، إلاّ أن يفوّض إليه ذلك . وقال ابن كمالٍ باشا : إن دعت إلى الاستخلاف ضرورةٌ جاز ، وإلاّ لا ، وقال قاضي القضاة محبّ الدّين بن جرباشٍ والتمرتاشي والحصكفيّ والبرهان الحلبيّ وابن نجيمٍ والشرنبلالي : يجوز مطلقاً بلا ضرورةٍ ، وهذه المسألة خاصّةٌ بالحنفيّة ؛ لعدم اشتراط غيرهم إذن وليّ الأمر في الخطبة .
الاستخلاف في أثناء خطبة الجمعة :
12 - يرى الحنفيّة أنّ الطّهارة في الخطبة سنّةٌ مؤكّدةٌ ، فلو أنّ الخطيب سبقه الحدث وهو يخطب ، فإمّا أن يتمّ الخطبة وهو محدثٌ ، وذلك جائزٌ ، وإمّا أن يستخلف فيكون حكمه على الخلاف السّابق في جواز الاستنابة في الخطبة . أمّا المذاهب الأخرى فالصّحيح عندهم أنّ الطّهارة سنّةٌ وليست واجبةً لصحّة الخطبة ، فإذا أحدث جاز له إتمام خطبته ، لكن الأفضل الاستخلاف وأمّا على القول بوجوب طهارة الخطيب فإذا أحدث وجب الاستخلاف منه أو من المأمومين ، وهل يبدأ المستخلف من حيث انتهى الخطيب الأوّل أم يستأنف الخطبة من أوّلها ؟ صرّح المالكيّة بأنّه من حيث انتهى الأوّل إن علم ، وإلاّ ابتدأ الخطبة .
الاستخلاف في صلاة الجمعة :
13 - ذهب الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة - في الجديد - والحنابلة في روايةٍ هي المذهب إلى : جواز الاستخلاف في صلاة الجمعة لعذرٍ ، هذا إذا أحدث الإمام بعد الخطبة وقبل الشّروع في الصّلاة فقدّم رجلاً يصلّي بالنّاس ، فإن كان المقدّم ممّن شهد الخطبة أو شيئاً منها جاز اتّفاقاً ، وإن لم يكن شهد شيئاً من الخطبة ، أو كان الحدث في أثناء الصّلاة فهناك تفصيلٌ في المذاهب إليك بيانه :
14 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه إن لم يكن المقدّم قد شهد شيئاً من الخطبة فإن استخلفه الإمام قبل أن يشرع في الصّلاة لم يجز الاستخلاف ، وعلى من يؤمّهم أن يصلّي بهم الظّهر أربعاً ؛ لأنّه منشئٌ للجمعة ، وليس ببانٍ تحريمته على تحريمة الإمام ، والخطبة شرط إنشاء الجمعة ولم توجد . أمّا لو شرع الإمام في الصّلاة ثمّ أحدث ، فقدّم رجلاً جاء ساعة الإقامة ، أي لم يشهد شيئاً من الخطبة جاز وصلّى بهم الجمعة ؛ لأنّ تحريمة الأوّل انعقدت للجمعة لوجود شرطها وهو الخطبة ، والثّاني بنى تحريمته على تحريمة الإمام . والخطبة شرط انعقاد الجمعة في حقّ من ينشئ التّحريمة في الجمعة ، لا في حقّ من يبني تحريمته على تحريمة غيره ، بدليل أنّ المقتدي بالإمام تصحّ جمعته وإن لم يدرك الخطبة لهذا المعنى ، فكذا إذا استخلف الإمام بعدما شرع في الصّلاة . وذكر الحاكم في المختصر : أنّ الإمام إذا أحدث وقدّم رجلاً لم يشهد الخطبة ، فأحدث المقدّم قبل الشّروع لم يجز للثّاني الاستخلاف ؛ لأنّه ليس من أهل إقامة الجمعة بنفسه .
15 - وذهب المالكيّة إلى أنّه لو أحدث بعد الخطبة ، أو بعدما أحرم ، فاستخلف من لم يشهدها فصلّى بهم أجزأتهم ، وإن خرج الإمام ولم يستخلف لم يصلّوا أفذاذاً ، ويستخلفون من يتمّ بهم ، وأولى أن يقدّموا من شهد الخطبة ، وإن استخلفوا من لم يشهدها أجزأتهم ، ولا يجوز استخلاف من لا تجب عليه الجمعة كالمسافر ، وقال مالكٌ : أكره استخلاف من لم يشهد الخطبة .
16 - وذهب الشّافعيّ في القديم إلى أنّه لا يستخلف ، وفي الجديد يستخلف ، فعلى القول القديم إن أحدث الإمام بعد الخطبة وقبل الإحرام لم يجز له أن يستخلف ؛ لأنّ الخطبتين مع الرّكعتين كالصّلاة الواحدة ، فلمّا لم يجز أن يستخلف في صلاة الظّهر بعد الرّكعتين - كما لا يجوز فيهما - لم يجز له أن يستخلف في صلاة الجمعة بعد الخطبتين ، وإن أحدث بعد الإحرام ففيه قولان . أحدهما : يتمّون الجمعة فرادى ؛ لأنّه لمّا لم يجز الاستخلاف بقوا على حكم الجماعة ، فجاز لهم أن يصلّوا فرادى . والثّاني : أنّه إذا كان الحدث قبل أن يصلّي بهم ركعةً صلّوا الظّهر ، وإن كان بعض الرّكعة صلّوا ركعةً أخرى فرادى ( كالمسبوق إذا لم يدرك ركعةً أتمّ الظّهر ، وإن أدرك ركعةً أتمّ جمعةً ) . أمّا في المذهب الجديد فإن استخلفه من لم يحضر الخطبة لم يجز ؛ لأنّ من حضر كمّل - أي العدد المطلوب وهو أربعون - بالسّماع فانعقدت به الجمعة ، ومن لم يحضر لم يكمل ، فلم تنعقد به الجمعة ، ولهذا لو خطب بأربعين فقاموا وصلّوا الجمعة جاز ، ولو حضر أربعون لم يحضروا الخطبة فصلّوا الجمعة لم يجز . وإن كان الحدث بعد الإحرام . فإن كان في الرّكعة الأولى فاستخلف من كان معه قبل الحدث جاز ؛ لأنّه من أهل الجمعة ، وإن استخلف مسبوقاً لم يكن معه قبل الحدث لم يجز ؛ لأنّه ليس من أهل الجمعة ، ولهذا لو صلّى المستخلف المسبوق بانفراده الجمعة لم تصحّ . وإن كان الحدث في الرّكعة الثّانية . فإن كان قبل الرّكوع فاستخلف من كان معه قبل الحدث جاز ، وإن استخلف من لم يكن معه قبل الحدث لم يجز ، وإن كان بعد الرّكوع فاستخلف من لم يحضر قبل الحدث لم يجز .
17 - وعند الحنابلة : السّنّة أن يتولّى الصّلاة من يتولّى الخطبة ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتولاّهما بنفسه ، وكذلك خلفاؤه من بعده . فإن خطب رجلٌ وصلّى آخر لعذرٍ جاز ، نصّ عليه أحمد وهو المذهب . وإن لم يوجد عذرٌ فقال أحمد : لا يعجبني من غير عذرٍ فيحتمل المنع ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتولاّهما ، وقد قال : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » . ولأنّ الخطبة أقيمت مقام ركعتين ، ويحتمل الجواز – مع الكراهة – لأنّ الخطبة منفصلةٌ عن الصّلاة فأشبهتا صلاتين .
وهل يشترط أن يكون المستخلف ممّن حضر الخطبة ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يشترط ذلك ، وهو قول كثيرٍ من الفقهاء ؛ لأنّه إمامٌ في الجمعة فاشترط حضوره الخطبة ، كما لو لم يستخلف .
والثّانية : لا يشترط ؛ لأنّه ممّن تنعقد به الجمعة ، فجاز أن يؤمّ فيها كما لو حضر الخطبة . وقد روي عن أحمد أنّه لا يجوز الاستخلاف لعذرٍ ولا لغيره ، قال في رواية حنبلٍ : في الإمام إذا أحدث بعدما خطب ، فقدّم رجلاً يصلّي بهم ، لم يصلّ بهم إلاّ أربعاً ، إلاّ أن يعيد الخطبة ثمّ يصلّي بهم ركعتين ، وذلك لأنّ هذا لم ينقل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من خلفائه .
الاستخلاف في العيدين :
18 - إذا أحدث الإمام في أثناء صلاة العيد فإنّه تجري عليه الأحكام السّابقة في الاستخلاف في أيّ صلاةٍ . أمّا إذا أحدث الإمام يوم العيد قبل الخطبة بعد الصّلاة فقد صرّح المالكيّة : أنّه يخطب النّاس على غير وضوءٍ ، ولا يستخلف . وقواعد غيرهم لا تأبى ذلك ، على ما مرّ في الاستخلاف في خطبة الجمعة .
الاستخلاف في صلاة الجنازة :
19 - ذهب الحنفيّة في الصّحيح عندهم ، والمالكيّة ، والحنابلة إلى جواز الاستخلاف في صلاة الجنازة . وعند المالكيّة : أنّ للإمام إذا استخلف فذهب فتوضّأ ، وقد بقي بعض التّكبير من الصّلاة على الجنازة ، أن يرجع فيصلّي ما أدرك ، ويقضي ما فاته ، وإن شاء ترك . وقال الشّافعيّة : إذا اجتمع وليّان في درجةٍ واحدةٍ ، وكان أحدهما أفضل ، كان أولى بالصّلاة ، فإن أراد أن يستنيب أجنبيّاً - أي غير وليٍّ - ففي تمكينه من ذلك وجهان ، حكاهما صاحب العدّة : أحدهما : أنّه لا يمكّن إلاّ برضاء الآخر .
الاستخلاف في صلاة الخوف :
20 - المالكيّة ، والشّافعيّة هم الّذين تكلّموا عن الاستخلاف في صلاة الخوف في السّفر ، ولم نقف للحنفيّة والحنابلة على نصٍّ في هذا الموضوع .
21 - فعند المالكيّة : إذا صلّى الإمام ركعةً من صلاة الخوف ، ثمّ أحدث قبل قيامه إلى الثّانية ، فليقدّم من يؤمّهم ، ثمّ يثبت المستخلف ، ويتمّ من خلفه صلاتهم ، وهو قائمٌ ساكتاً أو داعياً ، ثمّ تأتي الطّائفة الأخرى فيصلّي بهم ركعةً ويسلّم ، ثمّ تتمّ هذه الطّائفة الرّكعة الثّانية . ولو أحدث بعد قيامه إلى الثّانية فلا يستخلف ؛ لأنّ من خلفه خرجوا من إمامته بالاقتداء به في ركعةٍ ، حتّى لو تعمّد حينئذٍ الحدث أو الكلام لم تفسد عليهم . فإذا أتمّ هؤلاء الرّكعة الثّانية وذهبوا أتت الطّائفة الأخرى بإمامٍ فقدّموه .
22 - وقال الإمام الشّافعيّ : إذا أحدث الإمام في صلاة الخوف فهو كحدثه في غيرها ، وأحبّ إليّ ألاّ يستخلف أحداً . فإن كان أحدث في الرّكعة الأولى أو بعدما صلاّها ، وهو واقفٌ في الرّكعة الثّانية فقرأ ولم تدخل معه الطّائفة الثّانية ، قضت الطّائفة الأولى ما عليهم من الصّلاة ، وأمّ الطّائفة الأخرى إمامٌ منهم ، أو صلّوا فرادى ، ولو قدّم رجلاً فصلّى بهم أجزأ عنهم إن شاء اللّه تعالى . وإذا أحدث الإمام وقد صلّى ركعةً وهو قائمٌ يقرأ - ينتظر فراغ الّتي خلفه - وقف الّذي قدّم كما يقف الإمام ، وقرأ في وقوفه ، فإذا فرغت الطّائفة الّتي خلفه . ودخلت الطّائفة الّتي وراءه قرأ بأمّ القرآن وقدر سورةٍ ، ثمّ ركع بهم ، وكان في صلاته لهم كالإمام الأوّل لا يخالفه في شيءٍ إذا أدرك الرّكعة الأولى مع الإمام الأوّل ، وانتظرهم حتّى يتشهّدوا ثمّ يسلّم بهم ، وهناك صورٌ أخرى نادرةٌ ، موطن بيانها صلاة الخوف .
من يحقّ له الاستخلاف :
23 - مذهب الحنفيّة : أنّ الاستخلاف حقّ الإمام . فلو استخلف هو شخصاً ، واستخلف المأمومون سواه ، فالخليفة من قدّمه الإمام ، فمن اقتدى بمن قدّمه المأمومون فسدت صلاته ، وإن قدّم الإمام واحداً ، أو تقدّم بنفسه لعدم استخلاف الإمام جاز إن قام مقام الأوّل قبل أن يخرج من المسجد ، ولو خرج منه فسدت صلاة الكلّ دون الإمام ، ولو تقدّم رجلان فالأسبق أولى .
24 - ومذهب المالكيّة : أنّ استخلاف الإمام لغيره مندوبٌ ، وللإمام ترك الاستخلاف ، ويترك المصلّين ليستخلفوا بأنفسهم أحدهم ، وإنّما ندب له الاستخلاف ؛ لأنّه أعلم بمن يستحقّ التّقديم فهو من التّعاون على البرّ ؛ ولئلاّ يؤدّي تركه إلى التّنازع فيمن يتقدّم فتبطل صلاتهم ، فإن لم يستخلف ندب ذلك للمأمومين ، وإن تقدّم غير من استخلفه الإمام وأتمّ بهم صحّت صلاتهم .
25 - ومذهب الشّافعيّة : أنّ الإمام أو القوم إن قدّموا رجلاً فأتمّ لهم ما بقي من الصّلاة أجزأتهم صلاتهم ، على أنّ من قدّمه المأمون أولى ممّن قدّمه الإمام لأنّ الحظّ لهم ، إلاّ إذا كان الإمام راتباً فمقدّمه أولى . وإن تقدّم واحدٌ بنفسه جاز .
26 - ومذهب الحنابلة : وهو إحدى روايتين عندهم ، أنّ للإمام أن يستخلف من يتمّ الصّلاة بالمأمومين ، فإن لم يفعل فقدّم المأمون رجلاً فأتمّ بهم جاز .
من يصحّ استخلافه ، وأفعال المستخلف :
27 - المنصوص عليه في مذاهب الفقهاء : أنّ كلّ من يصلح إماماً ابتداءً يصحّ استخلافه ، ومن لا يصلح ابتداءً لا يصحّ استخلافه ، وفي كلّ مذهبٍ تفصيلاتٌ :
28 - فعند الحنفيّة : الأولى للإمام ألاّ يستخلف مسبوقاً ، وإن استخلفه ينبغي له ألاّ يقبل ، وإن قبل جاز ، ولو تقدّم يبتدئ من حيث انتهى إليه الإمام ، وإذا انتهى إلى السّلام يقدّم مدركاً يسلّم بهم ، ولو أنّ الخليفة المسبوق حين أتمّ الصّلاة الّتي ابتدأها الإمام المستخلف أتى بمبطلٍ لصلاته - كأن قهقه أو أحدث متعمّداً أو تكلّم أو خرج من المسجد - فسدت صلاته ، وصلاة القوم تامّةٌ . أمّا فساد صلاته فلأنّه أتى بمبطلٍ قبل إكمال ما سبق به ، وأمّا صحّة صلاة القوم فلأنّ المبطل المتعمّد تمّت به صلاتهم لتحقّق الرّكن ، وهو الخروج بالصّنع ، والإمام إن كان فرغ من صلاته فصلاته صحيحةٌ ، وإن لم يكن فرغ تفسد صلاته في الأصحّ . ولو اقتدى رجلٌ بالإمام في صلاةٍ رباعيّةٍ فأحدث الإمام ، وقدّم الإمام هذا الرّجل ، والمقتدي لا يدري كم صلّى الإمام وكم بقي عليه ؟ فإنّ المقتدي يصلّي أربع ركعاتٍ ، ويقعد في كلّ ركعةٍ احتياطاً . ولو استخلف لاحقاً فللخليفة أن يشير للمأمومين حتّى يؤدّي ما عليه من الصّلاة ، ثمّ يتمّ بهم الصّلاة . ولو لم يفعل ذلك ومضى على صلاة الإمام ، وأخّر ما عليه حتّى انتهى إلى موضع السّلام ، واستخلف من سلّم بهم جاز . وإذا كان خلف الإمام شخصٌ واحدٌ ، وأحدث الإمام تعيّن ذلك الواحد للإمامة ، عيّنه الإمام بالنّيّة أو لم يعيّنه . ولو اقتدى مسافرٌ بمسافرٍ فأحدث الإمام ، فاستخلف مقيماً لم يلزم المسافر الإتمام .
29 - وقال المالكيّة : إنّه يشترط فيمن يصحّ استخلافه أن يدرك مع الإمام الأصليّ قبل العذر جزءاً يعتدّ به من الرّكعة المستخلف هو فيها ، قبل الاعتدال من الرّكوع ، وإذا استخلف الإمام مسبوقاً صلّى بهم على نظام صلاة الإمام الأوّل ، فإذا انتهى إلى الرّكعة الرّابعة بالنّسبة لهم أشار إليهم فجلسوا ، وقام ليتمّ صلاته ثمّ يسلّم معهم .
30 - وعند الشّافعيّة : يصحّ استخلاف مأمومٍ يصلّي صلاة الإمام أو مثلها في عدد الرّكعات بالاتّفاق ، سواءٌ أكان مسبوقاً أم غيره ، وسواءٌ استخلفه في الرّكعة الأولى أم في غيرها ؛ لأنّه ملتزمٌ بترتيب الإمام باقتدائه ، فلا يؤدّي إلى المخالفة . وإذا استخلف مأموماً مسبوقاً لزمه مراعاة ترتيب الإمام ، فيقعد موضع قعوده ، ويقوم موضع قيامه ، كما كان يفعل لو لم يخرج الإمام من الصّلاة . فلو اقتدى المسبوق في ثانية الصّبح ، ثمّ أحدث الإمام فيها فاستخلفه فيها قنت ، وقعد وتشهّد ، ثمّ يقنت في الثّانية لنفسه ، ولو كان الإمام قد سها قبل اقتداء المستخلف أو بعده ، سجد في آخر صلاة الإمام ، وأعاد في آخر صلاة نفسه ، على أصحّ القولين . وإذا أتمّ بالقوم صلاة الإمام قام لتدارك ما عليه ، والمأمومون بالخيار إن شاءوا فارقوه وسلّموا ، وتصحّ صلاتهم بلا خلافٍ للضّرورة ، وإن شاءوا صبروا جلوساً ليسلّموا معه ، هذا كلّه إذا عرف المسبوق نظم صلاة الإمام وما بقي منها ، فإن لم يعرف فقولان حكاهما صاحب التّلخيص وآخرون ، وقيل : هما وجهان أقيسهما لا يجوز ، وقال الشّيخ أبو عليٍّ : أصحّهما الجواز ، ونقله ابن المنذر عن الشّافعيّ ولم يذكر غيره ، فعلى هذا يراقب المستخلف المأمومين إذا أتمّ الرّكعة ، فإن همّوا بالقيام قام وإلاّ قعد .
31 - وقال الحنابلة : يجوز استخلاف المسبوق ببعض الصّلاة ، ولمن جاء بعد حدث الإمام ، فيبني على ما مضى من صلاة الإمام من قراءةٍ أو ركعةٍ أو سجدةٍ ، ويقضي بعد فراغ صلاة المأمومين ، وحكي هذا القول عن عمر وعليٍّ وأكثر من وافقهما في الاستخلاف . وفيه روايةٌ أخرى أنّه مخيّرٌ بين أن يبني أو يبتدي ، فإذا فرغوا من صلاتهم قعدوا وانتظروه حتّى يتمّ ويسلّم معهم ؛ لأنّ اتّباع المأمومين للإمام أولى من اتّباعه لهم . فإنّ الإمام إنّما جعل ليؤتمّ به وعلى كلتا الرّوايتين إذا فرغ المأمومون قبل فراغ إمامهم ، وقام لقضاء ما فاته فإنّهم يجلسون وينتظرون حتّى يتمّ ويسلّم بهم ؛ لأنّ الإمام ينتظر المأمومين في صلاة الخوف ، فانتظارهم له أولى ، وإن سلّموا ولم ينتظروه جاز . وقال ابن عقيلٍ : يستخلف من يسلّم بهم ، والأولى انتظاره . وإن سلّموا لم يحتاجوا إلى خليفةٍ . فإنّه لم يبق من الصّلاة إلاّ السّلام ، فلا حاجة إلى الاستخلاف فيه ، ويقوى عندي أنّه لا يصحّ الاستخلاف في هذه الصّورة ؛ لأنّه إن بنى جلس في غير موضع جلوسه وصار تابعاً للمأمومين ، وإن ابتدأ جلس المأمومون في غير موضع جلوسهم ، ولم يرد الشّرع بهذا ، وإنّما ثبت الاستخلاف في موضع الإجماع حيث لم يحتج إلى شيءٍ من هذا ، فلا يلحق به ما ليس في معناه . وإذا استخلف من لا يدري كم صلّى الإمام ، احتمل أن يبني على اليقين ، فإن وافق الحقّ وإلاّ سبّحوا به فرجع إليهم ، ويسجد للسّهو . وفي روايةٍ : إنّ المستخلف إن شكّ في عدد الرّكعات الّتي صلاّها الإمام لم يجز له الاستخلاف للشّكّ ، كغير المستخلف ، ورواية البناء على اليقين بنيت على أنّه شكٌّ ممّن لا ظنّ له فوجب البناء على اليقين كسائر المصلّين .
ثالثاً : استخلاف القاضي
32 - اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الإمام إذا أذن للقاضي في الاستخلاف فله ذلك ، وعلى أنّه إذا نهاه فليس له أن يستخلف ، وذلك لأنّ القاضي إنّما يستمدّ ولايته من الإمام ، فلا يملك أن يخالفه إذا نهاه ، كالوكيل مع الموكّل ، فإنّ الموكّل إذا نهى الوكيل عن تصرّفٍ ما فليس له أن يخالفه . قال الدّسوقيّ : وينبغي أنّ العرف بالاستخلاف وعدمه كالنّصّ على ذلك . أمّا إن أطلق الإمام فلم يأذن ولم ينه فهناك اتّجاهاتٌ في المذاهب . ذهب الحنفيّة ، وابن عبد الحكم ، وسحنونٌ من المالكيّة ، وهو احتمالٌ في مذهب الحنابلة إلى : أنّه لا يجوز أن يستخلف ؛ لأنّه يتصرّف بإذن الإمام ولم يأذن له . وذهب الحنابلة ، وهو وجهٌ للشّافعيّة إلى : أنّه يجوز له أن يستخلف مطلقاً . والمشهور عند المالكيّة ، وهو الوجه الآخر للشّافعيّة أنّه يجوز الاستخلاف لعذرٍ كمرضٍ ، أو سفرٍ ، أو سعة الجهات المولّى عليها ، وذلك لأنّ القاضي في هذه الحالة يحتاج إلى الاستخلاف ؛ ولأنّ قرينة الحال تقتضي ذلك ، فإن استخلف القاضي - بغير إذنٍ - وقضى المستخلف فإنّ قضاءه ينفذ عند الحنفيّة إذا أنفذه القاضي المستخلف بشرط أن يكون المستخلف بحالٍ يصلح معها أن يكون قاضياً ؛ لأنّه بإجازة القاضي المستخلف صار كأنّه هو الّذي قضى .
33 - ما يثبت به الاستخلاف في القضاء : كلّ لفظٍ يفيد الاستخلاف يصحّ به وينعقد ، سواءٌ أكان ممّا قاله الفقهاء في ألفاظ تولية القضاء أم لا ، وكذلك أيّ دليلٍ أو قرينةٍ يثبت بها الاستخلاف يعمل بها ويعوّل عليها .


*استدانةٌ
التعريف
1 - الاستدانة لغةً : الاستقراض وطلب الدّين ، أو : صيرورة الشّخص مديناً ، أو : أخذه . والمداينة : التّبايع بالأجل . والقرض : هو ما يعطى من المال ليقضى . وأمّا في الشّرع فتطلق الاستدانة ويراد بها : طلب أخذ مالٍ يترتّب عليه شغل الذّمّة ، سواءٌ كان عوضاً في مبيعٍ أو سلمٍ أو إجارةٍ ، أو قرضاً ، أو ضمان متلفٍ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستقراض :
2 - الاستقراض : طلب القرض ، وكلٌّ من القرض والدّين لا بدّ أن يكون ممّا يثبت في الذّمّة . وعلى هذا فالاستدانة أعمّ من الاستقراض ، إذ الدّين شاملٌ عامٌّ للقرض وغيره . وفرّق المرتضى الزّبيديّ بين الاستدانة والاستقراض ، بأنّ الاستدانة لا بدّ أن تكون إلى أجلٍ ، في حين أنّ الاستقراض لا يكون إلى أجلٍ عند الجمهور ، أمّا المالكيّة فيقولون بلزوم الأجل في القرض بالنّسبة للمقرض ( ر . أجلٌ ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ب - الاستلاف :
3 - الاستلاف لغةً : أخذ السّلف ، وسلف في كذا وأسلف : إذا قدّم الثّمن فيه . والسّلف كالسّلم والقرض بلا منفعةٍ أيضاً . يقال : أسلفه مالاً إذا أقرضه . صفة الاستدانة
حكمها التّكليفيّ :
4 - الأصل في الاستدانة الإباحة ، لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمًّى فاكتبوه } . ولأنّ النّبيّ كان يستدين .
وقد تعتريها أحكامٌ أخرى بحسب السّبب الباعث ، كالنّدب في حال عسر المدين ، وكالوجوب للمضطرّ ، وكالتّحريم فيمن يستدين قاصداً المماطلة ، أو جحد الدّين . وكالكراهة إذا كان غير قادرٍ على الوفاء ، وليس مضطرّاً ولا قاصداً المماطلة .
صيغة الاستدانة :
5 - تكون الاستدانة بكلّ ما يدلّ على التزام الذّمّة بدينٍ ، قرضاً كان أو سلماً ، أو ثمناً لمبيعٍ بأجلٍ ويفصّل الفقهاء ذلك عند الكلام في مصطلح : ( عقدٌ ) ( وقرضٌ ) ( ودينٌ ) .
الأسباب الباعثة على الاستدانة :
أوّلاً : الاستدانة لحقوق اللّه تعالى :
6 - حقوق اللّه تعالى الماليّة ، كالزّكاة ، لا تثبت في الذّمّة إلاّ على الغنيّ القادر عليها - والغنيّ في كلّ تكليفٍ بحسبه - فلا يكلّف بالاستدانة ليصير ملزماً بشيءٍ منها بالاتّفاق . أمّا ما شرط اللّه لوجوبه الاستطاعة ، كالحجّ ، فإن كان لا يرجو الوفاء فالاستدانة لأجله مكروهةٌ أو حرامٌ عند المالكيّة ، وخلاف الأفضل عند الحنفيّة . أمّا إن كان يرجو الوفاء فيجب عليه عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، وهو الأفضل عند الحنفيّة . وعند الحنابلة - يفهم ممّا في المغني - أنّه إن أمكنه الحجّ بالاستدانة لم يلزمه ذلك ، ولكن يستحبّ له إن لم يكن عليه في ذلك ضررٌ أو على غيره . فإذا وجبت حقوق اللّه تعالى الماليّة على عبدٍ حال غناه ، ثمّ افتقر قبل أدائها ، فهل يكلّف بالاستدانة لأدائها ؟ يفرّق فقهاء الحنفيّة في ذلك بين الحالتين : إن لم يكن عنده مالٌ وأراد أن يستقرض ، فإن كان في أكبر رأيه أنّه إذا استقرض وأدّى الزّكاة ، واجتهد لقضاء دينه يقدر على ذلك ، كان الأفضل له أن يستقرض ، فإن استقرض وأدّى ولم يقدر على قضاء الدّين حتّى مات ، يرجى أن يقضي اللّه تعالى دينه في الآخرة . وإن كان أكبر رأيه أنّه إذا استقرض لا يقدر على قضاء الدّين ، كان الأفضل له ألاّ يستقرض ، لأنّ خصومة صاحب الدّين أشدّ . وظاهر هذا أنّه لا يجب عليه الاستقراض على كلّ حالٍ . ومذهب الحنابلة أنّه إذا وجبت عليه الزّكاة ، فتلف المال بعد وجوبها ، فأمكنه أداؤها أدّاها ، وإلاّ أمهل إلى ميسرته وتمكّنه من أدائها من غير مضرّةٍ عليه ولا على غيره ، قالوا : لأنّه إذا لزم الإنظار في دين الآدميّ المعيّن فهذا أولى . ولم يتعرّض الشّافعيّة لهذه المسألة فيما اطّلعنا عليه .
ثانياً : الاستدانة لأداء حقوق العباد :
أ - الاستدانة لحقّ النّفس :
7 - تجب الاستدانة على المضطرّ لإحياء نفسه ؛ لأنّ حفظ النّفس مقدّمٌ على حفظ المال ، صرّح به الشّافعيّة ، وقواعد غيرهم لا تأباه ؛ لما ورد في الضّرورة من نصوصٍ معروفةٍ . أمّا الاستدانة لسدّ حاجةٍ من الحاجيّات ، فهو جائزٌ إن كان يرجو وفاءً ، وإن كان الأولى له أن يصبر . لما في الاستدانة من المنّة ، قال في الفتاوى الهنديّة . لا بأس أن يستدين الرّجل إذا كانت له حاجةٌ لا بدّ منها ، وهو يريد قضاءها . وكلمة « لا بأس » إذا أطلقها فقهاء الحنفيّة فإنّهم يعنون بها : ما كان تركه أولى من فعله . أمّا إذا كان لا يرجو وفاءً فتحرم عليه الاستدانة ، والصّبر واجبٌ ؛ لما في الاستدانة من تعريض مال الغير إلى الإتلاف . أمّا الاستدانة من أجل غايةٍ غير مشروعةٍ فإنّه لا يجوز ، كما إذا استدان لينفق في وجهٍ غير مشروعٍ ، مثل أن يكون عنده من المال ما يكفيه ، فيتوسّع في النّفقة . ويستدين لأجل أن يأخذ من الزّكاة ، فإنّه لا يعطى منها ؛ لأنّ قصده مذمومٌ .
ب - الاستدانة لحقّ الغير :
أوّلاً - الاستدانة لوفاء الدّين :
8 - لا يلزم المعسر بالاستدانة لقضاء دين غرمائه ، لقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ } . ولما في ذلك من منّةٍ . ولأنّ الضّرر لا يزال بمثله ، صرّح بذلك المالكيّة والحنابلة ، وقواعد غيرهم لا تأباه .
ثانياً : الاستدانة للنّفقة على الزّوجة :
9 - اتّفق الفقهاء على أنّ نفقة الزّوجة واجبةٌ ، سواءٌ أكان الزّوج موسراً أم معسراً ، فإن كان الزّوج حاضراً ، وله مالٌ ، أنفق من ماله جبراً عنه ، وإن كان معسراً فإنّ أئمّة الحنفيّة يرون أنّ القاضي يفرض لها النّفقة ، ثمّ يأمرها بالاستدانة عليه ، فإن لم تجد من تستدين منه أوجب القاضي نفقتها على من تجب عليه من أقاربها لو لم تكن متزوّجةً ، أمّا إن كان غائباً وليس له مالٌ حاضرٌ ، فإنّه لا تفرض لها نفقةٌ عليه ، خلافاً لزفر ، وقوله هو المفتى به عند الحنفيّة . وذهب الحنابلة إلى أنّ لها الاستدانة ، لها ولأولادها ولو بغير إذنٍ ، وترجع عليه بما استدانت . ومذهب المالكيّة أنّ نفقة الزّوجة تسقط بالإعسار إذا ثبت ، أمّا إذا لم يثبت إعساره فلها أن تستدين عليه . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا كان له مالٌ حاضرٌ ينفق عليها منه جبراً عنه . وإذا كان لا مال له وهو قادرٌ على الكسب ، أجبر على التّكسّب ، ويستدين للنّفقة الحاضرة ، أمّا إن كان ماله غائباً فإنّه يجبر على الاستدانة ، فإن لم يستدن كان لها طلب الفسخ .
ثالثاً : الاستدانة للإنفاق على الأولاد والأقارب :
10 - نفقة الصّغار من الأولاد الفقراء غير المتكسّبين واجبةٌ في الجملة على الوالد دون غيره في الأصل ، فإن امتنع عن الإنفاق عليهم ، وكان موسراً ، أجبر على ذلك ، ويؤمرون بالاستدانة عليه . وإن كان معسراً فعند الحنفيّة : تؤمر الأمّ بالإنفاق عليهم من مالها إن كانت موسرةً ، وإلاّ ألزم بنفقتهم من تجب عليه لو كان الأب ميّتاً ، ثمّ يرجع المنفق على الأب إن أيسر . وإن كان الأب زمناً اعتبر كالميّت ، فلا رجوع للمنفق بل هو تبرّعٌ . ومذهب المالكيّة كالحنفيّة في حال اليسار ، وينوب عن إذن القاضي عندهم إشهاد المنفق على أنّه أنفق على سبيل الرّجوع ، أو يحلف على ذلك . أمّا إذا كان معسراً فيعتبر الإنفاق على أولاده تبرّعاً من المنفق ، لا رجوع له ولو أيسر الأب بعدئذٍ . وعند الشّافعيّة : للأولاد الاستدانة بإذن القاضي ، ولا رجوع إلاّ إذا حصل الاقتراض بالفعل للمنفق المأذون . وذهب الحنابلة إلى أنّه يستدان للأولاد بإذنٍ ، لكن لو استدانت الأمّ لها ولأولادها بلا إذنٍ جاز تبعاً للأمّ . أمّا الاستدانة لغير الزّوجة والأولاد ففي ذلك تفصيلٌ وخلافٌ كبيرٌ ، موطنه « نفقةٌ » .
الاستدانة ليتمحّض المال حلالاً :
11 - إذا أراد أن يحجّ فيستحبّ أن يحجّ بمالٍ حلالٍ ، فإن لم يتوفّر له إلاّ مالٌ فيه شبهةٌ ، وأراد أن يحجّ بمالٍ حلالٍ ، ففي فتاوى قاضي خان : يستدين للحجّ ، ويقضي دينه من ماله .
شروط صحّة الاستدانة :
الشّرط الأوّل : عدم انتفاع الدّائن :
12 - إنّ انتفاع الدّائن من عمليّة الاستدانة إمّا أن يتمّ بشرطٍ في العقد ، أو بغير شرطٍ ، فإن كان بشرطٍ فهو حرامٌ بلا خلافٍ ، قال ابن المنذر : أجمعوا على أنّ المسلف - أي الدّائن - إذا شرط على المستلف زيادةً أو هديّةً ، فأسلف على ذلك ، أنّ أخذ الزّيادة على ذلك رباً ، وقد روى عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قوله : « كلّ قرضٍ جرّ منفعةً فهو رباً » . وهو وإن كان ضعيف السّند إلاّ أنّه صحيحٌ معنًى ، وروي عن أبيّ بن كعبٍ ، وعبد اللّه بن عبّاسٍ ، وعبد اللّه بن مسعودٍ ، أنّهم نهوا عن كلّ قرضٍ جرّ منفعةً للمقرض . ولأنّ عقد الاستدانة عقد إرفاقٍ وقربةٍ ، واشتراط المنفعة فيه للدّائن إخراجٌ له عن موضوعه ، وهو شرطٌ لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ، وقد أورد الفقهاء كثيراً من التّطبيقات العمليّة على القرض الّذي يجرّ نفعاً للدّائن . ومن ذلك : أن يشترط الدّائن أن يردّ له المدين أكثر ممّا أخذ ، أو أجود ممّا أخذ ، وهذا هو الرّبا بعينه ( ر : رباً ) . وليس من ذلك اشتراط الدّائن على المدين أن يعطيه رهناً بالدّين ، أو كفيلاً ضماناً لدينه ؛ لأنّ هذا شرطٌ يلائم العقد كما سيأتي . أمّا إن كانت المنفعة الّتي حصل عليها الدّائن من المدين غير مشروطةٍ ، فيجوز ذلك عند جمهور الفقهاء : الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة . وهو مرويٌّ عن عبد اللّه بن عمر ، وسعيد بن المسيّب ، والحسن البصريّ ، وعامرٍ الشّعبيّ ، والزّهريّ ، ومكحولٍ ، وقتادة ، وإسحاق بن راهويه ، وهو إحدى الرّوايتين عن إبراهيم النّخعيّ . واستدلّ هؤلاء بما رواه مسلمٌ في صحيحه عن جابر بن عبد اللّه قال : « أقبلنا من مكّة إلى المدينة مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاعتلّ جملي » . وساق الحديث بقصّته ، وفيه « ثمّ قال : بعني جملك هذا ، قال : فقلت : لا ، بل هو لك ، قال : بل بعنيه ، قال : قلت : لا ، بل هو لك يا رسول اللّه ، قال : لا ، بل بعنيه ، قال : قلت : فإنّ لرجلٍ عليّ أوقيّة ذهبٍ فهو لك بها ، قال : قد أخذته ، فتبلّغ عليه إلى المدينة ، ثمّ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لبلالٍ : أعطه أوقيّةً من ذهبٍ وزيادةً ، قال : فأعطاني أوقيّةً من ذهبٍ وزادني قيراطاً » وهذه زيادةٌ في القدر .
13 - أمّا الزّيادة في الصّفة : فعن أبي رافعٍ مولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « أنّ رسول اللّه استسلف من رجلٍ بكراً ، فقدمت عليه إبلٌ من إبل الصّدقة ، فأمر أبا رافعٍ أن يقضي الرّجل بكره ، فرجع أبو رافعٍ فقال : لم أجد فيها إلاّ خياراً بعيراً رباعيّاً ، فقال : أعطه إيّاه ، إنّ خير النّاس أحسنهم قضاءً » . ولأنّه لم يجعل تلك الزّيادة عوضاً عن القرض ، ولا وسيلةً إليه ، ولا إلى استيفاء دينه . وقال بعض المالكيّة ، وهي إحدى الرّوايتين عند الحنابلة ، وهو المرويّ عن أبيٍّ ، وابن عبّاسٍ ، وابن عمر ، وإحدى الرّوايتين عن النّخعيّ : لا يجوز للمقرض قبول هديّة المقترض ، ولا الحصول على ما به الانتفاع له ، كركوب دابّته ، وشرب شيءٍ عنده في بيته ، إن لم يكن ذلك معروفاً بينهما قبل القرض ، أو حدث ما يستدعي ذلك ؛ لزواجٍ وولادةٍ ونحو ذلك . قال الدّسوقيّ : « والمعتمد جواز الشّرب والتّظلّل ، وكذلك الأكل إن كان لأجل الإكرام لا لأجل الدّين » لأنّه إن أخذ فضلاً ، أو حصل على منفعةٍ يكون قد تعاطى قرضاً جرّ منفعةً بالفعل ، فقد روى الأثرم أنّ رجلاً كان له على ، سمّاكٍ عشرون درهماً ، فجعل يهدي إليه السّمك ويقوّمه ، حتّى بلغ ثلاثة عشر درهماً ، فسأل ابن عبّاسٍ ، فقال له : أعطه سبعة دراهم . وعن ابن سيرين أنّ عمر أسلف أبيّ بن كعبٍ عشرة دراهم ، فأهدى إليه أبيّ بن كعبٍ من ثمرة أرضه ، فردّها عليه ولم يقبلها ، فأتاه أبيٍّ فقال : لقد علم أهل المدينة أنّي من أطيبهم ثمرةً ، وأنّه لا حاجة لنا ، فبم منعت هديّتنا ؟ ثمّ أهدى إليه بعد ذلك فقبل . وهذا يدلّ على ردّها عند الشّبهة ، وقبولها عند انتفائها . وعن زرّ بن حبيشٍ قال : قلت لأبيّ بن كعبٍ : إنّي أريد أن أسير إلى أرض الجهاد إلى العراق ، فقال : إنّك تأتي أرضاً فاشٍ فيها الرّبا ، فإن أقرضت رجلاً قرضاً فأتاك بقرضك ، ومعه هديّةٌ ، فاقبض قرضك ، وأردد عليه هديّته . الشّرط الثّاني : عدم انضمام عقدٍ آخر :
14 - يشترط لصحّة الاستدانة ألاّ ينضمّ إليها عقدٌ آخر ، سواءٌ اشترط ذلك في عقد الاستدانة ، أم تمّ التّوافق عليه خارجه ، كأن يؤجّر المستقرض داره للمقرض ، أو يستأجر المستقرض دار المقرض ، لأنّ « رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعٍ وسلفٍ » . وفي ذلك تفصيلٌ وخلافٌ يرجع إليه في ( البيوع المنهيّ عنها ) .
الاستدانة من بيت المال ، ولبيت المال ، ونحوه ، كالوقف :
15 - الأصل في ذلك أنّ الاستدانة لبيت المال ، أو منه جائزةٌ شرعاً . أمّا الاستدانة منه : فلما ورد أنّ أبا بكرٍ استقرض من بيت المال سبعة آلاف درهمٍ ، فمات وهي عليه ، فأوصى أن تقضى عنه . وقال عمر : إنّي أنزلت مال اللّه منّي منزلة مال اليتيم ، إن احتجت إليه أخذت منه ، فإذا أيسرت قضيت . أمّا الاستدانة عليه : فلما روى أبو رافعٍ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استسلف من رجلٍ بكراً ، فقدمت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم إبل الصّدقة ، فأمر أبا رافعٍ أن يقضي الرّجل بكره » ... الحديث . فهذه استدانةٌ على بيت المال ؛ لأنّ الرّدّ كان من مال الصّدقة ، وكلّ هذا يراعى فيه المصلحة العامّة ، والحيطة الشّديدة في توثيق الدّين ، والقدرة على استيفائه . ويشترط لذلك على ما صرّح به الحنفيّة في الوقف - وبيت المال مثله - أن يكون بإذن من له الولاية ، وأن يكون الإقراض لمليءٍ مؤتمنٍ ، وألاّ يوجد من يقبل المال مضاربةً ، وألاّ يوجد مستغلاّتٌ تشترى بذلك المال . وقد صرّح الشّافعيّة بالنّسبة للوقف بأنّه يستغنى بشرط الواقف عن إذن القاضي . وكذلك الحكم في مال اليتيم ومال الغائب واللّقطة . وفي ذلك خلافٌ وتفصيلٌ ، موطنه مصطلح : ( قرضٌ ) ( ودينٌ ) .
آثار الاستدانة :
أ - ثبوت الملك :
16 - يملك المستدين المحلّ المقابل للدّين بالعقد نفسه إلاّ في القرض ، ففيه ثلاثة اتّجاهاتٍ هي : أنّه يملك بالعقد ، أو بالقبض ، أو بالاستهلاك ، على تفصيلٍ موطنه مصطلح : ( قرضٌ ) .
ب - حقّ المطالبة ، وحقّ الاستيفاء :
17 - من آثار الاستدانة وجوب الوفاء على المستدين عند حلول الأجل ، لقوله تعالى : { وأداءٌ إليه بإحسانٍ } ولقوله صلى الله عليه وسلم : « مطل الغنيّ ظلمٌ » . وندب الإحسان في المطالبة ، ووجوب إنظار المدين المعسر إلى حين الميسرة بالاتّفاق . واستدلّ لذلك بقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ } وأنّها عامّةٌ في الدّيون كلّها وليست خاصّةً بالرّبا .
ج - حقّ المنع من السّفر :
18 - للدّائن في الجملة حقّ منع المدين من السّفر في الدّين الحالّ ، إن لم يكن للمدين مالٌ حاضرٌ يمكنه الاستيفاء منه ، أو كفيلٌ ، أو رهنٌ . وإنّما ثبت هذا الحقّ لأنّ سفر المدين قد يفوّت على الدّائن حقّ المطالبة والملازمة ، وفي ذلك تفصيلٌ تبعاً لنوع الدّين ، والأجل ، والسّفر ، والمدين . ( ر : دينٌ ) .
د - حقّ ملازمة المدين :
19 - من حقّ الدّائن أن يلازم المدين - على تفصيلٍ في هذه الملازمة - إلاّ إذا كان الدّائن رجلاً والمدين امرأةً ؛ لما في ملازمتها من الإفضاء إلى الخلوة بالأجنبيّة ، ولكن يجوز للدّائن أن يبعث بالمرأة تنوب عنه في ملازمتها ، وكذلك العكس .
هـ - طلب الإجبار على الوفاء :
20 - يلزم المدين وفاء دينه ما دام قادراً على ذلك ، فإن امتنع وكان الدّين الّذي عليه مثليّاً وعنده مثله ، قضى القاضي الدّين ممّا عنده جبراً عنه . وأمّا إن كان الدّين مثليّاً ، وما عنده قيميٌّ ، فقد ذهب جمهور الفقهاء ( المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وأبو يوسف ، ومحمّد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة ) إلى أنّ القاضي يبيع ما عند المدين جبراً عنه - عدا حاجاته الضّروريّة - ويقضي دينه . وذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا يجبره القاضي على البيع ، ولكن يحبسه إلى أن يؤدّي الدّين .
و - الحجر على المدين المفلس :
21 - الحجر على المدين المفلس أجازه جمهور الفقهاء ، ومنعه الإمام أبو حنيفة ، وتفصيل ذلك سيأتي في ( حجرٌ ) ( وإفلاسٌ ) .
ز - حبس المدين :
22 - للدّائن أن يطلب حبس المدين الغنيّ الممتنع عن الوفاء .
اختلاف الدّائن والمدين :
23 - إذا اختلف الدّائن والمدين ولا بيّنة لهما ، فالقول قول المدين مع يمينه في الصّفة ، والقدر ، واليسار . وإن كانت لهما بيّنةٌ ، فالبيّنة بيّنة الدّائن في اليسار والإعسار ، وتفصيل ذلك مكانه مبحث ( دعوى ) .


*استدراكٌ
التّعريف
1 - الاستدراك لغةً : استفعالٌ من ( درك ) . والدّرك الدّرك : اللّحاق والبلوغ . يقال : أدرك الشّيء إذا بلغ وقته وانتهى ، وعشت حتّى أدركت زمانه . وللاستدراك في اللّغة استعمالان : الأوّل : أن يستدرك الشّيء بالشّيء ، إذا حاول اللّحاق به ، يقال : استدرك النّجاة بالفرار . والثّاني : في مثل قولهم : استدرك الرّأي والأمر ، إذا تلافى ما فرّط فيه من الخطأ أو النّقص . وللاستدراك في الاصطلاح معنيان :
الأوّل . وهو للأصوليّين والنّحويّين : رفع ما يتوهّم ثبوته من كلامٍ سابقٍ . أو إثبات ما يتوهّم نفيه . وزاد بعضهم : ( باستعمال أداة الاستدراك وهي لكنّ ، أو ما يقوم مقامها من أدوات الاستثناء ) .
الثّاني : وهو ما يرد في كلام الفقهاء كثيراً وهو : إصلاح ما حصل في القول أو العمل من خللٍ أو قصورٍ أو فواتٍ . ومنه عندهم : استدراك نقص الصّلاة بسجود السّهو ، واستدراك الصّلاة إذا بطلت بإعادتها ، واستدراك الصّلاة المنسيّة بقضائها ، والاستدراك بإبطال خطأ القول وإثبات صوابه . ويخصّ الاستدراك الّذي بمعنى فعل الشّيء المتروك بعد محلّه بعنوان « التّدارك » سواءٌ ترك سهواً أو ترك عمداً . كقول الرّمليّ : « إذا سلّم الإمام من صلاة الجنازة تدارك المسبوق باقي التّكبيرات بأذكارها » وقوله : « لو نسي تكبيرات صلاة العيد فتذّكّرها - وقد شرع في القراءة - فاتت فلا يتداركها » .
الألفاظ ذات الصّلة :
أـ الإضراب :
2 - وهو لغةً : الإعراض عن الشّيء والكفّ عنه ، بعد الإقبال عليه . وفي اصطلاح النّحويّين قد يلتبس بالاستدراك « بالمعنى الأوّل » فالإضراب : إبطال الحكم السّابق ببل ، أو نحوها من الأدوات الموضوعة لذلك ، أو ببدل الإضراب . والفرق بينه وبين الاستدراك ، أنّك في الاستدراك لا تبطل الحكم السّابق ، كما في قولك : جاء زيدٌ لكنّ أخاه لم يأت ، فإثبات المجيء لزيدٍ لم يلغ ، بل نفي المجيء عن أخيه ، وفي الإضراب تبطل الحكم السّابق ، فإذا قلت : جاء زيدٌ ، ثمّ ظهر لك أنّك غلطت فيه فقلت : بل عمرٌو أبطلت حكمك الأوّل بإثبات المجيء لزيدٍ ، وجعلته في حكم المسكوت عنه .
ب ـ الاستثناء :
3 - حقيقة الاستثناء : إخراج بعض ما دخل في الكلام السّابق بإلاّ ، أو إحدى أخواتها . ومن هنا كان الاستثناء معيار العموم . أمّا الاستدراك فهو إثبات نقيض الحكم السّابق لما يتوهّم انطباق الحكم عليه . فالفرق أنّ الاستثناء للدّاخل في الأوّل ، وأنّ الاستدراك لما لم يدخل في الأوّل ، ولكن توهّم دخوله ، أو سريان الحكم عليه . ولأجل هذا التّقارب تستعمل أدوات الاستثناء مجازاً في الاستدراك . وهو ما يسمّى في عرف النّحاة : الاستثناء المنقطع ، وحقيقته الاستدراك ( ر : استثناءٌ ) كقوله تعالى : { ما لهم به من علمٍ إلاّ اتّباع الظّنّ } كما يجوز استعمال لكنّ - مثل غيرها ممّا يؤدّي مؤدّاها - في الاستثناء بالمعنى ، إذ الاستثناء بالمعنى ليس له صيغةٌ محدّدةٌ ، كقولك : ما جاء القوم لكن جاء بعضهم .
ج ـ القضاء :
4 - المراد به هنا : فعل العبادة إذا خرج وقتها المقدّر لها شرعاً قبل فعلها صحيحةً ، سواءٌ أتركت عمداً أم سهواً ، وسواءٌ أكان المكلّف قد تمكّن من فعلها في الوقت ، كالمسافر بالنّسبة إلى الصّوم . أم لم يتمكّن ، كالنّائم والنّاسي بالنّسبة للصّلاة . أمّا الاستدراك فهو أعمّ من القضاء ، إذ أنّه يشمل تلافي النّقص بكلّ وسيلةٍ مشروعةٍ ، ومنه قول صاحب مسلّم الثّبوت وشارحه : « القضاء فعل الواجب بعد وقته المقدّر شرعا استدراكاً لما فات » فجعل القضاء استدراكاً .
د ـ الإعادة :
5 - هي : فعل العبادة ثانياً في الوقت لخللٍ واقعٍ في الفعل الأوّل والاستدراك أعمّ من الإعادة كذلك .
هـ ـ التّدارك :
6 - لم نجد أحداً من الفقهاء عرّف التّدارك ، ولكنّه دائرٌ في كلامهم كثيراً ، ويعنون به في الأفعال : فعل العبادة أو فعل جزئها إذا ترك المكلّف فعل ذلك في محلّه المقرّر شرعاً ما لم يفت . كما في قول صاحب كشّاف القناع : « لو دفن الميّت قبل الغسل وقد أمكن غسله لزم نبشه ، وأن يخرج ويغسّل تداركاً لواجب غسله » . وقد يقع الغلط في الأقوال فيحتاج الإنسان إلى تداركه ، بأن يبطله ويثبت الصّواب ، ولذلك طرقٌ منها : بدل الغلط ، ومنها « بل » في الإيجاب والأمر . وفسّر بعضهم التّدارك ببل بكون الإخبار الأوّل أولى منه الإخبار الثّاني ، فيعرض عن الأوّل إلى الثّاني ، لا أنّه إبطال الأوّل وإثبات الثّاني .
و ـ الإصلاح :
7 - وهو اصطلاحٌ للمالكيّة ذكروه في باب سجود السّهو في مواضع منها : قول الدّردير « من كثر منه الشّكّ فلا إصلاح عليه ، فإن أصلح بأن أتى بما شكّ فيه لم تبطل صلاته » ( فهو بمعنى التّدارك ) .
ز ـ الاستئناف :
8 – استئناف العمل : ابتداؤه ، أي فعله مرّةً أخرى إذا نقض الفعل الأوّل قبل تمامه . فاستئناف الصّلاة تجديد التّحريمة بعد إبطال التّحريمة الأولى ، وبهذا المعنى وقع في قولهم : « المصلّي إذا سبقه الحدث يتوضّأ ، ثمّ يبني على صلاته ، أو يستأنف ، والاستئناف أولى » وكاستئناف الأذان إذا قطعه بفاصلٍ طويلٍ ، واستئناف الصّوم في كفّارة الظّهار إذا انقطع التّتابع . فالاستئناف على هذا طريقةٌ من طرق الاستدراك ، والتّفصيل في مصطلح ( استئنافٌ ) .
هذا وبسبب استعمال هذا المصطلح « الاستدراك » بمعنيين :
أحدهما : الاستدراك القوليّ بأداة الاستدراك وما يقوم مقامها ،
والآخر : الاستدراك بإصلاح الخلل في الأفعال والأقوال ، ينقسم البحث قسمين تبعاً لذلك . القسم الأوّل الاستدراك القوليّ بـ « لكنّ » وأخواتها
صيغ الاستدراك :
هي : لكنّ ( مشدّدةٌ ) ولكن ( مخفّفةٌ ) وبل وعلى ، وأدوات الاستثناء .
9 - أ - لكنّ : وهي أمّ الباب . وهي الموضوعة له . وقد ذكر بعض الأصوليّين أنّه يشترط في استعمال « لكنّ » وما في معناها للاستدراك : الاختلاف بين ما قبل ( لكنّ ) وما بعدها بالإيجاب والسّلب لفظاً ، نحو ما جاء زيدٌ لكنّ أخاه جاء . ولو كان الاختلاف معنويّاً جاز أيضاً . كقول القائل : عليٌّ حاضرٌ لكنّ أخاه مسافرٌ ، أي ليس بحاضرٍ .
ب - لكن : « بسكون النّون » فهي في الأصل مخفّفةٌ من « لكنّ » ، وتكون على حالين : أحدهما : وهو الأغلب أن تكون ابتدائيّةً فتليها جملةٌ ، كقوله تعالى : { وإن من شيءٍ إلاّ يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } والحال الثّاني : أن تكون عاطفةً ، ويشترط لذلك : أن يسبقها نفيٌ أو نهيٌ ، وأن يليها مفردٌ ، وألاّ تدخل عليها الواو مثل : ما جاء زيدٌ لكن عمرٌو . ولا تخلو في كلا الحالين من معنى الاستدراك ، فتقرّر حكم ما قبلها ، وتثبت نقيضه لما بعدها .
ج - بل : إذا سبقها نفيٌ أو نهيٌ تكون حرف استدراكٍ مثل ( لكن ) تقرّر حكم ما قبلها ، وتثبت نقيضه لما بعدها . فإن وقعت بعد إيجابٍ أو أمرٍ لم تفد ذلك ، بل تفيد الإضراب عن الأوّل ، حتّى كأنّه مسكوتٌ عنه ، وتنقل حكمه لما بعدها ، كقولك : جاء زيدٌ بل عمرٌو ، وهذا ما يسمّى بالإضراب الإبطاليّ . قال السّعد : « أي إنّ الإخبار عنه ما كان ينبغي أن يقع . وإذا انضمّ إليه « لا » صار نصّاً في نفي الأوّل » . ولذا لا يقع مثله في القرآن ولا في السّنّة ، إلاّ على سبيل الحكاية . وقد تكون للإضراب الانتقاليّ ، أي من غرضٍ إلى آخر ، ومنه قوله تعالى : { قد أفلح من تزكّى وذكر اسم ربّه فصلّى بل تؤثرون الحياة الدّنيا } .
د - على : تستعمل للاستدراك ، كما في قول الشّاعر : بكلٍّ تداوينا فلم يشف ما بنا على أنّ قرب الدّار خيرٌ من البعد على أنّ قرب الدّار ليس بنافعٍ إذا كان من تهواه ليس بذي ودّ .
هـ - ( أدوات الاستثناء ) : قد تستخدم أدوات الاستثناء في الاستدراك ، فيقولون : زيدٌ غنيٌّ غير أنّه بخيلٌ ، ومنه قوله تعالى { قال لا عاصم اليوم من أمر اللّه إلاّ من رحم } وهذا ما يسمّى الاستثناء المنقطع ( ر : استثناءٌ ) ، فيستعمل في ذلك ( إلاّ وغير ) ، ويستعمل فيه أيضاً ( سوى ) على الأصحّ عند أهل اللّغة .
شروط الاستدراك :
10 - يشترط لصحّة الاستدراك شروطٌ ، وهي : الشّرط الأوّل : اتّصاله بما قبله ولو حكماً . فلا يضرّ انفصاله بما له تعلّقٌ بالكلام الأوّل ، أو بما لا بدّ له منه ، كتنفّسٍ وسعالٍ ونحو ذلك . فإن حال بينه وبين الأوّل سكوتٌ يمكنه الكلام فيه ، أو كلامٌ أجنبيٌّ عن الموضوع ، استقرّ حكم الكلام الأوّل ، وبطل الاستدراك . فلو أقرّ لزيدٍ بثوبٍ ، فقال زيدٌ : ما كان لي قطّ ، لكن لعمرٍو ، فإن وصل فلعمرٍو ، وإن فصل فللمقرّ ، لأنّ النّفي يحتمل أمرين : يحتمل أن يكون تكذيباً للمقرّ وردّاً لإقراره ، وهو الظّاهر من الكلام ، فيكون النّفي ردّاً إلى المقرّ . ويحتمل ألاّ يكون تكذيباً ، إذ يجوز أن يكون الثّوب معروفاً بكونه لزيدٍ ، ثمّ وقع في يد المقرّ فأقرّ به لزيدٍ ، فقال زيدٌ : الثّوب معروفٌ بكونه لي ، لكنّه في الحقيقة لعمرٍو ، فقوله : « لكنّه لعمرٍو » بيان تغييرٍ لذلك النّفي ، فيتوقّف على الاتّصال ؛ لأنّ بيان التّغيير عند الحنفيّة لا يصحّ إلاّ موصولاً ، ولا يصحّ متراخياً ، فإن وصل يثبت النّفي عن زيدٍ والإثبات لعمرٍو معاً ، إذ صدر الكلام موقوفٌ على آخره فيثبت حكمهما معاً . ولو فصل يصير النّفي ردّاً للإقرار . ثمّ لا تثبت الملكيّة لعمرٍو بمجرّد إخباره بذلك . الشّرط الثّاني : اتّساق الكلام أي انتظامه وارتباطه . والمراد أن يصلح للاستدراك ، بأن يكون الكلام السّابق للأداة بحيث يفهم منه المخاطب عكس الكلام اللاّحق لها ، أو يكون فيما بعد الأداة تداركٌ لما فات من مضمون الكلام . نحو : ما قام زيدٌ لكن عمرٌو ، بخلاف نحو : ما جاء زيدٌ لكن ركب الأمير ، وفسّر صاحب المنار الاتّساق : بكون محلّ النّفي غير محلّ الإثبات ، ليمكن الجمع بينهما ولا يناقض آخر الكلام أوّله ، ثمّ إن اتّسق الكلام فهو استدراكٌ ، وإلاّ فهو كلامٌ مستأنفٌ . ومثّل في التّوضيح للمتّسق من الاستدراك بما لو قال المقرّ : لك عليّ ألفٌ قرضٌ ، فقال له المقرّ له : لا ، لكن غصبٌ . الكلام متّسقٌ فصحّ الوصل على أنّه نفيٌ لسبب الحقّ ، وهو كون المقرّ به عن قرضٍ ، لا نفيٍ للواجب وهو الألف . فإنّ قوله : « لا » لا يمكن حمله على نفي الواجب ؛ لأنّ حمله على نفي الواجب لا يستقيم مع قوله : « لكن غصبٌ » ولا يكون الكلام متّسقاً مرتبطاً . فلمّا نفى كونه قرضاً تدارك بكونه غصباً ، فصار الكلام مرتبطاً ، ولا يكون ردّاً لإقراره بل يكون لمجرّد نفي السّبب . ومن أمثلة ما يجب حمله على الاستئناف عند الحنفيّة : ما إذا تزوّجت الصّغيرة المميّزة من كفءٍ بغير إذن وليّها بمائةٍ ، فقال الوليّ : لا أجيز النّكاح لكن أجيزه بمائتين . قالوا : ينفسخ النّكاح ، ويجعل « لكن » وما بعدها كلاماً مبتدأً ؛ لأنّه لمّا قال : « لا أجيز النّكاح » انفسخ النّكاح الأوّل ، فإنّ النّفي انصرف إلى أصل النّكاح ، فلا يمكن إثبات ذلك النّكاح بعد ذلك بمائتين ؛ لأنّه يكون نفي النّكاح وإثباته بعينه ، فيعلم أنّه غير متّسقٍ ، فيحمل « لكن بمائتين » على أنّه كلامٌ مستأنفٌ ، فيكون إجازةً لنكاحٍ آخر ، المهر فيه مائتان . وإنّما يكون كلامه متّسقاً لو قال بدل ذلك : لا أجيز هذا النّكاح بمائةٍ لكن أجيزه بمائتين ؛ لأنّ النّفي ينصرف إلى القيد وهو كونه بمائةٍ ، لا إلى أصل النّكاح ، فيكون الاستدراك في المهر لا في أصل النّكاح . وبذلك لا يكون قوله إبطالاً للنّكاح ، فلا ينفسخ به . وفي عدم الاتّساق في هذا المثال اختلافٌ بين الأصوليّين من الحنفيّة . الشّرط الثّالث : أن يكون الاستدراك بلفظٍ مسموعٍ إن تعلّق به حقٌّ . وأدناه أن يسمع نفسه ومن بقربه . قال الحصكفيّ : يجري ذلك في كلّ ما يتعلّق بنطقٍ كتسميته على ذبيحةٍ ، وطلاقٍ ، واستثناءٍ وغيرها . فلو طلّق أو استثنى ولم يسمع نفسه ، لم يصحّ في الأصحّ . وقيل في نحو البيع : يشترط سماع المشتري .
القسم الثّاني
الاستدراك بمعنى تلافي النّقص والقصور .
11 -الاستدراك إمّا أن يكون لما فعله الإنسان ناقصاً عن الوضع الشّرعيّ المقرّر للعبادة ، كمن ترك ركعةً من الصّلاة أو سجوداً فيها ، وإمّا أن يكون فيما أخبر به ، ثمّ تبيّن له خطؤه ، أو فيما فعله من التّصرّفات ، ثمّ تبيّن له أنّ التّصرّف على غير ذلك الوضع أتمّ وأولى ، كمن باع شيئاً ولم يشترط ، ثمّ بدا له أن . يشترط شرطاً لمصلحته . فالكلام في هذا القسم يرجع إلى مبحثين : الأوّل : الاستدراك بمعنى تلافي القصور عن الوضع الشّرعيّ . والثّاني : تلافي القصور عن الحقيقة ، حقيقةً أو ادّعاءً في باب الإخبار ، أو عمّا فيه المصلحة للمكلّف بحسب تصوّره ، في باب الإنشاء .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
أوّلاً : الاستدراك بمعنى تلافي النّقص عن الأوضاع الشّرعيّة :
12 - هذا النّقص يقع في العبادات الّتي لها أوضاعٌ شرعيّةٌ مقرّرةٌ ، كالوضوء والصّلاة ، فإنّ لكلٍّ منهما أركاناً وسنناً وهيئاتٍ ، تفعل بترتيباتٍ معيّنةٍ . ثمّ قد يترك المكلّف فعل شيءٍ منها في محلّه لسببٍ من الأسباب الخارجة عن إرادته ، كالمسبوق في الصّلاة أو النّاسي أو المكره ، وقد يترك ذلك عمداً ، وقد يفعل المكلّف الفعل عمداً على غير الوجه المطلوب شرعاً ، أو يقع عليه بغير إرادته ما يمنع صحّة العبادة أو صحّة جزءٍ منها . والشّريعة قد أتاحت الفرصة في كثيرٍ من الصّور لاستدراك النّقص الحاصل في العمل .
وسائل استدراك النّقص في العبادة :
13 - لاستدراك النّقص في العبادة طرقٌ مختلفةٌ بحسب أحوال ذلك النّقص . ومن تلك الوسائل :
( أ ) القضاء : ويكون الاستدراك بالقضاء في العبادة الواجبة أو المسنونة بعد خروج وقتها المقدّر لها شرعاً ، سواءٌ فاتت عمداً ، أو سهواً كما تقدّم . وسواءٌ كان المكلّف لم يفعل العبادة أصلاً ، أو فعلها على فسادٍ ؛ لترك ركنٍ ، أو لفوات شرطٍ من شروط الصّحّة ، أو لوجود مانعٍ . وفي استدراك العبادة المسنونة بالقضاء خلافٌ بين الفقهاء ، وتفصيله في ( قضاء الفوائت ) .
( ب ) الإعادة : وهي فعل العبادة مرّةً أخرى في وقتها لما وقع في فعلها أوّلاً من الخلل . ولمعرفة مواقع الاستدراك بالإعادة وأحكام الإعادة ( ر : إعادةٌ )
( ج ) الاستئناف : فعل العبادة من أوّلها مرّةً أخرى بعد قطعها والتّوقّف فيها لسببٍ من الأسباب ، ولمعرفة مواقع الاستدراك بالاستئناف ( ر : استئنافٌ ) .
( د ) الفدية : كاستدراك فائت الصّوم بفدية طعام مسكينٍ لكلّ يومٍ ممّن لم يستطع الصّوم ؛ لكبرٍ أو مرضٍ مزمنٍ . وكاستدراك النّقص الحاصل في الإحرام ممّن قصّ شعره ، أو لبس ثياباً بفديةٍ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ ( ر : إحرامٌ ) وشبيهٌ بذلك هدي الجبران في الحجّ . وتفصيل ذلك في ( الحجّ ) .
(هـ ) الكفّارة : كاستدراك المكلّف ما أفسده من الصّوم بالجماع بالكفّارة ( ر : كفّارةٌ ) .
( و ) سجود السّهو : يستدرك به النّقص الحاصل في الصّلاة في بعض الأحوال . ( ر : سجود السّهو ) .
( ز ) التّدارك : هو الإتيان بجزء العبادة بعد موضعه المقرّر شرعاً . ثمّ قد يكون الاستدراك بواحدٍ ممّا ذكر ، وقد يكون بأكثر ، كما في ترك شيءٍ من أركان الصّلاة ، فإنّ المكلّف يتداركه ويسجد للسّهو ، وكما في الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما لو صامتا ، فإنّ لهما الإفطار ، ويلزمهما القضاء والفدية على قول الحنابلة ، والشّافعيّة على المشهور عندهم .
ثانياً : تلافي القصور في الإخبار والإنشاء .
14 - من تكلّم بكلامٍ خبريٍّ أو إنشائيٍّ ثمّ بدا له أنّه غلط في كلامه ، أو نقص من الحقيقة ، أو زاد عليها ، أو بدا له أن ينشئ كلاماً مخالفاً لما كان قد قاله فله أن يفعل ذلك ، بل قد يجب عليه في بعض الأحوال ، وخاصّةً في الكلام الخبريّ ، إذ أنّه بذلك يتدارك ما وقع في كلامه من الكذب والإخبار بخلاف الحقّ ، ولكن إن ثبت بالكلام الأوّل حقٌّ ، كمن حلف يميناً ، أو قذف غيره ، أو أقرّ له ، ففي حكم الكلام المخالف التّالي له تفصيلٌ ، فإنّ له صورتين . الصّورة الأولى : أن يكون متّصلاً بالأوّل . فله حالتان .
الحالة الأولى : أن يرتبط الثّاني بالأوّل بطريقٍ من طرق التّخصيص ، فيثبت حكمهما تبعاً حيث أمكن ، سواءٌ أكان ممّا يمكن الرّجوع عنه كالوصايا ، أم كان ممّا لا رجوع فيه كالإقرار ، فلو كان الثّاني استثناءً ثبت حكم المستثنى ، وخرج من حكم المستثنى منه ، كمن قال : له عليّ عشرةٌ إلاّ ثلاثةً ، أو قال : أعطه عشرةً إلاّ ثلاثةً ، كان الباقي سبعةً في كلٍّ من المسألتين . وهكذا في كلّ ما يتغيّر به الحكم في المتكلّم به ، كالشّرط والصّفة والغاية وسائر المخصّصات المتّصلة . فالشّرط كما لو قال : وهبتك مائة دينارٍ إن نجحت . والصّفة كما لو قال : أبرأتك من ثمن الإبل الّتي هلكت عندك . والغاية كما لو قال للوصيّ : أعطه كلّ يومٍ درهماً إلى شهرٍ ، فإنّ كلاًّ من هذه المخصّصات تغيّر به الحكم كلاًّ أو بعضاً . قال القرافيّ : القاعدة أنّ كلّ كلامٍ لا يستقلّ بنفسه إذا اتّصل بكلامٍ مستقلٍّ بنفسه صيّره غير مستقلٍّ بنفسه ، وكذلك الصّفة والاستثناء والشّرط والغاية ونحوها . وجعل منه ما لو قال المقرّ : « له عليّ ألفٌ من ثمن خمرٍ » فقال فيها : لا يلزمه شيءٌ ، وتقييد حكم هذه الحالة بأنّه « حيث أمكن » ليخرج نحو قول المقرّ : له عليّ عشرةٌ إلاّ تسعةً ، إذ تلزمه عند الحنابلة العشرة ويسقط حكم الاستثناء ؛ لأنّه لا يجوز عندهم استثناء أكثر من النّصف . ومثلها عندهم لو قال : له عليّ ألفٌ من ثمن خمرٍ . ولا خلاف في ذلك في المخصّصات .
الحالة الثّانية : أن يتغيّر الحكم بكلامٍ مستقلٍّ ، ومثاله ما لو قال المقرّ : له الدّار وهذا البيت منها لي ، فيؤخذ بإقراره ، ويعمل بالقيد في الجملة الثّانية ، وهو المذهب عند الحنابلة ؛ لأنّ المعطوف بالواو مع المعطوف عليه في حكم الجملة الواحدة ، خلافاً لاختيار ابن عقيلٍ بأنّه لا يعمل القيد قضاءً ؛ لأنّ المعطوف بالواو جملةٌ مستقلّةٌ . وعند المالكيّة ما يفيد أنّ مذهبهم كمذهب الحنابلة . لكن لو عطف في الإثبات أو الأمر بـ « بل » . قال صدر الشّريعة « إنّ ( بل ) للإعراض عمّا قبله وإثبات ما بعده على سبيل التّدارك » فإن كان فيما يقبل الرّجوع فيه كالوصيّة أو التّولية أو الخبر المجرّد ، لغا الأوّل وثبت الثّاني ، كما لو قال : أوصيت لزيدٍ بألفٍ بل بألفين ، يثبت ألفان فقط . أو قول الإمام : ولّيت فلاناً قضاء كذا بل فلاناً ، أو قول القائل : ذهبت إلى زيدٍ بل إلى عمرٍو . وإن كان ممّا لا رجوع فيه كالإقرار والطّلاق ثبت حكم الأوّل ، ولم يمكن إبطاله ، فلو قال المقرّ : له عليّ ألف درهمٍ ، بل ألف ثوبٍ ، يلزمه الجميع ؛ لأنّهما من جنسين . ولو قال : له عليّ ألف درهمٍ ، بل ألفان يثبت الألفان ، قال التّفتازانيّ : « لأنّ التّدارك في الأعداد يراد به نفي انفراد ما أقرّ به أوّلاً ، لا نفي أصله ، فكأنّه قال أوّلاً : له عليّ ألفٌ ليس معه غيره ، ثمّ تدارك ذلك الانفراد وأبطله » ، وفي هذه المسألة خلاف زفر إذ قال : « بل يثبت ثلاثة آلافٍ » . ولم يختلف قول الحنفيّة في أنّه لو قال : أنت طالقٌ طلقةً بل طلقتين أنّه يقع به – في المدخول بها – ثلاث طلقاتٍ . ووجّه صاحب مسلّم الثّبوت وشارحه الفرق بين مسألتي الإقرار والطّلاق بأنّ الإقرار إخبارٌ على الأصحّ فلا يثبت شيئاً ، فله أن يعرض عن خبرٍ كان أخبر به ، ويخبر بدله بخبرٍ آخر ، بخلاف الإنشاء إذ به يثبت الحكم ، وليس في يده بعد ثبوته أن يعرض عنه . أمّا عند الحنابلة : فلا يقع في مسألة الطّلاق المذكورة إلاّ طلقتان ، كما لا يلزمه في مسألة الإقرار إلاّ ألفان .
الصّورة الثّانية : أن يكون الكلام الثّاني متراخياً عن الأوّل منفصلاً عنه . فله حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون في كلامٍ لا يمكن الرّجوع عنه ، ولا يقبل منه ، كالأقارير والعقود ، فلا يكون الإقرار الثّاني ولا العقد الثّاني رجوعاً عن الأوّل . فلو أقرّ له بمائة درهمٍ ، ثمّ سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه ، ثمّ قال « زائفةٌ » أو « إلى شهرٍ » لزمه مائةٌ جيّدةٌ حالّةٌ .
الحالة الثّانية : أن يكون رجوعه ممكناً ، كالوصيّة وعزل الإمام أحداً ممّن يمكنه عزلهم وتوليتهم ، فإن صرّح برجوعه عن الأوّل ، أو بإلحاقه شرطاً ، أو تقييده بحالٍ ، أو غير ذلك لحق - وإن لم يتبيّن أنّه قصد الرّجوع - فهذا يشبه التّعارض في الأدلّة الشّرعيّة ، فهو تبديلٌ عند الحنفيّة مطلقاً . ولو كان خاصّاً بعد عامٍّ أو عكسه فالعمل بالثّاني بكلّ حالٍ . وعند غيرهم قد يجري فيه تقديم الخاصّ على العامّ سواءٌ أكان الخاصّ سابقاً أم متأخّراً .


*استدلالٌ
التعريف
1 - الاستدلال لغةً : طلب الدّليل ، وهو من دلّه على الطّريق دلالةً : إذا أرشده إليه . وله في عرف الأصوليّين إطلاقاتٌ . أهمّها اثنان : الأوّل : أنّه إقامة الدّليل مطلقاً ، أي سواءٌ أكان الدّليل نصّاً ، أم إجماعاً ، أم غيرهما . والثّاني : أنّه الدّليل الّذي ليس بنصٍّ ولا إجماعٍ ولا قياسٍ . وفي قولٍ : الدّليل الّذي ليس بنصٍّ ولا إجماعٍ ولا قياسٍ علّةٌ . قال الشّربينيّ : « الاستفعال يرد لمعانٍ . وعندي أنّ المراد منها هنا ( أي في هذا الإطلاق الثّاني ) الاتّخاذ . والمعنى أنّ هذه الأشياء اتّخذت أدلّةً ، أمّا الكتاب والسّنّة والإجماع والقياس فقيامها أدلّةً لم ينشأ عن صنيع المجتهدين واجتهادهم ، أمّا الاستصحاب ونحوه ممّا اعتبر استدلالاً فشيءٌ قاله كلّ إمامٍ بمقتضى اجتهاده ، فكأنّه اتّخذه دليلاً » .
2 - فعلى هذا الإطلاق الثّاني يدخل في الاستدلال الأدلّة التّالية :
( أ ، ب ) - القياس الاقترانيّ ، والقياس الاستثنائيّ ، وهما نوعا القياس المنطقيّ . مثال الاقترانيّ : النّبيذ مسكرٌ ، وكلّ مسكرٍ حرامٌ ، ينتج : النّبيذ حرامٌ . ومثال الاستثنائيّ : إن كان النّبيذ مسكراً فهو حرامٌ ، لكنّه مسكرٌ ، ينتج : فهو حرامٌ . أو : إن كان النّبيذ مباحاً فهو ليس بمسكرٍ ، لكنّه مسكرٌ ، ينتج : فهو ليس بمباحٍ .
( ج ) وقياس العكس : ذكر السّبكيّ أنّه من الاستدلال . وقياس العكس هو : إثبات عكس حكم شيءٍ لمثله ، لتعاكسهما في العلّة ، كما في حديث مسلمٍ : « وفي بضع أحدكم صدقةٌ قالوا : أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجرٌ ؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزرٌ ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ »
( د ) وقول العلماء : الدّليل يقتضي ألاّ يكون الأمر كذا ، خولف في صورة كذا ، لمعنًى مفقودٍ في صورة النّزاع ، فتبقى هي على الأصل الّذي اقتضاه الدّليل .
( هـ ) انتفاء الحكم لانتفاء دليله ، بأن لم يجده المجتهد بعد الفحص الشّديد ، فعدم وجدانه دليلٌ على انتفاء الحكم . قال في المحلّى : خلافاً للأكثر .
( و ) قول العلماء : وجد السّبب فوجد الحكم ، أو وجد المانع أو فقد الشّرط فانتفى الحكم ، قال السّبكيّ : خلافاً للأكثر .
( ز ) الاستقراء وهو : الاستدلال بالجزئيّ على الكلّيّ . قال السّبكيّ : فإن كان تامّاً بكلّ الجزئيّات إلاّ صورة النّزاع ، فهو دليلٌ قطعيٌّ عند الأكثر ، وإن كان ناقصاً ، أي بأكثر الجزئيّات ، فدليلٌ ظنّيٌّ . ويسمّى هذا عند الفقهاء بإلحاق الفرد بالأغلب .
( ح ) الاستصحاب وهو كما عرّفه السّعد : الحكم ببقاء أمرٍ كان في الزّمان الأوّل ، ولم يظنّ عدمه ، وينظر تفصيل القول فيه في بحث الاستصحاب ، وفي الملحق الأصوليّ . ونفى قومٌ أن يكون استدلالاً .
( ط ) شرع من قبلنا ، على تفصيلٍ فيه ، يرجع إليه في الملحق الأصوليّ . ونفى قومٌ أن يكون استدلالاً . ذكر هذه الأنواع التّسعة السّبكيّ في جمع الجوامع .
( ي ) وزاد الحنفيّة الاستحسان ، واستدلّ به غيرهم لكن سمّوه بأسماءٍ أخرى .
( ك ) وزاد المالكيّة المصالح المرسلة . وسمّاه الغزاليّ الاستدلال المرسل . وسمّاه أيضاً الاستصلاح ، واستدلّ به غيرهم .
( ل ) ويدخل في الاستدلال أيضاً : القياس في معنى الأصل ، وهو المسمّى بتنقيح المناط .
( م ) وفي كشف الأسرار للبزدويّ : الاستدلال هو : انتقال الذّهن من المؤثّر إلى الأثر ، وقيل بالعكس ، وقيل مطلقاً . وقيل : بل الانتقال من المؤثّر إلى الأثر يسمّى تعليلاً ، والانتقال من الأثر إلى المؤثّر يسمّى استدلالاً .
3 - وأكثر هذه الأنواع يفصّل القول فيها تحت مصطلحاتها الخاصّة ، ويرجع إليها أيضاً في الملحق الأصوليّ .
مواطن البحث في كلام الفقهاء :
4 - يرد عند الفقهاء ذكر الاستدلال في مواطن كثيرةٍ . منها في مبحث استقبال القبلة : الاستدلال بالنّجوم ، ومهابّ الرّياح ، والمحاريب المنصوبة وغير ذلك ، على القبلة . ومنها في مبحث مواقيت الصّلاة : الاستدلال بالنّجوم ومقادير الظّلال على ساعات اللّيل والنّهار ، ومواعيد الصّلاة . ومنها في مبحث الدّعاوى والبيّنات : الاستدلال على الحقّ بالشّهادات ، والقرائن والفراسة ونحو ذلك .


*استراق السّمع
التعريف
1 - قال أهل اللّغة : استراق السّمع يعني التّسمّع مستخفياً . وقال القرطبيّ في تفسيره : هو الخطفة اليسيرة .
الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّجسّس :
2 - التّجسّس هو : التّفتيش عن بواطن الأمور ، ومن الفروق بين التّجسّس واستراق السّمع ما يلي : أنّ التّجسّس هو التّنقيب عن أمورٍ معيّنةٍ ، يبغي المتجسّس الحصول عليها ، أمّا استراق السّمع فيكون بحمل ما يقع له من معلوماتٍ . وأنّ التّجسّس مبناه على الصّبر والتّأنّي للحصول على المعلومات المطلوبة ، أمّا استراق السّمع فإنّ مبناه على التّعجّل . ويرى البعض : أنّ التّجسّس يعني البحث عن العورات ، وأنّه أكثر ما يقال في الشّرّ . أمّا استراق السّمع فيكون فيه حمل ما يقع له من أقوالٍ ، خيراً كانت أم شرّاً .
ب - التّحسّس :
3 - التّحسّس أعمّ من استراق السّمع ، قال في عون المعبود في شرح قوله صلى الله عليه وسلم : « ولا تحسّسوا » أي : لا تطلبوا الشّيء بالحاسّة ، كاستراق السّمع . ويقرب من هذا ما في شرح النّوويّ لصحيح مسلمٍ ، وما في فتح الباري وعمدة القاريّ لشرح صحيح البخاريّ .
الحكم التّكليفيّ :
4 - الأصل تحريم استراق السّمع ، وقد ورد النّهي عنه على لسان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : « من استمع إلى حديث قومٍ وهم له كارهون ، أو يفرّون منه ، صبّ في أذنيه الآنك يوم القيامة » . ولقوله صلى الله عليه وسلم « إيّاكم والظّنّ ، فإنّ الظّنّ أكذب الحديث ، ولا تحسّسوا ولا تجسّسوا » ولأنّ الأسرار الشّخصيّة للنّاس محترمةٌ لا يجوز انتهاكها إلاّ بحقٍّ مشروعٍ .
5 - يستثنى من هذا النّهي : الحالات الّتي يشرع فيها التّجسّس ( الّذي هو أشدّ تحريماً من استراق السّمع ) كما لو تعيّن التّجسّس أو استراق السّمع طريقاً إلى إنقاذ نفسٍ من الهلاك ، كأن يخبر ثقةٌ بأنّ فلاناً خلا بشخصٍ ليقتله ظلماً ، فيشرع في هذه الصّورة التّجسّس ، وما هو أدنى منه من استراق السّمع . كما يستثنى من ذلك أيضاً : استراق وليّ الأمر السّمع بنيّة معرفة الخلل الواقع في المجتمع ؛ ليقوم بإصلاحه ، فيحلّ للمحتسب استراق السّمع ، كما يحلّ له أن ينشر عيونه ؛ لينقلوا له أخبار النّاس وأحوال السّوقة ، ليعرف ألاعيبهم وطرق تحايلهم ، فيضع لهم من أساليب القمع ما يدرأ ضررهم عن المجتمع ، قال في نهاية الرّتبة في طلب الحسبة : « ويلازم المحتسب الأسواق والدّروب في أوقات الغفلة عنه ، ويتّخذ له فيها عيوناً يوصّلون إليه الأخبار وأحوال السّوقة » . وقد كان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يعسّ في شوارع المدينة المنوّرة ليلاً يسترق السّمع ، ويتسقّط أخبار المسلمين لمعرفة أحوالهم ، ويعين ذا الحاجة ، ويرفع الظّلم عن المظلوم ، ويكتشف الخلل ليسارع إلى إصلاحه ، وقصصه في ذلك كثيرةٌ لا تحصى .
عقوبة استراق السّمع :
6 - إذا كان استراق السّمع منهيّاً عنه في الجملة إلاّ في حالاتٍ - وإتيان المنهيّ عنه يوجب التّعزير - فإنّ استراق السّمع في غير الحالات المسموح به فيها يستحقّ فاعله التّعزير . ويرجع في تفصيل أحكام استراق السّمع إلى مصطلح ( تجسّسٌ ) . وإلى باب الجهاد ( قتل الجاسوس ) وإلى الحظر والإباحة ( أحكام النّظر ) .


*استرجاعٌ
التعريف
1 - الاسترجاع لغةً : مادّتها رجع ، أي : انصرف . واسترجعت منه الشّيء : إذا أخذت منه ما دفعته إليه . واسترجع الرّجل عند المصيبة : قال : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون .
ويستعمل عند الفقهاء بمعنيين :
أ - بمعنى استردادٍ ، ومن ذلك قولهم : للمشتري - بعد فسخه بالعيب - حبس المبيع إلى حين استرجاع ثمنه من البائع . وقولهم : السّلع المبيعة أو المجعولة ثمناً إذا علم بعيوبها من صارت إليه بعد العقد فإنّ له الفسخ ، واسترجاع عوضها من قابضه إن كان باقياً ، أو بدله إن تعذّر ردّه . ( ر : استردادٌ ) .
ب - بمعنى قول : « إنّا للّه وإنّا إليه راجعون » ، عند المصيبة . وتفصيل الكلام في ذلك على الوجه الآتي :
متى يشرع الاسترجاع عند المصيبة ؟ ومتى لا يشرع ؟ .
2 - يشرع الاسترجاع عند كلّ ما يبتلى به الإنسان من مصائب ، عظمت أو صغرت . والأصل فيه قول اللّه عزّ وجلّ : { ولنبلونّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثّمرات وبشّر الصّابرين الّذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنّا للّه وإنّا إليه راجعون أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون } وإنّما يشرع الاسترجاع عند كلّ شيءٍ يؤذي الإنسان ويضرّه ؛ لما روي « أنّه طفئ سراج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون فقيل : أمصيبةٌ هي ؟ قال : نعم ، كلّ شيءٍ يؤذي المؤمن فهو له مصيبةٌ » وقال صلى الله عليه وسلم : « ليسترجع أحدكم في كلّ شيءٍ ، حتّى في شسع نعله ، فإنّها من المصائب » . وغير ذلك كثيرٌ ممّا روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
3 - والحكمة في الاسترجاع عند المصائب : الإقرار بعبوديّة اللّه ووحدانيّته ، والتّصديق بالمعاد ، والرّجوع إليه ، والتّسليم بقضائه ، والرّجاء في ثوابه . ولذلك يقول النّبيّ : « من استرجع عند المصيبة جبر اللّه مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه » .
4 - أمّا متى لا يشرع : فمعلومٌ أنّ الاسترجاع بعض آيةٍ من القرآن الكريم ، وأنّه يحرم على غير الطّاهر قراءة أيّ شيءٍ منه ، ولو بعض آيةٍ . وقد ذكر الفقهاء في كتبهم : أنّه يحرم على الجنب والحائض والنّفساء قراءة شيءٍ من القرآن وإن قلّ ، حتّى بعض آيةٍ ، ولو كان يقرأ في كتاب فقهٍ أو غيره فيه احتجاجٌ بآيةٍ حرم عليه قراءتها ؛ لأنّه يقصد القرآن للاحتجاج ، أمّا إذا كان لا يقصد القرآن فلا بأس ؛ لأنّهم قالوا : يجوز للجنب والحائض والنّفساء أن تقول عند المصيبة : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، إذا لم تقصد القرآن .
حكمه التّكليفيّ :
5 - يذكر الفقهاء أنّ الاسترجاع ينطوي على أمرين :
أ - قولٍ باللّسان ، وهو أن يقول عند المصيبة : إنّا للّه وإنّا إليه راجعون . وهذا مستحبٌّ .
ب - عملٍ بالقلب ، وهو الاستسلام والصّبر والتّوكّل ، وما يتبع ذلك ، وهذا واجبٌ .


*استردادٌ
التعريف
1 - الاسترداد في اللّغة : طلب الرّدّ ، يقال : استردّ الشّيء وارتدّه : طلب ردّه عليه ، ويقال : وهب هبةً ثمّ ارتدّها أي : استردّها ، واستردّه الشّيء : سأله أن يردّه عليه . ولم يخرج الفقهاء في استعمالهم عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الردٌّ :
2 - الرّدّ : هو صرف الشّيء ورجعه . فالرّدّ قد يكون أثراً للاسترداد ، وقد يحصل الرّدّ بلا استردادٍ .
ب - الارتجاعٌ - الاسترجاعٌ :
3 - يقال رجع في هبته : إذا أعادها إلى ملكه ، وارتجعها واسترجعها كذلك ، واسترجعت منه الشّيء : إذا أخذت منه ما دفعته إليه . ويتبيّن من ذلك أنّ الاسترداد والارتجاع والاسترجاع بمعنًى واحدٍ لغةً واصطلاحاً .
صفته : حكمه التّكليفيّ :
4 - الاسترداد من التّصرّفات الجائزة ، وقد يعرض له الوجوب ، كما في البيوع الفاسدة ، حيث يجب الفسخ ، فإن كانت السّلعة قائمةً ردّت بعينها ، وإن كانت فائتةً ردّت قيمتها على البائع بالغةً ما بلغت ، وردّ الثّمن على المشتري ، وذلك في الجملة ، على خلافٍ تفصيله في مصطلحي : ( فسادٌ - وبطلانٌ ) لأنّ الفسخ حقّ الشّرع . وقد يحرم الاسترداد ، كمن أخرج صدقةً ، فإنّه يحرم عليه استردادها ؛ لقول عمر : من وهب هبةً على وجه صدقةٍ فإنّه لا يرجع فيها ولأنّ المقصود هو الثّواب وقد حصل .
أسباب حقّ الاسترداد :
للاسترداد أسبابٌ متنوّعةٌ منها : الاستحقاق ، والتّصرّفات الّتي لا تلزم ، وفساد العقد .. إلخ وبيان ذلك فيما يأتي :
أوّلاً : الاستحقاق :
5 - الاستحقاق - بمعناه الأعمّ - ظهور كون الشّيء حقّاً واجباً للغير . وهذا التعريـف يشمل الغصب والسّرقة ، فالمغصوب منه والمسروق منه يثبت لهما حقّ الاسترداد ، ويجب على الغاصب والسّارق ردّ المغصوب والمسروق لربّه ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » . ويشمل استحقاق المبيع على المشتري ، أو الموهوب على المتّهب ، فيوجب الفسخ والاسترداد ، لفساد العقد في الأصحّ عند الشّافعيّة والحنابلة ، ويتوقّف العقد على إجازة ربّه عند الحنفيّة والمالكيّة . والقول بالتّوقّف هو أيضاً مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة والحنابلة . وإذا فسخ البيع ثبت للمشتري في الجملة حقّ استرداد الثّمن ، على تفصيلٍ بين ما إذا كان ثبوت الاستحقاق بالبيّنة ، أو بالإقرار . وينظر تفصيل ذلك في ( استحقاقٌ ) .
ثانياً : التّصرّفات الّتي لا تلزم : التّصرّفات الّتي لا تلزم متنوّعةٌ ، منها :
أ - العقود غير اللاّزمة :
6 - وهي الّتي تقبل بطبيعتها أن يرجع فيها أحد العاقدين كالوديعة ، والعاريّة ، والمضاربة ، والشّركة ، والوكالة . فهذه العقود غير لازمةٍ ، ويجوز الرّجوع فيها في الجملة ، ويثبت عند فسخها حقّ الاسترداد للمالك ، ويجب الرّدّ عند الطّلب ؛ لأنّها أماناتٌ يجب ردّها ؛ لقول اللّه تعالى : { إنّ اللّه يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها } ، ولذلك لو حبسها بعد الطّلب فضاعت ضمن ، ولو هلكت بلا تعدٍّ أو تفريطٍ لم يضمن . وهذه الأحكام متّفقٌ عليها في الجملة ، إذا توافرت الشّروط المعتبرة شرعاً ، كنضو رأس المال في المضاربة ، أي تحوّل السّلع إلى نقودٍ . ولو كان في الاسترداد ضررٌ فإنّه يتوقّف حتّى يزول الضّرر ، كالأرض إذا استعيرت للزّراعة ، وأراد المعير الرّجوع ، فيتوقّف الاسترداد حتّى يحصد الزّرع . والعاريّة المقيّدة بعملٍ أو أجلٍ عند المالكيّة لا تستردّ حتّى ينقضي الأجل أو العمل . هذا حكم الاسترداد في الجملة في هذه التّصرّفات ، وفي ذلك تفاصيل كثيرةٌ يرجع إليها في موضوعاتها .
ب - العقود الّتي يدخلها الخيار :
7 -كخيار الشّرط ، وخيار العيب ونحوهما كثيرةٌ من أهمّها : البيع ، والإجارة . ففي البيع : بكون العقد في مدّة خيار الشّرط غير لازمٍ ، ولمن له الخيار حقّ الفسخ والرّدّ . جاء في بدائع الصّنائع : البيع بشرط الخيار بيعٌ غير لازمٍ ، لأنّ الخيار يمنع لزوم الصّفقة ، قال سيّدنا عمر رضي الله تعالى عنه : البيع صفقةٌ أو خيارٌ ولأنّ الخيار هو التّخيير بين الفسخ والإجازة ، وهذا يمنع اللّزوم ، ومثل ذلك في بقيّة المذاهب مع التّفاصيل . كذلك خيار العيب يجعل العقد غير لازمٍ وقابلاً للفسخ ، فإذا نقض المشتري البيع بخيار العيب انفسخ العقد ، وردّ المشتري البيع معيباً إلى البائع واستردّ الثّمن . ويختلف الفقهاء في حقّ المشتري في إمساك المبيع معيباً ، والرّجوع على البائع بأرش العيب في المعيب ، فالحنفيّة والشّافعيّة لا يعطونه هذا الحقّ ، وإنّما له أن يردّ السّلعة ويستردّ الثّمن ، أو يمسك المعيب ولا رجوع له بنقصانٍ ؛ لأنّ الأوصاف لا يقابلها شيءٌ من الثّمن في مجرّد العقد ؛ ولأنّه لم يرض بزواله عن ملكه بأقلّ من المسمّى ، فيتضرّر به ، ودفع الضّرر عن المشتري ممكنٌ بالرّدّ بدون تضرّره . أمّا الحنابلة فإنّه يكون للمشتري عندهم الخيار بين الرّدّ والرّجوع بالثّمن ، وبين الإمساك والرّجوع بأرش العيب . ويفصّل المالكيّة بين العيب اليسير غير المؤثّر ، فلا شيء فيه ولا ردّ به ، وبين العيب المؤثّر الّذي له قيمةٌ فيرجع بأرشه ، وبين العيب الفاحش فيجب هنا الرّدّ ، حتّى إذا أمسكه ليس له الرّجوع بالنّقصان ، وفي خيار العيب تفصيلٌ يرجع إليه في مصطلحه . هذه أمثلةٌ لبعض الخيارات الّتي تجعل العقد غير لازمٍ ، ويثبت بها حقّ الاسترداد وهناك خياراتٌ أخرى تسير على هذا النّمط ، كخيار التّعيين ، وخيار الغبن ، وخيار التّدليس ، وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( خيارٌ ) .
8 - ويدخل الخيار كذلك عقد الإجارة ، فيثبت به حقّ الفسخ والرّدّ ، فمن استأجر داراً فوجد بها عيباً حادثاً يضرّ بالسّكنى ، فله الفسخ والرّدّ .
ثالثاً : العقد الموقوف عند عدم الإجازة :
9 - ومن أشهر أمثلته : بيع الفضوليّ ، فإنّه لا ينفذ لانعدام الملك ، لكنّه ينعقد موقوفاً على إجازة المالك عند الحنفيّة والمالكيّة ، فإن أمضاه مضى ، وإن ردّه ردّ . وإذا أجاز المالك البيع صار الفضوليّ بمنزلة الوكيل ، وينتقل ملك المبيع إلى المشتري ، ويكون الثّمن للمالك ؛ لأنّه بدل ملكه . وبيع الفضوليّ قابلٌ للفسخ من جهة المشتري وجهة الفضوليّ عند الحنفيّة ، فلو فسخه الفضوليّ قبل الإجازة انفسخ ، واستردّ المبيع إن كان قد سلّم ، ويرجع المشتري بالثّمن على البائع إن كان قد نقده ، وكذا إذا فسخه المشتري ينفسخ . أمّا عند المالكيّة : فهو لازمٌ من جهة الفضوليّ ومن جهة المشتري ، منحلٌّ من جهة المالك . أمّا عند الشّافعيّة ، والحنابلة : فبيع الفضوليّ باطلٌ في الأصحّ ويجب ردّه ، وفي الرّواية الأخرى : أنّه يتوقّف على إجازة المالك . وفي ذلك تفصيلٌ كثيرٌ ( ر : فضوليٌّ - بيعٌ ) .
رابعاً : فساد العقد :
10 - يفرّق الحنفيّة بين العقد الباطل والعقد الفاسد ، فالعقد الباطل عندهم : هو ما لم يشرع بأصله ولا وصفه ، والعقد الفاسد : هو ما شرع بأصله دون وصفه . أمّا حكم الاسترداد بالنّسبة لكلٍّ من الباطل والفاسد فيظهر فيما يأتي : العقد الباطل لا وجود له شرعاً ، ولا يفيد الملك ؛ لأنّه لا أثر له ، ولا يملك أحد العاقدين أن يجبر الآخر على تنفيذه . ففي البيع يقول الكاسانيّ : لا حكم لهذا البيع ( الباطل ) أصلاً ؛ لأنّ الحكم للموجود ، ولا وجود لهذا البيع إلاّ من حيث الصّورة ؛ لأنّ التّصرّف الشّرعيّ لا وجود له بدون الأهليّة والمحلّيّة شرعاً ، كما لا وجود للتّصرّف الحقيقيّ إلاّ من الأهل في المحلّ حقيقةً ، وذلك نحو بيع الميتة ، والدّم ، وكلّ ما ليس بمالٍ . وما دام العقد الباطل لا وجود له شرعاً ، ولا ينتج أيّ أثرٍ ، فإنّه يترتّب على ذلك أنّ البائع لو سلّم المبيع باختياره للمشتري ، أو دفع المشتري باختياره الثّمن للبائع ، كان للبائع أن يستردّ المبيع ، وللمشتري أن يستردّ الثّمن ؛ لأنّ البيع الباطل لا يفيد الملك ولو بالقبض ، ولذلك لو تصرّف المشتري فيه ببيعٍ ، أو هبةٍ ، أو عتقٍ ، فإنّ هذا التّصرّف لا يمنع البائع من استرداد المبيع من يد المشتري الثّاني ، ذلك أنّ البيع الباطل لم ينقل الملكيّة للمشتري ، فيكون المشتري قد باع مالاً غير مملوكٍ له .
11 - أمّا العقد الفاسد فإنّه وإن كان مشروعاً بأصله لكنّه غير مشروعٍ بوصفه ، فلذلك يفيد الملك بالقبض في الجملة ، إلاّ أنّه ملكٌ غير لازمٍ ، بل هو مستحقٌّ الفسخ ، حقّاً للّه تعالى ؛ لما في الفسخ من رفع الفساد ، ورفع الفساد حقّ اللّه تعالى ، والفسخ في البيع الفاسد يستلزم ردّ المبيع على بائعه ، وردّ الثّمن على المشتري ، هذا إذا كان المبيع قائماً في يد المشتري . أمّا إذا تصرّف فيه ببيعٍ أو هبةٍ ، فليس لواحدٍ منهما فسخه ؛ لأنّ المشتري ملكه بالقبض ، فتنفذ فيه تصرّفاته كلّها ، وينقطع به حقّ البائع في الاسترداد ؛ لأنّه تعلّق به حقّ العبد ، والاسترداد حقّ الشّرع ، وما اجتمع حقّ اللّه وحقّ العبد إلاّ غلب حقّ العبد لحاجته . وسواءٌ أكان التّصرّف يقبل الفسخ ، أو لا يقبله ، إلاّ الإجارة فإنّها لا تقطع حقّ البائع في الاسترداد ؛ لأنّ الإجارة عقدٌ ضعيفٌ يفسخ بالأعذار ، وفساد الشّراء عذرٌ ، هذا هو مذهب الحنفيّة .
12 - أمّا الجمهور : فإنّهم لا يفرّقون بين العقد الفاسد والعقد الباطل . فالفاسد والباطل عندهم شيءٌ واحدٌ ، ولا يحصل به الملك ، سواءٌ اتّصل به القبض ، أم لم يتّصل ، ويلزم ردّ المبيع على بائعه ، والثّمن على المشتري هذا إذا كان المبيع قائماً في يد المشتري . أمّا إذا تصرّف فيه المشتري ببيعٍ أو هبةٍ فقد اختلفوا في ذلك . فعند الشّافعيّة والحنابلة : لا ينفذ تصرّف المشتري بذلك ، ويكون من حقّ البائع استرداد المبيع ، ومن حقّ المشتري استرداد الثّمن . أمّا المالكيّة : فإنّه يجب عندهم ردّ المبيع الفاسد لربّه إن لم يفت ، كأن لم يخرج عن يده ببيعٍ ، أو بنيانٍ ، أو غرسٍ ، فإن فات بيد المشتري مضى المختلف فيه - ولو خارج المذهب المالكيّ - بالثّمن الّذي وقع به البيع ، وإن لم يكن مختلفاً فيه بل متّفقاً على فساده ، ضمن المشتري قيمته إن كان مقوّماً حين القبض ، وضمن مثل المثليّ إذا بيع كيلاً أو وزناً ، وعلم كيله أو وزنه ، ولم يتعذّر وجوده ، وإلاّ ضمن قيمته يوم القضاء عليه بالرّدّ .
خامساً : انتهاء مدّة العقد :
13 - انتهاء مدّة العقد في العقود المقيّدة بمدّةٍ يثبت حقّ الاسترداد ، ففي عقد الإجارة يكون للمؤجّر أن يستردّ ما آجره إذا انقضت مدّة الإجارة ، فمن استأجر أرضاً للبناء ، وغرس الأشجار ، ومضت مدّة الإجارة ، لزم المستأجر أن يقلع البناء والغرس ويسلّمها إلى ربّها فارغةً ، لأنّه يجب عليه ردّها إلى صاحبها غير مشغولةٍ ببنائه وغرسه ؛ لأنّ البناء والغرس ليس لهما حالةٌ منتظرةٌ ينتهيان إليها . وفي تركهما على الدّوام بأجرٍ أو بغير أجرٍ يتضرّر صاحب الأرض ، فيتعيّن القلع في الحال ، إلاّ أن يختار صاحب الأرض أن يغرم له قيمة ذلك مقلوعاً ، ويتملّكه ، ( وذلك برضى صاحب الغرس والشّجر ، إلاّ أن تنقص الأرض بقلعهما ، فحينئذٍ يتملّكهما بغير رضاه ) أو يرضى بتركه على حاله ، فيكون البناء لهذا ، والأرض لهذا ؛ لأنّ الحقّ له ، فله ألاّ يستوفيه . هذا مذهب الحنفيّة . وعند الحنابلة : يخيّر المالك بين تملّك الغراس والبناء بقيمته ، أو تركه بأجرته ، أو قلعه وضمان نقصه ، ما لم يقلعه مالكه . ومثل ذلك مذهب الشّافعيّة ، إلاّ إذا كان صاحب الأرض شرط القلع عند انتهاء المدّة ، فإنّه يعمل بشرطه . وعند المالكيّة : يجبر صاحب الغرس على القلع بعد انتهاء المدّة ، ويجوز لربّ الأرض كراؤها له مدّةً مستقبلةً ، وهذا بالنّسبة للغرس والبناء . أمّا بالنّسبة للزّراعة إذا انقضت المدّة والزّرع لم يدرك ، فليس للمؤجّر في هذه الحالة أن يستردّ أرضه ، وإنّما يترك الزّرع على حاله إلى أن يستحصد ، ويكون للمالك أجر المثل ؛ لأنّ للزّرع نهايةً معلومةً ، فأمكن رعاية الجانبين . وهذا هو الحكم في الجملة عند الفقهاء . غير أنّ الحنابلة يقيّدون ذلك بعدم التّفريط من المستأجر ، فإن كان بتفريطٍ أجبر على القلع . وهذا هو رأي الشّافعيّة في الزّرع المطلق ، أي الّذي لم يحدّد نوعه ، فيكون للمالك عندهم أن يتملّكه بنقله . وأمّا في الزّرع المعيّن إن كان هناك شرطٌ بالقلع ، فله جبر صاحب الزّرع على قلعه ، وإن لم يكن هناك شرطٌ فقولان : بالجبر وعدمه . وعند المالكيّة : يلزمه البقاء إلى الحصاد . وينظر تفصيل ذلك في ( إجارةٌ ) .
سادساً : الإقالة :
14 - الإقالة - سواءٌ اعتبرت فسخاً أم بيعاً - يثبت بها حقّ الاسترداد ، لأنّها من التّصرّفات الجائزة ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من أقال مسلماً أقال اللّه عثرته يوم القيامة » . والقصد من الإقالة هو : ردّ كلّ حقٍّ إلى صاحبه . ففي البيع يعود بمقتضاها المبيع إلى البائع ، والثّمن إلى المشتري . وبالجملة فإنّه يجب ردّ الثّمن الأوّل ، أو مثله ، ولا يجوز ردّ زيادةٍ على الثّمن ، أو نقصه ، أو ردّ غير جنسه ؛ لأنّ مقتضى الإقالة ردّ الأمر إلى ما كان عليه ، ورجوع كلٍّ منهما إلى ما كان له . وهذا بالاتّفاق في الجملة . وعند أبي يوسف : الإقالة جائزةٌ بما سمّيا كالبيع الجديد .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
سابعاً : الإفلاس :
15 - حقّ الغرماء يتعلّق بمال المفلس ، ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ المشتري إذا حجر عليه لفلسٍ قبل أداء الثّمن الحالّ - والمبيع بيد البائع - فإنّ للبائع أن يحبسه عن المشتري ، ويكون أحقّ به من سائر الغرماء . أمّا إذا كان المشتري قد قبض المبيع ، ولم يدفع الثّمن ، ثمّ حجر عليه لفلسٍ ، ووجد البائع عين ماله الّذي باعه للمفلس ، فإنّه يكون أحقّ بالمبيع من سائر الغرماء ، ولا يسقط حقّه بقبض المشتري للمبيع ، لحديث أبي هريرة مرفوعاً : « من أدرك ماله عند إنسانٍ أفلس فهو أحقّ به » ، وبه قال عثمان وعليٌّ . قال ابن المنذر : لا نعلم أحداً من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خالفهما . فإن شاء البائع استردّه من المشتري وفسخ البيع ، وإن شاء تركه وحاصّ باقي الغرماء بثمنه . وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . هذا مع مراعاة الشّروط الّتي وضعت لاسترداد عين المبيع ، ككونه باقياً في ملك المشتري ، ولم يتغيّر ، ولم يتعلّق به حقٌّ ... إلخ . وذهب الحنفيّة إلى أنّ حقّ البائع في المبيع يسقط بقبض المشتري له بإذنه ، ويصير أسوةً بالغرماء ، فيباع ويقسم ثمنه بالحصص ؛ لأنّ ملك البائع قد زال عن المبيع ، وخرج من ضمانه إلى ملك المشتري وضمانه ، فساوى باقي الغرماء في سبب الاستحقاق ، وإن كان المشتري قبضه بغير إذن البائع كان له استرداده . وإن كان البائع قبض بعض الثّمن ، فقال مالكٌ : إن شاء ردّ ما قبض وأخذ السّلعة كلّها ، وإن شاء حاصّ الغرماء فيما بقي . وقال الشّافعيّ : يأخذ من سلعته بما بقي من الثّمن . وقال جماعةٌ من أهل العلم : إسحاق وأحمد : هو أسوة الغرماء . ولو بذل الغرماء للبائع الثّمن فيلزمه أخذ الثّمن عند المالكيّة ، ولا كلام له فيه ، وعند الشّافعيّة : له الفسخ ؛ لما في التّقديم من المنّة ، وخوف ظهور غريمٍ آخر ، وقيل : ليس له الفسخ . وعند الحنابلة : لا يلزمه القبول من الغرماء ، إلاّ إذا بذله الغريم للمفلس ، ثمّ بذله المفلس لربّ السّلعة . وفي الموضوع تفصيلاتٌ كثيرةٌ تنظر في ( حجرٌ - إفلاسٌ ) .
ثامناً : الموت :
16 - من مات وعليه ديونٌ تعلّقت الدّيون بماله ، وإذا مات مفلساً قبل تأدية ثمن ما اشتراه وقبضه ، ووجد البائع عين ماله في التّركة ، فقال الشّافعيّة : يكون البائع بالخيار ، بين أن يضرب مع الغرماء بالثّمن ، وبين أن يفسخ ، ويرجع في عين ماله ؛ لما روي عن « أبي هريرة أنّه قال في رجلٍ أفلس : هذا الّذي قضى فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أيّما رجلٍ مات أو أفلس فصاحب المتاع أحقّ بمتاعه إذا وجده بعينه » فإن كانت التّركة تفي بالدّين ففيه وجهان : أحدهما ، وهو قول أبي سعيدٍ الإصطخريّ : له أن يرجع في عين ماله ، لحديث أبي هريرة ، والثّاني : لا يجوز أن يرجع في عين ماله ، وهو المذهب ؛ لأنّ المال يفي بالدّين ، فلم يجز الرّجوع في المبيع ، كالحيّ المليء . وعند الحنابلة والمالكيّة والحنفيّة : ليس للبائع الرّجوع في عين ماله ، بل يكون أسوة الغرماء ؛ لحديث أبي بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث بن هشامٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أيّما رجلٍ باع متاعه فأفلس الّذي ابتاعه ، ولم يقبض الّذي باعه من ثمنه شيئاً ، فوجد متاعه بعينه فهو أحقّ به ، وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء » . ولأنّ الملك انتقل عن المفلس إلى الورثة فأشبه . ما لو باعه .
تاسعاً : الرّشد :
17 - يجب دفع المال إلى المحجور عليه إذا بلغ ورشد ، لقوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتّى إذا بلغوا النّكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } حتّى لو منعه الوليّ ، أو الوصيّ منه حين طلبه ماله يكون ضامناً . وفي ذلك تفصيلٌ ( ر : رشدٌ - حجرٌ ) .
صيغة الاسترداد :
18 - في العقد الفاسد ( وهو ما يجب فيه الفسخ والرّدّ ) يكون الفسخ بالقول ، كفسخت العقد أو نقضت أو رددت ، فينفسخ ولا يحتاج إلى قضاء القاضي ، ولا إلى رضى البائع ؛ لأنّ هذا البيع استحقّ الفسخ حقّاً للّه تعالى . ويكون الرّدّ بالفعل ، وهو أن يردّ المبيع على بائعه على أيّ وجهٍ ردّه . والرّجوع في الهبة - وهو استردادٌ - يكون بقول الواهب : رجعت في هبتي ، أو ارتجعتها ، أو رددتها ، أو عدت فيها . أو يكون بالأخذ بنيّة الرّجوع ، أو الإشهاد ، أو بقضاء القاضي كما هو عند الحنفيّة .
كيفيّة الاسترداد :
إذا ثبت حقّ الاسترداد لإنسانٍ في شيءٍ ما ، بأيّ سببٍ من الأسباب السّابق ذكرها ، فإنّ الاسترداد يتحقّق بعدّة أمورٍ :
الأوّل : استرداد عين الشّيء :
19 - إذا كان ما يستحقّ استرداده قائماً بعينه فإنّه يردّ بعينه ، فالمغصوب ، والمسروق ، والمبيع بيعاً فاسداً ، والمفسوخ لخيارٍ ، أو لانقطاع مسلمٍ فيه ، أو لإقالةٍ ، كلّ هذا يستردّ بعينه ما دام قائماً . وكذلك الأمانات ، كالودائع والعواريّ تردّ بعينها ما دامت قائمةً ، ومثل ذلك ما انتهت مدّته في العقد كالإجارة ، والعاريّة المقيّدة بأجلٍ ، وما وجد بعينه عند المفلس وثبت استحقاقه ، وما يجوز الرّجوع فيه كالهبة . والأصل في ذلك قول اللّه تعالى : { إنّ اللّه يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « على اليد ما أخذت حتّى تردّ » . وقوله : « من وجد ماله بعينه عند رجلٍ قد أفلس فهو أحقّ به » . وردّ العين هو الواجب الأصليّ ( إلاّ ما جاء في القرض من أنّه لا يجب ردّ العين ، ولو كانت قائمةً ، وإن كان ذلك جائزاً ) على ما ذهب إليه الحنابلة والمالكيّة ، وفي ظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، وفي قولٍ للشّافعيّة . هذا إذا كانت العين قائمةً بعينها دون حدوث تغييرٍ فيها ، لكنّها قد تتغيّر بزيادةٍ ، أو نقصٍ ، أو تغيير صورةٍ ، فهل يؤثّر ذلك على استرداد العين ؟ أورد الفقهاء في ذلك صوراً كثيرةً ، وفروعاً متعدّدةً ، وأهمّ ما ورد فيه ذلك : البيع الفاسد ، والغصب والهبة . ونورد فيما يلي بعض القواعد الكلّيّة الّتي يندرج تحتها كثيرٌ من الفروع والمسائل .
أوّلاً : بالنّسبة للبيع الفاسد والغصب :
20 - يتشابه الحكم في البيع الفاسد والغصب ، حيث إنّ البيع الفاسد يجب فيه الفسخ والرّدّ حقّاً للشّرع ، وكذلك المغصوب يجب ردّه ، وبيان ذلك فيما يلي :
أ - التّغيير بالزّيادة :
21 - إذا تغيّر المبيع بيعاً فاسداً أو المغصوب بالزّيادة ، فإن كانت الزّيادة متّصلةً متولّدةً من الأصل ، كالسّمن والجمال ، أو كانت منفصلةً ، سواءٌ أكانت متولّدةً من الأصل ، كالولد واللّبن والثّمرة ، أم غير متولّدةٍ من الأصل ، كالهبة والصّدقة والكسب ، فإنّها لا تمنع الرّدّ ، وللمستحقّ أن يستردّ الأصل مع الزّيادة ؛ لأنّ الزّيادة نماء ملكه ، وتابعةٌ للأصل ، والأصل مضمون الرّدّ ، فكذلك التّبع . وهذا باتّفاق الفقهاء في الغصب ، وعند غير المالكيّة في المبيع بيعاً فاسداً . أمّا عند المالكيّة فإنّ المبيع بيعاً فاسداً يفوت بالزّيادة ، ولا يجب ردّ عينه . وإن كانت الزّيادة متّصلةً غير متولّدةٍ من الأصل ، كمن غصب ثوباً فصبغه ، أو سويقاً فلتّه بسمنٍ . فعند الحنفيّة : يمتنع الرّدّ في البيع الفاسد ؛ لتعذّر الفصل ، أمّا في الغصب فإنّ المالك بالخيار إن شاء ضمّنه قيمة الثّوب دون صبغٍ ، ومثله السّويق ، وإن شاء أخذهما وغرم ما زاد الصّبغ والسّمن فيهما ، وذلك رعايةٌ للجانبين . وعند المالكيّة . لا ردّ في البيع الفاسد ، وفي الغصب يخيّر المالك في الثّوب فقط ، أمّا السّويق فلا يستردّ ؛ لأنّه تفاضل طعامين . وعند الحنابلة والشّافعيّة : يردّ لصاحبه ، ويكونان شريكين في الزّيادة إن زاد بذلك ، ويقول الشّافعيّة : إن أمكن قلع الصّبغ أجبر عليه .
ب - التّغيير بالنّقص :
22 - إذا كان التّغيير بالنّقص ، كما إذا نقص العقار بسكناه وزراعته ، وكتخرّق الثّوب ، فإنّه يردّ مع أرش النّقصان ، وسواءٌ أكان النّقصان بآفةٍ سماويّةٍ ، أم بفعل الغاصب والمشتري شراءً فاسداً ، وهذا باتّفاقٍ في الغصب ، وعند غير المالكيّة في البيع الفاسد حيث يعتبر التّغيير بالنّقص مانعاً للرّدّ وفوتاً عند المالكيّة ، كالزّيادة .
ج - التّغيير بالصّورة والشّكل :
23 - وإذا تغيّرت صورة المستحقّ ، بأن كان شاةً فذبحها وشواها ، أو حنطةً فطحنها ، أو غزلاً فنسجه ، أو قطناً فغزله ، أو ثوباً فخاطه قميصاً ، أو طيناً جعله لبناً أو فخّاراً ، فعند الشّافعيّة والحنابلة : لا ينقطع حقّ صاحبه في الاسترداد ، ويجب ردّه لصاحبه ؛ لأنّه عين ماله ، وله مع ذلك أرش نقصه إن نقص بذلك . وعند الحنفيّة والمالكيّة : ينقطع حقّ صاحبه في استرداد عينه ، لأنّ اسمه قد تبدّل .
د - التّغيير بالغرس والبناء في الأرض :
24 - والغرس والبناء في الأرض لا يمنع الاسترداد ، ويؤمر صاحب الغرس والبناء بقلع غرسه ، ونقض بنائه ، وردّ الأرض لصاحبها ، وهذا عند الحنابلة والشّافعيّة وأبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة ، وهو الحكم أيضاً عند أبي حنيفة والمالكيّة في الغصب دون البيع الفاسد . فعند المالكيّة : يعتبر فوتاً في البيع الفاسد ، وعند أبي حنيفة : البناء والغرس حصلا بتسليطٍ من البائع ، فينقطع حقّه في الاسترداد . وعلى الجملة فإنّه عند الحنابلة والشّافعيّة : لا ينقطع حقّ المالك في استرداد العين إلاّ بالهلاك الكلّيّ ، وعند الحنفيّة : لا ينقطع حقّ الاسترداد في المستحقّ إلاّ إذا تغيّرت صورته وتبدّل اسمه . والأمر كذلك عند المالكيّة في الغصب ، أمّا في البيع الفاسد فإنّ الزّيادة والنّقصان والتّغيير يعتبر فوتاً ، ولا يردّ به المبيع . وفي الموضوع تفاصيل كثيرةٌ ومسائل متعدّدةٌ . ( ر : غصبٌ - بيعٌ - فسادٌ - فسخٌ ) .
ثانياً : بالنّسبة للهبة :
25 - من وهب لمن يجوز الرّجوع عليه - على خلافٍ بين الفقهاء في ذلك ، تفصيله في الهبة - فإنّه يجوز للواهب أن يرجع في هبته ، ويستردّها ما دامت قائمةً بعينها . فإن زادت الهبة في يد الموهوب له ، فإمّا أن تكون زيادةً متّصلةً أو منفصلةً ، فإن كانت الزّيادة منفصلةً - كالولد والثّمرة - فهذه الزّيادة لا تمنع الاسترداد ، لكنّه يستردّ الأصل فقط ، دون الزّيادة . وهذا عند الحنابلة والشّافعيّة والحنفيّة . وإن كانت الزّيادة متّصلةً ، فإنّها لا تمنع الرّجوع عند الشّافعيّة ويرجع بالزّيادة . أمّا عند الحنابلة والحنفيّة : فإنّ الزّيادة المتّصلة تمنع الرّجوع في الهبة . وإذا نقصت الهبة في يد الواهب فإنّها لا تمنع الرّجوع ، وللواهب أن يستردّها من غير أرش ما نقص . والهبة بشرط ثوابٍ معلومٍ تصحّ ، فإن كان الثّواب مجهولاً لم تصحّ ، كما يقول الحنابلة والشّافعيّة ، وصارت كالبيع الفاسد ، وحكمها حكمه ، وتردّ بزوائدها المتّصلة والمنفصلة ؛ لأنّها نماء ملك الواهب . ومذهب المالكيّة يجيز للأب ، ولمن وهب هبةً لثوابٍ الرّجوع فيها ، إذا كانت قائمةً بعينها ، فإن حدث فيها تغييرٌ بزيادةٍ أو نقصٍ فلا تستردّ ، أو كان الولد الموهوب له تزوّج لأجل الهبة ، فذلك يمنع الرّجوع فيها .
الثّاني : الإتلاف بواسطة المستحقّ :
26 - يعتبر إتلاف المالك ما يستحقّه عند واضع اليد عليه استرداداً له ، فالطّعام المغصوب إذا أطعمه الغاصب لمالكه ، فأكله عالماً أنّه طعامه برئ الغاصب من الضّمان ، واعتبر المالك مستردّاً لطعامه ؛ لأنّه أتلف ماله عالماً من غير تغريرٍ ، وهذا باتّفاقٍ . فإن لم يعلم المالك أنّه طعامه ، فعند الحنابلة ، وغير الأظهر عند الشّافعيّة : لا يبرأ الغاصب من الضّمان . وإذا قبض المشتري المبيع ، وثبت للبائع حقّ الاسترداد فيه لأيّ سببٍ ، فأتلفه في يد المشتري ، صار مستردّاً للمبيع بالاستهلاك . وإذا هلك الباقي من سراية جناية البائع يصير مستردّاً للجميع ، ويسقط عن المشتري جميع الثّمن ؛ لأنّ تلف الباقي حصل مضافاً إلى فعله فصار مستردّاً للكلّ . ولو قتل البائع المبيع يعتبر مستردّاً بالقتل ، وكذلك لو حفر البائع بئراً فوقع فيه ومات ؛ لأنّ ذلك في معنى القتل فيصير مستردّاً .
من له حقّ الاسترداد :
27 - يثبت للمالك - إن كان أهلاً للتّصرّف - استرداد ما يستحقّ له عند غيره . وكما يثبت هذا الحقّ للمالك ، فإنّه يثبت لمن يقوم مقامه ، فالوليّ أو الوصيّ يقوم مقام المحجور عليه في تخليص حقّه من ردّ وديعةٍ ، ومغصوبٍ ، ومسروقٍ ، وما يشترى شراءً فاسداً ، وجمع الأموال الضّائعة ، وهو الّذي يقوم بالرّفع للحاكم إذا لم يمكنه الاسترداد . وإذا تبرّع الصّبيّ لا تنفذ تبرّعاته ، ويتعيّن على الوليّ ردّها . وكذلك الوكيل يقوم مقام موكّله فيما وكّل فيه ، والرّدّ على الوكيل حينئذٍ يكون كالرّدّ على الموكّل ، حيث إنّ الوكالة تجوز في الفسوخ ، وفي قبض الحقوق . ومثل ذلك ناظر الوقف ، فإنّه يملك ردّ التّصرّفات الّتي تضرّ بالوقف . والحاكم أو القاضي له النّظر في مال الغائب ، ويأخذ له المال من الغاصب والسّارق ويحفظه عليه ؛ لأنّ القاضي ناظرٌ في حقّ العاجز .
28 - كذلك للإمام حقّ الاسترداد ، فمن أقطعه الإمام شيئاً من الموات لم يملكه بذلك ، لكن يصير أحقّ به ، كالمتحجّر الشّارع في الإحياء ؛ لما روي من حديث بلال بن الحارث حيث استرجع عمر منه ما عجز عن إحيائه ، من العقيق الّذي أقطعه إيّاه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، ولو ملكه لم يجز استرجاعه . وكذلك ردّ عمر قطيعة أبي بكرٍ لعيينة بن حصنٍ ، فسأل عيينة أبا بكرٍ أن يجدّد له كتاباً فقال : لا ، واللّه لا أجدّد شيئاً ردّه عمر . لكن المقطع يصير أحقّ به من سائر النّاس ، وأولى بإحيائه ، فإن أحياه وإلاّ قال له السّلطان : ارفع يدك عنه .
موانع الاسترداد :
29 - سقوط حقّ المالك أو من يقوم مقامه في الاسترداد لمانعٍ من الموانع يشمل ما يأتي :
أ - سقوط الحقّ في استرداد العين مع سقوط الضّمان .
ب - سقوط الحقّ في استرداد العين مع بقاء الحقّ في الضّمان .
ج - سقوط الحقّ في استرداد العين والضّمان قضاءً لا ديانةً .
أوّلاً : يسقط الحقّ في استرداد العين والضّمان بما يأتي :
أ - حكم الشّرع :
30 - وذلك كالصّدقة ، فمن تصدّق بصدقةٍ فإنّه لا يجوز الرّجوع فيها ؛ لأنّ الصّدقة لإرادة الثّواب من اللّه عزّ وجلّ ، وقد قال سيّدنا عمر رضي الله تعالى عنه : من وهب هبةً على وجه الصّدقة فإنّه لا يرجع فيها . وهذا في الجملة ، لأنّ الرّأي الرّاجح عند الشّافعيّة أنّ الصّدقة للتّطوّع على الولد يجوز الرّجوع فيها . وكذلك لا يجوز الرّجوع في الهبة لغير الولد عند الجمهور ، وفي إحدى الرّوايتين عند أحمد : لا يجوز رجوع المرأة فيما وهبته لزوجها . ولذي الرّحم المحرم عند الحنفيّة ، وكذلك هبة أحد الزّوجين للآخر عندهم ، واستدلّ الجمهور بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يحلّ لرجلٍ أن يعطي عطيّةً فيرجع فيها إلاّ الوالد فيما يعطي ولده » . واستدلّ الحنفيّة بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الرّجل أحقّ بهبته ما لم يثب منها » أي لم يعوّض ، وصلة الرّحم عوضٌ معنًى ؛ لأنّ التّواصل سبب الثّواب في الدّار الآخرة ، فكان أقوى من المال . وكذلك الوقف إذا تمّ ولزم ، لا يجوز الرّجوع فيه ؛ لأنّه من الصّدقة ، وقد روى عبد اللّه بن عمر قال : « أصاب عمر أرضاً بخيبر ، فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها ، فقال : يا رسول اللّه إنّي أصبت أرضاً بخيبر لم أصب قطّ مالاً أنفس عندي منه ، فما تأمرني فيها ؟ فقال : إن شئت حبست أصلها وتصدّقت بها ، غير أنّه لا يباع أصلها ، ولا يبتاع ، ولا يوهب ، ولا يورث » . والخمر لا تستردّ ؛ لحرمة تملّكها للمسلم ، فلا يجوز له استردادها إن غصبت منه ، ويجب إراقتها ؛ لما روي أنّ أبا طلحة « سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن أيتامٍ ورثوا خمراً ، فأمر بإراقتها » .
ب - التّصرّف والإتلاف :
31 - الهبة الّتي يجوز الرّجوع فيها سواءٌ أكانت للابن أم للأجنبيّ - على اختلاف الفقهاء في ذلك - إذا تصرّف فيها الموهوب له أو أتلفها ، فإنّه يسقط حقّ الواهب في الرّجوع فيها مع سقوط الضّمان .
ج - التّلف :
32 - ما كان أمانةً ، كالمال تحت يد الوكيل وعامل القراض ، وكالوديعة ، وكالعاريّة عند الحنفيّة والمالكيّة - إذا تلف دون تعدٍّ أو تفريطٍ - فإنّه يسقط حقّ المالك في الاسترداد مع سقوط الضّمان .
ثانياً : ما يسقط الحقّ في استرداد العين مع بقاء الحقّ في الضّمان :
33 - استرداد العين هو الأصل لما يجب فيه الرّدّ ، كالمغصوب ، والمبيع بيعاً فاسداً ، فما دام قائماً بعينه فإنّه يجب ردّه . بل إنّ القطع في السّرقة لا يمنع الرّدّ ، فيجتمع على السّارق : القطع وضمان ما سرقه ؛ لأنّهما حقّان لمستحقّين ، فجاز اجتماعهما ، فيردّ السّارق ما سرقه لمالكه إن بقي ؛ لأنّه عين ماله . وقد يحدث في العين ما يمنع ردّها وذلك باستهلاكها ، أو تلفها ، أو تغيّرها تغيّراً يخرجها عن اسمها ، وعندئذٍ يثبت الحقّ في الضّمان ( المثل أو القيمة ) وتفصيله في مصطلح ( ضمانٌ ) .
ثالثاً : سقوط الحقّ في استرداد العين والضّمان قضاءً لا ديانةً :
34 - وذلك كما لو أنّ مسلماً دخل دار الحرب بأمانٍ ، فأخذ شيئاً من أموالهم لا يحكم عليه بالرّدّ ولا بالضّمان ، ويلزمه ذلك فيما بينه وبين اللّه جلّ جلاله .
عودة حقّ الاسترداد بعد زوال المانع :
35 - ما وجب ردّه ثمّ بطل حقّ الاسترداد فيه لمانعٍ ، فإنّ هذا الحقّ يعود إذا زال المانع ؛ لأنّ المانع إذا زال عاد الممنوع ، ومن أمثلة ذلك : البيع الفاسد - حيث يجب فيه الرّدّ - إذا تصرّف فيه المشتري ببيعٍ سقط حقّ الرّدّ ، فإن ردّ على المشتري بخيار شرطٍ ، أو رؤيةٍ ، أو عيبٍ بقضاء قاضٍ ، وعاد على حكم الملك الأوّل عاد حقّ الفسخ والرّدّ ؛ لأنّ الرّدّ بهذه الوجوه فسخٌ محضٌ ، فكان دفعاً للعقد من الأصل وجعلاً له كأن لم يكن . أمّا لو اشتراه ثانياً ، أو عاد إليه بسببٍ مبتدأٍ لا يعود حقّ الفسخ ؛ لأنّ الملك اختلف لاختلاف السّبب ، فكان اختلاف الملكين بمنزلة اختلاف العقدين . هذا هو مذهب الحنفيّة ، ويسايره مذهب المالكيّة في عودة حقّ الاسترداد إذا زال المانع ، غير أنّهم يخالفون الحنفيّة في أنّه لو عاد المبيع الفاسد إلى المشتري بأيّ وجهٍ كان - سواءٌ كان عوده اختياريّاً أو ضروريّاً كإرثٍ - فإنّه يعود حقّ الاسترداد ، ما لم يحكم حاكمٌ بعدم الرّدّ ، أو كان الفوات راجعاً لتغيّر السّوق ، ثمّ عاد السّوق إلى حالته الأولى ، فلا يرتفع حكم السّبب المانع ، ولا يجب على المشتري الرّدّ . أمّا الحنابلة والشّافعيّة : فإنّ البيع الفاسد عندهم لا يحصل به الملك للمشتري ، ولا ينفذ فيه تصرّف المشتري ببيعٍ ولا هبةٍ ولا عتقٍ ولا غيره ، هو واجب الرّدّ ما لم يتلف فيكون فيه الضّمان . ومن ذلك : أنّه إذا وجبت الدّية في الجناية على منافع الأعضاء ، ثمّ عادت إلى حالتها الطّبيعيّة فإنّ الدّية تستردّ . وعلى ذلك : من جنى على سمع إنسانٍ فزال السّمع ، وأخذت منه الدّية ، ثمّ عاد السّمع ، وجب ردّ الدّية ؛ لأنّ السّمع لم يذهب ؛ لأنّه لو ذهب لما عاد . ومن جنى على عينين فذهب ضوءهما وجبت الدّية ، فإن أخذت الدّية ، ثمّ عاد الضّوء وجب ردّ الدّية . وهذا عند الجمهور ، وعند الحنفيّة خلافٌ بين أبي حنيفة وصاحبيه . ( ر : جنايةٌ - ديةٌ ) .
أثر الاسترداد :
36 - الاسترداد حقٌّ من الحقوق الّتي تثبت نتيجةً لبعض التّصرّفات ، ففي الغصب يثبت للمغصوب منه حقّ الاسترداد من الغاصب ، وفي العاريّة يثبت للمعير حقّ الاسترداد من المستعير ، وفي الوديعة يثبت للمودع حقّ الاسترداد من المودع ، وفي الرّهن يثبت للرّاهن حقّ استرداد المرهون من المرتهن بعد وفاء الدّين . وما وجب ردّه بعينه كالمغصوب ، والمبيع بيعاً فاسداً ، والأمانات حين طلبها إذا ردّت أو استردّها كلّها فإنّه يترتّب على ذلك ما يأتي :
أ - البراءة من الضّمان ، فالغاصب يبرأ بردّ المغصوب ، والمودع يبرأ بردّ الوديعة ، وهكذا .
ب - يعتبر الرّدّ فسخاً للعقد ، فردّ العاريّة الوديعة والمبيع بيعاً فاسداً يعتبر فسخاً للعقد .
ج - ترتّب بعض الحقوق ، كثبوت الرّجوع بالثّمن لمن استحقّ بيده شيءٌ على من اشتراها منه .


*استرسالٌ
التعريف
1 - الاسترسال أصله في اللّغة : السّكون والثّبات . ومن معانيه لغةً : الاستئناس والطّمأنينة إلى الإنسان والثّقة به . ويستعمله الفقهاء بعدّة معانٍ :
أ - بمعنى الطّمأنينة إلى الإنسان والثّقة به ، وذلك في البيع .
ب - بمعنى الانسحاب واللّحاق والانجرار من الشّيء إلى غيره ، وذلك في الولاء .
ج - بمعنى الانطلاق والانبعاث بدون باعثٍ ، وذلك في الصّيد .
الحكم الإجماليّ :
أوّلاً - بالنّسبة للبيع :
2 - المسترسل هو الجاهل بقيمة السّلعة ، ولا يحسن المبايعة ، قال الإمام أحمد : المسترسل : هو الّذي لا يماكس ، فكأنّه استرسل إلى البائع ، فأخذ ما أعطاه ، من غير مماكسةٍ ولا معرفةٍ بغبنه . وقد اختلف الفقهاء في ثبوت الخيار للمسترسل إذا غبن غبناً يخرج عن العادة . فعند المالكيّة والحنابلة : يثبت له الخيار بين الفسخ والإمضاء ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « غبن المسترسل حرامٌ » . وعند الشّافعيّة ، وفي ظاهر الرّواية عند الحنفيّة : لا يثبت له الرّدّ ؛ لأنّ المبيع سليمٌ ، ولم يوجد من جهة البائع تدليسٌ ، وإنّما فرّط المشتري في ترك التّأمّل ، فلم يجز له الرّدّ . وفي روايةٍ أخرى عند الحنفيّة : أنّه يفتى بالرّدّ إن حدث غررٌ ، وذلك رفقاً بالنّاس . وللفقهاء تفصيلٌ فيما يعتبر غبناً وما لا يعتبر ، وهل يقدّر بالثّلث أو أقلّ أو أكثر وغير ذلك ، يرجع إليه في مصطلح ( غبنٌ - خيارٌ ) .
ثانياً : بالنّسبة للصّيد :
3 - يشترط لإباحة ما قتله الحيوان الجارح إرسال الصّائد له . فإذا استرسل من نفسه دون إرسال الصّائد فلا يحلّ ما قتله ، إلاّ إذا وجده غير منفوذ المقاتل فذكّاه . وهذا باتّفاق الفقهاء ، إلاّ أنّهم يختلفون فيما إذا أشلاه الصّائد - أي أغراه - أو زجره أثناء استرساله ، هل يحلّ أو لا ؟ على تفصيلٍ موطنه مصطلح ( صيدٌ - وإرسالٌ ) .
ثالثاً : بالنّسبة للولاء :
4 - إذا تزوّج المملوك حرّةً مولاةً لقومٍ أعتقوها ، فولدت له أولاداً فهم موالٍ لموالي أمّهم ، ما دام الأب رقيقاً مملوكاً ، فإذا عتق الأب استرسل الولاء ( انجرّ وانسحب ) من موالي الأمّ إلى موالي العبد . أمّا لو ولدت الأمة قبل عتقها ، ثمّ عتقت بعد ذلك فلا ينسحب الولاء ؛ لأنّ الولد مسّه رقٌّ ، وهذا باتّفاقٍ .
مواطن البحث :
5 - ينظر تفصيل هذه المواضيع في باب الخيار في البيع ، وفي باب الولاء ، وفي شروط حلّ الصّيد في باب الصّيد .


*استرقاقٌ
التعريف
1 - الاسترقاق لغةً : الإدخال في الرّقّ ، والرّقّ : كون الآدميّ مملوكاً مستعبداً . ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ عن ذلك .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الأسر والسّبي :
2 - الأسر هو : الشّدّ بالإسار ، والإسار : ما يشدّ به ، وقد يطلق الأسر على الأخذ ذاته . والسّبي هو : الأسر أيضاً ، ولكن يغلب إطلاق السّبي على أخذ النّساء والذّراريّ . والأسر والسّبي مرحلةٌ متقدّمةٌ على الاسترقاق في الجملة . وقد يتبعها استرقاقٌ أو لا يتبعها ، إذ قد يؤخذ المحارب ، ثمّ يمنّ عليه ، أو يفدى ، أو يقتل ولا يسترقّ .
الحكم التّكليفيّ للاسترقاق :
3 - يختلف حكم الاسترقاق باختلاف المسترقّ ( بالفتح ) ، فإن كان الأسير ممّن يجوز قتله في الحرب فلا يجب استرقاقه ، بل يجوز ، ويكون النّظر فيه إلى الإمام ، إن رأى في قتله مصلحةً للمسلمين قتله ، وإن رأى في استرقاقه مصلحةً للمسلمين استرقّه ، كما يجوز المنّ والفداء أيضاً . أمّا إن كان ممّن لا يجوز قتله في الحرب فقد اختلف الفقهاء فيه على اتّجاهين : فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب استرقاقه ، بل إنّهم قالوا : إنّه يسترقّ بنفس الأسر . وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى جواز استرقاقه ، حيث يخيّر الإمام بين الاسترقاق وغيره ، كجعلهم ذمّةً للمسلمين ، أو المفاداة بهم ، أو المنّ عليهم - كما فعل الرّسول صلى الله عليه وسلم في فتح مكّة - على ما يرى من المصلحة في ذلك . وللتّفصيل ( ر : أسرى )
حكمة تشريع الاسترقاق :
4 - قال محمّد بن عبد الرّحمن البخاريّ شيخ صاحب الهداية : « الرّقّ إنّما ثبت في بني آدم لاستنكافهم من عبوديّتهم للّه تعالى الّذي خلقهم ، وكلّهم عبيده وأرقّاؤه ، فإنّه خلقهم وكوّنهم ، فلمّا استنكفوا عن عبوديّتهم للّه تعالى جزاهم برقّهم لعباده ، فإذا أعتقه فقد أعاده المعتق إلى رقّه حقّاً للّه تعالى خالصاً ، فعسى يرى هذه المنّة : أنّه لو استنكف من عبوديّته للّه تعالى لابتلي برقٍّ لعبيده ، فيقرّ للّه تعالى بالوحدانيّة ، ويفتخر بعبوديّته ، قال اللّه تعالى : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً للّه } .
5 - وكان طريق التّخلّص من الرّقّ الّذي انتهجه الإسلام يتلخّص في أمرين : الأمر الأوّل : حصر مصادر الاسترقاق بمصدرين اثنين لا ثالث لهما ، وإنكار أن يكون أيّ مصدر غيرهما مصدراً مشروعاً للاسترقاق : أحدهما : الأسرى والسّبي من حربٍ لعدوٍّ كافرٍ إذا رأى الإمام أنّ من المصلحة استرقاقهم . وثانيهما : ما ولد من أمٍّ رقيقةٍ من غير سيّدها ، أمّا لو كان من سيّدها فهو حرٌّ . الأمر الثّاني : فتح أبواب تحرير الرّقيق على مصاريعها ، كالكفّارات ، والنّذور ، والعتق تقرّباً إلى اللّه تعالى ، والمكاتبة ، والاستيلاد ، والتّدبير ، والعتق بملك المحارم ، والعتق بإساءة المعاملة ، وغير ذلك .
من له حقّ الاسترقاق :
6 - اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ الّذي له حقّ الاسترقاق أو المنّ أو الفداء هو الإمام الأعظم للمسلمين ، بحكم ولايته العامّة ، أو من ينيبه ، ولذلك جعل إليه أمر الخيار في الاسترقاق وعدمه .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
أسباب الاسترقاق :
أوّلاً - من يضرب عليه الرّقّ :
7 - لا يجوز ضرب الرّقّ على النّساء إلاّ إذا توفّرت فيمن يسترقّ صفتان : الصّفة الأولى الكفر ، والصّفة الثّانية الحرب ، سواءٌ أكان محارباً بنفسه ، أم تابعاً لمحاربٍ ، على التّفصيل التّالي :
أ - الأسرى من الّذين اشتركوا في حرب المسلمين فعلاً .
8 - وهؤلاء إمّا أن يكونوا من أهل الكتاب ، أو من المشركين ، أو من المرتدّين ، أو من البغاة .
( أ ) فإن كانوا من أهل الكتاب : جاز استرقاقهم بالاتّفاق ، والمجوس يعاملون مثلهم في هذا .
( ب ) أمّا إن كانوا من المشركين : فإمّا أن يكونوا من العرب أو من غيرهم ، فإن كانوا من غير العرب فقد قال الحنفيّة ، والمالكيّة ، وبعض الشّافعيّة ، وبعض الحنابلة : يجوز استرقاقهم . وقال بعض الشّافعيّة ، وبعض الحنابلة : لا يجوز . أمّا إن كانوا من العرب : فقد ذهب المالكيّة ، وبعض الشّافعيّة ، وبعض الحنابلة إلى جواز استرقاقهم . واستثنى المالكيّة من ذلك القرشيّين ، فقالوا : لا يجوز استرقاقهم . وذهب الحنفيّة ، وبعض الشّافعيّة ، وبعض الحنابلة إلى أنّه لا يجوز استرقاقهم ، بل لا يقبل منهم إلاّ الإسلام ، فإن رفضوه قتلوا ؛ وعلّل الحنفيّة هذا التّفريق في الحكم بين العربيّ وغيره من المشركين بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نشأ بين أظهرهم ، والقرآن نزل بلغتهم ، فالمعجزة في حقّهم أظهر ، فكان كفرهم - والحالة هذه - أغلظ من كفر العجم .
( ج ) وأمّا إن كانوا من المرتدّين : فإنّه لا يجوز استرقاقهم بالاتّفاق ، ولا يقبل منهم إلاّ الإسلام ، فإن رفضوه قتلوا لغلظ كفرهم .
( د ) وأمّا إن كانوا من البغاة : فإنّه لا يجوز استرقاقهم بالاتّفاق ؛ لأنّهم مسلمون ، والإسلام يمنع ابتداء الرّقّ .
ب - الأسرى من الّذين أخذوا في الحرب ممّن لا يجوز قتلهم ، كالنّساء والذّراريّ وغيرهم :
9 - وهؤلاء يجوز استرقاقهم بالاتّفاق ، إن كانوا من أهل الكتاب ، أو من الوثنيّين المشركين ، سواءٌ أكانوا من العرب أو من غيرهم . واستثنى المالكيّة من ذلك الرّهبان المنقطعين عن النّاس في الجبال ، إن لم يكن لهم رأيٌ في الحرب ، وإنّما كان الاسترقاق لهؤلاء دون القتل للتّوسّل إلى إسلامهم ؛ لأنّهم ليسوا من أهل الحرب . واستدلّوا على جواز استرقاق أهل الكتاب « باسترقاق رسول اللّه نساء بني قريظة وذراريّهم » ، واستدلّوا على جواز استرقاق سبي المرتدّين باسترقاق أبي بكرٍ الصّدّيق نساء المرتدّين من العرب ، واستدلّوا على جواز استرقاق سبي المشركين « باسترقاق رسول اللّه نساء هوازن وذراريّهم ، وهم من صميم العرب » . أمّا من يؤخذ من نساء البغاة وذراريّهم ، فلا يسترقّون بالاتّفاق ؛ لأنّهم مسلمون ، والإسلام يمنع ضرب الرّقّ ابتداءً .
ج - استرقاق من أسلم من الأسرى أو السّبي :
10 - من أسلم من الأسرى بعد الأخذ فيجوز استرقاقه ؛ لأنّ الإسلام لا ينافي الرّقّ جزاءً على الكفر الأصليّ ، وقد وجد الإسلام بعد انعقاد سبب الملك ، وهو الأخذ .
د - المرأة المرتدّة في بلاد الإسلام :
11 - ذهب الجمهور إلى أنّ المرأة إذا ارتدّت ، وأصرّت على ردّتها لا تسترقّ ، بل تقتل كالمرتدّ ، ما دامت في دار الإسلام . وعن الحسن ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبي حنيفة في النّوادر : تسترقّ في دار الإسلام أيضاً . قيل : لو أفتي بهذه لا بأس به فيمن كانت ذات زوجٍ ، حسماً لقصدها السّيّئ بالرّدّة من إثبات الفرقة .
هـ - استرقاق الذّمّيّ النّاقض للذّمّة :
12 - إذا أتى الذّمّيّ ما يعتبر نقضاً للذّمّة - على اختلاف الاجتهادات فيما يعتبر نقضاً للذّمّة وما لا يعتبر ( ر : ذمّةٌ ) - فإنّه يجوز استرقاقه وحده ، دون نسائه وذراريّه ؛ لأنّه بنقضه الذّمّة قد عاد حربيّاً ، فيطبّق عليه ما يطبّق على الحربيّين . أمّا نساؤه وذراريّه فيبقون على الذّمّة ، إن لم يظهر منهم نقضٌ لها .
و - الحربيّ الّذي دخل إلينا بغير أمانٍ .
13 - إذا دخل الحربيّ بلادنا بغير أمانٍ ، فمقتضى قول أبي حنيفة ، والشّافعيّة ، والحنابلة في الجملة : أنّه يصير فيئاً بالدّخول ، ويجوز عندئذٍ استرقاقه ، إلاّ الرّسل فإنّهم لا يرقّون بالاتّفاق ( ر : رسولٌ ) . ويقول الشّافعيّة : إن ادّعى أنّه إنّما دخل ليسمع كلام اللّه ، وليتعرّف على شريعة الإسلام فإنّه لا يصير فيئاً .
ز - التّولّد من الرّقيقة :
14 - من المقرّر في الفقه الإسلاميّ أنّ الولد يتبع أمّه في الحرّيّة ، فإذا كانت الأمّ حرّةً كان ولدها حرّاً ، وإن كانت أمةً كان ولدها رقيقاً ، وهذا ممّا لا خلاف فيه بين الفقهاء . ويستثنى من ذلك ما لو كان التّولّد من سيّد الأمة ، إذ يولد حرّاً وينعقد لأمّه سبب الحرّيّة ، فتصبح حرّةً بموت سيّدها .
انتهاء الاسترقاق :
15 - ينتهي الاسترقاق بالعتق . والعتق قد يكون بحكم الشّرع ، كمن ولدت من سيّدها تعتق بموته ، وكمن ملك ذا رحمٍ منه فإنّه يعتق عليه بمجرّد الملك . وقد يكون العتق بالإعتاق لمجرّد التّقرّب إلى اللّه تعالى ، أو لسببٍ موجبٍ للعتق ، كأن يعتقه في كفّارةٍ ( ر : كفّارةٌ ) ، أو نذرٍ ( ر : نذرٌ ) . كما تنتهي بالتّدبير ، وهو أن يجعله حرّاً دبر وفاته أي بعدها ( ر : تدبيرٌ ) ، أو بالمكاتبة ، أو إجبار وليّ الأمر سيّداً على إعتاق عبده لإضراره به ( ر : عتقٌ ) .
آثار الاسترقاق :
16 - أ - يترتّب على الاسترقاق آثارٌ كثيرةٌ ، منها ما يتعلّق بالعبادات البدنيّة المسنونة إذا كانت مخلّةً بحقّ السّيّد ، كصلاة الجماعة مثلاً ( ر : صلاة الجماعة ) ، أو الواجبات الكفائيّة ؛ لإخلالها بحقّ السّيّد أيضاً ، أو لأمرٍ آخر كالجهاد ، فإنّه يرخّص للعبد في تركها . ومنها جميع العبادات الماليّة ، فإنّها تسقط عن المرء باسترقاقه ، لأنّ العبد لا يملك المال ، كالزّكاة ، وصدقة الفطر ، والصّدقات والحجّ .
17 - ب - الواجبات الماليّة على من استرقّ إن كان لها بدلٌ بدنيٌّ ، فإنّه يصار إلى بدلها ، كالكفّارات ، فالرّقيق لا يكفّر في الحنث في اليمين بالعتق ولا بالإطعام ولا بالكسوة ، ولكنّه يكفّر بالصّيام . أمّا إن لم يكن لهذه الواجبات الماليّة بدلٌ بدنيٌّ ، فإنّها تتعلّق بعين المسترقّ ، فإذا جنى العبد على يد إنسانٍ فقطعها خطأً ، وكانت ديتها أكثر من قيمة العبد ، لم يكلّف المالك بأكثر من دفع العبد إلى المجنيّ عليه ، كما يذكر في أبواب الجنايات . وكذا إذا استدان من شخصٍ بغير إذن سيّده ، فإنّ هذا الدّين يتعلّق بعينه ، ويبقى في ذمّته ، ولا يكلّف سيّده بوفائه . فإن استرقّ وعليه دينٌ لمسلمٍ أو ذمّيٍّ لم يسقط الدّين عنه ؛ لأنّ شغل ذمّته قد حصل ، ولم يوجد ما يسقطه ، بخلاف ما إذا كان الدّين لحربيٍّ ، فإنّه يسقط ؛ لعدم احترام الحربيّ .
18 - ج - والاسترقاق يمنع المسترقّ من سائر التّبرّعات كالهبة ، والصّدقة ، والوصيّة ونحو ذلك .
19 - د - كما يمنع الاسترقاق من سائر الاستحقاقات الماليّة ، فإن وقع شيءٌ منها استحقّه المالك لا الرّقيق ، فالرّقيق لا يرث ، وما يستحقّه من أرش الجناية عليه فهو لسيّده . وإن استرقّ وله دينٌ على مسلمٍ أو ذمّيٍّ ، فإنّ سيّده هو الّذي يطالب بهذا الدّين ، أمّا إن كان الدّين على حربيٍّ فيسقط .
20 - هـ - وإذا سبي الصّبيّ الصّغير دون والديه ، حكم بإسلامه تبعاً للسّابي ؛ لأنّ له عليه ولايةً ، وليس معه من هو أقرب إليه منه فيتبعه .
21 - و - والاسترقاق يمنع الرّجل من أن تكون له ولايةٌ على غيره ، وعلى هذا فإنّ الرّقيق لا يكون أميراً ولا قاضياً ؛ لأنّه لا ولاية له على نفسه ، فكيف تكون له الولاية على غيره ، وبناءً على ذلك فإنّه لا يصحّ أمان الرّقيق ، ولا تقبل شهادته أيضاً ، على خلافٍ في ذلك .
22 - ز - والاسترقاق مخفّضٌ للعقوبة ، فتنصّف الحدود في حقّ الرّقيق ، إن كانت قابلةً للتّنصيف .
23 - ح - وللاسترقاق أثرٌ في النّكاح ، إذ العبد ليس بكفءٍ للحرّة ، ولا بدّ فيه من إذن السّيّد ، ولا يملك العبد نكاح أكثر من امرأتين ، ولا تنكح أمةٌ على حرّةٍ .
24 - ط - وله أثرٌ في الطّلاق أيضاً ، إذ لا يملك الرّقيق من الطّلاق أكثر من طلقتين ، وإذا نكح بغير إذن سيّده فالطّلاق بيد سيّده .
25 - ي - وله أثرٌ في العدّة ، إذ عدّة الأمة في الطّلاق حيضتان ، لا ثلاث حيضٍ ، وفي ذلك خلافٌ وتفصيلٌ ينظر في مصطلحاته .


*استسعاءٌ
التعريف
1 - الاستسعاء لغةً : سعي الرّقيق في فكاك ما بقي من رقّه إذا عتق بعضه ، فيعمل ويكسب ، ويصرف ثمنه إلى مولاه . واستسعيته في قيمته : طلبت منه السّعي . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك وإعتاق المستسعى غير الإعتاق بالكتابة ، فالمستسعى لا يردّ إلى الرّقّ ، لأنّه إسقاطٌ لا إلى أحدٍ ، والإسقاط لا إلى أحدٍ ليس فيه معنى المعاوضة ، بخلاف المكاتب ؛ لأنّ الكتابة عقدٌ ترد عليه الإقالة والفسخ ، لكنّه يشبه الكتابة في أنّه إعتاقٌ بعوضٍ . ومحلّ الاستسعاء : من أعتق بعضه .
الحكم الإجماليّ :
2 - أغلب الفقهاء على أنّ المولى لو أعتق جزءاً من عبده فإنّه يسري العتق إلى باقيه ، ولا يستسعى ؛ لأنّ العتق لا يتبعّض ابتداءً ، ولحديث أبي المليح عن أبيه : « أنّ رجلاً أعتق شقصاً له من غلامٍ ، فذكر ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : ليس للّه شريكٌ » ، وأجاز عتقه . رواه أحمد وأبو داود ، وفي لفظٍ : « هو حرٌّ كلّه ، ليس للّه شريكٌ » . وقال أبو حنيفة : يستسعى في الباقي .
3 - أمّا إذا كان العبد مشتركاً ، وأعتق أحد الشّركاء نصيبه ، فإنّ الفقهاء يفرّقون بين ما إذا كان المعتق موسراً أو معسراً ، فإن كان موسراً فقد خيّر أبو حنيفة الشّريك الآخر بين ثلاثة أمورٍ : العتق ، أو تضمين الشّريك المعتق ، أو استسعاء العبد . وإن كان معسراً فالشّريك بالخيار ، بين الإعتاق وبين الاستسعاء فقط ، وقال أبو يوسف ومحمّدٌ هنا : ليس له إلاّ الضّمان مع اليسار ، والسّعاية مع الإعسار ، وقولهما هو روايةٌ عن أحمد ، لما رواه أبو هريرة قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من أعتق شقصاً في مملوكه فعليه أن يعتقه كلّه إن كان له مالٌ ، وإلاّ استسعى العبد غير مشقوقٍ عليه » أي لا يغلي عليه الثّمن . والمالكيّة ، والشّافعيّة ، وظاهر مذهب الحنابلة على أنّه مع اليسار يسري العتق إلى الباقي ، ويغرم المعتق قيمة حصّة الشّركاء ، فإن كان معسراً فلا سراية ولا استسعاء .
4 - ويقع الخلاف بين الفقهاء كذلك إذا أعتق في مرض موته أو دبّر ، أو أوصى بعبيده ، ولم يكن له مالٌ سواهم ، فقال أبو حنيفة : يعتق جزءٌ من كلّ واحدٍ ، ويستسعى في باقيه ، وقال غيره : يعتق ثلثهم بالاقتراع بينهم ، فمن خرج له سهم الحرّيّة عتق ، وقيمة العبد المستسعى دينٌ في ذمّته ، يقدّرها عدلٌ ، وأحكامه أحكام الأحرار ، وقال البعض : لا يأخذ حكم الحرّ إلاّ بعد الأداء . وتعتبر القيمة وقت الإعتاق ؛ لأنّه وقت الإتلاف .
مواطن البحث :
5 - الكلام عن الاستسعاء منثورٌ في كتاب العتق ، وأغلب ذكره مع السّراية ، وفي باب ( العبد يعتق بعضه ) ( والإعتاق في مرض الموت ) كما يذكر في الكفّارة .


*استسقاءٌ
التعريف
1 - الاستسقاء لغةً : طلب السّقيا ، أي طلب إنزال الغيث على البلاد والعباد . والاسم : السّقيا بالضّمّ ، واستسقيت فلاناً : إذا طلبت منه أن يسقيك . والمعنى الاصطلاحيّ للاستسقاء هو : طلب إنزال المطر من اللّه بكيفيّةٍ مخصوصةٍ عند الحاجة إليه .
صفته : حكمه التّكليفيّ :
2 - قال الشّافعيّة ، والحنابلة ، ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة : الاستسقاء سنّةٌ مؤكّدةٌ ، سواءٌ أكان بالدّعاء والصّلاة أم بالدّعاء فقط ، فعله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وصحابته والمسلمون من بعدهم . وأمّا أبو حنيفة فقال بسنّيّة الدّعاء فقط ، وبجواز غيره . وعند المالكيّة تعتريه الأحكام الثّلاثة التّالية : الأوّل : سنّةٌ مؤكّدةٌ ، إذا كان للمحلّ والجدب ، أو للحاجة إلى الشّرب لشفاههم ، أو لدوابّهم ومواشيهم ، سواءٌ أكانوا في حضرٍ ، أم سفرٍ في صحراء ، أو سفينةٍ في بحرٍ مالحٍ . الثّاني : مندوبٌ ، وهو الاستسقاء ممّن كان في خصبٍ لمن كان في محلٍّ وجدبٍ ؛ لأنّه من التّعاون على البرّ والتّقوى . ولما روى ابن ماجه « ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر جسده بالسّهر والحمّى » . وصحّ : « دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابةٌ ، عند رأسه ملكٌ موكّلٌ كلّما دعا لأخيه بخيرٍ قال الملك الموكّل به : آمين ولك بمثلٍ » . ولكنّ الأوزاعيّ والشّافعيّة قيّدوه بألاّ يكون الغير صاحب بدعةٍ أو ضلالةٍ وبغيٍ . وإلاّ لم يستحبّ زجراً وتأديباً ؛ ولأنّ العامّة تظنّ بالاستسقاء لهم حسن طريقهم والرّضى بها ، وفيها من المفاسد ما فيها . مع أنّهم قالوا : لو احتاجت طائفةٌ من أهل الذّمّة وسألوا المسلمين الاستسقاء لهم فهل ينبغي إجابتهم أم لا ؟ الأقرب : الاستسقاء لهم وفاءً بذمّتهم . ثمّ علّلوا ذلك بقولهم : ولا يتوهّم مع ذلك أنّا فعلناه لحسن حالهم ؛ لأنّ كفرهم محقّقٌ معلومٌ . ولكن تحمل إحابتنا لهم على الرّحمة بهم ، من حيث كونهم من ذوي الرّوح ، بخلاف الفسقة والمبتدعة . الثّالث : مباحٌ ، وهو استسقاء من لم يكونوا في محلٍّ ، ولا حاجة إلى الشّرب ، وقد أتاهم الغيث ، ولكن لو اقتصروا عليه لكان دون السّعة ، فلهم أن يسألوا اللّه من فضله . دليل المشروعيّة :
3 - ثبتت مشروعيّته بالنّصّ والإجماع ، أمّا النّصّ فقوله تعالى : { فقلت استغفروا ربّكم إنّه كان غفّاراً يرسل السّماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموالٍ وبنين ويجعل لكم جنّاتٍ ويجعل لكم أنهاراً } . كما استدلّ له بعمل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وخلفائه والمسلمين من بعده ، فقد وردت الأحاديث الصّحيحة في استسقائه صلى الله عليه وسلم . روى أنسٌ رضي الله عنه : « أنّ النّاس قد قحطوا في زمن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فدخل رجلٌ من باب المسجد ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخطب . فقال : يا رسول اللّه هلكت المواشي ، وخشينا الهلاك على أنفسنا ، فادع اللّه أن يسقينا . فرفع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يديه فقال : اللّهمّ اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً غدقاً مغدقاً عاجلاً غير رائثٍ . قال الرّاوي : ما كان في السّماء قزعةٌ ، فارتفعت السّحاب من هنا ومن هنا حتّى صارت ركاماً ، ثمّ مطرت سبعاً من الجمعة إلى الجمعة . ثمّ دخل ذلك الرّجل ، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب ، والسّماء تسكب ، فقال : يا رسول اللّه تهدّم البنيان ، وانقطعت السّبل ، فادع اللّه أن يمسكه ، فتبسّم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لملالة بني آدم . قال الرّاوي : واللّه ما نرى في السّماء خضراء . ثمّ رفع يديه ، فقال : اللّهمّ حوالينا ولا علينا ، اللّهمّ على الآكام والظّراب ، وبطون الأودية ، ومنابت الشّجر . فانجابت السّماء عن المدينة حتّى صارت حولها كالإكليل » . واستدلّ أبو حنيفة بهذا الحديث وجعله أصلاً ، وقال : إنّ السّنّة في الاستسقاء هي الدّعاء فقط ، من غير صلاةٍ ولا خروجٍ . واستدلّ الجمهور بحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « شكا النّاس إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قحوط المطر ، فأمر بمنبرٍ فوضع له في المصلّى ، ووعد النّاس يوماً يخرجون فيه ، قالت عائشة : فخرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشّمس ، فقعد على المنبر ، فكبّر وحمد اللّه عزّ وجلّ ثمّ قال : إنّكم شكوتم جدب دياركم ، واستئخار المطر عن إبّان زمانه عنكم ، وقد أمركم اللّه عزّ وجلّ أن تدعوه ، ووعدكم أن يستجيب لكم . ثمّ قال : الحمد للّه ربّ العالمين ، الرّحمن الرّحيم ، مالك يوم الدّين ، لا إله إلاّ اللّه يفعل ما يريد ، اللّهمّ أنت اللّه لا إله إلاّ أنت ، أنت الغنيّ ونحن الفقراء ، أنزل علينا الغيث ، واجعل ما أنزلت لنا قوّةً وبلاغاً إلى حينٍ . ثمّ رفع يديه فلم يزل في الرّفع حتّى بدا بياض إبطيه ، ثمّ حوّل إلى النّاس ظهره ، وقلب أو حوّل رداءه وهو رافعٌ يديه ، ثمّ أقبل على النّاس ، ونزل فصلّى ركعتين ، فأنشأ اللّه سحابةً فرعدت وبرقت ثمّ أمطرت بإذن اللّه تعالى ، فلم يأت مسجده حتّى سالت السّيول ، فلمّا رأى سرعتهم إلى الكنّ ضحك حتّى بدت نواجزه فقال : أشهد أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٍ ، وأنّي عبد اللّه ورسوله » . وقد استسقى عمر رضي الله عنه بالعبّاس ، وقال : اللّهمّ إنّا كنّا إذا قحطنا توسّلنا إليك بنبيّك فتسقينا ، وإنّا نتوسّل بعمّ نبيّك فاسقنا فيسقون . وكذلك روي أنّ معاوية استسقى بيزيد بن الأسود . فقال : اللّهمّ إنّا نستسقي بخيرنا وأفضلنا ، اللّهمّ إنّا نستسقي بيزيد بن الأسود ، يا يزيد ارفع يديك إلى اللّه تعالى » فرفع يديه ، ورفع النّاس أيديهم . فثارت سحابةٌ من الغرب كأنّها ترسٌ ، وهبّ لها ريحٌ ، فسقوا حتّى كاد النّاس ألاّ يبلغوا منازلهم .
حكمة المشروعيّة :
4 - إنّ الإنسان إذا نزلت به الكوارث ، وأحدقت به المصائب فبعضها قد يستطيع إزالتها ، وبعضها لا يستطيع بأيّ وسيلةٍ من الوسائل ، ومن أكبر المصائب والكوارث الجدب المسبّب عن انقطاع الغيث ، الّذي هو حياة كلّ ذي روحٍ وغذاؤه ، ولا يستطيع الإنسان إنزاله أو الاستعاضة عنه ، وإنّما يقدر على ذلك ويستطيعه ربّ العالمين فشرع الشّارع الحكيم سبحانه الاستسقاء ، طلباً للرّحمة والإغاثة بإنزال المطر الّذي هو حياة كلّ شيءٍ ممّن يملك ذلك ، ويقدر عليه ، وهو اللّه جلّ جلاله .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
أسباب الاستسقاء :
5 - الاستسقاء يكون في أربع حالاتٍ : الأولى : للمحلّ والجدب ، أو للحاجة إلى الشّرب لشفاههم ، أو دوابّهم ومواشيهم ، سواءٌ أكانوا في حضرٍ ، أم سفرٍ في صحراء ، أم سفينةٍ في بحرٍ مالحٍ . وهو محلّ اتّفاقٍ . الثّانية : استسقاء من لم يكونوا في محلٍّ ، ولا حاجة إلى الشّرب ، وقد أتاهم الغيث ، ولكن لو اقتصروا عليه لكان دون السّعة ، فلهم أن يستسقوا ويسألوا اللّه المزيد من فضله . وهو رأيٌ للمالكيّة والشّافعيّة . الثّالثة : استسقاء من كان في خصبٍ لم كان في محلٍّ وجدبٍ ، أو حاجةٍ إلى شربٍ . قال به الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة . الرّابعة : إذا استسقوا ولم يسقوا . اتّفقت المذاهب الأربعة : الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة على تكرار الاستسقاء ، والإلحاح في الدّعاء ؛ لأنّ اللّه تعالى يحبّ الملحّين في الدّعاء ، ولقوله تعالى : { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا ولكن قست قلوبهم } ولأنّ الأصل في تكرار الاستسقاء قوله صلى الله عليه وسلم : « يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول : دعوت فلم يستجب لي » ولأنّ العلّة الموجبة للاستسقاء هي الحاجة إلى الغيث ، والحاجة إلى الغيث قائمةٌ . قال أصبغ في كتاب ابن حبيبٍ : وقد فعل عندنا بمصر ، واستسقوا خمسةً وعشرين يوماً متواليةً يستسقون على سنّة الاستسقاء ، وحضر ذلك ابن القاسم وابن وهبٍ . إلاّ أنّ الحنفيّة قالوا بالخروج ثلاثة أيّامٍ فقط ، وقالوا : لم ينقل أكثر من ذلك . ولكن صاحب الاختيار قال : يخرج النّاس ثلاثة أيّامٍ متتابعةٍ . وروي أكثر من ذلك .
أنواعه وأفضله :
6 - والاستسقاء على ثلاثة أنواعٍ . اتّفق على ذلك فقهاء المذاهب الأربعة ؛ لثبوت ذلك عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وقد فضّل بعض الأئمّة بعض الأنواع على بعضٍ ، ورتّبوها حسب أفضليّتها . فقال الشّافعيّة والحنابلة : الاستسقاء ثلاثة أنواعٍ :
النّوع الأوّل : وهو أدناها ، الدّعاء بلا صلاةٍ ، ولا بعد صلاةٍ ، فرادى ومجتمعين لذلك ، في المسجد أو غيره ، وأحسنه ما كان من أهل الخير .
النّوع الثّاني : وهو أوسطها ، الدّعاء بعد صلاة الجمعة أو غيرها من الصّلوات ، وفي خطبة الجمعة ونحو ذلك . قال الشّافعيّ في الأمّ : وقد رأيت من يقيم مؤذّناً فيأمره بعد صلاة الصّبح والمغرب أن يستسقي ، ويحضّ النّاس على الدّعاء ، فما كرهت ما صنع من ذلك . وخصّ الحنابلة هذا النّوع بأن يكون الدّعاء من الإمام في خطبة الجمعة على المنبر .
النّوع الثّالث : وهو أفضلها ، الاستسقاء بصلاة ركعتين وخطبتين ، وتأهّبٍ لها قبل ذلك ، على ما سيأتي في الكيفيّة . يستوي في ذلك أهل القرى والأمصار والبوادي والمسافرون ، ويسنّ لهم جميعاً الصّلاة والخطبتان ، ويستحبّ ذلك للمنفرد إلاّ الخطبة . وقال المالكيّة : الاستسقاء بالدّعاء سنّةٌ ، أي : سواءٌ أكان بصلاةٍ أم بغير صلاةٍ ، ولا يكون الخروج إلى المصلّى إلاّ عند الحاجة الشّديدة إلى الغيث ، حيث فعله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وأمّا الحنفيّة : فأبو حنيفة يفضّل الدّعاء والاستغفار في الاستسقاء ؛ لأنّه السّنّة ، وأمّا الصّلاة فرادى فهي مباحةٌ عنده ، وليست بسنّةٍ ، لفعل الرّسول لها مرّةً وتركها أخرى . وأمّا محمّدٌ فقد قال : الاستسقاء يكون بالدّعاء ، أو بالصّلاة والدّعاء ، والكلّ عنده سنّةٌ ، وفي مرتبةٍ واحدةٍ وأمّا أبو يوسف فالنّقل عنه مختلفٌ في المسألة ، فقد روى الحاكم أنّه مع الإمام ، وروى الكرخيّ أنّه مع محمّدٍ ، ورجّح ابن عابدين أنّه مع محمّدٍ .
وقت الاستسقاء
7 - إذا كان الاستسقاء بالدّعاء فلا خلاف في أنّه يكون في أيّ وقتٍ ، وإذا كان بالصّلاة والدّعاء ، فالكلّ مجمعٌ على منع أدائها في أوقات الكراهة ، وذهب الجمهور إلى أنّها تجوز في أيّ وقتٍ عدا أوقات الكراهة . والخلاف بينهم إنّما هو في الوقت الأفضل ، ما عدا المالكيّة فقالوا : وقتها من وقت الضّحى إلى الزّوال ، فلا تصلّى قبله ولا بعده ، وللشّافعيّة في الوقت الأفضل ثلاثة أوجهٍ : الأوّل : ووافقهم عليه المالكيّة ، وهو الأولى عند الحنابلة : وقت صلاة الاستسقاء وقت صلاة العيد . وبهذا قال الشّيخ أبو حامدٍ الإسفرايينيّ وصاحبه المحامليّ في كتبه : المجموع ، والتّجريد ، والمقنع ، وأبو عليٍّ السّنجيّ ، والبغويّ . وقد يستدلّ له بحديث ابن عبّاسٍ الّذي روته السّنن الأربع عن إسحاق بن عبد اللّه بن كنانة قال : « أرسلني الوليد بن عتبة - وكان أمير المدينة - إلى ابن عبّاسٍ أسأله عن استسقاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم متبذّلاً متواضعاً متضرّعاً ، حتّى أتى المصلّى ، فلم يخطب خطبتكم هذه ، ولكن لم يزل في الدّعاء والتّضرّع والتّكبير ، وصلّى ركعتين كما كان يصلّي في العيد » . الثّاني : أوّل وقتها وقت صلاة العيد ، وتمتدّ إلى صلاة العصر . وهو الّذي ذكره البندنيجيّ ، والرّويانيّ وآخرون . لما روت عائشة : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خرج حين بدا حاجب الشّمس » لأنّها تشبهها في الوضع والصّفة ، فكذلك في الوقت ، إلاّ أنّ وقتها لا يفوت بالزّوال . الثّالث : وعبّر عنه الشّافعيّة بالصّحيح والصّواب ، وهو الرّأي المرجوح عند الحنابلة أيضاً : أنّها لا تختصّ بوقتٍ معيّنٍ ، بل تجوز في كلّ وقتٍ من ليلٍ أو نهارٍ ، إلاّ أوقات الكراهة على أحد الوجهين ، وهو الّذي نصّ عليه الشّافعيّ ، وبه قطع الجمهور ، وصحّحه المحقّقون . وممّن قطع به صاحب الحاوي ، وصحّحه الرّافعيّ في المحرّر ، وصاحب جمع الجوامع ، واستصوبه إمام الحرمين . واستدلّوا له بأنّها لا تختصّ بيومٍ كصلاة الاستخارة ، وركعتي الإحرام وغيرهما . وقالوا : إنّ تخصيصها بوقتٍ كصلاة العيد ليس له وجهٌ أصلاً . ولأنّ الشّافعيّ نصّ على ذلك وأكثر الأصحاب . وقال ابن عبد البرّ : الخروج إليها عند زوال الشّمس عند جماعةٍ من العلماء . وأمّا الحنفيّة : فلم يذكر عندهم وقتٌ لها ، ولم يتكلّموا في تحديده . وقد يكون هذا ؛ لأنّ السّنّة عند الإمام في الاستسقاء الدّعاء ، والدّعاء في كلّ وقتٍ ، وليس له زمانٌ معيّنٌ .
مكان الاستسقاء :
8 - اتّفقت المذاهب الأربعة على أنّ الاستسقاء يجوز في المسجد ، وخارج المسجد . إلاّ أنّ المالكيّة لا تقول بالخروج إلاّ في وقت الشّدّة إلى الغيث ، والشّافعيّة والحنابلة يفضّلون الخروج مطلقاً ، لحديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما . « خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للاستسقاء متبذّلاً متواضعاً متضرّعاً حتّى أتى المصلّى ، فلم يخطب خطبتكم هذه ، ولكن لم يزل في الدّعاء والتّضرّع والتّكبير ، وصلّى ركعتين كما كان يصلّي في العيد » . وقال الشّافعيّة : يصلّي الإمام في الصّحراء ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلاّها في الصّحراء ؛ ولأنّه يحضرها غالب النّاس والصّبيان والحيّض والبهائم وغيرهم ، فالصّحراء أوسع لهم وأرفق . وقال الحنفيّة بالخروج أيضاً ، إلاّ أنّهم قالوا : إنّ أهل مكّة وبيت المقدس يجتمعون في المسجدين ، وقال بعضهم : ينبغي كذلك لأهل المدينة أن يجتمعوا في المسجد النّبويّ ؛ لأنّه من أشرف بقاع الأرض ، إذ حلّ فيه خير خلق اللّه صلى الله عليه وسلم وعلّل ابن عابدين جواز الاجتماع في مسجد الرّسول صلى الله عليه وسلم بقوله : ينبغي الاجتماع للاستسقاء فيه ، إذ لا يستغاث وتستنزل الرّحمة في المدينة المنوّرة بغير حضرته ومشاهدته صلى الله عليه وسلم في كلّ حادثةٍ .
الآداب السّابقة على الاستسقاء :
9 - أورد الفقهاء آداباً يستحبّ فعلها قبل الاستسقاء ، فقالوا : يعظ الإمام النّاس ، ويأمرهم بالخروج من المظالم ، والتّوبة من المعاصي ، وأداء الحقوق ؛ ليكونوا أقرب إلى الإجابة ، فإنّ المعاصي سبب الجدب ، والطّاعة سبب البركة .. قال تعالى : { ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السّماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } وروى أبو وائلٍ عن عبد اللّه قال : « إذا بخس المكيال حبس القطر » وقال مجاهدٌ في قوله تعالى : { ويلعنهم اللاعنون } قال : دوابّ الأرض تلعنهم يقولون : يمنع القطر بخطاياهم . كما يترك التّشاحن والتّباغض ؛ لأنّها تحمل على المعصية والبهت ، وتمنع نزول الخير . بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : « خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلانٌ وفلانٌ فرفعت » .
الصّيام قبل الاستسقاء :
10 - اتّفقت المذاهب على الصّيام ، ولكنّهم اختلفوا في مقداره ، والخروج به إلى الاستسقاء . لأنّ الصّيام مظنّة إجابة الدّعاء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة لا تردّ دعوتهم : الصّائم حين يفطر ... » ولما فيه من كسر الشّهوة ، وحضور القلب ، والتّذلّل للرّبّ . قال الشّافعيّة ، والحنفيّة ، وبعض المالكيّة : يأمرهم الإمام بصوم ثلاثة أيّامٍ قبل الخروج ، ويخرجون في اليوم الرّابع وهم صيامٌ . وقال بعض المالكيّة بالخروج بعد الصّيام في اليوم الرّابع مفطرين ؛ للتّقوّي على الدّعاء ، كيوم عرفة . وقال الحنابلة بالصّيام ثلاثة أيّامٍ ، ويخرجون في آخر أيّام صيامهم .
الصّدقة قبل الاستسقاء :
11 - اتّفقت المذاهب على استحباب الصّدقة قبل الاستسقاء ، ولكنّهم اختلفوا في أمر الإمام بها ، قال الشّافعيّة ، والحنابلة ، والحنفيّة ، وهو المعتمد عند المالكيّة : يأمرهم الإمام بالصّدقة في حدود طاقتهم . وقال بعض المالكيّة : لا يأمرهم بها ، بل يترك هذا للنّاس بدون أمرٍ ؛ لأنّه أرجى للإجابة ، حيث تكون صدقتهم بدافعٍ من أنفسهم ، لا بأمرٍ من الإمام .
آدابٌ شخصيّةٌ :
12 - اتّفق الفقهاء على آدابٍ شخصيّةٍ ، يستحبّ أن يفعلها النّاس قبل الاستسقاء ، بعد أن يعدهم الإمام يوماً يخرجون فيه ؛ لحديث عائشة المتقدّم عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « وعد النّاس يوماً يخرجون فيه » فيستحبّ عند الخروج للاستسقاء : التّنظّف بغسلٍ وسواكٍ ؛ لأنّها صلاةٌ يسنّ لها الاجتماع والخطبة ، فشرع لها الغسل ، كصلاة الجمعة . ويستحبّ : أن يترك الإنسان الطّيب والزّينة ، فليس هذا وقت الزّينة ، ولكنّه يقطع الرّائحة الكريهة ، ويخرج في ثيابٍ بذلةٍ ، وهي ثياب مهنته ، ويخرج متواضعاً خاشعاً متذلّلاً متضرّعاً ماشياً ، ولا يركب في شيءٍ من طريقه ذهاباً إلاّ لعذرٍ ، كمرضٍ ونحوه . والأصل في هذا حديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال : « خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذّلاً متخشّعاً متضرّعاً » وهي مستحبّاتٌ لم يرد فيها خلافٌ .
الاستسقاء بالدّعاء :
13 - قال أبو حنيفة : إنّ الاستسقاء هو دعاءٌ واستغفارٌ ، وليس فيه صلاةٌ مسنونةٌ في جماعةٍ . فإن صلّى النّاس وحداناً جاز ، لقوله تعالى : { فقلت استغفروا ربّكم إنّه كان غفّاراً يرسل السّماء عليكم مدراراً } الآية ، وقد استدلّ له كذلك بحديث عمر رضي الله عنه واستسقائه بالعبّاس رضي الله عنه من غير صلاةٍ ، مع حرصه على الاقتداء برسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وقد علّل ابن عابدين رأي أبي حنيفة فقال : الحاصل أنّ الأحاديث لمّا اختلفت في الصّلاة بالجماعة وعدمها على وجهٍ لا يصحّ معه إثبات السّنّيّة ، لم يقل أبو حنيفة بسنّيّتها ، ولا يلزم من قوله هذا أنّها بدعةٌ ، كما نقل بعض المتعصّبين ، بل هو قال بالجواز ، والظّاهر أنّ المراد النّدب والاستحباب ، لقوله في الهداية : لمّا فعله الرّسول صلى الله عليه وسلم مرّةً وتركه أخرى لم يكن سنّةً ؛ لأنّ السّنّة ما واظب عليه . والفعل مرّةً والتّرك أخرى يفيد النّدب . وأمّا المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وأبو يوسف ومحمّدٌ من الحنفيّة : فقالوا بسنّيّة الدّعاء وحده ، وبسنّيّته مع صلاةٍ له على التّفصيل الّذي تقدّم .
الاستسقاء بالدّعاء والصّلاة :
14 - المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وأبو يوسف ، ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة قالوا : الاستسقاء يكون بالصّلاة والدّعاء والخطبة ، للأحاديث الواردة في ذلك . وقال أبو حنيفة : لا خطبة في الاستسقاء ، وما تقدّم من رواية أنسٍ لا يثبت الخطبة ؛ لأنّ طلب السّقيا من رسول اللّه وقع له صلى الله عليه وسلم وهو يخطب ، فالخطبة سابقةٌ في هذه الحادثة على الإخبار بالجدب .
تقديم الصّلاة على الخطبة وتأخيرها :
15 - في المسألة ثلاثة آراءٍ :
الأوّل : تقديم الصّلاة على الخطبة ، وهو قول المالكيّة ، ومحمّد بن الحسن ، والرّاجح عند الحنابلة ، وهو الأولى عند الشّافعيّة ، وعليه جماعة الفقهاء ؛ لقول أبي هريرة : « صلّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ركعتين ثمّ خطبنا » ولقول ابن عبّاسٍ : صنع في الاستسقاء كما يصنع في العيد ؛ ولأنّها صلاةٌ ذات تكبيراتٍ ، فأشبهت صلاة العيد .
الثّاني : تقديم الخطبة على الصّلاة وهو رأيٌ للحنابلة ، وخلاف الأولى عند الشّافعيّة ، وروي ذلك عن ابن الزّبير ، وأبان بن عثمان ، وهشام بن إسماعيل ، واللّيث بن سعدٍ ، وابن المنذر ، وعمر بن عبد العزيز . ودليله ما روي عن أنسٍ وعائشة : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خطب وصلّى » ، وروي عن عبد اللّه بن زيدٍ قال : « رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا خرج يستسقي حوّل إلى النّاس ظهره ، واستقبل القبلة يدعو ، ثمّ حوّل رداءه ، ثمّ صلّى لنا ركعتين جهر فيهما بالقراءة » . متّفقٌ عليه .
الثّالث : هو مخيّرٌ في الخطبة قبل الصّلاة أو بعدها ، وهو رأيٌ للحنابلة ؛ لورود الأخبار بكلا الأمرين ، ودلالتها على كلتا الصّفتين .
كيفيّة صلاة الاستسقاء :
16 - لا يعلم بين القائلين بصلاة الاستسقاء خلافٌ في أنّها ركعتان ، واختلف في صفتها على رأيين :
الرّأي الأوّل ، وهو للشّافعيّة ، والحنابلة ، وقولٌ لمحمّدٍ ، وسعيد بن المسيّب ، وعمر بن عبد العزيز : يصلّيها ركعتين يكبّر في الأولى سبعاً ، وخمساً في الثّانية مثل صلاة العيد ، لقول ابن عبّاسٍ في حديثه المتقدّم : وصلّى ركعتين كما كان يصلّي في العيد ، ولما روي عن جعفر بن محمّدٍ عن أبيه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ وعمر كانوا يصلّون صلاة الاستسقاء يكبّرون فيها سبعاً وخمساً » .
الرّأي الثّاني : وهو للمالكيّة ، والقول الثّاني لمحمّدٍ ، وهو قول الأوزاعيّ ، وأبي ثورٍ ، وإسحاق : تصلّى ركعتين كصلاة النّافلة والتّطوّع ؛ لما روي عن عبد اللّه بن زيدٍ : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استسقى فصلّى ركعتين » وروى أبو هريرة نحوه ، ولم يذكرا التّكبير ، فتنصرف إلى الصّلاة المطلقة . واتّفقت المذاهب على الجهر بالقراءة في الاستسقاء ؛ لأنّها صلاةٌ ذات خطبةٍ ، وكلّ صلاةٍ لها خطبةٌ فالقراءة فيها تكون جهراً ؛ لاجتماع النّاس للسّماع ، ويقرأ بما شاء ، ولكن الأفضل أن يقرأ فيهما بما كان يقرأ في العيد ، وقيل : يقرأ بسورتي ق ونوحٍ ، أو يقرأ بسورتي الأعلى والغاشية ، أو بسورتي الأعلى والشّمس . وحذف التّكبيرات أو بعضها أو الزّيادة فيها لا تفسد الصّلاة . وقال الشّافعيّة : ولو ترك التّكبيرات أو بعضها أو زاد فيهنّ لا يسجد للسّهو ، ولو أدرك المسبوق بعض التّكبيرات الزّائدة فهل يقضي ما فاته من التّكبيرات ؟ قالوا : فيها القولان ، مثل صلاة العيد .
كيفيّة الخطبة ومستحبّاتها :
17 - قال الشّافعيّة ، والمالكيّة ، ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة : يخطب الإمام خطبتين كخطبتي العيد بأركانهما وشروطهما وهيئاتهما ، وفي الجلوس إذا صعد المنبر وجهان كما في العيد أيضاً ، لحديث ابن عبّاسٍ المتقدّم ؛ ولأنّها أشبهتها في التّكبير وفي صفة الصّلاة . وقال الحنابلة ، وأبو يوسف من الحنفيّة ، وعبد الرّحمن بن مهديٍّ : يخطب الإمام خطبةً واحدةً يفتتحها بالتّكبير ، لقول ابن عبّاسٍ : لم يخطب خطبتكم هذه ، ولكن لم يزل في الدّعاء والتّضرّع والتّكبير ، وهذا يدلّ على أنّه ما فصل بين ذلك بسكوتٍ ولا جلوسٍ ؛ ولأنّ كلّ من نقل الخطبة لم ينقل خطبتين . ولا يخرج المنبر إلى الخلاء في الاستسقاء ؛ لأنّه خلاف السّنّة . وقد عاب النّاس على مروان بن الحكم عند إخراجه المنبر في العيدين ، ونسبوه إلى مخالفة السّنّة . ويخطب الإمام على الأرض معتمداً على قوسٍ أو سيفٍ أو عصاً ، ويخطب مقبلاً بوجهه إلى النّاس . وقد صرّح المالكيّة بأنّ الخطبة على الأرض مندوبةٌ ، وعلى المنبر مكروهةٌ . أمّا إذا كان المنبر موجوداً في الموضع الّذي فيه الصّلاة ، ولم يخرجه أحدٌ ففيه رأيان : الجواز ، والكراهة . وقال الحنفيّة ، والحنابلة ، والشّافعيّة في القول المرجوح : يكبّر في الخطبة كما في صلاة العيد . وقال المالكيّة ، والشّافعيّة في الرّاجح عندهم : يستبدل بالتّكبير الاستغفار ، فيستغفر اللّه في أوّل الخطبة الأولى تسعاً ، وفي الثّانية سبعاً ، يقول : أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه ، ويختم كلامه بالاستغفار ، ويكثر منه في الخطبة ، ومن قوله تعالى : { استغفروا ربّكم إنّه كان غفّاراً } الآية ، ويخوّفهم من المعاصي الّتي هي سبب الجدب ، ويأمرهم بالتّوبة ، والإنابة والصّدقة والبرّ . وقال الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والمالكيّة : يستقبل الإمام النّاس في الخطبة مستدبراً القبلة ، حتّى إذا قضى خطبته توجّه بوجهه إلى القبلة يدعو . وقال الحنابلة : يستحبّ للخطيب استقبال القبلة في أثناء الخطبة ؛ لما روى عبد اللّه بن زيدٍ : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج يستسقي ، فتوجّه إلى القبلة يدعو » وفي لفظٍ : « فحوّل إلى النّاس ظهره واستقبل القبلة يدعو » .
صيغ الدّعاء المأثورة :
18 - يستحبّ الدّعاء بما أثر عن النّبيّ ، ومن ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم « أنّه كان يدعو في الاستسقاء فيقول : اللّهمّ اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً غدقاً مجلّلاً سحّا عامّاً طبقاً دائماً . اللّهمّ اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين . اللّهمّ إنّ بالبلاد والعباد والخلق من اللّأواء والضّنك ما لا نشكو إلاّ إليك . اللّهمّ أنبت لنا الزّرع ، وأدرّ لنا الضّرع ، واسقنا من بركات السّماء ، وأنبت لنا من بركات الأرض . اللّهمّ إنّا نستغفرك إنّك كنت غفّاراً ، فأرسل السّماء علينا مدراراً ، فإذا مطروا . قالوا : اللّهمّ صيّباً نافعاً . ويقولون : مطرنا بفضل اللّه وبرحمته » . وروي « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر ، حين قال له الرّجل : يا رسول اللّه هلكت الأموال ، وانقطعت السّبل ، فادع اللّه أن يغيثنا . فرفع يديه وقال : اللّهمّ أغثنا ، اللّهمّ أغثنا ، اللّهمّ أغثنا » . وروي عن الشّافعيّ قوله : « ليكن من دعائهم في هذه الحالة : اللّهمّ أنت أمرتنا بدعائك ، ووعدتنا إجابتك ، وقد دعوناك كما أمرتنا ، فأجبنا كما وعدتنا ، اللّهمّ امنن علينا بمغفرة ما قارفنا ، وإجابتك في سقيانا ، وسعة رزقنا ، فإذا فرغ من دعائه أقبل على النّاس بوجهه ، وحثّهم على الطّاعة ، وصلّى على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ودعا للمؤمنين والمؤمنات ، وقرأ آيةً من القرآن أو آيتين ، ويكثر من الاستغفار ، ومن قوله تعالى : { استغفروا ربّكم إنّه كان غفّاراً ، يرسل السّماء عليكم مدراراً ، ويمددكم بأموالٍ وبنين ويجعل لكم جنّاتٍ ويجعل لكم أنهاراً } . وروي عن عمر رضي الله عنه أنّه استسقى فكان أكثر دعائه الاستغفار ، وقال : لقد استسقيت بمجاديح السّماء .
رفع اليدين في الدّعاء في الاستسقاء :
19 - استحبّ الأئمّة رفع اليدين إلى السّماء في الدّعاء ، لما روى البخاريّ عن أنسٍ قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيءٍ من دعائه إلاّ في الاستسقاء » . وأنّه يرفع حتّى يرى بياض إبطيه . وفي حديثٍ لأنسٍ « فرفع الرّسول صلى الله عليه وسلم ورفع النّاس أيديهم » وقد روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قريبٌ من ثلاثين حديثاً في رفع اليدين في الاستسقاء . وذكر الأئمّة : أنّه يدعو سرّاً وجهراً ، فإذا دعا سرّاً دعا النّاس سرّاً ، فيكون أبلغ في البعد عن الرّياء . وإذا دعا جهراً أمّن النّاس على دعاء الإمام . ولهذا يستحبّ أن يدعو بعض الدّعاء سرّاً ، وبعضه جهراً ، ويستقبل القبلة في دعائه متضرّعاً خاشعاً متذلّلاً تائباً .
الاستسقاء بالصّالحين :
20 - اتّفق جمهور الفقهاء على استحباب الاستسقاء بأقارب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبالصّالحين من المسلمين الّذين عرفوا بالتّقوى والاستقامة ، لأنّ عمر رضي الله عنه استسقى بالعبّاس وقال : اللّهمّ إنّا كنّا إذا قحطنا توسّلنا إليك بنبيّك فتسقينا ، وإنّا نتوسّل بعمّ نبيّنا فاسقنا ، فيسقون . وروي أنّ معاوية استسقى بيزيد بن الأسود فقال : « اللّهمّ إنّا نستسقي بخيرنا وأفضلنا ، اللّهمّ إنّا نستسقي بيزيد بن الأسود . يا يزيد ارفع يديك إلى اللّه تعالى ، فرفع يديه ورفع النّاس أيديهم ، فثارت سحابةٌ من المغرب كأنّها ترسٌ ، وهبّ لها ريحٌ ، فسقوا حتّى كاد النّاس ألاّ يبلغوا منازلهم .
التّوسّل بالعمل الصّالح :
20م ـ ويستحبّ أن يتوسّل كلٌّ في نفسه بما قدّم من عملٍ صالحٍ . واستدلّ على هذا بحديث ابن عمر في الصّحيحين عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في قصّة أصحاب الغار ، وهم الثّلاثة الّذين آووا إلى الغار ، فأطبقت عليهم صخرةٌ ، فتوسّل كلّ واحدٍ بصالح عمله ، فكشف اللّه عنهم الصّخرة ، وقشع الغمّة ، وخرجوا يمشون .
تحويل الرّداء في الاستسقاء :
21 - قال الشّافعيّة ، والحنابلة ، والمالكيّة : يستحبّ تحويل الرّداء للإمام والمأموم ، لفعل الرّسول صلى الله عليه وسلم له ، ولأنّ ما فعله الرّسول صلى الله عليه وسلم ثبت في حقّ غيره ، ما لم يقم دليلٌ على اختصاصه به . وقد عقل المعنى في ذلك ، وهو التّفاؤل بقلب الرّداء ، ليقلب اللّه ما بهم من الجدب إلى الخصب . وهو خاصٌّ بالرّجال دون النّساء عند الجميع . وقال محمّد بن الحسن من الحنفيّة ، وابن المسيّب ، وعروة ، والثّوريّ ، واللّيث : إنّ تحويل الرّداء مختصٌّ بالإمام فقط دون المأموم ؛ لأنّه نقل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم دون أصحابه . وقال أبو حنيفة : لا يسنّ تقليب الرّداء ؛ لأنّه دعاءٌ فلا يستحبّ تحويل الرّداء فيه ، كسائر الأدعية .
كيفيّة تقليب الرّداء :
22 - قال الحنابلة ، والمالكيّة ، وهو رأيٌ للشّافعيّة ، وقول أبان بن عثمان ، وعمر بن عبد العزيز ، وهشام بن إسحاق ، وأبو بكر بن محمّد بن حزمٍ : يقلب المستسقون أرديتهم ، فيجعلون ما على اليمين على اليسار ، وما على اليسار على اليمين ، ودليلهم في ذلك ما روى أبو داود بإسناده عن عبد اللّه بن زيدٍ ، « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حوّل رداءه ، وجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر ، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن » . وفي حديث أبي هريرة نحو ذلك ، وقد نقل تحويل الرّداء جماعةٌ ، كلّهم نقلوه بهذه الصّفة ، ولم ينقل عن أحدٍ منهم أنّه جعل أعلاه أسفله . وقال محمّد بن الحسن من الحنفيّة ، والشّافعيّة في الرّأي الرّاجح : إن كان الرّداء مدوّراً بأن كان جبّةً يجعل الأيمن على الأيسر ، والأيسر على الأيمن ، وإن كان الرّداء مربّعاً يجعل أعلاه أسفله ، وأسفله أعلاه ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّه استسقى وعليه رداءٌ ، فأراد أن يجعل أسفلها أعلاها ، فلمّا ثقلت عليه جعل العطاف الّذي في الأيسر على عاتقه الأيمن ، والّذي على الأيمن على عاتقه الأيسر » ، ويبدأ بتحويل الرّداء عند البدء بالدّعاء والتّضرّع إلى اللّه تعالى .
المستسقون :
23 - اتّفق الفقهاء على ، أنّ السّنّة خروج الإمام للاستسقاء مع النّاس ، فإذا تخلّف فقد أساء بترك السّنّة ، ولا قضاء عليه .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
تخلّف الإمام عن الاستسقاء :
24 - في مسألة تخلّف الإمام رأيان :
الرّأي الأوّل : وهو رأي الشّافعيّة ، ورأيٌ للحنابلة : إذا تخلّف الإمام عن الاستسقاء أناب عنه . فإذا لم ينب لم يترك النّاس الاستسقاء ، وقدّموا أحدهم للصّلاة ، كما إذا خلت الأمصار من الولاة قدّموا أحدهم للجمعة والعيد والكسوف ، كما قدّم النّاس أبا بكرٍ رضي الله عنه حين ذهب النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليصلح بين بني عمر وبني عوفٍ ، وقدّموا عبد الرّحمن بن عوفٍ في غزوة تبوك حين تأخّر النّبيّ صلى الله عليه وسلم لحاجته ، وكان ذلك في الصّلاة المكتوبة . قال الشّافعيّ : فإذا جاز في المكتوبة فغيرها أولى .
الرّأي الثّاني : لا يستحبّ الاستسقاء بالصّلاة إلاّ بخروج الإمام ، أو رجلٍ من قبله . وهو رأيٌ للحنابلة والحنفيّة ، فإذا خرجوا بغير إذن الإمام دعوا وانصرفوا بلا صلاةٍ ولا خطبةٍ .
من يستحبّ خروجهم ، ومن يجوز ، ومن يكره :
25 - يستحبّ عند المذاهب الأربعة خروج الشّيوخ والضّعفاء والصّبيان والعجزة وغير ذات الهيئة من النّساء . وقال المالكيّة : بخروج من يعقل من الصّبيان ، أمّا من لا يعقل فيكره خروجهم مع الجماعة للصّلاة . واستدلّوا لخروج من ذكر بقول الرّسول عليه الصلاة والسلام : « هل تنصرون وترزقون إلاّ بضعفائكم » .
إخراج الدّوابّ في الاستسقاء :
26 - في المسألة ثلاثة آراءٍ : الأوّل : يستحبّ إخراج الدّوابّ ؛ لأنّه قد تكون السّقيا بسببهم . وهو قول الحنفيّة ، ورأيٌ للشّافعيّة ؛ لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لولا عبادٌ للّه ركّعٌ ، وصبيانٌ رضّعٌ ، وبهائم رتّعٌ لصبّ عليكم العذاب صبّاً ، ثمّ رصّ رصّاً » . ولما روى الإمام أحمد أنّ سليمان عليه السلام « خرج بالنّاس يستسقي ، فإذا هو بنملةٍ رافعةٍ بعض قوائمهما إلى السّماء . فقال : ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذه النّملة » وقال أصحاب هذا الرّأي : إذا أقيمت في المسجد ، أوقفت الدّوابّ عند باب المسجد . الثّاني : لا يستحبّ إخراج البهائم ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يفعله . وهو قول الحنابلة ، والمالكيّة ، ورأيٌ ثانٍ للشّافعيّة . الثّالث : لا يستحبّ ولا يكره ، وهو رأيٌ ثالثٌ للشّافعيّة .
خروج الكفّار وأهل الذّمّة :
27 - في المسألة رأيان :
الأوّل : وهو للمالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة : لا يستحبّ خروج الكفّار وأهل الذّمّة ، بل يكره ، ولكن إذا خرجوا مع النّاس في يومهم ، وانفردوا في مكان وحدهم لم يمنعوا . وجملة ما استدلّوا به أنّه لا يستحبّ إخراج أهل الذّمّة والكفّار ؛ لأنّهم أعداء اللّه الّذين كفروا به وبدّلوا نعمة اللّه كفراً ، فهم بعيدون من الإجابة . وإن أغيث المسلمون فربّما قالوا : هذا حصل بدعائنا وإجابتنا ، وإن خرجوا لم يمنعوا ؛ لأنّهم يطلبون أرزاقهم من ربّهم فلا يمنعون من ذلك ، ولا يبعد أن يجيبهم اللّه تعالى ؛ لأنّه قد ضمن أرزاقهم في الدّنيا ، كما ضمن أرزاق المؤمنين . ولكن يؤمرون بالانفراد عن المسلمين ؛ لأنّه لا يؤمن أن يصيبهم بعذابٍ فيعمّ من حضرهم . ولا يخرجون وحدهم ، فإنّه لا يؤمن أن يتّفق نزول الغيث يوم خروجهم وحدهم ، فيكون أعظم فتنةً لهم ، وربّما افتتن غيرهم .
الرّأي الثّاني : وهو للحنفيّة ، ورأيٌ للمالكيّة ، قال به أشهب وابن حبيبٍ : لا يحضر الذّمّيّ والكافر الاستسقاء ، ولا يخرج له ؛ لأنّه لا يتقرّب إلى اللّه تعالى بدعائه . والاستسقاء لاستنزال الرّحمة ، وهي لا تنزل عليهم ، ويمنعون من الخروج ؛ لاحتمال أن يسقوا فتفتتن به الضّعفاء والعوامّ .


*استسلامٌ
التعريف
1 - الاستسلام في اللّغة : الانقياد والخضوع للغير . ويستعمل الفقهاء كلمة « استسلامٍ » بهذا المعنى أيضاً . ويعبّرون أيضاً عن الاستسلام بـ « النّزول على الحكم وقبول الجزية » .
الحكم الإجماليّ ، ومواطن البحث :
2 - أ - استسلام العدوّ سواءٌ أكان كافراً - ما لم يكن من مشركي العرب - أم مسلماً باغياً موجبٌ للكفّ عن قتاله . وقد أفاض الفقهاء في الحديث عن ذلك في كتاب الجهاد ، وفي كتاب البغاة .
3 - ب - لا يجوز للمسلم أن يستسلم لعدوّه الظّالم - سواءٌ كان مسلماً أو كافراً - إلاّ أن يخاف على نفسه ، أو على عضوٍ من أعضائه ، ولا يجد حيلةً للحفاظ عليها إلاّ بالاستسلام ، فيجوز له الاستسلام حينئذٍ . وقد ذكر الفقهاء في كتاب الجهاد : أنّه لا يجوز للمسلمين الاستسلام لعدوّهم في ساحة المعركة إلاّ بهذا الشّرط . وذكروا في كتاب الصّيال : أنّه لا يجوز للمصول عليه أن يستسلم للصّائل إلاّ بهذا الشّرط أيضاً . وذكروا في كتاب الإكراه : أنّ الإكراه على بعض الأفعال ، لا تترتّب آثاره إلاّ إذا كان الاستسلام للمكره ( بكسر الرّاء ) بهذا الشّرط .


*استشارةٌ
انظر : شورى .


*استشرافٌ
التعريف
1 - الاستشراف في اللّغة : وضع اليد على الحاجب للنّظر ، كالّذي يستظلّ من الشّمس حتّى يستبين الشّيء . وأصله من الشّرف : العلوّ ، وأشرفت عليه بالألف : اطّلعت عليه . ويستعمله الفقهاء بمعنى : التّطلّع إلى الشّيء ، كما في استشراف الأضحيّة . وهو في الأموال بأن يقول : سيبعث إليّ فلانٌ ، أو لعلّه يبعث ، وإن لم يسأل . وقال أحمد : الاستشراف بالقلب وإن لم يتعرّض ، قيل له : إنّ هذا شديدٌ ، قال : وإن كان شديداً فهو هكذا ، قيل له : فإن كان الرّجل لم يودّ في أن يرسل إليّ شيئاً ، إلاّ أنّه قد عرض بقلبي ، فقلت : عسى أن يبعث إليّ ، قال : هذا إشرافٌ ، فإذا جاءك من غير أن تحسّه ، ولا خطر على قلبك ، فهذا الآن ليس فيه إشرافٌ . وقال البعض : الاستشراف هو : التّعرّض للسّؤال .
الحكم الإجماليّ :
2 - ينبغي استشراف الأضحيّة لتعرف سلامتها من العيوب المانعة من الإجزاء ، لحديث عليٍّ رضي الله تعالى عنه « أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ، وألاّ نضحّي بمقابلةٍ ، ولا مدابرةٍ ، ولا شرقاء ، ولا خرقاء » . رواه أبو داود والنّسائيّ وغيرهما ، وصحّحه التّرمذيّ .
3 - أمّا الاستشراف في الأموال : فإن كان بالقلب فلا يؤاخذ الإنسان عليه ؛ لأنّ اللّه عزّ وجلّ تجاوز لهذه الأمّة عمّا حدّثت به أنفسها ، ما لم ينطق به لسانٌ أو تعمله جارحةٌ ، وما اعتقده القلب من المعاصي – غير الكفر – فليس بشيءٍ حتّى يعمل به ، وخطرات النّفس متجاوزٌ عنها بالإجماع . وعند أحمد : الاستشراف بالقلب كالتّعرّض باللّسان .
وللعلماء في قبول المال دون استشرافٍ - بمعنى التّحدّث في النّفس من غير سؤالٍ - ثلاثة آراءٍ :
4 - أ - جواز القبول وعدمه ، غير أنّ من الفقهاء من أطلق ذلك ، ومنهم من جعله لمن ملك أقلّ من نصابٍ ، وقال قومٌ : إنّ ذلك خاصٌّ بعطيّة غير السّلطان . واستدلّوا بحديث حكيم بن حزامٍ رضي الله عنه قال : « سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأعطاني ، ثمّ سألته فأعطاني ، ثمّ سألته فأعطاني ، ثمّ قال : يا حكيم إنّ هذا المال حلوةٌ خضرةٌ ، فمن أخذه بسخاوة نفسٍ بورك له فيه ، ومن أخذه بإشرافٍ لم يبارك فيه ، وكان كالّذي يأكل ولا يشبع ، واليد العليا خيرٌ من اليد السّفلى . قال حكيمٌ : فقلت : يا رسول اللّه والّذي بعثك بالحقّ لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتّى أفارق الدّنيا ، فكان أبو بكرٍ رضي الله عنه يدعو حكيماً ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئاً ، ثمّ إنّ عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله ، فقال : يا معشر المسلمين أشهدكم على حكيمٍ أنّي أعرض عليه حقّه الّذي قسم اللّه له في هذا الفيء فيأبى أن يأخذه ، فلم يرزأ حكيمٌ أحداً من النّاس بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتّى توفّي » رواه البخاريّ .
5 - ب ـ وجوب الآخذ ، وحرمة الرّدّ ، لحديث سالم بن عبد اللّه بن عمر عن أبيه عن عمر رضي الله عنه قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء ، فأقول : أعطه أفقر منّي ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : خذه ، وما جاءك من هذا المال وأنت غير سائلٍ ولا مشرفٍ فخذه ، وما لا فلا تتبعه نفسك ، قال : فكان سالمٌ لا يسأل أحداً شيئاً ، ولا يردّ شيئاً أعطيه » رواه البخاريّ ومسلمٌ .
6 - ج - استحباب الأخذ ، وحمل النّصوص المذكورة للوجوب على الاستحباب ، غير أنّ منهم من أطلق ، ومنهم من قصره على عطيّة غير السّلطان . جاء في شرح مسلمٍ : « الصّحيح الّذي عليه الجمهور : يستحبّ القبول في غير عطيّة السّلطان ، وأمّا عطيّة السّلطان فحرّمها قومٌ ، وأباحها قومٌ ، وكرهها قومٌ ، قال : والصّحيح إن غلب الحرام فيما في يد السّلطان حرّمت ، وإلاّ أبيح ، إن لم يكن في القابض مانعٌ من الاستحقاق » .
7 - والاستشراف بمعنى التّعرّض للسّؤال ، لا تختلف أحكامه عن أحكام السّؤال . ( ر : سؤالٌ ) .
مواطن البحث :
8 - يتكلّم الفقهاء عن الاستشراف في صدقة التّطوّع ، وفي الأضحيّة ، وفي الحظر والإباحة .


*استشهادٌ
التعريف
1 - الاستشهاد في اللّغة : طلب الشّهادة من الشّهود ، فيقال : استشهده : إذا سأله تحمّل أو أداء الشّهادة ، قال تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } واستعمل في القتل في سبيل اللّه ، فيقال : استشهد : قتل في سبيل اللّه . وفي اصطلاح الفقهاء لا يخرج استعمالهم عن هذين المعنيين . ويستعمل الفقهاء في الغالب لفظة إشهادٍ ، ويراد بها : الاستشهاد على حقٍّ من الحقوق .
الحكم الإجماليّ :
2 - الاستشهاد - بمعنى طلب الشّهادة - يختلف من حقٍّ إلى حقٍّ ؛ لذا يختلف الحكم تبعاً للمواطن ، ومن تلك المواطن : الاستشهاد في الرّجعة ، فهو مستحبٌّ عند الحنفيّة ، والحنابلة ، وفي قولٍ عند الشّافعيّة ، ومندوبٌ عند المالكيّة ، وواجبٌ في قولٍ آخر عند الشّافعيّة .
مواطن البحث :
3 - يفصّل الفقهاء أحكام الاستشهاد بالنّسبة لكلّ مسألةٍ في موضعها ، ومن تلك المواطن : النّكاح ، والرّجعة ، والوصيّة ، والزّنا ، واللّقطة ، واللّقيط ، وكتاب القاضي للقاضي ، وغيرها عند الكلام عن الاستشهاد ، أو الإشهاد فيها .
4 - أمّا الاستعمال الثّاني - بمعنى القتل في سبيل اللّه - فيرجع في تفصيل ذلك إلى الجنائز ، عند الكلام عن غسل الميّت وعدم غسله . والجهاد ، عند الحديث عن فضل القتل في سبيل اللّه .


*استصباحٌ
التعريف
1 - الاستصباح في اللّغة : مصدر استصبح بمعنى : أوقد المصباح ، وهو الّذي يشتعل منه الضّوء . واستصبح بالزّيت ونحوه : أي أمدّ به مصباحه ، كما في حديث جابرٍ في السّؤال عن شحوم الميتة .. « ويستصبح بها النّاس » : أي يشعلون بها سرجهم " ولم يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى ، فقد ورد في طلبة الطّلبة الاستصباح بالدّهن : إيقاد المصباح ، وهو السّراج . وفي المصباح المنير استصبحت بالمصباح ، واستصبحت بالدّهن : نوّرت به المصباح .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاقتباس :
2 - الاقتباس له معانٍ عدّةٌ أهمّها : طلب القبس ، وهو الشّعلة من النّار ، فإذا كان بهذا المعنى فهو يختلف عن الاستصباح ، كما ظهر من التعريف . والفرق واضحٌ بين طلب الشّعلة ، وإيقاد الشّيء لتتكوّن لنا شعلةٌ ، فالإيقاد سابقٌ لطلب الشّعلة . أمّا كون الاقتباس بمعنى تضمين المتكلّم كلامه - شعراً كان أو نثراً - شيئاً من القرآن الكريم ، أو الحديث النّبويّ الشّريف ، على وجهٍ لا يكون فيه إشعارٌ بأنّه من القرآن أو الحديث ، فهو بعيدٌ جدّاً عن معنى الاستصباح .
ب - الاستضاءة :
3 - الاستضاءة مصدر : استضاء . والاستضاءة : طلب الضّوء . يقال : استضاء بالنّار : أي استنار بها ، أي انتفع بضوئها ، فإيقاد السّراج غير الانتفاع بضوئه ، إذ أنّه يكون سابقاً للاستضاءة .
حكم الاستصباح :
4 - يختلف حكم الاستصباح باختلاف ما يستصبح به ، والمكان الّذي يستصبح فيه ، فإن كان ما يستصبح به طاهراً فبها ، وإلاّ فيفرّق بين ما هو نجسٌ وما هو متنجّسٌ ، وما إذا كان في المسجد وما إذا كان في غيره .
أ - فإن كان ما يستصبح به نجساً بعينه ، كشحم الخنزير ، أو شحم الميتة ، فجمهور الفقهاء على حرمة الاستصباح به ، سواءٌ أكان في المسجد أم في غيره ، وذلك للأدلّة التّالية : أوّلاً : أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « لمّا سئل عن الانتفاع بشحوم الميتة باستصباحٍ وغيره قال : لا ، هو حرامٌ » .
ثانياً : وقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تنتفعوا من الميتة بشيءٍ » .
ثالثاً : ولأنّه مظنّة التّلوّث به ، ولكراهة دخان النّجاسة .
ب - وإن كان متنجّساً ، أي أنّ الوقود طاهرٌ في الأصل ، وأصابته نجاسةٌ ، فإن كان الاستصباح به في المسجد فجمهور الفقهاء على عدم جواز ذلك . أمّا إن كان الاستصباح بالمتنجّس في غير المسجد ، فيجوز عند جمهور الفقهاء ، لأنّ الوقود يمكن الانتفاع به من غير ضررٍ ، فجاز كالطّاهر . وقد جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « في العجين الّذي عجن بماءٍ من آبار ثمود أنّه نهاهم عن أكله ، وأمرهم أن يعلفوه النّواضح » ( الإبل الّتي يستقى عليها ) وهذا الوقود ليس بميتةٍ ، ولا هو من شحومها فيتناوله الخبر .
حكم استعمال مخلّفاتهما :
5 - إذا استصبح بالمتنجّس ، أو النّجس فلا بأس بدخانه أو رماده عند الحنفيّة والمالكيّة ، إذا لم يكن يعلق بالثّياب ، وذلك لاضمحلال النّجاسة بالنّار ، وزوال أثرها ، فمجرّد الملاقاة لا ينجّس ، بل ينجّس إذا علق . والظّاهر أنّ المراد بالعلوق أن يظهر أثره ، أمّا مجرّد الرّائحة فلا . وكذلك يرون أنّ العلّة في جواز الانتفاع هي التّغيّر وانقلاب الحقيقة ، وأنّه يفتى به للبلوى . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فيرون أنّ المتنجّس كالنّجس ؛ لأنّه جزءٌ يستحيل منه ، والاستحالة لا تطهر ، فإن علق شيءٌ وكان يسيراً عفي عنه ؛ لأنّه لا يمكن التّحرّز منه فأشبه دم البراغيث ، وإن كان كثيراً لم يعف عنه . وقيل أيضاً بأنّ دخان النّجاسة نجسٌ ، ولا شكّ أنّ ما ينفصل من الدّخان يؤثّر في الحيطان ، وذلك يؤدّي إلى تنجيسها فلا يجوز . وينظر تفصيل هذا في ( نجاسةٌ ) .
آداب الاستصباح :
6 - يستحبّ عند جمهور الفقهاء إطفاء المصباح عند النّوم ، خوفاً من الحريق المحتمل بالغفلة ، فإن وجدت الغفلة حصل النّهي . وقد وردت أحاديث كثيرةٌ للرّسول صلى الله عليه وسلم تدلّ على هذا ، منها حديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنه قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : خمّروا الآنية » أي غطّوها « وأجيفوا الأبواب » أي أغلقوها « وأطفئوا المصابيح ، فإنّ الفويسقة ربّما جرّت الفتيلة ، فأحرقت أهل البيت » . قال ابن مفلحٍ : يستحبّ إطفاء النّار عند النّوم ؛ لأنّها عدوٌّ مزمومٌ بزمامٍ لا يؤمن لهبها في حالة نوم الإنسان . أمّا إن جعل المصباح في شيءٍ معلّقٍ أو على شيءٍ لا يمكن الفواسق والهوامّ التّسلّق إليه فلا أرى بذلك بأساً .


*استصحابٌ
التعريف
1 - الاستصحاب في اللّغة : الملازمة ، يقال : استصحبت الكتاب وغيره : حملته بصحبتي . وأمّا في الاصطلاح ، فقد عرّف بعدّة تعريفاتٍ منها ما عرّفه به الإسنويّ بقوله : الاستصحاب عبارةٌ عن الحكم بثبوت أمرٍ في الزّمن الآتي ، بناءً على ثبوته في الزّمن الأوّل . ومثاله : أنّ المتوضّئ بيقينٍ يبقى على وضوئه وإن شكّ في نقض طهارته .
الألفاظ ذات الصّلة
الإباحة :
2 - الإباحة الأصليّة - بمعنى براءة الذّمّة - نوعٌ من أنواع الاستصحاب ، وهي ما يسمّى باستصحاب العدم الأصليّ . وأمّا الإباحة الّتي هي قسمٌ من أقسام الحكم التّكليفيّ ، فهي مغايرةٌ للاستصحاب ، إذ الاستصحاب - عند من يقول به - نوعٌ من الأدلّة الّتي تثبت بها الإباحة وغيرها من الأحكام .
أنواع الاستصحاب :
3 - للاستصحاب أنواعٌ ثلاثةٌ متّفقٌ عليها ، هي :
أ - استصحاب العدم الأصليّ ، كنفي وجوب صلاةٍ سادسةٍ ، ونفي وجوب صوم شوّالٍ .
ب - استصحاب العموم إلى أن يرد المخصّص ، كبقاء العموم في قوله تعالى : { وحرّم الرّبا } ، واستصحاب النّصّ إلى أن يرد ناسخٌ ، كوجوب جلد كلّ قاذفٍ زوجاً أو غيره ، إلى أن ورد النّاسخ الجزئيّ ، بالنّسبة للزّوج دون غيره .
ج - استصحاب حكمٍ دلّ الشّرع على ثبوته ودوامه ، كالملك عند جريان العقد الّذي يفيد التّمليك ، وكشغل الذّمّة عند جريان إتلافٍ أو إلزامٍ ، فيبقى الملك والدّين إلى أن يثبت زوالهما بسببٍ مشروعٍ . وهناك نوعان آخران للاستصحاب مختلفٌ في حجّيّتهما ، وموضع تفصيلهما الملحق الأصوليّ .
حجّيّته :
4 - اختلف الأصوليّون في حجّيّة الاستصحاب على أقوالٍ أشهرها :
أ - قال المالكيّة ، وأكثر الشّافعيّة ، والحنابلة بحجّيّته مطلقاً ، أي في النّفي والإثبات .
ب - وقال أكثر الحنفيّة ، والمتكلّمين بعدم حجّيّته مطلقاً .
ج - ومنهم من قال بحجّيّته في النّفي دون الإثبات ، وهم أكثر المتأخّرين من الحنفيّة . وهناك أقوالٌ أخرى موضعها وتفصيلها في الملحق الأصوليّ .
مرتبته في الحجّيّة :
5 - الاستصحاب - عند من يقول بحجّيّته - هو آخر دليلٍ يلجأ إليه المجتهد ، لمعرفة حكم ما يعرض عليه ، ولهذا قال الفقهاء : إنّه آخر مدار الفتوى ، وعليه ثبتت القاعدة الفقهيّة المشهورة : ( الأصل بقاء ما كان على ما كان ، حتّى يقوم الدّليل على خلافه ) والقاعدة : ( ما ثبت باليقين لا يزول بالشّكّ ) .


*استصلاحٌ
التعريف
1 - الاستصلاح في اللّغة : نقيض الاستفساد . وعند الأصوليّين : استنباط الحكم في واقعةٍ لا نصّ فيها ولا إجماع ، بناءً على مصلحةٍ عامّةٍ لا دليل على اعتبارها ولا إلغائها . ويعبّر عنه أيضاً بالمصلحة المرسلة .
2 - والمصلحة في اللّغة : ضدّ المفسدة . وفي الاصطلاح عند الغزاليّ : المحافظة على مقاصد الشّرع الخمسة .
3 - والمصالح المرسلة : ما لا يشهد لها أصلٌ بالاعتبار ولا بالإلغاء ، لا بالنّصّ ولا بالإجماع ، ولا يترتّب الحكم على وفقه .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستحسان :
4 - عرّفه الأصوليّون بتعاريف كثيرةٍ ، المختار منها : العدول إلى خلاف النّظير بدليلٍ أقوى منه ، كدخول الحمّام من غير تقييدٍ بزمان مكثٍ ، ولا مقدار ماءٍ ، لدليل العرف . وعلى ذلك فالاستحسان يكون في مقابلة قياسٍ بقياسٍ ، أو بمقابلة نصٍّ بقاعدةٍ عامّةٍ ، والاستصلاح ليس كذلك .
ب - القياس :
5 - وهو مساواة المسكوت عنه بالمنصوص عليه في علّة الحكم . فالفرق بين الاستصلاح وبين القياس : أنّ للقياس أصلاً يقاس الفرع عليه ، في حين أنّه ليس للاستصلاح هذا الأصل . أقسام المناسب المرسل :
6 - المناسب الّذي يقوم عليه الاستصلاح ينقسم إلى ثلاثة أقسامٍ :
أ - إمّا أن يعتبره الشّارع بأيّ نوعٍ من أنواع الاعتبارات .
ب - وإمّا أن يلغيه .
ج - وإمّا أن يسكت عنه . والأخير هو الاستصلاح .
حجّيّة الاستصلاح :
7 - اختلف في حجّيّته على مذاهب كثيرةٍ ، والحقّ أنّه ما من مذهبٍ من المذاهب إلاّ يأخذ به إجمالاً ، وقد وضع بعضهم قيوداً لجواز الأخذ به ، وبيان ذلك كلّه في الملحق الأصوليّ ، عند الكلام عن المصلحة المرسلة .


*استصناعٌ
التعريف
1 - الاستصناع في اللّغة : مصدر استصنع الشّيء : أي دعا إلى صنعه ، ويقال : اصطنع فلانٌ باباً : إذا سأل رجلاً أن يصنع له باباً ، كما يقال : اكتتب أي أمر أن يكتب له . وفي الاصطلاح هو على ما عرّفه بعض الحنفيّة : عقدٌ على مبيعٍ في الذّمّة شرط فيه العمل . فإذا قال شخصٌ لآخر من أهل الصّنائع : اصنع لي الشّيء الفلانيّ بكذا درهماً ، وقبل الصّانع ذلك ، انعقد استصناعاً عند الحنفيّة ، وكذلك الحنابلة ، حيث يستفاد من كلامهم أنّ الاستصناع : بيع سلعةٍ ليست عنده على غير وجه السّلم ، فيرجع في هذا كلّه عندهم إلى البيع وشروطه عند الكلام عن البيع بالصّنعة . أمّا المالكيّة والشّافعيّة : فقد ألحقوه بالسّلم ، فيؤخذ تعريفه وأحكامه من السّلم ، عند الكلام عن السّلف في الشّيء المسلم للغير من الصّناعات .
الألفاظ ذات الصّلة :
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
أ - الإجارة على الصّنع :
2 - الإجارة على الصّنع هي عند بعض الفقهاء : بيع عملٍ تكون العين فيه تبعاً . فالإجارة على الصّنع تتّفق مع الاستصناع في كون العمل على العامل ، وهو الصّانع في الاستصناع ، والأجير في الإجارة على الصّنع . ويفترقان في محلّ البيع . ففي الإجارة على الصّنع : المحلّ هو العمل ، أمّا في الاستصناع : فهو العين الموصوفة في الذّمّة ، لا بيع العمل . وفرقٌ آخر هو أنّ الإجارة على الصّنع تكون بشرط : أن يقدّم المستأجر للعامل « المادّة » ، فالعمل على العامل ، والمادّة من المستأجر ، أمّا في الاستصناع : فالمادّة والعمل من الصّانع .
ب - السّلم في الصّناعات :
3 - السّلم في الصّناعات هو نوعٌ من أنواع السّلم ، إذ أنّ السّلم إمّا أن يكون بالصّناعات أو بالمزروعات ، أو غير ذلك . والسّلم هو : « شراء آجلٍ بعاجلٍ » فالاستصناع يتّفق مع السّلم بصورةٍ كبيرةٍ ، فالآجل الّذي في السّلم هو ما وصف في الذّمّة ، وممّا يؤكّد هذا جعل الحنفيّة مبحث الاستصناع ضمن مبحث السّلم ، وهو ما فعله المالكيّة والشّافعيّة ، إلاّ أنّ السّلم عامٌّ للمصنوع وغيره ، والاستصناع خاصٌّ بما اشترط فيه الصّنع ، والسّلم يشترط فيه تعجيل الثّمن ، في حين أنّ الاستصناع التّعجيل - فيه عند أكثر الحنفيّة - ليس بشرطٍ .
ج - الجعالة :
4 - الجعالة هي : التزام عوضٍ معلومٍ على عملٍ معيّنٍ أو مجهولٍ عسر عمله ، وهي عقدٌ على عملٍ . فالجعالة تتّفق مع الاستصناع في أنّهما عقدان شرط فيهما العمل . ويفترقان في أنّ الجعالة عامّةٌ في الصّناعات وغيرها ، إلاّ أنّ الاستصناع خاصٌّ في الصّناعات ، كما أنّ الجعالة العمل فيها قد يكون معلوماً ، وقد يكون مجهولاً ، في حين أنّ الاستصناع لا بدّ أن يكون معلوماً .
معنى الاستصناع :
5 - اختلف المشايخ فيه ، فقال بعضهم : هو مواعدةٌ وليس ببيعٍ . وقال بعضهم : هو بيعٌ لكن للمشتري فيه خيارٌ ، وهو الصّحيح ، بدليل أنّ محمّداً رحمه الله ذكر في جوازه القياس والاستحسان ، وذلك لا يكون في العدّات . وكذا أثبت فيه خيار الرّؤية ، وأنّه يختصّ بالبياعات . وكذا يجري فيه التّقاضي ، وأنّ ما يتقاضى فيه الواجب ، لا الموعود . وهناك رأيٌ عند بعض الحنفيّة أنّه وعدٌ ، وذلك لأنّ الصّانع له ألاّ يعمل ، وبذلك كان ارتباطه مع المستصنع ارتباط وعدٍ لا عقدٍ ؛ لأنّ كلّ ما لا يلزم به الصّانع مع إلزام نفسه به يكون وعداً لا عقداً ، لأنّ الصّانع لا يجبر على العمل بخلاف السّلم ، فإنّه مجبرٌ بما التزم به ؛ ولأنّ المستصنع له الحقّ في عدم تقبّل ما يأتي به الصّانع من مصنوعٍ ، وله أن يرجع عمّا استصنعه قبل تمامه ورؤيته ، وهذا علامة أنّه وعدٌ لا عقدٌ .
الاستصناع بيعٌ أم إجارةٌ :
6 - يرى أكثر الحنفيّة والحنابلة أنّ الاستصناع بيعٌ . فقد عدّد الحنفيّة أنواع البيوع ، وذكروا منها الاستصناع ، على أنّه بيع عينٍ شرط فيه العمل ، أو هو بيعٌ لكن للمشتري خيار الرّؤية ، فهو بيعٌ إلاّ أنّه ليس على إطلاقه ، فخالف البيع المطلق في اشتراط العمل في الاستصناع ، والمعروف أنّ البيع لا يشترط فيه العمل . وقال بعض الحنفيّة : إنّ الاستصناع إجارةٌ محضةٌ ، وقيل : إنّه إجارةٌ ابتداءً ، بيعٌ انتهاءً .
صفة الاستصناع : حكمه التّكليفيّ :
7 - الاستصناع - باعتباره عقداً مستقلاًّ - مشروعٌ عند أكثر الحنفيّة على سبيل الاستحسان ، ومنعه زفر من الحنفيّة أخذاً بالقياس ؛ لأنّه بيع المعدوم . ووجه الاستحسان : استصناع الرّسول صلى الله عليه وسلم الخاتم ، والإجماع من لدن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دون نكيرٍ ، وتعامل النّاس بهذا العقد والحاجة الماسّة إليه . ونصّ الحنابلة على أنّه لا يصحّ استصناع سلعةٍ ، لأنّه بيع ما ليس عنده على وجه غير السّلم ، وقيل : يصحّ بيعه إلى المشتري إن صحّ جمعٌ بين بيعٍ وإجارةٍ منه بعقدٍ واحدٍ ؛ لأنّه بيعٌ وسلمٌ .
حكمة مشروعيّة الاستصناع :
8 - الاستصناع شرع لسدّ حاجات النّاس ومتطلّباتهم ؛ نظراً لتطوّر الصّناعات تطوّراً كبيراً ، فالصّانع يحصل له الارتفاق ببيع ما يبتكر من صناعةٍ هي وفق الشّروط الّتي وضع عليها المستصنع في المواصفات والمقايسات ، والمستصنع يحصل له الارتفاق بسدّ حاجيّاته وفق ما يراه مناسباً لنفسه وبدنه وماله ، أمّا الموجود في السّوق من المصنوعات السّابقة الصّنع فقد لا تسدّ حاجات الإنسان . فلا بدّ من الذّهاب إلى من لديه الخبرة والابتكار .
أركان الاستصناع :
أركان الاستصناع هي : العاقدان ، والمحلّ ، والصّيغة .
9 - أمّا الصّيغة ، أو الإيجاب والقبول فهي : كلّ ما يدلّ على رضا الجانبين « البائع والمشتري » ومثالها هنا : اصنع لي كذا ، ونحو هذه العبارة لفظاً أو كتابةً .
10 - وأمّا محلّ الاستصناع فقد اختلف فقهاء الحنفيّة فيه ، هل هو العين أو العمل ؟ فجمهور الحنفيّة على أنّ العين هي المعقود عليه ، وذلك لأنّه لو استصنع رجلٌ في عينٍ يسلّمها له الصّانع بعد استكمال ما يطلبه المستصنع ، سواءٌ أكانت الصّنعة قد تمّت بفعل الصّانع أم بفعل غيره بعد العقد ، فإنّ العقد يلزم ، ولا تردّ العين لصانعها إلاّ بخيار الرّؤية . فلو كان العقد وارداً على صنعة الصّانع أي « عمله » لما صحّ العقد إذا تمّت الصّنعة بصنع غيره . وهذا دليلٌ على أنّ العقد يتوجّه على العين لا على الصّنعة . ويرون أنّ المتّفق عليه أنّ الاستصناع ثبت فيه للمستصنع خيار الرّؤية ، وخيار الرّؤية لا يكون إلاّ في بيع العين ، فدلّ ذلك على أنّ المبيع هو العين لا الصّنعة . ومن الحنفيّة من يرى أنّ المعقود عليه في الاستصناع هو العمل ، وذلك لأنّ عقد الاستصناع ينبئ عن أنّه عقدٌ على عملٍ ، فالاستصناع طلب العمل لغةً ، والأشياء الّتي تستصنع بمنزلة الآلة للعمل ، ولو لم يكن عقد الاستصناع عقد عملٍ لما جاز أن يفرد بالتّسمية .
الشّروط الخاصّة للاستصناع :
11 - للاستصناع شروطٌ هي :
أ - أن يكون المستصنع فيه معلوماً ، وذلك ببيان الجنس والنّوع والقدر . والاستصناع يستلزم شيئين هما : العين والعمل ، وكلاهما يطلب من الصّانع .
ب - أن يكون ممّا يجري فيه التّعامل بين النّاس ؛ لأنّ ما لا تعامل فيه يرجع فيه للقياس فيحمل على السّلم ويأخذ أحكامه .
ج - عدم ضرب الأجل : اختلف في هذا الشّرط ، فمن الحنفيّة من يرى أنّه يشترط في عقد الاستصناع خلوّه من الأجل ، فإذا ذكر الأجل في الاستصناع صار سلماً ، ويعتبر فيه شرائط السّلم . وقد استدلّوا على اشتراط عدم ضرب الأجل في الاستصناع : بأنّ السّلم عقدٌ على مبيعٍ في الذّمّة مؤجّلاً . فإذا ما ضرب في الاستصناع أجلٌ صار بمعنى السّلم ولو كانت الصّيغة استصناعاً . وبأنّ التّأجيل يختصّ بالدّيون ؛ لأنّه وضع لتأخير المطالبة ، وتأخير المطالبة إنّما يكون في عقدٍ فيه مطالبةٌ ، وليس ذلك إلاّ في السّلم ، إذ لا دين في الاستصناع . وخالف في ذلك أبو يوسف ومحمّدٌ ، إذ أنّ العرف عندهما جرى بضرب الأجل في الاستصناع ، والاستصناع إنّما جاز للتّعامل ، ومن مراعاة التّعامل بين النّاس رأى الصّاحبان : أنّ . الاستصناع قد تعورف فيه على ضرب الأجل ، فلا يتحوّل إلى السّلم بوجود الأجل . وعندهما : أنّ الاستصناع إذا أريد يحمل على حقيقته ، فإنّ كلام المتعاقدين يحمل على مقتضاه ، وإذا كان كذلك فالأجل يحمل على الاستعجال لا الاستمهال ، خروجاً من خلاف أبي حنيفة .
الآثار العامّة للاستصناع :
12 - الاستصناع عقدٌ غير لازمٍ عند أكثر الحنفيّة ، سواءٌ تمّ أم لم يتمّ ، وسواءٌ أكان موافقاً للصّفات المتّفق عليها أم غير موافقٍ . وذهب أبو يوسف إلى أنّه إن تمّ صنعه - وكان مطابقاً للأوصاف المتّفق عليها - يكون عقداً لازماً ، وأمّا إن كان غير مطابقٍ لها فهو غير لازمٍ عند الجميع ؛ لثبوت خيار فوات الوصف .
ما ينتهي به عقد الاستصناع :
13 - ينتهي الاستصناع بتمام الصّنع ، وتسليم العين ، وقبولها ، وقبض الثّمن . كذلك ينتهي الاستصناع بموت أحد العاقدين ؛ لشبهه بالإجارة .


*استطابةٌ
التعريف
1 - الطّيّب لغةً : خلاف الخبث ، يقال : شيءٌ طيّبٌ : أي طاهرٌ نظيفٌ . والاستطابة : مصدر استطاب ، بمعنى : رآه طيّباً ، ومن معانيها : الاستنجاء ؛ لأنّ المستنجي يطهّر المكان وينظّفه من النّجس ، فتطيب نفسه بذلك . ويطلق الفقهاء الاستطابة على الاستنجاء ، ويجعلون الكلمتين مترادفتين . قال ابن قدامة في المغني : « الاستطابة هي : الاستنجاء بالماء أو الأحجار ، سمّي استطابةً ؛ لأنّه يطيّب جسده بإزالة الخبث عنه » . وقد وردت استطابةٌ بمعنى حلق العانة في حديث خبيب بن عديٍّ لمّا أرادوا قتله أنّه قال لامرأة عقبة بن الحارث : « ابغني حديدةً أستطيب بها » .
2 - ولأحكام الاستطابة بمعنى الاستنجاء ( ر : استنجاءٌ ) . ولأحكامها بمعنى حلق العانة ( ر : استحدادٌ ) .


*استطاعةٌ
التّعريف
1 - الاستطاعة في اللّغة : القدرة على الشّيء . والقدرة : هي صفةٌ بها إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل . وهي عند الفقهاء كذلك ، فهم يقولون مثلاً : الاستطاعة شرطٌ لوجوب الحجّ . وإذا كانت الاستطاعة والقدرة بمعنًى واحدٍ ، فإنّه يجدر بنا أن ننوّه أنّ الفقهاء يستعملون كلتا الكلمتين : ( استطاعةٌ ، قدرةٌ ) . وأنّ الأصوليّين يستعملون كلمة : ( قدرةٌ ) . قال في فواتح الرّحموت شرح مسلّم الثّبوت : اعلم أنّ القدرة المتعلّقة بالفعل ، المستجمعة لجميع الشّرائط الّتي يوجد الفعل بها ، أو يخلق اللّه تعالى عندها ، تسمّى : ( استطاعةٌ ) .
الألفاظ ذات الصّلة :
الإطاقة
2 - لا خلاف في المعنى بين استطاعةٍ وإطاقةٍ ، إذ أنّ كلّ كلمةٍ منهما تدلّ على غاية مقدور القادر ، واستفراغ وسعه في المقدور . إلاّ أنّ ما يفرّقهما عن ( القدرة ) في الاستعمال اللّغويّ هو : أنّ القدرة ليست لغاية المقدور ، ولذلك يوصف اللّه تعالى بالقادر ولا يوصف بالمطيق أو المستطيع .
الاستطاعة شرطٌ للتّكليف :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّ الاستطاعة شرطٌ للتّكليف ، فلا يجوز التّكليف بما لا يستطاع عادةً ، دلّ على ذلك كثيرٌ من نصوص القرآن والسّنّة ، فقال جلّ شأنه : { لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها } ، وقال صلى الله عليه وسلم : « إخوانكم خولكم ، جعلهم اللّه تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممّا يأكل ، وليلبسه ممّا يلبس ، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم ، فإن كلّفتموهم فأعينوهم » . وقد حكى في عمدة القاريّ عند كلامه على هذا الحديث الاتّفاق على تحريم التّكليف بغير المستطاع . وإذا صدر التّكليف حين الاستطاعة ، ثمّ فقدت هذه الاستطاعة حين الأداء ، أوقف هذا التّكليف إلى حين الاستطاعة . فقد كلّف اللّه تعالى من أراد الصّلاة بالوضوء ، فإن لم يستطعه سقط عنه الوضوء ، وصيّر إلى البدل ، وهو التّيمّم . وكلّف الحانث في يمينه بكفّارة الإطعام أو الكسوة أو الإعتاق ، فإن لم يستطع واحداً منها حين الأداء سقطت عنه وصير إلى البدل ، وهو الصّيام . وكلّف المسلم بالحجّ ، فإن لم يستطعه حين الأداء لمرضٍ ، أو فقد نفقةٍ ، أو غير ذلك ، سقط هذا التّكليف إلى حين الاستطاعة . وتجد ذلك مبسوطاً في أبوابه من كتب الفقه ، وفي مبحث الحكم من كتب الأصول .
شرط الاستطاعة :
4 - وشرط تحقّق الاستطاعة : وجودها حقيقةً لا حكماً . ومعنى وجودها حقيقةً وجود القدرة على الفعل من غير تعسّرٍ ، ومعنى وجودها حكماً القدرة على الأداء بتعسّرٍ .
أنواع الاستطاعة :
5 - يمكن تقسيم الاستطاعة إلى عدّة تقسيماتٍ بحسب أنواعها :
التّقسيم الأوّل : استطاعةٌ ماليّةٌ ، واستطاعةٌ بدنيّةٌ .
6 - الاستطاعة الماليّة : يشترط توافرها فيما يلي :
أوّلاً : في أداء الواجبات الماليّة المحضة ، كالزّكاة ، وصدقة الفطر ، والهدي في الحجّ ، والنّفقة ، والجزية ، والكفّارات الماليّة ، والنّذر الماليّ ، والكفالة بالمال ، ونحو ذلك .
ثانياً : في الواجبات البدنيّة الّتي يتوقّف القيام بها على الاستطاعة الماليّة ، كقدرة فاقد الماء على شرائه بثمن المثل للوضوء أو الغسل ، وقدرة فاقد ما يستر به عورته على شراء ثوبٍ بثمن المثل ليصلّي فيه ، وقدرة مريد الحجّ على توفير الزّاد والرّاحلة ونفقة العيال ، وقد فصّل ذلك الفقهاء في الأبواب المذكورة .
7 - أمّا الاستطاعة البدنيّة . فإنّها مشترطةٌ في وجوب الواجبات البدنيّة ، كوجوب الطّهارة ، وأداء الصّلاة على الوجه الأكمل ، وفي الصّوم ، وفي الحجّ ، وفي النّذر البدنيّ كالصّلاة والصّوم ، وفي الكفّارات البدنيّة كالصّيام ، وفي النّكاح ، وفي الحضانة ، وفي الجهاد ، وقد فصّلت أحكام ذلك في الأبواب المذكورة في كتب الفقه . التّقسيم الثّاني : استطاعةٌ بالنّفس ، واستطاعةٌ بالغير .
8 - الاستطاعة بالنّفس : تكون بقدرة المكلّف على القيام بما كلّف به بنفسه من غير افتقارٍ إلى غيره .
9 - والاستطاعة بالغير : هي قدرة المكلّف على القيام بما كلّف به بإعانة غيره ، وعدم قدرته بنفسه . وهذا النّوع من الاستطاعة اختلف الفقهاء في تحقّق شرط التّكليف به : فالجمهور من الفقهاء يعتبرون المستطيع بغيره مكلّفاً بمقتضى هذه الاستطاعة ، ذهب إلى ذلك المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وأبو يوسف ومحمّدٌ ؛ لأنّ المستطيع بغيره يعتبر قادراً على الأداء . وعند أبي حنيفة : المستطيع بغيره عاجزٌ وغير مستطيعٌ ؛ لأنّ العبد يكلّف بقدرة نفسه لا بقدرة غيره ؛ ولأنّه يعدّ قادراً إذا اختصّ بحالةٍ تهيّئ له الفعل متى أراد ، وهذا لا يتحقّق بقدرة غيره . ويستثني أبو حنيفة من ذلك حالتين : الحالة الأولى : ما إذا وجد من كانت إعانته واجبةً عليه ، كولده وخادمه . الحالة الثّانية : ما إذا وجد من إذا استعان به أعانه من غير منّةٍ ، كزوجته ، فإنّه يكون قادراً بقدرة هؤلاء . وقد أورد الفقهاء ذلك في كثيرٍ من أبواب الفقه . واختلفوا في حكمها ، ومنها : العاجز عن الوضوء إذا وجد من يعينه . والعاجز عن التّوجّه إلى القبلة إذا وجد من يوجّهه إليها . والأعمى إذا وجد من يقوده إلى صلاة الجمعة والجماعة . والأعمى والشّيخ الكبير إذا وجدا من يعينهما على أداء أفعال الحجّ . التّقسيم الثّالث : - وهو للحنفيّة - استطاعةٌ ممكنةٌ ، واستطاعةٌ ميسّرةٌ :
10 - الاستطاعة الممكنة مفسّرةٌ بسلامة الآلات وصحّة الأسباب ، وارتفاع الموانع ، إذ عديم الرّجلين لا يستطيع المشي ، ومن حبسه عدوٌّ لا يستطيع الحجّ وهكذا . والاستطاعة الممكنة شرطٌ في أداء الواجب عيناً ، فإن فاتت لا يسقط الواجب عن الذّمّة بفواتها . ولا يشترط توفّرها في قضاء الواجب ؛ لأنّ اشتراطها لتحقّق التّكليف ، وقد وجد ، فإذا لم يتكرّر الوجوب لا يجب تكرّر الاستطاعة الّتي هي شرط الوجوب .
11 - أمّا الاستطاعة الميسّرة ، فهي قدرة الإنسان على الفعل بسهولةٍ ويسرٍ . والاستطاعة الميسّرة شرطٌ في وجوب بعض الواجبات المشروطة بها ، حتّى لو فاتت هذه القدرة سقط الواجب عن الذّمّة . فالزّكاة واجبةٌ بالقدرة الميسّرة ، ومن وجوه اليسر فيها : أنّها قليلٌ من كثيرٍ ، وتؤدّى مرّةً واحدةً في الحول ، ولهذا التّيسير سقط وجوبها بهلاك النّصاب ، إذ لو وجبت مع الهلاك انقلب اليسر عسراً .
اختلاف الاستطاعة من شخصٍ لآخر ، ومن عملٍ لآخر :
12 - الاستطاعة تختلف من شخصٍ إلى شخصٍ آخر ، فتجاه عملٍ معيّنٍ قد يكون شخصٌ مستطيعاً له ، وشخصٌ آخر غير مستطيعٍ له ، كالمرض بأنواعه الّتي يختلف أثرها على القدرة . كما تختلف الاستطاعة من عملٍ إلى عملٍ ، فالأعرج غير مستطيعٍ للجهاد بالنّفس ، ولكنّه مستطيعٌ للجهاد بالمال ، ومستطيعٌ لأداء صلاة الجمعة وهكذا .


*استطلاق البطن
التعريف
1 - استطلاق البطن في اللّغة : هو مشيه ، وكثرة خروج ما فيه . والمعنى الاصطلاحيّ هو المعنى اللّغويّ ، فقد عرّفه الفقهاء بقولهم : استطلاق البطن هو : جريان ما فيه من الغائط .
الحكم الإجماليّ :
2 - استطلاق البطن من الأعذار الّتي تبيح العبادة مع وجود العذر . وشروط اعتباره عذراً هو : أن يستوعب وجوده تمام وقت صلاةٍ مفروضةٍ ، وهذا عند الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة . وعند المالكيّة : يعتبر عذراً إن لازم الحدث كلّ الوقت ، أو أغلبه ، أو نصفه . ويختلف المالكيّة في المقصود بالوقت ، هل هو وقت الصّلاة أو الوقت مطلقاً ؟ أي غير مقيّدٍ بكونه وقت صلاةٍ ، فيشمل ما بين طلوع الشّمس والزّوال على قولين : أظهرهما : أنّه وقت الصّلاة ؛ لأنّ غير وقت الصّلاة لا عبرة بمفارقته وملازمته ، إذ ليس هو مخاطباً حينئذٍ بالصّلاة . والوضوء واجبٌ لوقت كلّ صلاةٍ عند الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة . وذلك لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المستحاضة : « أنّها تتوضّأ لكلّ صلاةٍ » . وينتقض الوضوء بخروج الوقت عند الشّافعيّة ، والحنابلة ، وأبي حنيفة ومحمّدٍ . وينتقض عند زفر بدخول الوقت . وبأيّهما عند أبي يوسف . أمّا المالكيّة : فعندهم أنّ الوضوء لا ينتقض ، وهو ( أي الوضوء ) غير واجبٍ ولا مستحبٍّ لمن لازمه الحدث كلّ الوقت ، ومستحبٌّ فقط لمن لازمه الحدث أكثر الوقت أو نصفه ، وقيل : إن لازمه نصفه وجب الوضوء لكلّ صلاةٍ .


*استظلالٌ
التّعريف
1 - الاستظلال في اللّغة : طلب الظّلّ ، والظّلّ هو : كلّ ما لم تصل إليه الشّمس . وفي الاصطلاح : هو قصد الانتفاع بالظّلّ .
الحكم الإجماليّ :
2 - الاستظلال عموماً - سواءٌ تحت شجرةٍ أو جدارٍ أو سقفٍ وما كان في معناه - مباحٌ لكلّ مسلمٍ محرمٍ أو غير محرمٍ اتّفاقاً . أمّا الاستظلال للمحرم في المحمل خاصّةً - وما كان في معناه - فقد اختلف الفقهاء فيه ، فمنهم من جوّزه مطلقاً ، وهم الشّافعيّة ، ومنهم من اشترط ألاّ يصيب رأسه أو وجهه ، وهم الحنفيّة ... ، وكره ذلك المالكيّة ، والحنابلة .
مواطن البحث :
3 - الاستظلال في الإحرام موطنه مبحث الحجّ ، عند الكلام عن المحرم : ما يجوز له وما لا يجوز . والإجارة على الاستظلال ذكروها في الإجارة ، عند الكلام عن شروطها . والجلوس بين الشّمس والظّلّ ذكر في الآداب الشّرعيّة للمجالس ، عند الكلام عن النّوم والجلوس بين الشّمس والظّلّ . والنّذر بترك الاستظلال ذكر في النّذر ، عند الكلام عن النّذر المباح .


*استظهارٌ
التعريف
1 - ذكر صاحب اللّسان للاستظهار ثلاثة معانٍ :
أ - أن يكون بمعنى : الاستعانة ، أي طلب العون . قال : « استظهر به أي استعانه ، وظهرت عليه : أعنته ، وظاهر فلاناً : أعانه » . وقال أيضاً : « استظهره : استعانه » ، وعلى هذا يكون الفعل ممّا يتعدّى بنفسه وبالباء .
ب - ويكون بمعنى القراءة عن ظهر قلبٍ ، قال : « قرأت القرآن عن ظهر قلبي أي : قرأته من حفظي ، وقد قرأه ظاهراً واستظهره أي : حفظه وقرأه ظاهراً » . وفي القاموس « استظهره : قرأه من ظهر القلب ، أي حفظاً بلا كتابٍ » .
ج - ويكون بمعنى الاحتياط ، قال صاحب اللّسان : « في كلام أهل المدينة إذا استحيضت المرأة ، واستمرّ بها الدّم فإنّها تقعد أيّامها للحيض ، فإذا انقضت استظهرت بثلاثة أيّامٍ ، تقعد فيها للحيض ولا تصلّي ، ثمّ تغتسل وتصلّي . قال الأزهريّ : ومعنى الاستظهار في قولهم هذا : الاحتياط والاستيثاق » . ويستعمل الفقهاء الاستظهار بالمعاني الثّلاثة السّابقة .
الحكم الإجماليّ :
استظهار القرآن :
2 - في كون استظهار القرآن أفضل من قراءته من المصحف ثلاثة أقوالٍ للعلماء : أوّلها : أنّ القراءة في المصحف أفضل من استظهاره ، ونسبه النّوويّ إلى الشّافعيّة ، وقال : إنّه المشهور عن السّلف . ووجهه : أنّ النّظر في المصحف عبادةٌ . واحتجّ له الزّركشيّ والسّيوطيّ برواية أبي عبيدٍ بسنده مرفوعاً : « فضل قراءة القرآن نظراً على من يقرؤه ظاهراً كفضل الفريضة على النّافلة » . قال السّيوطيّ : سنده صحيحٌ . وثانيها : أنّ القراءة عن ظهر قلبٍ أفضل ، ونسب إلى أبي محمّد بن عبد السّلام . وثالثها : واختاره النّوويّ ، إنّ القارئ من حفظه إن كان يحصل له من التّدبّر والتّفكّر وجمع القرآن أكثر ممّا يحصل له من المصحف فالقراءة من الحفظ أفضل ، وإن استويا فمن المصحف أفضل . وبقيّة مباحث الاستظهار تنظر تحت عنوان ( تلاوةٌ ) .
يمين الاستظهار :
3 - ذكر بعض الفقهاء يمين الاستظهار ، وفسّرها الدّسوقيّ المالكيّ بأنّها مقوّيةٌ للحكم فقط ، فلا ينقض الحكم بدونها . وأمّا ما يتوقّف عليه الحكم فهو يمين القضاء ، أو يمين الاستبراء . ويحلف المدّعي يمين الاستظهار إذا ادّعى على ميّتٍ أو غائبٍ ، وأقام شاهدين بالحقّ . فمن يمين الاستظهار ما قال الرّمليّ الشّافعيّ : أنّه لو ادّعى من لزمته الزّكاة ممّن استولى عليهم البغاة دفع الزّكاة إلى البغاة ، فإنّه يصدق بلا يمينٍ لبناء الزّكاة على التّخفيف ، ويندب الاستظهار بيمينه على صدقه إذا اتّهم ، خروجاً من خلاف من أوجبها . وذكر المالكيّة في المرأة تريد الفراق من زوجها الغائب لعدم النّفقة ، فإن كانت الغيبة بعيدةً أجّلها القاضي بحسب ما يراه ، فإذا انقضت المدّة استظهر عليها باليمين . والحنفيّة ، والحنابلة ذكروا استحلاف المدّعي إذا ادّعى على ميّتٍ أو غائبٍ وأقام بيّنةً .
مواطن البحث :
4 - يذكر الفقهاء يمين الاستظهار في مباحث الدّعوى ، ومباحث القضاء ، والقضاء على الغائب . وأمّا الاستظهار - بمعنى الاستعانة - فتذكر أحكامه تحت عنوان : ( استعانةٌ ) . ويذكر الاستظهار - بمعنى الاحتياط - في مباحث الحيض ، وانظر ( احتياطٌ ) .
نهاية الجزء الثالث/ الموسوعة الفقهية
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الموسوعة الفقهية / الجزء الرابع
******************
استعاذةٌ
التعريف :
1 - الاستعاذة لغةً : الالتجاء ، وقد عاذ به يعوذ : لاذ به ، ولجأ إليه ، واعتصم به ، وعذت بفلانٍ واستعذت به : أي لجأت إليه . ولا يختلف معناها اصطلاحاً عن المعنى اللّغويّ ، فقد عرّفها البيجوريّ من الشّافعيّة بأنّها : الاستجارة إلى ذي منعةٍ على جهة الاعتصام به من المكروه . وقول القائل : أعوذ باللّه .. خبرٌ لفظاً دعاءٌ معنًى .
ولكن عند الإطلاق ، ولا سيّما عند تلاوة القرآن أو الصّلاة تنصرف إلى قول : ( أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم ) وما بمنزلتها كما سيأتي .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الدّعاء :
2 - الدّعاء أعمّ من الاستعاذة ، فهو لجلب الخير أو دفع الشّرّ والاستعاذة دعاءٌ لدفع الشّرّ . صفتها : حكمها التّكليفيّ :
3 - الاستعاذة سنّةٌ عند أغلب الفقهاء ، وقال البعض بوجوبها عند قراءة القرآن ، وعند الخوف . وسيأتي تفصيل الحكم في كلّ موطنٍ على حدةٍ .
حكمة تشريعها :
4 - طلب اللّه سبحانه من عباده أن يستعيذوا به من كلّ ما فيه شرٌّ ، وشرعها سبحانه عند القيام ببعض الأعمال ، كقراءة القرآن في الصّلاة وخارجها ، وغير ذلك .« واستعاذ الرّسول صلى الله عليه وسلم من الشّرّ كلّه ، بل إنّه استعاذ ممّا عوفي منه وعصم »، إظهاراً للعبوديّة ، وتعليماً لأمّته .
مواطن الاستعاذة :
أوّلاً : الاستعاذة لقراءة القرآن :
5 - أجمع العلماء على أنّ الاستعاذة ليست من القرآن الكريم ، ولكنّها تطلب لقراءته ، لأنّ قراءته من أعظم الطّاعات ، وسعي الشّيطان للصّدّ عنها أبلغ . وأيضاً : القارئ يناجي ربّه بكلامه ، واللّه سبحانه يحبّ القارئ الحسن التّلاوة ويستمع إليه ، فأمر القارئ بالاستعاذة لطرد الشّيطان عند استماع اللّه سبحانه وتعالى له .
حكمها :
6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّها سنّةٌ ، وعن عطاءٍ والثّوريّ : أنّها واجبةٌ أخذاً بظاهر قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه } « ولمواظبته عليه الصلاة والسلام »، ولأنّها تدرأ شرّ الشّيطان ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجبٌ . واحتجّ الجمهور بأنّ الأمر للنّدب ، وصرفه عن الوجوب إجماع السّلف على سنّيّته ،« ولما روي من ترك النّبيّ صلى الله عليه وسلم لها »، وإذا ثبت هذا كفى صارفاً .
محلّها :
7 - للقرّاء والفقهاء في محلّ الاستعاذة من القراءة ثلاثة آراءٍ :
أحدها : أنّها قبل القراءة ، وهو قول الجمهور ، وذكر ابن الجزريّ الإجماع على ذلك ، ونفى صحّة القول بخلافه . واستدلّوا على ذلك بما رواه أئمّة القرّاء مسنداً عن نافعٍ عن جبير بن مطعمٍ« أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقول قبل القراءة : أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم ». دلّ الحديث على أنّ التّقديم هو السّنّة ، فبقي سببيّة القراءة لها ،
والفاء في ( فاستعذ ) دلّت على السّببيّة ، فلتقدّر ( الإرادة ) ليصحّ .
وأيضاً الفراغ من العمل لا يناسب الاستعاذة .
الثّاني : أنّها بعد القراءة ، وهو منسوبٌ إلى حمزة ، وأبي حاتمٍ ، ونقل عن أبي هريرة رضي الله عنه وابن سيرين ، وإبراهيم النّخعيّ ، وحكي عن مالكٍ ، عملاً بظاهر الآية { فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه } . فدلّ على أنّ الاستعاذة بعد القراءة ، والفاء هنا للتّعقيب . وردّ صاحب كتاب النّشر صحّة هذا النّقل عمّن روي عنهم .
الثّالث : الاستعاذة قبل القراءة وبعدها ، ذكره الإمام الرّازيّ ، ونفى ابن الجزريّ الصّحّة عمّن نقل عنه أيضاً .
الجهر والإسرار بها :
8 - للفقهاء والقرّاء في الجهر بالاستعاذة ، أو الإسرار بها آراءٌ :
أوّلها : استحباب الجهر بها ، وهو قول الشّافعيّة ، وهو روايةٌ عن أحمد ، وهو المختار عند أئمّة القرّاء ، لم يخالف في ذلك إلاّ حمزة ومن وافقه ، قال الحافظ أبو عمرٍو في جامعه : لا أعلم خلافاً في الجهر بالاستعاذة عند افتتاح القرآن ، وعند ابتداء كلّ قارئٍ بعرضٍ ، أو درسٍ ، أو تلقينٍ في جميع القرآن ، إلاّ ما جاء عن نافعٍ وحمزة . وقيّد الإمام أبو شامة إطلاق اختيار الجهر بما إذا كان ذلك بحضرة من يسمع قراءته ، لأنّ الجهر بالتّعوّذ إظهارٌ لشعائر القراءة كالجهر بالتّلبية وتكبيرات العيد ، ومن فوائده أنّ السّامع ينصت للقراءة من أوّلها لا يفوته منها شيءٌ ، وإذا أخفى التّعوّذ لم يعلم السّامع بالقراءة إلاّ بعد أن يفوته من المقروء شيءٌ ، وهذا المعنى هو الفارق بين القراءة خارج الصّلاة وفي الصّلاة ، فإنّ المختار في الصّلاة الإخفاء ، لأنّ المأموم منصتٌ من أوّل الإحرام بالصّلاة .
الثّاني : التّخيير بين الجهر والإسرار ، وهو الصّحيح عند الحنفيّة ، قال ابن عابدين : لكنّه يتّبع إمامه من القرّاء ، وهم يجهرون بها إلاّ حمزة فإنّه يخفيها ، وهو قول الحنابلة .
الثّالث : الإخفاء مطلقاً ، وهو قولٌ للحنفيّة ، وروايةٌ للحنابلة ، وهو روايةٌ عن حمزة . الرّابع : الجهر بالتّعوّذ في أوّل الفاتحة فقط ، والإخفاء في سائر القرآن ، وهو روايةٌ ثانيةٌ عن حمزة . ولم أقف على رأي المالكيّة في مسألة الاستعاذة خارج الصّلاة ، لكن يستأنس بما روي عن ابن المسيّب أنّه سئل عن استعاذة أهل المدينة أيجهرون بها أم يخفونها ؟ قال :( ما كنّا نجهر ولا نخفي ، ما كنّا نستعيذ ألبتّة ).
بعض المواضع الّتي يستحبّ فيها الإسرار :
9 - ذكر ابن الجزريّ بعض المواضع الّتي يستحبّ فيها الإسرار بالاستعاذة ، منها ما إذا قرأ خالياً ، سواءٌ أقرأ جهراً أمّ سرّاً ، ومنها ما إذا قرأ سرّاً ، ومنها ما إذا قرأ في الدّور ولم يكن في قراءته مبتدئاً يسرّ بالتّعوّذ ، لتتّصل القراءة ، ولا يتخلّلها أجنبيٌّ ، فإنّ المعنى الّذي من أجله استحبّ الجهر - وهو الإنصات - فقد في هذه المواضع .
المراد بالإخفاء :
10 - ذكر ابن الجزريّ اختلاف المتأخّرين في المراد بالإخفاء ، فقال : إنّ كثيراً منهم قالوا : هو الكتمان ، وعليه حمل كلام الشّاطبيّ أكثر الشّرّاح ، فعلى هذا يكفي فيه الذّكر في النّفس من غير تلفّظٍ . وقال الجمهور : المراد به الإسرار وعليه حمل الجعبريّ كلام الشّاطبيّ ، فلا يكفي فيه إلاّ التّلفّظ وإسماع نفسه ، وهذا هو الصّواب ، لأنّ نصوص المتقدّمين كلّها على جعله ضدّاً للجهر ، وكونه ضدّاً للجهر يقتضي الإسرار به .
صيغ الاستعاذة وأفضلها :
11 - وردت صيغتان للاستعاذة عند القرّاء والفقهاء ،
إحداهما :" أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم " كما ورد في سورة النّحل من قوله تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم } . وهذا اختيار أبي عمرٍو وعاصمٍ وابن كثيرٍ رحمهم الله . قال ابن الجزريّ : إنّه المختار لجميع القرّاء من حيث الرّواية ، وقال أبو الحسن السّخاويّ في كتابة ( جمال القرّاء ) : إنّ إجماع الأمّة عليه . قال في النّشر :« وقد تواتر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم التّعوّذ به للقراءة ولسائر تعوّذاته »، وقال أبو عمرٍو الدّانيّ : هو المأخوذ به عند عامّة الفقهاء ، كأبي حنيفة ، والشّافعيّ ، وأحمد وغيرهم . وفي الصّحيحين وغيرهما قوله صلى الله عليه وسلم في إذهاب الغضب : « لو قال : أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم لذهب عنه ما يجد » وفي غير الصّحيح « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ أمامه عبد اللّه بن مسعودٍ فقال : أعوذ باللّه السّميع العليم فقال : قل : أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم وهكذا أخذته عن جبريل عن ميكائيل عن اللّوح المحفوظ » .
الثّانية : " أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم إنّ اللّه هو السّميع العليم " ، حكي عن أهل المدينة ، ونقله الرّازيّ في تفسيره عن أحمد ، لقوله تعالى { وإمّا ينزغنّك من الشّيطان نزغٌ فاستعذ باللّه إنّه هو السّميع العليم } وروي عن عمر بن الخطّاب ، ومسلم بن يسارٍ ، وابن سيرين ، والثّوريّ ، وهو اختيار نافعٍ ، وابن عامرٍ ، والكسائيّ .
الثّالثة : أن يقول : " أعوذ بالسّميع العليم من الشّيطان الرّجيم " ، قاله ابن سيرين كما في النّشر .
الرّابعة : أن يقول : « اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الشّيطان الرّجيم » رواه ابن ماجه بإسنادٍ صحيحٍ عن عبد اللّه بن مسعودٍ مرفوعاً ، ورواه أبو داود كما في النّشر .
وهناك صيغٌ أخرى أوردها صاحب النّشر .
الوقف على الاستعاذة :
12 - يجوز الوقف عليها والابتداء بما بعدها ، بسملةً كانت أو غيرها ، ويجوز وصلها بما بعدها ، والوجهان صحيحان ، وظاهر كلام الدّانيّ أنّ الأولى وصلها بالبسملة ، ولم يذكر ابن شيطا وأكثر العراقيّين سوى وصل الاستعاذة بالبسملة .
فأمّا من لم يسمّ فالأشبه السّكوت عليها ، ويجوز وصلها .
إعادة الاستعاذة عند قطع القراءة :
13 - إذا قطع القارئ القراءة لعذرٍ ، من سؤالٍ أو كلامٍ يتعلّق بالقراءة ، لم يعد التّعوّذ لأنّها قراءةٌ واحدةٌ . وفي ( مطالب أولي النّهى ) : العزم على الإتمام بعد زوال العذر شرطٌ لعدم الاستعاذة . أمّا إذا كان الكلام أجنبيّاً ، أو كان القطع قطع تركٍ وإهمالٍ فإنّه يعيد التّعوّذ ،
قال النّوويّ : يعتبر السّكوت والكلام الطّويل سبباً للإعادة .
الاستعاذة لدخول الخلاء :
14 - تستحبّ الاستعاذة عند دخول الخلاء ، ويجمع معها التّسمية ، ويبدأ بالتّسمية باتّفاق المذاهب الأربعة . أمّا بعد الدّخول فلا يقولها عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ويوافقهم المالكيّة إن كان المحلّ معدّاً لذلك .
وقيل يتعوّذ وإن كان معدّاً لذلك . ونسبه العينيّ إلى مالكٍ .
صيغ الاستعاذة لدخول الخلاء :
15 - يرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - وهو المذهب عند الحنابلة - أنّ صيغة الاستعاذة لدخول الخلاء هي :" بسم اللّه اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الخبث والخبائث "، لما روى أنسٌ رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء يقول : اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الخبث والخبائث » . وروي أيضاً عن أحمد أنّه يقول الرّجل إذا دخل الخلاء : أعوذ باللّه من الخبث والخبائث ، ولم يذكر التّسمية في هذه الرّواية .وزاد الغزاليّ : اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الرّجس النّجس الخبيث المخبث الشّيطان الرّجيم ، لما روي عن أبي أمامة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا يعجز أحدكم إذا دخل مرفقه أن يقول : اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الرّجس النّجس الخبيث المخبث الشّيطان الرّجيم » . والخبث بضمّ الباء : ذكران الشّياطين ، والخبائث : إناثهم ، وقال أبو عبيدٍ : الخبث بإسكان الباء : الشّرّ ، والخبائث : الشّياطين . قال الحطّاب : وخصّ هذا الموضع بالاستعاذة لوجهين .
الأوّل : بأنّه خلاءٌ ، وللشّياطين بقدرة اللّه تعالى تسلّطٌ بالخلاء ما ليس لهم في الملأ . الثّاني : أنّ موضع الخلاء قذرٌ ينزّه ذكر اللّه تعالى فيه عن جريانه على اللّسان ، فيغتنم الشّيطان عدم ذكره ، لأنّ ذكر اللّه تعالى يطرده ، فأمر بالاستعاذة قبل ذلك ليعقدها عصمةً بينه وبين الشّيطان حتّى يخرج .
الاستعاذة للتّطهّر :
16 - عند الحنفيّة ، قال الطّحاويّ : يأتي بها قبل التّسمية ، غير أنّه لم يوضّح حكمها . وتستحبّ الاستعاذة للوضوء سرّاً عند الشّافعيّة قبل التّسمية ، قال الشّروانيّ : وأن يزيد بعدها : الحمد للّه الّذي جعل الماء طهوراً ، والإسلام نوراً ، { ربّ أعوذ بك من همزات الشّياطين ، وأعوذ بك ربّ أن يحضرون } . ولم يثبت عند المالكيّة من الأذكار في الوضوء إلاّ التّشهّدان آخره ، والتّسمية أوّله . ولم نقف للحنابلة على نصٍّ صريحٍ فيها . ولم يتعرّض الفقهاء فيما اطّلعنا عليه للاستعاذة عند الغسل والتّيمّم ، إلاّ أنّهم متّفقون على أنّ الوضوء قبل الغسل مندوبٌ ، فيجري عليه ما تقدّم من أحكام الاستعاذة عند الوضوء . وما أحسن ما جاء في الفروع لابن مفلحٍ : أنّ التّعوّذ يستحبّ عند كلّ قربةٍ فيدخل فيها هذا وما كان مثله .
الاستعاذة عند دخول المسجد والخروج منه :
17 - نصّ المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة على ندب الاستعاذة عند دخول المسجد ، وقد وردت صيغة الاستعاذة لدخول المسجد فيما ورد : « أعوذ باللّه العظيم ، وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم من الشّيطان الرّجيم » الحمد للّه، اللّهمّ صلّ وسلّم على محمّدٍ وعلى آل محمّدٍ . اللّهمّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك ، ثمّ يقول : باسم اللّه ، ويقدّم اليمنى في الدّخول ، ويقدّم اليسرى في الخروج ويقول جميع ما ذكرناه إلاّ أنّه يقول : أبواب فضلك بدل رحمتك . وأمّا الحنفيّة فلم نقف لهم على قولٍ في ذلك .
أمّا عند الخروج من المسجد ، فقد نصّ الشّافعيّة ، والحنابلة على ندب الاستعاذة حينئذٍ . قال الشّافعيّة : يستعيذ بما استعاذ به عند الدّخول ، وقد أخذ الحنابلة في ذلك بما ورد من حديث « اللّهمّ إنّي أعوذ بك من إبليس وجنوده » . ولم يوقف للحنفيّة ، والمالكيّة على شيءٍ في ذلك ، غير أنّ الحنفيّة ذكروا الاستعاذة عند الخروج من المسجد الحرام .
الاستعاذة في الصّلاة :حكمها :
18 - الاستعاذة في الصّلاة سنّةٌ عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة ، وعن أحمد روايةٌ أخرى أنّه واجبٌ . أمّا المالكيّة فقالوا : إنّها جائزةٌ في النّفل ، مكروهةٌ في الفرض . ويكتفى في الاستدلال على هذه الأقوال بما تقدّم في الاستدلال على أحكامها في قراءة القرآن ، فيما عدا دليل المالكيّة على الكراهة ، وحجّتهم أنّ الشّيطان يدبر عند الأذان والتّكبير ، كما استدلّوا بما روي عن أنسٍ قال :« صلّيت خلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكرٍ وعمر وكانوا يستفتحون القراءة بالحمد للّه ربّ العالمين . »
محلّ الاستعاذة في الصّلاة :
19 - تكون الاستعاذة قبل القراءة عند الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وهو قولٌ عند المالكيّة ، وهو ظاهر المدوّنة ، والقول الآخر للمالكيّة محلّها بعد أمّ القرآن ، كما في المجموعة . ويستدلّ على ذلك بما تقدّم في محلّ الاستعاذة عند قراءة القرآن ( ف 7 ) .
تبعيّة الاستعاذة في الصّلاة :
20 - الاستعاذة إمّا أن تكون تابعةً لدعاء الاستفتاح ( الثّناء ) أو للقراءة ، وتبعيّتها للقراءة قال به أبو حنيفة ومحمّدٌ والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ودليلهم على ذلك أنّها سنّة القراءة فيأتي بها كلّ قارئٍ ، لأنّها شرعت صيانةً عن وساوس الشّيطان في القراءة .
وقال أبو يوسف : إنّها تبعٌ للثّناء ، لأنّها لدفع الوسواس في الصّلاة مطلقاً . وليس للخلاف ثمرةٌ إلاّ بين أبي حنيفة ومحمّدٍ ، وبين أبي يوسف ، وتظهر في مسائل منها : أنّه لا يأتي بها المقتدي عند أبي حنيفة ومحمّدٍ ، لأنّه لا قراءة عليه ، ويأتي بها عند أبي يوسف ، لأنّه يأتي بالثّناء وهي تابعةٌ له .
فوات التّعوّذ :
21 - يفوت التّعوّذ بالشّروع في القراءة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وذلك لفوات المحلّ ، وترك الفرض لأجل السّنّة مرفوضٌ . ومقتضى قواعد المالكيّة كذلك في النّفل ، فهي سنّةٌ قوليّةٌ لا يعود إليها .
الإسرار والجهر بالاستعاذة في الصّلاة :
22 - للفقهاء في ذلك ثلاثة آراءٍ :
الأوّل : استحباب الإسرار ، وبه قال الحنفيّة ، وفي الفتاوى الهنديّة : أنّه المذهب ، ومعهم في هذا الحنابلة ، إلاّ ما استثناه ابن قدامة ، وعلى هذا أيضاً المالكيّة في أحد قوليهم ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة . والدّليل على استحباب الإسرار قول ابن مسعودٍ رضي الله عنه أربعٌ يخفيهنّ الإمام ، وذكر منها : التّعوّذ والتّسمية وآمين ، ولأنّه لم ينقل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم الجهر .
الرّأي الثّاني : استحباب الجهر ، وهو قول المالكيّة في ظاهر المدوّنة ، ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة ، ويجهر في بعض الأحيان في الجنازة ونحوها ممّا يطلب الإسرار فيه تعليماً للسّنّة ، ولأجل التّأليف ، واستحبّها ابن قدامة وقال : اختار ذلك ابن تيميّة . وقال في الفروع : إنّه المنصوص عن أحمد ، وسندهم في الجهر قياس الاستعاذة على التّسمية وآمين .
الرّأي الثّالث : التّخيير بين الإسرار والجهر ، وهو قولٌ للشّافعيّة ، جاء في الأمّ : كان ابن عمر رضي الله عنهما يتعوّذ في نفسه ، وأبو هريرة رضي الله عنه يجهر به .
تكرار الاستعاذة في كلّ ركعةٍ :
23 - الاستعاذة مشروعةٌ في الرّكعة الأولى باتّفاقٍ ، أمّا تكرارها في بقيّة الرّكعات فإنّ الفقهاء يختلفون فيه على رأيين :
الأوّل : استحباب التّكرار في كلّ ركعةٍ ، وهو قول ابن حبيبٍ من المالكيّة ، ولم ينقل أنّ أحداً منهم خالفه ، وهو المذهب عند الشّافعيّة ، وهو روايةٌ عن أحمد صحّحها صاحب الإنصاف بل قال ابن الجوزيّ : روايةٌ واحدةٌ . والدّليل على ذلك قول اللّه سبحانه وتعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم } وقد وقع الفصل بين القراءتين ، فأشبه ما لو قطع القراءة خارج الصّلاة بشغلٍ ، ثمّ عاد إليها يستحبّ له التّعوّذ ، ولأنّ الأمر معلّقٌ على شرطٍ فيتكرّر بتكرّره ، كما في قوله تعالى { وإن كنتم جنباً فاطّهّروا } وأيضاً إن كانت مشروعةً في الرّكعة الأولى فهي مشروعةٌ في غيرها من الرّكعات قياساً ، للاشتراك في العلّة . الثّاني : كراهية تكرار الاستعاذة في الرّكعة الثّانية وما بعدها عند الحنفيّة ، وقولٌ للشّافعيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة . وحجّتهم أنّه كما لو سجد للتّلاوة في قراءته ثمّ عاد إليها لا يعيد التّعوّذ ، وكأنّ رابطة الصّلاة تجعل الكلّ قراءةً واحدةً ، غير أنّ المسبوق إذا قام للقضاء يتعوّذ عند أبي يوسف .
صيغة الاستعاذة في الصّلاة :
24 - تحصل الاستعاذة في الصّلاة بكلّ ما اشتمل على التّعوّذ من الشّيطان عند الشّافعيّة ، وقيّده البيجوريّ بما إذا كان وارداً . وعلى هذا الحنابلة ، فكيفما تعوّذ من الذّكر الوارد فحسنٌ . واقتصر الحنفيّة على " أعوذ " أو " أستعيذ " . ولم نجد للمالكيّة نصّاً في هذه المسألة . وأفضل الصّيغ على الإطلاق عند الشّافعيّة " أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم " وهو المختار عند الحنفيّة ، وقول الأكثر من الأصحاب منهم ومن الحنابلة ، لأنّه المنقول من استعاذته عليه الصلاة والسلام ، قال ابن المنذر : جاء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أنّه كان يقول قبل القراءة : أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم » . وجاء عن أحمد أنّه يقول : « أعوذ باللّه السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم » لحديث أبي سعيدٍ فإنّه متضمّنٌ لهذه الزّيادة . ونقل حنبلٌ عنه أنّه يزيد بعد ذلك " إنّ اللّه هو السّميع العليم " .
وفي فتح القدير لا ينبغي أن يزيد عليه " إنّ اللّه هو السّميع العليم " .
استعاذة المأموم :
25 - لا يختلف حكم الاستعاذة بالنّسبة للإمام عمّا لو كان منفرداً . أمّا المأموم فتستحبّ له عند الشّافعيّة سواءٌ أكانت الصّلاة سرّيّةً أم جهريّةً ، ومعهم أبو يوسف من الحنفيّة ، لأنّ التّعوّذ للثّناء عنده ، وهو إحدى رواياتٍ ثلاثٍ عن أحمد .
وتكره للمأموم تحريماً عند أبي حنيفة ومحمّدٍ ، لأنّها تابعةٌ للقراءة ، ولا قراءة على المأموم ، لكن لا تفسد صلاته إذا استعاذ في الأصحّ ، وعلى هذا الرّواية الثّانية عن أحمد ، أمّا الرّواية الثّالثة عنه فهي إن سمع الإمام كرهت وإلاّ فلا ، وذهب المالكيّة إلى جوازها للإمام والمأموم في النّفل . أمّا في الفرض فمكروهةٌ لهما كما سبق .
الاستعاذة في خطبة الجمعة :
26 - من سنن خطبة الجمعة عند الحنفيّة : أن يستعيذ في الخطبة الأولى في نفسه سرّاً قبل الحمد . ويستدلّ لهم بما قال سويدٌ : سمعت أبا بكرٍ الصّدّيق رضي الله عنه يقول على المنبر : أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم . ولم نجد عند بقيّة المذاهب كلاماً في ذلك .
محلّ الاستعاذة في صلاة العيد :
27 - يستعيذ بعد تكبيرات الزّوائد عند أبي حنيفة ومحمّدٍ ، وكذلك عند الشّافعيّة تكون بعد التّكبير ، وهو قولٌ عن أحمد ، لأنّها تبعٌ للقراءة . وتكون قبل تكبيرات الزّوائد عند المالكيّة ، وأبي يوسف من الحنفيّة ، لأنّها تبعٌ للثّناء ، وهو إحدى الرّوايات عن أحمد .
حكمها ، ومحلّها في صلاة الجنازة :
28 - لا يختلف حكم الاستعاذة في الجنازة عن حكمها في الصّلاة المطلقة ، ويجري فيها الخلاف الّذي جرى في الصّلاة المطلقة .
المستعاذ به :
29 - الاستعاذة تكون باللّه تعالى ، وأسمائه ، وصفاته ، وقال البعض : لا بدّ فيما يقرأ من القرآن للتّعوّذ أن يكون ممّا يتعوّذ به ، لا نحو آية الدّين . ويجوز الاستعاذة بالإنسان فيما هو داخلٌ تحت قدرته الحادثة ، كأن يستجير به من حيوانٍ مفترسٍ ، أو من إنسانٍ يريد الفتك به . ويحرم الاستعاذة بالجنّ والشّياطين ، لأنّ اللّه تعالى أخبر أنّ من استعاذ بهم زادوه رهقاً ، كما في قوله تعالى { وأنّه كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجالٍ من الجنّ فزادوهم رهقاً }
المستعاذ منه :
30 - يصعب ذكر المستعاذ منه تفصيلاً ، وقد عنيت كتب التّفسير ، والحديث ، والأذكار بكثيرٍ من هذه الأمور ، وتكفي الإشارة إلى بعض أنواع المستعاذ منه على سبيل التّمثيل . من ذلك : الاستعاذة من بعض صفات اللّه ببعض صفاته سبحانه . ومنه الاستعاذة من الشّرّ كلّه - شرّ النّفس والحواسّ ، والأماكن والرّيح وغير ذلك . ومن ذلك : الاستعاذة من الهرم وكآبة المنقلب ، ومن الشّقاق ، والنّفاق ، وسوء الأخلاق ، ومن الجبن والبخل .
إجابة المستعيذ :
31 - يندب للإنسان إجابة من استعاذ به في أمرٍ مقدورٍ له ، وقد تكون الإعاذة واجباً كفائيّاً أو عينيّاً ، لما روي عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما« من استعاذكم باللّه فأعيذوه ، ومن سألكم باللّه فأعطوه ، ومن دعاكم فأجيبوه ، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه إلخ ». وقد يكون المستعيذ باللّه مستغيثاً ، فيكون تفصيل الحكم في مصطلح ( استغاثةٌ ) أولى .
تعليق التّعويذات :
يرجع في حكم تعليق التّعويذات إلى مصطلح ( تميمةٌ ) .

استعارةٌ *
التعريف :
1 - الاستعارة هي : طلب الإعارة ، والإعارة تمليك المنفعة بلا عوضٍ .
صفتها : حكمها التّكليفيّ :
2 - الأصل أنّ من أبيح له أخذ شيءٍ أبيح له طلبه ، ومن لا فلا . ويختلف حكمها بحسب الحالة الّتي يتمّ فيها الطّلب . فقد تكون الاستعارة واجبةً إذا توقّف عليها إحياء نفسٍ ، أو حفظ عرضٍ ، أو نحو ذلك من الأمور الضّروريّة ، لأنّ سدّ الضّرورات واجبٌ لا يجوز التّساهل فيه ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجبٌ .
وقد تكون مندوبةً ليستعين بها على الخير كاستعارة الكتب النّافعة . وتكون الاستعارة مكروهةً ، عندما يكون فيها منّةٌ ، ولحاجةٍ له مندوحةٌ عنها ، وقد عدّ الفقهاء من ذلك استعارة الفرع أصله لخدمته ، لما في ذلك من ذلّ الخدمة الّتي يجب أن ينزّه عنها الآباء . وقد تكون الاستعارة محرّمةً ، كما لو استعار شيئاً ليتعاطى به تصرّفاً محرّماً ، كاستعارته سلاحاً ليقتل به بريئاً ، أو آلة لهوٍ ليجمع عليها الفسّاق ونحو ذلك .
آداب الاستعارة :
3 - من آدابها :
أ - ألا يذلّ نفسه ، بل إن استعار استعار بعزٍّ ، والفرق بين الاستعارة والاستجداء : أنّ الاستجداء يكون مع الذّلّ ، والاستعارة تكون مع العزّ ، ولذلك كان عليه أن يترك الاستعارة ممّن يمنّ عليه طالما له مندوحةٌ عن ذلك كما تقدّم .
ب - وألاّ يلحف في طلب الإعارة ، والإلحاف هو إعادة السّؤال بعد الرّدّ ، وقد ذمّ اللّه الملحفين بالسّؤال بقوله تعالى { تعرفهم بسيماهم لا يسألون النّاس إلحافاً } وإنّما نهى عنه لأنّ هذا الإلحاف قد يخرج المعير عن طوره ، فيقع في شيءٍ من المحظورات ، كالكلام البذيء ونحو ذلك ، وهو أذًى ينزله المستعير بالمعير ، قال عليه الصلاة والسلام : « لا تلحفوا في المسألة » . ولكن يجوز التّكرار لبيان مسيس الحاجة إلى الاستعارة .
ج - وأن يقدّم الاستعارة من الرّجل الصّالح على الاستعارة من غيره ، لما يتحرّاه الصّالحون من المال الحلال ، ولما يحملونه من نفوسٍ طيّبةٍ تجود بالخير .
قال النّبيّ عليه الصلاة والسلام : « إن كنت سائلاً لا بدّ فاسأل الصّالحين » .
د - وألاّ يسأل بوجه اللّه ، ولا بحقّ اللّه ، كقوله : أسألك بوجه اللّه ، أو بحقّ اللّه أن تعيرني كذا ، لما فيه من اتّخاذ اسم اللّه تعالى آلةً .
قال عليه الصلاة والسلام : « لا يسأل بوجه اللّه إلاّ الجنّة » وقال : « ملعونٌ من سأل بوجه اللّه » . وللتّفصيل يرجع إلى ( إعارةٌ ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
استعانةٌ *
التعريف :
1 - الاستعانة مصدر استعان ، وهي : طلب العون ، يقال : استعنته واستعنت به فأعانني والمعنى الاصطلاحيّ لا يخرج عن المعنى اللّغويّ .
الحكم الإجماليّ :
2 - تنقسم الاستعانة إلى استعانةٍ باللّه ، واستعانةٍ بغيره . فالاستعانة باللّه سبحانه وتعالى مطلوبةٌ في كلّ شيءٍ : مادّيٍّ مثل قضاء الحاجات ، كالتّوسّع في الرّزق ، ومعنويٍّ مثل تفريج الكروب ، مصداقاً لقوله تعالى : { إيّاك نعبد وإيّاك نستعين } . وقوله تعالى : { قال موسى لقومه : استعينوا باللّه واصبروا } . وتكون الاستعانة بالتّوجّه إلى اللّه تعالى بالدّعاء ، كما تكون بالتّوجّه إليه تعالى بفعل الطّاعات ، لقوله تعالى : { واستعينوا بالصّبر والصّلاة } .
3 - أمّا الاستعانة بغير اللّه ، فإمّا أن تكون بالإنس أو بالجنّ . فإن كانت الاستعانة بالجنّ فهي ممنوعةٌ ، وقد تكون شركاً وكفراً ، لقوله تعالى : { وأنّه كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجالٍ من الجنّ فزادوهم رهقاً } .
4 - وأمّا الاستعانة بالإنس فقد اتّفق الفقهاء على أنّها جائزةٌ فيما يقدر عليه من خيرٍ ، لقوله تعالى : { وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } وقد يعتريها الوجوب عند الاضطرار ، كما لو وقع في تهلكةٍ وتعيّنت الاستعانة طريقاً للنّجاة ، لقوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة } .
استعانة المسلم بغير المسلم في القتال :
5 - أجاز الحنفيّة والحنابلة استعانة المسلم بغيره في القتال عند الضّرورة ، والشّافعيّة بشروطٍ ، والمالكيّة بشرط رضاه وتفصيل ذلك في مصطلح ( جهادٌ )
الاستعانة بغير المسلمين في غير القتال :
6 - تجوز الاستعانة في الجملة بغير المسلم ، سواءٌ أكان من أهل الكتاب أم من غيرهم في غير القربات ، كتعليم الخطّ والحساب والشّعر المباح ، وبناء القناطر والمساكن والمساجد وغيرها فيما لا يمنع من مزاولته شرعاً . ولا تجوز الاستعانة به في القربات كالأذان والحجّ وتعليم القرآن ، وفي الأمور الّتي يمنع من مزاولتها شرعاً ، كاتّخاذه في ولايةٍ على المسلمين ، أو على أولادهم . وقد تباح الاستعانة بأهل الكتاب ، دون غيرهم من المشركين والمجوس ومن على شاكلتهم في بعض الأمور ، مثل الصّيد والذّبح ،
أمّا المشرك والمجوسيّ فلا يتولّى الاصطياد والذّبح لمسلمٍ ، وتفصيل ذلك يرجع إليه في مصطلح ( إجارةٌ ) ( وصيدٌ ) ( وذبائح ) ( وأطعمةٌ ) ( ووكالةٌ ) .
الاستعانة بأهل البغي ، وعليهم :
7 - قال الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : يجوز الاستعانة بأهل البغي على الكفّار ، ولم يجز الاستعانة بالكفّار عليهم إلاّ الحنفيّة . ولتفصيل ذلك ينظر إلى مصطلح ( بغاةٌ )
الاستعانة بالغير في العبادة :
8 - الاستعانة بالغير في أداء العبادة جائزةٌ ، ولكن هل يعتبر ذلك قدرةً ملزمةً لمن لا يستطيع الأداء إلاّ بها ؟ قال بعض الحنفيّة ، ووافقهم الشّافعيّة والحنابلة : يعتبر الإنسان قادراً ، إذا وجد من يعينه على العبادة ، مثل الوضوء ، أو القيام في الصّلاة .
وقال بعض الحنفيّة ، وهو المفهوم عند المالكيّة : لا يصير قادراً بإعانة غيره ، لأنّ المعونة تعتبر له نافلةً .
استعطاءٌ *
انظر : ( عطاءٌ ) ، ( عطيّةٌ ) .
استعلاءٌ *
التعريف :
1 - الاستعلاء في اللّغة : استفعالٌ من العلوّ ، وهو السّموّ والارتفاع . والمستعلي من الحروف : المفخّم منها ، ومعنى استعلائها : أنّها تتصعّد في الحنك الأعلى ، واستعلى على النّاس : غلبهم وقهرهم وعلاهم .
وفي اصطلاح علماء الأصول يستعمل الاستعلاء بمعنى إظهار العلوّ ، سواءٌ أكان هناك علوٌّ في الواقع أم لا وتفصيل ذلك في مصطلح ( أمرٌ ) .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - التّكبّر : هو إظهار الكبر أي العظمة . وتعريفه شرعاً : بطر الحقّ وغمط النّاس ، كما جاء في الحديث . وهو في صفات اللّه تعالى مدحٌ ، لأنّ شأنه عظيمٌ ، وفي صفاتنا ذمٌّ ، لأنّ شأننا صغيرٌ ، وهو أهلٌ للعظمة ولسنا بأهلٍ لها .
الحكم الإجماليّ :
3 - يرى جمهور الأصوليّين أنّ الاستعلاء شرطٌ في الأمر ، وذلك احترازاً عن الدّعاء والالتماس .
مواطن البحث :
4 - الاستعلاء كشرطٍ في الأمر يبحثه الأصوليّون في مسألة الأمر عند الحديث عن شروطه ، ودلالة حرف " على " على الاستعلاء يبحث في مسائل حروف الجرّ ، عند الحديث عن حرف الجرّ " على " وتفصيل ذلك في المصطلح الأصوليّ .

استعمالٌ *
التعريف :
1 - الاستعمال في اللّغة : طلب العمل ، أو توليته ، واستعمله : عمل به ، واستعمل فلانٌ : ولي عملاً من أعمال السّلطة ، وحبلٌ مستعملٌ : قد عمل به ومهن .
والاستعمال في عرف الفقهاء لا يخرج عن معناه اللّغويّ ، حيث عبّر الفقهاء عنه بمعانيه اللّغويّة الواردة في التعريف كما سيأتي بعد ، ومن ذلك قولهم الماء المستعمل .
الألفاظ ذات الصّلة :
استئجارٌ :
2 - الاستئجار استفعالٌ من الإجارة ، واستأجره : اتّخذه أخيراً على العمل بأجرٍ . فالاستعمال أعمّ ، لأنّه قد يكون بأجرٍ ، وقد يكون بغير أجرٍ .
الحكم الإجماليّ :
3 - يختلف حكم الاستعمال بحسب نوعه ، وللاستعمال أنواعٌ مختلفةٌ : ومنها استعمال الآلات ، واستعمال الموادّ ، ومنها استعمال الأشخاص .
استعمال الموادّ ، ومن صوره :
أ - استعمال الماء :
4 - إذا استعمل الماء المطلق للطّهارة من أحد الحدثين امتنع إطلاق اسم الماء عليه دون قيدٍ ، وصار له حكمٌ آخر من حيث الطّهوريّة . فيقرّر الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : أنّه طاهرٌ في نفسه غير مطهّرٍ لغيره ، وخالف في هذا المالكيّة ، حيث أجازوا التّطهّر به مع الكراهة إن وجد غيره ، وإلاّ فلا كراهة ، وتفصيل ذلك في بحث المياه من كتب الفقه .
ب - استعمال الطّيب :
5 - استعمال الطّيب مستحبٌّ في الجملة ، إلاّ في الإحرام ، أو الإحداد ، أو خوف الفتنة بالنّساء عند الخروج من البيوت . ولتفصيل ذلك ينظر مصطلح : ( إحرامٌ ) ( وإحدادٌ ) .
ج - استعمال جلود الميتة :
6 - استعمال جلود الميتة عند المالكيّة والحنابلة غير جائزٍ في الجملة ، وكذلك عند الشّافعيّة قبل الدّبغ ، وقد أجاز ذلك الحنفيّة بعد قطع الرّطوبة بالتّشميس أو التّتريب . ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلح : ( دباغةٌ ) .
د - استعمال أواني الذّهب والفضّة :
7 - منع العلماء استعمال أواني الذّهب والفضّة في الأكل والشّرب ، لما ورد فيها من نصوصٍ منها : قول الرّسول صلى الله عليه وسلم : « لا تشربوا في آنية الذّهب والفضّة ، ولا تأكلوا في صحافها ، فإنّها لهم في الدّنيا ولكم في الآخرة » .
ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلح : ( آنيةٌ ) .
الاستعمال الموجب للضّمان :
8 - قرّر الفقهاء في الجملة أنّ استعمال المرهون الوديعة يعتبر تعدّياً يضمن بموجبه ، لأنّ التّعدّي سببٌ للضّمان مطلقاً ، ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلح : ( رهنٌ ) ( ووديعةٌ ) ( وضمانٌ ) .
استعمال الإنسان :
9 - يجوز استعمال الإنسان متطوّعاً وبأجرٍ ، مثل الاستعمال على الإمامة والقضاء بشروطٍ معيّنةٍ ، يرجع في تفصيلها إلى الولاية والإمامة والقضاء في كتب الفقه .
وكذا استعمال الإنسان في الصّناعة والخدمة والتّجارة . ومنه قول العبّاس بن سهلٍ السّاعديّ في صنع المنبر النّبويّ : " فذهب أبي ، فقطع عيدان المنبر من الغابة ، قال : فما أدري عملها أبي أو استعملها " .
ويرجع في تفصيل ذلك إلى مصطلح ( استصناعٌ ) ( وإجارةٌ ) ( ووكالةٌ )

استغاثةٌ *
التعريف :
1 - الاستغاثة لغةً : طلب الغوث والنّصر . والاستغاثة شرعاً : لا تخرج في المعنى عن التعريف اللّغويّ ، حيث تكون للعون ، وتفريج الكروب .
الألفاظ ذات الصّلة :
الاستخارة :
2 - الاستخارة لغةً : طلب الخيرة في الشّيء . واصطلاحاً : طلب صرف الهمّة لما هو المختار عند اللّه ، والأولى بالصّلاة والدّعاء .
فالاستخارة أخصّ ، لأنّها لا تطلب إلاّ من اللّه .
الاستعانة :
3 - الاستعانة : طلب العون . استعنت بفلانٍ طلبت معونته فأعانني ، وعاونني . وتكون من العباد فيما يقدرون عليه ، ومن اللّه { إيّاك نعبد وإيّاك نستعين } فالفرق أنّ الاستغاثة لا تكون إلاّ في الشّدّة .
حكم الاستغاثة :
4 - للاستغاثة أربعة أحكامٍ :
الأوّل : الإباحة ، وذلك في طلب الحوائج من الأحياء ، إذا كانوا يقدرون عليها - ومن ذلك الدّعاء فإنّه يباح طلبه من كلّ مسلمٍ ، بل يحسن ذلك - فله أن يستغيث بالمخلوقين أو لا يستغيث ، ولكن لا يجب أن يطلب منهم على جهة السّؤال والذّلّ والخضوع والتّضرّع لهم كما يسأل اللّه تعالى ، لأنّ مسألة المخلوقين في الأصل محرّمةٌ ، ولكنّها أبيحت عند الحاجة والضّرورة ، والأفضل الاستعفاف عنها إلاّ إذا ترتّب على ترك الاستغاثة هلاكٌ ، أو حدٌّ ، أو ضمانٌ ، فإنّه يجب عليه أن يدفع بالاستغاثة أوّلاً . فإن لم يفعل أثم وترتّب عليه سبق ضمانٍ للدّماء والحقوق على تفصيلٍ سيأتي .
الثّاني : النّدب ، وذلك إذا استغاث باللّه ، أو بصفةٍ من صفاته في الشّدّة والكرب { أمّن يجيب المضطرّ إذا دعاه ويكشف السّوء } .
الثّالث : الوجوب ، وذلك إذا ترتّب على ترك الاستغاثة هلاكٌ أو ضمانٌ ، فإن تركه مع وجوبه أثم .
الرّابع : التّحريم ، وذلك إذا استغاث بمن لا يملك في الأمور المعنويّة بالقوّة أو التّأثير ، سواءٌ كان المستغاث به إنساناً ، أو جنّاً ، أو ملكاً ، أو نبيّاً ، في حياته ، أو بعد مماته { ولا تدع من دون اللّه ما لا ينفعك ولا يضرّك } .
الاستغاثة باللّه :
5 - أ - في الأمور العادية : أجمع علماء الأمّة على استحباب الاستغاثة باللّه تبارك وتعالى ، سواءٌ أكان ذلك من قتال عدوٍّ أم اتّقاء سبعٍ أم نحوه . لاستغاثة الرّسول صلى الله عليه وسلم باللّه في موقعة بدرٍ ، وقد أخبرنا القرآن بذلك . قال اللّه تعالى : { إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم أنّي ممدّكم بألفٍ من الملائكة مردفين } ، ولما روي عن خولة بنت حكيم بن حزامٍ رضي الله عنها قالت : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « من نزل منزلاً ثمّ قال : أعوذ بكلمات اللّه التّامّات من شرّ ما خلق لم يضرّه شيءٌ حتّى يرتحل من منزله » .
ب - وتستحبّ أيضاً الاستغاثة باللّه في الأمور المعنويّة بالقوّة والتّأثير ، وفيما لا يقدر عليه إلاّ اللّه سبحانه وتعالى . مثل إنزال المطر ، وكشف الضّرّ ، وشفاء المرض ، وطلب الرّزق ، ونحو ذلك ممّا لا يقدر عليه إلاّ اللّه تبارك وتعالى ، لقوله تعالى : { ولا تدع من دون اللّه ما لا ينفعك ولا يضرّك فإن فعلت فإنّك إذاً من الظّالمين } وقوله تعالى : { وإن يمسسك اللّه بضرٍّ فلا كاشف له إلاّ هو } .
ويستغاث باسم اللّه أو بصفةٍ من صفاته ، لما روي عن أنس بن مالكٍ : قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمرٌ قال : يا حيّ يا قيّوم برحمتك أستغيث »
الاستغاثة بالرّسول صلى الله عليه وسلم .
6 - الاستغاثة بالرّسول أقسامٌ :
القسم الأوّل : الاستغاثة بالرّسول فيما يقدر عليه .
اتّفق الفقهاء على جواز الاستغاثة برسول اللّه صلى الله عليه وسلم وبكلّ مخلوقٍ حال حياته فيما يقدر عليه ، لقوله تعالى : { وإن استنصروكم في الدّين فعليكم النّصر } ولقوله : { فاستغاثه الّذي من شيعته على الّذي من عدوّه } وهي من قبيل العون والنّجدة ، كما قال تعالى : { وتعاونوا على البرّ والتّقوى } .
القسم الثّاني :الاستغاثة بالرّسول صلى الله عليه وسلم بعد موته ، وسيأتي الكلام عليها والخلاف فيها .
القسم الثّالث : أن يستغيث العبد باللّه تعالى متقرّباً برسوله صلى الله عليه وسلم ، كأن يقول : اللّهمّ إنّي أتوجّه إليك بنبيّنا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم أن تفعل كذا كما سيأتي .
القسم الرّابع : الاستغاثة بذات الرّسول صلى الله عليه وسلم كما سيأتي .
أنواع الاستغاثة بالخلق :
7 - والاستغاثة بالخلق - فيما لا يقدرون عليه - تكون على أربع صورٍ :
أوّلها : أن يسأل اللّه بالمتوسّل به تفريج الكربة ، ولا يسأل المتوسّل به شيئاً ، كقول القائل : اللّهمّ بجاه رسولك فرّج كربتي . وهو على هذا سائلٌ للّه وحده ، ومستغيثٌ به ، وليس مستغيثاً بالمتوسّل به . وقد اتّفق الفقهاء على أنّ هذه الصّورة ليست شركاً ، لأنّها استغاثةٌ باللّه تبارك وتعالى ، وليست استغاثةً بالمتوسّل به ؛ ولكنّهم اختلفوا في المسألة من حيث الحلّ والحرمة على ثلاثة أقوالٍ :
8 - القول الأوّل : جواز التّوسّل بالأنبياء والصّالحين حال حياتهم وبعد مماتهم . قال به مالكٌ ، والسّبكيّ ، والكرمانيّ ، والنّوويّ ، والقسطلاّنيّ ، والسّمهوديّ ، وابن الحاجّ ، وابن الجزريّ .
9 - واستدلّ القائلون بجواز الاستغاثة بالأنبياء والصّالحين بأدلّةٍ كثيرةٍ ، منها ما ورد من الأدعية المأثورة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم مثل « أسألك بحقّ السّائلين عليك ، وبحقّ ممشاي هذا إليك » . ومنها ما قاله الرّسول صلى الله عليه وسلم في الدّعاء لفاطمة بنت أسدٍ « اغفر لأمّي فاطمة بنت أسدٍ ، ووسّع عليها مدخلها ، بحقّ نبيّك والأنبياء الّذين من قبلي ، فإنّك أرحم الرّاحمين » . ومن الأدلّة حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من زار قبري وجبت له شفاعتي » . وما ورد من حديث المعراج « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ على موسى وهو قائمٌ يصلّي في قبره » والصّلاة تستدعي حياة البدن . وعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما عند قوله تعالى { وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا } أنّه قال : كان أهل خيبر تقاتل غطفان ، كلّما التقتا هزمت غطفان اليهود ، فدعت اليهود بهذا الدّعاء : اللّهمّ إنّا نسألك بحقّ الّذي وعدتنا أن تخرجه لنا إلاّ نصرتنا عليهم . فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدّعاء فتهزم اليهود غطفان . وقوله تعالى : { ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا اللّه واستغفر لهم الرّسول لوجدوا اللّه توّاباً رحيماً } .
وهذا تفخيمٌ للرّسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه صلى الله عليه وسلم لا ينقطع بموته . ويستدلّون« بحديث الأعمى المتوسّل برسول اللّه في ردّ بصره ».
10 - القول الثّاني : أجاز العزّ بن عبد السّلام وبعض العلماء الاستغاثة باللّه متوسّلاً بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم والصّالحين حال حياتهم . وروي عنه أنّه قصر ذلك على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وحده . واستشهد لهذا بحديث الأعمى الّذي دعا اللّه سبحانه متوسّلاً برسول اللّه فردّ اللّه عليه بصره . فعن عثمان بن حنيفٍ أنّ « رجلاً ضريراً أتاه عليه الصلاة والسلام . فقال : ادع اللّه تعالى أن يعافيني ، فقال صلى الله عليه وسلم : إن شئت أخّرت وهو خيرٌ ، وإن شئت دعوت . فقال : ادع قال : فأمره أن يتوضّأ ويحسن وضوءه ويدعو بهذا الدّعاء : اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بحبيبك محمّدٍ نبيّ الرّحمة ، يا محمّد ، إنّي أتوجّه بك إلى ربّك في حاجتي لتقضى . اللّهمّ شفّعه في » وصحّحه البيهقيّ وزاد : فقام ، وقد أبصر .
11 - القول الثّالث : عدم جواز الاستغاثة إلاّ باللّه سبحانه وتعالى ، ومنع التّوسّل في تلك الاستغاثة بالأنبياء والصّالحين ، أحياءً كانوا أو أمواتاً .
وصاحب هذا الرّأي ابن تيميّة ، ومن سار على نهجه من المتأخّرين . واستدلّوا بقوله تعالى : { ومن أضلّ ممّن يدعو من دون اللّه من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون } . وبما رواه الطّبرانيّ بسنده عن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه ، أنّه « كان في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم منافقٌ يؤذي المؤمنين ، فقال بعضهم : قوموا بنا نستغيث برسول اللّه صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إنّه لا يستغاث بي وإنّما يستغاث باللّه » .
الصّورة الثّانية :
12 - استغاثةٌ باللّه واستغاثةٌ بالشّفيع أن يدعو اللّه له : وهو أن يسأل اللّه ، ويسأل المتوسّل به أن يدعو له ،« كما كان يفعل الصّحابة ، ويستغيثون ويتوسّلون بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ، ثمّ من بعده بعمّه العبّاس »، ويزيد بن الأسود الجرشيّ رضي الله عنهما ، فهو استغاثةٌ باللّه ، واستغاثةٌ بالشّفيع أن يسأل اللّه له . فهو متوسّلٌ بدعائه وشفاعته ، وهذا مشروعٌ في الدّنيا والآخرة في حياة الشّفيع ، ولا يعلم فيه خلافٌ . فقد روى البخاريّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « ألا أخبركم بأهل الجنّة ، كلّ ضعيفٍ مستضعفٍ ، لو أقسم على اللّه لأبرّه » قال العلماء : معناه لو حلف على اللّه ليفعلنّ كذا لأوقع مطلوبه ، فيبرّ بقسمه إكراماً له ، لعظم منزلته عنده . فدلّ ذلك على أنّ بعض ، النّاس خصّه اللّه بإجابة الدّعوة ، فلا بأس أن يسأل فيدعو للمستغيث ، وقد ورد هذا في آثارٍ كثيرةٍ عن الرّسول صلى الله عليه وسلم والصّحابة .
الصّورة الثّالثة : استغاثةٌ في سؤال اللّه :
13 - وهي أن يستغيث الإنسان بغيره في سؤال اللّه له تفريج الكرب ، ولا يسأل اللّه هو لنفسه . وهذا جائزٌ لا يعلم فيه خلافٌ . ومنه قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « وهل تنصرون وترزقون إلاّ بضعفائكم » أي بدعائهم ، وصلاتهم ، واستغفارهم . ومن هذا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « كان يستفتح بصعاليك المهاجرين » . أي يستنصر بهم . فالاستنصار والاسترزاق يكون بالمؤمنين بدعائهم ، مع أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أفضل منهم . لكنّ دعاءهم وصلاتهم من جملة الأسباب ، ويقتضي أن يكون للمستنصر به والمسترزق به مزيّةً على غيره من النّاس . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ من عباد اللّه من لو أقسم على اللّه لأبرّه . منهم البراء بن مالكٍ » . وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أويسٍ القرنيّ : « فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل » وقول الرّسول صلى الله عليه وسلم لعمر لمّا ودّعه للعمرة : « لا تنسنا من دعائك » .
الصّورة الرّابعة :
14 - أن يسأل المستغاث به ما لا يقدر عليه ، ولا يسأل اللّه تبارك وتعالى ، كأن يستغيث به أن يفرّج الكرب عنه ، أو يأتي له بالرّزق . فهذا غير جائزٍ وقد عدّه العلماء من الشّرك ، " لقوله تعالى { ولا تدع من دون اللّه ما لا ينفعك ولا يضرّك فإن فعلت فإنّك إذاً من الظّالمين . وإن يمسسك اللّه بضرٍّ فلا كاشف له إلاّ هو وإن يردك بخيرٍ فلا رادّ لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرّحيم } . وفي الصّحيح عن أنسٍ رضي الله عنه قال : « شجّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحدٍ وكسرت رباعيته ، فقال : كيف يفلح قومٌ شجّوا نبيّهم ؟ فنزلت { ليس لك من الأمر شيءٌ } » ، فإذا نفى اللّه تعالى عن نبيّه ما لا قدرة له عليه من جلب نفع أو دفع ضرٍّ ، فغيره أولى .
الاستغاثة بالملائكة :
15 - الاستغاثة بهم استغاثةٌ بغير اللّه تعالى ، وكلّ استغاثةٍ بغير اللّه ممنوعةٌ ، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . « إنّه لا يستغاث بي ، ولكن يستغاث باللّه »
ولحديثه أيضاً عليه السلام « لمّا ألقي إبراهيم في النّار اعترضه جبريل ، فقال له : ألك حاجةٌ ؟ فقال : أمّا إليك فلا » .
الاستغاثة بالجنّ :
16 - الاستغاثة بالجنّ محرّمةٌ ، لأنّها استغاثةٌ بمن لا يملك ، وتؤدّي إلى ضلالٍ ، وقد بيّن اللّه تعالى ذلك بقوله { وأنّه كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجالٍ من الجنّ فزادوهم رهقاً } ويعتبر هذا من السّحر .
المستغيث وأنواعه :
17 - إذا استغاث المسلم لدفع شرٍّ وجبت إغاثته ، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضّالّ » وقوله عليه السلام « من نفّس عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدّنيا نفّس اللّه عنه كربةً من كرب يوم القيامة » وهذا إذا لم يخش المغيث على نفسه ضرّاً ، لأنّ له الإيثار بحقّ نفسه دون حقّ غيره ، وهذا في غير النّبيّ صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى { النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم } . أمّا الإمام ونوّابه فإنّه يجب عليهم الإغاثة ، ولو مع الخشية على النّفس ، لأنّ ذلك مقتضى وظائفهم .
18 - وإذا استغاث الكافر فإنّه يغاث لأنّه آدميٌّ ، ولأنّه يجب الدّفع عن الغير إذا كان آدميّاً محترماً ، ولم يخش المغيث على نفسه هلاكاً ، لأنّ له الإيثار بحقّ نفسه دون حقّ غيره ولحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « إنّ اللّه يحبّ إغاثة الملهوف » ولقوله صلى الله عليه وسلم « لا تنزع الرّحمة إلاّ من شقيٍّ » . وكذلك إذا كان الكافر حربيّاً واستغاث ، فإنّه يجاب إلى طلبه ، لعلّه يسمع كلام اللّه ، أو يرجع عمّا في نفسه من شرٍّ ويأسره المعروف . لقوله تعالى { وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام اللّه ثمّ أبلغه مأمنه } " أي فأجره ، وأمّنه على نفسه وأمواله ، فإن اهتدى وآمن عن علمٍ واقتناعٍ فذاك ، وإلاّ فالواجب أن تبلغه المكان الّذي يأمن به على نفسه ، ويكون حرّاً في عقيدته .
الاستعانة بالكافر في حرب الكفّار :
19 - اتّفق العلماء على أنّ الاستغاثة لدفع شرٍّ ، أو جلب نفعٍ ممّا يملكه المخلوق تجوز بالمخلوقين مطلقاً ، فيستغاث بالمسلم والكافر ، والبرّ والفاجر ، كما يستغاث بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم ويستنصر به كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه يؤيّد هذا الدّين بالرّجل الفاجر » فلم تكن الإغاثة من خصائص المؤمنين فضلاً عن أن تكون من خصائص النّبيّين أو المرسلين ، وإنّما هي وصفٌ مشتركٌ بين جميع الآدميّين .
استغاثة الحيوان :
20 - يجب إغاثة الحيوان ، لما روي من الأحاديث عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أنّ رجلاً دنا إلى بئرٍ فنزل ، فشرب منها وعلى البئر كلبٌ يلهث ، فرحمه ، فنزع أحد خفّيه فسقاه ، فشكر اللّه له فأدخله الجنّة » .
حالة المستغيث :
21 - إذا كان المستغيث على حقٍّ وجبت إغاثته ، لما تقدّم من وجوب إغاثة المسلم ، لقوله تعالى : { وإن استنصروكم في الدّين فعليكم النّصر إلاّ على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ } " أي إن استنقذوكم فأعينوهم بنفيرٍ أو مالٍ ، فذلك فرضٌ عليكم ، فلا تخذلوهم إلاّ أن يستنصروكم على قومٍ كفّارٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ فلا تنصروهم عليهم . إلاّ أن يكونوا أسرى مستضعفين ، فإنّ الولاية معهم قائمةٌ ، والنّصرة لهم واجبةٌ ، حتّى لا تبقى منّا عينٌ تطرف ، حتّى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك ، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتّى لا يبقى لأحدٍ درهمٌ ، كذلك قال مالكٌ وجميع العلماء ولحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « من أذلّ عنده مؤمنٌ فلم ينصره ، وهو قادرٌ على أن ينصره ، أذلّه اللّه عزّ وجلّ على رؤوس الخلائق يوم القيامة » .
22 - أمّا إن كان المستغيث على باطلٍ ، فإن أراد النّزوع عنه وأظهر ذلك استنقذ ، وإن كان يريد البقاء على باطله فلا . وكذلك كلّ ظالمٍ فإن نصرته محرّمةٌ ، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « مثل الّذي يعين قومه على غير الحقّ كمثل بعيرٍ تردّى في بئرٍ فهو ينزع بذنبه » . وقوله : « من حالت شفاعته دون حدٍّ من حدود اللّه فقد ضادّ اللّه في ملكه ، ومن أعان على خصومةٍ لا يعلم أحقٌّ أو باطلٌ فهو في سخط اللّه حتّى ينزع » . وقال سفيان الثّوريّ : إذا استغاث الظّالم وطلب شربة ماءٍ فأعطيته إيّاها كان ذلك إعانةً له على ظلمه .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ضمان هلاك المستغيث :
23 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ منع المستغيث عمّا ينقذ حياته - مع القدرة على إغاثته بلا ضررٍ يلحقه ، والعلم بأنّه يموت إن لم يغثه - يستوجب القصاص ، وإن لم يباشر قتله بيده . وذهب الحنابلة وأبو يوسف ومحمّدٌ إلى أنّ فيه الضّمان ( الدّية ) ، وسوّى أبو الخطّاب بين طلب الغوث ، أو رؤية من يحتاج للغوث بلا طلبٍ .
وقال أبو حنيفة : لا ضمان ، لأنّه لم يباشر الفعل القاتل .
حكم من أحجم عن إجابة المستغيث :
الاستغاثة عند الإشراف على الهلاك :
24 - إذا استغاث المشرف على الهلاك من الجوع أو العطش وجبت إغاثته ، فإن منع حتّى أشرف على الهلاك ففي المسألة رأيان :
الأوّل قال به الحنفيّة : للمستغيث أن يقاتل بالسّلاح ، إن كان الماء غير محرّزٍ في إناءٍ ، لما ورد عن الهيثم أنّ قوماً وردوا ماءً فسألوا أهله واستغاثوا بهم أن يدلّوهم على بئرٍ فأبوا ، فسألوهم أن يعطوهم دلواً فأبوا ، فقالوا لهم : إنّ أعناقنا وأعناق مطايانا قد كادت أن تقطع ، فأبوا أن يعطوهم ، فذكروا ذلك لعمر رضي الله عنه ، فقال لهم عمر : فهلاّ وضعتم فيهم السّلاح . فيه دليلٌ على أنّ لهم في الماء حقّ الشّفة . فإذا منع المستغاث بهم حقّ المستغيثين بقصد إتلافهم كان للمستغيثين أن يقاتلوهم عن أنفسهم . فأمّا إذا كان الماء محرّزاً ، فليس للّذي يخاف الهلاك من العطش أن يقاتل صاحب الماء بالسّلاح ، بل له أن يقاتله بغير سلاحٍ ، وكذلك في الطّعام ، لأنّه ملكٌ محرّزٌ لصاحبه ، ولهذا كان الآخذ ضامناً . وقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : يقاتل بالسّلاح ، ويكون دم المانع هدراً .
الاستغاثة عند إقامة الحدّ :
25 - لإغاثة من سيتعرّض للحدّ حالتان :
الأولى : قبل أن يصل أمره إلى الإمام ، أو الحاكم ، يستحبّ إغاثته بالعفو عنه والشّفاعة له عند صاحب الحقّ ، وعدم رفع أمره للحاكم . لما روي عن « صفوان بن أميّة أنّ رجلاً سرق برده فرفعه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأمر بقطعه ، فقال : يا رسول اللّه قد تجاوزت عنه ، قال : فلولا كان هذا قبل أن تأتيني به يا أبا وهبٍ فقطعه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم » .
والثّانية : إذا وصل أمره إلى الحاكم ، فلا إغاثة ولا شفاعة . لما روت عائشة رضي الله عنها : « أنّ قريشاً أهمّتهم المرأة المخزوميّة الّتي سرقت ، فقالوا : من يكلّم فيها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومن يجترئ عليه إلاّ أسامة حبّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ فكلّم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : أتشفع في حدٍّ من حدود اللّه ؟ ، ثمّ قام فخطب ، قال : يا أيّها النّاس إنّما ضلّ من كان قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه ، وإذا سرق الضّعيف فيهم أقاموا عليه الحدّ ، وأيم اللّه لو أنّ فاطمة بنت محمّدٍ سرقت لقطع محمّدٌ يدها » .
الاستغاثة عند الغصب :
26 - اتّفقت المذاهب على أنّ المغصوب منه والمسروق منه يجب عليه أن يستغيث أوّلاً ، وأن يدفع الصّائل أو السّارق بغير القتل . فإذا لم يندفع ، أو كان ليلاً ، أو لم يغثه أحدٌ ، أو منعه الصّائل ، أو السّارق من الاستغاثة ، أو عاجله ، فله دفعه عن نفسه وعرضه وماله - وإن كان قليلاً - ولو بالقتل ، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « من قتل دون ماله فهو شهيدٌ ، ومن قتل دون عرضه فهو شهيدٌ » وقد روي أنّ ابن عمر رأى لصّاً فأصلت عليه السّيف قال : فلو تركناه لقتله . وجاء رجلٌ إلى الحسن فقال : لصٌّ دخل بيتي ومعه حديدةٌ ، أقتله ؟ قال : نعم بأيّ شيءٍ قدرت .
27 – فإذا قتل المغصوب منه الغاصب ، أو المسروق منه السّارق بدون استغاثةٍ واستعانةٍ مع قدرته عليها ، وإمكان دفعه بما هو دون القتل ، ففي المسألة رأيان :
الأوّل للحنفيّة : يجب القود .
الثّاني للمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : يضمن القاتل ، لأنّه يمكن دفعه بغير القتل ، لأنّ المقصود دفعه فإذا اندفع بقليلٍ فلا يلزم أكثر منه ، وإن ذهب مولّياً لم يكن له قتله كأهل البغي . فإن فعل غير ذلك كان متعدّياً .
الاستغاثة في الإكراه على الفاحشة :
28 - اتّفق الفقهاء على أنّ الاستغاثة عند الفاحشة علامةٌ من علامات الإكراه الّتي تسقط الحدّ عن المكرهة الأنثى ، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « عفي عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » .
استغراقٌ *
التعريف :
1 - الاستغراق لغةً : الاستيعاب والشّمول .
واصطلاحاً : هو استيفاء شيءٍ بتمام أجزائه وأفراده .
2 - وقد قسّم صاحب دستور العلماء استغراق اللّفظ إلى : استغراقٍ حقيقيٍّ ، واستغراقٍ عرفيٍّ .
أ - فالاستغراق الحقيقيّ : هو أن يراد باللّفظ كلّ فردٍ ممّا يتناوله بحسب اللّغة ، أو الشّرع ، أو العرف الخاصّ ، مثل قوله تعالى : { عالم الغيب والشّهادة } .
ب - والاستغراق العرفيّ : هو أن يراد باللّفظ كلّ فردٍ ممّا يتناوله بحسب متفاهم العرف ، مثل جمع الأمير الصّاغة ، أي كلّ صاغة بلده .
3 - أمّا الكفويّ ( أبو البقاء ) فقد قسّمه إلى ثلاثة أقسامٍ :
أ - استغراقٌ جنسيٌّ مثل : لا رجل في الدّار .
ب - استغراقٌ فرديٌّ مثل : لا رجل في الدّار .
ج - استغراقٌ عرفيٌّ : وهو ما يكون المرجع في شموله وإحاطته إلى حكم العرف مثل : جمع الأمير الصّاغة .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
4 - ذكر الأصوليّون الاستغراق أثناء الكلام على تعريف العامّ ، فقالوا : العامّ هو اللّفظ المستغرق لجميع ما يصلح له ، أي يتناوله دفعةً واحدةً من غير حصرٍ . واعتبار الاستغراق في العامّ إنّما هو رأي الشّافعيّة وبعض الحنفيّة . أمّا عند عامّتهم فيكفي في العموم انتظام جمعٍ من المسمّيات ، كما صرّح به فخر الإسلام وغيره . وعلى هذا يكون الاستغراق أشمل من العموم . فلفظ الأسد يصدق أن يقال : إنّه مستغرقٌ لجميع ما يصلح له ، وليس بعامٍّ .
الألفاظ الدّالّة على الاستغراق :
5 - هناك بعض الألفاظ تدلّ على الاستغراق ، كلفظ كلٍّ ، فإنّه يفيد استغراق أفراد المضاف إليه المنكّر ، مثل { كلّ نفسٍ ذائقة الموت } كما أنّها تفيد استغراق أجزاء المضاف إليه المفرد المعرفة ، نحو : كلّ زيدٍ حسنٌ ، أي كلّ أجزائه .
كذلك الجمع المحلّى بالألف واللاّم يفيد الاستغراق : نحو : « ما رآه المسلمون حسناً » .
6 - وفي الموضوع تفصيلاتٌ كثيرةٌ تنظر في العموم في الملحق الأصوليّ .
7 - أمّا الفقهاء فيستعملون الاستغراق أيضاً بمعنى الاستيعاب والشّمول .
ومن ذلك قولهم في الزّكاة : استغراق الأصناف الثّمانية في صرف الزّكاة عند البعض ، وللتّفصيل ينظر باب الزّكاة .
استغفارٌ *
التعريف :
1 - الاستغفار في اللّغة : طلب المغفرة بالمقال والفعال .
وعند الفقهاء : سؤال المغفرة كذلك ، والمغفرة في الأصل : السّتر ، ويراد بها التّجاوز عن الذّنب وعدم المؤاخذة به ، وأضاف بعضهم : إمّا بترك التّوبيخ والعقاب رأساً ، أو بعد التّقرير به فيما بين العبد وربّه . ويأتي الاستغفار بمعنى الإسلام .
قال اللّه تعالى : { وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون } أي يسلمون قاله مجاهدٌ وعكرمة . كذلك يأتي الاستغفار بمعنى الدّعاء والتّوبة ، وستأتي صلته بهذه الألفاظ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّوبة :
2 - الاستغفار والتّوبة يشتركان في أنّ كلاًّ منهما رجوعٌ إلى اللّه سبحانه ، كذلك يشتركان في طلب إزالة ما لا ينبغي ، إلاّ أنّ الاستغفار طلبٌ من اللّه لإزالته .
والتّوبة سعيٌ من الإنسان في إزالته . وعند الإطلاق يدخل كلٌّ منهما في مسمّى الآخر ، وعند اقترانهما يكون الاستغفار طلب وقاية شرّ ما مضى والتّوبة الرّجوع وطلب وقاية شرّ ما يخافه في المستقبل من سيّئات أعماله ، ففي التّوبة أمران لا بدّ منهما : مفارقة شيءٍ ، والرّجوع إلى غيره ، فخصّت التّوبة بالرّجوع والاستغفار بالمفارقة ، وعند إفراد أحدهما يتناول كلٌّ منهما الآخر . وعند المعصية يكون الاستغفار المقرون بالتّوبة عبارةٌ عن طلب المغفرة باللّسان ، والتّوبة عبارةٌ عن الإقلاع عن الذّنب بالقلب والجوارح .
ب - الدّعاء :
3 - كلّ دعاءٍ فيه سؤال الغفران فهو استغفارٌ . إلاّ أنّ بين الاستغفار والدّعاء عموماً وخصوصاً من وجهٍ ، يجتمعان في طلب المغفرة ، وينفرد الاستغفار إن كان بالفعل لا بالقول ، كما ينفرد الدّعاء إن كان بطلب غير المغفرة .
الحكم التّكليفيّ للاستغفار :
4 - الأصل في الاستغفار أنّه مندوبٌ إليه ، لقول اللّه سبحانه . { واستغفروا اللّه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ } يحمل على النّدب ، لأنّه قد يكون من غير معصيةٍ ، لكنّه قد يخرج عن النّدب إلى الوجوب كاستغفار النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكالاستغفار من المعصية .
وقد يخرج إلى الكراهة كالاستغفار للميّت خلف الجنازة ، صرّح بذلك المالكيّة .
وقد يخرج إلى الحرمة ، كالاستغفار للكفّار .
الاستغفار المطلوب :
5 - الاستغفار المطلوب هو الّذي يحلّ عقدة الإصرار ، ويثبت معناه في الجنان ، لا التّلفّظ باللّسان ، فإن كان باللّسان - وهو مصرٌّ على المعصية - فإنّه ذنبٌ يحتاج إلى استغفارٍ . كما روي : « التّائب من الذّنب ، كمن لا ذنب له ، والمستغفر من الذّنب وهو مقيمٌ عليه كالمستهزئ بربّه » ويطلب للمستغفر بلسانه أن يكون ملاحظاً لهذه المعاني بجنانه ، ليفوز بنتائج الاستغفار ، فإن لم يتيسّر له ذلك فيستغفر بلسانه ، ويجاهد نفسه على ما هنالك ، فالميسور لا يسقط بالمعسور .
فإن انتفى الإصرار ، وكان الاستغفار باللّسان مع غفلة القلب ، ففيه رأيان :
الأوّل : وصفه بأنّه توبة الكذّابين ، وهو قول المالكيّة ، وقولٌ للحنفيّة والشّافعيّة ، إلاّ أنّ المالكيّة جعلوه معصيةً لاحقةً بالكبائر ، وقال الآخرون : بأنّه لا جدوى منه فقط .
الثّاني : اعتباره حسنةً وهو قول الحنابلة ، وقولٌ للحنفيّة والشّافعيّة ، لأنّ الاستغفار عن غفلةٍ خيرٌ من الصّمت وإن احتاج إلى استغفارٍ ، لأنّ اللّسان إذا ألف ذكراً يوشك أن يألفه القلب فيوافقه عليه ، وترك العمل للخوف منه من مكايد الشّيطان .
صيغ الاستغفار :
6 - ورد الاستغفار بصيغٍ متعدّدةٍ ، والمختار منها ما رواه البخاريّ عن شدّاد بن أوسٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « سيّد الاستغفار أن تقول : اللّهمّ أنت ربّي لا إله إلاّ أنت ، خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شرّ ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك عليّ ، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنت » .
7 - ومن أفضل أنواع الاستغفار أن يقول العبد : « أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه » . وهذا على سبيل المثال وليس الحصر كما أنّ بعض الأوقات وبعض العبادات تختصّ بصيغٍ مأثورةٍ تكون أفضل من غيرها وينبغي التّقيّد بألفاظها ، وموطن بيانها غالباً كتب السّنّة والأذكار والآداب ، في أبواب الدّعاء والاستغفار والتّوبة .
وإذا كانت صيغ الاستغفار السّابقة مطلوبةً فإنّ بعض صيغه منهيٌّ عنها ، ففي الصّحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقولنّ أحدكم : اللّهمّ اغفر لي إن شئت ، اللّهمّ ارحمني إن شئت ، ليعزم المسألة فإنّ اللّه لا مستكره له »
استغفار النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
8 - استغفار النّبيّ عليه الصلاة والسلام واجبٌ عليه ، لقوله تعالى : { فاعلم أنّه لا إله إلاّ اللّه واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } ، وقد ذكر الفقهاء والمفسّرون وجوهاً عديدةً في استغفاره صلى الله عليه وسلم منها : أنّه يراد به ما كان من سهوٍ أو غفلةٍ ، أو أنّه لم يكن عن ذنبٍ ، وإنّما كان لتعليم أمّته ، ورأي السّبكيّ : أنّ استغفار النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يحتمل إلاّ وجهاً واحداً ، وهو : تشريفه من غير أن يكون ذنبٌ ، لأنّه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى . وقد ثبت« أنّه صلى الله عليه وسلم كان يستغفر في اليوم الواحد سبعين مرّةً ، ومائة مرّةٍ »، بل كان أصحابه يعدّون له في المجلس الواحد قبل أن يقوم :
« ربّ اغفر لي وتب عليّ إنّك أنت التّوّاب الغفور مائة مرّةٍ » .
الاستغفار في الطّهارة :
أوّلاً : الاستغفار عقب الخروج من الخلاء :
9 - يندب الاستغفار بعد قضاء الحاجة ، وعند الخروج من الخلاء . روى التّرمذيّ أنّه « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال : غفرانك » .
ووجه سؤال المغفرة هنا كما قال ابن العربيّ - هو العجز عن شكر النّعمة في تيسير الغذاء ، وإيصال منفعته ، وإخراج فضلته .
ثانياً : الاستغفار بعد الوضوء :
10 - يسنّ الاستغفار ضمن الذّكر الوارد عند إتمام الوضوء روى أبو سعيدٍ الخدريّ رضي الله تعالى عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من توضّأ فقال : سبحانك اللّهمّ ، وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك ، وأتوب إليك ، كتب في رقٍّ ، ثمّ جعل في طابعٍ ، فلم يكسر إلى يوم القيامة » وقد وردت صيغٌ أخرى تتضمّن الاستغفار عقب الانتهاء من الوضوء وأثناءه يذكرها الفقهاء في سنن الوضوء .
الاستغفار عند دخول المسجد والخروج منه :
11 - يستحبّ عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، الاستغفار عند دخول المسجد وعند الخروج منه . لما ورد عن فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قالت : « كان رسول اللّه إذا دخل المسجد صلّى على محمّدٍ وسلّم ، وقال : ربّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج صلّى على محمّدٍ وسلّم ، وقال : ربّ اغفر لي ، وافتح لي أبواب فضلك » والوارد في كتب الحنفيّة أنّ المصلّي يقول عند دخول المسجد : « اللّهمّ افتح لي أبواب رحمتك » وعند خروجه : « اللّهمّ إنّي أسألك من فضلك » .
الاستغفار في الصّلاة :
أوّلاً - الاستغفار في افتتاح الصّلاة :
12 - جاء الاستغفار في بعض الرّوايات الّتي وردت في دعاء الافتتاح في الصّلاة ،
وأخذ بذلك الشّافعيّة مطلقاً ، والحنفيّة والحنابلة في صلاة اللّيل ، منها ما رواه أبو بكرٍ الصّدّيق رضي الله عنه عن النّبيّ عليه الصلاة والسلام : « اللّهمّ إنّي ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ، ولا يغفر الذّنوب إلاّ أنت فاغفر لي مغفرةً من عندك ، وارحمني إنّك أنت التّوّاب الرّحيم » . ويكره الافتتاح في المكتوبة عند المالكيّة ومحلّ الاستغفار في دعاء الافتتاح يذكره الفقهاء في سنن الصّلاة ، أو في كيفيّة الصّلاة .
ثانياً : الاستغفار في الرّكوع والسّجود والجلوس بين السّجدتين :
13 يسنّ الدّعاء بالمغفرة في الرّكوع عند الشّافعيّة ، والحنابلة . روت عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللّهمّ وبحمدك اللّهمّ اغفر لي يتأوّل القرآن »، أي يحقّق قوله تعالى : { فسبّح بحمد ربّك واستغفره } » متّفقٌ عليه . إلاّ أنّ الشّافعيّة يجعلون ذلك للمنفرد ، ولإمام قومٍ محصورين رضوا بالتّطويل . ولا يأتي بغير التّسبيح في الرّكوع عند الحنفيّة ، والمالكيّة ، غير أنّ الحنفيّة يجيزون الاستغفار عند الرّفع من الرّكوع .
14 - وفي السّجود يندب الدّعاء بالمغفرة كذلك عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، لحديث عائشة السّابق .
15 - وفي الجلوس بين السّجدتين يسنّ الاستغفار عند الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة ، وهو قولٌ عن أحمد ، والأصل في هذا ما روى حذيفة « أنّه صلّى مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكان يقول بين السّجدتين : ربّ اغفر لي ، ربّ اغفر لي » . وإنّما لم يجب الاستغفار ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلّمه المسيء صلاته . والمشهور عند الحنابلة أنّه واجبٌ ، وهو قول إسحاق وداود ، وأقلّه مرّةً واحدةً ، وأقلّ الكمال ثلاثٌ ، والكمال للمنفرد ما لا يخرجه إلى السّهو ، وبالنّسبة للإمام : ما لا يشقّ على المصلّين .
الاستغفار في القنوت :
16 - جاء الاستغفار في ألفاظ القنوت ، قنوت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقنوت عمر ، وألفاظه كبقيّة الألفاظ الواردة ، ولم نقف على أمرٍ يخصّه ، إلاّ ما ذكره المالكيّة والحنفيّة بأنّ الدّعاء بالمغفرة يقوم مقام القنوت عند العجز عنه .
الاستغفار بعد التّشهّد الأخير :
17 - يندب الاستغفار بعد التّشهّد الأخير ، ورد في السّنّة « اللّهمّ إنّي ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ، وإنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنت ، فاغفر لي مغفرةً من عندك ، وارحمني إنّك أنت الغفور الرّحيم » متّفقٌ عليه . كذلك ورد « اللّهمّ اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت ، وما أنت أعلم به منّي أنت المقدّم وأنت المؤخّر لا إله إلاّ أنت »
الاستغفار عقب الصّلاة :
18 - يسنّ الاستغفار عقب الصّلاة ثلاثاً ، لما روي عن عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه قال :« من قال أستغفر اللّه العظيم الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه ، ثلاث مرّاتٍ ، غفر اللّه ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر »
ووردت رواياتٌ أخرى يذكرها الفقهاء في الذّكر الوارد عقب الصّلاة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : « من استغفر اللّه تعالى في دبر كلّ صلاةٍ ثلاث مرّاتٍ فقال : أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه غفر اللّه عزّ وجلّ ذنوبه وإن كان قد فرّ من الزّحف »
الاستغفار في الاستسقاء :
19 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يحصل الاستسقاء بالاستغفار وحده .
غير أنّ أبا حنيفة يقصره على ذلك ، مستدلاًّ بقول اللّه سبحانه { فقلت استغفروا ربّكم إنّه كان غفّاراً يرسل السّماء عليكم مدراراً } لأنّ الآية دلّت على أنّ الاستغفار وسيلةٌ للسّقيا . بدليل { يرسل السّماء عليكم مدراراً } ولم تزد الآية الكريمة على الاستغفار ، وروي عن عمر رضي الله عنه أنّه خرج إلى الاستسقاء ولم يصلّ بجماعةٍ ، بل صعد المنبر ، واستغفر اللّه ، وما زاد عليه ، فقالوا : ما استسقيت يا أمير المؤمنين ، فقال : لقد استسقيت بمجاديح السّماء الّتي بها يستنزل الغيث .
20 - وبقيّة الفقهاء والقائلون بندب صلاة الاستسقاء والخطبتين ، أو الخطبة الواحدة ، يسنّ عندهم الإكثار من الاستغفار في الخطبة ، وتبدّل تكبيرات الافتتاح الّتي في خطبتي العيدين بالاستغفار في خطبتي الاستسقاء عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، وصيغته كما أوردها النّوويّ في مجموعه " أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه " . ويكبّر كخطبتي العيدين عند الحنابلة ، ونفى الحنفيّة التّكبير ولم يتعرّضوا للاستغفار في الخطبة .
الاستغفار للأموات :
21 - الاستغفار عبادةٌ قوليّةٌ يصحّ فعلها للميّت . وقد ثبت في السّنّة الاستغفار للأموات ، ففي صلاة الجنازة ورد الدّعاء للميّت بالمغفرة ، لكن لا يستغفر لصبيٍّ ونحوه .
وتفصيل أحكامه يذكرها الفقهاء في صلاة الجنازة . وعقب الدّفن يندب أن يقف جماعةٌ يستغفرون للميّت ، لأنّه حينئذٍ في سؤال منكرٍ ونكيرٍ ، روى أبو داود بإسناده عن عثمان قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا دفن الرّجل وقف عليه وقال : استغفروا لأخيكم واسألوا له التّثبّت فإنّه الآن يسأل » وصرّح بذلك جمهور الفقهاء .
22 - ومن آداب زيارة القبور عند الحنفيّة والمالكيّة ، والشّافعيّة ، الدّعاء بالمغفرة لأهلها عقب التّسليم عليهم ، واستحسن ذلك الحنابلة .
23 - وهذا كلّه يخصّ المؤمن ، أمّا الكافر الميّت فيحرم الاستغفار له بنصّ القرآن والإجماع .
الاستغفار عن الغيبة :
24 - اختلف العلماء في حقّ الّذي اغتاب ، هل يلزمه استحلال من اغتيب ، مع الاستغفار له ، أم يكفيه الاستغفار ؟ .
الأوّل : إذا لم يعلم من اغتيب فيكفي الاستغفار ، وهو مذهب الشّافعيّة ، والحنابلة ، وقولٌ للحنفيّة ، ولأنّ إعلامه ربّما يجرّ فتنةً ، وفي إعلامه إدخال غمٍّ عليه . لما روى الخلاّل بإسناده عن أنسٍ مرفوعاً « كفّارة من اغتيب أن يستغفر له » . فإن علم فلا بدّ من استحلاله مع الاستغفار له .
الثّاني : يكفي الاستغفار سواءٌ علم الّذي اغتيب أم لم يعلم ، ولا يجب استحلاله ، وهو قول الطّحاويّ من الحنفيّة . والمالكيّة على أنّه لا بدّ من استحلال المغتاب إن كان موجوداً ، فإن لم يجده ، أو أحداً من ورثته استغفر له .
وفي استحلال الورثة خلافٌ بين الفقهاء يذكر في التّوبة .
الاستغفار للمؤمنين :
25 - اتّفق الفقهاء على أنّه يسنّ التّعميم في الدّعاء بالمغفرة للمؤمنين والمؤمنات ، لخبر « ما من دعاءٍ أحبّ إلى اللّه تعالى من أن يقول العبد : اللّهمّ اغفر لأمّة محمّدٍ مغفرةً عامّةً » وفي روايةٍ أنّه « قام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في صلاةٍ ، وقمنا معه ، فقال أعرابيٌّ وهو في الصّلاة : اللّهمّ ارحمني ومحمّداً ، ولا ترحم معنا أحداً ، فلمّا سلّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال للأعرابيّ : لقد حجّرت واسعاً » . ولا بأس أن يخصّ الإنسان نفسه بالدّعاء ، لحديث أبي بكرة ، وأمّ سلمة ، وسعد بن أبي وقّاصٍ : « اللّهمّ إنّي أعوذ بك ، وأسألك ... » إلخ وهذا يخصّ نفسه الكريمة ، ذلك ما لم يكن في القنوت ، وخلفه من يؤمّن ، لخبر ثوبان « لا يؤمّ رجلٌ قوماً فيخصّ نفسه بدعوةٍ دونهم ، فإن فعل فقد خانهم »
الاستغفار للكافر :
26 - اتّفق الفقهاء على أنّ الاستغفار للكافر محظورٌ ، بل بالغ بعضهم فقال : إنّ الاستغفار للكافر يقتضي كفر من فعله ، لأنّ فيه تكذيباً للنّصوص الواردة الّتي تدلّ على أنّ اللّه تعالى لا يغفر أن يشرك به ، وأنّ من مات على كفره فهو من أهل النّار .
27 - وأمّا من استغفر للكافر الحيّ رجاء أن يؤمن فيغفر له ، فقد صرّح الحنفيّة بإجازة ذلك ، وجوّز الحنابلة الدّعاء بالهداية ، ولا يستبعد ذلك من غيرهم ، كذلك استظهر بعضهم جواز الدّعاء لأطفال الكفّار بالمغفرة ، لأنّ هذا من أحكام الآخرة .
تكفير الذّنوب بالاستغفار :
28 - الاستغفار إن كان بمعنى التّوبة فإنّه يرجى أن يكفّر به الذّنوب إن توافرت فيه شروط التّوبة ، يقول اللّه سبحانه : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيماً } ويقول صلى الله عليه وسلم رسول اللّه : « من استغفر اللّه تعالى في دبر كلّ صلاةٍ ثلاث مرّاتٍ ، فقال : أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه ، غفر له وإن كان قد فرّ من الزّحف » وقد قيل : لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار فالمراد بالاستغفار هنا التّوبة .
29 - فإن كان الاستغفار على وجه الافتقار والانكسار دون تحقّق التّوبة ،
فقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فالشّافعيّة قالوا : إنّه يكفّر الصّغائر دون الكبائر ، وقال المالكيّة والحنابلة : إنّه تغفر به الذّنوب ، ولم يفرّقوا بين صغيرةٍ وكبيرةٍ ، وهو ما صرّحت به بعض كتب الحنفيّة . لقوله صلى الله عليه وسلم : « الاستغفار ممحاةٌ للذّنوب » .
الاستغفار عند النّوم :
30 - يستحبّ الاستغفار عند النّوم مع بعض الأدعية الأخرى ، ليكون الاستغفار خاتمة عمله إذا رفعت روحه ، روى التّرمذيّ عن أبي سعيدٍ : « من قال حين يأوي إلى فراشه أستغفر اللّه الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه ثلاث مرّاتٍ غفر اللّه له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر » .
الدّعاء بالمغفرة للمشمّت :
31 - يسنّ للعاطس أن يدعو بالمغفرة لمن شمّته بقوله : " يرحمك اللّه " فيقول له العاطس : " يغفر اللّه لنا ولكم " أو يقول له : " يهديكم اللّه ويصلح بالكم " أو يقول : " يرحمنا اللّه وإيّاكم ويغفر لنا ولكم " ، لما في الموطّأ عن نافعٍ أنّ ابن عمر كان إذا عطس فقيل له : يرحمك اللّه ، قال : يرحمنا اللّه وإيّاكم ويغفر لنا ولكم .
اختتام الأعمال بالاستغفار :
32 - المتتبّع للقرآن الكريم والأذكار النّبويّة يجد اختتام كثيرٍ من الأعمال بالاستغفار ،
فقد أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم في آخر حياته بالاستغفار بقوله تعالى : { فسبّح بحمد ربّك واستغفره إنّه كان توّاباً } .
33 - وفي اختتام الصّلاة ، وتمام الوضوء يندب الاستغفار كما تقدّم .
34 - والاستغفار في نهاية المجلس كفّارةٌ لما يقع في المجلس من لغطٍ ، روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من جلس مجلساً فكثر فيه لغطه ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك : سبحانك اللّهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك وأتوب إليك ، إلاّ غفر له ما كان في مجلسه ذلك » .
35 - ومن آكد أوقات الاستغفار : السّحر - آخر اللّيل - لقوله تعالى : { وبالأسحار هم يستغفرون } وللخبر الصّحيح : « ينزل ربّنا تبارك وتعالى كلّ ليلةٍ إلى سماء الدّنيا حين يبقى ثلث اللّيل الأخير ، فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ » .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
استغلالٌ *
انظر : استثمارٌ .
استفاضةٌ *
التعريف :
1 - الاستفاضة في اللّغة : مصدر استفاض . يقال : استفاض الحديث والخبر وفاض بمعنى : ذاع وانتشر . ولا يخرج استعمال الفقهاء والمحدّثين له عن المعنى اللّغويّ .
الحكم الإجماليّ :
2 - الاستفاضة مستندٌ للشّهادة ، يستند إليها الشّاهد في شهادته ، فتقوم مقام المعاينة في أمورٍ معيّنةٍ يأتي بيانها . ولذلك يطلق عليها الفقهاء " الشّهادة بالاستفاضة " ويطلقون عليها أيضاً " الشّهادة بالسّماع " أو بالتّسامع ، أو بالشّهرة ، أو بالاشتهار ، وهم في كلّ ذلك يقصدون الشّهادة بسماع ما شاع واشتهر بين النّاس .
ويقول عنها ابن عرفة المالكيّ : " شهادة السّماع " لقبٌ لما يصرّح الشّاهد فيه بإسناد شهادته لسماع غير معيّنٍ . ويقول عنها بعض الحنفيّة : الشّهرة الشّرعيّة .
3 - هذا وإنّ شهادة الاستفاضة تكون في الأمور الّتي مبناها على الاشتهار ، كالموت ، والنّكاح ، والنّسب ، لأنّه يتعذّر العلم غالباً بدون الاستفاضة ، ولأنّه يختصّ بمعاينة أسبابها خواصّ من النّاس ، فلو لم تقبل فيها الشّهادة بالتّسامع لأدّى إلى الحرج وتعطيل الأحكام ، كما يقول الفقهاء .
4 - والفقهاء جميعاً متّفقون على جواز الشّهادة بالاستفاضة . إلاّ أنّهم يختلفون في أمورٍ :
5 - أ - شرط التّسامع . وهو الشّهادة بالتّسامع من جماعةٍ يؤمن تواطؤهم على الكذب ، وذلك عند الشّافعيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة ، ومحمّدٍ من الحنفيّة . وقيل : يكفي رجلان عدلان ، أو رجلٌ وامرأتان ، وهو قول الخصّاف من الحنفيّة ، والقاضي من الحنابلة ، وبعض الشّافعيّة . مع تفصيلٍ للفقهاء في ذلك ينظر في ( شهادةٌ ) .
6 - ب - الأمور الّتي تثبت بها الشّهادة بالتّسامع . وقد اختلفت أقوال الفقهاء في ذلك ، لكنّهم يتّفقون في جوازها : في الموت ، والنّكاح ، والنّسب ، وعدّ ابن عابدين من الحنفيّة عشرة أمورٍ تجوز فيها الشّهادة بالاستفاضة ، وفي مغني المحتاج للشّافعيّة أكثر من عشرةٍ ، ومثلها عند الحنابلة . وقد توسّع المالكيّة في ذلك فعدّوا أشياء كثيرةً تثبت بالسّماع الفاشي ، كالملك ، والوقف ، وعزل القاضي ، والجرح ، والتّعديل ، والكفر ، والإسلام ، والسّفه ، والرّشد ، والهيئة ، والصّدقة ، والولادة ، والحرابة . وغير ذلك ( ر : شهادةٌ ) .
7 - ج - وهل إذا صرّح بأنّه بنى شهادته على السّماع تقبل أو تردّ ؟
فيه خلافٌ بين المذاهب ينظر في مصطلح ( شهادةٌ ) كذلك .
الحديث المستفيض :
8 - الحديث المستفيض اسمٌ من أسماء الحديث ( المشهور ) وهو من الآحاد ، إلاّ أنّه ممّا يقيّد به المطلق ، يخصّص به العامّ عند الحنفيّة ، وغيرهم . وتعريفه عند الحنفيّة : أنّه ما رواه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم واحدٌ أو اثنان من الصّحابة ، أو يرويه عن الصّحابيّ واحدٌ أو اثنان ، ثمّ ينتشر بعد ذلك ، فيرويه قومٌ يؤمن تواطؤهم على الكذب . ويفيد اليقين ، ولكنّه أضعف ممّا لا يفيده الخبر المتواتر . وعند غير الحنفيّة : كلّ حديثٍ لا يقلّ عدد رواته عن ثلاثةٍ في أيّ طبقةٍ من طبقات السّند ، ولم يبلغ مبلغ التّواتر .
9 - وأمّا ذيوع الحدث ، كرؤية الهلال فإنّه يترتّب عليه لزوم الصّوم في رمضان ، ووجوب الفطر في أوّل شوّالٍ ، والوقوف بعرفة في شهر ذي الحجّة ، على تفصيلٍ يرجع إليه في موطنه من كتب الفقه .
مواطن البحث :
10 - مواطن البحث في الاستفاضة ينظر في الشّهادة بالاستفاضة في باب الشّهادة عند الفقهاء ، وفي الصّوم عند الكلام عن رؤية الهلال ، ويرجع إلى الملحق الأصوليّ فيما يتعلّق بالحديث المستفيض .
استفتاءٌ *
انظر : فتوى .
استفتاحٌ *
التعريف : المعنى اللّغويّ :
1 - الاستفتاح : طلب الفتح ، والفتح نقيض الإغلاق . ومنه فتح الباب ، واستفتحه : إذا طرقه ليفتح له . ويكون الفتح أيضاً بمعنى القضاء والحكم ، ومنه قول اللّه تعالى مخبراً عن شعيبٍ : { ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين } . وفي حديث ابن عبّاسٍ : ما كنت أدري ما قول اللّه تعالى : { ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ } حتّى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها : تعال أفاتحك ، أي أحاكمك .
والاستفتاح طلب القضاء . ويكون الفتح بمعنى النّصر ، واستفتح : طلب النّصر . ومنه الآية : { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } . وفي تاج العروس : في المستدرك على ما قاله الفيروز آباديّ : إنّ فتح عليه يكون بمعنى عرّفه وعلّمه . قال : وقد فسّر به قوله تعالى : { قالوا أتحدّثونهم بما فتح اللّه عليكم ليحاجّوكم به عند ربّكم } .
المعنى الاصطلاحيّ :
2 - يستعمل الفقهاء الاستفتاح بمعانٍ :
الأوّل : استفتاح الصّلاة ، وهو الذّكر الّذي الّذي تبدأ به الصّلاة بعد التّكبير . وقد يقال له : دعاء الاستفتاح . وإنّما سمّي بذلك لأنّه أوّل ما يقوله المصلّي بعد التّكبير ، فهو يفتتح به صلاته ، أي يبدؤها به .
الثّاني : استفتاح القارئ إذا ارتجّ عليه ، أي استغلق عليه باب القراءة ، فلم يتمكّن منها ، فهو يعيد الآية ويكرّرها ليفتح عليه من يسمعه .
الثّالث : طلب النّصرة .
استفتاح الصّلاة :
3 - يعبّر عنه بعض الفقهاء أيضاً بدعاء الاستفتاح ، وبالافتتاح ، وبدعاء الافتتاح . إلاّ أنّ الأكثر يقولون : الاستفتاح . واستفتح : أي قال الذّكر الوارد في موضعه بعد التّكبير .
الألفاظ ذات الصّلة :
الثّناء :
4 - الثّناء لغةً : المدح ، وفي الاصطلاح : ما كان من ذكر اللّه تعالى وصفاً له بأوصافه الحميدة ، وشكراً له على نعمه الجليلة ، سواءٌ كان بالصّيغة الواردة : " سبحانك اللّهمّ وبحمدك ... إلخ " ، أو غيرها ممّا يدلّ على المعنى المذكور .
أمّا الدّعاء فليس ثناءً . وهذا هو الجاري مع الاستعمال اللّغويّ .
وفي اصطلاحٍ آخر : الثّناء لكلّ ما يستفتح به ولو كان دعاءً . قال الإمام الرّافعيّ : وكلّ واحدٍ من هذين الذّكرين ، أعنى " وجّهت وجهي ... " وسبحانك اللّهمّ ... " يسمّى دعاء الاستفتاح وثناءه . وعلى ذلك فالاستفتاح أخصّ من الثّناء .
حكم الاستفتاح :
5 - قال جمهور الفقهاء : الاستفتاح سنّةٌ ، لما ورد في الأحاديث الّتي سيأتي ذكرها في الصّيغ المأثورة في الاستفتاح . وذهبت طائفةٌ من أصحاب الإمام أحمد إلى وجوب الذّكر الّذي هو ثناءٌ ، كالاستفتاح بنحو " سبحانك اللّهمّ وبحمدك ... " وهو اختيار ابن بطّة وغيره ، وذكر هذا روايةً عن أحمد . وخالف في ذلك مالكٌ ، ففي المدوّنة قال ابن القاسم : كان مالكٌ لا يرى هذا الّذي يقول النّاس " سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك " . وكان لا يعرفه . ثمّ نقل من رواية ابن وهبٍ بسنده إلى أنس بن مالكٍ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ وعمر وعثمان كانوا يفتتحون الصّلاة بالحمد للّه ربّ العالمين » : قال : وقال مالكٌ : من كان وراء الإمام ، ومن هو وحده ، ومن كان إماماً فلا يقل : " سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، وتبارك اسمك ... إلخ " . ولكن يكبّرون ثمّ يبتدئون القراءة . وقد صرّح فقهاء المالكيّة بأنّ الحكم كراهة الفصل بين التّكبير والقراءة بدعاءٍ . سواءٌ أكان دعاء الاستفتاح أو غيره . إلاّ أنّ في كفاية الطّالب : أنّ هذا هو المشهور عن مالكٍ ، ثمّ قال : واستحبّ بعضهم الفصل بينهما بلفظ : " سبحانك اللّهمّ وبحمدك ... إلخ " .
وقال العدويّ معلّقاً على ذلك : في قوله والمشهور عن مالكٍ إلخ إشارةً إلى أنّ هذا القول لمالكٍ " إلاّ أنّه ليس مشهوراً عنه . ثمّ قد جاء في جواهر الإكليل تعليقاً على قول خليلٍ بالكراهة : أي يكره على المشهور للعمل ، وإن صحّ الحديث به - يعني ما قاله الدّسوقيّ : لأنّه لم يصحبه عملٌ - ثمّ قال : وعن مالكٍ ندب قوله قبلها - أي قبل تكبيرة الإحرام - : سبحانك اللّهمّ وبحمدك ... إلخ ، وجّهت وجهي ... إلخ ، اللّهمّ باعد ... إلخ . قال ابن حبيبٍ : يقوله بعد الإقامة وقبل الإحرام . قال في البيان : وذلك حسنٌ .. ا هـ . وكذلك نقل الرّافعيّ من الشّافعيّة عن مالكٍ قوله : لا يستفتح بعد التّكبير إلاّ بالفاتحة ، والدّعاء والتّعوّذ يقدمهما على التّكبير . فكأنّ خلاف المالكيّة في الاستفتاح راجعٌ إلى موضعه ، فعندهم يكون قبل التّكبير ، وعند غيرهم بعده . هذا وقد استثنى الشّافعيّة حالة خشية خروج الوقت قبل تمام الصّلاة ، فلا يأتي بدعاء الاستفتاح إلاّ حيث لم يخف خروج شيءٍ من الصّلاة عن وقتها ، فإن خاف خروج شيءٍ من الصّلاة عن الوقت حرم الإتيان بدعاء الاستفتاح . وهو في هذا مخالفٌ لبقيّة سنن الصّلاة ، فإنّ السّنن يأتي بها إذا أحرم في وقتٍ يسعها وإن لزم صيرورتها قضاءً ، قال الشبراملسي : ويمكن الفرق بين الافتتاح وبقيّة السّنن بأنّه عهد طلب ترك دعاء الافتتاح في الجنازة ، وفيما لو أدرك الإمام في ركوعٍ أو اعتدالٍ ، فانحطّت رتبته عن بقيّة السّنن . أو بأنّ السّنن شرعت مستقلّةً وليست مقدّمةً لشيءٍ ، بخلاف دعاء الافتتاح ، فإنّه شرع مقدّمةً لغيره ، يعني للقراءة . قالوا : ولو خشي إن اشتغل بدعاء الاستفتاح فوت الصّلاة لهجوم الموت عليه فيها ، أو خشيت طروّ دم الحيض ، فلا يشتغل به كذلك .
صيغ الاستفتاح المأثورة :
6 - ورد في الحديث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم استفتاح الصّلاة بصيغٍ مختلفةٍ أشهرها ثلاثٌ :
الأولى : عن عائشة رضي الله عنها " قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصّلاة قال : سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك » . وصحّ عن عمر أنّه استفتح به . وجمهور الفقهاء لم يذكروا في هذه الصّيغة " وجلّ ثناؤك " ، وذكرها الحنفيّة . ففي شرح منية المصلّي : إن زاد في دعاء الاستفتاح بعد قوله : وتعالى جدّك " وجلّ ثناؤك " لا يمنع من زيادته ، وإن سكت عنه لا يؤمر به ، لأنّه لم يذكر في الأحاديث المشهورة . وقد روي عن بعض الصّحابة من قولهم .
الثّانية : عن عليٍّ رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصّلاة قال : وجّهت وجهي للّذي فطر السّموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين . إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه ربّ العالمين لا شريك له ، وبذلك أمرت ، وأنا من المسلمين » - وفي روايةٍ : « وأنا أوّل المسلمين - اللّهمّ أنت الملك لا إله إلاّ أنت ، أنت ربّي ، وأنا عبدك ، ظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ذنوبي جميعاً ، إنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنت ، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلاّ أنت ، واصرف عنّي سيّئها لا يصرف عنّي سيّئها إلاّ أنت ، لبّيك وسعديك ، والخير كلّه في يديك ، والشّرّ ليس إليك ، أنا بك وإليك ، تباركت وتعاليت ، أستغفرك وأتوب إليك » .
هل يقول ( وأنا من المسلمين ) أو ( أوّل المسلمين ) ؟ :
7 – ودعاء التّوجّه الّذي تضمّنه حديث عليٍّ رضي الله عنه ، وردت فيه هذه الكلمة بروايتين : الأولى " وأنا من المسلمين " والثّانية " وأنا أوّل المسلمين " وكلتا الرّوايتين صحيحتان . فلو قال المستفتح : " وأنا من المسلمين "- وهو الأولى- فهو موافقٌ للسّنّة ، ولا خلاف في ذلك . وإن قال : " وأنا أوّل المسلمين " ففي قولٍ عند الحنفيّة : تفسد صلاته ، لأنّ قوله هذا كذبٌ ، فليس هو أوّل المسلمين من هذه الأمّة ، بل أوّلهم محمّدٌ صلى الله عليه وسلم . والأصحّ عندهم أنّ صلاته لا تفسد ، لأنّه تالٍ للآية وحاكٍ لا مخبرٌ . ومن أجل ذلك إذا قصد الإخبار كان كاذباً ، وتفسد صلاته قطعاً . وكذا قال الإمام الشّافعيّ في الأمّ : يجعل مكان " وأنا أوّل المسلمين : وأنا من المسلمين " . وقال البيجوريّ : أو يقول وأنا أوّل المسلمين ، نظراً للفظ الآية ، ولا يقصد بذلك أنّه أوّل المسلمين حقيقةً وإلاّ كفر . أي لإنكاره إسلام المسلمين قبله . وقال ابن علاّن : ظاهر كلام أئمّتنا أنّ المرأة تقول : " وما أنا من المشركين " ، وتقول : " وأنا من المسلمين " ، لأنّ مثل ذلك سائغٌ لغةً ، شائعٌ استعمالاً .
وفي التّنزيل { وكانت من القانتين } . وقد « لقّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا من المسلمين وما أنا من المشركين فاطمة رضي الله عنها في ذبح الأضحيّة » . قال : وقياس ذلك أن تأتي المرأة أيضاً بـ ( حنيفاً مسلماً ) بالتّذكير ، على إرادة الشّخص ، محافظةً على الوارد ما أمكن ، فهما حالان من الفاعل أو المفعول .
الثّالثة : حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا كبّر في الصّلاة سكت هنيهةً قبل القراءة . فقلت يا رسول اللّه : بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه ، في إسكاتك بين التّكبير والقراءة ما تقول ؟ قال : أقول : اللّهمّ باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب . اللّهمّ نقّني من خطاياي كما ينقّى الثّوب الأبيض من الدّنس . اللّهمّ اغسلني من خطاياي بالثّلج وبالماء والبرد » .
مذاهب الفقهاء في الصّيغة المختارة :
8 - اختلف الفقهاء فيما يختارونه من الصّيغ المأثورة على أقوالٍ :
الأوّل : قال جمهور الحنفيّة ، والحنابلة : يستفتح ب ( سبحانك اللّهمّ وبحمدك ... إلخ ) مقتصراً عليه ، فلا يأتي ب ( وجّهت وجهي ... إلخ ) ولا غيره في الفريضة .
الثّاني : مذهب الشّافعيّة في معتمدهم ، وقول الآجرّيّ من الحنابلة : اختيار الاستفتاح بما في خبر عليٍّ " وجّهت وجهي ... " . قال النّوويّ من الشّافعيّة : والّذي يلي هذا الاستفتاح في الفضل حديث أبي هريرة يعني " اللّهمّ باعد ... إلخ " .
الثّالث : مذهب أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ، وجماعةٍ من الشّافعيّة ، منهم أبو إسحاق المروزيّ ، والقاضي أبو حامدٍ ، وهو اختيار الوزير ابن هبيرة من أصحاب الإمام أحمد : أن يجمع بين الصّيغتين الواردتين " سبحانك اللّهمّ وبحمدك ... " " ووجّهت وجهي ... " ونسبه صاحب الإنصاف إلى ابن تيميّة هذا ، وقد استحبّ النّوويّ أيضاً أن يكون الاستفتاح بمجموع الصّيغ الواردة كلّها لمن صلّى منفرداً ، وللإمام إذا أذن له المأمومون وجميع الآراء السّابقة إنّما هي بالنّسبة للفريضة .
أمّا في النّافلة ، وخاصّةً في صلاة اللّيل ، فقد اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على الجمع بين الثّناء ودعاء التّوجّه . قال ابن عابدين : لحمل ما ورد من الأخبار عليها ، فيقوله - أي التّوجّه - في صلاة اللّيل ، لأنّ الأمر فيها واسعٌ . وفي صحيح مسلمٍ « أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصّلاة » - وفي روايةٍ « إذا استفتح الصّلاة - كبّر ثمّ قال : وجّهت وجهي للّذي فطر السّماوات والأرض حنيفاً ... » وكذا قال أحمد عن سائر الأخبار في الاستفتاح سوى " سبحانك اللّهمّ وبحمدك ... " : إنّما هي عندي في التّطوّع .
كيفيّة الإتيان بدعاء الاستفتاح ، وموضعه :
الإسرار بدعاء الاستفتاح :
9 - اتّفق القائلون بسنّيّة الاستفتاح ، على أنّ سنّته أن يقوله المصلّي سرّاً ، سواءٌ أكان إماماً أم مأموماً أم منفرداً ، ودليله حديث أبي هريرة المتقدّم . وأمّا ما ورد من فعل عمر رضي الله عنه أنّه كان يجهر بهذه الكلمات : " سبحانك اللّهمّ وبحمدك ... " فقد حمله الفقهاء على قصد تعليمه النّاس . قال النّوويّ من الشّافعيّة : السّنّة فيه الإسرار ، فلو جهر به كان مكروهاً ، ولا تبطل صلاته .
موضع الاستفتاح من الصّلاة :
10 - تقدّم أنّ المالكيّة يخالفون في موضع الاستفتاح ، فيمنعون وقوعه بين التّكبير والقراءة ، وأنّ ابن حبيبٍ منهم صرّح بأنّه يأتي به قبل تكبيرة الإحرام ( ف 5 ) .
أمّا جمهور الفقهاء غير المالكيّة فعندهم أنّ الاستفتاح في الرّكعة الأولى ، بعد تكبيرة الإحرام ، وقبل التّعوّذ والشّروع في القراءة . وبعض من اختار منهم الاستفتاح " بسبحانك اللّهمّ وبحمدك ... " أجاز أن يقول دعاء التّوجّه قبل تكبيرة الإحرام والنّيّة ( ف 5 ) وقد سبق ما يتّصل بموضع الاستفتاح عند الفقهاء .
ويتعلّق بهذا الأمر مسألتان :
الأولى : عند الشّافعيّة والحنابلة سنّته أن يتّصل بتكبيرة الإحرام ، بمعنى ألاّ يفصل بين تكبيرة الإحرام وبين الاستفتاح تعوّذٌ أو دعاءٌ ، أو قراءةٌ . واستثنى الشّافعيّة - كما في حاشية القليوبيّ - تكبيرات العيد فلا يفوت الاستفتاح بقولها ، لندرتها . أمّا لو كبّر تكبيرة الإحرام ، ثمّ سكت ، ثمّ استفتح فلا بأس . فلو كبّر ، ثمّ تعوّذ سهواً أو عمداً لم يعد إلى الاستفتاح ، لفوات محلّه ، ولا يتداركه في باقي الرّكعات . قال النّوويّ من الشّافعيّة : وهذا هو المذهب ، ونصّ عليه الشّافعيّ في الأمّ ، وقال الشّيخ أبو حامدٍ في تعليقه : إذا تركه وشرع في التّعوّذ يعود إليه . وقال النّوويّ : لكن لو خالف . وأتى به بعد التّعوّذ كره ، ولم تبطل صلاته ، لأنّه ذكرٌ ، كما لو دعا أو سبّح في غير موضعه . وسيأتي لهذا المعنى تكميلٌ واستثناءٌ عن الحنابلة في مسألة استفتاح المسبوق .
الثّانية : لا يشرع لترك الاستفتاح عمداً أو سهواً ، أو لجهر الإمام به أو لغير ذلك سجود سهوٍ . وهذا عند كلّ من يرى أنّ الاستفتاح مستحبٌّ ، وهو قول جمهور الحنابلة . أمّا من قال بأنّه واجبٌ - كما تقدّم نقله عن بعض الحنابلة - فينبغي إذا نسيه أن يسجد للسّهو . والعلّة لترك سجود السّهو أنّ السّجود زيادةٌ في الصّلاة ، فلا يجوز إلاّ بتوقيفٍ .
استفتاح المأموم :
11 - لا إشكال في مشروعيّة استفتاح كلٍّ من الإمام والمنفرد ، إلاّ من حيث إنّ الإمام يراعي من خلفه ، من حيث التّطويل والاختصار فيما يستفتح به .
أمّا المأموم فيتعلّق باستفتاحه مسألتان :
الأولى : يستفتح المأموم سواءٌ استفتح إمامه أم لم يستفتح . قال في شرح منية المصلّي من كتب الحنفيّة : تسعة أشياء إذا لم يفعلها الإمام لا يتركها القوم ، فذكر منها : الاستفتاح . وهو يفهم أيضاً من كلام الشّافعيّة والحنابلة .
الثّانية : إذا لم يستفتح المأموم حتّى شرع الإمام في القراءة ، فقد اختلف الفقهاء في هذا على آراءٍ : الأوّل : قال الحنفيّة : لا يأتي المأموم بدعاء الاستفتاح إذا شرع الإمام في القراءة ، سواءٌ أكان الإمام يجهر بقراءته أم يخافت . وفي قولٍ عندهم : يستفتح المأموم إن كان الإمام يخافت بقراءته قال ابن عابدين : وهذا هو الصّحيح ، وعليه الفتوى . وعلّله في الذّخيرة بما حاصله أنّ الاستماع في غير حالة الجهر ليس بفرضٍ ، بل يسنّ .
الثّاني . قال الشّافعيّة : يسنّ للمأموم أن يستفتح ، ولو كان الإمام يجهر والمأموم يسمع قراءته . وفرّقوا بينه وبين قراءة المأموم للسّورة بعد الفاتحة - فإنّه يسنّ للمأموم الإنصات لها - وبين الافتتاح - فيسنّ أن يقرأه - بأنّ قراءة الإمام تعدّ قراءةً للمأموم ، فأغنت عن قراءته ، وسنّ استماعه لها ، ولا كذلك الافتتاح ، فإنّ المقصود منه الدّعاء للإمام ، ودعاء الشّخص لنفسه لا يعدّ دعاءً لغيره . ومع هذا فقد قالوا : يسنّ له الإسراع به إذا كان يسمع قراءة إمامه .
الثّالث : قال الحنابلة : يستحبّ للمأموم أن يستفتح في الصّلوات الّتي يسرّ فيها الإمام ، أو الّتي فيها سكتاتٌ يمكن فيها القراءة . وفي كشّاف القناع : أنّ المأموم يستفتح أيضاً ولو كان الإمام يجهر ، إذا كان المأموم لا يسمع قراءته . قالوا : أمّا إن لم يسكت الإمام أصلاً فلا يستفتح المأموم . وإن سكت الإمام قدراً يتّسع للاستفتاح استفتح المأموم على الصّحيح ، فإن كان المأموم ممّن يرى القراءة خلف الإمام استفتح .
استفتاح المسبوق :
12 - عند الحنفيّة : لا يستفتح المسبوق إذا أدرك الإمام حال القراءة ، وفي قولٍ : يستفتح إن كان الإمام يخافت . ثمّ إنّه إذا قام يقضي ما فاته يستفتح مرّةً أخرى . ووجهه : أنّ القيام إلى قضاء ما سبق يعتبر كتحريمةٍ أخرى ، للخروج به من حكم الاقتداء إلى حكم الانفراد . أمّا إن أدركه في الرّكوع أو في السّجدة الأولى من الرّكعة فإنّه يتحرّى في الإتيان بالثّناء ( الاستفتاح ) ، فإن كان أكبر رأيه أنّه لو أتى به يدرك الإمام في شيءٍ من الرّكوع فإنّه يأتي به قائماً ثمّ يركع ، لإمكان إحراز الفضيلتين معاً ، فلا يفوت إحداهما . ومحلّ الاستفتاح هو القيام ، فيفعله فيه . أمّا إن كان أكبر رأيه أنّه لو اشتغل بالاستفتاح لا يدرك الإمام في شيءٍ من الرّكوع ، أو السّجدة الأولى من الرّكعة ، فإنّه يركع ، أو يسجد مع الإمام لئلاّ تفوته فضيلة الجماعة في الرّكعة أو السّجدتين ، وذلك أولى من إحراز فضيلة الثّناء ، لأنّ سنّيّة الجماعة آكد وأقوى من سنّيّته . وعند الشّافعيّة : يستفتح المأموم إذا أدرك الإمام في قيام الرّكعة الأولى أو غيرها ، وغلب على ظنّه أنّه مع اشتغاله به يدرك الفاتحة قبل ركوع إمامه . فإن خاف ألاّ يدرك الفاتحة ، فإنّه يشتغل بها ويترك الاستفتاح ، لأنّها واجبةٌ والاستفتاح سنّةٌ . أمّا لو أدرك المسبوق الإمام في غير القيام : إمّا في الرّكوع ، وإمّا في السّجود ، وإمّا في التّشهّد ، فإنّه يحرم معه ، ويأتي بالذّكر الّذي يأتي به الإمام ، ولا يأتي بدعاء الاستفتاح في الحال ولا فيما بعد . واستثنوا من ذلك حالتين . قال النّوويّ : لو أدرك الإمام في القعود الأخير ، فكبّر للإحرام ، فسلّم الإمام قبل قعوده لا يقعد ، ويأتي بدعاء الاستفتاح . فإن قعد قبل أن يستفتح فسلّم الإمام فقام ، فإنّه لا يأتي بدعاء الاستفتاح . وكذلك قالوا : لو أمّن الإمام يؤمّن المسبوق ، ثمّ يأتي بالاستفتاح ، لأنّ التّأمين فاصلٌ يسيرٌ . وعند الحنابلة : إذا أدرك المسبوق الإمام فيما بعد الرّكعة الأولى لم يستفتح ، بناءً على الرّواية المعتمدة من أنّ ما يدركه المسبوق مع إمامه هو آخر صلاته لا أوّلها ، فإذا قام للقضاء استفتح . نصّ عليه أحمد . أمّا على الرّواية الأخرى عن أحمد - أنّ ما يدركه المسبوق مع إمامه هو أوّل صلاته - فإنّه يستفتح بعد تكبيرة الإحرام . أمّا إذا أدركه في قيام الرّكعة الأولى ، فكما تقدّم في استفتاح المأموم ( ف 9 ) .
الصّلوات الّتي يدخلها الاستفتاح والّتي لا يدخلها :
13 - الاستفتاح - عند غير المالكيّة - سنّةٌ في كلّ الصّلوات وفي جميع الأحوال .
قال النّوويّ : الاستفتاح مستحبٌّ لكلّ مصلٍّ ، من إمامٍ ، ومأمومٍ ، ومنفردٍ ، وامرأةٍ ، وصبيٍّ ، ومسافرٍ ، ومفترضٍ ، ومتنفّلٍ ، وقاعدٍ ، ومضطجعٍ ، وغيرهم . قال : ويدخل فيه النّوافل المرتّبة والمطلقة ، والعيد ، والكسوف في القيام الأوّل ، والاستسقاء .
غير أنّ بعضهم استثنى صلاة الجنازة . وفيها - وفي الاستفتاح في صلاة العيدين ، وصلاة قيام اللّيل - كلامٌ نورده فيما يلي :
أوّلاً : الاستفتاح في صلاة الجنازة :
14 - اختلف الفقهاء في الاستفتاح في صلاة الجنازة على أقوالٍ :
القول الأوّل . قول الحنفيّة : إنّ الاستفتاح فيها سنّةٌ بعد التّكبيرة الأولى ، ويقتصر عليه ، فلا يقرأ الفاتحة ، إذ لا تشرع القراءة عندهم في صلاة الجنازة . قالوا : إلاّ أن يقرأ الفاتحة بنيّة الثّناء ، لا بنيّة القراءة ، ولا يكره ذلك . وقالوا : يقدّم الثّناء على اللّه ( أي بعد التّكبيرة الأولى ) والصّلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم ( أي بعد التّكبيرة الثّانية ) على الدّعاء ، لأنّ سنّة الدّعاء أن يتقدّم عليه حمد اللّه والصّلاة على رسوله .
والقول الثّاني ، وهو أصحّ قولي الشّافعيّة ، والرّواية المعتمدة عند الحنابلة : أنّ صلاة الجنازة مستثناةٌ فلا يشرع فيها استفتاحٌ أصلاً ، قال الشّافعيّة : ولو على غائبٍ أو قبرٍ ، قالوا : لأنّها مبنيّةٌ على التّخفيف والاختصار . ولذلك لم يشرع فيها قراءة سورةٍ بعد الفاتحة . والقول الآخر للشّافعيّة ، والرّواية الأخرى عن الإمام أحمد : أنّه يستحبّ الاستفتاح فيها كغيرها من الصّلوات .
ثانياً : الاستفتاح في صلاة العيد :
15 - مذهب الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والمقدّم عند الحنابلة : أنّ الاستفتاح في صلاة العيد بعد تكبيرة الإحرام وقبل التّكبيرات الأخرى ( الزّوائد ) في أوّل الرّكعة . فيكبّر للإحرام ، ثمّ يثني ، ثمّ يكبّر التّكبيرات ، ثمّ يقرأ الفاتحة . وفي روايةٍ أخرى عن أحمد : يستفتح بعد التّكبيرات الزّوائد ، وقبل القراءة ونقله الكاسانيّ عن ابن أبي ليلى .
ثالثاً : الاستفتاح في النّوافل :
16 - يرى الحنابلة : أنّ صلاة النّافلة إذا كانت بأكثر من سلامٍ واحدٍ كما في التّراويح ، والضّحى ، وصلاة السّنّة الرّاتبة ، إذا كانت أربعاً وصلاّها بسلامين ، فإنّه يستفتح في كلّ ركعتين على الأصل ، لأنّ كلّ ركعتين صلاةٌ مستقلّةٌ . وفي قولٍ آخر عندهم : يكتفي باستفتاح واحدٍ في أوّل صلاته . وإن صلّى النّافلة الرّباعيّة بسلامٍ واحدٍ ، فقد قال الحنفيّة : إنّ النّافلة الرّباعيّة نوعان : النّوع الأوّل : شبّهوه بالفريضة لتأكّده ، وهو الأربع قبل صلاة الظّهر ، والأربع قبل صلاة الجمعة ، والأربع بعد صلاة الجمعة ، فهذا النّوع ليس فيه إلاّ استفتاحٌ واحدٌ فقط ، وهو ما يقوله في أوّل الرّكعة الأولى .
والنّوع الثّاني : ما عدا ذلك من النّوافل ، وفي هذا النّوع استفتاحٌ آخر يقوله في أوّل القيام في الرّكعة الثّالثة . قالوا : وهكذا الحكم لو نذر أن يصلّي أربعاً . ووجّهوه بأنّه وإن كان فرضاً ، إلاّ أنّه في الأصل نفلٌ عرض له الافتراض . قالوا : يستفتح المرّة الأخرى ، لأنّ كلّ اثنتين من الأربع صلاةٌ على حدةٍ ، أي من بعض الأوجه . قال ابن عابدين : وهذه المسألة ليست مرويّةً عن المتقدّمين . وإنّما هي اختيار بعض المتأخّرين . قال : وفي المسألة قولٌ ثانٍ : أنّه يستفتح مرّةً واحدةً فقط كالنّوع الأوّل .
استفتاح القارئ :
17 - الاستفتاح أن يطلب القارئ بقوله أو حالة الفتح إذا ارتجّ عليه ، فلم يعلم ما يقرأ ، سواءٌ أكان في قراءةٍ فنسي ما بعد الآية الّتي يقرؤها ، أم أراد ابتداء القراءة فلم يعلم ما يقول . والفتح عليه أن تخبره بما نسيه . وقد ذكر ابن عابدين أنّه يكره للإمام أن يلجئ المأموم إلى الفتح عليه . وللإمام بدل ذلك أن يركع إذا قرأ قدر الفرض . وإن لم يقرأ قدر الفرض فإنّه يستخلف . وانظر تفصيل ذلك في ( إمامةٌ ) ( وفتحٌ على الإمام ) .
الاستفتاح ( بمعنى الاستنصار ) :
18 - يستحبّ عند القتال أن يدعو المسلمون اللّه تعالى أن يفتح عليهم ، وأن ينصرهم على عدوّهم . وقد روي من ذلك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أذكارٌ معيّنةٌ في وقائع مختلفةٍ ر : ( دعاءٌ ) و ( جهادٌ ) .
الاستفتاح ( بمعنى طلب العلم بالمغيب ) :
19 - تقدّم أوّل هذا البحث أنّ استعمال هذه الكلمة بهذا المعنى دائرٌ في كلام العوّام . وأنّه يقلّ في كلام الفقهاء . وفي حكمه قولان للفقهاء في استفتاح الفأل في المصحف :
الأوّل : أنّه حرامٌ . نقل عن ابن العربيّ المالكيّ ، وهو ظاهر ما نقله البهوتيّ عن الشّيخ ( ابن تيميّة ) . وصرّح به القرافيّ والطّرطوشيّ من المالكيّة ، قال الطّرطوشيّ : لأنّه من باب الاستقسام بالأزلام ، لأنّ المستقسم يطلب قسمه من الغيب ، وكذلك من أخذ الفأل من المصحف أو غيره إنّما يعتقد هذا المقصد إن خرج جيّداً اتّبعه ، أو رديّاً اجتنبه ، فهو عين الاستقسام بالأزلام الّذي ورد القرآن بتحريمه فيحرم .
الثّاني : أنّه مكروهٌ ، وهو ظاهر كلام الشّافعيّة .
الثّالث : الجواز ، ونقل فعله عن ابن بطّة من الحنابلة .

استفراشٌ *
التعريف :
1 - يقول أهل اللّغة : إذا اتّخذ الرّجل امرأةً للذّةٍ " افترشها " ولم أجد من قال : " استفرشها " . ولكنّ الفقهاء يعبّرون عن ذلك بالاستفراش ، ويقولون عن المرأة : مستفرشةٌ ، ولا يكون ذلك إلاّ في الحلّ . ولا يرد ذكر الاستفراش في كلام الفقهاء - فيما نعلم - إلاّ في موضعين : الأوّل : في الكفّارة في النّكاح . والثّاني : للتّعبير عن التّسرّي .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الألفاظ ذات الصّلة :
الاستمتاع :
2 - الاستمتاع : أعمّ من الاستفراش مطلقاً ، إذ يدخل في الاستمتاع بالحلال والحرام ، ومتعة الحجّ وغيرها .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
3 - الأصل في الاستفراش الإباحة ، وتفصيله في مصطلحي ( نكاحٌ ) ( وتسرّي ) .

استفسارٌ *
التعريف :
1 - الاستفسار في اللّغة : مصدر استفسرته كذا إذا سألته أن يفسّره لي . ولا يختلف معناه في الفقه عنه في اللّغة . وهو عند الأصوليّين : طلب ذكر معنى اللّفظ ، حين تكون فيه غرابةٌ أو إجمالٌ . فالاستفسار عند الأصوليّين أخصّ منه عند أهل اللّغة وأهل الفقه .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - السّؤال :
2 - السّؤال هو : الطّلب ، وهو أعمّ من أن يكون طلب توضيحٍ أو غيره ، كقولك : سألته عن كذا ، وسألت اللّه العافية . أمّا الاستفسار فهو خاصٌّ بطلب التّوضيح .
ب - الاستفصال :
3 - الاستفصال هو طلب التّفصيل ( ر : استفصالٌ ) ، فهو أخصّ من الاستفسار ، لأنّ التّفسير قد يكون بغير التّفصيل ، كما في تفسير اللّفظ بمرادفه .
الحكم الإجماليّ :
4 - حكمه عند الأصوليّين : الاستفسار من آداب المناظرة ، فإذا خفي على المناظر مفهوم كلام المستدلّ لإجمالٍ أو غرابةٍ في الاستعمال استفسره ، وعلى المستدلّ بيان مراده عند الاستفسار ، حتّى لا يكون هناك لبسٌ ولا إيهامٌ ، وحتّى تجري المناظرة على خير الوجوه . مثال الإجمال : أن يقول المستدلّ : يلزم المطلّقة أن تعتدّ بالأقراء ، فيطلب المناظر تفسير القرء ، لأنّه يطلق على الطّهر ، كما يطلق على الحيض . ومثال الغرابة قوله : لا يحلّ السّيّد ( بكسر السّين وسكون الياء ) فيستفسر المناظر معناه ، فيجيبه بأنّه الذّئب .
هذا ، ويعدّ الأصوليّون الاستفسار من جملة الاعتراضات بمعنى القوادح ، ويرتّبونه في أوّلها ، وموطن استيفائه الملحق الأصوليّ .
حكمه عند الفقهاء :
5 - على القاضي أن يستفسر ذوي العلاقة الأمور الغامضة ، ليكون في حكمه على بصيرةٍ ، كاستفساره من أقرّ بشيءٍ مبهمٍ ، واستفساره الشّاهد السّبب ، كما إذا شهدا أنّ بينهما رضاعاً ، فالجمهور على أنّه لا بدّ من التّفصيل .
6 - وقد لا يجب الاستفسار لاعتباراتٍ خاصّةٍ ، كاستفسار من أكره على شرب المسكر ، فإنّه يصدق بيمينه ، ولا يستفسر كيفيّة حصول الإكراه ، درءاً للحدود ما أمكن ، خلافاً للأذرعيّ من الشّافعيّة القائل بوجوب الاستفسار .
مواطن البحث :
7 - بعض الأصوليّين أوردوا المبادئ المنطقيّة ، كمقدّمةٍ لعلم الأصول ، وذكروا الاستفسار ضمنها ، وبعضهم يذكره في مباحث القوادح في الدّليل . كما يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار ، حين الكلام على الإقرار بمبهمٍ ، وفي بحث طلاق المكره من كتاب الطّلاق ، بمناسبة كلامهم على من أكره على شرب المسكر ، هل يستفسر ؟ وفي كتاب الشّهادات ، عند الكلام على ما يجب فيه ذكر سبب الشّهادة ، وفي كتاب القضاء كذلك .

استفصالٌ *
التعريف :
1 - يستفاد من سياق عبارات الأصوليّين والفقهاء أنّ الاستفصال : طلب التّفصيل . ولم ترد هذه الكلمة في المعاجم اللّغويّة الّتي بين أيدينا ، وهي مع ذلك صحيحةٌ ، وقد وردت في كلام الشّافعيّ ، وكفى به حجّةً في لغة العرب .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستفسار :
2 - الاستفسار عند الأصوليّين : طلب ذكر معنى اللّفظ حين تكون فيه غرابةٌ أو خفاءٌ ، وهو عند الفقهاء : طلب التّفسير مطلقاً .
ب - السّؤال :
3 - السّؤال : الطّلب ، وهو أعمّ من أن يكون طلب تفصيلٍ أو غيره .
الحكم الإجماليّ :
حكمه عند الأصوليّين :
4 - ذهب الشّافعيّة إلى أنّ ترك الاستفصال في حكاية الحال ، مع قيام الاحتمال ، ينزل منزلة العموم في المقال . ومثاله « أنّ غيلان الثّقفيّ أسلم على عشر نسوةٍ ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أمسك منهنّ أربعاً ، وفارق سائرهنّ » ولم يسأل عن كيفيّة ورود عقده عليهنّ ، أكان مرتّباً أم في وقتٍ واحدٍ ؟ فكان إطلاق القول ، دالاًّ على أنّه لا فرق بين الحالين .
وفي دلالة ذلك على العموم وعدمه خلافٌ ينظر في الملحق الأصوليّ .
حكمه عند الفقهاء :
5 - يجب على القاضي أن يستفصل في الأمور الأساسيّة المجملة الّتي يتوقّف الحكم الصّحيح على معرفتها ، حتّى يكون مبنيّاً على أمورٍ واضحةٍ لا لبس فيها ولا غموض . كما ورد في حديث ماعزٍ إذ أقرّ بالزّنا ، فلم يرجمه النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلاّ بعد أن استفصل منه فقال : « لعلّك قبّلت أو غمزت أو نظرت ؟ قال : لا يا رسول اللّه . قال : أنكتها لا يكني قال فعند ذلك أمر برجمه » . فلم يترك النّبيّ صلى الله عليه وسلم مجالاً لاحتمال التّجوّز .
6 - وهناك أمورٌ ليست بهذه الأهمّيّة فيندب فيها للحاكم الاستفصال ولا يجب ، كما إذا لم يبيّن في الشّهادة على الشّهادة جهة تحمّلها ، ووثق القاضي بمعرفة الشّاهد على الشّاهد بشرائط التّحمّل ، وكان موافقاً للقاضي في تلك المسألة ، فيندب له أن يستفصله ، فيسأله : بأيّ سببٍ ثبت هذا المال ؟ وهل أخبرك به الأصل ( الشّاهد الأصليّ ) أوّلاً وكما إذا شهد المغفّل الّذي لا يضبط دائماً أو غالباً ، وبيّن سبب الشّهادة ، كأشهد أنّ لفلانٍ على فلانٍ ألفاً قرضاً ، فيندب للحاكم استفصاله فيه .
7 - على أنّه قد يمتنع الاستفصال لاعتباراتٍ خاصّةٍ ، كما إذا ادّعى السّارق أنّ المسروق ملكٌ له ، أو ادّعى أنّه أخذ من غير حرزٍ ، أو أنّه دون نصابٍ ، أو أنّ المالك أذن له في الأخذ ، لم يقطع ، ولا يستفصل في دعواه بشيءٍ من ذلك وإن علم كذبه ، نظراً إلى أنّ الحدود تدرأ بالشّبهات .
مواطن البحث :
8 - يذكر الأصوليّون الاستفصال في مباحث العامّ مع صيغ العموم . كما يذكره الفقهاء في أبواب : القذف واللّعان ، والسّرقة ، والشّهادات على النّحو الّذي تقدّم .

استقاءةٌ *
التعريف :
1 - الاستقاءة : طلب القيء ، وهو استخراج ما في الجوف عمداً .
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ . فإن ذرعه القيء أي : غلبه وسبقه فهو يختلف عن الاستقاءة الّتي بها طلبٌ واستدعاءٌ .
الحكم الإجماليّ :
2 - الاستقاءة الواردة عند الفقهاء أكثر ما يكون ورودها في الصّيام ، لتأثيرها فيه .
ويرى جمهور الفقهاء أنّ الصّائم إذا استقاء متعمّداً أفطر ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من ذرعه القيء وهو صائمٌ فليس عليه قضاءٌ ، ومن استقاء فليقض » .
وعند الحنفيّة : إن استقاء عامداً ملء الفم أفطر ، لأنّ ما دون ملء الفم تبعٌ للرّيق .
مواطن البحث :
3 - يأتي الكلام عن الاستقاءة في الغالب في باب الصّوم ، عند الكلام عمّا يفسد الصّيام . كما ترد في نواقض الوضوء .
استقبالٌ *
التعريف :
1 - الاستقبال في اللّغة : مصدر استقبل الشّيء إذا واجهه ، والسّين والتّاء فيه ليستا للطّلب ، فاستفعل هنا بمعنى فعل ، كاستمرّ واستقرّ ومثله المقابلة . ويقابله بهذا المعنى الاستدبار . ويرد الاستقبال في اللّغة أيضاً بمعنى : الاستئناف ، يقال اقتبل الأمر واستقبله : إذا استأنفه . وقد استعمله الفقهاء بهذين الإطلاقين فيقولون : استقبال القبلة أي مقابلتها ويقولون : استقبل حول الزّكاة أي : ابتدأه واستأنفه . وزاد الشّافعيّة إطلاقه على طلب القبول الّذي يقابل الإيجاب في العقود ، فقالوا : يصحّ البيع بالاستقبال ، ومثّلوا له بنحو : اشتر منّي ، فإنّه استقبالٌ قائمٌ مقام الإيجاب ، ومثل البيع الرّهن ، فيصحّ بنحو : ارتهن داري بكذا .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستئناف :
2 - الاستئناف : ابتداء الأمر ، وعليه فهو مرادفٌ للاستقبال في أحد إطلاقاته .
ب - المسامتة :
3 - المسامتة بمعنى : المقابلة والموازاة ، وهي مرادفةٌ للاستقبال عند الّذين فسّروا الاستقبال بمعنى التّوجّه إلى الشّيء بعينه بلا انحرافٍ يمنةً ولا يسرةً .
وأمّا الّذين لم يشترطوا في الاستقبال هذا الشّرط كالمالكيّة فإنّهم فرّقوا بينهما ، فخصّوا المسامتة باستقبال عين الشّيء تماماً بجميع البدن ، وجعلوا الاستقبال أعمّ من ذلك ، لصدقه بخروج شيءٍ من البدن عن محاذاة العين .
ج - المحاذاة :
4 - المحاذاة بمعنى : الموازاة . وما قيل في المسامتة يقال هنا أيضاً .
د - الالتفات :
5 - الالتفات صرف الوجه ذات اليمين أو الشّمال . وقد يراد به الانحراف بالوجه والصّدر أيضاً كما ورد في مسند الإمام أحمد : « فجعلت تلتفت خلفها » ومعلومٌ أنّ التّحوّل إلى خلفٍ لا يكون إلاّ بالوجه والصّدر .
6 - هذا والاستقبال عند الفقهاء قد يكون إلى القبلة ، وقد يكون إلى غير القبلة .
واستقبال القبلة قد يكون في الصّلاة ، وقد يكون في غيرها وسيأتي بيان هذه الأقسام واحداً بعد الآخر .
استقبال القبلة في الصّلاة :
7 - المراد بالقبلة موضع الكعبة ، لأنّه لو نقل بناؤها إلى موضعٍ آخر وصلّي إليه لم يجز . وسمّيت بذلك لأنّ النّاس يقابلونها في صلاتهم .
وما فوق الكعبة إلى السّماء يعدّ قبلةً ، وهكذا ما تحتها مهما نزل ، فلو صلّى في الجبال العالية والآبار العميقة جاز ما دام متوجّهاً إليها ، لأنّها لو زالت صحّت الصّلاة إلى موضعها ، ولأنّ المصلّي على الجبل يعدّ مصلّياً إليها .
استقبال الحجر :
8 - ذكر الحنفيّة والمالكيّة أنّه لو استقبل المصلّي الحجر دون الكعبة لم يجزه ، لأنّ كونه من البيت مظنونٌ لا مقطوعٌ به ، وهو لا يكتفى به في القبلة احتياطاً ، وهذا هو الصّحيح عند الشّافعيّة . وذهب الحنابلة واللّخميّ من المالكيّة إلى جواز الصّلاة إلى الحجر ، لأنّه من البيت ، للحديث الصّحيح أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « الحجر من البيت » .
وفي روايةٍ : « ستّ أذرعٍ من الحجر من البيت » ولأنّه لو طاف فيه لم يصحّ طوافه . وهو وجهٌ مشهورٌ عند الشّافعيّة ، وإن كان خلاف الأصحّ في مذهبهم ، وقدّره الحنابلة بستّ أذرعٍ وشيءٍ ، فمن استقبل عندهم ما زاد على ذلك لم تصحّ صلاته ألبتّة . على أنّ هذا التّقدير بالنّسبة لغير الطّواف ، أمّا بالنّسبة له فلا بدّ من خروجه عن جميعه احتياطاً .
حكم استقبال القبلة في الصّلاة :
9 - لا خلاف في أنّ من شروط صحّة الصّلاة استقبال القبلة ، لقوله تعالى : { فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره } أي جهته .
ويستثنى من ذلك أحوالٌ لا يشترط فيها الاستقبال ، كصلاة الخوف ، والمصلوب ، والغريق ، ونفل السّفر المباح وغيرها ، ونصّوا على أنّ نيّة الاستقبال ليست بشرطٍ على الرّاجح ، انظر الكلام على النّيّة في الصّلاة .
ترك الاستقبال :
10 - ذكر الحنفيّة أنّ من مفسدات الصّلاة تحويل المصلّى صدره عن القبلة بغير عذرٍ اتّفاقاً ، وإن تعمّد الصّلاة إلى غير القبلة على سبيل الاستهزاء يكفر ، وهذا متّفقٌ مع القواعد العامّة للشّريعة . وفصّل الحنفيّة فيما إذا صلّى بلا تحرٍّ فظهر أنّه أصاب القبلة أثناء الصّلاة بطلت صلاته ، لبناء القويّ على الضّعيف ، فإن ظهر ذلك بعد الصّلاة صحّت صلاته ، لأنّ ما فرض لغيره - كالاستقبال المشروط لصحّة الصّلاة - يشترط حصوله لا تحصيله ، وقد حصل وليس فيه بناء القويّ على الضّعيف .
وقال المالكيّة : إن أدّاه اجتهاده لجهةٍ فخالفها وصلّى متعمّداً بطلت صلاته وإن صادف القبلة ، ويعيد أبداً . وأمّا لو صلّى لغيرها ناسياً وصادف القبلة فهل يجري فيه من الخلاف ما يجري في النّاسي إذا أخطأ ، أو يجزم بالصّحّة لأنّه صادف وهو الظّاهر ؟ .
وذكر الشّافعيّة أنّه لا يسقط استقبالها بجهلٍ ولا غفلةٍ ولا إكراهٍ ولا نسيانٍ ، فلو استدبر ناسياً لم يضرّ لو عاد عن قربٍ . ويسنّ عند ذلك أن يسجد للسّهو لأنّ تعمّد الاستدبار مبطلٌ . وهذا بخلاف ما لو أميل عنها قهراً فإنّها تبطل ، وإن قلّ الزّمن لندرة ذلك . ولو دخل في الصّلاة باجتهادٍ ثمّ ظهر الخطأ بطلت صلاته .
وأطلق الحنابلة القول بأنّ من مبطلات الصّلاة استدبار القبلة حيث شرط استقبالها . كما نصّوا في باب شروط الصّلاة على أنّ هذه الشّروط لا تسقط عمداً أو سهواً أو جهلاً . هذا ، ولا بدّ من القول أنّ المالكيّة والحنابلة نصّوا على أنّ المصلّي إذا حوّل وجهه وصدره عن القبلة لم تفسد صلاته ، حيث بقيت رجلاه إلى القبلة . ونصّ المالكيّة على أنّه يكره له ذلك بلا ضرورةٍ ، وقالوا : إنّ هذه الكراهة في حقّ معاين الكعبة حيث لم يخرج شيءٌ من بدنه ، فإن خرج منه شيءٌ ولو أصبعاً من سمتها بطلت صلاته .
ما يتحقّق به استقبال القبلة في الصّلاة :
11 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه يشترط في استقبال القبلة في الصّلاة أن يكون بالصّدر لا بالوجه ، خلافاً لما قد يتوهّم من ظاهر قوله تعالى : { فولّ وجهك شطر المسجد الحرام } لأنّ المراد بالوجه هنا الذّات ، والمراد من الذّات بعضها وهو الصّدر فهو مجازٌ مبنيٌّ على مجازٍ . ونصّ الشّافعيّة على أنّه لا يشترط الاستقبال بالقدمين .
أمّا الاستقبال بالوجه فهو سنّةٌ ، وتركه مكروهٌ عند الأئمّة الأربعة . وهذا في حقّ القائم والقاعد . أمّا الّذي يصلّي مستلقياً أو مضطجعاً لعجزه فيجب عليهما الاستقبال بالوجه ، على تفصيلٍ يذكر في صلاة المريض . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه لا يشترط في الاستقبال التّوجّه بالصّدر أيضاً ، وإنّما الّذي لا بدّ منه فهو التّوجّه بالرّجلين . على أنّ الفقهاء تعرّضوا لأعضاءٍ أخرى يستقبل بها المصلّي القبلة في مناسباتٍ كثيرةٍ في كتاب الصّلاة ، نكتفي بالإشارة إلى بعضها دون تفصيلٍ لكونها بتلك المواطن ألصق ، ولسياق الفقهاء أنسب من جهةٍ ، وتفادياً للتّكرار من جهةٍ أخرى . ومن ذلك : استحباب الاستقبال ببطون أصابع اليدين في تكبيرة الإحرام وباليدين وبأصابع الرّجلين في السّجود ، وبأصابع يسراه في التّشهّد . وذلك حين الكلام على " صفة الصّلاة " . فمن أرادها بالتّفصيل فليرجع إلى مواطنها هناك .
استقبال المكّيّ للقبلة :
استقبال المكّيّ المعاين :
12 - لا خلاف بين المذاهب الأربعة في أنّ من كان يعاين الكعبة فعليه إصابة عينها في الصّلاة ، أي مقابلة ذات بناء الكعبة يقيناً ، ولا يكفي الاجتهاد ولا استقبال جهتها ، لأنّ القدرة على اليقين والعين تمنع من الاجتهاد والجهة المعرّضين للخطأ . وأيضاً فإنّ من انحرف عن مقابلة شيءٍ فهو ليس متوجّهاً نحوه . وذكر المالكيّة والشّافعيّة وابن عقيلٍ من الحنابلة - وأقرّوه - أنّ المصلّي في مكّة وما في حكمها ممّن تمكنه المسامتة لو استقبل طرفاً من الكعبة ببعض بدنه وخرج باقيه - لو عضواً واحداً - عن استقبالها لم تصحّ صلاته . وفي قولٍ عند الشّافعيّة والحنابلة يكفي التّوجّه ببعض بدنه .
صلاة الجماعة قرب الكعبة :
13 - ذكر الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - وهو ما يستفاد من كلام الحنابلة - أنّه إن امتدّ صفٌّ طويلٌ بقرب الكعبة وخرج بعضهم عن المحاذاة بطلت صلاته ، لعدم استقبالهم لها ، بخلاف البعد عنها ، فيصلّون في حالة القرب دائرةً أو قوساً إن قصروا عن الدّائرة ، لأنّ الصّلاة بمكّة تؤدّى هكذا من لدن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا .
استقبال المكّيّ غير المعاين :
14 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ من بينه وبين الكعبة حائلٌ فهو كالغائب على الأصحّ ، فيكفيه استقبال الجهة ، وسيأتي تفصيل مذهبهم في إصابة الجهة في " استقبال البعيد عن مكّة " . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أن من لم يصلّ بالمسجد من أهل مكّة ومن ألحق بهم عليه إصابة العين ، وهو قولٌ ضعيفٌ عند الحنفيّة . وتفصيل مذهب الحنابلة أنّهم أوجبوا إصابة العين يقيناً على من كان من أهل مكّة أو ناشئاً بها من وراء حائلٍ محدثٍ كالحيطان .
وأمّا من لم يكن من أهلها وهو غائبٌ عن الكعبة ففرضه الخبر ، كما إذا وجد مخبراً يخبره عن يقينٍ ، أو كان غريباً نزل بمكّة فأخبره أهل الدّار بها .
وعند الشّافعيّة يجب على من نشأ بمكّة وهو غائبٌ عن الكعبة إصابة العين إن تيقّن إصابتها ، وإلاّ جاز له الاجتهاد لما في تكليفه المعاينة من المشقّة إذا لم يجد ثقةً يخبره عن علمٍ .
الاستقبال عند صلاة الفريضة في الكعبة :
15 -ذهب جمهور العلماء إلى صحّة صلاة الفريضة داخل الكعبة . منهم الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والثّوريّ ، لحديث بلالٍ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى في الكعبة » . قال الحنفيّة : ولأنّ الواجب استقبال جزءٍ منها غير معيّنٍ ، وإنّما يتعيّن الجزء قبلةً بالشّروع في الصّلاة والتّوجّه إليه . ومتى صار قبلةً فاستدبار غيره لا يكون مفسداً . وعلى هذا ينبغي أنّه لو صلّى ركعةً إلى جهةٍ أخرى لم يصحّ ، لأنّه صار مستدبراً الجهة الّتي صارت قبلةً في حقّه بيقينٍ بلا ضرورةٍ . ومذهب المالكيّة والحنابلة لا تصلّى الفريضة والوتر في الكعبة ، لأنّها من المواطن السّبع الّتي نهى عنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي قريباً ، ولما في ذلك من الإخلال بالتّعظيم ، ولقوله تعالى : { وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره } قالوا : والشّطر : الجهة . ومن صلّى فيها أو على سطحها فهو غير مستقبلٍ لجهتها ، ولأنّه قد يكون مستدبراً من الكعبة ما لو استقبله منها وهو في خارجها صحّت صلاته ، ولأنّ النّهي عن الصّلاة على ظهرها قد ورد صريحاً في حديث عبد اللّه بن عمر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « سبع مواطن لا تجوز فيها الصّلاة : ظهر بيت اللّه والمقبرة » ... إلخ ، وفيه تنبيهٌ على النّهي عن الصّلاة فيها لأنّها سواءٌ في المعنى . وتوجّه المصلّي في داخلها إلى الجدار لا أثر له ، إذ المقصود البقعة ، بدليل أنّه يصلّي للبقعة حيث لا جدار .
وإنّما جاز على أبي قبيسٍ مع أنّه أعلى من بنائها لأنّ المصلّي عليه مصلٍّ لها ، وأمّا المصلّي على ظهرها فهو فيها . وهناك قولٌ للمالكيّة بجواز الصّلاة في الكعبة مع الكراهة .
الاستقبال عند صلاة الفريضة فوق الكعبة :
16 - وأمّا صلاة الفريضة على ظهر الكعبة فقد أجازها الحنفيّة والشّافعيّة ، لكن مع الكراهة عندهم . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى عدم جواز الفرض والوتر عليها لما تقدّم في المسألة السّابقة .
صلاة النّافلة في الكعبة وعليها :
17 - ذهب الأئمّة الأربعة إلى جواز صلاة النّفل المطلق داخل الكعبة ،« لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى فيها »، وللأدلّة السّابقة على صحّة صلاة الفريضة ، وأمّا السّنن الرّواتب فذهب جمهور الفقهاء إلى جوازها في الكعبة كذلك . وللمالكيّة ثلاثة أقوالٍ : الحرمة بأدلّتهم على منع الفريضة ، والجواز قياساً على النّفل المطلق ، والثّالث الكراهة وهو الرّاجح . وذهب أصبغ من المالكيّة ومحمّد بن جريرٍ وابن عبّاسٍ رضي الله عنهما فيما حكي عنه إلى أنّه لا تصحّ صلاة النّافلة فيها . أمّا صلاة النّافلة على ظهرها فتجوز عند الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وفي قولٍ للمالكيّة بناءً على أنّه يكفي استقبال الهواء أو استقبال قطعةٍ من البناء ولو من حائط السّطح .
هذا ، وقد نصّ الشّافعيّة على جوازها مع الكراهة لبعده عن الأدب كما تقدّم في الفريضة . هذا ، وما ورد في شأن الصّلاة في الكعبة يرد في الحجر ( الحطيم ) لأنّه جزءٌ من الكعبة .
18 - وذهب الحنفيّة والمالكيّة ، إلى أنّ الصّلاة الّتي تجوز في الكعبة ، تصحّ لأيّ جهةٍ ولو لجهة بابها مفتوحاً ، ولو لم يستقبل شيئاً في هذه الحال ، لأنّ القبلة هي العرصة والهواء إلى عنان السّماء ، وليست هي البناء ، بدليل أنّه لو نقل إلى عرصةٍ أخرى وصلّى إليه لم يجز ، ولأنّه لو صلّى على جبل أبي قبيسٍ جازت بالإجماع ، مع أنّه لم يصلّ إلى البناء . وشرط الشّافعيّة لجواز الصّلاة في الكعبة وعليها أن يستقبل جداراً منها أيّاً كان ، أو يستقبل الباب إن كان مفتوحاً وكان له عتبةٌ قدر ثلثي ذراعٍ بذراع الآدميّ تقريباً على الصّحيح المشهور ، لأنّ هذا المقدار هو سترة المصلّي فاعتبر فيه قدرها . واختار أكثر الحنابلة أن يشترط أن يكون بين يديه شيءٌ منها شاخصٌ يتّصل بها ، كالبناء والباب ولو مفتوحاً ، فلا اعتبار بالآجرّ غير المبنيّ ، ولا الخشب غير المسمور ، لأنّه غير متّصلٍ ، لكنّهم لم يقدّروا ارتفاع الشّاخص . وفي روايةٍ عن أحمد أنّه يكفي أن يكون بين يديه شيءٌ من الكعبة إذا سجد ، وإن لم يكن شاخصٌ ، اختارها الموفّق في المغني وغيره وهي المذهب .
استقبال البعيد عن مكّة :
19 - مذهب الحنفيّة ، وهو الأظهر عند المالكيّة ، والحنابلة ، وهو قولٌ للشّافعيّ : أنّه يكفي المصلّي البعيد عن مكّة استقبال جهة الكعبة باجتهادٍ ، وليس عليه إصابة العين ، فيكفي غلبة ظنّه أنّ القبلة في الجهة الّتي أمامه ، ولو لم يقدّر أنّه مسامتٌ ومقابلٌ لها . وفسّر الحنفيّة جهة الكعبة بأنّها الجانب الّذي إذا توجّه إليه الإنسان يكون مسامتاً للكعبة ، أو هوائها تحقيقاً أو تقريباً . واستدلّوا بالآية الكريمة : { وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره } وقالوا : شطر البيت نحوه وقبله ، كما استدلّوا بحديث : « ما بين المشرق والمغرب قبلةٌ » وهذا كلّه في غير المدينة المنوّرة ، وما في حكمها من الأماكن المقطوع بقبلتها ، على ما سيأتي في استقبال المحاريب إن شاء اللّه . والأظهر عند الشّافعيّة ، وهو قولٌ لابن القصّار عند المالكيّة ، وروايةٌ عن أحمد اختارها أبو الخطّاب من الحنابلة : أنّه تلزم إصابة العين . واستدلّوا بقوله تعالى : { وحيثما كنتم فولّوا وجوهكم شطره } أي جهته ، والمراد بالجهة هنا العين ؛ وكذا المراد بالقبلة هنا العين أيضاً ، لحديث الصّحيحين : « أنّه صلى الله عليه وسلم ركع ركعتين قبل الكعبة ، وقال : هذه القبلة » فالحصر هنا يدفع حمل الآية على الجهة . وإطلاق الجهة على العين حقيقةٌ لغويّةٌ وهو المراد هنا .
استقبال أهل المدينة وما في حكمها :
20 - ذهب الحنفيّة في الأصحّ ، وهو قولٌ للحنابلة إلى أنّ الواجب على أهل المدينة - كغيرها - الاجتهاد لإصابة جهة الكعبة ، وهو جارٍ مع الأصل في أمر القبلة .
وقال الحنفيّة في الرّاجح ، والمالكيّة ، والشّافعيّة ، وهو قولٌ للحنابلة ( وأرادوا بالمدنيّ من في مسجده صلى الله عليه وسلم أو قريباً منه ) : يجب على المصلّي في المدينة إصابة عين القبلة« لثبوت محراب مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالوحي »، فهو كما لو كان مشاهداً للبيت ، بل أورد القاضي عياضٌ في الشّفاء أنّه رفعت له الكعبة حين بنى مسجده صلى الله عليه وسلم .
استقبال محاريب الصّحابة والتّابعين :
21 - ذهب الجمهور إلى أنّ محاريب الصّحابة ، كجامع دمشق ، وجامع عمرٍو بالفسطاط ، ومسجد الكوفة والقيروان والبصرة ، لا يجوز الاجتهاد معها في إثبات الجهة ، لكن لا يمنع ذلك من الانحراف اليسير يمنةً أو يسرةً ، ولا تلحق بمحاريب النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ لا يجوز فيها أدنى انحرافٍ . وكذلك محاريب المسلمين ، ومحاريب جادّتهم أي معظم طريقهم وقراهم القديمة الّتي أنشأتها قرونٌ من المسلمين ، أي جماعاتٌ منهم صلّوا إلى هذا المحراب ولم ينقل عن أحدٍ منهم أنّه طعن فيها ، لأنّها لم تنصب إلاّ بحضرة جمعٍ من أهل المعرفة بالأدلّة ، فجرى ذلك مجرى الخبر . لكن قال الحنابلة : إن فرض من كان فيها إصابة العين ببدنه بالتّوجّه إلى قبلته ، معلّلين ذلك باتّفاق الصّحابة عليه .
الإخبار عن القبلة :
22 - ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا لم يكن ثمّة محاريب منصوبةً في الحضر ، فيسأل من يعلم بالقبلة ممّن تقبل شهادته من أهل ذلك المكان ممّن يكون بحضرته .
أمّا غير مقبول الشّهادة ، كالكافر والفاسق والصّبيّ فلا يعتدّ بإخباره فيما هو من أمور الدّيانات ما لم يغلب على الظّنّ صدقه . وأمّا إذا لم يكن من أهل ذلك المكان فلأنّه يخبر عن اجتهادٍ ، فلا يترك اجتهاده باجتهاد غيره .
وأمّا إذا لم يكن بحضرته من أهل المسجد أحدٌ فإنّه يتحرّى ولا يجب عليه قرع الأبواب .
وأمّا في المفازة فالدّليل عليها النّجوم كالقطب ، وإلاّ فمن أهلها العالم بها ممّن لو صاح به سمعه ، والاستدلال بالنّجوم في المفازة مقدّمٌ على السّؤال ، والسّؤال مقدّمٌ على التّحرّي .
اختلاف المخبرين :
23 - صرّح الشّافعيّة عند اختلاف اثنين في الإخبار عن القبلة : أنّه يتخيّر فيأخذ بقول أحدهما ، وقيل : يتساقطان ويجتهد لنفسه ، ولا يأخذ بقول أحدهما إلاّ عند العجز عن الاجتهاد ، وفي هذه الحالة اضطرّ للأخذ بقول أحدهما ، أمّا في غير هذه الحالة فالمخبران اختلفا في علامةٍ واحدةٍ لعارضٍ فيها وهو موجبٌ للتّساقط .
وما صرّحوا به لا تأباه قواعد المذاهب الأخرى .
أدلّة القبلة :
24 - سبق ما يتّصل بالاستدلال على القبلة بالمحاريب ، فإن لم توجد فهناك علاماتٌ يمكن الاعتماد عليها عند أهل الخبرة بها ، منها :
أ - النّجوم :
وأهمّها القطب ، لأنّه نجمٌ ثابتٌ ويمكن به معرفة الجهات الأربع ، وبذلك يمكن معرفة القبلة ولو على سبيل التّقريب . وتختلف قبلة البلاد بالنّسبة إليه اختلافاً كبيراً .
ب - الشّمس والقمر :
يمكن التّعرّف بمنازل الشّمس والقمر على الجهات الأربع ، وذلك في أيّام الاعتدالين ( الرّبيعيّ والخريفيّ ) بالنّسبة للشّمس ، واستكمال البدر فيه بالنّسبة للقمر . وفي غير الاعتدالين ينظر إلى اتّجاه تلك المنازل ، وهو معروفٌ لأهل الخبرة فيرجع إليهم فيه ، وفي كتب الفقه تفاصيل عن ذلك . ويتّبع ذلك الاستدلال بمطالع الشّمس والقمر ومغاربهما .
ج - الإبرة المغناطيسيّة :
من الاستقراء المفيد لليقين تبيّن أنّها تحدّد جهة الشّمال تقريباً ، وبذلك تعرف الجهات الأربع وتحدّد القبلة .
ترتيب أدلّة القبلة :
25 - ذكر الحنفيّة أنّ الدّليل على القبلة في المفاوز والبحار النّجوم كالقطب ، فإن لم يمكن لوجود غيمٍ أو لعدم معرفته بها فعليه أن يسأل عالماً بها ، فإن لم يكن من يسأله أو لم يخبره المسئول عنها فيتحرّى . وذكر الشّافعيّة أنّه لو تعارضت الأدلّة على القبلة فينبغي تقديم خبر جمعٍ بلغ عددهم حدّ التّواتر ، لإفادته اليقين ، ثمّ الإخبار عن علمٍ برؤية الكعبة ، ثمّ رؤية المحاريب المعتمدة ، ثمّ رؤية القطب .
وأمّا بيت الإبرة فقد صرّح الشّافعيّة بأنّ المجتهد مخيّرٌ بينها وبين الاجتهاد . وأمّا الحنابلة فإنّهم قالوا : إنّ خبر المخبر عن يقينٍ مقدّمٌ على الاجتهاد .
تعلّم أدلّة القبلة :
26 - تعلّم العلامات الّتي تعرف بها القبلة مطلوبٌ شرعاً ، وقد صرّح الشّافعيّة في الأصحّ عندهم بأنّ هذا واجبٌ على سبيل الكفاية . وقد يصبح تعلّم هذه العلامات واجباً عينيّاً ، كمن سافر سفراً يجهل معه اتّجاه القبلة ، ويقلّ فيها العارفون بها ، وكانت عنده قدرةٌ على تعلّم هذه العلامات ، وكلّ ذلك تحقيقاً لإصابة القبلة . وهل يجوز تعلّمها من كافرٍ ؟ قواعد الشّريعة لا تمنع ذلك . لأنّه لا يعتمد عليه في اتّجاه القبلة ، وإنّما في معرفة العلامات الّتي لا يختلف فيها الكافر عن المسلم ، وذلك كتعلّم سائر العلوم .
الاجتهاد في القبلة :
27 - اتّفقت المذاهب الأربعة على وجوب الاجتهاد في القبلة في الجملة .
قال الشّافعيّة والحنابلة : إن فقد المصلّي ما ذكر من الرّؤية والمحاريب والمخبر وأمكنه الاجتهاد ، بأن كان بصيراً يعرف أدلّة القبلة وجب عليه الاجتهاد وإن كان جاهلاً بأحكام الشّرع ، إذ كلّ من علم أدلّة شيءٍ كان مجتهداً فيه ، ولأنّ ما وجب عليه اتّباعه عند وجوده وجب الاستدلال عليه عند خفائه ، وذكروا أيضاً أنّ من وجب عليه الاجتهاد حرم عليه التّقليد ، لأنّه يتمكّن من استقبالها بدليله . وقالوا : أنّه إذا ضاق عليه الوقت عن الاجتهاد صلّى حسب حاله ولا يقلّد ، كالحاكم لا يسعه تقليد غيره ، ولكنّه يعيد الصّلاة .
وصرّح ابن قدامة بأنّ شرط الاجتهاد لا يسقط بضيق الوقت مع إمكانه .
الشّكّ في الاجتهاد وتغيّره :
28 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا تغيّر اجتهاد المجتهد عمل بالاجتهاد الثّاني حتماً ، إن ترجّح على الأوّل ، وعمل بالأوّل إن ترجّح على الثّاني . وقال الحنابلة : وإن شكّ في اجتهاده لم يزل عن جهته ، لأنّ الاجتهاد ظاهرٌ فلا يزول عنه بالشّكّ . ولا يعيد ما صلّى بالاجتهاد الأوّل ، كالحاكم لو تغيّر اجتهاده في الحادثة الثّانية عمل فيها بالاجتهاد الثّاني ، ولم ينقض حكمه الأوّل بغير خلافٍ ، لأنّ الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد .
وذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ المصلّي بالاجتهاد في القبلة إذا تحوّل رأيه استدار وبنى على ما مضى من صلاته . ولا فرق بين تغيّر اجتهاده في أثناء الصّلاة وبعدها ، فإن كان فيها استدار وبنى على ما مضى من صلاته ، حتّى إنّه لو صلّى أربع ركعاتٍ لأربع جهاتٍ بالاجتهاد جاز ، لأنّه مجتهدٌ أدّاه اجتهاده إلى جهةٍ ، فلم تجز له الصّلاة إلى غيرها ، كما لو أراد صلاةً أخرى ، وليس فيه نقضٌ لاجتهاده ، لأنّا لم نلزمه إعادة ما مضى ، وإنّما نلزمه العمل به في المستقبل .
أمّا عند المالكيّة فإن تبيّن لمن صلّى بالاجتهاد خطأ اجتهاده في الصّلاة يقيناً أو ظنّاً وهو في الصّلاة قطعها وجوباً . أمّا بعد إتمام الصّلاة فإنّه يعيدها ندباً لا وجوباً . قياساً على القاضي إذا تبيّن له خطأ الدّليل قبل بتّ الحكم ، فإنّه لا يجوز له الحكم باجتهاده الأوّل ، وإن حكم به نقض . أمّا إن شكّ وهو في الصّلاة فإنّه يتمّ صلاته على اجتهاده الأوّل .
الاختلاف في الاجتهاد في القبلة :
29 - ذهب الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة إلى أنّه إذا اختلف اجتهاد مجتهدين لم يتّبع أحدهما صاحبه ولا يؤمّه ، لأنّ كلّ واحدٍ منهما يعتقد خطأ الآخر فلم يجز الائتمام . وعند ابن قدامة أنّ قياس المذهب جواز ذلك . وهو مذهب أبي ثورٍ ، ذلك أنّ كلّ واحدٍ منهما يعتقد صحّة صلاة الآخر ، وأنّ فرضه التّوجّه إلى ما توجّه إليه ، فلم يمنع اختلاف الجهة الاقتداء به ، كالمصلّين حول الكعبة . ولو اتّفقا في الجهة واختلفا في الانحراف يميناً أو شمالاً فالمذهب صحّة الائتمام بلا خلافٍ لاتّفاقهما في الجهة ، وهي كافيةٌ في الاستقبال . وقال الشّافعيّة : لو اجتهد اثنان في القبلة ، واتّفق اجتهادهما ، فاقتدى أحدهما بالآخر ، ثمّ تغيّر اجتهاد واحدٍ منهما لزمه الانحراف إلى الجهة الثّانية ، وينوي المأموم المفارقة وإن اختلفا تيامناً وتياسراً ، وذلك عذرٌ في المفارقة فلا تفوته فضيلة الجماعة ، ومحلّ ذلك حيث علم المأموم بانحراف إمامه ، فإن لم يعلم به إلاّ بعد السّلام فالأقرب وجوب الإعادة .
وقال الحنفيّة : لو سلّم الإمام فتحوّل رأي مسبوقٍ ولاحقٍ استدار المسبوق ، لأنّه منفردٌ فيما يقضيه ، واستأنف اللاّحق ، لأنّه مقتدٍ فيما يقضيه .
والمقتدي إذا ظهر له وراء الإمام أنّ القبلة غير الجهة الّتي يصلّي إليها الإمام لا يمكنه إصلاح صلاته ، لأنّه إن استدار خالف إمامه في الجهة قصداً وهو مفسدٌ ، وإلاّ كان متمّاً صلاته إلى ما هو غير القبلة عنده وهو مفسدٌ أيضاً .
خفاء القبلة على المجتهد :
30 - خفاء القبلة على المجتهد إمّا أن يكون قبل الصّلاة أو في أثنائها ، وإمّا أن يكون قبل التّحرّي أو بعده ، وسنتناول بالبحث كلاًّ على حدةٍ .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
خفاء القبلة قبل الصّلاة والتّحرّي :
31 - ذكر الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة أنّ من عجز عن معرفة القبلة بالاستدلال ، وخفيت عليه الأدلّة لفقدها أو لغيمٍ أو حبسٍ أو التباسٍ مع ظهورها ، حيث تعارضت عنده الأمارات ، فإنّه يتحرّى ويصلّي ، وتصحّ صلاته عندئذٍ ، لأنّه بذل وسعه في معرفة الحقّ مع علمه بأدلّته ، أشبه الحاكم إذا خفيت عليه النّصوص ، وقد روى عبد اللّه بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال : « كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ في ليلةٍ مظلمةٍ ، فلم ندر أين القبلة ، فصلّى كلّ رجلٍ منّا حياله ، فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فنزل : { فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه } » وعرّف الحنفيّة التّحرّي بأنّه بذل الجهود لنيل المقصود . وأفاد ابن عابدين بأنّ قبلة التّحرّي مبنيّةٌ على مجرّد شهادة القلب من غير أمارةٍ ، وعبّر المالكيّة بأنّه يتخيّر جهةً من الجهات الأربع يصلّي إليها صلاةً واحدةً ، ولا إعادة لسقوط الطّلب عنه ، وهذا ما رجّحه ابن عابدين من الحنفيّة على قول بعضهم بتكرار الصّلاة إلى الجهات الأربع في حالة التّحرّي وعدم الرّكون إلى جهةٍ .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يصلّي كيف كان لحرمة الوقت ، ويقضي لندرته .
ترك التّحرّي :
32 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ العاجز عن معرفة القبلة بالأدلّة لا يجوز أن يشرع في الصّلاة دون أن يتحرّى وإن أصاب ، لتركه فرض التّحرّي ، إلاّ أنّه لا يعيد إن علم إصابته بعد فراغه اتّفاقاً عند الحنفيّة ، بخلافٍ إذا علم الإصابة قبل التّمام ، فإنّ صلاته تبطل لأنّه بني قويّاً على ضعيفٍ خلافاً لأبي يوسف . وعند المالكيّة أنّ المجتهد الّذي تخفى عليه أدلّة القبلة يتخيّر جهةً من الجهات الأربع ، ويصلّي إليها ويسقط عنه الطّلب لعجزه ،
وقال الشّافعيّة والحنابلة : يعيد من صلّى بلا تحرٍّ أو تعذّر عليه التّحرّي ، سواءٌ ظهر له الصّواب أثناء الصّلاة أو بعدها .
ظهور الصّواب للمتحرّي :
33 - ذكر الحنفيّة أنّ المتحرّي إن ظهر صوابه في أثناء الصّلاة فالصّحيح أنّها لا تفسد ، وعند بقيّة المذاهب لا خلاف في صحّتها . وعبارة البحر الرّائق : والصّحيح كما في المبسوط والخانيّة أنّه لا يلزمه استئناف الصّلاة ، لأنّ صلاته كانت جائزةً ما لم يظهر الخطأ ،
فإذا تبيّن أنّه أصاب لا يتغيّر حاله . وقيل : تفسد ، لأنّ افتتاح الصّلاة كان ضعيفاً ، وقد قوي حاله بظهور الصّواب ، ولا يبنى القويّ على الضّعيف .
التّقليد في القبلة :
34 - ذكر الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة أنّه لا يقلّد المجتهد مجتهداً غيره ، لأنّ القدرة على الاجتهاد تمنع من التّقليد .
ومن علم أدلّة القبلة لا يجوز له أن يقلّد غيره مطلقاً ، وأمّا غير المجتهد فعليه أن يقلّد المجتهد ، لقوله تعالى : { فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون } . وإذا كان هناك أكثر من مجتهدٍ فالمقلّد له أن يختار أحدهم ، والأولى أن يختار من يثق به أكثر من غيره .
ترك التّقليد :
35 - ليس لمن فرضه التّقليد ووجد من يقلّده أن يستقبل بمجرّد ميل نفسه إلى جهة ، فقد ذكر الحنفيّة ، والمالكيّة : أنّه إن ترك التّقليد واختار له جهةً تركن لها نفسه وصلّى لها كانت صلاته صحيحةً إن لم يتبيّن خطؤه ، وزاد المالكيّة : فإن تبيّن الخطأ في الصّلاة قطعها حيث كان كثيراً ، وإن تبيّن بعدها فقولان بالإعادة أبداً أو في الوقت ، كما سيأتي في " تبيّن الخطأ في الصّلاة " . وذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّه تلزمه الإعادة مطلقاً وإن صادف القبلة .
استقبال الأعمى ومن في ظلمةٍ للقبلة :
36 - ذهب الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة إلى أنّ الأعمى عليه أن يسأل عن القبلة ، لأنّ معظم الأدلّة تتعلّق بالمشاهدة . قال الحنفيّة : فإن لم يجد من يسأله عنها تحرّى ، وكذا لو سأله عنها فلم يخبره ، حتّى إنّه لو أخبره بعدما صلّى لا يعيد . ولو لم يسأله وتحرّى : إن أصاب جاز وإلاّ لا . ولو شرع في الصّلاة إلى غير القبلة فسوّاه رجلٌ إليها ، فإن كان وجد الأعمى وقت الشّروع من يسأله عنها فلم يسأله لم تجز صلاته ، وإلاّ بنى على ما مضى منها ، ولا يجوز لهذا الرّجل الاقتداء به . وذكر المالكيّة أنّه لا يجوز له تقليد المجتهد بل عليه أن يسأل عن الأدلّة عدلاً في الرّواية ليهتدي بها إلى القبلة .
تبيّن الخطأ في القبلة :
37 - أطلق الحنفيّة القول بأنّ المصلّي الّذي لم يشكّ في القبلة ولم يتحرّ إذا ظهر له خطؤه في القبلة وهو في الصّلاة فسدت صلاته ، بخلاف من خفيت عليه القبلة فشكّ فيها وتحرّى ، ثمّ ظهر له خطؤه وهو في الصّلاة استدار إلى الجهة الّتي انتهى إليها تحرّيه ، أمّا إذا ظهر له خطؤه بعد انتهاء الصّلاة فإنّ صلاته صحيحةٌ .
وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى وجوب الإعادة على المجتهد والمقلّد إذا كانت علامات القبلة ظاهرةً ثمّ تبيّن الخطأ فيها ، لأنّه لا عذر لأحدٍ في الجهل بالأدلّة الظّاهرة . أمّا دقائق علم الهيئة وصور النّجوم الثّوابت فهو معذورٌ في الجهل بها فلا إعادة عليه . ولم يفرّق الحنابلة والشّافعيّة في مقابل الأظهر عندهم بين ما إذا كانت الأدلّة ظاهرةً فاشتبهت عليه أو خفيت ، وبين ما إذا كانت أدلّةٌ خفيّةٌ ، لأنّه أتى بما أمر في الحالين وعجز عن استقبال القبلة في الموضعين فاستويا في عدم الإعادة .
أمّا في القول الأظهر للشّافعيّة فتلزمه الإعادة لأنّه أخطأ في شرطٍ من شروط الصّلاة .
العجز عن استقبال القبلة في الصّلاة :
38 - ذهب الأئمّة الأربعة إلى أنّ من به عذرٌ حسّيٌّ يمنعه من الاستقبال كالمريض ، والمربوط يصلّي على حسب حاله ، ولو إلى غير القبلة ، لأنّ الاستقبال شرطٌ لصحّة الصّلاة وقد عجز عنه فأشبه القيام . واشترط الشّافعيّة ، والصّاحبان من الحنفيّة لسقوط القبلة عنه أن يعجز أيضاً عمّن يوجّهه ولو بأجر المثل ، كما استظهره . الشّيخ إسماعيل النّابلسيّ وابن عابدين . وبالنّسبة لإعادة الصّلاة فإنّ في ذلك خلافاً تفصيله في مباحث الصّلاة . وأمّا أبو حنيفة فذهب إلى أنّه لا يشترط ذلك ، لأنّ القادر بقدرة غيره عاجزٌ .
وبقولهما جزم في المنية والمنح والدّرّ والفتح بلا حكاية خلافٍ . ولو وجد أجيراً بأجرة مثله فينبغي أن يلزمه استئجاره إذا كانت الأجرة دون نصف درهمٍ ، والظّاهر أنّ المراد به أجرة المثل كما فسّروه في التّيمّم .
أمّا من به عذرٌ شرعيٌّ يمنعه من الاستقبال فقد تعرّض الفقهاء للصّور الآتية منه وهي : الخوف على النّفس ، وذكره الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وذلك كالخوف من سبعٍ وعدوٍّ ، فله حينئذٍ أن يتوجّه إلى جهةٍ قدر عليها ، ومثله الهارب من العدوّ راكباً يصلّي على دابّته . وذكر الحنفيّة من صور العذر : الخوف من الانقطاع عن رفقته ، لما في ذلك من الضّرر . وذكر الشّافعيّة من ذلك : الاستيحاش وإن لم يتضرّر بانقطاعه عن رفقته . وذكر الحنفيّة والمالكيّة من الأعذار : الخوف من أن تتلوّث ثيابه بالطّين ونحوه لو نزل عن دابّته . واشترط الحنفيّة عجزه عن النّزول ، فإن قدر عليه نزل وصلّى واقفاً بالإيماء ، وإن قدر على القعود دون السّجود أومأ قاعداً . وعدّ الحنفيّة والشّافعيّة من الأعذار : ما لو خاف على ماله - ملكاً أو أمانةً - لو نزل عن دابّته . وذكر الحنفيّة والشّافعيّة من الأعذار : العجز عن الرّكوب فيمن احتاج في ركوبه بعد نزوله للصّلاة إلى معينٍ ولا يجده ، كأن كانت الدّابّة جموحاً ، أو كان هو ضعيفاً فله ألاّ ينزل . ومن الأعذار : الخوف وقت التحام القتال ، فقد اتّفقت المذاهب الأربعة على أن يسقط شرط الاستقبال في حال المسايفة وقت التحام الصّفوف في شدّة الخوف إذا عجز المصلّي عنه . ولمعرفة ماهيّة هذا القتال ، وما يلحق به ، ووقت صلاته ، وإعادتها حين الأمن ، وبقيّة أحكامها ( ر : صلاة الخوف ) .
استقبال المتنفّل على الرّاحلة في السّفر :
39 - اتّفق الفقهاء على جواز التّنفّل على الرّاحلة في السّفر لجهة سفره ولو لغير القبلة ولو بلا عذرٍ ، لأنّه صلى الله عليه وسلم : « كان يصلّي على راحلته في السّفر حيثما توجّهت به » وفسّر قوله تعالى : { فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه } بالتّوجّه في نفل السّفر . وفي الشّروط المجوّزة لذلك خلافٌ فصّله الفقهاء في مبحث صلاة المسافر ، والصّلاة على الرّاحلة .
استقبال المتنفّل ماشياً في السّفر :
40 - مذهب أبي حنيفة ، ومالكٍ ، وإحدى الرّوايتين عن أحمد ، وهو كلام الخرقيّ من الحنابلة : أنّه لا يباح للمسافر الماشي الصّلاة في حال مشيه ، لأنّ النّصّ إنّما ورد في الرّاكب ، فلا يصحّ قياس الماشي عليه ، لأنّه يحتاج إلى عملٍ كثيرٍ ، ومشيٌ متتابعٌ ينافي الصّلاة فلم يصحّ الإلحاق . ومذهب عطاءٍ ، والشّافعيّ ، وهو ثانية الرّوايتين عن أحمد اختارها القاضي من الحنابلة : أنّ له أن يصلّي ماشياً قياساً على الرّاكب ، لأنّ المشي إحدى حالتي سير المسافر ، ولأنّهما استويا في صلاة الخوف فكذا في النّافلة .
والمعنى فيه أنّ النّاس محتاجون إلى الأسفار ، فلو شرطا فيها الاستقبال للتّنفّل لأدّى إلى ترك أورادهم أو مصالح معايشهم . ومذهب الحنابلة ، والأصحّ عند الشّافعيّة : أنّ عليه أن يستقبل القبلة لافتتاح الصّلاة ، ثمّ ينحرف إلى جهة سيره ، قال الشّافعيّة : ولا يلزمه الاستقبال في السّلام على القولين .
استقبال المفترض على السّفينة ونحوها :
41 - اتّفقت المذاهب الأربعة على وجوب استقبال المفترض على السّفينة في جميع أجزاء صلاته ، وذلك لتيسّر الاستقبال عليه . ونصّ الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة على أنّه يدور معها إذا دارت . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( الصّلاة في السّفينة ) .
استقبال القبلة في غير الصّلاة :
42 - قرّر الفقهاء أنّ جهة القبلة هي أشرف الجهات ، ولذا يستحبّ المحافظة عليها حين الجلوس ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ سيّد المجالس ما استقبل القبلة » . قال صاحب الفروع : ويتّجه في كلّ طاعةٍ إلاّ لدليلٍ . وقد يكون المراد من التّوجّه إليها تغليط الأمر وإلقاء الرّهبة في قلب من طلب منه التّوجّه إليها ، كما في تغليظ القاضي اليمين على حالفها بذلك ( ر : إثباتٌ ف 26 ) . على أنّه قد يعرض للإنسان أحوالٌ ترفع هذا الاستحباب ، بل قد يكون استقبالها حراماً أو مكروهاً ( ر : قضاء الحاجة . استنجاءٌ ) .
والجمهور على أنّ زائر قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستدبر القبلة ويستقبل القبر الشّريف .
استقبال غير القبلة في الصّلاة :
43 - الأصل في استقبال المصلّي للأشياء الإباحة ، ما دام متوجّهاً إلى جهة القبلة ، لكن هناك أشياء معيّنةٌ نهي المصلّي عن أن يجعلها أمامه لاعتباراتٍ خاصّةٍ فيها ، كأن يكون في وجودها أمامه تشبّهٌ بالمشركين ، كما في الصّنم والنّار والقبر ، أو لكونها قذرةً أو نجسةً يصان وجه المصلّي ونظره عنها ، كما في الصّلاة إلى الحشّ والمجزرة ، أو قد يكون أمامه ما يشوّش عليه فكره كما في الصّلاة إلى الطّريق . وقد تناولها الفقهاء بالبحث في الكلام على مكروهات الصّلاة . وقد يكون ذلك الشّيء الّذي أمام المصلّي أمراً مرغوباً فيه ، لكونه علامةً على موضع سجوده لمنع المارّين من المرور فيما بينه وبينه ، كما في الصّلاة إلى السّترة . وقد بحثها الفقهاء ضمن سنن الصّلاة .
استقبال غير القبلة في غير الصّلاة :
44 - الأصل في توجّه الإنسان إلى الأشياء في غير الصّلاة الإباحة أيضاً ، ولكن قد يطلب التّوجّه إلى المواطن الشّريفة في الأحوال الشّريفة طلباً لخيرها وفضلها ، كاستقبال السّماء بالبصر وببطون الكفّين في الدّعاء .
كما يطلب عدم التّوجّه إليها في الأحوال الخسيسة ، كاستقبال قاضي الحاجة بيت المقدس أو المصحف الشّريف ( ر : قضاء الحاجة ) . وقد يطلب تجنّب استقبالها صيانةً له عنها لنجاستها أو حفظاً لبصره عن النّظر إليها ، كاستقبال قاضي الحاجة مهبّ الرّيح ، واستقبال المستأذن للدّخول باب المكان الّذي يريد الدّخول إليه .
وقد يطلب الاستقبال حفاظاً على الآداب ومكارم الأخلاق وتوفيراً لحسن الإصغاء ، كما في استقبال الخطيب للقوم واستقبالهم له ، واستقبال الإمام النّاس بعد الصّلاة المكتوبة . وكما في استقبال الضّيوف والمسافرين إبقاءً على الرّوابط الاجتماعيّة متينةً . ومن هذه الطّاعات : الوضوء ، والتّيمّم ، والأذان والإقامة ، ومنه الدّعاء بعد الوضوء ، والدّعاء في الاستسقاء ، والذّكر ، وقراءة القرآن ، وانتظار الصّلاة في المسجد ، والحجّ في مواطن كثيرةٍ ، تعلم بتتبّع كتاب الحجّ كالإهلال ، وشرب ماء زمزم ، وتوجيه الهدي حين الذّبح للقبلة ، وقضاء القاضي بين الخصوم ، كما هو مبيّنٌ في مواضعها . كما يستحبّ استقبال القبلة في مواطن خاصّةٍ طلباً لبركتها وكمال العمل باستقبالها ، كما في توجيهٍ المحتضر إليها ، وكذا الميّت في قبره عند الدّفن ( ر : كتاب الجنائز ) ، ومثله من أراد أن ينام ، أو أراد أن يذبح ذبيحةً فيسنّ له أن يستقبل بها القبلة ( ر : كتاب الذّبائح ) .

استقراءٌ *
التعريف :
1 - الاستقراء لغةً : التّتبّع ، يقال : قرأ الأمر ، وأقرأه أي : تتبّعه ، واستقرأت الأشياء : تتبّعت أفرادها لمعرفة أحوالها وخواصّها .
وعرّفه الأصوليّون والفقهاء بقولهم : تصفّح جزئيّات كلّيٍّ ليحكم بحكمها على ذلك الكلّيّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
القياس :
2 - القياس : هو إلحاق فرعٍ بأصلٍ في حكمٍ لاشتراكهما في العلّة .
الحكم الإجماليّ :
3 - الاستقراء إن كان تامّاً بمعنى تتبّع جميع الجزئيّات ما عدا صورة النّزاع - أي الصّورة المراد معرفة حكمها - يعتبر دليلاً قطعيّاً حتّى في صورة النّزاع عند الأكثر من العلماء ، وقال بعض العلماء : ليس بقطعيٍّ ، بل هو ظنّيٌّ ، لاحتمال مخالفة تلك الصّورة لغيرها على بعدٍ . وقد أجاز العلماء الأخذ بالاستقراء في : الحيض ، والاستحاضة ، والعدّة على خلافٍ وتفصيلٍ موطنه هذه المصطلحات .
4 - وإن كان الاستقراء ناقصاً أي بأكثر الجزئيّات الخالي عن صورة النّزاع فهو ظنّيٌّ في تلك الصّورة لا قطعيٌّ ، لاحتمال مخالفة صورة النّزاع لذلك المستقرأ ، ويسمّى هذا النّوع : إلحاق الفرد بالأغلب . ومن أمثلة ما احتجّوا فيه بالاستقراء : المعتدّة عند اليأس تعتدّ بالأشهر ، فقال الشّافعيّة في الرّاجح عندهم : يعتبر في عدّة اليائسة استقراء نساء أقاربها من الأبوين الأقرب فالأقرب ، لتقاربهنّ طبعاً وخلقاً . وقال الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة - وهو رأيٌ للشّافعيّة - باستقراء حالات النّساء واعتبار حالها بحال مثيلاتها في السّنّ عند ذلك ، على اختلافٍ بينهم في ذلك يرجع إليه في مصطلح ( عدّةٌ ) ( وإياسٌ ) .

استقراضٌ *
التعريف :
1 - الاستقراض لغةً : طلب القرض . ويستعمله الفقهاء بمعنى طلب القرض ، أو الحصول عليه ، ولو بدون طلبٍ . والقرض ما تعطيه من مثليٍّ ليتقاضى مثله .
الألفاظ ذات الصّلة :
الاستدانة :
2 - الاستقراض أخصّ من الاستدانة ، فإنّ الدّين عامٌّ شاملٌ للقرض وغيره ممّا يثبت في الذّمّة كالسّلم . والدّين قد يكون له أجلٌ ، والأجل فيه ملزمٌ ، أمّا القرض فإنّ الأجل فيه غير ملزمٍ عند الجمهور ،
وقال المالكيّة : إنّ اشتراطه ملزمٌ ، وإنّه ليس للمقرض مطالبة المستقرض ما لم يحلّ الأجل كغيره من الدّيون لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « المؤمنون عند شروطهم » .
الحكم الإجماليّ :
3 - الاستقراض جائزٌ بالنّسبة للمستقرض بشروطٍ يذكرها الفقهاء في أبواب القرض ، ونقل بعضهم الإجماع على الجواز ، وروى أبو رافعٍ أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم : استسلف من رجلٍ بكراً ، فقدمت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم إبل الصّدقة ، فأمر أبا رافعٍ أن يقضي الرّجل بكره ، فرجع إليه أبو رافعٍ ، فقال : يا رسول اللّه لم أجد فيها إلاّ خياراً رباعيّاً ، فقال : أعطه ، فإنّ خير النّاس أحسنهم قضاءً »
وقد يعرض للاستقراض ما يخرجه عن الجواز كحرمة الاستقراض بشرط نفعٍ للمقرض ، وكوجوب استقراض المضطرّ ، وغير ذلك من الأحكام الّتي تذكر في باب القرض . ويصحّ التّوكيل في الاستقراض عند الشّافعيّة والحنابلة ، ولا يصحّ عند الحنفيّة ، لأنّ الاستقراض طلب تبرّعٍ من المقرض فهو نوعٌ من التّكدّي ( الشّحاذة ) ولا يصحّ التّوكيل فيه . والاستقراض أحياناً يحتاج إلى إذنٍ من القاضي ، كاستقراض من حكم له بنفقة القريب على قريبه المعسر في بعض المذاهب ، ويذكر الفقهاء ذلك في أحكام النّفقة .
ولو استقرض الأب من ولده فإنّ للولد مطالبته ، عند غير الحنابلة ، لأنّه دينٌ ثابتٌ فجازت المطالبة به كغيره ، وقال الحنابلة : لا يطالب ، لحديث : « أنت ومالك لأبيك » .
مواطن البحث :
4 - أغلب أحكام الاستقراض عند الفقهاء تذكر في باب القرض ، وبالإضافة إلى ذلك تأتي بعض أحكامه في الشّركة ، أثناء الكلام عن إذن الشّريك لشريكه ، وفي الوكالة عند بيان ما تصحّ فيه الوكالة ، وفي الوقف في الاستدانة على الوقف ، وفي النّفقة في الاستقراض على الغائب والمعسر .
استقسامٌ *
التعريف :
1 - يأتي الاستقسام في اللّغة بمعنى : طلب القسم بالأزلام ونحوها ، والقسم هنا : ما قدّر للإنسان من خيرٍ أو شرٍّ ، ويأتي بمعنى طلب : القسم المقدّر ممّا هو شائعٌ ، والقسم هنا : النّصيب . وقد اختلف علماء اللّغة والمفسّرون في المقصود بالاستقسام في قوله تعالى : { وأن تستقسموا بالأزلام } . فقال الجمهور ومنهم الأزهريّ والهرويّ وأبو جعفرٍ وسعيد بن جبيرٍ والحسن والقفّال والضّحّاك والسّدّيّ : معنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة الخير والشّرّ بواسطة ضرب القداح ، فكان الرّجل في الجاهليّة إذا أراد سفراً ، أو غزواً ، أو تجارةً ، أو نكاحاً ، أو أو أمراً آخر ضرب بالقداح ، وكانوا قد كتبوا على بعضها " أمرني ربّي " وعلى بعضها " نهاني ربّي " وتركوا بعضها خالياً عن الكتابة ، فإن خرج الأمر أقدم على الفعل ، وإن خرج النّهي أمسك ، وإن خرج الغفل أعاد العمل مرّةً أخرى ، فهم يطلبون من الأزلام أن تدلّهم على قسمهم . وقال المؤرّج والعزيزيّ وجماعةٌ من أهل اللّغة : الاستقسام هنا هو الميسر المنهيّ عنه ، والأزلام قداح الميسر ، وكانوا إذا أرادوا أن ييسروا ابتاعوا ناقةً بثمنٍ مسمًّى يضمنونه لصاحبها ، ولم يدفعوا الثّمن حتّى يضربوا بالقداح عليها ، فيعلموا على من يجب الثّمن . وذهب الفقهاء إلى ما ذهب إليه جمهور اللّغويّين والمفسّرين من أنّه الامتثال لما تخرجه الأزلام من الأمر والنّهي في شئون حياتهم ، والأقداح هي أقداح الأمر والنّهي .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الطّرق :
2 - من معاني الطّرق : الضّرب بالحصى ، وهو نوعٌ من التّكهّن ، وشبيه الخطّ في الرّمل ، وفي الحديث : « العيافة والطّيرة والطّرق من الجبت » ومن ذلك يتبيّن أنّ الطّرق بالحصى والاستقسام كلاهما لطلب معرفة الحظوظ .
ب - الطّيرة :
3 - هي التّشاؤم ، وأصله أنّ العربيّ كان إذا أراد المضيّ لمهمٍّ مرّ بمجاثم الطّير وأثارها ، فإن تيامنت مضى ، وإن تشاءمت تطيّر وعدل .
فنهى الشّارع عن ذلك ففي الحديث : « ليس منّا من تطيّر أو تطيّر له » وهي بهذا تشبه الاستقسام في أنّها طلب معرفة قسمه من الغيب .
ج - الفأل :
4 - الفأل هو أن تسمع كلاماً حسناً فتتيمّن به ، والفأل ضدّ الطّيرة ، وفي الحديث « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يحبّ الفأل ويكره الطّيرة » .
والفأل مستحسنٌ إذا كان من قبيل الكلمة الحسنة يسمعها الرّجل من غير قصدٍ ، نحو : يا فلاّح ويا مسعود فيستبشر بها . والفأل بهذا المعنى ليس من قبيل الاستقسام ( المنهيّ عنه ) أمّا إذا قصد بالفأل طلب معرفة الخير من الشّرّ عن طريق أخذه من مصحفٍ ، أو ضرب رملٍ ، أو قرعةٍ ونحوها - وهو يعتقد هذا المقصد إن خرج جيّداً اتّبعه ، وإن خرج رديّاً اجتنبه - فهو حرامٌ ، لأنّه من قبيل الاستقسام المنهيّ عنه .
د - القرعة :
5 - القرعة : اسم مصدرٍ بمعنى الاقتراع وهو الاختيار بإلقاء السّهام ونحو ذلك . وليست القرعة من الميسر كما يقول البعض ، لأنّ الميسر هو القمار ، وتمييز الحقوق ليس قماراً . وليست من الاستقسام المنهيّ عنه ، لأنّ الاستقسام تعرّضٌ لدعوى علم الغيب ، وهو ممّا استأثر به اللّه تعالى ، في حين أنّ القرعة تمييز نصيبٍ موجودٍ ، فهي أمارةٌ على إثبات حكمٍ قطعاً للخصومة ، أو لإزالة الإبهام . وعلى ذلك فالقرعة الّتي تكون لتمييز الحقوق مشروعةٌ . أمّا القرعة الّتي يؤخذ منها الفأل ، أو الّتي يطلب بها معرفة الغيب والمستقبل فهي في معنى الاستقسام الّذي حرّمه اللّه سبحانه وتعالى .
هـ – الكهانة :
6 – الكهانة أو التّكهّن : ادّعاء علم الغيب ، والكاهن هو الّذي يخبر عن بعض المضمرات ، فيصيب بعضها ، ويخطئ أكثرها ، ويزعم أنّ الجنّ يخبره بذلك ، ومثل الكاهن : العرّاف ، والرّمّال ، والمنجّم ، وهو الّذي يخبر عن المستقبل بطلوع النّجم وغروبه . وفي الحديث : « ليس منّا من تطيّر أو تطيّر له ، أو تكهّن أو تكهّن له ، أو سحر أو سحر له » و « من أتى كاهناً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمّدٍ » .
وعلى ذلك فالكهانة هي من قبيل الاستقسام الّذي حرّمه اللّه تعالى .
صفة الاستقسام : حكمه التّكليفيّ :
7 - الاستقسام بالأزلام وما في معناها - سواءٌ كان لطلب القسم في أمور الحياة الغيبيّة ، أو كان للمقامرة - ولو كان المقصود به خيراً حرامٌ ، كما ورد في القرآن الكريم : { إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه } . وقوله تعالى : { حرّمت عليكم الميتة والدّم } ... إلى قوله { وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسقٌ } .
فهو خروجٌ عن طاعة اللّه ، لأنّه تعرّضٌ لعلم الغيب ، أو نوعٌ من المقامرة ، وكلاهما منهيٌّ عنه .
إحلال الشّرع الاستخارة محلّ الاستقسام :
8 - لمّا كان الإنسان بطبعه يميل إلى التّعرّف على طريقه ، والاطمئنان إلى أمور حياته ، فقد أوجد الشّرع للإنسان ما يلجأ به إلى اللّه تعالى ليشرح صدره لما فيه الخير فيتّجه إليه . والاستخارة طلب الخيرة في الشّيء ، والتّفصيل في مصطلح ( استخارةٌ ) .

استقلالٌ *
انظر : انفرادٌ .
استكسابٌ *
انظر : إنفاقٌ ، ونفقةٌ .
استلامٌ *
التعريف :
1 - من معاني الاستلام في اللّغة : اللّمس باليد أو الفم . والاستلام مأخوذٌ إمّا من السّلام أي التّحيّة ، وإمّا من السّلام أي الحجارة ، لما فيه من لمس الحجر .
ويستعمله الفقهاء بهذه المعاني عند الكلام عن الطّواف . وقد شاع استعمال الاستلام بمعنى التّسلّم ، فيرجع إليه بهذا المعنى في مصطلح : ( تسلّمٌ ) .
الحكم الإجماليّ :
2 - يتّفق الفقهاء على أنّه يسنّ استلام الحجر الأسود والرّكن اليمانيّ باليد في أوّل الطّواف ، روى ابن عمر « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلاّ الحجر والرّكن اليمانيّ » . وقال ابن عمر :« ما تركت استلام هذين الرّكنين : اليمانيّ والحجر منذ رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يستلمهما في شدّةٍ ولا رخاءٍ » . ولأنّ الرّكن اليمانيّ مبنيٌّ على قواعد إبراهيم عليه السلام ، فسنّ استلامه ، كاستلام الرّكن الّذي فيه الحجر . والاستلام في كلّ طوفةٍ كالمرّة الأولى عند الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وقال المالكيّة بالاستحباب . والاستلام بالفم كالاستلام باليد بالنّسبة للحجر ، إلاّ أنّ المالكيّة قالوا : إنّ الاستلام باليد يكون بعد العجز عن الاستلام بالفم . وفي استلام اليمانيّ بالفم خلافٌ بين الفقهاء يذكر في أحكام الطّواف . وعند العجز عن الاستلام باليد يستلم الإنسان بشيءٍ في يده . فإن لم يمكنه استلامه أصلاً أشار إليه وكبّر لحديث ابن عبّاسٍ قال : « طاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم على بعيرٍ كلّما أتى الرّكن أشار إليه وكبّر » .
وبعد الانتهاء من ركعتي الطّواف يسنّ كذلك العود لاستلام الحجر الأسود . وهذا كلّه بالنّسبة للرّجل ، ويختلف الحال بالنّسبة للمرأة في بعض الأحوال . واستلام الحجر والرّكن اليمانيّ تعبّديٌّ وخصوصيّةٌ لهما ، وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في أحكام الطّواف .

استلحاقٌ *
التّعريف :
1 - الاستلحاق لغةً : مصدر استلحق ، يقال : استلحقه ادّعاه . واصطلاحاً : هو الإقرار بالنّسب . والتّعبير بلفظ الاستلحاق هو استعمال المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وأمّا الحنفيّة فاستعملوه في الإقرار بالنّسب على قلّةٍ .
صفته: حكمه التّكليفيّ :
2 - جاء في حديث عمرو بن شعيبٍ : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى أنّ كلّ مستلحقٍ استلحق بعد أبيه الّذي يدعى له فقد لحق بمن استلحقه » قال الخطّابيّ : هذه أحكامٌ وقعت في أوّل زمان الشّريعة ، وذلك أنّه كان لأهل الجاهليّة إماءٌ بغايا ، وكان سادتهنّ يلمّون بهنّ ، فإذا جاءت إحداهنّ بولدٍ ربّما ادّعاه السّيّد والزّاني ، فألحقه النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالسّيّد ، لأنّ الأمة فراشٌ كالحرّة ، فإن مات السّيّد ولم يستلحقه ثمّ استلحقه ورثته بعده لحق بأبيه . وقد اتّفق الفقهاء على أنّ حكم الاستلحاق عند الصّدق واجبٌ ، ومع الكذب في ثبوته ونفيه حرامٌ ، ويعدّ من الكبائر ، لأنّه كفران النّعمة ، لما صحّ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « أيّما امرأةٍ أدخلت على قومٍ من ليس منهم ، فليست من اللّه في شيءٍ ، ولن يدخلها اللّه جنّته ، وأيّما رجلٍ جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب اللّه تعالى منه ، وفضحه على رءوس الأوّلين والآخرين يوم القيامة » .
هذا ويشترط فقهاء المذاهب لصحّة الاستلحاق شروطاً معيّنةً ، منها : أن يولد مثله لمثله ، وأن يكون مجهول النّسب ، وألاّ يكذّبه المقرّ له إن كان من أهل الإقرار على تفصيلٍ في مصطلح ( نسبٌ ) وفي بابه من كتب الفقه .
استماعٌ *
التعريف :
1 - الاستماع لغةً واصطلاحاً : قصد السّماع بغية فهم المسموع أو الاستفادة منه .
الألفاظ ذات الصّلة
أ - السّماع :
2 - الاستماع لا يكون استماعاً إلاّ إذا توفّر فيه القصد ، أمّا السّماع فإنّه قد يكون بقصدٍ ، أو بدون قصدٍ . وغالب استعمال الفقهاء للسّماع ينصرف إلى استماع آلات الملاهي ، أي بالقصد .
ب - استراق السّمع :
الاستماع قد يكون على سبيل الاستخفاء ، وقد يكون على سبيل المجاهرة ، ولكنّ استراق السّمع لا يكون إلاّ على سبيل الاستخفاء ، ولذلك قالوا : استراق السّمع هو الاستماع مستخفياً ( ر : استراق السّمع ) .
ج - التّجسّس :
الاستماع لا يكون إلاّ بالسّمع ، أمّا التّجسّس فإنّه يكون بالسّمع وبغيره فضلاً عن أنّ التّجسّس يكون على سبيل الاستخفاء ، في حين أنّ الاستماع يكون على سبيل الاستخفاء ، أو على سبيل المجاهرة ( ر : تجسّسٌ ) .
د - الإنصات :
الإنصات هو السّكوت للاستماع . ويكون الاستماع إمّا لصوت الإنسان ، أو الحيوان ، أو الجماد .
النّوع الأوّل : استماع صوت الإنسان .
أ - حكم استماع القرآن خارج الصّلاة :
3 - الاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم حين يقرأ واجبٌ إن لم يكن هناك عذرٌ مشروعٌ لترك الاستماع . وقد اختلف الحنفيّة في هذا الوجوب ، هل هو وجوبٌ عينيٌّ ، أو وجوبٌ كفائيٌّ ؟ قال ابن عابدين : الأصل أنّ الاستماع للقرآن فرض كفايةٍ ، لأنّه لإقامة حقّه ، بأن يكون ملتفتاً إليه غير مضيّعٍ ، وذلك يحصل بإنصات البعض ، كما في ردّ السّلام .
ونقل الحمويّ عن أستاذه قاضي القضاة يحيى الشّهير بمنقاري زاده : أنّ له رسالةً حقّق فيها أنّ سماع القرآن فرضٌ عينٍ . نعم إنّ قوله تعالى في سورة الأعراف { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } قد نزلت لنسخ جواز الكلام أثناء الصّلاة . إلاّ أنّ العبرة لعموم اللّفظ لا لخصوص السّبب ، ولفظها يعمّ قراءة القرآن في الصّلاة وفي غيرها .
وعند الحنابلة : يستحبّ استماع قراءة القرآن الكريم .
4 - ويعذر المستمع بترك الاستماع لتلاوة القرآن الكريم ، ولا يكون آثماً بذلك - بل الآثم هو التّالي ، على ما ذكره ابن عابدين - إذا وقعت التّلاوة بصوتٍ مرتفعٍ في أماكن الاشتغال ، والمستمع في حالة اشتغالٍ ، كالأسواق الّتي بنيت ليتعاطى فيها النّاس أسباب الرّزق ، والبيوت في حالة تعاطي أهل البيت أعمالهم من كنسٍ وطبخٍ ونحو ذلك ، وفي حضرة ناسٍ يتدارسون الفقه ، وفي المساجد ، لأنّ المساجد إنّما بنيت للصّلاة ، وقراءة القرآن تبعٌ للصّلاة ، فلا تترك الصّلاة لسماع القرآن فيه . وإنّما سقط إثم ترك الاستماع للقرآن في حالات الاشتغال دفعاً للحرج عن النّاس . قال تعالى - { وما جعل عليكم في الدّين من حرجٍ } وإنّما أثم القارئ بذلك ، لأنّه مضيّعٌ لحرمة القرآن .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ب - طلب تلاوته للاستماع إليه :
5 - يستحبّ للمسلم أن يطلب ممّن يعلم منه إجادة التّلاوة للقرآن الكريم مع حسن الصّوت التّلاوة ليستمع إليها ، قال الإمام النّوويّ : ( اعلم أنّ جماعاتٍ من السّلف رضوان الله عليهم كانوا يطلبون من أصحاب القراءة بالأصوات الحسنة أن يقرءوا وهم يستمعون ، وهذا متّفقٌ على استحبابه ، وهو من عادة الأخيار المتعبّدين وعباد اللّه الصّالحين ، وهو سنّةٌ ثابتةٌ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . فقد صحّ عن عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه قال : قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « اقرأ عليّ ، فقلت : يا رسول اللّه أقرأ عليك ، وعليك أنزل ؟ قال : نعم وفي روايةٍ : إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري فقرأت سورة النّساء حتّى أتيت على هذه الآية { فكيف إذا جئنا من كلّ أمّةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } قال : حسبك الآن ، فالتفتّ إليه فإذا عيناه تذرفان » .
وروى الدّارميّ وغيره بأسانيدهم عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه كان يقول لأبي موسى الأشعريّ : ذكّرنا ربّنا ، فيقرأ عنده القرآن . والآثار في هذا كثيرةٌ معروفةٌ .
6 - قال النّوويّ : وقد استحبّ العلماء أن يستفتح مجلس حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويختم بقراءة قارئٍ حسن الصّوت ممّا تيسّر من القرآن . وقد صرّح الحنفيّة بأنّ استماع القرآن الكريم أفضل من قراءة الإنسان القرآن بنفسه ، لأنّ المستمع يقوم بأداء فرضٍ بالاستماع ، بينما قراءة القرآن ليست بفرضٍ ، قال أبو السّعود في حاشيته على ملاّ مسكينٍ : استماع القرآن أثوب من قراءته ، لأنّ استماعه فرضٌ بخلاف القراءة .
ت - استماع التّلاوة غير المشروعة :
7 - ذهب الجمهور إلى عدم جواز استماع تلاوة القرآن الكريم بالتّرجيع والتّلحين المفرط الّذي فيه التّمطيط ، وإشباع الحركات . والتّرجيع : أي التّرديد للحروف والإخراج لها من غير مخارجها . وقالوا : التّالي والمستمع في الإثم سواءٌ ، أي إذا لم ينكر عليه أو يعلّمه . أمّا تحسين الصّوت بقراءة القرآن من غير مخالفةٍ لأصول القراءة فهو مستحبٌّ ، واستماعه حسنٌ ، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « زيّنوا القرآن بأصواتكم » وقوله عليه الصلاة والسلام في أبي موسى الأشعريّ : « لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود » . وعلى هذا يحمل قول الإمام الشّافعيّ في الأمّ : لا بأس بالقراءة بالألحان وتحسين الصّوت بها بأيّ وجهٍ ما كان ، وأحبّ ما يقرأ إليّ حدراً وتحزيناً : وذهب بعض الشّافعيّة - كالماورديّ - إلى أنّ التّغنّي بالقرآن حرامٌ مطلقاً ، لإخراجه عن نهجه القويم ، وقيّده غيره بما إذا وصل به إلى حدٍّ لم يقل به أحدٌ من القرّاء ، وذهب بعض الحنابلة كالقاضي أبي يعلى إلى أنّ قراءة القرآن بالألحان مكروهةٌ على كلّ حالٍ ، لإخراج القرآن عن نهجه القويم ، وفسّروا قوله صلى الله عليه وسلم : « ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن » بأنّ معناه : يستغني به .
8 - وفي كراهة قراءة الجماعة على الواحد - كما يفعل المتعلّمون عند الشّيخ وهو يستمع لهم - روايتان عند المالكيّة . إحداهما : أنّه حسنٌ . والثّانية : الكراهة ، وهو ما ذهب إليه الحنفيّة ، قال ابن رشدٍ : كان مالكٌ يكره هذا ولا يرضاه ، ثمّ رجع وخفّفه .
وجه الكراهة : أنّه إذا قرأ عليه جماعةٌ مرّةً واحدةً لا بدّ أن يفوته سماع ما يقرأ به بعضهم ، ما دام يصغي إلى غيرهم ، ويشتغل بالرّدّ على الّذي يصغي إليه ، فقد يخطئ في ذلك الحين ويظنّ أنّه قد سمعه ، وأجاز قراءته ، فيحمل عنه الخطأ ، ويظنّه مذهباً له .
ووجه التّخفيف : المشقّة الدّاخلة على المقرئ بانفراد كلّ واحدٍ حين القراءة عليه إذا كثروا ، وقد لا يعمّهم ، فرأى جمعهم في القراءة أحسن من القطع ببعضهم .
ث - استماع الكافر القرآن :
9 - لا يمنع الكافر من الاستماع إليه ، لقوله جلّ شأنه : { وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام اللّه } . ورجاء أن يشرح اللّه صدره للإسلام فيهتدي .
ج- استماع القرآن في الصّلاة :
10- ذهب الحنفيّة إلى أنّ استماع المأموم في الصّلاة لقراءة الإمام والإنصات إليه واجبٌ ، وقراءته مكروهةٌ كراهةً تحريميّةً ، سواءٌ أكان ذلك في الجهريّة أم السّرّيّة .
وذهب المالكيّة إلى أنّ استماع المأموم لقراءة الإمام تستحبّ في الجهريّة ،
أمّا السّرّيّة فإنّها تستحبّ فيها القراءة على المعتمد ، خلافاً لابن العربيّ حيث ذهب إلى وجوبها في السّرّيّة . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ قراءة المأموم الفاتحة في السّرّيّة والجهريّة واجبةٌ ، وإن فاته الاستماع . وذهب الحنابلة إلى أنّه يستحبّ للمأموم الاستماع إذا كان يسمع قراءة الإمام في الجهريّة ، وتفصيل ذلك في مصطلح ( قراءةٌ ) .
ح - استماع آية السّجدة :
11 - يترتّب على استماع أو سماع آيةٍ من آيات السّجدة السّجود للتّلاوة ، على خلافٍ بين الفقهاء في حكم السّجود ، تجده مع أدلّته في مصطلح ( سجود التّلاوة ) .
ثانياً : استماع غير القرآن الكريم :
أ - حكم استماع خطبة الجمعة :
اختلف الفقهاء في حكم الاستماع والإنصات للخطبة .
12 - فذهب الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة ، والأوزاعيّ إلى وجوب الاستماع والإنصات ، وهو ما ذهب إليه عثمان بن عفّان ، وعبد اللّه بن عمر ، وابن مسعودٍ ، حتّى قال الحنفيّة : كلّ ما حرم في الصّلاة حرم في الخطبة ، فيحرم أكلٌ ، وشربٌ ، وكلامٌ ، ولو تسبيحاً ، أو ردّ سلامٍ ، أو أمراً بمعروفٍ ، أو نهياً عن منكرٍ . واستدلّوا على ذلك : - بقوله تعالى : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } - وبأنّ الخطبة كالصّلاة ، فهي قائمةٌ مقام ركعتين من الفريضة ، ولم يستثن الحنفيّة والحنابلة من ذلك إلاّ تحذير من خيف هلاكه ، لأنّه يجب لحقّ آدميٍّ ، وهو محتاجٌ إليه ، أمّا الإنصات فهو لحقّ اللّه تعالى ، وحقوق اللّه تعالى مبنيّةٌ على المسامحة . واستثنى المالكيّة أيضاً : الذّكر الخفيف إن كان له سببٌ ، كالتّهليل ، والتّحميد ، والاستغفار ، والتّعوّذ ، والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم لكنّهم اختلفوا في وجوب الإسرار بهذه الأذكار الخفيفة . واستدلّ من قال بوجوب الاستماع للخطبة بما رواه أبو هريرة عن سيّدنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة : أنصت - والإمام يخطب - فقد لغوت » .
13 - وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الاستماع والإنصات أثناء الخطبة سنّةٌ ، ولا يحرم الكلام ، بل يكره ، وحكى ذلك النّوويّ عن عروة بن الزّبير ، وسعيد بن جبيرٍ ، والشّعبيّ ، والنّخعيّ ، والثّوريّ ، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد . واستدلّوا على الكراهة بالجمع بين حديث : « إذا قلت لصاحبك : أنصت ، فقد لغوت » وخبر الصّحيحين عن أنسٍ : « فبينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يوم الجمعة قام أعرابيٌّ فقال : يا رسول اللّه ، هلك المال وجاع العيال فادع لنا أن يسقينا . قال : فرفع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يديه وما في السّماء قزعةٌ ... » وإن عرض له ناجزٌ كتعليم خيرٍ ، ونهيٍ عن منكرٍ ، وإنذار إنسانٍ عقرباً ، أو أعمى بئراً لم يمنع من الكلام ، لكن يستحبّ أن يقتصر على الإشارة إن أغنت ، ويباح له - أي الكلام - بلا كراهةٍ . ويباح الكلام عند الشّافعيّة للدّاخل في أثناء الخطبة ما لم يجلس ، كما صرّحوا بأنّه لو سلّم داخلٌ على مستمع الخطبة وهو يخطب ، وجب الرّدّ عليه بناءً على أنّ الإنصات سنّةٌ ، ويستحبّ تشميت العاطس إذا حمد اللّه ، لعموم الأدلّة ، وإنّما لم يكره كسائر الكلام لأنّ سببه قهريٌّ .
14 - وذهب الحنابلة والشّافعيّة إلى أنّ للبعيد الّذي لا يسمع صوت الخطيب أن يقرأ القرآن ، ويذكر اللّه تعالى ، ويصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم من غير أن يرفع صوته ، لأنّه إن رفع صوته منع من هو أقرب منه من الاستماع ، وهذا مرويٌّ عن عطاء بن أبي رباحٍ ، وسعيد بن جبيرٍ ، وعلقمة بن قيسٍ ، وإبراهيم النّخعيّ ، حتّى قال النّخعيّ : إنّي لأقرأ جزئي إذا لم أسمع الخطبة يوم الجمعة . وسأل إبراهيم النّخعيّ علقمة : أقرأ في نفسي أثناء الخطبة ؟ فقال علقمة : لعلّ ذلك ألاّ يكون به بأسٌ .
ب - استماع صوت المرأة :
15 - إذا كان مبعث الأصواتس هو الإنسان ، فإنّ هذا الصّوت إمّا أن يكون غير موزونٍ ولا مطربٍ ، أو يكون مطرباً . فإن كان الصّوت غير مطربٍ ، فإمّا أن يكون صوت رجلٍ أو صوت امرأةٍ ، فإن كان صوت رجلٍ : فلا قائل بتحريم استماعه .
أمّا إن كان صوت امرأةٍ ، فإن كان السّامع يتلذّذ به ، أو خاف على نفسه فتنةً حرم عليه استماعه ، وإلاّ فلا يحرم ، ويحمل استماع الصّحابة رضوان الله عليهم أصوات النّساء حين محادثتهنّ على هذا ، وليس للمرأة ترخيم الصّوت وتنغيمه وتليينه ، لما فيه من إثارة الفتنة ، وذلك لقوله تعالى : { فلا تخضعن بالقول فيطمع الّذي في قلبه مرضٌ } .
وأمّا إن كان الصّوت مطرباً فهذا الغناء استماعٌ ، وفيما يلي تفصيل القول فيه :
ج - الاستماع إلى الغناء :
16 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ استماع الغناء يكون محرّماً في الحالات التّالية :
أ - إذا صاحبه منكرٌ .
ب - إذا خشي أن يؤدّي إلى فتنةٍ كتعلّقٍ بامرأةٍ ، أو بأمرد ، أو هيجان شهوةٍ مؤدّيةٍ إلى الزّنى .
ج - إن كان يؤدّي إلى ترك واجبٍ دينيٍّ كالصّلاة ، أو دنيويٍّ كأداء عمله الواجب عليه ، أمّا إذا أدّى إلى ترك المندوبات فيكون مكروهاً . كقيام اللّيل ، والدّعاء في الأسحار ونحو ذلك .
الغناء للتّرويح عن النّفس :
أمّا إذا كان الغناء بقصد التّرويح عن النّفس ، وكان خالياً عن المعاني السّابقة فقد اختلف فيه ، فمنعه جماعةٌ وأجازه آخرون .
17 - وقد ذهب عبد اللّه بن مسعودٍ إلى تحريمه ، وتابعه على ذلك جمهور علماء أهل العراق ، منهم إبراهيم النّخعيّ ، وعامر الشّعبيّ ، وحمّاد بن أبي سليمان ، وسفيان الثّوريّ ، والحسن البصريّ ، والحنفيّة ، وبعض الحنابلة . واستدلّ هؤلاء على التّحريم : - بقوله تعالى : { ومن النّاس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل اللّه } قال ابن عبّاسٍ وابن مسعودٍ : لهو الحديث هو : الغناء . وبحديث أبي أمامة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن بيع المغنّيات ، وعن شرائهنّ ، وعن كسبهنّ ، وعن أكل أثمانهنّ » . وبحديث عقبة بن عامرٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « كلّ شيءٍ يلهو به الرّجل فهو باطلٌ ، إلاّ تأديبه فرسه ، ورميه بقوسه ، وملاعبته امرأته » .
18 - وذهب الشّافعيّة ، والمالكيّة ، وبعض الحنابلة إلى أنّه مكروهٌ ، فإن كان سماعه من امرأةٍ أجنبيّةٍ فهو أشدّ كراهةً ، وعلّل المالكيّة الكراهة بأنّ سماعه مخلٌّ بالمروءة ، وعلّلها الشّافعيّة بقولهم : لما فيه من اللّهو . وعلّلها الإمام أحمد بقوله : لا يعجبني الغناء لأنّه ينبت النّفاق في القلب .
19 - وذهب عبد اللّه بن جعفرٍ ، وعبد اللّه بن الزّبير ، والمغيرة بن شعبة ، وأسامة بن زيدٍ ، وعمران بن حصينٍ ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وغيرهم من الصّحابة ، وعطاءٌ بن أبي رباحٍ ، وبعض الحنابلة منهم أبو بكرٍ الخلاّل ، وصاحبه أبو بكرٍ عبد العزيز ، والغزاليّ من الشّافعيّة إلى إباحته . واستدلّوا على ذلك بالنّصّ والقياس . أمّا النّصّ : فهو ما أخرجه البخاريّ ومسلمٌ عن عائشة رضي الله عنها قالت : « دخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنّيان بغناء بعاثٍ ، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه ، ودخل أبو بكرٍ فانتهرني وقال : مزمارة الشّيطان عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : دعهما ، فلمّا غفل غمزتهما فخرجتا » . ويقول عمر بن الخطّاب :" الغناء زاد الرّاكب "فقد روى البيهقيّ في سننه : أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كان يستمع إلى غناء خوّاتٍ ، فلمّا كان السّحر قال له :" ارفع لسانك يا خوّات ، فقد أسحرنا "
وأمّا القياس : فإنّ الغناء الّذي لا يصاحبه محرّمٌ فيه سماع صوتٍ طيّبٍ موزونٍ ، وسماع الصّوت الطّيّب من حيث إنّه طيّبٌ لا ينبغي أن يحرم ، لأنّه يرجع إلى تلذّذ حاسّة السّمع بإدراك ما هو مخصوصٌ به ، كتلذّذ الحواسّ الأخرى بما خلقت له .
20 - وأمّا الوزن فإنّه لا يحرّم الصّوت ، ألا ترى أنّ الصّوت الموزون الّذي يخرج من حنجرة العندليب لا يحرم سماعه ، فكذلك صوت الإنسان ، لأنّه لا فرق بين حنجرةٍ وحنجرةٍ . وإذا انضمّ الفهم إلى الصّوت الطّيّب الموزون ، لم يزد الإباحة فيه إلاّ تأكيداً .
21 - أمّا تحريك الغناء القلوب ، وتحريكه العواطف ، فإنّ هذه العواطف إن كانت عواطف نبيلةً فمن المطلوب تحريكها ، وقد وقع لعمر بن الخطّاب أن استمع إلى الغناء في طريقه للحجّ - كما تقدّم - وكان الصّحابة ينشدون الرّجزيّات لإثارة الجند عند اللّقاء ، ولم يكن أحدٌ يعيب عليهم ذلك ، ورجزيّات عبد اللّه بن رواحة وغيره معروفةٌ مشهورةٌ .
الغناء لأمرٍ مباحٍ :
22 - إذا كان الغناء لأمرٍ مباحٍ ، كالغناء في العرس ، والعيد ، والختان ، وقدوم الغائب ، تأكيداً للسّرور المباح ، وعند ختم القرآن الكريم تأكيداً للسّرور كذلك ، وعند سير المجاهدين للحرب إذا كان للحماس في نفوسهم ، أو للحجّاج لإثارة الأشواق في نفوسهم إلى الكعبة المشرّفة ، أو للإبل لحثّها على السّير - وهو الحداء - أو للتّنشيط على العمل كغناء العمّال عند محاولة عملٍ أو حمل ثقيلٍ ، أو لتسكيت الطّفل وتنويمه كغناء الأمّ لطفلها ، فإنّه مباحٌ كلّه بلا كراهةٍ عند الجمهور . واستدلّوا على ذلك بما ذكر سابقاً من حديث الجاريتين الّذي روته أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهذا نصٌّ في إباحة الغناء في العيد . وبحديث بريدة قال : « خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه ، فلمّا انصرف جاءت جاريةٌ سوداء فقالت : يا رسول اللّه إنّي كنت نذرت - إن ردّك اللّه سالماً - أن أضرب بين يديك بالدّفّ وأتغنّى ، فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إن كنت نذرت فاضربي وإلاّ فلا » . وهذا نصٌّ في إباحة الغناء عند قدوم الغائب تأكيداً للسّرور ، ولو كان الغناء حراماً لما جاز نذره ، ولما أباح لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعله . وبحديث عائشة : « أنّها أنكحت ذات قرابةٍ لها من الأنصار ، فجاء رسول اللّه فقال : أهديتم الفتاة ؟ قالوا : نعم ، قال : أرسلتم معها من يغنّي ؟ قالت : لا ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّ الأنصار قومٌ فيهم غزلٌ ، فلو بعثتم معها من يقول : أتيناكم أتيناكم ، فحيّانا وحيّاكم » . وهذا نصٌّ في إباحة الغناء في العرس . وبحديث عائشة قالت : « كنت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في سفرٍ ، وكان عبد اللّه بن رواحة جيّد الحداء ، وكان مع الرّجال ، وكان أنجشة مع النّساء ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لابن رواحة : حرّك القوم ، فاندفع يرتجز ، فتبعه أنجشة ، فأعنفت الإبل ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأنجشة رويدك ، رفقاً بالقوارير . يعني النّساء » . وعن السّائب بن يزيد قال :" كنّا مع عبد الرّحمن بن عوفٍ في طريق الحجّ ، ونحن نؤمّ مكّة ، اعتزل عبد الرّحمن الطّريق ، ثمّ قال لرباح بن المغترف : غنّنا يا أبا حسّان ، وكان يحسن النّصب - والنّصب ضربٌ من الغناء - فبينا رباحٌ يغنّيه أدركهم عمر في خلافته فقال : ما هذا ؟ فقال عبد الرّحمن : ما بأسٌ بهذا ؟ نلهو ونقصّر عنّا السّفر ، فقال عمر : فإن كنت آخذاً فعليك بشعر ضرار بن الخطّاب بن مرداسٍ فارس قريش"ٍ . وكان عمر يقول ." الغناء من زاد الرّاكب "، وهذا يدلّ على إباحة الغناء لترويح النّفس . وروى ابن أبي شيبة أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كان يأمر بالحداء .
د - الاستماع إلى الهجو والنّسيب :
23 - يشترط في الكلام - سواءٌ أكان موزوناً ( كالشّعر ) أم غير موزونٍ ، ملحّناً ( كالغناء ) أم غير ملحّنٍ - حتّى يحلّ استماعه ألاّ يكون فاحشاً ، وليس فيه هجوٌ ، ولا كذبٌ على اللّه ورسوله ، ولا على الصّحابة ، ولا وصف امرأةٍ معيّنةٍ ، فإن استمع إلى شيءٍ من الكلام فيه شيءٌ ممّا ذكرناه ، فالمستمع شريك القائل في الإثم . أمّا هجاء الكفّار وأهل البدع فذلك جائزٌ ، وقد « كان حسّان بن ثابتٍ شاعر رسول اللّه يهاجي الكفّار بعلم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أو أمره ، وقد قال له عليه الصلاة والسلام : اهجهم أو هاجهم وجبريل معك »
وأمّا النّسيب فإنّه لا شيء فيه ، وقد كان يقال أمام رسول اللّه وهو يستمع إليه « فقد استمع صلوات الله وسلامه عليه إلى قصيدة كعب بن زهيرٍ : بانت سعاد فقلبي اليوم متبول »
مع ما فيها من النّسيب .
النّوع الثّاني : استماع صوت الحيوان :
24 - اتّفق العلماء على جواز استماع أصوات الحيوانات ، سواءٌ كانت هذه الأصوات قبيحةً كصوت الحمار والطّاووس ونحوهما ، أو عذبةً موزونةً كأصوات العنادل والقماريّ ونحوها ، قال الغزاليّ : فسماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرم لكونها طيّبةً أو موزونةً ، فلا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب وسائر الطّيور .
النّوع الثّالث : استماع أصوات الجمادات :
25 - إذا انبعثت أصوات الجمادات من تلقاء نفسها أو بفعل الرّيح فلا قائل بتحريم استماع هذه الأصوات . أمّا إذا انبعثت بفعل الإنسان ، فإمّا أن تكون غير موزونةٍ ولا مطربةٍ ، كصوت طرق الحدّاد على الحديد ، وصوت منشار النّجّار ونحو ذلك ، ولا قائل بتحريم استماع صوتٍ من هذه الأصوات . وأمّا أن ينبعث الصّوت من الآلات بفعل الإنسان موزوناً مطرباً ، وهو ما يسمّى بالموسيقى . فتفصيل القول فيه كما يلي :
أوّلاً - استماع الموسيقى :
26 - إنّ ما حلّ تعاطيه ( أي فعله ) من الموسيقى والغناء حلّ الاستماع إليه ، وما حرم تعاطيه منهما حرم الاستماع إليه ، لأنّ تحريم الموسيقى أو الغناء ليس لذاته ، ولكن لأنّه أداةٌ للإسماع ، ويدلّ على هذا قول الغزاليّ في معرض حديثه عن شعر الخنا ، والهجو ، ونحو ذلك : فسماع ذلك حرامٌ بألحانٍ وبغير ألحانٍ ، والمستمع شريكٌ للقائل . وقول ابن عابدين : وكره كلّ لهوٍ واستماعه .
أ : الاستماع لضرب الدّفّ ونحوه من الآلات القرعيّة :
27 - اتّفق الفقهاء على حلّ الضّرب بالدّفّ والاستماع إليه ، على تفصيلٍ في ذلك ، هل هذه الإباحة هي في العرس وغيره ، أم هي في العرس دون غيره ؟ وهل يشترط في ذلك أن يكون الدّفّ خالياً من الجلاجل أم لا يشترط ذلك ؟ وستجد ذلك التّفصيل في مصطلح ( معازف ) ( وسماعٌ ) . واستدلّوا على ذلك بما رواه محمّد بن حاطبٍ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « فصل ما بين الحلال والحرام الدّفّ والصّوت في النّكاح » . وبما روت عائشة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « أعلنوا هذا النّكاح ، واضربوا عليه بالغربال » . وما روت الرّبيّع بنت معوّذٍ قالت : « دخل عليّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم غداة بني عليّ ، فجلس على فراشي ، وجويرياتٌ يضربن بالدّفّ يندبن من قتل من آبائي يوم بدرٍ ، حتّى قالت إحداهنّ : وفينا نبيٌّ يعلم ما في غدٍ ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : لا تقولي هكذا وقولي كما كنت تقولين » .
28 - وألحق المالكيّة ، والحنفيّة ، والغزاليّ من الشّافعيّة بالدّفّ جميع أنواع الطّبول - وهي الآلات الفرعيّة - ما لم يكن استعمالها للهوٍ محرّمٍ . واستثنى من ذلك بعضهم - كالغزاليّ مثلاً - الكوبة ، لأنّها من آلات الفسقة . واستثنى الحنفيّة من ذلك الضّرب بالقضيب . قال ابن عابدين : ضرب النّوبة للتّفاخر لا يجوز ، وللتّنبيه فلا بأس به ، وينبغي أن يكون كذلك بوق الحمّام وطبل المسحّر ، ثمّ قال : وهذا يفيد أنّ آلة اللّهو ليست محرّمةً بعينها بل لقصد اللّهو فيها ، إمّا من سامعها ، أو من المشتغل بها ، وبه تشعر الإضافة - يعني إضافة الآلة إلى اللّهو - ألا ترى أنّ ضرب تلك الآلة حلّ تارةً وحرم أخرى باختلاف النّيّة ، والأمور بمقاصدها .
ب - الاستماع للمزمار ونحوه من الآلات النّفخيّة :
29 - أجاز المالكيّة الاستماع إلى الآلات النّفخيّة كالمزمار ونحوه ، ومنعه غيرهم ، وروى ابن أبي شيبة في مصنّفه عن ابن مسعودٍ إباحة الاستماع إليه ، فقد روى بسنده إلى ابن مسعودٍ أنّه دخل عرساً فوجد فيه مزامير ولهواً ، فلم ينه عنه . ومنعه غير المالكيّة .
30 - أمّا الآلات الوتريّة كالعود ونحوه ، فإنّ الاستماع إليها ممنوعٌ في العرس وغيره عند جمهور العلماء .
وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء السّلف إلى التّرخيص فيها ، وممّن رخّص فيها : عبد اللّه بن جعفرٍ ، وعبد اللّه بن الزّبير ، وشريحٌ ، وسعيد بن المسيّب ، وعطاء بن أبي رباحٍ ، ومحمّد بن شهابٍ الزّهريّ ، وعامر بن شراحيل الشّعبيّ ، وغيرهم .
ثانياً : استماع الصّوت والصّدى :
31 - من تتبّع أقوال الفقهاء يتبيّن أنّهم يرتّبون آثار الاستماع على استماع الصّوت ، أمّا استماع الصّدى فلم يتحدّث عنه إلاّ الحنفيّة . ويظهر أنّ الحنفيّة لا يرتّبون آثار الاستماع على استماع الصّدى ، فقد نصّوا على أنّه لا تجب سجدة التّلاوة بسماعها من الصّدى .

استمتاعٌ *
التعريف :
1 - الاستمتاع : طلب التّمتّع ، والتّمتّع الانتفاع ، يقال : استمتعت بكذا وتمتّعت به : انتفعت . ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ ، وأغلب وروده عندهم في استمتاع الرّجل بزوجته .
الحكم الإجماليّ :
2 - الاستمتاع بما أحلّه اللّه في الحالات المشروعة جائزٌ ، كالاستمتاع بالزّوجة من وطءٍ ومقدّماته إذا لم تكن هناك موانع شرعيّةٌ ، كحيضٍ ونفاسٍ وإحرامٍ وصيام فرضٍ ، فإن كانت هناك موانع شرعيّةٌ حرم الوطء . أمّا الاستمتاع بالأجنبيّة بأيّ نوعٍ من أنواع الاستمتاع كنظرٍ ، ولمسٍ ، وقبلةٍ ، ووطءٍ ، فهو محظورٌ ، يستحقّ فاعله الحدّ إن كان زنى ، والتّعزير إن كان غير ذلك كمقدّمات الوطء . ويرتّب الفقهاء على الاستمتاع بالزّوجة آثاراً كتمام المهر واستقراره والنّفقة . وتنظر تفاصيل الموضوع في ( النّكاح ) و ( المهر ) و ( النّفقة ) .
مواطن البحث :
3 - الاستمتاع بالزّوجة يرد عند الفقهاء في أبواب النّكاح ، والحيض ، والنّفاس ، ومحظورات الإحرام في الحجّ ، والصّيام ، والاعتكاف ، وتنظر في أبوابها . والاستمتاع المحرّم يرد في باب حدّ الزّنا ، وباب التّعزير ، وتنظر في أبوابها .

استمناءٌ *
التعريف :
1 - الاستمناء : مصدر استمنى ، أي طلب خروج المنيّ . واصطلاحاً : إخراج المنيّ بغير جماعٍ ، محرّماً كان ، كإخراجه بيده استدعاءً للشّهوة ، أو غير محرّمٍ كإخراجه بيد زوجته . 2 - وهو أخصّ من الإمناء والإنزال ، فقد يحصلان في غير اليقظة ودون طلبٍ ، أمّا الاستمناء فلا بدّ فيه من استدعاء المنيّ في يقظة المستمني بوسيلةٍ ما . ويكون الاستمناء من الرّجل ومن المرأة . ويقع الاستمناء ولو مع وجود الحائل . جاء في ابن عابدين : لو استمنى بكفّه بحائلٍ يمنع الحرارة يأثم أيضاً .
وفي الشّروانيّ على التّحفة : إن قصد بضمّ امرأةٍ الإنزال - ولو مع الحائل - يكون استمناءً مبطلاً للصّوم . بل صرّح الشّافعيّة والمالكيّة بأنّ الاستمناء يحصل بالنّظر . ولمّا كان الإنزال بالاستمناء يختلف أحياناً عن الإنزال بغيره كالجماع والاحتلام أفرد بالبحث .
وسائل الاستمناء :
3 - يكون الاستمناء باليد ، أو غيرها من أنواع المباشرة ، أو بالنّظر ، أو بالفكر . الاستمناء باليد :
4 - أ - الاستمناء باليد إن كان لمجرّد استدعاء الشّهوة فهو حرامٌ في الجملة ، لقوله تعالى : { والّذين هم لفروجهم حافظون ، إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنّهم غير ملومين ، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } . والعادون هم الظّالمون المتجاوزون ، فلم يبح اللّه سبحانه وتعالى الاستمتاع إلاّ بالزّوجة والأمة ، ويحرم بغير ذلك .
وفي قولٍ للحنفيّة ، والشّافعيّة ، والإمام أحمد : أنّه مكروهٌ تنزيهاً .
ب - وإن كان الاستمناء باليد لتسكين الشّهوة المفرطة الغالبة الّتي يخشى معها الزّنى فهو جائزٌ في الجملة ، بل قيل بوجوبه ، لأنّ فعله حينئذٍ يكون من قبيل المحظور الّذي تبيحه الضّرورة ، ومن قبيل ارتكاب أخفّ الضّررين . وفي قولٍ آخر للإمام أحمد : أنّه يحرم ولو خاف الزّنى ، لأنّ له في الصّوم بديلاً ، وكذلك الاحتلام مزيلٌ للشّبق . وعبارات المالكيّة تفيد الاتّجاهين : الجواز للضّرورة ، والحرمة لوجود البديل ، وهو الصّوم .
ج - وصرّح ابن عابدين من الحنفيّة بأنّه لو تعيّن الخلاص من الزّنى به وجب .
الاستمناء بالمباشرة فيما دون الفرج :
5 - الاستمناء بالمباشرة فيما دون الفرج يشمل كلّ استمتاعٍ - غير النّظر والفكر - من وطءٍ في غير الفرج ، أو تبطينٍ ، أو تفخيذٍ ، أو لمسٍ ، أو تقبيلٍ . ولا يختلف أثر الاستمناء بهذه الأشياء في العبادة عن أثرها في الاستمناء باليد عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة . ويبطل به الصّوم عند الحنفيّة ، دون كفّارةٍ . ولا يختلف أثره في الحجّ عن أثر الاستمناء باليد فيه .
الاغتسال من الاستمناء :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ الغسل يجب بالاستمناء ، إذا خرج المنيّ عن لذّةٍ ودفقٍ ، ولا عبرة باللّذّة والدّفق عند الشّافعيّة ، وهو روايةٌ عن أحمد وللمالكيّة قولٌ بذلك لكنّه خلاف المشهور . واشترط الحنفيّة لترتّب الأثر على المنيّ أن يخرج بلذّةٍ ودفقٍ ، وهو مشهور المالكيّة ، فلا يجب فيه شيءٌ ما لم تكن لذّةٌ ، والمذهب عند أحمد على هذا ، وعليه جماهير الأصحاب ، وقطع به كثيرٌ منهم . أمّا إن أحسّ بانتقال المنيّ من صلبه فأمسك ذكره ، فلم يخرج منه شيءٌ في الحال ، ولا علم خروجه بعد ذلك فلا غسل عليه عند كافّة العلماء ،« لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم علّق الاغتسال على الرّؤية ». والرّواية المشهورة عن الإمام أحمد بن حنبلٍ أنّه يجب الغسل ، لأنّه لا يتصوّر رجوع المنيّ ، ولأنّ الجنابة في حقيقتها هي : انتقال المنيّ عن محلّه وقد وجد . وأيضاً فإنّ الغسل يراعى فيه الشّهوة ، وقد حصلت بانتقاله فأشبه ما لو ظهر . فإن سكنت الشّهوة ثمّ أنزل بعد ذلك ، فإنّه يجب عليه الغسل عند أبي حنيفة ومحمّدٍ ، والشّافعيّة والحنابلة ، وأصبغ وابن الموّاز من المالكيّة . وقال أبو يوسف : لا يغتسل ، ولكن ينتقض وضوءه ، وهو قول القاسم من المالكيّة . ولتفصيل ما يتعلّق بذلك انظر مصطلح ( غسلٌ ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
اغتسال المرأة من الاستمناء :
7 - يجب الغسل على المرأة إن أنزلت بالاستمناء بأيّ وسيلةٍ حصل . والمراد بالإنزال أن يصل إلى المحلّ الّذي تغسله في الاستنجاء ، وهو ما يظهر عند جلوسها وقت قضاء الحاجة . وهذا هو ظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، وبهذا قال الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة عدا ( سندٍ ) ، فقد قال : إنّ بروز المنيّ من المرأة ليس شرطاً ، بل مجرّد الانفصال عن محلّه يوجب الغسل ، لأنّ عادة منيّ المرأة أن ينعكس إلى الرّحم .
أثر الاستمناء في الصّوم :
8 - الاستمناء باليد يبطل الصّوم عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وعامّة الحنفيّة على ذلك ، لأنّ الإيلاج من غير إنزالٍ مفطرٌ ، فالإنزال بشهوةٍ أولى . وقال أبو بكر بن الإسكاف ، وأبو القاسم من الحنفيّة : لا يبطل به الصّوم ، لعدم الجماع صورةً ومعنًى . ولا كفّارة فيه مع الإبطال عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو مقابل المعتمد عند المالكيّة ، وأحد قولي الحنابلة ، لأنّه إفطارٌ من غير جماعٍ ، ولأنّه لا نصّ في وجوب الكفّارة فيه ولا إجماع . ومعتمد المالكيّة على وجوب الكفّارة مع القضاء ، وهو روايةٌ عن أحمد ، وعموم رواية الرّافعيّ من الشّافعيّة ، والّتي حكاها عن أبي خلفٍ الطّبريّ يفيد ذلك ، فمقتضاها وجوب الكفّارة بكلّ ما يأثم بالإفطار به ، والدّليل على وجوب الكفّارة : أنّه تسبّبٌ في إنزالٍ فأشبه الإنزال بالجماع .
9 - أمّا الاستمناء بالنّظر فإنّه يبطل الصّوم عند المالكيّة ، تكرّر النّظر أم لا ، وسواءٌ أكانت عادته الإنزال أم لا ، والحنابلة معهم في الإبطال إن تكرّر النّظر . والاستمناء بالتّكرار مبطلٌ للصّوم في قولٍ للشّافعيّة أيضاً ، وقيل . إن كانت عادته الإنزال أفطر ، وفي " القوت " أنّه إذا أحسّ بانتقال المنيّ فاستدام النّظر فإنّه يفسد . وقال الحنفيّة لا يفطر به الصّائم مطلقاً ، وهو المعتمد للشّافعيّة ، ولا كفّارة فيه إلاّ عند المالكيّة ، لكنّهم اختلفوا في الحالات الّتي تجب فيها الكفّارة . إن تكرّر النّظر وكانت عادته الإنزال أو استوت حالتاه وجبت عليه الكفّارة قطعاً . وإن كانت عادته عدم الإنزال فقولان . أمّا مجرّد النّظر من غير استدامةٍ فظاهر كلام ابن القاسم في المدوّنة أنّه لا كفّارة . وقال القابسيّ : كفّر إن أمنى من نظرةٍ واحدةٍ .
10 - وأمّا الاستمناء بالتّفكير فلا يختلف حكمه عن حكم الاستمناء بالنّظر ، من حيث الإبطال والكفّارة وعدمهما عند الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة . أمّا الحنابلة ، عدا أبي حفصٍ البرمكيّ ، فقالوا بعدم الإفساد بالإنزال بالتّفكير ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « عفي لأمّتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلّم به » . وقال أبو حفصٍ البرمكيّ بالإبطال ، واختاره ابن عقيلٍ ، لأنّ الفكرة تستحضر وتدخل تحت الاختيار ، ومدح اللّه سبحانه الّذين يتفكّرون في خلق السّموات والأرض ،« ونهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن التّفكّر في ذات اللّه ، وأمر بالتّفكّر في الآلاء ». ولو كانت غير مقدورٍ عليها لم يتعلّق ذلك بها .
أثر الاستمناء في الاعتكاف :
11 - يبطل الاعتكاف بالاستمناء باليد عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة ، إلاّ أنّ من الشّافعيّة من ذكره قولاً واحداً ، ومنهم من استظهر البطلان . ولتفصيل ذلك انظر ( اعتكافٌ ) . أمّا الاستمناء بالنّظر والتّفكير فلا يبطل به الاعتكاف عند الحنفيّة والشّافعيّة ، ويبطل به عند المالكيّة ، وكذلك الحنابلة ، إذ يفهم من كلامهم بطلان الاعتكاف ، لفقدان شرط الطّهارة ممّا يوجب الغسل .
أثر الاستمناء في الحجّ والعمرة :
12 - لا يفسد الحجّ بالاستمناء باليد عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لكن يجب فيه دمٌ ، لأنّه كالمباشرة فيما دون الفرج في التّحريم والتّعزير ، فكان بمنزلتها في الجزاء . ويفسد الحجّ به عند المالكيّة ، وأوجبوا فيه القضاء والهدي ولو كان ناسياً ، لأنّه أنزل بفعلٍ محظورٍ . ولبيان نوع الدّم ووقته انظر ( إحرامٌ ) . والعمرة في ذلك كالحجّ عند الحنفيّة ، والشّافعيّة والحنابلة ، وهو ما يفهم من عموم كلام الباجيّ من المالكيّة ، لكنّ ظاهر كلام بهرامٌ وغيره أنّ ما يوجب الفساد في الحجّ في بعض الأحوال من وطءٍ وإنزالٍ يوجب الهدي في العمرة ، لأنّ أمرها أخفّ من حيث إنّها ليست فرضاً .
13 - أمّا الاستمناء بالنّظر والفكر فإنّه يفسد الحجّ عند المالكيّة ، باستدعاء المنيّ بنظرٍ أو فكرٍ مستدامين ، فإن خرج بمجرّد الفكر أو النّظر لم يفسد وعليه هديٌ وجوباً ، وسواءٌ أكان عمداً أم جهلاً أم نسياناً . ولا يفسد به الحجّ عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ولا فدية فيه عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وعند الحنابلة تجب الفدية في النّظر ، وأمّا التّفكير فانفرد بالفدية فيه منهم أبو حفصٍ البرمكيّ .
الاستمناء عن طريق الزّوجة :
14 - أغلب الفقهاء على جواز الاستمناء بالزّوجة ما لم يوجد مانعٌ ، لأنّها محلّ استمتاعه ، كما لو أنزل بتفخيذٍ أو تبطينٍ ، ولبيان المانع انظر ( حيضٌ ، نفاسٌ ، صومٌ ، اعتكافٌ ، حجٌّ ) . وقال بكراهته بعض الحنفيّة والشّافعيّة ، نقل صاحب الدّرّ عن الجوهرة : ولو مكّن امرأته من العبث بذكره فأنزل كره ولا شيء عليه ، غير أنّ ابن عابدين حملها على الكراهة التّنزيهيّة . وفي نهاية الزّين : وفي فتاوى القاضي : لو غمرت المرأة ذكر زوجها بيدها كره وإن كان بإذنه إذا أمنى ، لأنّه يشبه العزل ، والعزل مكروهٌ .
عقوبة الاستمناء :
15 - الاستمناء المحرّم يعزّر فاعله باتّفاقٍ ، لقوله تعالى : { والّذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنّهم غير ملومين } .

استمهالٌ *
التعريف :
1 - الاستمهال في اللّغة . طلب المهلة . والمهلة التّؤدة والتّأخير .
والفقهاء يستعملون " الاستمهال . بهذا المعنى الّذي استعمله به أهل اللّغة .
حكم الاستمهال :
2 - الاستمهال قد يكون مشروعاً ، وقد يكون غير مشروعٍ :
أ - الاستمهال المشروع ، وهو على أنواعٍ :
النّوع الأوّل : الاستمهال لإثبات حقٍّ ، كاستمهال المدّعي القاضي لإحضار البيّنة ، أو مراجعة الحساب ، ونحو ذلك ، وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب الدّعوى .
النّوع الثّاني : الاستمهال الوارد مورد الشّرط في العقود ، كاشتراط أحد المتبايعين ترك مهلةٍ له للتّروّي ، كما هو الحال في خيار الشّرط ، واشتراط المشتري إمهال البائع له بدفع الثّمن إلى أجلٍ معلومٍ . وقد ذكر الفقهاء ذلك في كتاب البيع .
النّوع الثّالث : الاستمهال الّذي هو من قبيل التّبرّع ، كاستمهال المدين الدّائن في وفاء الدّين . واستمهال المستعير المعير في ردّ ما استعاره منه ، وقد ذكر الفقهاء ذلك في أبوابه من كتب الفقه .
ب - الاستمهال غير المشروع :
ومنه الاستمهال في الحقوق الّتي اشترط فيها الشّارع الفوريّة ، أو المجلس ، كاستمهال أحد المتعاقدين الآخر في تسليم البدل في بيع الصّرف ، واستمهال المشتري البائع في تسليمه رأس مال السّلم ، كما هو مذكورٌ في بيع السّلم .
3 - ومن الاستمهال ما يسقط الحقّ ، كاستمهال الشّفيع المشتري لطلب الشّفعة ، كما هو مذكورٌ في باب الشّفعة من كتب الفقه ، وكاستمهال الزّوجة الصّغيرة - إذا بلغت - في الإفصاح عن اختيارها زوجها أو فراقه ، كما هو مذكورٌ في خيار البلوغ عند الحنفيّة .
مدّة المهلة الّتي تعطى في الاستمهال :
4 - مدّة المهلة إمّا محدّدةٌ من قبل الشّرع فتلتزم ، كإمهال العنّين سنةً ، كما روي ذلك عن عمر وعليٍّ . وابن مسعودٍ . وإمّا متروكةٌ للقضاء ، كمهلة المدّعي لإحضار البيّنة ، وإمهال الزّوجة لتسليم نفسها لزوجها بعد قبضها المهر بقدر ما تنظّف نفسها وتتهيّأ له . وإمّا اتّفاقيّةٌ بين الطّرفين ، كإمهال الدّائن للمدين في وفاء الدّين ، انظر مصطلح ( أجلٌ ) .
حكم إجابة المستمهل :
5 - أ - يجب الإمهال في حالات الاستمهال لإثبات حقٍّ ، والاستمهال الّذي هو من قبيل المطالبة بحقٍّ ، والاستمهال الوارد مورد الشّرط في العقود .
ب - يندب الإمهال عندما يكون الإمهال من قبيل التّبرّع .
ج - يحرم الإمهال في الحقوق الّتي اشترط فيها الشّارع الفوريّة أو المجلس ، لأنّ الإمهال فيها يؤدّي إلى إبطالها . كما ذكر ذلك الفقهاء في الأبواب الّتي أشرنا إليها عند ذكر هذه الحالات .
د - يبطل الحقّ في مثل الحالات الّتي أشرنا إليها في ( ف 3 ) .

استنابةٌ *
انظر : إنابةٌ .
استنادٌ *
التعريف :
1 - الاستناد لغةً : مصدر استند . وأصله سند . يقال : سندت إلى الشّيء ، وأسندت إليه واستندت إليه : إذا ملت إليه واعتمدت عليه . والمسند : ما استندت إليه من المتاع ، واستند إلى فلانٍ : لجأ إليه في طلب العون .
وللاستناد في الاصطلاح معانٍ ثلاثةٌ :
الأوّل : الاستناد الحسّيّ ، وهو أن يميل الإنسان على الشّيء معتمداً عليه ، والاستناد بهذا المعنى طبق المعنى اللّغويّ .
الثّاني : الاستناد إلى الشّيء بمعنى الاحتجاج به .
الثّالث : الاستناد بمعنى ثبوت الحكم بأثرٍ رجعيٍّ ، وهو بالمعنى الثّاني والثّالث يعتبر استناداً معنويّاً .
المبحث الأوّل :
الاستناد الحسّيّ :
2 - الاستناد إلى الشّيء بهذا المعنى هو الميل على الشّيء مع الاعتماد عليه . وممّا له صلةٌ بالاستناد : الاتّكاء . وقد ذكر أبو البقاء أنّ الاستناد على الشّيء الاتّكاء عليه بالظّهر خاصّةً ، قال : الاتّكاء أعمّ من الاستناد ، وهو - يعني الاتّكاء - الاعتماد على الشّيء بأيّ شيءٍ كان ، وبأيّ جانبٍ كان . والاستناد : اتّكاءٌ بالظّهر لا غير . ولم نطّلع على هذا التّقييد في شيءٍ من كتب اللّغة .
أوّلاً : أحكام الاستناد في الصّلاة :
أ - الاستناد في الصّلاة المفروضة :
3 - الاستناد إلى عمادٍ - كحائطٍ أو ساريةٍ - في صلاة الفريضة للقادر على القيام مستقلاًّ دون اعتمادٍ . للفقهاء فيه اتّجاهاتٌ ثلاثةٌ :
الاتّجاه الأوّل : يرى الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة منعه ، وهو قولٌ للشّافعيّة . قالوا : من اعتمد على عصاً أو حائطٍ ونحوه بحيث يسقط لو زال العماد ، لم تصحّ صلاته ، قالوا : لأنّ الفريضة من أركانها القيام ، ومن استند على الشّيء بحيث لو زال من تحته سقط ، لا يعتبر قائماً . أمّا إن كان لا يسقط لو زال ما استند إليه ، فهو عندهم مكروهٌ ، صرّح به الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة . قال الحلبيّ في شرح المنية : يكره اتّفاقاً - أي بين أئمّة الحنفيّة - لما فيه من إساءة الأدب وإظهار التّجبّر . وعلّل ابن أبي تغلب - من الحنابلة - للكراهة بكون الاستناد يزيل مشقّة القيام .
والاتّجاه الثّاني : قول الشّافعيّة المقدّم لديهم أنّ صلاة المستند تصحّ مع الكراهة ، قالوا : لأنّه يسمّى قائماً ولو كان بحيث لو أزيل ما اعتمد عليه لسقط .
والاتّجاه الثّالث : أنّ استناد القائم في صلاة الفرض جائزٌ . روي ذلك عن أبي سعيدٍ الخدريّ وأبي ذرٍّ رضي الله عنهما وجماعةٍ من الصّحابة والسّلف . ثمّ إنّ الصّلاة المفروضة - الّتي هذا حكم الاستناد فيها - تشمل الفرض العينيّ والكفائيّ ، كصلاة الجنازة ، وصلاة العيد عند من أوجبها . وتشمل الواجب بالنّذر على من نذر القيام فيه على ما صرّح به الدّسوقيّ ، وألحق به الحنفيّة سنّة الفجر على قولٍ لتأكّدها .
ب - الاستناد في الفرض في حال الضّرورة :
4 - يتّفق الفقهاء على أنّه إذا وجدت الضّرورة ، بحيث لا يستطيع المصلّي أن يصلّي قائماً إلاّ بالاستناد ، أنّ الاستناد جائزٌ له . ولكن هل يسقط عنه فرض القيام فيجوز له الصّلاة جالساً مع التّمكّن من القيام بالاستناد ؟ للفقهاء في هذه المسألة اتّجاهان :
الأوّل : أنّ القيام واجبٌ حينئذٍ ولا تصحّ صلاته جالساً . وهو مذهب الحنفيّة على الصّحيح عندهم ، ومذهب الحنابلة ، وقولٌ مرجوحٌ عند المالكيّة ، ذهب إليه ابن شاسٍ وابن الحاجب . قال شارح المنية من الحنفيّة : لو قدر على القيام متوكّئاً على عصاً أو خادمٍ . قال الحلوانيّ : الصّحيح أنّه يلزمه القيام متّكئاً .
الثّاني : وهو المقدّم عند المالكيّة ، ومقابل الصّحيح عند الحنفيّة ، ومقتضى مذهب الشّافعيّة - كما تقدّم - أنّ فرض القيام ساقطٌ عنه حينئذٍ ، وتجوز صلاته جالساً . قال الحطّاب نقلاً عن ابن رشدٍ : لأنّه لمّا سقط عنه القيام ، وجاز له أن يصلّي جالساً ، صار قيامه نافلةً ، فجاز أن يعتمد فيه كما يعتمد في النّافلة ، والقيام مع الاعتماد أفضل . واشترط المالكيّة لجواز الصّلاة مع الاعتماد أن يكون استناده لغير حائضٍ أو جنبٍ ، فإن صلّى مستنداً إلى واحدٍ منهما أعاد في الوقت ، أي الوقت الضّروريّ لا الاختياريّ .
ج - الاستناد في الصّلاة أثناء الجلوس :
5 - الحكم في الاستناد في الجلوس كالحكم في الاستناد في القيام تماماً ، على ما صرّح به الحنفيّة : فإذا لم يقدر على القعود مستوياً ، وقدر متّكئاً ، يجب أن يصلّي متّكئاً أو مستنداً أمّا المالكيّة فقد قال الدّردير ما معناه : المعتمد أنّ القيام مستنداً أولى من الجلوس مستقلاًّ . أمّا الجلوس مستقلاًّ فواجبٌ لا يعدل عنه إلى الجلوس مستنداً إلاّ عند العجز . وكذا لا يصار إلى الجلوس مستنداً ممّن قدر على القيام بالاستناد . ومثل ذلك الجلوس مستنداً ، فهو مقدّمٌ وجوباً على الصّلاة مضطجعاً ، ولم نجد للشّافعيّة والحنابلة ذكراً لهذه المسألة .
د - الاستناد في النّفل :
6 - قال النّوويّ : الاتّكاء في صلاة النّفل جائزٌ على العصيّ ونحوها باتّفاق العلماء إلاّ ابن سيرين فقد نقلت عنه كراهته . وقال مجاهدٌ : ينقص من أجره بقدره . وقد فصّل الحنفيّة فقالوا : أنّه مكروهٌ في التّطوّع كما هو مكروهٌ في الفرض . لكن لو افتتح التّطوّع قائماً ثمّ أعيا - أي كلّ وتعب - فلا بأس عليه أن يتوكّأ على عصاً أو حائطٍ أو نحو ذلك . وإنّما فرّق الجمهور بين الاستناد في الفرض فمنعوه ، وأجازوه في النّفل ، لأنّ النّفل تجوز صلاته من جلوس دون قيامٍ ، فكذا يجوز الاستناد فيه مع القيام .
الاستناد في غير الصّلاة :
أ - استناد النّائم المتوضّئ :
7 - ذهب الحنفيّة في ظاهر الرّواية ، والشّافعيّة ، وهو روايةٌ للحنابلة إلى أنّه إذا نام مستنداً إلى شيءٍ - بحيث لو زال لسقط - لا ينتقض وضوء المستند في الأصحّ ، وعليه عامّة المشايخ ، وهذا إذا لم تكن مقعدته زائلةً عن الأرض وإلاّ نقض اتّفاقاً . وذهب المالكيّة ، وهو غير ظاهر الرّواية عند الحنفيّة إلى أنّه ينقض الوضوء ، لأنّه يعتبر من النّوم الثّقيل ، فإن كان لا يسقط فهو من النّوم الخفيف الّذي لا ينقض . والمذهب عند الحنابلة أنّ نوم المستند قليلاً كان أو كثيراً ينقض .
ب - الاستناد إلى القبور :
8 - يكره الاستناد إلى القبور عند جمهور الفقهاء ، صرّح بذلك الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وقد ألحقوا الاستناد بالجلوس الّذي وردت الأحاديث بالنّهي عنه . قال ابن قدامة : يكره الجلوس على القبر ، والاتّكاء عليه ، والاستناد إليه ، لحديث أبي هريرة مرفوعاً : « لأن يجلس أحدكم على جمرةٍ فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خيرٌ له من أن يجلس على قبرٍ » . وقال الخطّابيّ : روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد اتّكأ على قبرٍ فقال : لا تؤذ صاحب القبر » .
وقد قيّد الشّافعيّة الكرامة بعدم الحاجة إلى الاستناد ، وبكون الاستناد إلى قبر مسلمٍ . وقواعد غيرهم لا تأبى هذا التّقييد . وأمّا المالكيّة فيرون أنّه لا كراهة في الجلوس على القبر ، ومن باب أولى الاستناد إليه . قال الدّسوقيّ : يجوز الجلوس على القبر مطلقاً . وأمّا ما ورد من حرمة الجلوس على القبر فهو محمولٌ على الجلوس لقضاء الحاجة .
المبحث الثّاني : الاستناد بمعنى الاحتجاج :
9 - يأتي الاستناد بمعنى الاحتجاج بما يقوّي القضيّة المدّعاة ، ويكون إمّا في مقام المناظرة والاستدلال والاجتهاد ، فيرجع لمعرفة أحكامه إلى أبواب الأدلّة ، وباب الاجتهاد من علم الأصول . وإمّا في دعوى أمام القضاء ، فيرجع لمعرفة أحكامه إلى مصطلح ( إثباتٌ ) .
المبحث الثّالث : الاستناد بمعنى ثبوت الحكم بأثرٍ رجعيٍّ :
10 - الاستناد بهذا المعنى : هو أن يثبت الحكم في الحال لتحقّق علّته ، ثمّ يعود الحكم القهقريّ ليثبت في الماضي تبعاً لثبوته في الحاضر . ومن أمثلته : أنّ المغصوب إذا تلف تحت يد الغاصب بفعله أو بغير فعله يضمنه بمثله أو بقيمته ، فإذا ضمنه ملكه ملكاً مستنداً إلى وقت وجود سبب الضّمان ، حتّى أنّه يملك زوائده المتّصلة الّتي وجدت من حين الغصب إلى حين الضّمان ، لأنّها نماء ملكه .
ومن أمثلته أيضاً أنّ البيع الموقوف نفاذه على إجازة من له حقّ الإجازة - كبيع الصّبيّ المميّز يقف نفاذه على إجازة وليّه - إذا أجازه نفذ نفاذاً مستنداً إلى وقت وجود العقد ، حتّى يملك المشتري زوائده المتّصلة والمنفصلة . واستعمال لفظ الاستناد بهذا المعنى هو مصطلحٌ للحنفيّة خاصّةً . والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة يستعملون بدلاً منه اصطلاح " التّبيّن " ، والمالكيّة يعبّرون أيضاً عن ذلك المعنى " بالانعطاف " . ومعنى الاستناد في الإجازة مثلاً أنّ العقد الموقوف إذا أجيز يكون للإجازة استنادٌ وانعطافٌ ، أي تأثيرٌ رجعيٌّ ، فبعد الإجازة يستفيد العاقد من ثمرات العقد منذ انعقاده ، لأنّ الإجازة لم تنشئ العقد إنشاءً بل أنفذته إنفاذاً ، أي فتحت الطّريق لآثاره الممنوعة المتوقّفة لكي تمرّ وتسري ، فتلحق تلك الآثار بالعقد المولّد لها اعتباراً من تاريخ انعقاده ، لا من تاريخ الإجازة فقط . فبعد الإجازة يعتبر الفضوليّ كوكيلٍ عن صاحب العقد قبل العقد ، وبما أنّ تصرّفات الوكيل نافذةٌ على الموكّل منذ صدورها ، يكون عقد الفضوليّ نافذاً على المجيز نفاذاً مستنداً إلى تاريخ العقد .
هذا ، ومن أجل أنّ هذا الاصطلاح خاصٌّ بالحنفيّة فسيكون كلامنا في هذا المبحث معبّراً عن مذهب الحنفيّة خاصّةً ، إلاّ في المواضع الّتي ينصّ فيها على غيرهم .
11 - وقد ذكر ابن نجيمٍ أنّ الأحكام تثبت بطرقٍ أربعٍ ، فذكر مع الاستناد الّذي سبق بيانه :
أ - الاقتصار : وهو الأصل . كما إذا أنشأ طلاقاً منجّزاً غير معلّقٍ ، فإنّ الطّلاق يقع عند هذا القول في الحال ، فيقتصر عليه ولا يكون له أثرٌ رجعيٌّ .
ب - والانقلاب : هو أن يثبت الحكم في وقتٍ لاحقٍ متأخّرٍ عن القول ، كما لو قال لزوجته : أنت طالقٌ إن دخلت الدّار ، لا يثبت به الطّلاق في الحال ، لكن إن دخلتها طلقت بدخولها . ووجه تسميته انقلاباً : أنّ ما ليس بعلّةٍ - وهو الصّيغة المعلّقة - انقلب علّةً بوجود الدّخول ، إذ أنّ قوله : أنت طالقٌ ليس بعلّةٍ للطّلاق قبل دخولها البيت ، ومتى دخلت انقلب فأصبح علّةً ، لأنّ ذلك القائل جعل للعلّيّة شرطاً وقد تحقّق .
ج - والتّبيّن أو الظّهور : وهو أن يظهر في الحال أنّ الحكم كان ثابتاً من قبل ، كما لو قال يوم الجمعة : إن كان زيدٌ في الدّار فأنت طالقٌ ، ثمّ يتبيّن يوم السّبت أنّ زيداً كان في الدّار يوم الجمعة ، فإنّ الطّلاق يقع يوم الجمعة عند قوله ذاك ، وإن لم يتبيّن أنّه وقع يوم الجمعة إلاّ في يوم السّبت . والعدّة تبتدئ يوم الجمعة .
التّفريق بين الاستناد والتّبيّن :
12 - في حالة الاستناد لم يكن الحكم ثابتاً في نفس الأمر في الماضي ، ثمّ لمّا ثبت في الحاضر رجع ثبوته القهقريّ فانسحب على المدّة السّابقة ، أمّا في التّبيّن فقد كان الحكم ثابتاً في نفس الأمر ولكن تأخّر العلم به ، ومن هنا ظهر بين الأمرين الفروق التّالية :
الأوّل : أنّ حالة التّبيّن يمكن أن يطّلع العباد فيها على الحكم . وفي الاستناد لا يمكن . ففي المثال السّابق للتّبيّن وهو قوله : إن كان زيدٌ في الدّار فأنت طالقٌ ثمّ علم كونه في الدّار بعد مدّةٍ ، فإنّ العلم بكونه في الدّار ممّا يدخل في طوق العباد ، بخلاف العلم بإجازة الوليّ لبيع الصّبيّ ، فإنّه لا يمكن العلم بإجازته قبل أن يجيز .
الثّاني : أنّ حالة التّبيّن لا يشترط فيها قيام المحلّ عند حصول تبيّن الحكم ، ولا استمرار وجوده إلى حين التّبيّن . فلو قال لزوجته : أنت طالقٌ إن كان زيدٌ في الدّار ، فحاضت ثلاث حيضٍ ثمّ طلّقها ثلاثاً ، ثمّ ظهر أنّ زيداً كان في الدّار في ذلك الوقت ، لا تقع الثّلاث ، لأنّه تبيّن وقوع الأوّل ، وأنّ إيقاع الثّلاث كان بعد انقضاء العدّة . أمّا في حالة الاستناد فلا بدّ من قيام المحلّ حال ثبوت الحكم ، وعدم انقطاع وجوده من وقت ثبوت الحكم ، عوداً إلى الوقت الّذي استند إليه ، كما في الزّكاة تجب بتمام الحول ، ويستند وجوبها إلى وقت وجود النّصاب ، فلو كان عند تمّام الحول مفقوداً ، أو انقطع أثناءه لم يثبت الوجوب في آخر الحول .
الاستناد من وجهٍ دون وجهٍ :
13 - إذا استند الملك فإنّه في الفترة ما بين التّصرّف إلى حصول الإجازة وما يقوم معها - كضمان المضمونات - ملكٌ ناقصٌ ، وليس كغيره من الملك التّامّ .
ويتفرّع على هذه المسألة فرعان :
الفرع الأوّل : لو غصب عيناً فزادت عنده زيادةً متّصلةً كالسّمن ، أو منفصلةً كالولد ، فإذا ضمن الغاصب المغصوب فيما بعد ، ملكه ملكاً مستنداً إلى وقت الغصب . أمّا الزّيادة المتّصلة كسمن الدّابّة فلا يضمنها ، لأنّها تكون قد حدثت على ملكه . وأمّا الزّيادة المنفصلة الّتي حصلت بعد الغصب وقبل الضّمان ، لو باعها أو استهلكها ، فإنّه يضمنها ، لأنّها في الأصل غير مضمونة عليه ، إذ قد حدثت عنده أمانةً في يده فلا يضمنها إلاّ بالتّعدّي أو التّفريط ، وببيعها أو استهلاكها يكون متعدّياً ، فكان غاصباً لها فيضمنها على تفصيلٍ موطنه الغصب . فظهر الاستناد من جهة الزّوائد المتّصلة ، واقتصر الملك على الحال من جهة الزّوائد المنفصلة . قال الكاسانيّ : أثبتنا الملك بطريق الاستناد ، فالمستند يظهر من وجهٍ ويقتصر على الحال من وجهٍ ، فيعمل بشبه الظّهور في الزّوائد المتّصلة ، وبشبه الاقتصار في المنفصلة ، ليكون عملاً بالشّبهين بقدر الإمكان .
الفرع الثّاني : لو استغلّ الغاصب المغصوب ، كما لو آجر الدّابّة ، فإنّه يتصدّق بالغلّة على قول أبي حنيفة ومحمّدٍ ، ولا يلزمه أن يتصدّق بالغلّة على قول أبي يوسف ، لأنّه حصل في ملكه حين أدّى ضمانه مستنداً إلى حين الغصب . وقال البابرتيّ : وإنّما قال أبو حنيفة بالتّصدّق بالغلّة لأنّها حصلت بسببٍ خبيثٍ وهو التّصرّف في ملك الغير ، وهو وإن دخل في ملكه من حين الغصب ، إلاّ أنّ الملك المستند ناقصٌ لكونه ثابتاً فيه من وجهٍ دون وجهٍ ، ولهذا يظهر في حقّ المغصوب القائم دون الفائت ، فلا ينعدم فيه الخبث .
ما نشأ عن اعتبار الإجازة مستندةً في البيع الموقوف :
14 - نشأ عن نظريّة استناد إجازة التّصرّفات الموقوفة إلى وقت الانعقاد إن اشترطوا لصحّة الإجازة قيام المجيز والمحلّ عند العقد ، بالإضافة إلى قيام العاقدين . ولذا يقول الحصكفيّ : كلّ تصرّفٍ صدر من الفضوليّ وله مجيزٌ - أي من يقدر على إمضائه حال وقوعه - انعقد موقوفاً ، وما لا مجيز له لا ينعقد أصلاً . فلو أنّ صبيّاً باع عيناً ثمّ بلغ قبل إجازة وليّه فأجازه بنفسه جاز ، لأنّ له وليّاً يجيزه حالة العقد ، بخلاف ما لو طلّق مثلاً ثمّ بلغ فأجازه بنفسه ، لأنّه وقت قيام التّصرّف لا مجيز له - أي لأنّ وليّه لا يملك إجازة الطّلاق - فيبطل ، إلاّ أن يوقع الطّلاق حينئذٍ ، كأن يقول بعد البلوغ : أوقعت ذلك الطّلاق .
ما يدخله الاستناد :
15 - يدخل الاستناد في تصرّفات شرعيّةٍ كثيرةٍ : منها في العبادة كما ذكر ابن نجيمٍ في الأشباه : أنّ الزّكاة تجب بتمام الحول مستنداً إلى أوّل وجود النّصاب .
وكطهارة المستحاضة تنتقض عند خروج الوقت مستنداً إلى وقت الحدث ، لا إلى خروج الوقت ، وكطهارة المتيمّم ، تنتقض عند رؤية الماء مستنداً إلى وقت الحدث لا إلى رؤية الماء ، فلو لبست المستحاضة الخفّ مع السّيلان أو بعده لم تمسح عليه ، ولو لبس المتيمّم الخفّ بعد تيمّمه لا يجوز له المسح عليه . ووضّح ذلك الكرلانيّ من الحنفيّة بالنّسبة للمستحاضة بأنّ الثّابت بالاستناد ثابتٌ من وجهٍ دون وجهٍ ، لأنّه بين الظّهور والاقتصار ، لأنّ انتقاض الوضوء حكم الحدث ، والحدث وجد في تلك الحالة ، فهذا يقتضي صيرورتها محدثةً معلّقةً بخروج الوقت ، وخروج الوقت وجد الآن ، فهذا يقتضي صيرورتها محدثةً في الحال ، فجعلناه ظهوراً من وجهٍ اقتصاراً من وجهٍ ، ولو كان ظهوراً من كلّ وجهٍ لا يجوز المسح ، ولو كان اقتصاراً من كلّ وجهٍ لجاز المسح ، فقلنا لا يجوز المسح أخذاً بالاحتياط .
16 - ويكون الاستناد أيضاً في البيوع الموقوف نفاذها على الإجازة كما تقدّم . ومن البيوع الموقوفة بيع المكره والمرتدّ ، وما صدر من مالكٍ غير أهلٍ لتولّي طرفي العقد ، كالصّبيّ المميّز والسّفيه المحجور عليه ، وبيع المحجور عليه لحقّ الدّائنين ، وما صدر ممّن ليس له ولايةٌ شرعيّةٌ كالفضوليّ . وكذا لو باع المالك ما تعلّق به حقّ الغير كالمرهون .
ويدخل الاستناد أيضاً سائر العقود والإسقاطات والتّصرّفات الّتي تتوقّف على الإجازة ، فمثلاً كلّ تصرّفٍ صدر من الفضوليّ تمليكاً كتزويجٍ ، أو إسقاطاً كطلاقٍ وإعتاقٍ ، ينعقد موقوفاً على الإجازة ويستند . والقاعدة في ذلك أنّ " الإجازة اللاّحقة كالوكالة السّابقة " ( ر : إجازةٌ ) . وكذا العقود الّتي فيها الخيار للطّرفين ، أو لأحدهما إذا أجازها من له الخيار فلزمت ، فإنّها تلزم لزوماً مستنداً إلى وقت الانعقاد ، لأنّها موقوفةٌ على قولٍ ، والمضمونات تملك بأداء الضّمان ملكاً مستنداً إلى وقت سبب الضّمان .
ويكون الاستناد أيضاً في الوصيّة إذا قبل الموصى له المعيّن ما أوصى له به ، عند من يثبت الملك فيه من حين موت الموصي ، وهو القول الأصحّ للشّافعيّة ، وهو وجهٌ مرجوحٌ عند الحنابلة ، وعليه فيطالب الموصى له بثمرة الموصى به ، وتلزمه نفقته وفطرته وغيرهما من حين موت الموصي .
وممّا يدخله الاستناد : الوصيّة لأجنبيٍّ بأكثر من الثّلث ، أو لوارثٍ ، وتبرّعات المريض في مرض الموت ، إذ يتوقّف ذلك على إجازة الورثة ، ويستند إلى وقت وفاة الموصي عند بعض الفقهاء .
 
أعلى