الموسوعة الفقهية

طباعة الموضوع

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الاستناد في الفسخ والانفساخ :
17 - مذهب الحنفيّة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة أنّ الفسخ لا يرفع العقد من أصله ، وإنّما في فسخٍ فيما يستقبل من الزّمان دون الماضي على ما نقل شيخ الإسلام خواهر زاده . وعند الشّافعيّة في القول المرجوح ، وهو أحد وجهين للحنابلة يستند الفسخ إلى وقت العقد .

استنباطٌ *
التعريف :
1 - الاستنباط لغةً : استفعالٌ من أنبط الماء إنباطاً بمعنى استخرجه . وكلّ ما أظهر بعد خفاءٍ فقد أنبط واستنبط . واستنبط الفقيه الحكم : استخرجه باجتهاده . قال اللّه تعالى : { ولو ردّوه إلى الرّسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الّذين يستنبطونه منهم } واستنبطه واستنبط منه علماً وخيراً ومالاً : استخرجه . وهو مجازٌ .
ويستخلص من استعمال الفقهاء والأصوليّين تعريف الاستنباط بأنّه : استخراج الحكم أو العلّة إذا لم يكونا منصوصين ولا مجمعاً عليهما بنوعٍ من الاجتهاد . فيستخرج الحكم بالقياس ، أو الاستدلال ، أو الاستحسان ، أو نحوها ، وتستخرج العلّة بالتّقسيم والسّبر ، أو المناسبة ، أو غيرها ممّا يعرف بمسالك العلّة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاجتهاد :
2 - هو بذل الطّاقة من الفقيه في تحصيل حكمٍ شرعيٍّ ظنّيٍّ ، فالفرق بينه وبين الاستنباط أنّه أعمّ من الاستنباط ، لأنّ الاجتهاد كما يكون في استخراج الحكم أو العلّة ، يكون في دلالات النّصوص والتّرجيح عند التّعارض .
ب - التّخريج :
3 - يستعمل هذا التّعبير كلٌّ من الفقهاء والأصوليّين ، وهو نوعٌ من الاستنباط ، ومعناه عندهم : استخراج الحكم بالتّفريع على نصّ الإمام في صورةٍ مشابهةٍ ، أو على أصول إمام المذهب كالقواعد الكلّيّة الّتي يأخذ بها ، أو الشّرع ، أو العقل ، من غير أن يكون الحكم منصوصاً عليه من الإمام . ومن أمثلته : التّفريع على قاعدة عدم التّكليف بما لا يطاق . هذا حاصل ما ذكره ابن بدران من الحنابلة . وقال السّقّاف من الشّافعيّة ما حاصله : إنّ التّخريج أن ينقل فقهاء المذهب الحكم من نصّ إمامهم في صورةٍ إلى صورةٍ مشابهةٍ .
وقد يكون للإمام نصٌّ في الصّورة المنقول إليها مخالفٌ للحكم المنقول ، فيكون له في هذه الصّورة قولان ، قولٌ منصوصٌ وقولٌ مخرّجٌ . وتخريج المناط عند الأصوليّين معناه : إظهار ما علّق عليه الحكم ، أي إظهار العلّة .
ج - البحث :
4 - قال ابن حجرٍ الهيتميّ : البحث ما يفهم فهماً واضحاً من الكلام العامّ للأصحاب ، المنقول عن صاحب المذهب بنقلٍ عامٍّ . وقال السّقّاف : البحث هو الّذي استنبطه الباحث من نصوص الإمام وقواعده الكلّيّة .
مواطن البحث :
يرجع لمعرفة مسائل الاستنباط إلى ( الاجتهاد ) ( والقياس - مسالك العلّة ) والملحق الأصوليّ .
استنتار *
انظر : استبراءٌ .
استنثارٌ *
التعريف :
1 - الاستنثار : هو نثر ما في الأنف من مخاطٍ وغيره بالنّفس ، واستنثر الإنسان : استنشق الماء ، ثمّ استخرج ذلك بنفس الأنف . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ .
الحكم الإجماليّ :
2 - الاستنثار سنّةٌ في الطّهارة ، لما ورد في صفة وضوء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه « تمضمض واستنشق واستنثر » . وللفقهاء تفصيلٌ في كيفيّته .
مواطن البحث :
3 - تنظر أحكام الاستنثار وكيفيّته تحت مصطلح ( وضوءٌ ) ( وغسلٌ ) .

استنجاءٌ *
التعريف :
1 - من معاني الاستنجاء : الخلاص من الشّيء ، يقال : استنجى حاجته منه ، أي خلّصها . والنّجوة ما ارتفع من الأرض فلم يعلها السّيل ، فظننتها نجاءك .
وأنجيت الشّجرة واستنجيتها : قطعتها من أصلها . ومأخذ الاستنجاء في الطّهارة ،
قال شمرٌ : أراه من الاستنجاء بمعنى القطع ، لقطعه العذرة بالماء ، وقال ابن قتيبة : مأخوذٌ من النّجوة وهي ما ارتفع من الأرض ، لأنّه إذا أراد قضاء الحاجة استتر بها .
وقد اختلفت عبارات الفقهاء في تعريف الاستنجاء اصطلاحاً ، وكلّها تلتقي على أنّ الاستنجاء إزالة ما يخرج من السّبيلين ، سواءٌ بالغسل أو المسح بالحجارة ونحوها عن موضع الخروج وما قرب منه . وليس غسل النّجاسة عن البدن أو عن الثّوب استنجاءً .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستطابة :
2 - الاستطابة هي بمعنى الاستنجاء ، تشمل استعمال الماء والحجارة . وفي قولٍ عند الشّافعيّة أنّها خاصّةٌ باستعمال الماء ، فتكون حينئذٍ أخصّ من الاستنجاء . وأصلها من الطّيب ، لأنّها تطيّب المحلّ بإزالة ما فيه من الأذى ، ولذا يقال فيها أيضاً الإطابة .
ب - الاستجمار :
3 - الجمار : الحجارة ، جمع جمرةٍ وهي الحصاة . ومعنى الاستجمار : استعمال الحجارة ونحوها في إزالة ما على السّبيلين من النّجاسة .
ج - الاستبراء :
4 - الاستبراء لغةً طلب : البراءة ، وفي الاصطلاح : طلب البراءة من الخارج بما تعارفه الإنسان من مشيٍ أو تنحنحٍ أو غيرهما إلى أن تنقطع المادّة ، فهو خارجٌ عن ماهيّة الاستنجاء ، لأنّه مقدّمةٌ له .
د - الاستنقاء :
5 - الاستنقاء : طلب النّقاوة ، وهو أن يدلك المقعدة بالأحجار ، أو بالأصابع حالة الاستنجاء بالماء حتّى ينقّيها ، فهو أخصّ من الاستنجاء ، ومثله الإنقاء . قال ابن قدامة : هو أن تذهب لزوجة النّجاسة وآثارها .
حكم الاستنجاء :
6 - في حكم الاستنجاء - من حيث الجملة - رأيان للفقهاء :
الأوّل : أنّه واجبٌ إذا وجد سببه ، وهو الخارج ، وهو قول المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجارٍ ، يستطيب بهنّ ، فإنّها تجزي عنه » وقوله : « لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجارٍ » رواه مسلمٌ وفي لفظٍ له : « لقد نهانا أن نستنجي بدون ثلاثة أحجارٍ » ، قالوا : والحديث الأوّل أمرٌ ، والأمر يقتضي الوجوب . وقال : « فإنّها تجزي عنه » والإجزاء إنّما يستعمل في الواجب ، ونهى عن الاقتصار على أقلّ من ثلاثةٍ ، والنّهي يقتضي التّحريم ، وإذا حرّم ترك بعض النّجاسة فجميعها أولى .
7 - الرّأي الثّاني : أنّه مسنونٌ وليس بواجبٍ . وهو قول الحنفيّة ، وروايةٌ عن مالكٍ . ففي منية المصلّي : الاستنجاء مطلقاً سنّةٌ لا على سبيل التّعيين من كونه بالحجر أو بالماء ، وهو قول المزنيّ من أصحاب الشّافعيّ . ونقل صاحب المغني من قول ابن سيرين فيمن صلّى بقومٍ ولم يستنج ، قال : لا أعلم به بأساً . قال الموفّق : يحتمل أنّه لم ير وجوب الاستنجاء . واحتجّ الحنفيّة بما في سنن أبي داود من قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « من استجمر فليوتر ، من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج » قال في مجمع الأنهر : لأنّه لو كان واجباً لما انتفى الحرج عن تاركه . واحتجّوا أيضاً بأنّه نجاسةٌ قليلةٌ ، والنّجاسة القليلة عفوٌ .
وفي السّراج الوهّاج للحنفيّة : الاستنجاء خمسة أنواعٍ . أربعةٌ فريضةٌ : من الحيض والنّفاس والجنابة ، وإذا تجاوزت النّجاسة مخرجها .
وواحدٌ سنّةٌ ، وهو ما إذا كانت النّجاسة قدر المخرج . وقد رفض ابن نجيمٍ هذا التّقسيم ، وقرّر أنّ الثّلاثة هي من باب إزالة الحدث ، والرّابع من باب إزالة النّجاسة العينيّة عن البدن ، وليس ذلك من باب الاستنجاء ، فلم يبق إلاّ القسم المسنون . وأقرّ ابن عابدين التّقرير . وقال القرافيّ بعد أن ذكر أنّ من ترك الاستنجاء وصلّى بالنّجاسة أعاد ، قال : ولمالكٍ رحمه الله في العتبية : لا إعادة عليه ، ثمّ ذكر الحديث المتقدّم : « من استجمر فليوتر ، من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج » وقال : الوتر يتناول المرّة الواحدة ، فإذا نفاها لم يبق شيءٌ ، ولأنّه محلٌّ تعمّ به البلوى فيعفى عنه ، وهذا يقتضي أنّ عند مالكٍ قولاً بعدم الوجوب . ثمّ هو عند الحنفيّة سنّةٌ مؤكّدةٌ لمواظبته صلى الله عليه وسلم . وبنى ابن عابدين على ذلك كراهة تركه ، ونقله أيضاً عن البدائع . ونقل عن الخلاصة والحلية نفي الكراهة ، بناءً على أنّه مستحبٌّ لا سنّةٌ ، بخلاف النّجاسة المعفوّ عنها في غير موضع الحدث فتركها يكره .
وقت وجوب الاستنجاء عند القائلين بوجوبه :
8 - إنّ وجوب الاستنجاء إنّما هو لصحّة الصّلاة . ولذا قال الشبراملسي من الشّافعيّة : لا يجب الاستنجاء على الفور ، بل عند القيام إلى الصّلاة حقيقةً أو حكماً ، بأن دخل وقت الصّلاة وإن لم يرد فعلها في أوّله . فإذا دخل وقت الصّلاة وجب وجوباً موسّعاً بسعة الوقت ، ومضيّقاً بضيقه . ثمّ قال : نعم ، إن قضى حاجته في الوقت ، وعلم أنّه لا يجد الماء في الوقت ، وجب استعمال الحجر فوراً .
علاقة الاستنجاء بالوضوء ، والتّرتيب بينهما :
9 - الاستنجاء من سنن الوضوء قبله عند الحنفيّة والشّافعيّة ، والرّواية المعتمدة للحنابلة ، فلو أخّره عنه جاز وفاتته السّنّيّة ، لأنّه إزالة نجاسةٍ ، فلم تشترط لصحّة الطّهارة ، كما لو كانت على غير الفرج . وصرّح المالكيّة بأنّه لا يعدّ من سنن الوضوء ، وإن استحبّوا تقديمه عليه . أمّا الرّواية الأخرى عند الحنابلة : فالاستنجاء قبل الوضوء - إذا وجد سببه - شرطٌ في صحّة الصّلاة . فلو توضّأ قبل الاستنجاء لم يصحّ ، وعلى هذه الرّواية اقتصر صاحب كشّاف القناع . قال الشّافعيّة : وهذا في حقّ السّليم ، أمّا في حقّ صاحب الضّرورة - يعنون صاحب السّلس ونحوه - فيجب تقديم الاستنجاء على الوضوء .
وعلى هذا ، فإذا توضّأ السّليم قبل الاستنجاء ، يستجمر بعد ذلك بالأحجار ، أو يغسله بحائلٍ بينه وبين يديه ، ولا يمسّ الفرج . وقواعد المذاهب الأخرى لا تأبى ذلك التّفصيل .
علاقة الاستنجاء بالتّيمّم ، والتّرتيب بينهما :
10 - للفقهاء في ذلك اتّجاهان :
الاتّجاه الأوّل : أنّه يجب تقديم الاستجمار على التّيمّم ، وهذا رأي الشّافعيّة ، وهو أحد احتمالين عند المالكيّة ، وقولٌ عند الحنابلة . وعلّل القرافيّ ذلك بأنّ التّيمّم لا بدّ أن يتّصل بالصّلاة ، فإذا تيمّم ثمّ استنجى فقد فرّقه بإزالة النّجو . وعلّل القاضي أبو يعلى ذلك بأنّ التّيمّم لا يرفع الحدث ، وإنّما تستباح به الصّلاة ، ومن عليه نجاسةٌ يمكنه إزالتها لا تباح له الصّلاة ، فلم تصحّ نيّة الاستباحة ، كما لو تيمّم قبل الوقت .
والاتّجاه الثّاني : أنّ التّرتيب هنا لا يجب ، وهو الاحتمال الثّاني عند المالكيّة ، والقول الآخر للحنابلة . قال القرافيّ : كما لو تيمّم ثمّ وطئ نعله على روثٍ ، فإنّه يمسحه ويصلّي . وقال القاضي أبو يعلى : لأنّه طهارةٌ فأشبهت الوضوء ، والمنع من الإباحة لمانعٍ آخر لا يقدح في صحّة التّيمّم ، كما لو تيمّم في موضعٍ نهي عن الصّلاة فيه ، أو تيمّم وعلى ثوبه نجاسةٌ . وقيل عند الحنابلة : لا يصحّ تأخيره عن التّيمّم قولاً واحداً .
حكم استنجاء من به حدثٌ دائمٌ :
11 - من كان به حدثٌ دائمٌ ، كمن به سلس بولٍ ونحوه ، يخفّف في شأنه حكم الاستنجاء ، كما يخفّف حكم الوضوء .
ففي قول الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : يستنجي ويتحفّظ ، ثمّ يتوضّأ لكلّ صلاةٍ بعد دخول الوقت . فإذا فعل ذلك وخرج منه شيءٌ لم يلزمه إعادة الاستنجاء والوضوء بسبب السّلس ونحوه ، ما لم يخرج الوقت على مذهب الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو أحد قولي الحنابلة . أو إلى أن يدخل وقت الصّلاة الأخرى على المعتمد من قولي الحنابلة . وأمّا على قول المالكيّة : فلا يلزم من به السّلس التّوضّؤ منه لكلّ صلاةٍ ، بل يستحبّ ذلك ما لم يشقّ ، فعندهم أنّ ما يخرج من الحدث إذا كان مستنكحاً - أي كثيراً يلازم كلّ الزّمن أو جلّه ، بأن يأتي كلّ يومٍ مرّةً فأكثر - فإنّه يعفى عنه ، ولا يلزمه غسل ما أصاب منه ولا يسنّ ، وإن نقض الوضوء وأبطل الصّلاة في بعض الأحوال ، وسواءٌ أكان غائطاً ، أم بولاً ، أم مذياً ، أم غير ذلك .
ما يستنجى منه :
12 - أجمع الفقهاء على أنّ الخارج من السّبيلين المعتاد النّجس الملوّث يستنجى منه حسبما تقدّم . أمّا ما عداه ففيه خلافٌ ، وتفصيلٌ بيانه فيما يلي :
الخارج غير المعتاد :
13 - الخارج غير المعتاد كالحصى والدّود والشّعر ، لا يستنجى منه إذا خرج جافّاً ، طاهراً كان أو نجساً .
أمّا إذا كان به بلّةٌ ولوّث المحلّ فيستنجى منها ، فإن لم يلوّث المحلّ فلا يستنجى منه عند الحنفيّة والمالكيّة ، وهو القول المقدّم عند كلٍّ من الشّافعيّة والحنابلة . والقول الآخر عند كلٍّ من الشّافعيّة والحنابلة : يستنجى من كلّ ما خرج من السّبيلين غير الرّيح .
ذالدّم والقيح وشبههما من غير المعتاد :
14 - إن خرج الدّم أو القيح من أحد السّبيلين ففيه قولان للفقهاء :
الأوّل : أنّه لا بدّ من غسله كسائر النّجاسات ، ولا يكفي فيه الاستجمار . وهذا قولٌ عند كلٍّ من المالكيّة والشّافعيّة ، لأنّ الأصل في النّجاسة الغسل ، وترك ذلك في البول والغائط للضّرورة ، ولا ضرورة هنا ، لندرة هذا النّوع من الخارج . واحتجّ أصحاب هذا القول أيضاً بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أمر بغسل الذّكر من المذي » والأمر يقتضي الوجوب . قال ابن عبد البرّ : استدلّوا بأنّ الآثار كلّها على اختلاف ألفاظها وأسانيدها ليس فيها ذكر الاستجمار ، إنّما هو الغسل . كالأمر بالغسل من المذي في حديث عليٍّ .
والقول الثّاني : أنّه يجزئ فيه الاستجمار ، وهو رأي الحنفيّة والحنابلة ، وقولٌ لكلٍّ من المالكيّة والشّافعيّة ، وهذا إن لم يختلط ببولٍ أو غائطٍ .
وحجّة هذا القول ، أنّه وإن لم يشقّ فيه الغسل لعدم تكرّره ، فهو مظنّة المشقّة . وأمّا المذي فمعتادٌ كثيرٌ ، ويجب غسل الذّكر منه تعبّداً ، وقيل : لا يجب .
ما خرج من مخرجٍ بديلٍ عن السّبيلين :
15 - إذا انفتح مخرجٌ للحدث ، وصار معتاداً ، استجمر منه عند المالكيّة ، ولا يلحق بالجسد ، لأنّه أصبح معتاداً بالنّسبة إلى ذلك الشّخص المعيّن . وعند الحنابلة : إذا انسدّ المخرج المعتاد وانفتح آخر ، لم يجزئه الاستجمار فيه ، ولا بدّ من غسله ، لأنّه غير السّبيل المعتاد . وفي قولٍ لهم : يجزئ . ولم يعثر على قول الحنفيّة والشّافعيّة في هذه المسألة .
المذي :
16 - المذي نجسٌ عند الحنفيّة ، فهو ممّا يستنجى منه كغيره ، بالماء أو بالأحجار . ويجزئ الاستجمار أو الاستنجاء بالماء منه . وكذلك عند المالكيّة في قولٍ هو خلاف المشهور عندهم ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ، وروايةٌ عند الحنابلة . أمّا في المشهور عند المالكيّة ، وهي الرّواية الأخرى عند الحنابلة ، فيتعيّن فيه الماء ولا يجزئ الحجر ، لما روي أنّ عليّاً رضي الله عنه قال : « كنت رجلاً مذّاءً ، فاستحيت أن أسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته ، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله ، فقال : يغسل ذكره وأنثييه ويتوضّأ » . وفي لفظٍ « يغسل ذكره ويتوضّأ » . وإنّما يتعيّن فيه الغسل عند المالكيّة إذا خرج بلذّةٍ معتادةٍ ، أمّا إن خرج بلا لذّةٍ أصلاً فإنّه يكفي فيه الحجر ، ما لم يكن يأتي كلّ يومٍ على وجه السّلس ، فلا يطلب في إزالته ماءٌ ولا حجرٌ ، بل يعفى عنه .
الودي :
17 - الودي خارجٌ نجسٌ ، ويجزي فيه الاستنجاء بالماء أو بالأحجار عند فقهاء المذاهب الأربعة .
الرّيح :
18 - لا استنجاء من الرّيح . صرّح بذلك فقهاء المذاهب الأربعة . فقال الحنفيّة : هو بدعةٌ ، وهذا يقتضي أنّه عندهم محرّمٌ ، ومثله ما قاله القليوبيّ من الشّافعيّة ، بل يحرم ، لأنّه عبادةٌ فاسدةٌ . ويكره عند المالكيّة والشّافعيّة . قال الدّسوقيّ : لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ليس منّا من استنجى من ريحٍ » والنّهي للكراهة . وقال صاحب نهاية المحتاج من الشّافعيّة : لا يجب ولا يستحبّ الاستنجاء من الرّيح ولو كان المحلّ رطباً . وقال ابن حجرٍ المكّيّ : يكره من الرّيح إلاّ إن خرجت والمحلّ رطبٌ . والّذي عبّر به الحنابلة : أنّه لا يجب منها ، ومقتضى استدلالهم الآتي الكراهة على الأقلّ . قال صاحب المغني : للحديث « من استنجى من ريحٍ فليس منّا » رواه الطّبرانيّ في معجمه الصّغير .
وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم } . الآية إذا قمتم من النّوم . ولم يأمر بغيره ، يعني فلو كان واجباً لأمر به ، لأنّ النّوم مظنّة خروج الرّيح ، فدلّ على أنّه لا يجب ، ولأنّ الوجوب من الشّرع ، ولم يرد بالاستنجاء هاهنا نصٌّ ، ولا هو في معنى المنصوص عليه ، لأنّ الاستنجاء شرع لإزالة النّجاسة ، ولا نجاسة هاهنا .
الاستنجاء بالماء :
19 - يستحبّ باتّفاق المذاهب الأربعة الاستنجاء بالماء . وقد ورد عن بعض الصّحابة والتّابعين إنكار الاستنجاء به ، ولعلّ ذلك لأنّه مطعومٌ .
والحجّة لإجزاء استعمال الماء ما روى أنس بن مالكٍ قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء ، فأحمل أنا وغلامٌ نحوي إداوةً من ماءٍ وعنزةً ، فيستنجي بالماء » متّفقٌ عليه . وعن « عائشة أنّها قالت : مرن أزواجكنّ أن يستطيبوا بالماء فإنّي أستحييهم ، وإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يفعله » . وقد حمل المالكيّة ما ورد عن السّلف من إنكار استعمال الماء بأنّه في حقّ من أوجب استعمال الماء . وحمل صاحب كفاية الطّالب ما ورد عن سعيد بن المسيّب من قوله : وهل يفعل ذلك إلاّ النّساء ؟ على أنّه من واجبهنّ .
الاستنجاء بغير الماء من المائعات :
20 - لا يجزئ الاستنجاء بغير الماء من المائعات على قول الجمهور : المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو روايةٌ عن محمّد بن الحسن تعدّ ضعيفةً في المذهب . قال المالكيّة : بل يحرم الاستنجاء بمائعٍ غير الماء لنشره النّجاسة . وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنّه يمكن أن يتمّ الاستنجاء - كما في إزالة النّجاسة - بكلّ مائعٍ طاهرٍ مزيلٍ ، كالخلّ وماء الورد ، دون ما لا يزيل كالزّيت ، لأنّ المقصود قد تحقّق ، وهو إزالة النّجاسة . ثمّ قد قال ابن عابدين : يكره الاستنجاء بمائعٍ غير الماء ، لما فيه من إضاعة المال بلا ضرورةٍ .
أفضليّة الغسل بالماء على الاستجمار :
21 - إنّ غسل المحلّ بالماء أفضل من الاستجمار ، لأنّه أبلغ في الإنقاء ، ولإزالته عين النّجاسة وأثرها . وفي روايةٍ عن أحمد : الأحجار أفضل ، ذكرها صاحب الفروع . وإذا جمع بينهما بأن استجمر ثمّ غسل كان أفضل من الكلّ بالاتّفاق . وبيّن النّوويّ وجه الأفضليّة بقوله : تقديم الأحجار لتقلّ مباشرة النّجاسة واستعمال الماء ، فلو استعمل الماء أوّلاً لم يستعمل الحجارة بعده ، لأنّه لا فائدة فيه . وعند الحنابلة التّرتيب بتقديم الاستجمار على الغسل مستحبٌّ ، وإن قدّم الماء وأتبعا الحجارة كره ، لقول عائشة : « مرن أزواجكنّ أن يتبعوا الحجارة الماء فإنّي أستحييهم ، وإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يفعله » . وعند الحنفيّة قيل : الغسل بالماء سنّةٌ ، وقيل : الجمع سنّةٌ في زماننا . وقيل : سنّةٌ على الإطلاق ، وهو الصّحيح وعليه الفتوى كما في البحر الرّائق . هذا وقد احتجّ الخرشيّ وغيره على أفضليّة الجمع بين الماء والحجر بأنّ أهل قباء كانوا يجمعون بينهما ، فمدحهم اللّه تعالى بقوله : { إنّ اللّه يحبّ التّوّابين ويحبّ المتطهّرين } وحقّق النّوويّ أنّ الرّواية الصّحيحة في ذلك ليس فيها أنّهم كانوا يجمعون بينهما ، وإنّما فيها أنّهم يستنجون بالماء .
ما يستجمر به :
22 - الاستجمار يكون بكلّ جامدٍ إلاّ ما منع منه وسيأتي تفصيله ، وهذا قول جمهور العلماء ، ومنهم الإمام أحمد في الرّواية المعتمدة عنه ، وهو الصّحيح من مذهب الحنابلة . وفي روايةٍ عن أحمد اختارها أبو بكرٍ : لا يجزئ في الاستجمار شيءٌ من الجوامد من خشبٍ وخرقٍ إلاّ الأحجار ،« لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالأحجار »، وأمره يقتضي الوجوب ، ولأنّه موضع رخصةٍ ورد فيها الشّرع بآلةٍ مخصوصةٍ ، فوجب الاقتصار عليها ، كالتّراب في التّيمّم . والدّليل لقول الجمهور : ما روى أبو داود عن خزيمة قال : « سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة فقال : بثلاثة أحجارٍ ليس فيها رجيعٌ » فلولا أنّه أراد الحجر وما في معناه لم يستثن الرّجيع ، لأنّه لا يحتاج لذكره ، ولم يكن لتخصيص الرّجيع بالذّكر معنًى . وعن سلمان قال «: قيل له : قد علّمكم نبيّكم كلّ شيءٍ حتّى الخراء قال : فقال : أجل ، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائطٍ أو بولٍ ، أو أن نستنجي باليمين . أو أن نستنجي بأقلّ من ثلاثة أحجارٍ ، أو أن نستنجي برجيعٍ أو عظمٍ » 0 وفارق التّيمّم ، لأنّ القصد هنا إزالة النّجاسة ، وهي تحصل بغير الأحجار ، أمّا التّيمّم فهو غير معقول المعنى .
الاستجمار هل هو مطهّرٌ للمحلّ ؟
23 - اختلف الفقهاء في هذا على قولين :
الأوّل : أنّ المحلّ يصير طاهراً بالاستجمار ، وهو قولٌ عند كلٍّ من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . قال ابن الهمام : والّذي يدلّ على اعتبار الشّرع طهارته أنّه صلى الله عليه وسلم « نهى أن يستنجى بروثٍ أو عظمٍ ، وقال : إنّهما لا يطهّران » فعلم أنّ ما أطلق الاستنجاء به يطهّر ، إذ لو لم يطهّر لم يطلق الاستنجاء به لهذه العلّة . وكذلك قال الدّسوقيّ المالكيّ : يكون المحلّ طاهراً لرفع الحكم والعين عنه .
والقول الثّاني : وهو القول الآخر لكلٍّ من الحنفيّة والمالكيّة ، وقول المتأخّرين من الحنابلة : أنّ المحلّ يكون نجساً معفوّاً عنه للمشقّة . قال ابن نجيمٍ : ظاهر ما في الزّيلعيّ أنّ المحلّ لا يطهر بالحجر . وفي كشّاف القناع للحنابلة : أثر الاستجمار نجسٌ يعفى عن يسيره في محلّه للمشقّة . وفي المغني : وعليه لو عرق كان عرقه نجساً .
24 - وجمهور الفقهاء على أنّ الرّطوبة إذا أصابت المحلّ بعد الاستجمار يعفى عنها .
قال ابن نجيمٍ من الحنفيّة : بناءً على القول بأنّ المحلّ بعد الاستجمار نجسٌ معفوٌّ عنه ، يتفرّع عليه أنّه يتنجّس السّبيل بإصابة الماء . وفيه الخلاف المعروف في مسألة الأرض إذا جفّت بعد التّنجّس ثمّ أصابها الماء ، وقد اختاروا في الجميع عدم عود النّجاسة ، فليكن كذلك هنا . ثمّ نقل عن ابن الهمام قوله : أجمع المتأخّرون - أي من الحنفيّة - على أنّه لا ينجس المحلّ بالعرق ، حتّى لو سال العرق منه ، وأصاب الثّوب والبدن أكثر من قدر الدّرهم لا يمنع ( أي لا يمنع صحّة الصّلاة ) .
ونقل القرافيّ عن صاحب الطّراز وابن رشدٍ : يعفى عنه لعموم البلوى . قال : وقد عفي عن ذيل المرأة تصيبه النّجاسة ، مع إمكان شيله ، فهذا أولى ، ولأنّ الصّحابة رضي الله عنهم كانوا يستجمرون ويعرقون . والقول الآخر : قاله الشّافعيّة ، وابن القصّار من المالكيّة : لا ينجس إن لم تتعدّ الرّطوبة محلّ الاستجمار ، وينجس إن تعدّت النّجاسة محلّ العفوّ .
المواضع الّتي لا يجزئ فيها الاستجمار :
أ - النّجاسة الواردة على المخرج من خارجه :
25 - إن كان النّجس طارئاً على المحلّ من خارجٍ أجزأ فيه الاستجمار في المشهور عند الحنفيّة . وصرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّ الحجر لا يجزئ فيه ، بل لا بدّ من غسله بالماء . وهو قولٌ آخر للحنفيّة . ومثله عند الشّافعيّة ، ما لو طرأ على المحلّ المتنجّس بالخارج طاهرٌ رطبٌ ، أو يختلط بالخارج كالتّراب . ومثله ما لو استجمر بحجرٍ مبتلٍّ ، لأنّ بلل الحجر يتنجّس بنجاسة المحلّ ثمّ ينجّسه . وكذا لو انتقلت النّجاسة عن المحلّ الّذي أصابته عند الخروج ، فلا بدّ عندهم من غسل المحلّ في كلّ تلك الصّور .
ب - ما انتشر من النّجاسة وجاوز المخرج :
26 - اتّفقت المذاهب الأربعة على أنّ الخارج إن جاوز المخرج وانتشر كثيراً لا يجزئ فيه الاستجمار ، بل لا بدّ من غسله . ووجه ذلك أنّ الاستجمار رخصةٌ لعموم البلوى ، فتختصّ بما تعمّ به البلوى ، ويبقى الزّائد على الأصل في إزالة النّجاسة بالغسل . لكنّهم اختلفوا في تحديد الكثير ، فذهب المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة إلى أنّ الكثير من الغائط هو ما جاوز المخرج ، وانتهى إلى الألية ، والكثير من البول ما عمّ الحشفة .
وانفرد المالكيّة في حال الكثرة بأنّه يجب غسل الكلّ لا الزّائد وحده .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ الكثير هو ما زاد عن قدر الدّرهم ، مع اقتصار الوجوب على الزّائد عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، خلافاً لمحمّدٍ ، حيث وافق المالكيّة في وجوب غسل الكلّ .
ج - استجمار المرأة :
27 - يجزئ المرأة الاستجمار من الغائط بالاتّفاق ، وهذا واضحٌ . أمّا من البول فعند المالكيّة لا يجزئ الاستجمار في بول المرأة ، بكراً كانت أو ثيّباً . قالوا : لأنّه يجاوز المخرج غالباً . وعند الشّافعيّة : يكفي في بول المرأة - إن كانت بكراً - ما يزيل عين النّجاسة خرقاً أو غيرها ، أمّا الثّيّب فإن تحقّقت نزول البول إلى ظاهر المهبل ، كما هو الغالب ، لم يكف الاستجمار ، وإلاّ كفى . ويستحبّ الغسل حينئذٍ .
أمّا عند الحنابلة ففي الثّيّب قولان :
الأوّل : أنّه يكفيها الاستجمار .
والثّاني : أنّه يجب غسله . وعلى كلا القولين لا يجب على المرأة غسل الدّاخل من نجاسةٍ وجنابةٍ وحيضٍ ، بل تغسل ما ظهر ، ويستحبّ لغير الصّائمة غسله .
ومقتضى قواعد مذهب الحنفيّة أنّه إذا لم يجاوز الخارج المخرج كان الاستنجاء سنّةً . وإن جاوز المخرج لا يجوز الاستجمار ، بل لا بدّ من المائع أو الماء لإزالة النّجاسة . ولم يتعرّضوا لكيفيّة استجمار المرأة .
ما لا يستجمر به :
28 - اشترط الحنفيّة والمالكيّة فيما يستجمر به خمسة شروطٍ :
(1 ) أن يكون يابساً ، وعبّر غيرهم بدل اليابس بالجامد .
(2 ) طاهراً .
(3 ) منقّياً .
(4 ) غير مؤذٍ .
(5 ) ولا محترمٍ . وعلى هذا فما لا يستنجى به عندهم خمسة أنواعٍ :
(1 ) ما ليس يابساً .
(2 ) الأنجاس .
(3 ) غير المنقّي ، كالأملس من القصب ونحوه .
(4 ) المؤذي ، ومنه المحدّد كالسّكّين ونحوه .
(5 ) المحترم وهو عندهم ثلاثة أصنافٍ :
أ - المحترم لكونه مطعوماً .
ب - المحترم لحقّ الغير .
ج - المحترم لشرفه .
وهذه الأمور تذكر في غير كتب المالكيّة أيضاً ، إلاّ أنّهم لا يذكرون في الشّروط عدم الإيذاء ، وإن كان يفهم المنع منه بمقتضى القواعد العامّة للشّريعة . وهم وإن اتّفقوا على هذه الاشتراطات من حيث الجملة ، فإنّهم قد يختلفون في التّفاصيل ، وقد يتّفقون .
ويرجع في تفصيل ذلك إلى كتب الفقه .
هل يجزئ الاستنجاء بما حرم الاستنجاء به :
29 - إذا ارتكب النّهي واستنجى بالمحرّم وأنقى ، فعند الحنفيّة والمالكيّة وابن تيميّة من الحنابلة ، كما في الفروع : يصحّ الاستنجاء مع التّحريم . قال ابن عابدين : لأنّه يجفّف ما على البدن من الرّطوبة . وقال الدّسوقيّ : ولا إعادة عليه في الوقت ولا في غيره .
أمّا عند الشّافعيّة فلا يجزئ الاستنجاء بما حرم لكرامته من طعامٍ أو كتب علمٍ ، وكذلك النّجس . أمّا عند الحنابلة فلا يجزئ الاستجمار بما حرم مطلقاً ، لأنّ الاستجمار رخصةٌ فلا تباح بمحرّمٍ . وفرّقوا بينه وبين الاستجمار باليمين - فإنّه يجزئ الاستجمار بها مع ورود النّهي - بأنّ النّهي في العظم ونحوه لمعنًى في شرط الفعل ، فمنع صحّته ، كالوضوء بالماء النّجس . أمّا باليمين فالنّهي لمعنًى في آلة الشّرط ، فلم يمنع ، كالوضوء من إناءٍ محرّمٍ . وسوّوا في ذلك بين ما ورد النّهي عن الاستجمار به كالعظم ، وبين ما كان استعماله بصفةٍ عامّةٍ محرّماً كالمغصوب . قالوا : ولو استجمر بعد المحرّم بمباحٍ لم يجزئه ووجب الماء ، وكذا لو استنجى بمائعٍ غير الماء . وإن استجمر بغير منقٍّ كالقصب أجزأ الاستجمار بعده بمنقٍّ . وفي المغني : يحتمل أن يجزئه الاستجمار بالطّاهر بعد الاستجمار بالنّجس ، لأنّ هذه النّجاسة تابعةٌ لنجاسة المحلّ فزالت بزوالها .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
كيفيّة الاستنجاء وآدابه :
أوّلاً : الاستنجاء بالشّمال :
30 - ورد في الحديث عند أصحاب الكتب السّتّة عن أبي قتادة قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا بال أحدكم فلا يمسّ ذكره بيمينه ، وإذا أتى الخلاء فلا يتمسّح بيمينه » . فقد نهى الرّسول صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء باليمين ، وحمل الفقهاء هذا النّهي على الكراهة ، وهي كراهة تحريمٍ عند الحنفيّة ، كما استظهر ابن نجيمٍ . وكلّ هذا في غير حالة الضّرورة أو الحاجة ، للقاعدة المعروفة : الضّرورات تبيح المحظورات .
فلو يسراه مقطوعةً أو شلاّء ، أو بها جراحةٌ جاز الاستنجاء باليمين من غير كراهةٍ .
هذا ، ويجوز الاستعانة باليمين في صبّ الماء ، وليس هذا استنجاءً باليمين ، بل المقصود منه مجرّد إعانة اليسار ، وهي المقصودة بالاستعمال .
ثانياً : الاستتار عند الاستنجاء :
31 - الاستنجاء يقتضي كشف العورة ، وكشفها أمام النّاس محرّمٌ في الاستنجاء وغيره ، فلا يرتكب لإقامة سنّة الاستنجاء ، ويحتال لإزالة النّجاسة من غير كشفٍ للعورة عند من يراه . فإن لم يكن بحضرة النّاس ، فعند الحنفيّة : من الآداب أن يستر عورته حين يفرغ من الاستنجاء والتّجفيف ، لأنّ الكشف كان لضرورةٍ وقد زالت .
وعند الحنابلة في التّكشّف لغير حاجةٍ روايتان : الكراهة ، والحرمة . وعليه فينبغي أن يكون ستر العورة بعد الفراغ من الاستنجاء مستحبّاً على الأقلّ .
ثالثاً : الانتقال عن موضع التّخلّي :
32 - إذا قضى حاجته فلا يستنجي حيث قضى حاجته . كذا عند الشّافعيّة والحنابلة - قال الشّافعيّة : إذا كان استنجاؤه بالماء - بل ينتقل عنه ، لئلاّ يعود الرّشاش إليه فينجّسه . واستثنوا الأخلية المعدّة لذلك ، فلا ينتقل فيها .
وإذا كان استنجاؤه بالحجر فقط فلا ينتقل من مكانه ، لئلاّ ينتقل الغائط من مكانه فيمتنع عليه الاستجمار . أمّا عند الحنابلة ، فينبغي أن يتحوّل من مكانه الّذي قضى فيه حاجته للاستجمار بالحجارة أيضاً ، كما يتحوّل للاستنجاء بالماء ، وهذا إن خشي التّلوّث .
رابعاً : عدم استقبال القبلة حال الاستنجاء :
33 - من آداب الاستنجاء عند الحنفيّة : أن يجلس له إلى يمين القبلة ، أو يسارها كي لا يستقبل القبلة أو يستدبرها حال كشف العورة . فاستقبال القبلة أو استدبارها حالة الاستنجاء ترك أدبٍ ، وهو مكروهٌ كراهة تنزيهٍ ، كما في مدّ الرّجل إليها . وقال ابن نجيمٍ : اختلف الحنفيّة في ذلك ، واختار التّمرتاشيّ أنّه لا يكره ، وهذا بخلاف التّبوّل أو التّغوّط إليها فهو عندهم محرّمٌ . وعند الشّافعيّة : يجوز الاستنجاء مع الاتّجاه إلى القبلة من غير كراهةٍ ، لأنّ النّهي ورد في استقبالها واستدبارها ببولٍ أو غائطٍ ، وهذا لم يفعله .
خامساً : الاستبراء :
34 - وهو طلب البراءة من خارجٍ ، ويختلف بطباع النّاس ، إلى أن يستيقن بزوال الأثر . وتفصيل ذلك في مصطلح ( استبراءٌ ) .
سادساً : الانتضاح وقطع الوسوسة :
35 - ذكر الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : أنّه إذا فرغ من الاستنجاء بالماء استحبّ له أن ينضح فرجه أو سراويله بشيءٍ من الماء ، قطعاً للوسواس ، حتّى إذا شكّ حمل البلل على ذلك النّضح ، ما لم يتيقّن خلافه . وهذا ذكره الحنفيّة أنّه يفعل ذلك إن كان الشّيطان يريبه كثيراً . ومن ظنّ خروج شيءٍ بعد الاستنجاء فقد قال أحمد بن حنبلٍ : لا تلتفت حتّى تتيقّن ، واله عنه فإنّه من الشّيطان ، فإنّه يذهب إن شاء اللّه .

استنزاهٌ *
التعريف :
1 - الاستنزاه : استفعالٌ من التّنزّه وأصله التّباعد . والاسم النّزهة ، ففلانٌ يتنزّه من الأقذار وينزّه نفسه عنها : أي يباعد نفسه عنها . وفي حديث المعذّب في قبره « كان لا يستنزه من البول » أي لا يستبرئ ولا يتطهّر ، ولا يبتعد منه .
والفقهاء يعبّرون بالاستنزاه والتّنزّه عند الكلام عن الاحتراز عن البول أو الغائط .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستبراء :
2 - الاستبراء هو طلب البراءة من الخارج من السّبيلين حتّى يستيقن زوال الأثر ، فهو أخصّ من الاستنزاه .
ب - الاستنجاء :
3 - الاستنجاء - ومثله الاستطابة - هو إزالة النّجس عن أحد السّبيلين بماءٍ أو حجرٍ أو غير ذلك ، وهو أيضاً أخصّ من الاستنزاه .
الحكم الإجماليّ :
4 - الاستنزاه من البول أو الغائط واجبٌ ، فمن لم يتحرّز من البول في بدنه وثوبه فقد ارتكب كبيرةً كما يراه ابن حجرٍ .
وتفصيل أحكامه في مصطلح ( استبراءٌ ) ( وقضاء الحاجة ) ( ونجاسةٌ ) .
مواطن البحث :
5 - تبحث المسألة عند الفقهاء في الطّهارة عند الكلام عن الاستنجاء ، أو الاستبراء عن البول والغائط .
استنشاقٌ *
التعريف :
1 - الاستنشاق : استنشاق الهواء أو غيره : إدخاله في الأنف . ويخصّه الفقهاء بإدخال الماء في الأنف .
الحكم الإجماليّ :
2 - الاستنشاق سنّةٌ في الوضوء عند جمهور الفقهاء ، وعند الحنابلة فرضٌ . وأمّا في الغسل للتّطهّر من الحدث الأكبر فهو سنّةٌ عند المالكيّة والشّافعيّة ، فرضٌ عند الحنفيّة والحنابلة . وإنّما فرّق الحنفيّة بين الوضوء ، والغسل من الجنابة ، فقالوا بفرضيّة الاستنشاق في الغسل وسنّيّته في الوضوء ، لأنّ الجنابة تعمّ جميع البدن ، ومن البدن الفم والأنف ، بخلاف الوضوء فالفرض فيه غسل الوجه وهو ما تقع به المواجهة ، ولا تقع المواجهة بالأنف والفم . وللفقهاء تفصيلٌ في كيفيّته انظر ( وضوءٌ ) ( وغسلٌ ) .
مواطن البحث :
3 - تنظر أحكام الاستنشاق في ( الوضوء ) ( والغسل ) ( وغسل الميّت ) .

استنفارٌ *
التعريف :
1 - الاستنفار في اللّغة مصدر : استنفر ، من نفر القوم " نفيراً " أي أسرعوا إلى الشّيء ، وأصل النّفير مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمرٍ حرّك ذلك ، ويقال للقوم النّافرين لحربٍ أو لغيرها : نفيرٌ ، تسميةً بالمصدر .
2 - وفي الاصطلاحيّ الشّرعيّ : الخروج إلى قتال العدوّ ونحوه من الأعمال الصّالحة بدعوةٍ من الإمام أو غيره أو للحاجة إلى ذلك . ولكن غلب استعماله عند الفقهاء في قتال العدوّ .
الألفاظ ذات الصّلة به :
الاستنجاد :
3 - الاستنجاد : وهو طلب العون من الغير . يقال : استنجده فأنجده ، أي استعان به فأعانه .
الحكم الإجماليّ :
4 - لا خلاف بين المسلمين في أنّ الخروج إلى الجهاد فرضٌ ، منذ شرع بعد الهجرة ، واختلفوا في نوع الفرضيّة في عهده صلى الله عليه وسلم فذهب الشّافعيّة في أصحّ القولين عندهم إلى أنّ النّفير كان فرض كفايةٍ في عهده صلى الله عليه وسلم . أمّا كونه فرضاً فبالإجماع ، وأمّا كونه على الكفاية فلقوله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر والمجاهدون في سبيل اللّه } ، إلى قوله تعالى : { وكلاًّ وعد اللّه الحسنى } . ووجه الاستدلال : أنّ الحقّ تبارك وتعالى فاضل بين القاعدين والمجاهدين في سبيل اللّه ، ثمّ وعد كليهما الحسنى . والعاصي لا يوعد بها ، ولا يفاضل بين مأجورٍ ومأزورٍ ، فكانوا غير عاصين بقعودهم . وقيل : كان النّفير في عهده صلى الله عليه وسلم فرض عينٍ ، فلم يكن لأحدٍ من غير المعذورين أن يتخلّف عنه ، لقوله تعالى : { إلاّ تنفروا يعذّبكم عذاباً أليماً } . إلى قوله تعالى : { انفروا خفافاً وثقالاً } . وقالوا : إنّ القاعدين المشار إليهم بآية سورة النّساء كانوا حرّاساً على المدينة ، وهو نوعٌ من الجهاد . وهناك أقوالٌ أخرى : يرجع إليها في مصطلح : ( جهادٌ ) .
أمّا بعد عهده صلى الله عليه وسلم فللعدوّ حالتان :
5 - أن يكون في بلاده مستقرّاً ، ولم يقصد إلى شيءٍ من بلاد المسلمين ، ففي هذه الحالة : اتّفق جمهور الفقهاء على أنّ النّفير فرض كفايةٍ ، إذا قام به فريقٌ من النّاس مرّةً في السّنة سقط الحرج عن الباقين ، أمّا الفرضيّة فلقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } . ولقوله صلى الله عليه وسلم « الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة » .
وأمّا كونه على الكفاية فلأنّه لم يفرض لذاته وإنّما فرض لإعزاز دين اللّه وإعلاء كلمة الحقّ ، ودفع الشّرّ عن العباد ، فإذا حصل المقصود بالبعض سقط الحرج عن الباقين ، بل إذا أمكنه أن يحصل بإقامة الدّليل والدّعوة بغير جهادٍ كان أولى من الجهاد ، فإن لم يقم به أحدٌ أثم الجميع بتركه .
6 - أمّا إذا دهم العدوّ بلداً من بلاد الإسلام ، فإنّه يجب النّفير على جميع أهل هذا البلد ، ومن بقربهم وجوباً عينيّاً ، فلا يجوز لأحدٍ أن يتخلّف عنه ، حتّى الفقير ، والولد ، والعبد ، والمرأة المتزوّجة بلا إذنٍ من : الأبوين ، والسّيّد ، والدّائن ، والزّوج . فإن عجز أهل البلد ومن بقربهم عن الدّفاع فعلى من يليهم ، إلى أن يفترض على جميع المسلمين فرض عينٍ كالصّلاة تماماً على هذا التّدريج .
7 - وكذلك يكون النّفير فرض عينٍ على كلّ من يستنفر ممّن له حقّ الاستنفار كالإمام أو نوّابه ، ولا يجوز لأحدٍ أن يتخلّف إذا دعاه داعي النّفير ، إلاّ من منعه الإمام من الخروج ، أو دعت الحاجة إلى تخلّفه لحفظ الأهل أو المال ، لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثّاقلتم } .
النّفير من منًى :
8 - يجوز للحاجّ أن ينفر قبل الغروب من اليوم الثّاني من أيّام التّشريق بعد الرّمي عند الشّافعيّة ، والحنابلة ، ومن اليوم الثّالث من أيّام التّشريق عند الحنفيّة ، فإن لم ينفر حتّى غربت شمس اليوم الثّالث كره له أن ينفر حتّى يرمي في اليوم الرّابع ، ولا شيء عليه إن نفر وقد أساء ، وقيل : إنّه عليه دمٌ . وأمّا لو نفر بعد طلوع فجر الرّابع لزمه دم هذا عند الحنفيّة . أمّا عند الأئمّة الثّلاثة : فإنّه يجب عليه دمٌ إذا نفر بعد غروب شمس اليوم الثّاني من أيّام التّشريق . كما صرّح الشّافعيّة بأنّه يجب عليه دمٌ لو نفر بعد المبيت ، وقبل الرّمي ، ولو نفر قبل الغروب ثمّ عاد إلى منًى مارّاً أو زائراً ولو بعد الغروب لم يجب عليه مبيت تلك اللّيلة ولا رمي يومها . والتّفصيل في ( الحجّ ) .
مواطن البحث :
يذكره الفقهاء في باب : الجهاد ، وفي الحجّ : المبيت بمزدلفة .

استنقاءٌ *
انظر : استنجاءٌ .
استنكاحٌ *
التعريف :
1 - في المصباح : استنكح بمعنى نكح ، وفي تاج العروس وأساس البلاغة : ومن المجاز استنكح النّوم عينه غلبها . وفقهاء المالكيّة فقط هم الّذين يعبّرون بهذا اللّفظ عن معنى الغلبة مسايرين المعنى اللّغويّ فيقولون : استنكحه الشّكّ أي اعتراه كثيراً .
وبقيّة الفقهاء يعبّرون عن ذلك بغلبة الشّكّ أو كثرته بحيث يصبح عادةً له .
الحكم الإجماليّ :
2 - فسّر المالكيّة الشّكّ المستنكح بأنّه الّذي يعتري صاحبه كثيراً ، بأن يأتي كلّ يومٍ ولو مرّةً ، فمن استنكحه الشّكّ في الحدث بأن شكّ هل أحدث أم لا بعد وضوئه ؟ فلا ينتقض الوضوء لما فيه من الحرج ، وأمّا لو أتي يوماً بعد يومٍ فينقض ، لأنّه ليس بغالبٍ ، ولا حرج في التّوضّؤ به على المشهور من المذهّب . وانظر ( شكٌّ ) .
ومن استنكحه خروج المذي أو الودي أو غيرهما ففي الحكم تيسيرٌ ينظر في ( سلسٌ ) .
مواطن البحث :
3 - الشّكّ الغالب يرد ذكره في كثيرٍ من مسائل الفقه كالوضوء ، والغسل ، والتّيمّم ، وإزالة النّجاسة ، والصّلاة ، والطّلاق ، والعتاق ، وغير ذلك .
وتنظر في مواضعها وفي مصطلح ( شكٌّ ) .

استهزاءٌ *
انظر : استخفافٌ .
استهلاكٌ *
التعريف :
1 - الاستهلاك لغةً : هلاك الشّيء وإفناؤه ، واستهلك المال : أنفقه وأنفده . واصطلاحاً ، كما يفهم من عبارة بعض الفقهاء : هو تصيير الشّيء هالكاً أو كالهالك كالثّوب البالي ، أو اختلاطه بغيره بصورةٍ لا يمكن إفراده بالتّصرّف كاستهلاك السّمن في الخبز .
الألفاظ ذات الصّلة :
الإتلاف :
2 - الإتلاف هو : إفناء عين الشّيء وإذهابٌ لها بالكلّيّة ، فهو أخصّ من الاستهلاك ، لأنّ عين الشّيء قد تفنى وقد تبقى مع خروجه عن الانتفاع الموضوع له عادةً . انظر مصطلح ( إتلافٌ ) .
ما يكون به الاستهلاك :
3 - ممّا يكون به الاستهلاك :
أ - تفويت المنافع الموضوعة المقصودة من العين بحيث يصير كالهالك مع بقاء العين ، كتخريق الثّوب ، وتنجيس الزّيت إن لم يمكن تطهيره .
ب - تعذّر وصول المالك إلى حقّه في العين لاختلاطه بحيث يتعذّر تمييزه عن غيره ، كما إذا خلط اللّبن بالماء ، أو الزّيت بالشّيرج .
أثر الاستهلاك :
4 - يترتّب على الاستهلاك الواقع من الغير زوال ملك المالك عن العين المستهلكة ، فهو يمنع الاسترداد ويوجب الضّمان بالمثل أو القيمة للمالك .
ويثبت الملك للغاصب بالضّمان ، وهذا عند الحنفيّة ، والمذهب عند الشّافعيّة .

استهلالٌ *
التعريف :
1 - الاستهلال لغةً : مصدر استهلّ ، واستهلّ الهلال ظهر ، واستهلال الصّبيّ أن يرفع صوته بالبكاء عند ولادته ، والإهلال رفع الصّوت بقول : لا إله إلاّ اللّه ، وأهلّ المحرم بالحجّ : رفع صوته بالتّلبية . والبحث هنا قاصرٌ على استهلال المولود .
ويختلف مراد الفقهاء بالاستهلال ، فمنهم من قصره على الصّياح ، وهم المالكيّة والشّافعيّة ، وهو روايةٌ عن أحمد ، ومنهم من ذهب إلى أوسع من ذلك وأراد به كلّ ما يدلّ على حياة المولود ، من رفع صوتٍ ، أو حركة عضوٍ بعد الولادة ، وهم الحنفيّة . ومنهم من فسّره بأنّه كلّ صوتٍ يدلّ على الحياة من صياحٍ ، أو عطاسٍ ، أو بكاءٍ ، وهو رأيٌ للحنابلة .
والّذين قصروا الاستهلال على الصّياح لا يمنعون حصول حياة المولود الّذي مات دون صياحٍ ، وإنّما يحكمون على حياته ببعض الأمارات الّتي تدلّ على الحياة بمفردها أو مع غيرها . وسيشمل هذا البحث أحكام الاستهلال بمعناه الأعمّ ، وهو اصطلاح الحنفيّة القائلين بتعدّد أمارات الحياة .
أمارات الحياة :
أ - الصّياح :
2 - يتّفق الفقهاء على أنّ الصّياح أمارةٌ يقينيّةٌ على الحياة ، لكنّهم يختلفون في الحال الّتي يعتبر الصّياح فيها مؤثّراً ، وقد يختلف ذلك من موطنٍ لآخر في المذهب الواحد .
ب - العطاس والارتضاع :
3 - العطاس والارتضاع من أمارات الاستهلال عند الحنفيّة ، وهما في معناه عند الشّافعيّة ، والمازريّ وابن وهبٍ من المالكيّة ، وهو المذهب عند أحمد كذلك ، فيثبت بهما حكم الاستهلال عندهم . أمّا عند مالكٍ فلا عبرة بالعطاس ، لأنّه قد يكون من الرّيح ، وكذلك الرّضاع إلاّ أنّ الكثير من الرّضاع معتبرٌ ، والكثير ما تقول أهل المعرفة : إنّه لا يقع مثله إلاّ ممّن فيه حياةٍ مستقرّةٍ .
ج - التّنفّس :
4 - يأخذ التّنفّس حكم العطاس عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
د - الحركة :
5 - حركة المولود إمّا أن تكون طويلةً أو يسيرةً ، وهي أعمّ من الاختلاج ، إذ الاختلاج تحرّك عضوٍ ، والحركة أعمّ من تحرّك عضوٍ أو تحرّك الجملة .
وللعلماء ثلاثة اتّجاهاتٍ في الحركة :
الأوّل : الأخذ بها مطلقاً .
والثّاني : عدم الاعتداد بها مطلقاً .
والثّالث : الأخذ بالحركة الطّويلة دون اليسيرة .
هـ- الحركة الطّويلة :
6 – الحركة الطّويلة من الاستهلال عند الحنفيّة ، عدا ابن عابدين ، وفي معنى الاستهلال عند الشّافعيّة ، وأحد رأيي المالكيّة ، والمذهب عند أحمد أنّها في حكم الاستهلال كذلك .
أمّا المالكيّة في قولهم الآخر ، وابن عابدين فإنّهم لا يعطونها حكم الاستهلال ، سواءٌ أكانت طويلةً أم يسيرةً ، لأنّ حركته كحركته في البطن ، وقد يتحرّك المقتول ،
وقيل بهذا عند الحنابلة .
و - الحركة اليسيرة :
7 - تأخذ الحركة اليسيرة حكم الاستهلال عند الحنفيّة ، ولا يعتدّ بها عند المالكيّة اتّفاقاً ، وكذلك الحنابلة ، أمّا الشّافعيّة فمنهم من وافق الحنفيّة ، ومنهم من وافق المالكيّة ، ومنهم من تردّد ، إذ لم يفرّق كثيرٌ من فقهاء الشّافعيّة بين الحركة الطّويلة والحركة اليسيرة ، ومنهم من اشترط قوّة الحركة ولم يعتدّ بحركة المذبوح ، لأنّها لا تدلّ على الحياة .
ز - الاختلاج :
8 - يأخذ الاختلاج حكم الحركة اليسيرة عند عامّة الفقهاء ، إلاّ أنّ الشّافعيّة شهروا عدم إعطائه حكم الاستهلال .
إثبات الاستهلال :
9 - ممّا يثبت به الاستهلال الشّهادة ، وهي إمّا أن تكون بأقوال رجلين ، أو رجلٍ وامرأتين ، وهو محلّ اتّفاقٍ ، وإمّا أن تكون بشهادة النّساء وحدهنّ .
وقد اختلف الفقهاء في العدد المجزي والمواطن المقبولة .
10 - والاستهلال من الأمور الّتي يطّلع عليها النّساء غالباً ، لذلك يقبل الفقهاء - عدا الرّبيع من الشّافعيّة - شهادتهنّ عليه منفرداتٍ عن الرّجال . إلاّ أنّهم اختلفوا في نصابها وفي المواطن الّتي تقبل شهادتهنّ فيها .
وتفصيل اتّجاهاتهم في نصاب شهادة النّساء كما يلي :
11 - يرى الإمام أبو حنيفة أنّه لا يقبل قول النّساء منفرداتٍ إلاّ في الصّلاة عليه لأنّه من أمر الدّين ، وخبر المرأة الواحدة مجتهدٌ فيه . أمّا غير الصّلاة كالميراث فلا يثبت الاستهلال بشهادة النّساء منفرداتٍ ، ولا بدّ في ذلك من شهادة رجلين ، أو رجلٍ وامرأتين .
وذهب الحنابلة وأبو يوسف ومحمّدٌ إلى أنّه يكفي شهادة المرأة الواحدة على الاستهلال إن كانت حرّةً مسلمةً عدلاً .« لما روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنّه أجاز شهادة القابلة في الاستهلال ». والعلّة فيه - كما في المبسوط - أنّ استهلال الصّبيّ يكون عند الولادة ، وتلك حالةٌ لا يطّلع عليها الرّجال ، وفي صوته من الضّعف عند ذلك ما لا يسمعه إلاّ من شهد تلك الحالة ، وشهادة النّساء فيما لا يطّلع عليه الرّجل كشهادة الرّجال فيما يطّلعون عليه ، ولهذا يصلّى عليه بشهادة النّساء ، فكذلك يرث .
كما استدلّوا بحديث حذيفة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « أجاز شهادة القابلة على الولادة » وقال : « شهادة النّساء جائزةٌ فيما لا يطّلع عليه الرّجال » والنّساء جنسٌ فيدخل فيه أدنى ما يتناوله الاسم . وإنّما فرّق أبو حنيفة بين الصّلاة وبين الميراث ، لأنّ الميراث من حقوق العباد فلا يثبت بشهادة النّساء .
12 - والمالكيّة ، والإمام أحمد في روايةٍ أخرى عنه ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وأبو ثورٍ رأوا أنّه لا يقبل في الاستهلال أقلّ من امرأتين ، قالوا : لأنّ المعتبر في الشّهادة شيئان : العدد والذّكورة ، وقد تعذّر اعتبار أحدهما وهو الذّكورة هنا ، ولم يتعذّر اعتبار العدد فبقي معتبراً كسائر الشّهادات .
شهادة الثّلاث :
13 - يرى عثمان البتّيّ أنّه لا يقبل في الاستهلال أقلّ من ثلاث نساءٍ ، والوجه عنده أنّ كلّ موضعٍ قبلت فيه شهادة النّساء كان العدد ثلاثةً ، وهو شهادة رجلٍ وامرأتين ، كما لو كان معهنّ رجلٌ .
14 - ولا يقبل الشّافعيّة وهو قول عطاءٍ والشّعبيّ وقتادة وأبي ثورٍ في الشّهادة على الاستهلال أقلّ من أربعٍ من النّسوة ، لأنّ كلّ امرأتين تقومان مقام رجلٍ واحدٍ ، فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « شهادة امرأتين شهادة رجلٍ واحدٍ » .
15 - أمّا شهادة الرّجال فقد اتّفق الفقهاء على جواز شهادة الرّجلين على الاستهلال ونحوه ، واختلفوا في جواز شهادة الرّجل الواحد . فأجازها أبو يوسف ومحمّدٌ من الحنفيّة ، وهو مذهب الحنابلة ، وحجّتهم في ذلك : أنّ الرّجل أكمل من المرأة ، فإذا اكتفي بها وحدها فلأن يكتفى به أولى ، ولأنّ ما قبل فيه قول المرأة الواحدة يقبل فيه قول الرّجل الواحد كالرّواية . وأمّا بقيّة الفقهاء فيمنعونها ، لما تقدّم في شهادة النّساء .
تسمية المستهلّ :
16 - يسمّى المولود إن استهلّ ولو مات عقب ذلك ، وهو مذهب الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وابن حبيبٍ من المالكيّة ، إلاّ أنّ التّسمية لازمةٌ عند الحنفيّة ، ومندوبةٌ عند غيرهم ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « سمّوا أسقاطكم فإنّهم أسلافكم » رواه ابن السّمّاك بإسناده ، قيل : إنّهم يسمّون ليدعوا يوم القيامة بأسمائهم ، فإن لم يعلم للسّقط ذكورةٌ ولا أنوثةٌ سمّي باسمٍ يصلح لهما ، وقال الحنفيّة : إنّ في تسمية المستهلّ إكراماً له لأنّه من بني آدم ، ويجوز أن يكون له مالٌ يحتاج أبوه إلى أن يذكر اسمه عند الدّعوى به . أمّا القول الآخر للمالكيّة ، ونسب إلى مالكٍ فهو أنّ من مات ولده قبل السّابع فلا تسمية عليه .
غسل المستهلّ إذا مات ، والصّلاة عليه ، ودفنه :
17 - موت المستهلّ إمّا أن يكون قبل الانفصال أو بعده ، فإن كان بعده فإنّه يلزم فيه ما يلزم في الكبير ، قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ الطّفل إذا عرفت حياته واستهلّ يصلّى عليه . أمّا بعد الانفصال فإن كان خرج معظمه ، فإنّه يصلّى عليه عند الحنفيّة ، وقيّده في شرح الدّرّ بما إذا انفصل تامّ الأعضاء . ويصلّى عليه أيضاً عند الشّافعيّة ، إن صاح بعد الظّهور ، وكذلك إن ظهرت أمارات الحياة الأخرى غير الصّياح في الأظهر ، ولا أثر للاستهلال وعدمه في غسل الميّت والصّلاة عليه عند الحنابلة ، إذ يوجبون غسل السّقط والصّلاة عليه إذا نزل لأربعة أشهرٍ سواءٌ استهلّ أم لا . وكره المالكيّة غسل الطّفل والصّلاة عليه ما لم يستهلّ صارخاً بعد نزوله . وأمّا الدّفن فإنّ الجنين إذا بلغ أربعة أشهرٍ يجب دفنه ، كما صرّح به الشّافعيّة ، وإن كان لم يبلغها يسنّ ستره بخرقةٍ ودفنه .
استهلال المولود وأثره في إرثه :
18 - الجنين إذا استهلّ بعد تمّام انفصاله - على الاختلاف السّابق في المراد بالاستهلال - فإنّه يرث ويورث بالإجماع ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا استهلّ المولود ورث » . وقوله : « الطّفل لا يصلّى عليه ، ولا يرث ، ولا يورث حتّى يستهلّ » وكذا لو خرج ميّتاً ولم يستهلّ فالاتّفاق على أنّه لا يورث ولا يرث . وأمّا لو استهلّ بعد خروج بعضه ثمّ مات قبل تمام انفصاله ، فعند المالكيّة ، وأكثر الشّافعيّة ، والحنابلة لا يرث ولا يورث .
وقال الحنفيّة : يرث ويورث إن استهلّ بعد خروج أكثره ، لأنّ الأكثر له حكم الكلّ ، فكأنّه خرج كلّه حيّاً . وقال القفّال من الشّافعيّة : إن خرج بعضه حيّاً ورث .
الجناية على الجنين إذا مات بعد استهلاله :
19 - الجناية على المستهلّ إمّا أن تكون قبل الانفصال أو بعده ، والّتي قبله إمّا أن تكون قبل ظهوره أو بعده .
حكمها قبل الظّهور :
20 - إن تعمّد الجاني ضرب الأمّ فخرج الجنين مستهلاًّ ، ثمّ مات بسبب الاعتداء على الأمّ ففيه ديةٌ كاملةٌ ، سواءٌ أكانت الأمّ حيّةً أم ميّتةً . وهذا باتّفاق المذاهب ، غير أنّ المالكيّة اشترطوا قسامة أوليائه حتّى يأخذوا الدّية ، قال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم أنّ في الجنين يسقط حيّاً من الضّرب ديةٌ كاملةٌ ، وكذلك الحال إن تعمّد قتل الجنين بضرب أمّه على ظهرها أو بطنها أو رأسها عند الأئمّة الثّلاثة .
أمّا المالكيّة ، فقد اختلفوا في الواجب في هذه الجناية ، فأشهب قال : لا قود فيه ، بل تجب الدّية في مال الجاني بقسامةٍ ، قال ابن الحاجب : وهو المشهور .
وقال ابن القاسم : يجب القصاص بقسامةٍ ، قال في التّوضيح : وهو مذهب المدوّنة .
حكمها بعد الظّهور :
21 - إن ظهر الجنين ثمّ صاح ، ثمّ جنى جانٍ عليه عمداً فالأصحّ أنّ فيه القصاص عند الشّافعيّة والحنابلة . وعند الحنفيّة إن ظهر أغلبه . وفي الفتاوى الهنديّة : فإن كان ذبحه رجلٌ حالماً يخرج رأسه فعليه الغرّة لأنّه جنينٌ ، وإن قطع أذنه وخرج حيّاً ثمّ مات فعليه الدّية . ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة والحنابلة الاعتبار بالانفصال التّامّ .
الجناية بعد الانفصال :
22 - قتل المستهلّ بعد الانفصال كقتل الكبير ، فيه القصاص أو الدّية . وكذلك إن انفصل بجنايةٍ وبه حياةٌ مستقرّةٌ فقتله جانٍ آخر . أمّا إن نزل في حالةٍ لا يحتمل أن يعيش معها ، وقتله شخصٌ آخر فإنّ الضّامن هو الأوّل ، ويعزّر الثّاني .
الاختلاف في استهلال المجنيّ عليه :
23 - عند التّنازع في خروجه حيّاً يراعى قول الضّارب عند الحنفيّة ، والمالكيّة ، وعلى هذا الشّافعيّة ، والحنابلة في أحد قوليهم وهو المذهّب لكن مع اليمين ، لأنّ الأصل نزول الولد غير مستهلٍّ ، فمدّعى عدم الاستهلال لا يحتاج إلى إثباته ، ومدّعيه يحتاج إلى إثباته . والقول الثّاني عند الحنابلة : أنّ المعتبر قول الوليّ .

استواءٌ *
التعريف :
1 - من معاني الاستواء في اللّغة : المماثلة والاعتدال . وقد استعمله الفقهاء بالمعنى اللّغويّ مطلقاً بمعنى المماثلة كما في قولهم : إذا استوى اثنان في الدّرجة والإدلاء استويا في الميراث . وبمعنى الاعتدال كقولهم في الصّلاة : إذا رفع المصلّي رأسه من الرّكوع استوى قائماً . واستعملوه مقيّداً بالوقت فقالوا : وقت الاستواء أي استواء الشّمس قاصدين وقت قيام الشّمس في كبد السّماء ، لأنّها قبل ذلك مائلةٌ غير مستقيمةٍ .
الحكم الإجماليّ ، ومواطن البحث :
2 - تكره صلاة النّافلة وقت استواء الشّمس عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لما روى عقبة بن عامرٍ قال : « ثلاث ساعاتٍ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلّي فيهنّ ، وأن نقبر فيهنّ موتانا : حين تطلع الشّمس بازغةً حتّى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظّهيرة حتّى تميل الشّمس ، وحين تضيف الشّمس للغروب حتّى تغرب » ولا يكره ما له سببٌ كسجود التّلاوة وصلاة الجنازة ، وفي روايةٍ أخرى للحنابلة الكراهة مطلقاً .
ويزيد الحنفيّة على ذلك النّهي عن الفرض ، وعن سجدة التّلاوة ، وصلاة الجنازة في هذا الوقت . أمّا المالكيّة فلم يرد ذكرٌ لمنع الصّلاة عندهم في هذا الوقت في المشهور كما قال ابن جزيٍّ . وللفقهاء تفصيلٌ في ذلك ينظر في أوقات الصّلوات .

استياكٌ *
التعريف :
1 - الاستياك لغةً : مصدر استاك . واستاك : نظّف فمه وأسنانه بالسّواك ، ومثله تسوّك . ويقال : ساك فمه بالعود يسوكه سوكاً إذا دلكه به . ولفظ السّواك يطلق ويراد به الفعل ، ويطلق ويراد به العود الّذي يستاك به ، ويسمّى أيضاً المسواك .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك .
الألفاظ ذات الصّلة :
تخليل الأسنان :
2 - هو إخراج ما بينهما من فضلاتٍ بالخلال ، وهو عودٌ أو نحوه وفي الحديث : « رحم اللّه المتخلّلين من أمّتي في الضّوء والطّعام » فالفرق بينه وبين الاستياك : أنّ التّخليل خاصٌّ بإخراج ما بين الأسنان ، أمّا السّواك فهو لتنظيف الفم والأسنان بنوعٍ من الدّلك .
حكمة مشروعيّة السّواك :
3 - السّواك سببٌ لتطهير الفم ، موجبٌ لمرضاة الرّبّ . لحديث عائشة رضوان اللّه عليها عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « السّواك مطهرةٌ للفم ، مرضاةٌ للرّبّ » حديثٌ صحيحٌ .
حكمه التّكليفيّ :
4 - يعتري الاستياك أحكامٌ ثلاثةٌ :
الأوّل : النّدب ، وهو القاعدة العامّة عند فقهاء المذاهب الأربعة ، حتّى حكى النّوويّ إجماع من يعتدّ برأيهم من العلماء عامّةً على ذلك ، لحديث أبي هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك عند كلّ صلاةٍ » قال الشّافعيّ : لو كان واجباً لأمرهم به ، شقّ أو لم يشقّ ، وفي الحديث أيضاً « السّواك مطهرةٌ للفم مرضاةٌ للرّبّ » ولمواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليه حتّى في النّزع ، وتسميته إيّاه من خصال الفطرة .
الثّاني : الوجوب ، وبه قال إسحاق بن راهويه ، فقد رأى أنّ الأصل في الاستياك الوجوب لا النّدب ، واحتجّ لذلك بظاهر الأمر في الحديث « أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالوضوء لكلّ صلاةٍ ، طاهراً أو غير طاهرٍ ، فلمّا شقّ ذلك عليه أمر بالسّواك لكلّ صلاةٍ » .
الثّالث : الكراهة ، إذا استاك في الصّيام بعد الزّوال عند الشّافعيّة ، وهو الرّواية الأخرى للحنابلة ، وأبي ثورٍ وعطاءٍ ، لحديث الخلوف الآتي . ومذهب الحنفيّة والمالكيّة والرّواية الأخرى للحنابلة أنّ حكمه في حال الصّوم وعدمه سواءٌ ، أخذاً بعموم أدلّة السّواك ،
والّذي اختاره بعض أئمّة الشّافعيّة - بعد نظرٍ في الأدلّة - أنّ السّواك لا يكره بعد الزّوال ، لأنّ عمدة الّذين يقولون بالكراهة حديث الخلوف ولا حجّة فيه ، لأنّ الخلوف من خلوّ المعدة ، والسّواك لا يزيله ، وإنّما يزيل وسخ الأسنان . قاله الأذرعيّ .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الاستياك في الطّهارة : الوضوء :
5 - اتّفقت المذاهب الأربعة على أنّ السّواك سنّةٌ عند الوضوء ،
واختلفوا هل هو من سنن الوضوء أم لا ؟ على رأيين :
الأوّل : قال الحنفيّة ، والمالكيّة ، وهو رأيٌ للشّافعيّة : الاستياك سنّةٌ من سنن الوضوء ، لما رواه أبو هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك مع كلّ وضوءٍ » وفي روايةٍ « لفرضت عليهم السّواك مع كلّ وضوءٍ » . الثّاني : قال الحنابلة ، وهو الرّأي الأوجه عند الشّافعيّة : السّواك سنّةٌ خارجةٌ عن الوضوء متقدّمةٌ عليه وليست منه . ومدار الحكم عندهم على محلّه ، فمن قال إنّه قبل التّسمية قال ، إنّه خارجٌ عن الوضوء ، ومن قال بعد التّسمية ، قال بسنّيّته للوضوء .
التّيمّم والغسل :
6 - يستحبّ الاستياك عند التّيمّم والغسل ، ويكون محلّه في التّيمّم عند ابتداء الضّرب ، وفي الغسل عند البدء فيه .
الاستياك للصّلاة :
7 - في الاستياك للصّلاة ثلاثة اتّجاهاتٍ :
الأوّل ، وهو قولٌ للشّافعيّة : يتأكّد الاستياك عند كلّ صلاةٍ فرضها ونفلها ، وإن سلّم من كلّ ركعتين وقرب الفصل ، ولو نسيه سنّ له قياساً تداركه بفعلٍ قليلٍ ، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصّحيح « لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك عند كلّ صلاةٍ ، أو مع كلّ صلاةٍ » .
الثّاني : لا يسنّ الاستياك للصّلاة ، بل للوضوء ، وهو رأيٌ للحنفيّة ، فلو أتى به عند الوضوء لا يسنّ له أن يأتي به عند الصّلاة ، لقوله صلى الله عليه وسلم « لأمرتهم بالسّواك مع كلّ وضوءٍ »
الثّالث : يندب الاستياك لصلاة فرضٍ أو نفلٍ بعدت من الاستياك للعرف ، فلا يندب أن يستاك لكلّ صلاةٍ ما لم يبعد ما بينهما عن الاستياك ، وهو قول المالكيّة ، وروايةٌ عند الحنفيّة .
الاستياك للصّائم :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا بأس بالاستياك للصّائم أوّل النّهار ، واختلفوا في الاستياك للصّائم بعد الزّوال على ما تقدّم .
السّواك عند قراءة القرآن والذّكر :
9 - ينبغي لقارئ القرآن إذا أراد القراءة أن ينظّف فمه بالسّواك . ويستحبّ كذلك عند قراءة حديثٍ أو علمٍ .
كما يستحبّ الاستياك عند سجدة التّلاوة ، ومحلّه بعد فراغ القراءة لآية السّجدة وقبل الهويّ للسّجود . وهذا إذا كان خارج الصّلاة ، أمّا إذا كان في الصّلاة فلا ، لانسحاب سواك الصّلاة عليها ، وكذلك القراءة .
ويستحبّ إزالة الأوساخ وقلح الفم بالسّواك عند ذكر اللّه تعالى ، لأنّ الملائكة تحضر مجالس الذّكر ، وتتأذّى ممّا يتأذّى منه بنو آدم ، ولذلك استحبّ الفقهاء استياك المحتضر عند الموت ، وقالوا : إنّه يسهّل خروج الرّوح ، لنفس العلّة .
ويستحبّ كذلك الاستياك عند قيام اللّيل ، لما روى حذيفة قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام من اللّيل يشوص فاه بالسّواك » . ولما رواه مسلمٌ عن ابن عبّاسٍ وعائشة من الأحاديث في هذا الباب .
مواضع أخرى لاستحباب الاستياك :
10 - يستحبّ الاستياك لإذهاب رائحة الفم وترطيبه ، وإزالة صفرة الأسنان قبل الاجتماع بالنّاس لمنع التّأذّي ، وهذا من تمام هيئة المسلم ، وكذلك يستحبّ في مواطن أخرى ، مثل دخول المسجد ، لأنّ هذا من تمام الزّينة الّتي أمر اللّه سبحانه وتعالى بها عند كلّ مسجدٍ ، ولما فيه من حضور الملائكة واجتماع النّاس ، وكذلك عند دخول المنزل للالتقاء بالأهل والاجتماع بهم ، لما روى مسلمٌ عن « عائشة رضي الله عنها حينما سئلت بأيّ شيءٍ يبدأ الرّسول صلى الله عليه وسلم : إذا دخل بيته قالت : كان إذا دخل بيته بدأ بالسّواك » . ويستحبّ كذلك عند النّوم ، والجماع ، وأكل ما له رائحةٌ كريهةٌ ، وتغيّر الفم بعطشٍ أو جوعٍ ، أو غيرهما ، أو قيامٍ من نومٍ ، أو اصفرار سنٍّ ، وكذلك لإرادة أكلٍ أو فراغٍ منه . على أنّ السّواك مستحبٌّ في جميع الأوقات من ليلٍ أو نهارٍ ، لأنّه مطهرةٌ للفم مرضاةٌ للرّبّ كما ورد في الحديث .
ما يستاك به :
11 - يستاك بكلّ عودٍ لا يضرّ ، وقد قسّمه الفقهاء بحسب أفضليّته إلى أربعة أقسامٍ :
الأوّل : اتّفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنّ أفضله جميعاً : الأراك ، لما فيه من طيبٍ وريحٍ وتشعيرٍ يخرج وينقّي ما بين الأسنان . ولحديث « أبي خيرة الصّباحيّ رضي الله عنه قال : كنت في الوفد ، يعني وفد عبد القيس الّذين وفدوا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأمر لنا بأراكٍ فقال : استاكوا بهذا » ولأنّه آخر سواكٍ استاك به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وللاتّباع سواءٌ كان العود طيّباً أم لا . كما اقتضاه كلام الشّيخين النّوويّ والرّافعيّ . الثّاني : قال به المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، يأتي بعد الأراك في الأفضليّة : جريد النّخل ، لما روي« أنّه آخر سواكٍ استاك به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم »وقيل وقع الاستياك آخراً بالنّوعين ، فكلٌّ من الصّحابيّين روى ما رأى . ولم يتكلّم الحنفيّة على النّخل .
الثّالث : الزّيتون . وقد استحبّه فقهاء المذاهب الأربعة ، لحديث « نعم السّواك الزّيتون من شجرةٍ مباركةٍ ، تطيّب الفم وتذهب الحفر وهو سواكي وسواك الأنبياء قبلي » .
الرّابع : ثمّ بما له رائحةٌ ذكيّةٌ ولا يضرّ . قال الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة : يستاك بقضبان الأشجار النّاعمة الّتي لا تضرّ ، ولها رائحةٌ طيّبةٌ تزيل القلح كالقتادة والسّعد . وقال الحنابلة : يكره بكلّ ذي رائحةٍ ذكيّةٍ ، ولم يقيّدوه بالضّرر . ومثّلوا له بالرّيحان والرّمّان .
ما يحظر الاستياك به أو يكره :
12 - يكره الاستياك بكلّ عودٍ يدمي مثل الطّرفاء والآس ، أو يحدث ضرراً أو مرضاً مثل الرّيحان والرّمّان ، لما روى الحارث في مسنده عن ضمير بن حبيبٍ قال « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن السّواك بعود الرّيحان وقال : إنّه يحرّك عرق الجذام » ويعرف ذلك أهل الطّبّ ، نصّوا على ذلك فقالوا : يكره كلّ ما يقول الأطبّاء إنّ فيه فساداً . ويحرم الاستياك بالأعواد السّامّة لإهلاكها أو شدّة ضررها . وهذا لا يعلم فيه خلافٌ بين العلماء . وفي حصول السّنّة بالاستياك بالمحظور قولان للشّافعيّة :
الأوّل : إنّه محصّلٌ للسّنّة ، لأنّ الكراهة والحرمة لأمرٍ خارجٍ ، وحملوا الطّهارة على الطّهارة اللّغويّة ( أي النّظافة ) .
الثّاني ، وهو المعتمد عندهم : لا تحصل به السّنّة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « السّواك مطهرةٌ للفم » . وهذا منجّسٌ بجرحه اللّثة وخروج الدّم ، لخشونته .
صفات السّواك :
13 - يسحب أن يكون الاستياك بعودٍ متوسّطٍ في غلظ الخنصر ، خالٍ من العقد ، لا رطباً يلتوي ، لأنّه لا يزيل القلح ( وسخ الأسنان ) ولا يابساً يجرح اللّثة ، ولا يتفتّت في الفم ، والمراد أن يكون ليّناً ، لا غاية في النّعومة ، ولا في الخشونة .
السّواك بغير عودٍ :
14 - أجاز بعض الفقهاء الاستياك بغير عودٍ ، مثل الغاسول والأصبع ، واعتبروه محصّلاً للسّنّة ، ونفاه آخرون ولم يعتبروه . والمسألة في الغاسول ( الأشنان ) على رأيين : فالحنفيّة ، والشّافعيّة : أجازوا استعمال الغاسول في الاستياك ، وقالوا : إنّه محصّلٍ للمقصود ومزيلٌ للقلح ، ويتأدّى به أصل السّنّة ، وأجاز الحنفيّة العلك للمرأة بدل السّواك . أمّا المالكيّة ، والحنابلة فقالوا : لو استعمل الغاسول عوضاً عن العيدان لم يأت بالسّنّة .
أمّا الاستياك بالأصبع ففيه ثلاثة أقوالٍ :
الأوّل : تجزئ الأصبع في الاستياك مطلقاً ، في رأيٍ لكلٍّ من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لما روي عن « عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه أنّه توضّأ فأدخل بعض أصابعه في فيه ... وقال : هكذا كان وضوء نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم » .
الثّاني : تجزئ الأصبع عند عدم وجود غيرها ، وهو مذهب الحنفيّة ، وهو رأيٌ آخر لكلٍّ من المالكيّة والشّافعيّة ، لما رواه أنس بن مالكٍ رضي الله عنه « أنّ رجلاً من بني عمرو بن عوفٍ قال : يا رسول اللّه إنّك رغّبتنا في السّواك ، فهل دون ذلك من شيءٍ قال : أصبعيك سواكٌ عند وضوئك ، أمرّهما على أسنانك » .
الثّالث : لا تجزئ الأصبع في الاستياك . وهو رأيٌ ثالثٌ للشّافعيّة ، والرّأي الآخر للحنابلة ، وعلّلوا ذلك بأنّ الشّرع لم يرد به ولا يحصل الإنقاء به حصوله بالعود .
كيفيّة الاستياك :
15 - يندب إمساك السّواك باليمنى ، لأنّه المنقول عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما اتّفق عليه من حديث عائشة رضوان اللّه عليها قالت : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يعجبه التّيامن في تنعّله وترجّله وطهوره ، وفي شأنه كلّه » وفي روايةٍ « وسواكه » ،« ثمّ يجعل الخنصر أسفل السّواك والأصابع فوقه ، كما رواه ابن مسعودٍ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ». ويبدأ من الجانب الأيمن ويمرّ به عرضاً أي عرض الأسنان ، لأنّ استعماله طولاً قد يجرح اللّثة ، لما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « استاكوا عرضاً وادّهنوا غبّاً » أي يوماً بعد يومٍ « واكتحلوا وتراً » . ثمّ يمرّ به على أطراف الأسنان العليا والسّفلى ظهراً وبطناً ، ثمّ على كراسيّ الأضراس ، ثمّ على اللّثة واللّسان وسقف الحلق بلطفٍ . ومن لا أسنان له يستاك على اللّثة واللّسان وسقف الحلق ، لأنّ السّواك وإن كان معقول المعنى إلاّ أنّه ما عرى عن معنى التّعبّد ، وليحصل له ثواب السّنّة .
وهذه الكيفيّة لا يعلم فيها خلافٌ .
آداب السّواك :
16 - ذكر الفقهاء آداباً للمستاك يستحبّ اتّباعها ، منها :
أ - يستحبّ ألاّ يستاك بحضرة الجماعة ، لأنّه ينافي المروءة ، ويتجنّب الاستياك في المسجد ، وفي المجالس الحافلة خلافاً لابن دقيق العيد .
ب - ويستحبّ أن يغسل سواكه بعد الاستياك لتخليصه ممّا علق به ، لحديث عائشة « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستاك ، فيعطيني السّواك لأغسله ، فأبدأ به فأستاك ، ثمّ أغسله وأدفعه إليه » كما يسنّ غسله للاستياك به مرّةً أخرى .
ج - ويستحبّ حفظ السّواك بعيداً عمّا يستقذر .
تكرار الاستياك ، وبيان أكثره وأقلّه :
17 - اتّفق الفقهاء على تكرار الاستياك حتّى يزول القلح ، ويطمئنّ على زوال الرّائحة إذا لم يزل إلاّ بالتّكرار ، لما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّي لأستاك حتّى لقد خشيت أن أحفي مقادم فمي » . واختلفوا في أقلّه على ثلاثة آراءٍ :
1 - أن يمرّ السّواك على أسنانه ثلاث مرّاتٍ . وهو المستحبّ عند الحنفيّة ، والأكمل عند الشّافعيّة للسّنّة في التّثليث ، وليطمئنّ القلب بزوال الرّائحة واصفرار السّنّ .
2 - يكفي مرّةً واحدةً إذا حصل بها الإنقاء ، وهو رأيٌ للشّافعيّة ، وتحصل السّنّة الكاملة بالنّيّة .
3 - لا حدّ لأقلّه ، والمراد هو زوال الرّائحة ، فما زالت به الرّائحة حصلت به السّنّة ، وهو روايةٌ للحنفيّة وقول المالكيّة ، والحنابلة .
إدماء السّواك للفم :
18 - إذا عرف أنّ من عادته إدماء السّواك لفمه استاك بلطفٍ ، فإن أدمى بعد ذلك ، كان الحكم على حالتين :
الأولى : إن لم يجد ماءً وضاق الوقت عن الصّلاة حرم الاستياك خشية تنجيس فمه .
الثّانية : إن وجد الماء واتّسع الوقت قبل الصّلاة لم يندب ، بل يجوز لما فيه من المشقّة والحرج .
استيامٌ *
انظر : سومٌ .
استيداعٌ *
انظر : وديعةٌ .
استيطانٌ *
انظر : وطنٌ .
استيعابٌ *
التعريف :
1 - الاستيعاب في اللّغة : الشّمول والاستقصاء والاستئصال في كلّ شيءٍ . يقال في الأنف أوعب جدعه : إذا قطعه كلّه ولم يبق منه شيئاً .
والفقهاء يستعملون الاستيعاب بهذا المعنى . فيقولون : استيعاب العضو بالمسح أو الغسل ، ويعنون به شمول المسح أو الغسل كلّ ، جزءٍ من أجزاء العضو .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإسباغ :
2 - الإسباغ هو : الإتمام والإكمال . يقال : أسبغ الوضوء إذا عمّ بالماء جميع الأعضاء بحيث يجري عليها ، فالإسباغ والاستيعاب متقاربان .
ب - الاستغراق :
3 - الاستغراق هو : الشّمول لجميع الأفراد دفعةً واحدةً ، فالفرق بينه وبين الاستيعاب أنّ الاستغراق لا يستعمل إلاّ فيما له أفرادٌ بخلاف الاستيعاب .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
يختلف الحكم التّكليفيّ للاستيعاب حسب مواطنه المختلفة في العبادات وغيرها .
أ - الاستيعاب الواجب :
4 - حيثما كان غسل اليدين أو الأعضاء في الطّهارة واجباً كان الاستيعاب واجباً فيه أيضاً ، بخلاف ما وجب مسحه كالرّأس فلا يجب استيعابه على خلافٍ في ذلك .
ومن الواجب استيعاب الأوقات الّتي لا تسع من الأعمال غير ما عيّن لها كالصّوم يستوعب جميع الشّهر وجميع النّهار ، وكمن نذر الاشتغال بالقرآن وعيّن كلّ ما بين المغرب والعشاء ، يجب عليه استيعاب ذلك الوقت . واستيعاب النّيّة للعبادة ، فلا يصحّ إخلاء جزءٍ منها من النّيّة ، لذلك وجب أن يقترن أوّل العبادة بالنّيّة ، ثمّ لا تنقطع إلى آخر العمل ، فإن انقطعت فسدت العبادة على خلافٍ وتفصيلٍ بين الفقهاء يرجع إليه في مصطلح ( نيّةٌ ) .
ويستثنى من ذلك الحجّ والعمرة حيث لا يفسدهما انقطاع النّيّة .
واستيعاب النّصاب كلّ الحول مختلفٌ فيه ، فبعضهم يرى اشتراطه لوجوب الزّكاة وبعضهم يكتفى في ذلك بتمامه في طرفي الحول . انظر ( زكاةٌ ) .
ب - الاستيعاب المندوب :
5 - منه استيعاب الرّأس بالمسح ، فهو مندوبٌ عند الحنفيّة ، والشّافعيّة ، وهو روايةٌ عن أحمد ، وواجبٌ عند المالكيّة ، وروايةٌ أخرى عن أحمد . وتفصيل ذلك في ( وضوءٌ ) . ومنه استيعاب المزكّي الأصناف الثّمانية في مصارف الزّكاة ، والّذين قالوا باستحبابه قالوه خروجاً من خلاف الشّافعيّة ، والقائلين بوجوبه .
6 - ومن خطاب الوضع إذا استوعب الإغماء أو الجنون يوماً كاملاً تسقط الصّلاة على خلافٍ موطن بيانه في مصطلحات ( صلاةٌ ) ، ( إغماءٌ ) ، ( جنونٌ ) .
ج - الاستيعاب المكروه :
7 - يكره للإنسان استيعاب جميع ماله بالتّبرّع أو الصّدقات ، وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب الصّدقات .
استيفاءٌ *
التعريف :
1 - الاستيفاء : مصدر استوفى ، وهو أخذ صاحب الحقّ حقّه كاملاً ، دون أن يترك منه شيئاً . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى .
الألفاظ ذات الصّلة :
القبض :
2 - قبض الدّين أخذه ، وهو كما يكون في الدّيون يكون كذلك في الأعيان ، فالقبض أعمّ من الاستيفاء .
علاقة الاستيفاء بالإبراء والحوالة :
3 - من تقسيمات الإبراء عند الحنفيّة أنّه : إمّا إبراء إسقاطٍ ، أو إبراء استيفاءٍ ، ففي الكفالة لو قال الدّائن للكفيل : برئت إليّ من المال ، كان إبراء استيفاء لكلٍّ من الكفيل والدّائن ، أمّا لو قال : أبرأتك ، فإنّه يكون إبراء إسقاطٍ ، يبرّأ به الكفيل فقط .
وتفصيله في مصطلح ( إبراءٌ ) .
وقد اختلف الفقهاء في ترجيح حقيقة الحوالة ، هل هي بيعٌ أو استيفاءٌ ؟ قال النّوويّ : والتّرجيح مختلفٌ في الفروع بحسب المسائل ، لقوّة الدّليل وضعفه ، ومن أمثلة ذلك : لو خرج المحال عليه مفلساً ، وقد شرط يساره ، فالأصحّ لا رجوع للمحال ، بناءً على أنّها استيفاءٌ ، ومقابله : له الرّجوع بناءً على أنّها بيعٌ .
من له حقّ الاستيفاء :
4 - يختلف من له حقّ الاستيفاء باختلاف الحقّ المراد استيفاؤه ، إذ هو إمّا حقٌّ خالصٌ للّه سبحانه وتعالى ، أو حقٌّ خالصٌ للعبد ، كالدّيون ، أو حقٌّ مشتركٌ . وبعض الفقهاء يقسّم هذا الحقّ المشترك إلى قسمين : ما غلب فيه حقّ اللّه كحدّ السّرقة ، وما غلب فيه حقّ العبد كالقصاص . والمراد بحقّ العبد المحض : ما يملك إسقاطه ، على معنى أنّه لو أسقطه لسقط ، وإلاّ فما من حقٍّ للعبد إلاّ وفيه حقٌّ للّه تعالى ، وهو أمره بإيصال ذلك الحقّ إلى مستحقّه ، فيوجد حقٌّ للّه تعالى دون حقٍّ للعبد ، ولا يوجد حقٌّ لعبدٍ إلاّ وفيه حقٌّ للّه تعالى .
استيفاء حقوق اللّه تعالى
أوّلاً : استيفاء الحدود :
5 - يجب على وليّ الأمر إنفاذ الحدود ، ولا يملك وليّ الأمر ولا غيره إسقاطها بعد ثبوتها لديه ، والّذي يتولّى استيفاءها هو وليّ الأمر أو من ينيبه ، فإن استوفاها غيره دون إذنه يعزّر لافتياته عليه .
أ - كيفيّة استيفاء حدّ الزّنا :
6 - حدّ الزّنا إمّا الرّجم ، وإمّا الجلد : وعلى كلٍّ فإمّا أن يكون الزّنا قد ثبت بالبيّنة أو بالإقرار ، فإن كان قد ثبت بالبيّنة ، فالحنفيّة يشترطون أن يحضر الشّهود ، وأن يبدءوا بالرّجم ، فإن امتنعوا سقط الحدّ . وغير الحنفيّة لا يشترطون حضور الشّهود ، إلاّ أنّ الشّافعيّة والحنابلة يرون حضورهم مستحبّاً ، أمّا المالكيّة فلا يرون حضورهم واجباً ولا مستحبّاً . والكلّ مجمعٌ في هذه الحالة على أنّه إن حاول الهرب لا يمكّن من ذلك ، بل قال بعضهم بأنّه إن خيف هربه يقيّد أو يحفر له . وإن كانت امرأةً يحفر لها ، أو تربط عليها ثيابها حتّى لا تتكشّف . وأمّا إن كان قد ثبت بالإقرار ، فهم مجمعون على أنّه إن حاول الهرب لم يتّبع ، ويوقف التّنفيذ ، جلداً كان أو رجماً ، ويعتبر ذلك رجوعاً عن إقراره . وهناك تفصيلاتٌ وخلافٌ في بعض هذه الأحكام يرجع إليها في مصطلح ( حدّ الزّنا ) .
وإذا كان الحدّ جلداً فالكلّ مجمعٌ على نزع ما يلبسه من حشوٍ أو فروٍ .
فإن كان رجلاً ينزع عنه ثيابه إلاّ ما يستر عورته ، ثمّ إن كان المحدود بالجلد مريضاً مرضاً يرجى شفاؤه أرجئ التّنفيذ إلى أن يبرأ ، وإن كان امرأةً حاملاً أرجئ الحدّ مطلقاً - رجماً أو جلداً - إلى أن تضع حملها ، ويستغني ولدها عن الرّضاع منها .
ب - كيفيّة استيفاء حدّ القذف وحدّ شرب الخمر :
7 - سبق ما يتّصل بالجلد وحدّ الزّنا ، على أنّه ينبغي في الجلد في حدّ الزّنا أن يكون أشدّ منه في حدّ القذف ، وأن يكون في حدّ القذف أشدّ منه في حدّ شرب الخمر .
ويرجع في تفصيل ذلك إلى ( حدّ القذف ) ( وحدّ الخمر ) .
هذا ، وللفقهاء تفصيلاتٌ في آلة الاستيفاء في الجلد وملابساته ، ترجع إلى تحقيق عدم تعريض المستوفى منه الحدّ إلى التّلف جزئيّاً أو كلّيّاً ، وتفصيلات ذلك في الحدود . وانظر أيضاً مصطلح ( جلدٌ ) ومصطلح ( رجمٌ ) . هذا ، وقد صرّح الفقهاء بأنّ مبنى إقامة الحدود على العلانية ، وذلك لقوله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين } ولكي يحصل الرّدع والزّجر ، فيأمر الإمام قوماً غير من يقيمون الحدّ بالحضور .
ج - كيفيّة استيفاء حدّ السّرقة :
8 - حدّ السّرقة من الحقوق المشتركة كحدّ القذف ، ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ الّذي يقيم حدّ القذف وحدّ السّرقة هو الإمام .
والتّفصيل في شروط ثبوت الحدود ، وحالات سقوطها يذكر في أبواب الحدود .
أمّا كيفيّة الاستيفاء في حدّ السّرقة ، فالفقهاء صرّحوا بأنّه إذا وجب القطع في حدّ السّرقة بشروطه المبيّنة في بابه ، فإنّه يستوفى بقطع اليد اليمنى من مفصل الكفّ ، بطريقة تؤمن معها السّراية ، كالحسم بالزّيت أو غيره من الوسائل . لحديث : « اقطعوه ثمّ احسموه » .
د - مكان استيفاء الحدود :
9 - لا يستوفى حدٌّ ولا قصاصٌ في المسجد ، حتّى لو وقعت الجناية فيه ، لئلاّ يؤدّي ذلك إلى تلويثه ، أمّا إذا وقعت الجناية في الحرم دون المسجد فالإجماع على أنّه يقتصّ منه فيه . أمّا إذا وقعت في الحلّ ولجأ الجاني إلى الحرم ، فقد اختلف فيه : فذهب الحنابلة ومحمّدٌ إلى أنّه لا يخرج ، بل يضطرّ للخروج بمنع الطّعام والشّراب عنه . واستدلّوا بعموم قوله تعالى : { ومن دخله كان آمناً } . وقال أبو يوسف : يباح إخراجه .
وقال المالكيّة : لا يؤخّر بل يقام عليه الحدّ أو القصاص خارج المسجد .
قال في نهاية المحتاج : لخبر الصّحيحين « إنّ الحرم لا يعيذ فارّاً بدمٍ » .
ثانياً : استيفاء التّعزيرات :
10 - التّعزيرات الّتي ترجع إلى حقّ اللّه تعالى ، اختلف الفقهاء فيها ، فقال مالكٌ : وجب التّعزير لحقّ اللّه كالحدود ، إلاّ أن يغلب على ظنّ الإمام أنّ غير الضّرب مصلحةٌ من الملامة والكلام . وذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه إذا كان منصوصاً من الشّارع على التّعزير وجب ، وإلاّ فللإمام إقامته أو العفو عنه ، حسب المصلحة وحصول الانزجار به أو بدونه ،
وقال الشّافعيّة : هو غير واجبٍ على الإمام ، إن شاء أقامه وإن شاء تركه . وينظر تفصيل هذا وأدلّته في مصطلح ( تعزيرٌ ) .
ثالثاً : استيفاء حقوق اللّه الماليّة :
أ - استيفاء الزّكوات :
11 - مال الزّكاة نوعان : ظاهرٌ ، وهو المواشي والزّروع والمال الّذي يمرّ به التّاجر على العاشر ، وباطنٌ : وهو الذّهب والفضّة ، وأموال التّجارة في مواضعها .
وولاية أخذ الزّكاة في الأموال الظّاهرة للإمام في مذاهب : الحنفيّة ، والمالكيّة ، وأحد قولي الشّافعيّة . ودليل ذلك قول اللّه تعالى : { خذ من أموالهم صدقةً } والّذي عليه عامّة أهل التّأويل أنّ المراد بالصّدقة الزّكاة ، وكذلك قوله تعالى : { إنّما الصّدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها } فقد جعل اللّه تعالى للعاملين عليها حقّاً ولو لم يكن للإمام أن يطالب أرباب الأموال بصدقات الأنعام والزّروع في أماكنها ، وكان أداؤها إلى أرباب الأموال ، لم يكن لذكر العاملين وجهٌ . وكان الرّسول عليه الصلاة والسلام والأئمّة بعده يبعثون المصدّقين إلى أحياء العرب والبلدان والآفاق ، لأخذ الصّدقات من الأنعام والمواشي في أماكنها .
وقال الحنفيّة : إنّه يلحق بالأموال الظّاهرة المال الباطن إذا مرّ به التّاجر على العاشر ، فله أن يأخذ منه الزّكاة في الجملة ، لأنّه لمّا سافر به وأخرجه من العمران صار ظاهراً والتحق بالسّوائم ، وهذا لأنّ الإمام إنّما كان له المطالبة بزكاة المواشي في أماكنها لمكان الحماية ، لأنّ المواشي في البراريّ لا تصير محفوظةً إلاّ بحفظ السّلطان وحمايته ، وهذا المعنى موجودٌ في مالٍ يمرّ به التّاجر على العاشر فكان كالسّوائم . وعليه إجماع الصّحابة رضي الله عنهم . وهذا الحكم ( دفع زكاة الأموال الظّاهرة إلى الأئمّة ) إذا كان الأئمّة عدولاً في أخذها وصرفها . وإن كانوا غير عدولٍ في غير ذلك ، وذلك مذهب المالكيّة ، فإن طلبها الإمام العدل فادّعى المزكّي إخراجها لم يصدّق ، والّذي في كتب الحنفيّة أنّ السّلاطين الّذين لا يضعون الزّكاة مواضعها إذا أخذوا الزّكاة أجزأت عن المزكّين ، لأنّ ولاية الأخذ لهم ، فلا تعاد . وقال بعضهم : يسقط الخراج ولا تسقط الزّكوات . ومؤدّى هذا أنّه إذا كان الإمام غير عادلٍ فللمزكّي إخراج زكاته .
والمنصوص عليه في مذهب الشّافعيّة . أنّه إذا كان الإمام عدلاً ففيها قولان : أحدهما أنّه محمولٌ على الإيجاب ، وليس لهم التّفرّد بإخراجها ، ولا تجزّئهم إن أخرجوها .
ومذهب الحنابلة لا يختلف عن الجمهور في الأموال الظّاهرة ، أمّا في الأموال الباطنة فقد صرّح أبو يعلى بأنّه ليس لوالي الصّدقات نظرٌ في زكاتها ، وأربابها أحقّ منه بإخراجها إلاّ أن يبذل ربّ المال زكاتها طوعاً ، والمذهب أنّ للإمام طلب زكاة الأموال الباطنة أيضاً . وإذا تأكّد الإمام أنّ أرباب الأموال لا يؤدّون زكاتها أجبرهم على إيتائها ولو بالقتال ، كما فعل أبو بكرٍ رضي الله عنه بما يفي الزّكاة ، وهذا إن كان الإمام يضعها موضعها ، وإلاّ فلا يقاتلهم .
ب - استيفاء الكفّارات والنّذور :
12 - ليس للإمام ولاية استيفاء الكفّارات والنّذور ، وإنّما يؤدّيها من وجبت عليه .
وعند الحنابلة يجوز للإمام طلب النّذر والكفّارة على الصّحيح من المذهب ، وهذا هو مذهب الشّافعيّة في الكفّارة .
استيفاء حقوق العباد :
أوّلاً : استيفاء القصاص :
13 - استيفاء القصاص لا بدّ له من إذن الإمام ، فإن استوفاه صاحب الحقّ بدون إذنه وقع موقعه ، وعزّر لافتياته على الإمام . ثمّ إنّ الّذي يستوفي القصاص فيما دون النّفس هو الإمام ، وليس للأولياء ذلك ، لأنّه لا يؤمن منهم التّجاوز أو التّعذيب .
أمّا إن كان القصاص في النّفس ، فالجمهور على أنّ الوليّ هو الّذي يتولاّه ، لقوله تعالى : { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً } . وللحديث الّذي فيه : « أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم دفع القاتل إلى أخ المقتول وقال له : دونك صاحبك » . رواه مسلمٌ . وله أن يوكّل فيه ، وإن كانوا أكثر من واحدٍ وكّلوا أحدهم . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الأصل تولّي الإمام أو من ينيبه ذلك ، فإن طلب المستحقّ استيفاء القصاص بنفسه ، ورآه الإمام أهلاً أجابه إلى ذلك ، وإلاّ لم يجبه . وتفصيل الكلام في هذه المسائل في مصطلح : ( قصاصٌ ) . هذا ، وقد صرّح الحنابلة بوجوب حضور الإمام أو نائبه ، ليؤمن التّجاوز أو التّعذيب ، وحضور القاضي الّذي حكم بالقصاص مسنونٌ عند الشّافعيّة . وصرّح الحنفيّة بوجوب حضور صاحب الحقّ رجاء أن يعفو .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
أ - كيفيّة استيفاء القصاص في النّفس :
14 - قال الحنفيّة ، وهو روايةٌ عن الحنابلة : إنّ القصاص لا يستوفى إلاّ بالسّيف ، لقول النّبيّ عليه الصلاة والسلام : « لا قود إلاّ بالسّيف » . والقود هو القصاص ، فكان هذا نفي استيفاء القصاص بغير السّيف . وإن أراد الوليّ أن يقتل بغير السّيف لا يمكّن للحديث ، ولو فعل يعزّر ، لكن لا ضمان عليه ، لأنّ القتل حقّه ، فإذا قتله فقد استوفى حقّه بأيّ طريقٍ كان ، إلاّ أنّه يأثم بالاستيفاء بطريقٍ غير مشروعٍ ، لمجاوزته حدّ الشّرع .
وعند المالكيّة والشّافعيّة - وهو إحدى روايتين للحنابلة - أنّ القاتل يقتل بمثل ما قتل به ، ودليله : حديث « اليهوديّ الّذي رضّ رأس مسلمةٍ بين حجرين ، فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يرضّ رأسه كذلك » . وهذا إن ثبت القتل ببيّنةٍ أو اعترافٍ .
فإن ثبت بقسامةٍ قتل بالسّيف ، إلاّ أن يقع القتل بما هو محرّمٌ .
ب - تأخير استيفاء القصاص :
15 - إذا كان وليّ الدّم واحداً أو أكثر ، وكانوا جميعاً عقلاء بالغين حاضرين ، وطلبوا الاستيفاء أجيبوا . أمّا إذا كان وليّ الدّم واحداً صغيراً أو مجنوناً ، فقد ذهب الشّافعيّة والحنابلة - وهو قولٌ للحنفيّة - إلى أنّه ينتظر البلوغ أو الإفاقة ، لاحتمال العفو آنئذٍ . وذهب المالكيّة إلى أنّه لا ينتظر ، بل الاستيفاء لوليّ الصّغير ، والقيّم على المجنون . والقول الآخر للحنفيّة أنّ الّذي يستوفي القصاص في هذه الحال هو القاضي .
وللحنفيّة قولٌ ثالثٌ بأنّ الوليّ إذا كان أباً أو جدّاً يستوفي القصاص عن الصّغير ، وليس ذلك للوصيّ .
أمّا إذا تعدّد أولياء الدّم وكان فيهم كبارٌ وصغارٌ ، فقد ذهب الشّافعيّة وأبو يوسف - وهو روايةٌ عن أحمد - إلى أنّه ينتظر بلوغ الصّغير . وذهب المالكيّة وأبو حنيفة - وهو الرّواية الثّانية عن أحمد - إلى أنّه يستوفيه الكبار . أمّا إن كان بعض الأولياء غائبين فإنّ انتظارهم واجبٌ عند أبي حنيفة والشّافعيّ وأحمد ، وفصّل المالكيّة فقالوا : ينتظر الغائب إن كانت غيبته قريبةً دون الغائب غيبةً بعيدةً ، وكذلك المجنون جنوناً غير مطبقٍ فإنّه ينتظر .
ج - وقت استيفاء القصاص فيما دون النّفس :
16 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه لا يقام القصاص فيما دون النّفس قبل برء المجروح ، لحديث : « لا يستقاد من الجراحة حتّى يبرأ » . والشّافعيّة قالوا : إنّه يقتصّ من الجاني على الفور . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( قصاصٌ ) .
ثانياً : استيفاء حقوق العباد الماليّة :
أ - استيفاء الحقّ من مال الغير بصفةٍ عامّةٍ :
17 - قال ابن قدامة : إذا كان لرجلٍ على غيره حقٌّ ، وهو مقرٌّ به باذلٌ له ، لم يكن له أن يأخذ من ماله إلاّ ما يدليه بلا خلافٍ بين أهل العلم ، فإن أخذ من ماله شيئاً بغير إذنه لزمه ردّه إليه ، وإن كان قدر حقّه ، لأنّه لا يجوز له أن يملك عليه عيناً من أعيان ماله بغير اختياره لغير ضرورةٍ ، وإن كانت من جنس حقّه ، لأنّه قد يكون للإنسان غرضٌ في العين ، فإن أتلفه أو تلفت فصارت ديناً في ذمّته ، وكان الثّابت في ذمّته من جنس حقّه تقاصّا في قياس المذهب . والمشهور من مذهب الشّافعيّ ، وإن كان المدين مانعاً لأداء الدّين لأمرٍ يبيح المنع كالتّأجيل والإعسار لم يجز أخذ شيءٍ من ماله بغير خلافٍ ، وإن أخذ شيئاً لزمه ردّه إن كان باقياً ، أو عوّضه إن كان تالفاً ، ولا يحصل التّقاصّ هاهنا ، لأنّ الدّين الّذي له لا يستحقّ أخذه في الحال بخلاف ما ذكر قبل .
وإن كان مانعاً له بغير حقٍّ ، وقدر على استخلاصه بالحاكم أو السّلطان لم يجز له الأخذ أيضاً بغير السّلطان أو الحاكم ، لأنّه قدر على استيفاء حقّه بمن يقوم مقامه ، فأشبه ما لو قدر على استيفائه من وكيله . وإن لم يقدر على ذلك لكونه جاحداً له ، ولا بيّنة له به ، أو لكونه لا يجيبه إلى المحاكمة ولا يمكنه إجباره على ذلك ، أو نحو هذا ، فالمشهور في المذهب أنّه ليس له أخذ قدر حقّه ، وهو إحدى الرّوايتين عن مالكٍ .
قال ابن عقيلٍ : وقد جعل أصحابنا المحدّثون لجواز الأخذ وجهاً في المذهب ، أخذاً من حديث هندٍ حين قال لها النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » . قال أبو الخطّاب : ويتخرّج لنا جواز الأخذ ، فإن كان المقدور عليه من جنس حقّه أخذ بقدره ، وإن كان من غير جنسه تحرّى واجتهد في تقويمه ، مأخوذٌ من حديث هندٍ ، ومن قول أحمد في المرتهن " يركب ويحلب بقدر ما ينفق " . والمرأة تأخذ مئونتها وبائع السّلعة يأخذها من مال المفلس بغير رضاً . واحتجّ من أجاز الأخذ بحديث هندٍ السّابق .
وقال الشّافعيّ : إن لم يقدر على استخلاص حقّه بعينه فله أخذ قدر حقّه من جنسه ، أو من غير جنسه ، إن لم يخف الفتنة . وإن كانت له بيّنةٌ وقدر على استخلاص حقّه فالمذهب عند الشّافعيّة : أنّ له أخذ جنس حقّه من ماله ، وكذا غير جنسه للضّرورة .
وفي قولٍ آخر : المنع ، لأنّه لا يتمكّن من تملّكه ، وما كان كذلك لا بدّ فيه من التّراضي .
18 - هذا ، وانفرد الشّافعيّة على المذهب أيضاً بأنّ لصاحب الحقّ أخذ حقّه استقلالاً ، ولو كان على مقرٍّ ممتنعٍ ، أو على منكرٍ ولصاحب الحقّ عليه بيّنةٌ ، لأنّ في الرّفع إلى القضاء مئونةً ومشقّةً وتضييع زمانٍ . والقول الآخر عندهم : يجب الرّفع إلى القاضي ، لإمكان حصوله على حقّه مع وجود الإقرار أو البيّنة .
والرّواية الأخرى من مذهب مالكٍ : أنّه إن لم يكن لغيره عليه دينٌ فله أن يأخذ بقدر حقّه ، وإن كان عليه دينٌ لم يجز ، لأنّهما يتحاصّان في ماله إذا أفلس . وقال أبو حنيفة : له أن يأخذ بقدر حقّه إن كان نقداً أو من جنس حقّه ، وإن كان المال عرضاً لم يجز ، لأنّ أخذ العوض عن حقّه اعتياضٌ ، ولا تجوز المعاوضة إلاّ بالتّراضي ، لكنّ المفتى به عند الحنفيّة جواز الأخذ من خلاف الجنس . واحتجّ المانعون من الحنابلة بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك » ، ومن أخذ منه قدر حقّه من ماله بغير علمه فقد خانه ، فيدخل في عموم الخبر . وقال صلى الله عليه وسلم : « لا يحلّ مال امرئٍ مسلمٍ إلاّ عن طيب نفسٍ منه » . ولأنّه إن أخذ من غير جنس حقّه ، كان معاوضةً بغير تراضٍ ، وإن أخذ من جنس حقّه ، فليس له تعيين الحقّ بغير رضا صاحبه فإنّ التّعيين إليه ، ألا ترى أنّه لا يجوز له أن يقول : اقض حقّي من هذا الكيس دون هذا ، ولأنّ كلّ ما لا يجوز له تملّكه إذا لم يكن له دينٌ لا يجوز له أخذه إذا كان له دينٌ ، كما لو كان باذلاً له . لكنّ المانعين استثنوا النّفقة ، لأنّها تراد لإحياء النّفس وإبقاء المهجة ، وهذا ممّا لا يصبر عنه ، ولا سبيل إلى تركه ، فجاز أخذ ما تندفع به الحاجة ، بخلاف الدّين ، ولذلك لو صارت النّفقة ماضيةً لم يكن لها أخذها ، ولو وجب لها عليه دينٌ آخر غير النّفقة لم يكن لها أخذه . وتفصيل ذلك في مصطلح ( نفقةٌ ) .
ب - استيفاء المرتهن قيمة الرّهن من المرهون :
19 - حقّ المرتهن في الرّهن أن يمسكه حتّى يؤدّي الرّاهن ما عليه ، فإن لم يأت به عند حلول الأجل كان له أن يرفعه إلى القاضي فيبيع عليه الرّهن ، وينصفه منه ، إن لم يجبه الرّاهن إلى البيع . وكذلك إن كان غائباً ، خلافاً للحنفيّة . وإن وكّل الرّاهن المرتهن على بيع الرّهن عند حلول الأجل جاز ، وكرهه الإمام مالكٌ ، إلاّ أن يرفع الأمر إلى القاضي .
والرّهن عند الجمهور يتعلّق بجملة الحقّ المرهون فيه وببعضه . على معنى أنّ الرّاهن لو أدّى بعض الدّين وبقي بعضه ، فإنّ الرّهن جميعه يبقى بيد المرتهن حتّى يستوفي كلّ حقّه . وقال بعض الفقهاء : بل يبقى من الرّهن بيد المرتهن بقدر ما يبقى من الحقّ .
وحجّة الجمهور أنّه محبوسٌ بحقٍّ ، فوجب أن يكون محبوساً بكلّ جزءٍ منه ، أصله حبس التّركة عن الورثة حتّى يؤدّوا الدّين الّذي على الميّت . وحجّة الفريق الثّاني أنّ جميعه محبوسٌ بجميعه ، فوجب أن تكون أبعاضه محبوسةً بأبعاضه ، أصله الكفالة .
والمرتهن أحقّ بثمن الرّهن من جميع الغرماء ، حتّى يستوفي حقّه ، حيّاً كان الرّاهن أو ميّتاً ، فإذا ضاق مال الرّاهن عن ديونه وطالب الغرماء بديونهم ، أو حجر عليه لفلسه ، وأريد قسمة ماله بين غرمائه ، فإنّ من له رهنٌ يختصّ بثمنه عن سائر الغرماء ، لأنّ حقّه متعلّقٌ بعين الرّهن وذمّة الرّاهن معاً ، وباقي الغرماء يتعلّق حقّهم بذمّة الرّاهن دون عين الرّهن ، فكان حقّ المرتهن أقوى ، وهذا من أكثر فوائد الرّهن ، وهو تقديمه بحقّه عند تزاحم الغرماء ، وليس في هذا خلافٌ بين المذاهب ، فيباع الرّهن ، فإن كان ثمنه قدر الدّين أخذه المرتهن ، وإن كان فيه زيادةٌ عن دينه ردّ الباقي على الغرماء ، وإن فضل من دينه شيءٌ أخذ ثمنه وشارك الغرماء ببقيّة دينه . وللتّفصيل يرجع إلى باب الرّهن .
ج - حبس المبيع لاستيفاء الثّمن :
20 - المنصوص عليه عند المالكيّة والحنفيّة - وهو قول الحنابلة اختاره ابن قدامة - أنّه إن كان الثّمن ديناً فللبائع أن يمتنع عن تسليم المبيع إلى المشتري حتّى يقضي الثّمن ، ويجبر المشتري على تسليم الثّمن قبل الاستيفاء كالمرتهن . واستدلّوا بأنّه لمّا كان الثّمن غير معيّنٍ وجب دفعه أوّلاً ليتعيّن . وفي رأيٍ للشّافعيّة والحنابلة أنّه إن قال البائع : لا أسلّم المبيع حتّى أقبض الثّمن ، وقال المشتري : لا أسلّمه حتّى أقبض المبيع ، وكان الثّمن عيناً أو عرضاً ، جعل بينهما عدلٌ يقبض منهما ، ويسلّم إليهما . مستدلّين على ذلك بأنّ حقّ البائع قد تعلّق بعين الثّمن ، كما تعلّق حقّ المشتري بعين المبيع فاستويا ، وقد وجب لكلّ واحدٍ منهما على الآخر حقٌّ قد استحقّ قبضه ، فأجبر كلّ واحدٍ منهما على إيفاء صاحبه حقّه ، وهذا قول الثّوريّ . وفي قولٍ للإمام أحمد ، وهو قولٌ ثانٍ للإمام الشّافعيّ : أنّه يجب تسليم المبيع أوّلاً ، ويجبر على ذلك البائع ، لأنّ تسليم المبيع يتعلّق به استقرار البيع وتمامه ، فكان تقديمه أولى ، وإن كان ديناً أجبر البائع على تسليم المبيع ، ثمّ أجبر المشتري على تسليم الثّمن ، لأنّ حقّ المشتري تعلّق بعين المبيع ، وحقّ البائع تعلّق بالذّمّة ، وتقديم ما تعلّق بالعين أولى لتأكّده ، وهذا إن كان الثّمن غير مؤجّلٍ .
د - الاستيفاء في الإجارة :
1 - استيفاء المنفعة :
21 - المنفعة تختلف في كلّ عقدٍ بحسب المعقود عليه ، واستيفاؤها يكون بتمكين المؤجّر للمستأجر من محلّ العقد . ويكون الاستيفاء في الأجير الخاصّ ( ويسمّى أجير الوحد ) بتسليم نفسه مع استعداده للعمل . واستيفاء الإجارة على عملٍ في عينٍ - كخياطة ثوبٍ مثلاً - يكون بتسليم العين مصنوعةً حسب الاتّفاق .
2 - استيفاء الأجرة :
22 - استيفاء الأجرة يكون بأحد أمورٍ : إمّا بتعجيل الأجرة من غير شرطٍ ، وإمّا باستيفاء المنفعة فعلاً ، أو التّمكّن منها ، وإمّا باشتراط تعجيلها ، أو التّعارف على التّعجيل كما صرّح به المالكيّة . وفي المسألة خلافٌ وتفصيلٌ يرجع إليه في مصطلح ( إجارةٌ ) .
هـ - استيفاء المستعير منفعة ما استعاره :
23 - أورد صاحب المغني أحكام استيفاء المنفعة في الإعارة فقال : وإن استعار شيئاً فله استيفاء منفعته بنفسه وبوكيله ، لأنّ وكيله نائبٌ عنه ، ويده كيده ، وليس له أن يؤجّره ، لأنّه لم يملك المنافع ، فلا يصحّ أن يملكها ، ولا نعلم في هذا خلافاً ، ولا خلاف بينهم أنّ المستعير لا يملك العين ، وأجمعوا على أنّ للمستعير استعمال المعار فيما أذن له فيه ، أمّا إعارته لغيره ففيه خلافٌ وتفصيلٌ موطنه مصطلح ( إعارةٌ ) .
و - النّيابة في الاستيفاء :
1 - استخلاف الإمام غيره في إقامة الحدود :
24 - أجمع فقهاء المذاهب على أنّ للإمام أن يستخلف غيره على إقامة الحدود ، لأنّه لا يقدر على استيفاء الجميع بنفسه ، لأنّ أسباب وجوبها توجد في أقطار دار الإسلام ، ولا يمكنه الذّهاب إليها ، وفي الإحضار إلى مكان الإمام حرجٌ عظيمٌ ، فلو لم يجز الاستخلاف لتعطّلت الحدود وهذا لا يجوز ، ولهذا « كان عليه الصلاة والسلام يجعل إلى أمرائه تنفيذ الأحكام ، وإقامة الحدود » . والاستخلاف نوعان : تنصيصٌ ، وتوليةٌ .
أمّا التّنصيص : فهو أن ينصّ على إقامة الحدود ، فيجوز للنّائب إقامتها بلا شكٍّ .
والتّولية على نوعين : خاصّةٌ ، وعامّةٌ .
فالعامّة : هي أن يولّي الإمام رجلاً ولايةً عامّةً ، مثل إمارة إقليمٍ أو بلدٍ عظيمٍ ، فيملك المولّى إقامة الحدود وإن لم ينصّ عليها ، لأنّه لمّا قلّده إمارة ذلك البلد فقد فوّض إليه القيام بمصالح المسلمين ، وإقامة الحدود من أعظم مصالحهم ، فيملكها .
والخاصّة : هي أن يولّي رجلاً ولايةً خاصّةً ، مثل جباية الخراج ونحو ذلك ، فلا يملك إقامة الحدود ، لأنّ هذه التّولية لم تتناول إقامة الحدود ، ولو استعمل أميراً على الجيش الكبير ، فإن كان أمير مصرٍ أو مدينةٍ فغزا بجنده ، فإنّه يملك إقامة الحدود في معسكره ، لأنّه كان يملك الإقامة في بلده ، فإذا خرج بأهله أو ببعضهم ملك عليهم ما كان يملك فيهم قبل الخروج ، وأمّا من أخرجه أمير البلد غازياً فمن كان يملك إقامة الحدود عليهم قبل خروجه وبعده لم يفوّض إليه الإقامة ، فلا يملك الإقامة .
2 - الوكالة بالاستيفاء :
25 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة وهو الرّاجح عند الحنابلة إلى أنّ كلّ ما يملك الإنسان من التّصرّفات فله أن يوكّل فيه ، ومن ذلك القود والحدود . وقال الحنفيّة : كلّ ما يملك الإنسان أن يستوفيه من الحقوق بنفسه ، يجوز أن يوكّل فيه إلاّ الحدود والقصاص ، فلا يجوز أن يستوفيها الوكيل في غيبة الموكّل عن مجلس الاستيفاء ، لأنّها تندرئ بالشّبهات . واستدلّ الأئمّة الثّلاثة على جواز التّوكيل في القود والحدود ، بأنّ النّبيّ عليه الصلاة والسلام قال : « اغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها . فاعترفت فرجمت » ولأنّ الحاجة تدعو إلى ذلك ، لأنّ الإمام لا يمكنه تولّي ذلك بنفسه .
ويجوز التّوكيل في إثباتها . ووافق بعض الحنابلة الحنفيّة على ما قالوه من عدم جواز استيفاء القصاص وحدّ القذف في غيبة الموكّل .

استيلاءٌ *
التّعريف :
1 - من معاني الاستيلاء لغةً : وضع اليد على الشّيء ، والغلبة عليه ، والتّمكّن منه .
وفي اصطلاح الفقهاء : إثبات اليد على المحلّ ، أو الاقتدار على المحلّ حالاً ومآلاً ، أو القهر والغلبة ولو حكماً . وأمّا الفعل المادّيّ الّذي يتحقّق به الاستيلاء فإنّه يختلف تبعاً للأشياء والأشخاص ، أي أنّ مدار الاستيلاء على العرف .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الحيازة :
2 - الحيازة والحوز لغةً : الجمع والضّمّ . وشرعاً : وضع اليد على الشّيء والاستيلاء عليه ، كما قال الدّردير .
ب - الغصب :
3 - الغصب لغةً : أخذ الشّيء قهراً وظلماً . وشرعاً : الاستيلاء على حقّ الغير بلا حقٍّ . فالغصب أخصّ من الاستيلاء ، لأنّ الاستيلاء يكون بحقٍّ وبغير حقٍّ .
ج - وضع اليد :
4 - يستفاد من كلام الفقهاء أنّ وضع اليد هو : الاستيلاء على الشّيء بالحيازة .
قال ابن عابدين : إنّ وضع اليد والتّصرّف من أقوى ما يستدلّ به على الملك ، ولذا تصحّ الشّهادة بأنّه ملكه ، وليس للإمام أن يخرج شيئاً من يد أحدٍ إلاّ بحقٍّ ثابتٍ معروفٍ ، وفي ذلك خلافٌ وتفصيلٌ .
د - الغنيمة :
5 - الاغتنام : أخذ الغنيمة ، وهي كما قال أبو عبيدٍ : ما أخذ من أهل العدوّ عنوةً فالاغتنام أخصّ من الاستيلاء .
هـ- الإحراز :
6 – الإحراز لغةً : جعل الشّيء في الحرز ، وهو الموضع الحصين الّذي يحفظ فيه الشّيء . وفي الشّرع : حفظ المال فيما يحفظ فيه عادةً ، كالدّار والخيمة ، أو بالشّخص نفسه .
وبين الإحراز والاستيلاء عمومٌ وخصوصٌ . ولذا كان الإحراز شرطاً لترتّب الملك على الاستيلاء في بعض الصّور ، فينفرد الاستيلاء في مثل استيلاء الكفّار على أموال المسلمين في دار الإسلام ، فليس ذلك إحرازاً .
صفة الاستيلاء : حكمه التّكليفيّ :
7 - يختلف حكم الاستيلاء بحسب الشّيء المستولى عليه ، وتبعاً لكيفيّة الاستيلاء ، فالأصل بالنّسبة للمال المعصوم المملوك للغير أنّ الاستيلاء عليه محرّمٌ ، إلاّ إذا كان مستنداً إلى طريقٍ مشروعٍ . أمّا المال غير المعصوم فإنّه يجوز الاستيلاء عليه وإن كان مملوكاً ، وكذا المال المباح فإنّه يملك بالاستيلاء عليه على ما سيأتي بيانه .
أثر الاستيلاء في الملك والتّملّك :
8 - الاستيلاء يفيد الملك إذا ورد على مالٍ مباحٍ غير مملوكٍ لأحدٍ ، على تفصيلٍ يأتي بيانه ، أو كان في حكم المباح لعدم العصمة ، بأن كان مالاً للحربيّين في دار الحرب . وهذا إمّا أن يكون منقولاً ، أو عقاراً ، ولكلٍّ حكمه الخاصّ .
9 - فإن كان المال الّذي تمّ الاستيلاء عليه من الحربيّين منقولاً أخذ بالقهر والغلبة ، فإنّ الملك لا يتحقّق فيه إلاّ بالقسمة بين الغانمين ، فالملك موقوفٌ عليها . وفي قولٍ عند الشّافعيّة أنّ الملك يثبت بنفس الاستيلاء بدار الحرب بعد الفراغ من القتال ، لزوال ملك الكفّار بالاستيلاء ، ووجود مقتضى التّمليك ، وهو انقضاء القتال ، وفي قولٍ أنّ الملك موقوفٌ ، فإن سلّمت الغنيمة إلى القسمة بأنّ ملكهم على الشّيوع . وبالقسمة - ولو في دار الحرب - ثبت الملك ، ويستقرّ عند جمهور الفقهاء : المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة . وبهذا قال الأوزاعيّ وابن المنذر وأبو ثورٍ ، لما روى أبو إسحاق الفزاريّ قال : قلت للأوزاعيّ : هل قسم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شيئاً من الغنائم بالمدينة ؟ قال : لا أعلمه ، إنّما كان النّاس يتّبعون غنائمهم ويقسمونها في أرض عدوّهم ،« ولم يقفل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن غزاةٍ قطّ ، أصاب فيها غنيمةً إلاّ خمّسه وقسّمه من قبل أن يقفل »، ولأنّ الملك ثبت فيها بالقهر والاستيلاء ، فصحّت قسمتها كما لو أحرزت بدار الإسلام ، لأنّ سبب الملك الاستيلاء التّامّ وقد وجد ، فإنّنا أثبتنا أيدينا عليها حقيقةً ، وقهرناهم ونفيناهم عنها ، والاستيلاء يدلّ على حاجة المستولي فيثبت الملك كالمباحات .
10 - لكنّ الحنفيّة يرون أنّ الملك لا يثبت للغزاة بدار الحرب بالاستيلاء ، ولكن ينعقد سبب الملك فيها ، على أن يصير علّةً عند الإحراز بدار الإسلام ، وعلى هذا فلم يعتبروا قسمة الغنائم في دار الحرب قسمة تمليكٍ ، وإنّما هي قسمة حملٍ ، لأنّ ملك الكفّار قائمٌ ، إذ الملك لا يتمّ عليها إلاّ بالاستيلاء التّامّ ، ولا يحصل إلاّ بإحرازها في دار الإسلام ، وما دام الغزاة في دار الحرب فاسترداد الكفّار ليس بنادرٍ بل هو محتملٌ .
11 - وأمّا إن كان المال المستولى عليه من الكفّار بالقهر والغلبة أرضاً ، فإنّ للفقهاء ثلاثة اتّجاهاتٍ : فالحنفيّة ، والحنابلة في روايةٍ - عليها المذهب عندهم - صرّحوا بأنّ الإمام مخيّرٌ بين أن يقسمها أو يتركها في يد أهلها بالخراج .
وقال المالكيّة في المشهور عندهم : إنّها لا تقسم ، ويرصد خراجها في مصالح المسلمين ، إلاّ أن يرى الإمام في وقتٍ أنّ المصلحة تقتضي القسمة ، والقول بأنّها تصير وقفاً بالاستيلاء ، ويرصد خراجها لصالح المسلمين روايةٌ عند الحنابلة . وقال الشّافعيّة : إنّها تملك للفاتحين كالمنقول . وهو روايةٌ عند الحنابلة ، وبه قال ابن رشدٍ المالكيّ ، وهو قولٌ عند المالكيّة يقابل المشهور ، وقالوا : إنّ الاستيلاء الحكميّ كالحقيقيّ في ترتّب الملك على الاستيلاء .
12 أمّا الأرض الّتي استولى عليها المسلمون بعد جلاء الكفّار عنها خوفاً ، فإنّها تصير بالاستيلاء عليها وقفاً لمصالح المسلمين . وأمّا الأرض الّتي استولى عليها المسلمون صلحاً فإنّها تبقى في أيدي أصحابها ، إذا كان الصّلح على أن تبقى في ملكيّتهم ، ويوضع عليها الخراج . أمّا إذا كان الصّلح على أن يتملّكها المسلمون فإنّها تكون وقفاً لمصالح المسلمين .
13 - وأمّا إذا كان الاستيلاء على مالٍ معصومٍ مملوكٍ للغير بطريقٍ من طرق التّملّك ، فإنّ الاستيلاء وحده لا يكسب ملكيّةً ، وإنّما حدوث التّملّك يكون بالسّبب المشروع الّذي يقتضيه كالشّراء والهبة ، وحقّ الاستيلاء في هذه الحالة يكون أثراً ونتيجةً للتّملّك وليس سبباً له . وأمّا إذا كان الاستيلاء عدواناً ، فإنّه لا يفيد ملكاً .
وبيان ذلك في مصطلحات ( غصبٌ ) ( وسرقةٌ ) .
14 - واستيلاء الحاكم على ما يحتكره التّجّار له أثرٌ في إزالة ملكيّتهم ، إذ للحاكم رفع يد المحتكرين عمّا احتكروه وبيعه للنّاس جبراً ، والثّمن لمالكيه ، على خلافٍ وتفصيلٍ مبيّنٍ في مصطلح ( احتكارٌ ) . ومن ذلك ما قالوه من استيلاء الحاكم على الفائض من الأقوات بالقيمة لإمداد جهةٍ انقطع عنها القوت أو إمداد جنوده ، لأنّ للإمام أن يخرج ذلك إذا كان بحقٍّ ثابتٍ معروفٍ كما يفهم من حاشية ابن عابدين ، والاستيلاء على عمل الصّانع إذا احتاج النّاس إلى صناعة طائفةٍ كالفلاحة والنّساجة ، ومدار الاستيلاء في الصّورتين على العرف .
استيلاء الكفّار الحربيّين على أموال المسلمين :
15 - اختلف الفقهاء في هذا على ثلاثة أقوالٍ مشهورةٍ :
1 - إنّ ما استردّه المسلمون من أيدي الحربيّين فهو لأربابه ، بناءً على أنّ الكفّار لا يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء عليها أصلاً ، وممّن قال بهذا الشّافعيّة ، وأبو ثورٍ وأبو الخطّاب من الحنابلة ، واحتجّوا بما رواه عمران بن حصينٍ أنّه « أسرت امرأةٌ من الأنصار ، وأصيبت العضباء ، فكانت المرأة في الوثاق ، وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم ، فانفلتت مع نعمها ذات ليلةٍ من الوثاق ، فأتت الإبل ، فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه ، حتّى تنتهي إلى العضباء ، فلم ترغ . قال : وناقةٌ منوّقةٌ . فقعدت في عجزها ثمّ زجرتها فانطلقت ، ونذروا بها ، فطلبوها فأعجزتهم . قال : ونذرت للّه إن نجّاها اللّه عليها لتنحرنّها ، فلمّا قدمت المدينة رآها النّاس ، فقالوا : العضباء ناقة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إنّها نذرت إن نجّاها اللّه عليها لتنحرنّها . فأتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال : سبحان اللّه ، بئسما جزتها ، نذرت للّه إن نجّاها اللّه عليها لتنحرنّها لا وفاء لنذرٍ في معصيةٍ ، ولا فيما لا يملك العبد » وفي رواية ابن حجرٍ « لا نذر في معصية اللّه » .
2- إنّ ما غنمه الكفّار يملكونه بمجرّد الاستيلاء عليه ، سواءٌ أحرزوه بدارهم أو لم يحرزوه ، وهو روايةٌ عن أحمد . ووجهه أنّ القهر سببٌ يملك به المسلم مال الكافر ، فملك به الكافر مال المسلم ، وعلى هذا إذا استردّ المسلمون ذلك كان غنيمةً سواءٌ بعد الإحراز أو قبله .
3- إنّ الكفّار يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء عليها شرط إحرازها بدارهم ، وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة وروايةٌ عن أحمد ، ودليله « قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكّة : وهل ترك لنا عقيلٌ من رباعٍ » ولأنّ العصمة تزول بالإحراز بدار الحرب ، إذ المالك لا يمكنه الانتفاع به إلاّ بعد الدّخول لما فيه من مخاطرةٍ ، إذ الدّار دارهم ، فإذا زال معنى الملك أو ما شرع له الملك يزول الملك ضرورةً ، فباسترداد المسلمين لذلك يكون غنيمةً .
استيلاء الكفّار على بلدٍ إسلاميٍّ :
16 - إذا استولى الكفّار على بلدٍ إسلاميٍّ فهل تصير دار حربٍ أم تبقى كما هي دار إسلامٍ ؟ في هذه المسألة خلافٌ وتفصيلٌ ، فذهب أبو يوسف ومحمّدٌ إلى أنّ دار الإسلام تصير دار كفرٍ بشرطٍ واحدٍ ، وهو إظهار أحكام الكفر . وتفصيل ذلك في مصطلح ( دار الإسلام ودار الحرب ) .
إسلام الحربيّ بعد استيلائه على مال المسلم :
17 - إذا استولى الحربيّ على مال مسلمٍ بالقهر والغلبة ، وحكم بملكيّته له شرعاً ، ثمّ دخل إلى دار الإسلام مسلماً وهو في يده ، فهو له ، لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم : « من أسلم على شيءٍ فهو له » ولأنّ إسلامه يعصم دمه وماله لخبر الصّحيحين أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال : « أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا : لا إله إلاّ اللّه ، فمن قالها فقد عصم منّي ماله ونفسه إلاّ بحقّه ، وحسابه على اللّه » . واستثنى الجمهور من ذلك استيلاءه على الحرّ المسلم فلا يقرّ عليه . قال أبو يوسف : كلّ ملكٍ لا يجوز فيه البيع فإنّ أهل الحرب لا يملكونه إذا أصابوه وأسلموا عليه ، وصرّح المالكيّة بأنّ مثله : الوقف المحقّق ، والمسروق في فترة عهده ، واللّقطة ، والدّين في ذمّته ، الوديعة ، وما استأجره من المسلمين حال كفره فلا يقرّ على شيءٍ من ذلك . وقواعد المذاهب الأخرى لا تأبى ذلك .
18 - وإذا استولى الكافر الحربيّ على مال مسلمٍ بطريق السّرقة ، أو الاغتصاب من حربيٍّ آخر ، ثمّ أسلم ودخل دار الإسلام وهو في يده ، فهو له أيضاً عند جمهور الفقهاء ، لأنّه استولى عليه حال كفره فأشبه ما استولى عليه بقهره للمسلمين . وعن أحمد أنّ صاحبه أحقّ به بالقيمة .
الاستيلاء على المال المباح :
19 - المال المباح كلّ ما خلقه اللّه لينتفع به النّاس على وجهٍ معتادٍ ، وليس في حيازة أحدٍ مع إمكان حيازته ، ويكون حيواناً : برّيّاً أو بحريّاً ، ويكون نباتاً : حشائش وأعشاباً وحطباً ، ويكون جماداً : أرضاً مواتاً وركازاً ، كما يكون ماءً وهواءً ، ومن حقّ أيّ إنسانٍ أن يتملّك منه ، ويكون ذلك بالاستيلاء عليه ، ويتحقّق الاستيلاء وتستقرّ الملكيّة إذا كان الاستيلاء بفعلٍ يؤدّي إلى التّمكّن من وضع اليد . روى أبو داود عن أمّ جندبٍ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلمٌ فهو له » وعن جابر بن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من أحاط حائطاً على أرضٍ فهي له » وفي روايةٍ : « من أحيا أرضاً ميّتةً فهي له » وإذا ثبت هذا بالنّسبة للعقار المباح فهو بالنّسبة للمنقول من المباحات أولى ، لظهور الاستئثار به ظهوراً لا يكون في العقار .
ولا يحدّ من سلطان النّاس في الاستيلاء على المال المباح إلاّ القواعد العامّة لتنظيم الانتفاع ومنع الضّرر .
20 - ولكلّ نوعٍ من الأموال المباحة طريقٌ للاستيلاء عليه ، فالاستيلاء على الماء المباح والرّكاز يكون بالحوز والكشف ، والاستيلاء على الكلأ والعشب يكون بالحشّ ، والاستيلاء على حيوان البرّ والبحر يكون بالاصطياد ، والاستيلاء على الأرض الموات يكون بالإحياء ، وبإقطاع التّمليك .
تنوّع الاستيلاء :
21 - الاستيلاء يكون حقيقيّاً بوضع اليد على الشّيء المباح فعلاً ، وهذا لا يحتاج إلى نيّةٍ وقصدٍ ، صرّح بذلك الشّافعيّة ، قال الرّمليّ في نهاية المحتاج : يملك الصّيد بضبطه باليد ، لأنّه مباحٌ ، فملك بوضع اليد عليه كسائر المباحات ، سواءٌ أقصد بذلك ملكه أم لا ، حتّى لو أخذه لينظر إليه ملكه . ويفهم ذلك من كلام سائر المذاهب ، وإنّما تثبت بالاستيلاء الحقيقيّ الملكيّة مستقرّةٌ ، وكذلك يكون الاستيلاء حقيقيّاً إذا كان بآلةٍ أعدّت لذلك ، وكان واضعها قريباً منها ، بحيث لو مدّ يده إليها لأمسك الصّيد ، لأنّه ليس بممتنعٍ عليه .
ومن هذا لو نصب شبكةً للصّيد فوقع فيها طائرٌ وامتنع عليه الطّيران ، أو أغرى كلباً معلّماً فاصطاد حيواناً ، فإنّ من نصب الشّبكة ومن أغرى الكلب يتملّك الصّيد ، سواءٌ أكان هو مالك الشّبكة والكلب أم كان المالك غيره .
22 - ويكون الاستيلاء حكميّاً ، وهو ما كان بواسطة الآلة وحدها الّتي تهيّئ المباح لوضع اليد عليه ، ولم يكن واضعها قريباً منها . كحفرةٍ في جورة المنتفع بالأرض أو مالكها تجمّع فيها ماء المطر ، فلا بدّ لتملّك ما تجمّع فيها من ماءٍ من وجود القصد ، أمّا من غير قصدٍ فإنّ الملكيّة تثبت غير مستقرّةٍ ، ولا تستقرّ إلاّ بصيرورة الاستيلاء حقيقيّاً ، وهذا باتّفاق المذاهب .
23 - وقد سئل الحلوانيّ الحنفيّ عمّن علّق كوزه ، أو وضعه في سطحه ، فأمطر السّحاب وامتلأ الكوز من المطر ، فجاء إنسانٌ وأخذ ذلك الكوز مع الماء ، هل لصاحب الكوز أن يستردّه مع الماء ؟ فقال : لا إشكال في استرداد الكوز ، وأمّا الماء فإن كان قد أعدّ الكوز لذلك حقّ له أن يستردّه ، وإن لم يعدّه لذلك لم يستردّه .
ولو التجأ صيدٌ إلى أرض رجلٍ أو إلى داره ، فلا يعدّ ذلك استيلاءً من صاحب الأرض أو الدّار ، لأنّهما لم يعدّا للاصطياد ، لأنّه لم يحدث منه فعل الاستيلاء ، أمّا إذا ردّ عليه صاحب الدّار الباب بنيّة أخذه ملكه ، لتحقّق الاستيلاء عليه بفعله مع إمكان أخذه .
ومن نصب فسطاطاً فالتجأ إليه صيدٌ لم يملك ، لأنّ الفسطاط لم يكن آلة صيدٍ ، وما كان نصبه بقصد الاستيلاء على الصّيد ، وكذا لو نصب شبكةً للتّجفيف فتعلّق بها صيدٌ ولم يكن من علّق الشّبكة حاضراً بالقرب منها فإنّه لا يملكه ، إذ القصد مرعيٌّ في التّملّك ، ومع هذا فإنّه أحقّ به من غيره إن حضر وهو معلّقٌ بالشّبكة .
وتفصيل كلّ ذلك في مصطلح ( اصطيادٌ ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
استيلادٌ *
التعريف :
1 - الاستيلاد لغةً : مصدر استولد الرّجل المرأة إذا أحبلها ، سواءٌ أكانت حرّةً أم أمةً . واصطلاحاً كما عرّفه الحنفيّة : تصيير الجارية أمّ ولدٍ . وعرّف غيرهم أمّ الولد بتعاريف منها : قول ابن قدامة : إنّها الأمة الّتي ولدت من سيّدها في ملكه . فأمّ الولد نوعٌ من أنواع الرّقيق الّذي له في الفقه أحكامٌ خاصّةٌ من حيث نشوءه وما يتلوه ، وللتّفصيل ينظر ( استرقاقٌ ورقٌّ ) ، والكلام هنا منحصرٌ فيما تنفرد به أمّ الولد عن سائر الرّقيق من أحكامٍ خاصّةٍ ، وكذلك أحكام ولدها .
الألفاظ ذات الصّلة :
العتق :
2 - من معاني العتق في اللّغة : السّراح والاستقلال .
وشرعاً : رفع ملك الآدميّين عن آدميٍّ مطلقاً تقرّباً إلى اللّه تعالى ، فهو يجتمع مع الاستيلاد في أنّ كلاًّ منهما سببٌ للحرّيّة ، غير أنّ العتق قد يكون منجزاً ، أمّا أمّ الولد فتصير حرّةً بعد موت سيّدها غالباً ، إذ يجوز عتقها وهي أمّ ولدٍ حال حياة السّيّد .
التّدبير :
3 - التّدبير : تعليق العتق بالموت ، كأن يقول السّيّد لعبده أو أمته : أنت حرٌّ أو أنت حرّةٌ دبر موتي أي بعد موتي أو ما شابه ذلك من الألفاظ ، فهو يجتمع مع الاستيلاد في أنّ كلاًّ منهما سببٌ للحرّيّة بعد الموت ، لكنّ التّدبير بالقول ، والاستيلاد بالفعل .
الكتابة :
4 - الكتابة والمكاتبة : بيع السّيّد نفس رقيقه منه بمالٍ في ذمّته ، فيعتق العبد أو الأمة بعد أداء ما كوتب عليه ، فكلٌّ من الاستيلاد والمكاتبة سببٌ للحرّيّة إلاّ أنّ المكاتبة عقدٌ بعوضٍ . التّسرّي :
5 - التّسرّي إعداد الرّجل أمته لأن تكون موطوءةً ، فالفرق بينه وبين الاستيلاد حصول الولادة .
صفة الاستيلاد ، وحكمه التّشريعيّ ، وحكمة التّشريع :
6 - قال صاحب المغني : لا خلاف في إباحة التّسرّي ووطء الإماء ، لقول اللّه تعالى { والّذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ، فإنّهم غير ملومين } وقد كانت مارية القبطيّة أمّ ولد النّبيّ صلى الله عليه وسلم حيث ولدت له إبراهيم ، وكانت هاجر أمّ إسماعيل سرّيّة سيّدنا إبراهيم ، وكان لعمر بن الخطّاب أمّهات أولادٍ ، وكذلك لعليّ بن أبي طالبٍ ، ولكثيرٍ من الصّحابة رضي الله عنهم ، وكان عليٌّ زين العابدين بن الحسين ، والقاسم بن محمّد بن أبي بكرٍ ، وسالم بن عبد اللّه بن عمر ، من أمّهات الأولاد ، وروي أنّ النّاس لم يكونوا يرغبون في أمّهات الأولاد حتّى ولد هؤلاء الثّلاثة من أمّهات الأولاد ، فرغب النّاس فيهنّ . ويقصد بالاستيلاد الولد ، فقد يرغب الشّخص في الأولاد ولا يتيسّر له ذلك من الحرائر ، وأباح اللّه له أن يتسرّى من تلد له . ومن تحمل من سيّدها تعتق عليه بموته من كلّ ماله تبعاً لولدها . والأصل في ذلك قول النّبيّ « أيّما أمةٍ ولدت من سيّدها فهي حرّةٌ عن دبرٍ منه » . والاستيلاد وسيلةٌ للعتق ، والعتق من أعظم القرب .
حكم ولد المستولدة من غير سيّدها :
7 - إذا صارت الأمة أمّ ولدٍ بولادتها من سيّدها ، ثمّ ولدت من غيره ، كان لذلك الولد حكم أمّه في العتق بموت سيّدها ، وغيره من أحكامها ، وأمّا أولادها الّذين ولدتهم قبل ثبوت حكم الاستيلاد لها فلا يتّبعونها ، ولا يكون لهم حكم أمّهم .
ما يتحقّق به الاستيلاد وشرائطه :
8 - يتحقّق الاستيلاد ( بمعنى أن تصير الجارية أمّ ولدٍ ) بولادة الولد الحيّ أو الميّت ، لأنّ الميّت ولدٌ ، به تتعلّق أحكام الولادة فتنقضي به العدّة ، وتصير المرأة نفساء ، وكذا إذا أسقطت سقطاً مستبيناً خلقه أو بعض خلقه وأقرّ السّيّد بوطئها ، فهو بمنزلة الحيّ الكامل الخلقة ، ويترتّب على هذا ثبوت النّسب إذا أقرّ السّيّد بالوطء عند الجمهور ، خلافاً للحنفيّة حيث اشترطوا إقراره بأنّ الولد منه . وإذا تزوّج الشّخص أمة غيره فأولدها أو أحبلها ثمّ ملكها بشراءٍ أو غيره لم تصر أمّ ولدٍ له بذلك ، سواءٌ ملكها حاملاً فولدت في ملكه ، أو ملكها بعد ولادتها ، وبهذا قال الشّافعيّة والحنابلة ، لأنّها علقت منه بمملوكٍ فلم يثبت لها حكم الاستيلاد . ونقل عن الإمام أحمد أنّها تصير أمّ ولدٍ في الحالين ، وهو قول أبي حنيفة ، لأنّها أمّ ولدٍ وهو مالكٌ لها ، فثبت لها حكم الاستيلاد ، كما لو حملت في ملكه .
وعند المالكيّة إن اشتراها حاملاً فإنّها تصير أمّ ولدٍ بهذا الحمل .
ما يملكه السّيّد في أمّ الولد :
9 - إذا حبلت الأمة من سيّدها وولدت فحكمها حكم الإماء في حلّ وطء سيّدها لها ، واستخدامها ، وملك كسبها ، وتزويجها ، وإجارتها ، وعتقها ، وهذا قول أكثر أهل العلم . وقال المالكيّة : لا يجوز لسيّدها تزويجها بغير رضاها ، فإن رضيت جاز مع الكراهة ، قالوا : لأنّ ذلك ليس من مكارم الأخلاق ، وقالوا : إنّ إجارتها كذلك لا تجوز إلاّ برضاها وإلاّ فسخت ، وللسّيّد قليل خدمتها .
ما لا يملكه السّيّد :
10 - جمهور الفقهاء - وعليه أكثر التّابعين - على أنّ السّيّد لا يجوز له في أمّ ولده التّصرّف بما ينقل الملك ، فلا يجوز بيعها ، ولا وقفها ، ولا رهنها ، ولا تورث ، بل تعتق بموت السّيّد من كلّ المال ويزول الملك عنها . روي عن عبيدة قال : خطب عليٌّ النّاس ، فقال : ( شاورني عمر في أمّهات الأولاد فرأيت أنا وعمر أن أعتقهنّ ، فقضى به عمر حياته ، وعثمان حياته ، فلمّا ولّيت رأيت أن أرقّهنّ ). قال عبيدة : فرأي عمر وعليٍّ في الجماعة أحبّ إلينا من رأي عليٍّ وحده . وروي القول بهذا أيضاً عن عثمان وعائشة ، وروي الخلاف في ذلك عن عليٍّ وابن عبّاسٍ وابن الزّبير قالوا بإباحة بيع أمّ الولد .
والأصل في الباب حديث « أيّما أمةٍ ولدت من سيّدها فهي حرّةٌ عن دبرٍ منه » وخبر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن بيع أمّهات الأولاد ، لا يوهبن ولا يورثن ، يستمتع بها سيّدها ما دام حيّاً ، فإذا مات فهي حرّةٌ » .
أثر اختلاف الدّين في الاستيلاد :
11 - قال الفقهاء : يصحّ استيلاد الكافر ، ذمّيّاً أو مستأمناً أو مرتدّاً ، كما يصحّ منه العتق . وإذا استولد الذّمّيّ أمته الذّمّيّة ثمّ أسلمت لم تعتق في الحال عند الشّافعيّة ، وفي الرّواية المعتمدة عند الحنابلة . وعند المالكيّة تعتق إذ لا سبيل إلى بيعها ، ولا إلى إقرار ملكه عليها ، لما فيه من إثبات ملك الكافر على مسلمةٍ ، فلم يجز كالأمة .
وعن الإمام أحمد روايةٌ أخرى أنّها تستسعى ، فإن أرادت عتقت ، وهو قول أبي حنيفة إذا لم يسلم مالكها ، لأنّ في الاستسعاء جمعاً بين الحقّين : حقّها في ألاّ تبقى ملكاً للكافر ، وحقّه في حصول عوضٍ عن ملكه ، فأشبه بيعها إذا لم تكن أمّ ولدٍ ، وإذا أسلمت أمّ ولدٍ لكافرٍ منع من وطئها أو التّلذّذ بها ، ويحال بينه وبينها ، ويجبر على نفقتها فإذا أسلم حلّت له .
ما تختصّ به المستولدة :
الأصل في أحكام أمّهات الأولاد أنّها كأحكام الإماء في جميع الأمور ، إلاّ أنّ بي الولد تختصّ بما يلي :
أ - العدّة :
12 - إذا مات السّيّد عن أمّ ولده فعند المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة تستبرأ بحيضةٍ ، وأمّا مذهب الحنفيّة فعليها العدّة ، وعدّتها بالحيض فلا يكتفى بحيضةٍ ، وإنّما كانت عدّتها بالحيض في الموت وغيره كتفريق القاضي لأنّ عدّتها لتعرف براءة الرّحم ، وهذا إذا كانت غير يائسةٍ وغير حاملٍ ، فإنّ عدّة اليائسة شهران ، وعدّة الحامل وضع الحمل ، ولا نفقة لها في مدّة العدّة عند كلّ الفقهاء ، لأنّها عدّة وطء لا عدّة عقدٍ .
ب - العورة :
13 - عورة أمّ الولد ما بين السّرّة والرّكبة والظّهر والبطن ، وهذا عند الحنفيّة ، وروايةٌ عن المالكيّة ، وفي روايةٍ أخرى أنّها لا تصلّي إلاّ بقناعٍ ، وعند الشّافعيّة ، وهو الصّحيح عند الحنابلة أنّ عورتها ما بين السّرّة والرّكبة .
جناية أمّ الولد :
14 - اتّفق الفقهاء على أنّ أمّ الولد إذا جنت جنايةً أوجبت المال ، أو أتلفت شيئاً ، فعلى السّيّد فداؤها بأقلّ الأمرين : من قيمتها يوم الحكم على أنّها أمةٌ بدون مالها ، أو الأرش ، حتّى وإن كثرت الجنايات .
وحكي قولٌ آخر عن الحنابلة أنّ على السّيّد فداءها بأرش جنايتها بالغةً ما بلغت ، كالقنّ .
إقرار أمّ الولد بجنايةٍ :
15 - إذا أقرّت أمّ الولد بجنايةٍ توجب المال لم يجز إقرارها ، لأنّه إقرارٌ على السّيّد ، وهذا بخلاف الإقرار بالقتل عمداً ، فإنّه يصحّ إقرارها على نفسها فتقتل به . وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وأبي الخطّاب من الحنابلة . ومذهب الحنابلة : أنّ العبد - وأمّ الولد مثله - يصحّ إقراره بالحدّ والقصاص فيما دون النّفس ، لأنّ الحقّ له دون سيّده .
وأمّا إقراره بما يوجب القصاص في النّفس فالمنصوص عن أحمد أنّه لا يقبل ، ويتبع به بعد العتق ، لأنّه يسقط حقّ سيّده بإقراره ، ولأنّه متّهمٌ في أنّه يقرّ لرجلٍ ليعفو عنه ويستحقّ أخذه ، فيتخلّص به من سيّده . واختار أبو الخطّاب أنّه يصحّ إقراره به ، لأنّه أحد فرعي القصاص ، فيصحّ إقراره بما دون النّفس .
الجناية على جنين أمّ الولد من سيّدها :
16 - تقدّم أنّ حمل أمّ الولد من سيّدها حرٌّ ، فلو ضربها أحدٌ فألقت جنينها ففيه دية جنين الحرّة ، انظر مصطلح ( إجهاضٌ ) .
الجناية عليها :
17 - إذا قتل المستولدة حرٌّ ، فلا قصاص عليه لعدم المكافأة ، وعليه قيمتها بالغةً ما بلغت ، وإن زادت على دية الحرّة ، وذلك عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف .
وقال أبو حنيفة ومحمّدٌ : دية العبد قيمته . فإن بلغت دية الحرّ ، أو بلغت قيمة الأمة قيمة دية الحرّة ينقص كلٌّ من دية العبد أو الأمة عشرة دراهم ، إظهاراً لانحطاط مرتبة الرّقيق عن الحرّ . وتعيين العشرة بأثر ابن مسعودٍ . أمّا إذا قتلها رقيقٌ فيقتل بها لأنّها أكمل منه .
أثر موت المستولدة في حياة سيّدها عليها ، وعلى ولدها من غيره :
18 - إذا ماتت أمّ الولد قبل سيّدها لا يبطل حكم الاستيلاد في الولد الّذين ولدتهم بعد ثبوت حكم الاستيلاد لها ، بل يعتقون بموت السّيّد .
الوصيّة للمستولدة وإليها :
19 - تصحّ الوصيّة لأمّ الولد ، قال صاحب المغني : لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم القائلين بثبوت حكم الاستيلاد . فقد روي أنّ عمر بن الخطّاب " أوصى لأمّهات أولاده بأربعة آلافٍ ، أربعة آلافٍ لكلّ امرأةٍ منهنّ ولأنّ بي الولد حرّةٌ في حال نفاذ الوصيّة لأنّ عتقها يتنجّز بموته ، فلا تقع الوصيّة لها إلاّ في حال حرّيّتها ، وذلك إذا احتملها الثّلث ، فما زاد يتوقّف على إجازة الورثة ، فإن أجازوه جاز إلاّ ردّ إليهم . وكذلك تجوز الوصيّة إلى المستولدة بعد وفاة سيّدها إذا كانت صالحةً لذلك ، لأنّها بعد عتقها بموت سيّدها كسائر الحرائر ، فتجوز الوصيّة إليها .
أسرٌ *
انظر : أسرى .
إسرارٌ *
التعريف :
1 - من معاني الإسرار في اللّغة : الإخفاء . ومنه قوله تعالى : { وإذ أسرّ النّبيّ إلى بعض أزواجه حديثاً } . وأسررت الشّيء : أخفيته .
أمّا في الاصطلاح فيأتي ( الإسرار ) بالمعاني التّالية :
أ - أن يسمع نفسه دون غيره ، وأدناه ما كان بحركة اللّسان ، وهذا المعنى يستعمله الفقهاء في أقوال الصّلاة والأذكار .
ب - أن يسمع غيره على سبيل المناجاة ، مع الكتمان عن الآخرين ، وهذا المعنى يرد في السّرّ وإفشائه ، ويرجع إليه في مصطلح ( إفشاء السّرّ ) .
ج - أن يخفي فعله عمّن سواه ، وهذا المعنى يرد في أداء العبادات كالصّلاة والزّكاة ونحوهما .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - المخافتة :
2 - من معاني المخافتة في اللّغة : خفض الصّوت . أمّا في الاصطلاح فقد اختلفوا في حدّ وجود القراءة على ثلاثة أقوالٍ :
فشرط الهندوانيّ والفضليّ من الحنفيّة لوجودها خروج صوتٍ يصل إلى أذنه ، وبه قال الشّافعيّ . وشرط الإمام أحمد وبشرٌ المريسيّ خروج الصّوت من الفم وإن لم يصل إلى أذنه ، لكن بشرط كونه مسموعاً في الجملة ، حتّى لو أدنى أحدٌ صماخه إلى فيه يسمع ، ولم يشترط الكرخيّ وأبو بكرٍ البلخيّ السّماع ، واكتفيا بتصحيح الحروف .
واختار شيخ الإسلام قاضي خان وصاحب المحيط والحلوانيّ قول الهندوانيّ ، كما في معراج الدّراية . فظهر بهذا أنّ أدنى المخافتة إسماع نفسه ، أو من بقربه من رجلٍ أو رجلين مثلاً ، وأعلاها مجرّد تصحيح الحروف ، كما هو مذهب الكرخيّ ، وأدنى الجهر إسماع غيره ممّن ليس بقربه ، كأهل الصّفّ الأوّل ، وأعلاه لا حدّ له .
ب - الجهر :
3 - من معاني الجهر في اللّغة : رفع الصّوت . يقال : جهر بالقول رفع به صوته .
وفي الاصطلاح : أن يسمع غيره ممّن يليه ، وأعلاه لا حدّ له ، فالجهر مباينٌ للإسرار .
ج - الكتمان :
4 - من معانيه في اللّغة : أنّه خلاف الإعلان . وهو في الاصطلاح : السّكوت عن البيان . قال تعالى { إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّنّاه للنّاس في الكتاب أولئك يلعنهم اللّه ويلعنهم اللاّعنون ، إلاّ الّذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا ، فأولئك أتوب عليهم وأنا التّوّاب الرّحيم } .
د - الإخفاء :
5 - الإحفاء بمعنى الإسرار لغةً واصطلاحاً ، إلاّ أنّ استعمال الإخفاء يغلب في الأفعال ، أمّا الإسرار فيغلب في الأقوال . وينظر مصطلح ( اختفاءٌ ) .
صفة الإسرار : حكمه التّكليفيّ :
أوّلاً - الإسرار بمعنى إسماع نفسه فقط :
الإسرار في العبادات :
6 - الصّلوات السّرّيّة : المراد بها الّتي لا جهر فيها ، وهي الظّهر والعصر في الفرائص والنّوافل ، وصلاة التّطوّع في النّهار . والإسرار فيها مستحبٌّ عند الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة في قولٍ لهم ، وفي آخر مندوبٌ ، وواجبٌ عند الحنفيّة . وإنّما كانت سرّيّةً ، لأنّها صلاة نهارٍ ، وصلاة النّهار عجماء كما ورد في الخبر ، أي ليست فيها قراءةٌ مسموعةٌ ، وذلك بالنّسبة لكلّ مصلٍّ ، سواءٌ أكان إماماً أم منفرداً أم مأموماً عند غير الحنفيّة ، فإنّ المأموم عندهم لا قراءة عليه .
الإسرار في أقوال الصّلاة :
أ - تكبيرة الإحرام :
7 - يستحبّ للإمام أن يجهر بالتّكبير بحيث يسمع المأمومين ليكبّروا ، فإنّهم لا يجوز لهم التّكبير إلاّ بعد تكبيره . فإن لم يمكنه إسماعهم جهر بعض المأمومين ليسمعهم ، أو ليسمع من لا يسمع الإمام ، لما روى جابرٌ قال « صلّى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ خلفه ، فإذا كبّر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كبّر أبو بكرٍ ليسمعنا » متّفقٌ عليه .
ب - دعاء الاستفتاح :
8 - وهو ما تستفتح به الصّلاة من الأدعية المأثورة لذلك ، نحو « سبحانك اللّهمّ وبحمدك ... » أو « وجّهت وجهي ... » وهو سنّةٌ عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، خلافاً للمالكيّة فإنّهم لا يقولون به . والسّنّة عند من يقول بمشروعيّته أن يأتي به سرّاً ، ويكره الجهر به ولا تبطل الصّلاة . انظر ( استفتاحٌ ) .
ت - التّعوّذ :
9 - والقول في الإسرار به كالقول في الاستفتاح سواءٌ .
ث - البسملة لغير المؤتمّ في أوّل كلّ ركعةٍ :
10 - وهي سنّةٌ عند الحنفيّة والحنابلة ، واجبةٌ عند الشّافعيّة في الصّلاة ، ولا يقول بها المالكيّة في الفرض لكراهيتها في المشهور ، وأجازوها في النّافلة من غير كراهةٍ ، فيسنّ الإسرار بها عند الحنفيّة والحنابلة ، أمّا عند الشّافعيّة فهي تابعةٌ لكيفيّة القراءة من جهرٍ أو إسرارٍ ، وتفصيله في مصطلح ( بسملةٌ ) .
ج – قراءة الفاتحة :
11 – وتقرأ سرّاً في الصّلاة السّرّيّة ، للإمام والمنفرد ، وفي الرّكعتين الثّالثة والرّابعة من الصّلاة الجهريّة للإمام والمنفرد ، أمّا قراءة المأموم لها عند من قال بذلك فهي كلّها سرّيّةٌ . أمّا المنفرد في الصّلاة الجهريّة ، فهو مخيّرٌ بين الجهر والإسرار عند الحنفيّة والحنابلة ، ويستحبّ له الجهر عند الشّافعيّة .
ويسرّ في النّوافل النّهاريّة وجوباً عند الحنفيّة ، واستحباباً عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ويسرّ في قضاء الصّلاة السّرّيّة إذا قضاها ليلاً ، وصرّح ابن قدامة بأنّه لا يعلم فيه خلافاً . وإذا قضى الصّلاة الجهريّة نهاراً وكان إماماً جهر وجوباً عند الحنفيّة والمالكيّة ، وأسرّ عند الشّافعيّة ، وللحنابلة قولان . ويجهر بالقراءة في الجمعة والعيدين والاستسقاء .
ح - تأمين الإمام والمأموم والمنفرد :
12 - يقولونه سرّاً عند الحنفيّة والمالكيّة ، وجهراً عند الشّافعيّة والحنابلة .
واستدلّ القائلون بالإسرار بأنّه دعاءٌ ، والأصل في الأدعية الإسرار ، كالتّشهّد .
واستدلّ من قال بالجهر « بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : آمين ورفع بها صوته » ، « ولأنّه صلى الله عليه وسلم أمر بالتّأمين عند تأمين الإمام »، فلو لم يجهر بها لم يعلّق عليه كحالة الإخفاء .
خ - تسبيح الرّكوع :
13 - الإسرار بالتّسبيح سنّةٌ اتّفاقاً .
د - التّسميع والتّحميد حال رفع الرّأس من الرّكوع للقيام :
14 - يسمّع الإمام جهراً ، ويحمد الجميع سرّاً .
ذ - التّسبيح في السّجدتين :
15 - يقوله المصلّي سرّاً ، إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً . وكذلك الأذكار بين السّجدتين ، والتّشهّد الأوّل والأخير ، والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، والأدعية في آخر الصّلاة . أمّا التّسليم فيجهر به الإمام دون المأموم أو المنفرد .
الإسرار بالاستعاذة والبسملة خارج الصّلاة :
16 - للفقهاء والقرّاء في الجهر بالاستعاذة أو الإسرار بها آراءٌ :
أ - استحباب الجهر بها ، وهو قول الشّافعيّة ، وروايةٌ عن أحمد ، والمختار عند أئمّة القرّاء .
ب - لم يخالف في ذلك إلاّ حمزة ومن وافقه .
ج - التّخيير بين الجهر والإسرار ، وهو الصّحيح عند الحنفيّة ، وقولٌ للحنابلة .
د - الإخفاء مطلقاً ، وهو قولٌ للحنفيّة ، وروايةٌ عند الحنابلة ، وروايةٌ عن حمزة .
هـ – الجهر بالتّعوّذ في أوّل الفاتحة فقط ، والإخفاء في سائر القرآن ، وهو روايةٌ ثانيةٌ عن حمزة . وحكم البسملة في ذلك تابعٌ لحكم الاستعاذة ، إلاّ ما روي عن نافعٍ أنّه كان يخفي الاستعاذة ويجهر بالبسملة عند افتتاح السّور ورءوس الآيات في جميع القرآن .
هذا بالنّسبة للرّجل ، أمّا المرأة فجهرها إسماع نفسها فقط ، والجهر في حقّها كالإسرار ، فيكون أعلى جهرها وأدناه واحداً ، وعلى هذا فيستوي في حقّها السّرّ والجهر ، لأنّ صوتها كالعورة ، وربّما كان سماعه فتنةً ، بل جهرها مرتبةٌ واحدةٌ ، وهو أن تسمع نفسها فقط ، وليس هذا إسراراً منها ، بل إسرارها مرتبةٌ أخرى ، وهو أن تحرّك لسانها دون إسماع نفسها ، فليس لإسرارها أعلى وأدنى ، كما أنّ جهرها كذلك .
وانظر للتّفصيل مصطلحي ( استعاذةٌ ) ( وبسملةٌ ) .
ثانياً: الإسرار في الأفعال :
الزّكاة :
17 - قال أبو بكر بن العربيّ : لا خلاف في أنّ إظهار صدقة الفرض أفضل ، كصلاة الفرض وسائر فرائض الشّريعة ، لأنّ المرء يحرز بها إسلامه ويعصم ماله . وقال الحنفيّة والمالكيّة : إنّه لا يشترط علم الفقير أنّ ما أعطي له زكاةٌ على الأصحّ ، لما في ذلك من كسر قلبه ، ولذا فإنّ الإسرار في إعطائها إليه أفضل من إعلانه بها . وقال الشّافعيّة : إنّ الأفضل فيها إظهار إخراجها ليراه غيره فيعمل عمله ، ولئلاّ يساء الظّنّ به . واستحبّ الحنابلة إظهار إخراجها ، سواءٌ أكان الإخراج بموضعٍ يخرج أهله الزّكاة أم لا ، وسواءٌ أنفي عنه ظنّ السّوء بإظهار إخراجها أم لا ، لما فيه من نفي الرّيبة عنه ، ولعلّه يقتدى به ، ومن علم أهليّته أخذ الزّكاة - ولو بغلبة الظّنّ - كره أن يعلمه أنّها زكاةٌ ، ومع عدم عادة الآخذ بأخذ الزّكاة لا يجزئ دفعها إليه إلاّ أن يعلمه أنّها زكاةٌ ، لأنّه لا يقبل زكاةً ظاهراً .
صدقات التّطوّع :
18 - قال الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إنّ الإسرار بها أفضل من الجهر ، ولذا يسنّ لمعطيها أن يسرّ بها ، لقوله تعالى { إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي ، وإن تحفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لكم ويكفّر عنكم من سيّئاتكم واللّه بما تعملون خبيرٌ } . ولما روي عن أبي هريرة مرفوعاً « سبعةٌ يظلّهم اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه وذكر منهم رجلاً تصدّق بصدقةٍ فأخفاها حتّى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله » . ولما روي أنّ رسول قال : « صنائع المعروف تقي مصارع السّوء ، وصدقة السّرّ تطفئ غضب الرّبّ ، وصلة الرّحم تزيد في العمر » ولأنّ إعطاءها على هذا النّحو يراد به اللّه عزّ وجلّ وحده ، وقد قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما " جعل اللّه صدقة السّرّ في التّطوّع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً .
قيام اللّيل :
19 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ المتنفّل ليلاً يخيّر بين الجهر بالقراءة والإسرار بها ، إلاّ أنّه إن كان الجهر أنشط له في القراءة ، أو كان بحضرته من يستمع قراءته ، أو ينتفع بها فالجهر أفضل ، وإن كان قريباً منه من يتهجّد ، أو من يتضرّر برفع صوته فالإسرار أولى ، وإن لم يكن لا هذا ولا هذا فليفعل ما شاء . « قال عبد اللّه بن أبي قيسٍ : سألت عائشة كيف كانت قراءة رسول اللّه ؟ فقالت : كلّ ذلك كان يفعل . ربّما أسرّ ، وربّما جهر » . وقال أبو هريرة رضي الله عنه : « كانت قراءة النّبيّ صلى الله عليه وسلم باللّيل يرفع طوراً ، يخفض طوراً » وقال المالكيّة : إنّ المستحبّ في نوافل اللّيل الإجهار ، وهو أفضل من الإسرار ، لأنّ صلاة اللّيل تقع في الأوقات المظلمة فينبّه القارئ بجهره المارّة ، وللأمن من لغو الكافر عند سماع القرآن ، لاشتغاله غالباً في اللّيل بالنّوم أو غيره ، بخلاف النّهار . وقال الشّافعيّة : إنّه يسنّ في نوافل اللّيل المطلقة التّوسّط بين الجهر والإسرار إن لم يشوّش على نائمٍ أو مصلٍّ أو نحوه ، إلاّ التّراويح فيجهر بها . والمراد بالتّوسّط أن يزيد على أدنى ما يسمع نفسه من غير أن تبلغ تلك الزّيادة سماع من يليه ، والّذي ينبغي فيه ما قاله بعضهم : إنّه يجهر تارةً ، ويسرّ أخرى .
الأدعية والأذكار في غير الصّلاة :
20 - قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : إنّ الإسرار بالأدعية والأذكار من حيث الجملة أفضل من الجهر بها ، فالإسرار بها سنّةٌ عند الحنفيّة والحنابلة ، ومندوبٌ عند الشّافعيّة . لقوله تعالى : { ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً } أي سرّاً في النّفس ، ليبعد عن الرّياء ، وبذلك أثنى اللّه تعالى على نبيّه زكريّا عليه السلام ، إذ قال مخبراً عنه : { إذ نادى ربّه نداءً خفيّاً } ، ولأنّه أقرب إلى الإخلاص ، وقد ورد « خير الذّكر الخفيّ » .
أمّا في عرفة فرفع الصّوت بذلك وبالتّلبية أفضل من الإسرار به ، إذ رفع الصّوت بالتّلبية والدّعاء بعرفة سنّةٌ عند الحنفيّة والحنابلة ، ومندوبٌ عند الشّافعيّة ، بحيث لا يجهد نفسه ، ولا يفرط في الجهر بالدّعاء بها ، لما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « جاءني جبريل عليه السلام فقال : يا محمّد ، مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتّلبية ، فإنّها من شعار الحجّ » وقال : « أفضل الحجّ العجّ والثّجّ » فالعجّ : رفعه الصّوت بالتّلبية ، والثّجّ : إسالة دماء الهدي . هذا ، وإنّ لبعض الأذكار صفةً خاصّةً من الجهر أو الإسرار ، كالتّلبية ، والإقامة ، وأذكار ما بعد الصّلاة ، والتّسمية على الذّبيحة ، والأذكار من المرأة ، وتنظر في مواضعها الخاصّة .
الإسرار باليمين :
21 - الإسرار باليمين - إذا أسمع نفسه - كالجهر بها . والإسرار بالاستثناء كالإسرار باليمين متى توافرت عناصره ، وكان الاستثناء متّصلاً بالمستثنى منه ، إلاّ لعارضٍ كسعالٍ أو عطاسٍ أو انقطاع نفسٍ . وتفصيل ذلك يرجع إليه في ( استثناءٌ ) ( وأيمانٌ ) .
الإسرار بالطّلاق :
22 - الإسرار في الطّلاق بإسماع نفسه كالجهر به ، فمتى طلّق امرأته إسراراً بلفظ الطّلاق ، صريحاً كان أو كنايةً مستوفيةً شرائطها على الوجه المذكور ، فإنّ طلاقه يقع ، وتترتّب عليه آثاره ، ومتى لم تتوافر شرائطه فإنّ الطّلاق لا يقع ، كما لو أجراه على قلبه دون أن يتلفّظ به إسماعاً لنفسه أو بحركة لسانه . هذا ، وقد قال المالكيّة في لزومه بكلامه النّفسيّ ، كأن يقول بقلبة أنت طالقٌ : أنّ فيه خلافاً ، والمعتمد عندهم عدم اللّزوم .
والكلام في الاستثناء في الطّلاق كالكلام في الطّلاق .

إسرافٌ *
التعريف :
1 - من معاني الإسراف في اللّغة : مجاوزة القصد ، يقال : أسرف في ماله أي أنفق من غير اعتدالٍ ، ووضع المال في غير موضعه . وأسرف في الكلام ، وفي القتل : أفرط . وأمّا السّرف الّذي نهى اللّه تعالى عنه فهو ما أنفق في غير طاعة اللّه ، قليلاً كان أو كثيراً .
أمّا في الاصطلاح الشّرعيّ ، فقد ذكر القليوبيّ للإسراف المعنى اللّغويّ نفسه ، وهو : مجاوزة الحدّ . وخصّ بعضهم استعمال الإسراف بالنّفقة والأكل . يقول الجرجانيّ في التّعريفات : الإسراف تجاوز الحدّ في النّفقة . وقيل : أن يأكل الرّجل ما لا يحلّ له ، أو يأكل ما يحلّ له فوق الاعتدال ومقدار الحاجة .
وقيل : الإسراف تجاوز الكميّة ، فهو جهلٌ بمقادير الحقوق . والسّرف : مجاوزة الحدّ بفعل الكبائر ، ومنه قوله تعالى : { ربّنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّقتير :
2 - وهو يقابل الإسراف ، ومعناه : التّقصير ، قال اللّه تعالى : { والّذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ، وكان بين ذلك قواماً }
ب - التّبذير :
3 - التّبذير : هو تفريق المال في غير قصدٍ ، ومنه البذر في الزّراعة .
وقيل : هو إفساد المال وإنفاقه في السّرف . قال تعالى : { ولا تبذّر تبذيراً } وخصّه بعضهم بإنفاق المال في المعاصي ، وتفريقه في غير حقٍّ . ويعرّفه بعض الفقهاء بأنّه : عدم إحسان التّصرّف في المال ، وصرفه فيما لا ينبغي ، فصرف المال إلى وجوه البرّ ليس بتبذيرٍ ، وصرفه في الأطعمة النّفيسة الّتي لا تليق بحاله تبذيرٌ . وعلى هذا فالتّبذير أخصّ من الإسراف ، لأنّ التّبذير يستعمل في إنفاق المال في السّرف أو المعاصي أو في غير حقٍّ ، والإسراف أعمّ من ذلك ، لأنّه مجاوزٌ الحدّ ، سواءٌ أكان في الأموال أم في غيرها ، كما يستعمل الإسراف في الإفراط في الكلام أو القتل وغيرهما . وقد فرّق ابن عابدين بين الإسراف والتّبذير من جهةٍ أخرى ، فقال : التّبذير يستعمل في المشهور بمعنى الإسراف ، والتّحقيق أنّ بينهما فرقاً ، وهو أنّ الإسراف : صرف الشّيء فيما ينبغي زائداً على ما ينبغي ، والتّبذير : صرف الشّيء فيما لا ينبغي . ومثله ما جاء في نهاية المحتاج نقلاً عن الماورديّ ، التّبذير : الجهل بمواقع الحقوق ، والسّرف : الجهل بمقادير الحقوق .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ج - السّفه :
4 - السّفه في اللّغة : خفّة العقل والطّيش والحركة . وفي الشّريعة : تضييع المال وإتلافه على خلاف مقتضى الشّرع والعقل . وقد عرّفه بعضهم بالتّبذير والإسراف في النّفقة ، فقد جاء في بلغة السّالك : أنّ السّفه هو التّبذير ، وورد في أسنى المطالب أنّ السّفيه هو : المبذّر ، والأصل أنّ السّفه سبب التّبذير والإسراف ، وهما أثران للسّفه ، كما يتبيّن ممّا قاله الجرجانيّ في التّعريفات : السّفه خفّةٌ تعرض للإنسان من الفرح والغضب ، فيحمله على العمل بخلاف طور العقل ومقتضى الشّرع . وجاء في دستور العلماء ما يؤيّد ذلك ، حيث قال : ومن عادة السّفيه التّبذير والإسراف في النّفقة . ويؤيّد هذه التّفرقة المعنى اللّغويّ للسّفه من أنّه : خفّة العقل . وعلى ذلك فالعلاقة بين السّفه والإسراف علاقة السّبب والمسبّب .
حكم الإسراف :
5 - يختلف حكم الإسراف بحسب متعلّقه ، كما تبيّن في تعريف الإسراف ، فذهب بعض الفقهاء إلى أنّ صرف المال الكثير في أمور البرّ والخير والإحسان لا يعتبر إسرافاً ، فلا يكون ممنوعاً . أمّا صرفه في المعاصي والتّرف وفيما لا ينبغي فيعتبر إسرافاً منهيّاً عنه ، ولو كان المال قليلاً . وقد نقل عن مجاهدٍ أنّه قال : لو كان جبل أبي قبيسٍ ذهباً لرجلٍ ، فأنفقه في طاعة اللّه لم يكن مسرفاً ، ولو أنفق درهماً أو مدّاً في معصية اللّه كان مسرفاً ، ويرى بعض الفقهاء أنّ الإسراف كما يكون في الشّرّ ، يكون في الخير ، كمن تصدّق بجميع ماله ، واستدلّ لذلك بقوله تعالى : { وآتوا حقّه يوم حصاده ولا تسرفوا } أي لا تعطوا أموالكم كلّها فتقعدوا فقراء ، وروي أنّ ثابت بن قيس بن شمّاسٍ أنفق جذاذ خمسمائة نخلةٍ ، ولم يترك لأهله شيئاً ، فنزلت الآية السّابقة . وقيل : إنّها نزلت في معاذ بن جبلٍ بفعله مثل ذلك . كذلك يختلف حكم الإسراف إذا كان في العبادات عمّا إذا كان في المحظورات أو المباحات ، أو في استعمال الحقّ والعقوبات ، وسيأتي تفصيل هذه الأنواع .
الإسراف في الطّاعات :
أوّلاً - الإسراف في العبادات البدنيّة :
أ - الإسراف في الوضوء :
وذلك يتحقّق في حالتين :
الحالة الأولى : تكرار غسل الأعضاء :
6 - صرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : أنّ تكرار غسل الأعضاء إلى ثلاثٍ مسنونٌ . جاء في المغني أنّ الوضوء مرّةً أو مرّتين يجزئ ، والثّلاث أفضل . والمشهور في مذهب مالكٍ أنّ الغسلة الثّانية والثّالثة فضيلتان . وعلى ذلك فغسل الأعضاء ثلاث مرّاتٍ لا يعتبر إسرافاً ، بل هو سنّةٌ أو مندوبٌ . أمّا الزّيادة على الثّلاث الموعبة فمكروهٌ عند الجمهور : الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو الرّاجح في مذهب المالكيّة ، لأنّها من السّرف في الماء ، والقول الثّاني للمالكيّة أنّها تمنع . والكراهة فيما إذا كان الماء مملوكاً أو مباحاً ، أمّا الماء الموقوف على من يتطهّر به - ومنه ماء المدارس - فإنّ الزّيادة فيه على الثّلاث حرامٌ عند الجميع ، لكونها غير مأذونٍ بها ، لأنّه إنّما يوقف ويساق لمن يتوضّأ الوضوء الشّرعيّ ، ولم يقصد إباحتها لغير ذلك . واستدلّوا على كراهة الزّيادة على الثّلاث بحديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه « أنّ رجلاً أتاه صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه كيف الطّهور ؟ فدعا بماءٍ في إناءٍ فغسل كفّيه ثلاثاً ، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً ، ثمّ غسل ذراعيه ثلاثاً ، ثمّ مسح برأسه ، وأدخل أصبعيه السّبّاحتين في أذنيه ، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه ، وبالسّبّاحتي ن باطن أذنيه ، ثمّ غسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ قال : هكذا الوضوء ، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم أو ظلم وأساء » . وقد ذكر بعض الفقهاء أنّ الوعيد في الحديث لمن زاد أو نقص مع عدم اعتقاد الثّلاث سنّةٌ ، أمّا إذا زاد - مع اعتقاد سنّيّة الثّلاث - لطمأنينة القلب عند الشّكّ ، أو بنيّة وضوءٍ آخر فلا بأس به ، فإنّ الوضوء على الوضوء نورٌ على نورٍ ، وقد أمر بترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ، ولهذا جاء في ابن عابدين نقلاً عن البدائع : إذا زاد أو نقص ، واعتقد أنّ الثّلاث سنّةٌ ، لا يلحقه الوعيد . ثمّ بيّن أنّ المنفيّ في هذه الحالة إنّما هو الكراهة التّحريميّة ، فتبقى الكراهة التّنزيهيّة . وقيّد الشّافعيّة ، وبعض الحنفيّة ، أفضليّة الوضوء على الوضوء بألاّ يكون في مجلسٍ واحدٍ ، أو كان قد صلّى بالضّوء الأوّل صلاةً ، وإلاّ يكره التّكرار ويعتبر إسرافاً ، وقال القليوبيّ : الوجه الحرمة . أمّا لو كرّره ثالثاً أو رابعاً بغير أن تتخلّله صلاةٌ فيعتبر إسرافاً محضاً عند الجميع .
الحالة الثّانية - استعمال الماء أكثر ممّا يكفيه :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّ ما يجزئ في الوضوء والغسل غير مقدّرٍ بمقدارٍ معيّنٍ ، ونقل ابن عابدين الإجماع على ذلك وقال : إنّ ما ورد في الحديث : أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « كان يتوضّأ بالمدّ ويغتسل بالصّاع » ليس بتقديرٍ لازمٍ ، بل هو بيان أدنى القدر المسنون ، حتّى إنّ من أسبغ بدون ذلك أجزأه ، وإن لم يكفه زاد عليه ، لأنّ طباع النّاس وأحوالهم مختلفةٌ . واتّفقوا كذلك على أنّ الإسراف في استعمال الماء مكروهٌ ، ولهذا صرّح الحنابلة بأنّه يجزئ المدّ وما دون ذلك في الوضوء ، وإن توضّأ بأكثر من ذلك جاز ، إلاّ أنّه يكره الإسراف . ومع ذلك قال الشّافعيّة : يسنّ أن لا ينقص ماء الوضوء فيمن اعتدل جسمه عن مدٍّ تقريباً ، لأنّه صلى الله عليه وسلم « كان يوضّئه المدّ » ولا حدّ لماء الوضوء ، لكنّه يشترط الإسباغ . وقال المالكيّة : من مستحبّات الوضوء تقليل الماء من غير تحديدٍ في ذلك ، وأنكر مالكٌ قول من قال : حتّى يقطر الماء أو يسيل ، يعني أنكر السّيلان عن العضو لا السّيلان على العضو ، إذ لا بدّ منه ، وإلاّ فهو مع عدم السّيلان مسحٌ بلا شكٍّ ، وإنّما يراعى القدر الكافي في حقّ كلّ واحدٍ ، فما زاد على قدر ما يكفيه فهو بدعةٌ وإسرافٌ ، وإن اقتصر على قدر ما يكفيه فقد أدّى السّنّة ، فالمستحبّ لمن يقدر على الإسباغ بقليلٍ أن يقلّل الماء ، ولا يستعمل زيادةً على الإسباغ ، أي في كلّ مرّةٍ .
ومعيار الإسراف عند الحنفيّة هو أن يستعمل الماء فوق الحاجة الشّرعيّة ، وذكر أكثر الأحناف أنّ ترك التّقتير - بأن يقترب إلى حدّ الدّهن ، ويكون التّقاطر غير ظاهرٍ - وترك الإسراف - بأن يزيد على الحاجة الشّرعيّة - سنّةٌ مؤكّدةٌ ، وعلى هذا فيكون الإسراف في استعمال الماء في الوضوء مكروهاً تحريماً ، كما صرّح به صاحب الدّرّ ، لكن رجّح ابن عابدين كونه مكروهاً تنزيهاً . واستدلّ الفقهاء على كراهة الإسراف في الماء بحديث عبد اللّه بن عمر وأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « مرّ بسعدٍ وهو يتوضّأ ، فقال : ما هذا السّرف ؟ فقال : أفي الوضوء إسرافٌ ؟ فقال : نعم ، وإن كنت على نهرٍ جارٍ » .
وهذا كلّه في غير الموسوس ، أمّا الموسوس فيغتفر في حقّه لما ابتلي به .
ب - الإسراف في الغسل :
8 - من سنن الغسل التّثليث ، بأن يفيض الماء على كلّ بدنه ثلاثاً مستوعباً ، والزّائد على ذلك يعتبر إسرافاً مكروهاً ، ولا يقدّر الماء الّذي يجزئ الغسل به ، لأنّ الحاجة الشّرعيّة تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ، فما زاد على الكفاية أو بعد تيقّن الواجب فهو سرفٌ مكروهٌ ، وهذا القدر متّفقٌ عليه ، أمّا ما ورد في الحديث : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصّاع » فهو بيانٌ لأقلّ ما يمكن به أداء السّنّة عادةً ، وليس تقديراً لازماً .
ج - الإسراف في الصّلاة والصّوم :
9 - الإنسان مأمورٌ بالاقتصاد ومراعاة الاعتدال في كلّ أمرٍ ، حتّى في العبادات الّتي تقرّب إلى اللّه تعالى كالصّلاة والصّيام ، قال اللّه تعالى : { يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } . فالعبادات إنّما أمر بفعلها مشروطةً بنفي العسر والمشقّة الخارجة عن المعتاد ، ومن هنا أبيح الإفطار في حالة السّفر والحامل والمريض والمرضع وكلّ من خشي ضرر الصّوم على نفسه فعليه أن يفطر ، لأنّ في ترك الإفطار عسراً ، وقد نفى اللّه عن نفسه إرادة العسر . فلا يجوز فيها الإسراف والمبالغة . وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « هلك المتنطّعون » أي المبالغون في الأمر . وروي عن أنسٍ أنّه « جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلمّا أخبروا كأنّهم تقالّوها ، فقالوا : وأين نحن من النّبيّ صلى الله عليه وسلم ؟ قد غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر . قال أحدهم : أمّا أنا فأنا أصلّي اللّيل أبداً ، وقال آخر : أنا أصوم الدّهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبداً . فجاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : أنتم الّذين قلتم كذا وكذا ؟ أما واللّه إنّي لأخشاكم للّه ، وأتقاكم له ، لكنّي أصوم وأفطر ، وأصلّي وأرقد ، وأتزوّج النّساء ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي » .
قال في نيل الأوطار : فيه دليلٌ على أنّ المشروع هو الاقتصاد في الطّاعات ، لأنّ إتعاب النّفس فيها والتّشديد عليها يفضي إلى ترك الجميع ، والدّين يسرٌ ، ولن يشادّ أحدٌ الدّين إلاّ غلبه ، والشّريعة النّبويّة بنيت على التّيسير وعدم التّنفير . ولهذا صرّح بعض الفقهاء بكراهة صوم الوصال وصوم الدّهر ، كما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من صام الدّهر فلا صام ولا أفطر » وقالوا بكراهة قيام اللّيل كلّه ، لما روي عن « عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : لا أعلم نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم قام ليلةً حتّى الصّباح ، ولا صام شهراً قطّ غير رمضان » . قال ابن عابدين : الظّاهر من إطلاق الأحاديث الواردة في إحياء اللّيل الاستيعاب ، لكنّه نقل عن بعض المتقدّمين أنّه فسّر ذلك بنصفه ، لأنّ من أحيا نصف اللّيل فقد أحيا اللّيل ، ويؤيّد هذا التّفسير حديث عائشة المتقدّم ، فيترجّح إرادة الأكثر أو النّصف ، والأكثر أقرب إلى الحقيقة . وأوضح ما جاء في منع الإسراف والمبالغة في الصّلاة والصّيام حديث عبد اللّه بن عمر وقال : « دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حجرتي ، فقال : ألم أخبر أنّك تقوم اللّيل وتصوم النّهار ؟ ، قلت : بلى ، قال : فلا تفعلنّ ، نم وقم ، وصم وأفطر ، فإنّ لعينيك عليك حقّاً ، وإن لجسدك عليك حقّاً ، وإنّ لزوجتك عليك حقّاً ، وإنّ لصديقك عليك حقّاً ، وإنّ لضيفك عليك حقّاً ، وإن عسى أن يطول بك عمرٌ ، وأنّه حسبك أن تصوم من كلّ شهرٍ ثلاثاً ، فذلك صيام الدّهر كلّه ، وإنّ الحسنة بعشر أمثالها » . وقال النّوويّ من الشّافعيّة : ويكره أن يقوم كلّ اللّيل دائماً ، للحديث المذكور في الكتاب ، فإن قيل : ما الفرق بينه وبين صوم الدّهر - غير أيّام النّهي - فإنّه لا يكره عندنا ؟ فالجواب أنّ صلاة اللّيل كلّه دائماً يضمر العين وسائر البدن ، كما جاء في الحديث الصّحيح ، بخلاف الصّوم فإنّه يستوفي في اللّيل ما فاته من أكل النّهار ، ولا يمكنه نوم النّهار إذا صلّى اللّيل ، لما فيه من تفويت مصالح دينه ودنياه . هذا حكم قيام اللّيل دائماً ، فأمّا بعض اللّيل فلا يكره إحياؤه ، فقد ثبت في الصّحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا اللّيل » واتّفق أصحابنا على إحياء ليلتي العيدين ، واللّه أعلم .
ثانياً - الإسراف في العبادات الماليّة :
أ - الإسراف في الصّدقة :
10 - الصّدقات الواجبة المحدّدة المقدار ، كالزّكاة والنّذر وصدقة الفطر ، لا يتصوّر فيها الإسراف ، لأنّ أداءها بالقدر المحدّد واجبٌ شرعاً . وتفصيل شروط الوجوب ، ومقدار ما وجب في هذه الصّدقات مذكورٌ في موضعها .
أمّا الصّدقات المندوبة - وهي الّتي تعطى للمحتاجين لثواب الآخرة - فرغم حثّ الإسلام على الإنفاق على الفقراء والمساكين والمحتاجين في كثيرٍ من الآيات والأحاديث ، فقد أمر اللّه بالقصد والاعتدال وعدم التّجاوز إلى حدٍّ يعتبر إسرافاً ، بحيث يؤدّي إلى فقر المنفق نفسه حتّى يتكفّف النّاس . قال اللّه تعالى في صفات المؤمنين : { والّذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ، وكان بين ذلك قواماً } . وكذلك قال سبحانه : { ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ، ولا تبسطها كلّ البسط فتقعد ملوماً محسوراً } قال المفسّرون في تفسير هذه الآية : ولا تخرج جميع ما في يدك مع حاجتك وحاجة عيالك إليه ، فتقعد منقطعاً عن النّفقة والتّصرّف ، كما يكون البعير الحسير ، وهو الّذي ذهبت قوّته فلا انبعاث به ، وقيل : لئلاّ تبقى ملوماً ذا حسرةٍ على ما في يدك ، لكنّ المراد بالخطاب غير النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأنّه لم يكن ممّن يتحسّر على إنفاق ما حوته يده في سبيل اللّه ، وإنّما نهى اللّه عن الإفراط في الإنفاق وإخراج جميع ما حوته يده من المال من خيف عليه الحسرة على ما خرج عن يده ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « يأتي أحدكم بما يملك ، فيقول : هذه صدقةٌ ، ثمّ يقعد يستكفّ النّاس ، ، خير الصّدقة ما كان عن ظهر غنًى » فأمّا من وثق بموعود اللّه وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مرادٍ بالآية ، وقد كان كثيرٌ من فضلاء الصّحابة ينفقون في سبيل اللّه جميع أموالهم ، فلم يعنّفهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم لصحّة يقينهم وشدّة بصائرهم . وفي ضوء هذه الآيات والأحاديث صرّح الفقهاء أنّ الأولى أن يتصدّق من الفاضل عن كفايته وكفاية من يموّنه على الدّوام ، ومن أسرف بأن تصدّق بما ينقصه عن كفاية من تلزمه مؤنته ، أو ما يحتاج إليه لنفقة نفسه - ولا كسب له - فقد أثم ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كفى بالمرء إثماً أن يضيّع من يموّنه » ولأنّ نفقة من يموّنه واجبةٌ ، والتّطوّع نافلةٌ ، وتقديم النّفل على الفرض غير جائزٍ ، ولأنّ الإنسان إذا أخرج جميع ماله لا يأمن فتنة الفقر وشدّة نزاع النّفس إلى ما خرج منه ، فيذهب ماله ، ويبطل أجره ، ويصير كلاًّ على النّاس . أمّا من يعلم من نفسه حسن التّوكّل ، والصّبر على الفقر ، والتّعفّف عن المسألة ، أو كان ذا مكسبٍ واثقاً من نفسه ، فله أن يتصدّق بكلّ ماله عند الحاجة ، ولا يعتبر هذا في حقّه إسرافاً . لما روي أنّ أبا بكرٍ أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكلّ ما عنده ، فقال له : « ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم اللّه ورسوله » فهذا كان فضيلةً في حقّ أبي بكرٍ ، لقوّة يقينه وكمال إيمانه ، وكان أيضاً تاجراً ذا مكسبٍ .
ب - الإسراف في الوصيّة :
11 - الوصيّة تمليكٌ مضافٌ إلى ما بعد الموت بطريق التّبرّع ، أو هي التّبرّع بالمال بعد الموت ، وهي مستحبّةٌ بجزءٍ من المال لمن ترك خيراً في حقّ من لا يرث ، وقد حدّد الشّرع حدودها بأن لا تزيد عن الثّلث ، ورغّب في التّقليل من الثّلث ، وذلك لتجنّب الإسراف ، وإيقاع الضّرر بالورثة .
فإذا وجد للميّت وارثٌ ، نفّذت الوصيّة في الثّلث ، وبطلت في الزّائد منه اتّفاقاً إن لم يجزها الورثة ، لحديث سعد بن أبي وقّاصٍ قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجّة الوداع من وجعٍ اشتدّ بي ، فقلت : إنّي قد بلغ بي من الوجع ، وأنا ذو مالٍ ، ولا يرثني إلاّ ابنةٌ ، أفأتصدّق بثلثي مالي ؟ قال : لا ، فقلت : بالشّطر ، فقال : لا ، ثمّ قال : الثّلث ، والثّلث كبيرٌ أو كثيرٌ ، إنّك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكفّفون النّاس » . فالثّلث هو الحدّ الأعلى في الوصيّة إذا كان للميّت وارثٌ ، ولم يتّفقوا على الحدّ الأدنى ، مع استحبابهم الأقلّ من الثّلث ، وأن تكون الوصيّة للأقارب غير الوارثين ، لتكون صدقةً وصلةً معاً . وذكر صاحب المغني أنّ الأفضل للغنيّ الوصيّة بالخمس ، ونحو ذلك يروى عن أبي بكرٍ وعليّ بن أبي طالبٍ أمّا إذا لم يكن للميّت وارثٌ ، أو كان له وارثٌ وأجاز الزّيادة على الثّلث ، ففيه خلافٌ وتفصيلٌ موضعه مصطلح ( وصيّةٌ ) .
ثالثاً : الإسراف في سفك دماء العدوّ في القتال :
12 - الإسراف بمعنى مجاوزة الحدّ منهيٌّ عنه في كلّ حالةٍ ، حتّى في المقابلة مع الأعداء في الجهاد والقتال ، فالمسلم مأمورٌ بمراعاة القصد والاعتدال في جميع الأحوال ، يقول اللّه تعالى : { ولا تعتدوا إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين } ويقول سبحانه : { ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على ألاّ تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتّقوى } .
ولهذا صرّح الفقهاء بأنّه إن كان العدوّ ممّن لم تبلغهم الدّعوة لم يجز قتالهم ، حتّى يدعوهم إلى الإسلام ، ويكره نقل رءوس المشركين ، على تفصيلٍ في ذلك ، وتكره المثلة بقتلاهم وتعذيبهم . لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ أعفّ النّاس قتلةً أهل الإيمان » .
ولا يجوز قتل الصّبيان والمجانين بلا خلافٍ ، ولا تقتل امرأةٌ ولا شيخٌ فانٍ ، ولا يقتل زمنٌ ولا أعمى ولا راهبٌ عند الجمهور : الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة ، وروايةٍ عند الشّافعيّة ، إلاّ إذا اشتركوا في المعركة ، أو كانوا ذا رأيٍ وتدبيرٍ ومكايد في الحرب ، أو أعانوا الكفّار بوجهٍ آخر ولا يجوز الغدر والغلول ، ولا يجوز الإحراق بالنّار إن أمكن التّغلّب عليهم بدونها ، ولا يجوز التّمثيل بالقتل ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه كتب الإحسان على كلّ شيءٍ ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة » ويجوز معهم عقد الأمان والصّلح بمالٍ لو كان ذلك خيراً للمسلمين ، لقوله تعالى : { وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها } . ولو حاصرناهم دعوناهم إلى الإسلام ، فإن أسلموا فيها ، وإلاّ فرضنا عليهم الجزية إن لم يكونوا مرتدّين ولا من مشركي العرب ، فإن قبلوا ذلك فلهم منّا المعاملة بالعدل والقسط على حسب شروط عقد الذّمّة ، وإن أبوا قاتلناهم حتّى نغلبهم عنوةً .
وتفصيل هذه الأحكام ر : ( جهادٌ ) ( وجزيةٌ ) .
الإسراف في المباحات :
أ - الإسراف في الطّعام والشّراب :
13 - الأكل والشّرب بقدر ما يندفع به الهلاك فرضٌ ، وهو بقدر الشّبع مباحٌ ، فإذا نوى بالشّبع ازدياد قوّة البدن على الطّاعة وأداء الواجبات فهو مندوبٌ ، وما زاد على الشّبع فهو مكروهٌ أو محظورٌ ، على الخلاف بين الفقهاء ، إلاّ إذا قصد به التّقوّي على صوم الغد ، أو لئلاّ يستحي الضّيف . قال اللّه تعالى : { كلوا واشربوا ولا تسرفوا } .
فالإنسان مأمورٌ بأن يأكل ويشرب بحيث يتقوّى على أداء المطلوب ، ولا يتعدّى إلى الحرام ، ولا يكثر الإنفاق المستقبح ، ولا يتناول مقداراً كثيراً يضرّه ولا يحتاج إليه ، فإن تعدّى ذلك إلى ما يمنعه القيام بالواجب حرم عليه ، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه ، ولأنّه إضاعة المال وإمراض النّفس . وقد ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرّاً من بطنٍ ، بحسب ابن آدم أكلاتٌ يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلثٌ لطعامه ، وثلثٌ لشرابه ، وثلثٌ لنفسه » . وقال صلى الله عليه وسلم : « إنّ من السّرف أن تأكل كلّ ما اشتهيت » .
وقد نقل القرطبيّ في الحضّ على تقليل الطّعام ما ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه « قال لأبي جحيفة حينما أتاه يتجشّأ : اكفف عليك من جشائك أبا جحيفة ، فإنّ أكثر النّاس شبعاً في الدّنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة » . وهذا القدر ممّا لا خلاف فيه بين الفقهاء . وقال المالكيّة : يطلب تخفيف المعدة بتقليل الطّعام والشّراب على قدرٍ لا يترتّب عليه ضررٌ ولا كسلٌ عن عبادةٍ ، فقد يكون للشّبع سبباً في عبادةٍ فيجب ، وقد يترتّب عليه ترك واجبٍ فيحرم ، أو ترك مستحبٍّ فيكره . وقال الغزاليّ : صرف المال إلى الأطعمة النّفيسة الّتي لا يليق بحاله تبذيرٌ . فيكون سبباً للحجر كما سيأتي .
وقال القليوبيّ : إنّ هذا هو أحد القولين عند الشّافعيّة ، والقول الثّاني عندهم أنّه لا يعتبر تبذيراً ما لم يصرف في محرّمٍ ، فيعتبر عندئذٍ إسرافاً وتبذيراً إجماعاً .
وصرف الحنابلة أنّ أكل المتخوم ، أو الأكل المفضي إلى تخمةٍ سببٌ لمرضه وإفساد بدنه ، وهو تضييع المال في غير فائدةٍ . وقالوا : لا بأس بالشّبع ، لكن يكره الإسراف ، والإسراف في المباحات هو مجاوزة الحدّ ، وهو من العدوان المحرّم .
ب - الإسراف في الملبس والزّينة :
14 - الإسراف في الملبس والزّينة ممنوعٌ ، لما ورد في الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « البسوا ما لم يخالطه إسرافٌ أو مخيلةٌ » .
قال ابن عابدين : يلبس بين الخسيس والنّفيس ، إذ خير الأمور أوسطها ، وللنّهي عن الشّهرتين ، وهو ما كان في نهاية النّفاسة أو الخساسة . ويندب لبس الثّوب الجميل للتّزيّن في الأعياد والجمع ومجامع النّاس ، لحديث ابن مسعودٍ مرفوعاً : « لا يدخل الجنّة من كان في قلبه ذرّةٌ من كبرٍ ، قال رجلٌ : إنّ الرّجل يحبّ أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً ، قال : إنّ اللّه جميلٌ يحبّ الجمال ، الكبر بطر الحقّ وغمط النّاس » .
الإسراف في المهر :
15 - المهر يجب إمّا بالتّسمية أو بالعقد . فإذا سمّي في العقد ، وعّين مقداره ، وجب المسمّى ، وإلاّ وجب مهر المثل ، وهذا متّفقٌ عليه بين الفقهاء .
ولم يحدّد الشّافعيّة والحنابلة ، وكذلك المالكيّة في روايةٍ أقلّ المهر ، وحدّد الحنفيّة أقلّ المهر بعشرة دراهم ، وقال المالكيّة في المشهور عندهم : أقلّه ربع دينارٍ شرعيٍّ ، أو ثلاثة دراهم فضّةً خالصةً . ولا حدّ لأكثر المهر إجماعاً بين الفقهاء . والدّليل عليه قوله تعالى : { وإن أردتم استبدال زوجٍ مكان زوجٍ وآتيتم إحداهنّ قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً } . لأنّ القنطار يطلق على المال الكثير .
ولكن حذّر الفقهاء من الإسراف والمغالاة في المهر ، وقالوا : تكره المغالاة في الصّداق ، لما روي عن عائشة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « أعظم النّساء بركةً أيسرهنّ مؤنةً » وفسّروا المغالاة في المهر بما خرج عن عادة أمثال الزّوجة ، وهي تختلف باختلاف أمثالها ، إذ المائة قد تكون كثيرةً جدّاً بالنّسبة لامرأةٍ ، وقليلةً جدّاً بالنّسبة لأخرى . واستدلّوا كذلك بكراهة الإسراف في المهر بأنّ الرّجل يغلي بصدقة المرأة ( أي فوق طاقته ) ، حتّى يكون لها عداوةٌ في قلبه ، ولأنّه إذا كثر بما تعذّر عليه فيتعرّض للضّرر في الدّنيا والآخرة . ولتفصيل الموضوع راجع مصطلح : ( مهرٌ ) .
الإسراف في التّكفين والتّجهيز :
16 - اتّفق الفقهاء على أنّ الواجب في الكفن هو الثّوب الواحد . والإيتار فيه إلى ثلاثٍ للرّجل ، وإلى خمسٍ للمرأة سنّةٌ ، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : « إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كفّن في ثلاثة أثوابٍ يمانيّةٍ بيضٍ سحوليّةٍ ... » .
وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه « أعطى اللّواتي غسّلن ابنته خمسة أثوابٍ » ولأنّ عدد الثّلاث أكثر ما يلبسه الرّجل في حياته ، فكذا بعد مماته ، والمرأة تزيد في حال حياتها على الرّجل في السّتر ، لزيادة عورتها على عورته ، فكذلك بعد الموت .
وتكره الزّيادة على الأثواب الثّلاثة للرّجل ، والخمسة للمرأة عند الجمهور : الشّافعيّة ، والحنابلة ، وروايةٍ عند الحنفيّة ، لما فيها من الإسراف وإضاعة المال المنهيّ عنهما ، وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا تغالوا في الكفن ، فإنّه يسلب سلباً سريعاً » وما روى عنه صلى الله عليه وسلم في تحسين الكفن : « إذا كفّن أحدكم أخاه فليحسن كفنه » . معناه بياضه ونظافته ، لا كونه ثميناً حليةً .
ولا بأس عند المالكيّة بالزّيادة إلى خمسةٍ في الرّجل ، وإلى سبعةٍ في المرأة ، وقالوا : إنّ الزّيادة على الخمسة في الرّجل ، والسّبعة في المرأة إسرافٌ ، وثلاثةٌ أولى من أربعةٍ ، وخمسةٌ أولى من ستّةٍ . فعلم من ذلك أنّ الإسراف محظورٌ في الكفن في جميع المذاهب . والقاعدة في ذلك أنّ الكفن يكون وفقاً لما يلبسه الميّت حال حياته عادةً .
وينظر تفصيل هذا الموضوع في مصطلح ( كفنٌ ) .
الإسراف في المحرّمات :
17 - المحظور في اصطلاح الفقهاء : هو ما منع من استعماله شرعاً ، ويشمل بالمعنى الأعمّ الحرام والمكروه كراهة تحريمٍ ، فالمحظورات بهذا المعنى هي الممنوعات الشّرعيّة الّتي توجب العقاب . وارتكاب المحرّمات يعتبر بنفسه إسرافاً ، لأنّه مجاوزة الحدّ المشروع . يقول الرّازيّ في تفسير قوله تعالى : { ربّنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } : الإسراف في كلّ شيءٍ الإفراط فيه ، والمراد هنا الذّنوب العظيمة الكبيرة . قال أبو حيّان الأندلسيّ : ( ذنوبنا وإسرافنا ) متقاربان من حيث المعنى ، فجاء ذلك على سبيل التّأكيد . وقيل : الذّنوب ما دون الكبائر . ثمّ إنّ المبالغة في ارتكاب الممنوع توجب تشديد العقاب ، فالعقوبة بقدر الجريمة ، كما قرّره الفقهاء ، والإصرار على الصّغيرة وإدامتها يأخذ حكم الكبيرة في إسقاط العدالة ، فلا تقبل شهادة من كثرت صغائره وأصرّ عليها .
18 - لكن هناك حالاتٌ خاصّةٌ يجوز للشّخص الإتيان بالمحرّم ، بشرط ألاّ يسرف أي لا يجاوز الحدّ المشروع وذلك مثل :
أ - حالة الإكراه : كما إذا أجبر شخصٌ آخر بأكل أو شرب ما حرّم اللّه ، كالميتة والدّم والخمر وغيرها .
ب - حالة الاضطرار : كما إذا وجد الشّخص في حالةٍ لو لم يتناول المحرّم هلك ، ولا تكون للخروج عن هذه الحالة وسيلةٌ أخرى ، كحالة الجوع والعطش الشّديدين .
ففي هذه الحالات يجوز اتّفاقاً - بل يجب عند الأكثر - أكل ما حرّم اللّه من الميتة والدّم والأموال المحرّمة ، بشرط ألاّ يسرف الآكل والشّارب ، ولا يتجاوز الحدود الشّرعيّة المقرّرة الّتي سيأتي تفصيلها . وتتّفق حالة الإكراه مع حالة الاضطرار في الحكم ، ولكنّهما تختلفان في سبب الفعل ، ففي الإكراه يدفع المكره إلى إتيان الفعل المحرّم شخصٌ آخر ويجبره على العمل ، أمّا في حالة الاضطرار فيوجد الفاعل في ظروفٍ تقتضي الخروج منها ، أن يرتكب الفعل المحرّم لينجي نفسه . وبهذا نكتفي بذكر حكم الإسراف في حالة الاضطرار فقط .
19 - اتّفق الفقهاء على أنّ المضطرّ يجوز له الانتفاع بالمحرّم ، ولو كان ميتةً أو دماً أو لحم خنزيرٍ أو مال الغير ، واستدلّوا بقوله تعالى : { فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه } لكنّ الأكل والشّرب من المحرّم حال الاضطرار محدودٌ بحدودٍ لا يجوز التّجاوز عنها والإسراف فيها ، وإلاّ يعتبر مسيئاً وآثماً .
والجمهور : الحنفيّة ، والحنابلة ، وهو قولٌ عند الشّافعيّة ، ذهبوا إلى أنّ مقدار ما يجوز للمضطرّ أكله أو شربه من المحرّم هو ما يسدّ الرّمق ، فمن زاد عن هذا المقدار يعتبر مجاوزاً للحدّ . فلا يجوز له الأكل إلى حدّ الشّبع والتّزوّد بالمحرّم ، لأنّ اللّه سبحانه وتعالى قيّد جواز الانتفاع بالمحرّم في حالة الاضطرار بقوله : { غير باغٍ ولا عادٍ } ، والمراد ألاّ يكون المضطرّ باغياً في أكل المحرّم تلذّذاً ، ولا متعدّياً بالحدّ المشروع ، فيكون مسرفاً في الأكل إذا تناول منها أكثر من المقدار الّذي يمسك الرّمق ، فمتى أكل بمقدار ما يزول عنه الخوف من الضّرر في الحال فقد زالت الضّرورة ، ولا اعتبار في ذلك لسدّ الجوعة ، لأنّ الجوع في الابتلاء لا يبيح أكل الميتة إذا لم يخف ضرراً بتركه .
ومذهب المالكيّة ، وهو قولٌ عند الشّافعيّة ، وروايةٌ عن أحمد ، أنّ للمضطرّ أن يأكل من الميتة إلى حدّ الشّبع إذا لم يوجد غيرها ، لأنّ ما جاز سدّ الرّمق به جاز الشّبع منه كالمباح ، بل المالكيّة جوّزوا التّزوّد من الميتة ، وقالوا : إنّه يأكل منها حتّى يشبع ، ويتزوّد منها ، فإن وجد عنها غنًى طرحها ، لأنّ المضطرّ ليس ممّن حرمت عليه الميتة ، فإذا كانت حلالاً له الأكل منها ما شاء ، حتّى يجد غيرها فتحرم عليه ، وجواز التّزوّد للمضطرّ من لحم الميتة روايةٌ عند الحنابلة . وعلى ذلك فالأكل إلى حدّ الشّبع لا يعتبر إسرافاً عند هؤلاء ، كما أنّ التّزوّد من الميتة لا يعدّ إسرافاً عند المالكيّة ، وفي روايةٍ عند الحنابلة .
ولتفصيل الموضوع ر : ( اضطرارٌ ) .
الإسراف في العقوبة :
20 - الأصل في الشّريعة أنّ العقوبة بقدر الجريمة ، قال سبحانه وتعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } وقال سبحانه : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } فلا تجوز فيها الزّيادة والإسراف قطعاً ، لأنّ الزّيادة تعتبر تعدّياً منهيّاً عنه بقوله تعالى : { ولا تعتدوا إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين } وبيان ذلك فيما يلي :
أ - الإسراف في القصاص :
21 - اتّفق الفقهاء على أنّ مبنى القصاص على المساواة ، فلا يجوز فيه الإسراف والزّيادة . قال اللّه تعالى : { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنّه كان منصوراً } قال المفسّرون في تفسير هذه الآية : لا يسرف في القتل أي لا يتجاوز الحدّ المشروع فيه ، فلا يقتل غير قاتله ، ولا يمثّل بالقاتل كعادة الجاهليّة ، لأنّهم كانوا إذا قتل منهم واحدٌ قتلوا به جماعةً ، وإذا قتل من ليس شريفاً لم يقتلوه ، وقتلوا به شريفاً من قومه ، فنهي عن ذلك .
22 - وصرّح الفقهاء أنّه إذا وجب القصاص على حاملٍ لم تقتل حتّى تضع حملها ، وإذا وضعت لم تقتل حتّى تسقي ولدها اللّبأ ، فإن لم يكن للولد من يرضعه لم يجز قتلها حتّى يجيء أوان فطامه ، لما ورد في الحديث : « إذا قتلت المرأة عمداً لم تقتل حتّى تضع ما في بطنها إن كانت حاملاً ، وحتّى تكفل ولدها » . ولأنّ في قتل الحامل قتلاً لولدها ، فيكون إسرافاً في القتل ، واللّه سبحانه قال : { فلا يسرف في القتل } ، ولأنّ في القصاص من الحامل قتلاً لغير الجاني وهو محرّمٌ ، إذ { لا تزر وازرةٌ وزر أخرى } .
23 - ونشترط المماثلة في قصاص الأعضاء في المحلّ والمقدار والصّفة ، بألاّ يكون العضو المقتصّ منه أحسن حالاً من العضو التّالف ، وإلاّ يعتبر إسرافاً منهيّاً عنه ، فلا تؤخذ يدٌ صحيحةٌ بيدٍ شلاّء ، ولا رجلٌ صحيحةٌ برجلٍ شلاّء ، ولا تؤخذ يدٌ كاملةٌ بيدٍ ناقصةٍ ، لأنّه ليس للمجنيّ عليه أن يأخذ فوق حقّه ، ولو وجب له قصاصٌ في أنملةٍ فقطع أنملتين ، فإن كان عامداً وجب عليه القصاص في الزّيادة ، وهذا ما لا خلاف فيه بين الفقهاء .
24 - ولكي يؤمن الإسراف والتّعدّي ، صرّح الفقهاء أنّه لا يستوفى القصاص فيما دون النّفس إلاّ بحضرة السّلطان أو نائبه ، لأنّه يفتقر إلى اجتهاده ، ولا يؤمن فيه الحيف مع قصد التّشفّي ، ويلزم وليّ الأمر تفقّد آلة الاستيفاء ، والأمر بضبط المقتصّ منه في غير النّفس ، حذراً من الزّيادة واضطرابه ، وإذا سلّم الحاكم القاتل لوليّ الدّم ليقتله نهى الحاكم الوليّ عن التّمثيل بالقاتل والتّشديد عليه في قتله .
وفي قصاص الأطراف يشترط إمكان الاستيفاء من غير حيفٍ ولا زيادةٍ ، بأن يكون القطع من مفصلٍ ، فإن كان القطع من غير مفصلٍ فلا قصاص فيه من موضع القطع ، حذراً من الإسراف . ولأنّ الجرح الّذي يمكن استيفاء القصاص فيه من غير حيفٍ ولا زيادةٍ هو كلّ جرحٍ ينتهي إلى عظمٍ كالموضحة ، اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ فيها القصاص ، واتّفقوا كذلك على عدم القصاص فيما بعد الموضحة لأنّه يعظم فيه الخطر ، أمّا في غيرها من الجروح فاختلفوا في ذلك ، لاحتمال الزّيادة والحيف خوفاً من الإسراف ، ولو زاد المقتصّ عمداً في موضحةٍ على حقّه لزمه قصاص الزّيادة لتعمّده ، كما نصّوا على ذلك .
وتفصيل هذه المسائل في مصطلح ( قصاصٌ ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ب - الإسراف في الحدود :
25 - الحدّ عقوبةٌ مقدّرةٌ واجبةٌ حقّاً للّه . والمراد بالعقوبة المقدّرة : أنّها معيّنةٌ ومحدّدةٌ لا تقبل الزّيادة والنّقصان ، فحدّ من سرق ربع دينارٍ أو مائة ألف دينارٍ واحدٌ . ومعنى أنّها حقّ اللّه تعالى : أنّها لا تقبل العفو والإسقاط بعد ثبوتها ، ولا يمكن استبدال عقوبةٍ أخرى بها ، لأنّها ثبتت بالأدلّة القطعيّة ، فلا يجوز فيها التّعدّي والإسراف ، وهذا ممّا لا خلاف فيه بين الفقهاء . ولهذا صرّح الفقهاء بأنّه لا يقام الحدّ على الحامل ، لأنّ فيه هلاك الجنين بغير حقٍّ ، وهذا إسرافٌ بلا شكٍّ . ويشترط في الحدود الّتي عقوبتها الجلد ، كالقذف والشّرب والزّنى في حالة عدم الإحصان ألاّ يكون في الجلد خوف الهلاك ، لأنّ هذا الحدّ شرع زاجراً لا مهلكاً ، ويكون الضّرب وسطاً ، لا مبرّحاً ولا خفيفاً ، ولا يجمع في عضوٍ واحدٍ ، ويتّقي المقاتل ، وهي الرّأس والوجه والفرج ، لما فيها من خوف الهلاك ، وينبغي أن يكون الجلاّد عاقلاً بصيراً بأمر الضّرب ، وذلك كلّه للتّحرّز عن التّعدّي والإسراف .
فإن أتى بالحدّ على الوجه المشروع من غير زيادةٍ وإسرافٍ لا يضمن من تلف به ، وهذا معنى قولهم : إنّ إقامة الحدّ غير مشروطةٍ بالسّلامة ، أمّا إذا أسرف وزاد على الحدّ فتلف المحدود وجب الضّمان بالاتّفاق . وينظر تفصيل هذه المسائل في مواضعها .
ج - الإسراف في التّعزير :
26 - التّعزير هو : التّأديب على ذنوبٍ لم يشرع فيها حدٌّ ولا كفّارةٌ . وهو عقوبةٌ غير مقدّرةٍ تختلف باختلاف الجناية وأحوال النّاس ، فتقدّر بقدر الجناية ، ومقدار ما ينزجر به الجاني ، ومن النّاس من ينزجر باليسير ، ومنهم من لا ينزجر إلاّ بالكثير ، ولهذا قرّر الفقهاء في الضّرب للتّأديب ألاّ يكون مبرّحاً ، ولا يكون على الوجه ، ولا على المواضع المخوفة ، وأن يكون ممّا يعتبر مثله تأديباً ، فإنّ المقصود منه الصّلاح لا غير ، فإن غلب على ظنّه أنّ الضّرب لا يفيد إلاّ أن يكون مخوفاً لم يجز التّعزير بالضّرب ، وإلاّ كان ضامناً بلا خلافٍ ، لأنّ الضّرب غير المعتاد ، والّذي لا يعتبر مثله أدباً تعدٍّ وإسرافٌ فيوجب الضّمان .
27 - أمّا إذا ضرب للتّأديب على النّحو المشروع من غير إسرافٍ - كما فسّره الرّمليّ - بأن يكون الضّرب معتاداً كمّاً وكيفاً ومحلاًّ - كما عبّر الطّحطاويّ - فتلف ، كضرب الزّوج زوجته لنشوزها ، فتلفت من التّأديب المشروع ، لا يضمن عند المالكيّة والحنابلة ، ويضمن عن التّلف عند الحنفيّة والشّافعيّة ولو كان الضّرب معتاداً ، لأنّ التّأديب حقٌّ ، واستعمال الحقّ يقيّد بالسّلامة عندهما ، ولا يقيّد بها عند المالكيّة والحنابلة ، كما هو مبيّنٌ في موضعها . وأكثر الفقهاء ( منهم أبو حنيفة ، ومحمّدٌ ، والشّافعيّ في الأصحّ ، وأحمد في روايةٍ ) على أنّ عقوبة الجلد في التّعزير لا تتجاوز تسعةً وثلاثين سوطاً ، لما ورد في الحديث الصّحيح أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من بلغ حدّاً في غير حدٍّ فهو من المعتدين » . لأنّ الأربعين حدٌّ كاملٌ للرّقيق ، فإذا نقضت سوطاً أصبح الحدّ الأعلى للتّعزير تسعةً وثلاثين ، وقيّد بعضهم هذا فيما يكون في جنسه حدٌّ .
وفي روايةٍ عن أحمد ، وهو قول ابن وهبٍ من المالكيّة ، أنّه لا يزاد على عشر جلداتٍ ، وقال ابن قدامة نقلاً عن القاضي : إنّ هذا هو المذهب . ويفوّض مقداره مطلقاً - وإن زائداً على الحدّ - للحاكم بشرط ألاّ يتجاوز عمّا يكفي لزجر الجاني عند المالكيّة . وليس لأقلّ التّعزير حدٌّ معيّنٌ في الرّاجح عند الفقهاء ، فلو رأى القاضي أنّه ينزجر بسوطٍ واحدٍ اكتفى به ، فلا يجوز الإسراف والزّيادة في التّعزير على مقدار ما ينزجر به المجرم في المذاهب كلّها .
الحجر على المسرف :
28 - المسرف في الأموال يعتبر سفيهاً عند الفقهاء ، لأنّه يبذّر الأموال ويضيّعها على خلاف مقتضى الشّرع والعقل ، وهذا هو معنى السّفه عندهم . ولهذا جرى على لسان الفقهاء : أنّ السّفه هو التّبذير ، والسّفيه هو المبذّر . وعلى ذلك فالإسراف النّاشئ عن السّفه سببٌ للحجر عند جمهور الفقهاء : المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو رأي الصّاحبين : أبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة ، وعليه الفتوى عندهم خلافاً لأبي حنيفة ، فلا يحجر على المكلّف لسبب السّفه والتّبذير . ولتفصيل ذلك انظر مصطلح ( حجرٌ ) .

أسرى *
التعريف :
1 - الأسرى جمع أسيرٍ ، ويجمع أيضاً على أسارى وأسارى .
والأسير لغةً : مأخوذٌ من الإسار ، وهو القيد ، لأنّهم كانوا يشدّونه بالقيد . فسمّي كلّ أخيذٍ أسيراً وإن لم يشدّ به . وكلّ محبوسٍ في قيدٍ أو سجنٍ أسيرٌ . قال مجاهدٌ في تفسير قول اللّه سبحانه : { ويطعمون الطّعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً } الأسير : المسجون .
2 - وفي الاصطلاح : عرّف الماورديّ الأسرى بأنّهم : الرّجال المقاتلون من الكفّار ، إذا ظفر المسلمون بهم أحياءً . وهو تعريفٌ أغلبيٌّ ، لاختصاصه بأسرى الحربيّين عند القتال ، لأنّه بتتبّع استعمالات الفقهاء لهذا اللّفظ يتبيّن أنّهم يطلقونه على كلّ من يظفر بهم من المقاتلين ومن في حكمهم ، ويؤخذون أثناء الحرب أو في نهايتها ، أو من غير حربٍ فعليّةٍ ، ما دام العداء قائماً والحرب محتملةٌ .
من ذلك قول ابن تيميّة : أوجبت الشّريعة قتال الكفّار ، ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم ، بل إذا أسر الرّجل منهم في القتال أو غير القتال ، مثل أن تلقيه السّفينة إلينا ، أو يضلّ الطّريق ، أو يؤخذ بحيلةٍ فإنّه يفعل به الإمام الأصلح . وفي المغني : هو لمن أخذه ، وقيل : يكون فيئاً . ويطلق الفقهاء لفظ الأسير أيضاً على : من يظفر به المسلمون من الحربيّين إذا دخلوا دار الإسلام بغير أمانٍ ، وعلى من يظفرون به من المرتدّين عند مقاتلتهم لنا . يقول ابن تيميّة : ومن أسر منهم أقيم عليه الحدّ . كما يطلقون لفظ الأسير على : المسلم الّذي ظفر به العدوّ . يقول ابن رشدٍ : وجب على الإمام أن يفكّ أسرى المسلمين من بيت المال ... ويقول : وإذا كان الحصن فيه أسارى من المسلمين ، وأطفالٌ من المسلمين ... إلخ .
الألفاظ ذات الصّلة
أ - الرّهينة :
3 - الرّهينة : واحدة الرّهائن وهي كلّ ما احتبس بشيءٍ ، والأسير والرّهينة كلاهما محتبسٌ ، إلاّ أنّ الأسير يتعيّن أن يكون إنساناً ، واحتباسه لا يلزم أن يكون مقابل حقٍّ .
ب - الحبس :
4 - الحبس : ضدّ التّخلية ، والمحبوس : الممسك عن التّوجّه حيث يشاء ، فالحبس أعمّ من الأسر .
ج - السّبي :
5 - السّبي والسّباء : الأسر ، فالسّبي أخذ النّاس عبيداً وإماءً ، والفقهاء يطلقون لفظ السّبي على من يظفر به المسلمون حيّاً من نساء أهل الحرب وأطفالهم . ويخصّصون لفظ الأسرى - عند مقابلته بلفظ السّبايا - بالرّجال المقاتلين ، إذا ظفر المسلمون بهم أحياءً .
صفة الأسر : حكمه التّكليفيّ :
6 - الأسر مشروعٌ ، ويدلّ على مشروعيّته النّصوص الواردة في ذلك ، ومنها قول اللّه سبحانه : { فإذا لقيتم الّذين كفروا فضرب الرّقاب حتّى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق ... } ولا يتنافى ذلك مع قول اللّه تعالى { ما كان لنبيٍّ أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض } لأنّها لم ترد في منع الأسر مطلقاً ، وإنّما جاءت في الحثّ على القتال ، وأنّه ما كان ينبغي أن يكون للمسلمين أسرى قبل الإثخان في الأرض ، أي المبالغة في قتل الكفّار .
الحكمة من مشروعيّة الأسر :
7 - هي كسر شوكة العدوّ ، ودفع شرّه ، وإبعاده عن ساحة القتال ، لمنع فاعليّته وأذاه ، وليمكن افتكاك أسرى المسلمين به .
من يجوز أسرهم ومن لا يجوز :
8 - يجوز أسر كلّ من وقع في يد المسلمين من الحربيّين ، صبيّاً كان أو شابّاً أو شيخاً أو امرأةً ، الأصحّاء منهم والمرضى ، إلاّ من لا يخشى من تركه ضررٌ وتعذّر نقله ، فإنّه لا يجوز أسره على تفصيلٍ بين المذاهب في ذلك .
فمذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة : أنّه لا يؤسر من لا ضرر منهم ، ولا فائدة في أسرهم ، كالشّيخ الفاني والزّمن والأعمى والرّاهب إذا كانوا ممّن لا رأي لهم . ونصّ المالكيّة على أنّ كلّ من لا يقتل يجوز أسره ، إلاّ الرّاهب والرّاهبة إذا لم يكن لهما رأيٌ فإنّهما لا يؤسران ، وأمّا غيرهما من المعتوه والشّيخ الفاني والزّمن والأعمى فإنّهم وإن حرم قتلهم يجز أسرهم ، ويجوز تركهم من غير قتلٍ ومن غير أسرٍ .
وذهب الشّافعيّة في الأظهر إلى أنّه يجوز أسر الجميع دون استثناءٍ .
9 - ولا يجوز أسر أحدٍ من دار الكفر إذا كان بين المسلمين وبينها عهد موادعةٍ ، لأنّ عقد الموادعة أفاد الأمان ، وبالأمان لا تصير الدّار مستباحةً ، وحتّى لو خرج قومٌ من الموادعين إلى بلدةٍ أخرى ليس بينهم وبين المسلمين موادعةٌ ، فغزا المسلمون تلك البلدة ، فهؤلاء آمنون ، لا سبيل لأحدٍ عليهم ، لأنّ عقد الموادعة أفاد الأمان لهم ، فلا ينتقض بالخروج إلى موضعٍ آخر . وكذا لو دخل في دار الموادعة رجلٌ من غير دارهم بأمانٍ ، ثمّ خرج إلى دار الإسلام بغير أمانٍ ، فهو آمنٌ لا يجوز أسره ، لأنّه لمّا دخل دار الموادعين بأمانهم صار كواحدٍ منهم . ومثله ما لو وجد الحربيّ بدار الإسلام بأمانٍ فإنّه لا يجوز أسره ، وما لو أخذ الحربيّ الأمان من المسلمين وهو في حصن الحربيّين .
الأسير في يد آسره ومدى سلطانه عليه :
10 - الأسير في ذمّة آسره لا يد له عليه ، ولا حقّ له في التّصرّف فيه ، إذ الحقّ للتّصرّف فيه موكولٌ للإمام ، وعليه بعد الأسر أن يقوده إلى الأمير ليقضي فيه بما يرى ، وللآسر أن يشدّ وثاقه إن خاف انفلاته ، أو لم يأمن شرّه ، كما يجوز عصب عينيه أثناء نقله لمنعه من الهرب . فمن حقّ المسلم أن يمنع الأسير من الهرب ، وإذا لم يجد فرصةً لمنعه إلاّ قتله فلا بأس ، وقد فعل هذا غير واحدٍ من الصّحابة .
11 - وجمهور الفقهاء على أنّ الأسير إذا صار في يد الإمام فلا استحقاق للآسر فيه إلاّ بتنفيل الإمام ، لا بنفس الأسر ، وذلك بأن ينادي في العسكر : من أصاب منكم أسيراً فهو له ، فإن قال ذلك فأعتق الرّجل أسيره فإنّه ينفذ عتقه . ولو أصاب ذا رحمٍ محرمٍ منه عتق ، لأنّه إذا ثبت الاستحقاق لهم بالإصابة صار الأسير مملوكاً لآسره واحداً أو جماعةً . بل قالوا : لو قال الأمير : من قتل قتيلاً فله سلبه . فأسر العسكر بعض الأسرى ، ثمّ قتل أحد الأسراء رجلاً من العدوّ ، كان السّلب من الغنيمة ، إن لم يقسّم الأمير الأسراء ، وإن كان قسمهم أو باعهم فالسّلب لمولى الأسير القاتل . وقد فرّق المالكيّة بين من أسر أسيراً أثناء القتال مستنداً إلى قوّة الجيش ، وبين من أسر أسيراً من غير حربٍ ، وقالوا : إن كان الآسر من الجيش ، أو مستنداً له خمسٌ كسائر الغنيمة ، وإلاّ اختصّ به الآسر .
حكم قتل الآسر أسيره :
12 - ليس لواحدٍ من الغزاة أن يقتل أسيره بنفسه ، إذ الأمر فيه بعد الأسر مفوّضٌ للإمام ، فلا يحلّ القتل إلاّ برأي الإمام اتّفاقاً ، إلاّ إذا خيف ضرره ، فحينئذٍ يجوز قتله قبل أن يؤتى به إلى الإمام ، وليس لغير من أسره قتله ، لحديث جابرٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يتعاطى أحدكم أسير صاحبه فيقتله » .
فلو قتل رجلٌ من المسلمين أسيراً في دار الحرب أو في دار الإسلام ، فالحنفيّة يفرّقون بين ما إذا كان قبل القسمة أو بعدها ، فإن كان قبل القسمة فلا شيء فيه من ديةٍ أو كفّارةٍ أو قيمةٍ ، لأنّ دمه غير معصومٍ ، إذ للإمام فيه خيرة القتل ، ومع هذا فهو مكروهٌ ، وإن كان بعد القسمة ، أو بعد البيع فيراعى فيه حكم القتل ، لأنّ دمه صار معصوماً ، فكان مضموناً بالقتل ، إلاّ أنّه لا يجب القصاص لقيام الشّبهة . ولم يفرّقوا في ذلك بين ما إذا كان هو الآسر أو غيره كما يفيده الإطلاق . والمالكيّة يتّجهون وجهة الحنفيّة من ناحية الضّمان ، غير أنّهم جعلوا التّفرقة فيما إذا كان القتل في دار الحرب قبل أن يصير في المغنم ، أو بعد أن صار مغنماً ، وينصّون على أنّ من قتل من نهي عن قتله ، فإن قتله في دار الحرب قبل أن يصير في المغنم فليستغفر اللّه ، وإن قتله بعد أن صار مغنماً فعليه قيمته .
والشّافعيّة أيضاً يلزمون القاتل بالضّمان ، فإذا كان بعد اختيار رقّه ضمن قيمته ، وكان في الغنيمة . وإذا كان بعد المنّ عليه لزمه ديته لورثته . وإن قتله بعد الفداء فعليه ديته غنيمةً ، إن لم يكن قبض الإمام الفداء ، وإلاّ فديته لورثته . وإن قتله بعد اختيار الإمام قتله فلا شيء عليه ، وإن كان قبله عزّر .
وعند الحنابلة : إن قتل أسيره أو أسير غيره قبل الذّهاب للإمام أساء ، ولم يلزمه ضمانه .
معاملة الأسير قبل نقله لدار الإسلام :
13 - مبادئ الإسلام تدعو إلى الرّفق بالأسرى ، وتوفير الطّعام والشّراب والكساء لهم ، واحترام آدميّتهم ، لقوله تعالى { ويطعمون الطّعام على حبّه مسكينا ويتيماً وأسيراً } ، وروي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه في أسرى بني قريظة بعدما احترق النّهار في يومٍ صائفٍ : « أحسنوا إسارهم ، وقيّلوهم ، واسقوهم » وقال : « لا تجمعوا عليهم حرّ هذا اليوم وحرّ السّلاح ... » وقال الفقهاء : إن رأى الإمام قتل الأسارى فينبغي له ألاّ يعذّبهم بالعطش والجوع ، ولكنّه يقتلهم قتلاً كريماً . ويجوز حبس الأسرى في أيّ مكان ، ليؤمن منعهم من الفرار ، فقد جاء في الصّحيحين أنّ « الرّسول حبس في مسجد المدينة »
التّصرّف في الأسرى قبل نقلهم لدار الإسلام :
14 - يرى جمهور الفقهاء جواز التّصرّف في الغنائم - ومنها الأسرى في دار الحرب - وقبل نقلهم لدار الإسلام . قال مالكٌ : الشّأن أن تقسم الغنائم وتباع ببلد الحرب ، وروى الأوزاعيّ أنّ رسول اللّه والخلفاء لم يقسموا غنيمةً قطّ إلاّ في دار الشّرك ، قال أبو سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه : « خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غزوة المصطلق ، فأصبنا سبياً من سبي العرب ، فاشتهينا النّساء ، واشتدّت علينا وأحببنا العزل ، فأردنا العزل وقلنا : نعزل ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله ، فسألناه عن ذلك فقال : ما عليكم أن لا تفعلوا ، ما من نسمةٍ كائنةٍ إلى يوم القيامة إلاّ وهي كائنةٌ » فإنّ سؤالهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن العزل في وطء السّبايا دليلٌ على أنّ قسمة الغنائم قد تمّت في دار الحرب ، ولما في ذلك من تعجيل مسرّة الغانمين وغيظ الكافرين ، ويكره تأخيره لبلد الإسلام ، وهذا إذا كان الغانمون جيشاً وأمنوا من كرّ العدوّ عليهم .
وقد نصّ الشّافعيّة على أنّ للغانمين التّملّك قبل القسمة لفظاً ، بأن يقول كلٌّ بعد الحيازة ، وقبل القسمة : اخترت ملك نصيبي ، فتملّك بذلك . وقيل : يملكون بمجرّد الحيازة ، لزوال ملك الكفّار بالاستيلاء . وقيل : الملك موقوفٌ . والمراد عند من قال يملكون بمجرّد الحيازة : الاختصاص ، أي يختصمون .
وصرّح الحنابلة بجواز قسمة الغنائم في دار الحرب ، وهو قول الأوزاعيّ وابن المنذر وأبي ثورٍ لفعل الرّسول صلى الله عليه وسلم ولأنّ الملك ثبت فيها بالقهر والاستيلاء .
15 - وعند الحنفيّة لا تقسم الغنائم إلاّ في دار الإسلام ، لأنّ الملك لا يتمّ عليها إلاّ بالاستيلاء التّامّ ، ولا يحصل إلاّ بإحرازها في دار الإسلام ، لأنّ سبب ثبوت الحقّ القهر ، وهو موجودٌ من وجهٍ دون وجهٍ ، لأنّهم قاهرون يداً مقهورون داراً ، فلا ينبغي للإمام أن يقسم الغنائم - ومنها الأسرى - أو يبيعها حتّى يخرجها إلى دار الإسلام ، خشية تقليل الرّغبة في لحوق المدد بالجيش ، وتعرّض المسلمين لوقوع الدّبرة عليهم ، بأن يتفرّقوا ويستقلّ كلّ واحدٍ منهم بحمل نصيبه . ومع هذا فقالوا : وإن قسم الإمام الغنائم في دار الحرب جاز ، لأنّه أمضى فصلاً مختلفاً فيه بالاجتهاد . وقد روي أنّ « الرّسول صلى الله عليه وسلم أخّر قسمة غنائم حنينٍ حتّى انصرف إلى الجعرانة » .
تأمين الأسير :
16 - يتّفق الفقهاء على أنّه يحقّ للإمام إعطاء الأمان للأسير بعد الاستيلاء عليه ، لأنّ عمر لمّا قدم عليه بالهرمزان أسيراً قال :" لا بأس عليك ، ثمّ أراد قتله ، فقال له أنسٌ : قد أمّنته فلا سبيل لك عليه ، وشهد الزّبير بذلك "فعدّوه أماناً ، ولأنّ للإمام أن يمنّ عليه ، والأمان دون المنّ ، ولا ينبغي للإمام أن يتصرّف على حكم التّمنّي والتّشهّي دون مصلحة المسلمين ، فما عقده أمير الجيش من الأمان جاز ولزم الوفاء به ، وأمّا آحاد الرّعيّة فليس لهم ذلك ، لأنّ أمر الأسير مفوّضٌ إلى الإمام ، فلم يجز الافتيات عليه فيما يمنع ذلك كقتله . وذكر أبو الخطّاب أنّه يصحّ أمان آحاد الرّعيّة ، لأنّ « زينب بنت الرّسول صلى الله عليه وسلم أجارت زوجها أبا العاص بن الرّبيع بعد أسره ، فأجاز النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمانها » . وتفصيل ذلك في مصطلح ( أمانٌ ) .
حكم الإمام في الأسرى :
17 - يرجع الأمر في أسرى الحربيّين إلى الإمام ، أو من ينيبه عنه .
وجعل جمهور الفقهاء مصائر الأسرى بعد ذلك ، وقبل إجراء قسمة الغنائم بين الغانمين ، في أحد أمورٍ : فقد نصّ الشّافعيّة والحنابلة على تخيير الإمام في الرّجال البالغين من أسرى الكفّار ، بين قتلهم ، أو استرقاقهم ، أو المنّ عليهم ، أو مفاداتهم بمالٍ أو نفسٍ .
أمّا الحنفيّة فقد قصروا التّخيير على ثلاثة أمورٍ فقط : القتل ، والاسترقاق ، والمنّ عليهم بجعلهم أهل ذمّةٍ على الجزية ، ولم يجيزوا المنّ عليهم دون قيدٍ ، ولا الفداء بالمال إلاّ عند محمّد بن الحسن بالنّسبة للشّيخ الكبير ، أو إذا كان المسلمون بحاجةٍ للمال . وأمّا مفاداتهم بأسرى المسلمين فموضع خلافٍ عندهم .
وذهب مالكٌ إلى أنّ الإمام يخيّر في الأسرى بين خمسة أشياء : فإمّا أن يقتل ، وإمّا أن يسترقّ ، وإمّا أن يعتق ، وإمّا أن يأخذ فيه الفداء ، وإمّا أن يعقد عليه الذّمّة ويضرب عليه الجزية ، والإمام مقيّدٌ في اختياره بما يحقّق مصلحة الجماعة .
18 - ويتّفق الفقهاء على أنّ الأصل في السّبايا من النّساء والصّبيّة أنّهم لا يقتلون . ففي الشّرح الكبير للدّردير : وأمّا النّساء والذّراريّ فليس فيهم إلاّ الاسترقاق أو الفداء . وتفصيله في ( سبيٌ ) . كما يتّفقون على أنّ الأسير الحربيّ الّذي أعلن إسلامه قبل القسمة ، لا يحقّ للإمام قتله ، لأنّ الإسلام عاصمٌ لدمه على ما سيأتي .
19 - ويقول الشّافعيّة : إن خفي على الإمام أو أمير الجيش الأحظّ حبسهم حتّى يظهر له ، لأنّه راجعٌ إلى الاجتهاد ، ويصرّح ابن رشدٍ بأنّ هذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين ، إذا لم يكن يوجد تأمينٌ لهم .
20 - وقال قومٌ : لا يجوز قتل الأسير ، وحكى الحسن بن محمّدٍ التّميميّ أنّه إجماع الصّحابة . والسّبب في الاختلاف تعارض الآية في هذا المعنى ، وتعارض الأفعال ، ومعارضة ظاهر الكتاب لفعله عليه الصلاة والسلام ، لأنّ ظاهر قول اللّه تعالى : { فإذا لقيتم الّذين كفروا فضرب الرّقاب } أنّه ليس للإمام بعد الأسر إلاّ المنّ أو الفداء . وقوله تعالى { ما كان لنبيٍّ أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض } والسّبب الّذي نزلت فيه يدلّ على أنّ القتل أفضل من الاستبقاء .
وأمّا فعل الرّسول صلى الله عليه وسلم :« فقد قتل الأسارى في غير موطنٍ »، فمن رأى أنّ الآية الخاصّة بالأسارى ناسخةٌ لفعله قال : لا يقتل الأسير ، ومن رأى أنّ الآية ليس فيها ذكرٌ لقتل الأسير ولا المقصود منها حصر ما يفعل بالأسارى قال بجواز قتل الأسير .
21 - ويتّفق الفقهاء على أنّ الأسرى من نساء الحربيّين وذراريّهم ، ومن في حكمهم كالخنثى والمجنون ، وكذا العبيد المملوكون لهم يسترقّون بنفس الأسر ، ويتّفقون على أنّ من أسلم من الحربيّين قبل الاستيلاء والأسر لا يسترقّ ، وكذا بالنّسبة للمرتدّين ، فإنّ الحكم بالنّسبة لهم الاستتابة والعودة إلى الإسلام ، وإلاّ فالسّيف .
22 - أمّا الرّجال الأحرار المقاتلون منهم . فقد اتّفقوا أيضاً على جواز استرقاق الأعاجم ، وثنيّين كانوا أو أهل كتابٍ . واتّجه الجمهور إلى جواز استرقاق العرب على تفصيلٍ بينهم . والحنفيّة لا يجيزون استرقاق مشركي العرب .
الفداء بالمال :
23 - المشهور في مذهب المالكيّة ، وهو قول محمّد بن الحسن من فقهاء الحنفيّة ، ومذهب الشّافعيّة ، والحنابلة في غير روايةٍ عن الإمام أحمد : جواز فداء أسرى الحربيّين الّذين يثبت الخيار للإمام فيهم بالمال . غير أنّ المالكيّة يجيزونه بمالٍ أكثر من قيمة الأسير ، وعن محمّد بن الحسن - كما نقل السّرخسيّ عن السّير الكبير - تقييد ذلك بحاجة المسلمين للمال ، وقيد الكاسانيّ هذا بما إذا كان الأسير شيخاً كبيراً لا يرجى له ولدٌ . وأجازه الشّافعيّة بالمال دون قيدٍ ، ولو لم تكن ثمّة حاجةٌ للمال ، ونصّوا على أنّه للإمام أن يفدي الأسرى بالمال يأخذه منهم ، سواءٌ ، أكان من مالهم أم من مالنا الّذي في أيديهم ، وأن نفديهم بأسلحتنا الّتي في أيديهم . أمّا أسلحتهم الّتي بأيدينا ففي جواز مفاداة أسرانا بها وجهان ، أوجههما عندهم الجواز . واستدلّ المجيزون بظاهر قوله تعالى { فإمّا منّاً بعد وإمّا فداءً } ، و«بفعل الرّسول صلى الله عليه وسلم ، فقد فادى أسارى بدرٍ بالمال وكانوا سبعين رجلاً ، كلّ رجلٍ منهم بأربعمائة درهمٍ »، وأدنى درجات فعله الجواز والإباحة .
24 - ويرى الحنفيّة ، في غير ما روي عن محمّدٍ ، وهو روايةٌ عن أحمد وقول أبي عبيد القاسم بن سلاّمٍ عدم جواز الفداء بمالٍ . ويدلّ على عدم الجواز أنّ قتل الأسارى مأمورٌ به ، لقوله تعالى { فاضربوا فوق الأعناق } وأنّه منصرفٌ إلى ما بعد الأخذ والاسترقاق ، وقوله تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } والأمر بالقتل للتّوسّل إلى الإسلام ، فلا يجوز تركه إلاّ لما شرع له القتل ، وهو أن يكون وسيلةً إلى الإسلام ، ولا يحصل معنى التّوسّل بالمفاداة بالمال ، كما أنّ في ذلك إعانةً لأهل الحرب ، لأنّهم يرجعون إلى المنعة ، فيصيرون حرباً علينا ، وقتل المشرك عند التّمكّن منه فرضٌ محكمٌ ، وفي المفاداة ترك إقامة هذا الفرض ، وقد روي عن أبي بكرٍ أنّه قال في الأسير :" لا تفادوه وإن أعطيتم به مدّين من ذهبٍ " ولأنّه صار بالأسر من أهل دارنا ، فلا يجوز إعادته لدار الحرب ، ليكون حرباً علينا ، وفي هذا معصيةٌ ، وارتكاب المعصية لمنفعة المال لا يجوز ، ولو أعطونا مالاً لترك الصّلاة لا يجوز لنا أن نفعل ذلك مع الحاجة ، فكذا لا يجوز ترك قتل المشرك بالمفاداة .
وعلى القول بأنّ للإمام حقّ المفاداة بالمال ، فإنّ هذا المال يكون للغانمين ، وليس من حقّه أن يسقط شيئاً من المال الّذي يفرضه عليهم مقابل الفداء إلاّ برضى الغانمين .
فداء أسرى المسلمين بأسرى الأعداء :
25 - ذهب الجمهور من المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وصاحبا أبي حنيفة ، وهو إحدى الرّوايتين عن أبي حنيفة إلى جواز تبادل الأسرى ، مستدلّين بقول النّبيّ « أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكّوا العاني » وقوله « إنّ على المسلمين في فيئهم أن يفادوا أسيرهم ، ويؤدّوا عن غارمهم » و « فادى النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلين من المسلمين بالرّجل الّذي أخذه من بني عقيلٍ » . « وفادى بالمرأة الّتي استوهبها من سلمة بن الأكوع ناساً من المسلمين كانوا قد أسروا بمكّة » ولأنّ في المفاداة تخليص المسلم من عذاب الكفّار والفتنة في الدّين ، وإنقاذ المسلم أولى من إهلاك الكافر .
ولم يفرّقوا بين ما إذا كانت المفاداة قبل القسمة أو بعدها . أمّا أبو يوسف فقد قصر جواز المفاداة على ما قبل القسمة ، لأنّه قبل القسمة لم يتقرّر كون أسيرهم من أهل دارنا حتّى جاز للإمام أن يقتله ، وأمّا بعد القسمة فقد تقرّر كونه من أهل دارنا حتّى ليس للإمام أن يقتله . أي فلا يعاد بالمفاداة إلى دار الكفر . ولأنّ في المفاداة بعدها إبطال ملك المقسوم له من غير رضاه . ونصّ المالكيّة على مثل قول أبي يوسف أيضاً ، ومحمّد بن الحسن أجازه في الحالتين لأنّ المعنى الّذي لأجله جوّز ذلك قبل القسمة الحاجة إلى تخليص المسلم من عذابهم ، وهذا موجودٌ بعد القسمة ، وحقّ الغانمين في الاسترقاق ثابتٌ قبل القسمة ، وقد صار الأسير بذلك من أهل دارنا ، ثمّ تجوز المفاداة به لهذه الحاجة ، فكذلك بعد القسمة .
وقد نقل الحطّاب عن أبي عبيدٍ أنّ النّساء والذّراريّ ليس فيهم إلاّ الاسترقاق ، أو المفاداة بالنّفوس دون المال . وأمّا الرّواية الأخرى عن أبي حنيفة فهي منع مفاداة الأسير بالأسير ، ووجهه : أنّ قتل المشركين فرضٌ محكمٌ ، فلا يجوز تركه بالمفاداة .
26 - ولو أسلم الأسير لا يفادى به لعدم الفائدة ، أي لأنّه فداء مسلمٍ بمسلمٍ ، إلاّ إذا طابت به نفسه وهو مأمونٌ على إسلامه :
27 - ويجوز مفاداة الأكثر بالأقلّ والعكس كما قال الشّافعيّة ، ولم يصرّح بذلك الحنابلة ، لكن في كتبهم ما يوافق ذلك ، لاستدلالهم بالأحاديث المتقدّمة . أمّا الحنفيّة فقد نصّوا على أنّه لا يجوز أن يعطى لنا رجلٌ واحدٌ من أسرانا ، ويؤخذ بدله أسيران من المشركين .
جعل الأسرى ذمّةً لنا وفرض الجزية عليهم :
28 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للإمام أن يضع الجزية في رقاب الأسرى من أهل الكتاب والمجوس على أن يكونوا ذمّةً لنا ، وفي وجهٍ عند الشّافعيّ أنّه يجب على الإمام إجابتهم إلى ذلك إذا سألوه ، كما يجب إذا بذلوا الجزية في غير أسرٍ . واستدلّوا على جواز ذلك بفعل عمر في أهل السّواد وقالوا : إنّه أمرٌ جوازيٌّ ، لأنّهم صاروا في يد المسلمين بغير أمانٍ ، وكيلا يسقط بذلك ما ثبت من اختيارٍ . وهذا إن كانوا ممّن تؤخذ منهم الجزية .
وهذا يتّفق مع ما حكاه ابن رشدٍ حيث قال : وقد اتّفق الفقهاء على أنّ الجزية تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس ، واختلفوا فيما سواهم من المشركين ، فقال قومٌ : تؤخذ من كلّ مشركٍ ، وبه قال مالكٌ . وأجاز الحنفيّة ذلك للإمام بالنّسبة للأسارى من غير مشركي العرب والمرتدّين ، ووضعوا قاعدةً عامّةً هي : كلّ من يجوز استرقاقه من الرّجال ، يجوز أخذ الجزية منه بعقد الذّمّة ، كأهل الكتاب وعبدة الأوثان من العجم ، ومن لا يجوز استرقاقه لا يجوز أخذ الجزية منه ، كالمرتدّين وعبدة الأوثان من العرب .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
رجوع الإمام في اختياره :
29 - لم نقف فيما رجعنا إليه من كتبٍ على من تعرّض لهذا ، إلاّ ما قاله ابن حجرٍ الهيتميّ الشّافعيّ من قولة : لم يتعرّضوا فيما علمت إلى أنّ الإمام لو اختار خصلةً له الرّجوع عنها أوّلاً ، ولا إلى أنّ اختياره هل يتوقّف على لفظٍ أو لا . وقال : والّذي يظهر لي في ذلك تفصيلٌ لا بدّ منه ، فلو اختار خصلةً وظهر له بالاجتهاد أنّها الأحظّ ، ثمّ ظهر له أنّ الأحظّ غيرها ، فإن كانت رقّاً لم يجز له الرّجوع عنها مطلقاً ، لأنّ الغانمين وأهل الخمس ملكوا بمجرّد ضرب الرّقّ ، فلم يملك إبطاله عليهم ، وإن كان قتلاً جاز له الرّجوع عنه ، تغليباً لحقن الدّماء ما أمكن ، وإن كان فداءً أو منّاً لم يعمل بالثّاني ، لاستلزامه نقض الاجتهاد بالاجتهاد من غير موجبٍ ، إلاّ إذا كان اختياره أحدهما لسببٍ ثمّ زال السّبب ، وتعيّنت المصلحة في الثّاني عمل بقضيّته . وليس هذا نقض اجتهادٍ باجتهادٍ ، بل بما يشبه النّصّ ، لزوال موجبه الأوّل بالكلّيّة .
ما يكون به الاختيار :
30 - وأمّا توقّف الاختيار على لفظٍ ، فإنّ الاسترقاق لا بدّ فيه من لفظٍ يدلّ عليه ، ولا يكفي فيه مجرّد الفعل ، وكذا الفداء ، نعم يكفي فيه لفظٌ ملتزمٌ البدل مع قبض الإمام له من غير لفظٍ ، بخلاف الخصلتين الأخريين لحصولهما بمجرّد الفعل .
إسلام الأسير :
31 - إذا أسلم الأسير بعد أسره وقبل قضاء الإمام فيه القتل أو المنّ أو الفداء ، فإنّه لا يقتل إجماعاً ، لأنّه بالإسلام قد عصم دمه .
أمّا استرقاقه ففيه رأيان : فالجمهور ، وقولٌ للشّافعيّة ، واحتمالٌ للحنابلة أنّ الإمام فيه مخيّرٌ فيما عدا القتل ، لأنّه لمّا سقط القتل بإسلامه بقيت باقي الخصال .
والقول الظّاهر للحنابلة ، وهو قولٌ للشّافعيّة أنّه يتعيّن استرقاقه ، لأنّ سبب الاسترقاق قد انعقد بالأسر قبل إسلامه ، فصار كالنّساء والذّراريّ ، فيتعيّن استرقاقه فقط ، فلا منّ ولا فداء ، ولكن يجوز أن يفادي به لتخليصه من الرّقّ .
أموال الأسير :
32 - الحكم في مال الأسير مبنيٌّ على الحكم في نفسه ، فلا عصمة له على ماله وما معه ، فهو فيءٌ لكلّ المسلمين ما دام أسر بقوّة الجيش ، أو كان الأسر مستنداً لقوّة الجيش ، ولو أسلم بعد أسره واسترقّ تبعه ماله ، أمّا لو كان إسلامه في دار الحرب قبل أخذه ، ولم يخرج إلينا حتّى ظهرنا على الدّار ، عصم نفسه وصغاره وكلّ ما في يده من مالٍ ، لحديث « من أسلم على مالٍ فهو له » وذلك باتّفاق المذاهب بالنّسبة للمنقول ، وكذا العقار عند المالكيّة ، وهو مذهب الشّافعيّة ، والحنابلة . وقال أبو حنيفة : وخرج عقاره لأنّه في يد أهل الدّار وسلطانها فيكون غنيمةً . وقيل : إنّ محمّداً جعله كسائر ماله . وإذا قال الأمير : من خرج من أهل العسكر فأصاب شيئاً فله من ذلك الرّبع ، وسمع هذه المقالة أسيرٌ من أهل الحرب ، فخرج فأصاب شيئاً فذلك كلّه للمسلمين ، لأنّ الأسير فيءٌ لهم وكسب العبد لمولاه .
33 - وإذا وقع السّبي في سهم رجلٍ من المسلمين ، فأخرج مالاً كان معه لم يعلم به ، فينبغي للّذي وقع في سهمه أن يردّه في الغنيمة ، لأنّ الأمير إنّما ملّكه بالقسمة رقبة الأسير لا ما معه من المال ، فإنّ ذلك لم يكن معلوماً له ، وهو مأمورٌ بالعدل في القسمة ، وإنّما يتحقّق العدل إذا كانت القسمة لا تتناول إلاّ ما كان معلوماً . ويروى أنّ رجلاً اشترى جاريةً من المغنم ، فلمّا رأت أنّها قد خلصت له أخرجت حليّاً كان معها ، فقال الرّجل : ما أدري هذا ؟ وأتى سعد بن أبي وقّاصٍ فأخبره فقال : اجعله في غنائم المسلمين . لأنّ المال الّذي مع الأسير كان غنيمةً ، وفعل الأمير تناول الرّقبة دون المال ، فبقي المال غنيمةً .
وهذا الحكم يصدق أيضاً على الدّيون والودائع الّتي له لدى مسلمٍ أو ذمّيٍّ . فإن كانت لدى حربيٍّ فهي فيءٌ للغانمين .
34 - وإذا كان على الأسير دينٌ لمسلمٍ أو ذمّيٍّ قضي من ماله الّذي لم يغنم قبل استرقاقه ، فإنّ حقّ الدّين مقدّمٌ على حقّ الغنيمة ، إلاّ إذا سبق الاغتنام رقّه .
ولو وقعا معاً فالظّاهر - على ما قال الغزاليّ من الشّافعيّة - تقديم الغنيمة ، فإن لم يكن مالٌ فهو في ذمّته إلى أن يعتق .
بم يعرف إسلامه :
35 - روي أنّه لمّا أسر المسلمون بعض المشركين وتكلّم بعضهم بالإسلام دون اعترافٍ جازمٍ ، بيّن اللّه أمرهم بقوله : { يا أيّها النّبيّ قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم اللّه في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً ممّا أخذ منكم ويغفر لكم واللّه غفورٌ رحيمٌ . وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا اللّه من قبل فأمكن منهم } . وإذا كان القرآن كشف نيّات بعض الأسرى لرسوله ، فإنّ المحاربين من المسلمين لم يؤمروا بالبحث عن هذه النّيّات ، ولقد حدّث المقداد بن الأسود أنّه قال :« يا رسول اللّه ، أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفّار فقاتلني ، فضرب إحدى يديّ بالسّيف فقطعها ، ثمّ لاذ منّي بشجرةٍ فقال : أسلمت للّه ، أفأقتله يا رسول اللّه بعد أن قالها ؟ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا تقتله . قال فقلت : يا رسول اللّه إنّه قطع يدي ، ثمّ قال ذلك بعد أن قطعها ، أفأقتله ؟ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا تقتله ، فإن قتلته فإنّه بمنزلتك قبل أن تقتله ، وإنّك بمنزلته قبل أن يقول كلمته الّتي قال » .
وبمثل ذلك قال الرّسول صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيدٍ فيما رواه مسلمٌ : « أفلا شققت عن قلبه حتّى تعلم أقالها أم لا » . ولذا فإنّ الفقهاء قالوا : لو أنّ المسلمين أخذوا أسراء من أهل الحرب فأرادوا قتلهم ، فقال رجلٌ منهم : أنا مسلمٌ ، فلا ينبغي لهم أن يقتلوه حتّى يسألوه عن الإسلام ، فإن وصفه لهم فهو مسلمٌ ، وإن أبى أن يصفه فإنّه ينبغي للمسلمين أن يصفوه له ، ثمّ يقولوا له : هل أنت على هذا ؟ فإن قال : نعم ، فهو مسلمٌ ، ولو قال : لست بمسلمٍ ولكن ادعوني إلى الإسلام حتّى أسلم لم يحلّ قتله .
أسرى البغاة :
36 - البغي في اللّغة : مصدر بغى ، وهو بمعنى علا وظلم وعدل عن الحقّ واستطال . ومنه قوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا الّتي تبغي حتّى تفيء إلى أمر اللّه } .
والبغاة في الاصطلاح : هم الخارجون على الإمام الحقّ بغير حقٍّ ولهم منعةٌ . ويجب قتالهم لردعهم لا لقتلهم وسنتصدّى للكلام عن حكم أسراهم .
37 - أسرى البغاة تعاملهم الشّريعة الإسلاميّة معاملةً خاصّةً ، لأنّ قتالهم لمجرّد دفعهم عن المحاربة ، وردّهم إلى الحقّ ، لا لكفرهم . روي عن ابن مسعودٍ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « يا ابن أمّ عبدٍ ما حكم من بغى على أمّتي ؟ قال : فقلت : اللّه ورسوله أعلم . قال : لا يتبع مدبرهم ، ولا يذفّف على جريحهم ، ولا يقتل أسيرهم ، ولا يقسم فيؤهم » .
38 - وقد اتّفق الفقهاء على عدم جواز سبي نساء البغاة وذراريّهم . بل ذهب بعض الفقهاء إلى قصر الأسر على الرّجال المقاتلين وتخلية سبيل الشّيوخ والصّبية ، وقد روي أنّ عليّاً رضي الله عنه لمّا وقع القتال بينه وبين معاوية ، قرّر عليٌّ عدم السّبي وعدم أخذ الغنيمة ، فاعترض عليه بعض من كانوا في صفوفه ، فقال ابن عبّاسٍ لهم : أفتسبون أمّكم عائشة ؟ أم تستحلّون منها ما تستحلّون من غيرها . فإن قلتم ليست أمّكم كفرتم ، لقوله تعالى { النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمّهاتهم } وإن قلتم : إنّها أمّكم واستحللتم سبيها فقد كفرتم ، لقوله تعالى { وما كان لكم أن تؤذوا رسول اللّه ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً } . فلا يستباح منهم إلاّ بقدر ما يدفع القتال ويبقى حكم المال والذّرّيّة على أصل العصمة . ولفقهاء المذاهب تفصيلٌ في حكم أسرى البغاة .
39 - ويتّفق الفقهاء على عدم استرقاق أسرى البغاة ، لأنّ الإسلام يمنع الاسترقاق ابتداءً ، وقد روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنّه قال يوم الجمل :" لا يقتل أسيرهم ، ولا يكشف سترٌ ، ولا يؤخذ مالٌ " أي لا يسترقّون ولذا فإنّه لا تسبى نساؤهم ولا ذراريّهم . والأصل أنّ أسيرهم لا يقتل لأنّه مسلمٌ ، وقد نصّ على تحريم ذلك كلٌّ من الشّافعيّة والحنابلة ، حتّى قال الحنابلة : وإن قتل أهل البغي أسارى أهل العدل لم يجز لأهل العدل قتل أساراهم ، لأنّهم لا يقتلون بجناية غيرهم ، ويتّجه المالكيّة وجهة الشّافعيّة والحنابلة في عدم قتل الأسرى .
غير أنّه جاء في بعض كتب المالكيّة : أنّه إذا أسر بعد انقضاء الحرب يستتاب ، فإن لم يتب قتل . وقيل : يؤدّب ولا يقتل وإن كانت الحرب قائمةً فللإمام قتله . ولو كانوا جماعةً ، إذا خاف أن يكون منهم ضررٌ . أمّا الحنفيّة فيفرّقون بين ما إذا كان لأسرى البغاة فئةٌ ، وبين ما إذا لم تكن لهم فئةٌ ، فقالوا : لو كان للبغاة فئةٌ أجهز على جريحهم ، واتّبع هاربهم لقتله أو أسره ، فإن لم يكن له فئةٌ فلا ، والإمام بالخيار في أسرهم إن كان له فئةٌ : إن شاء قتله لئلاّ ينفلت ويلحق بهم ، وإن شاء حبسه حتّى يتوب أهل البغي ، قال الشرنبلالي : وهو الحسن ، لأنّ شرّه يندفع بذلك ، وقالوا : إنّ ما قاله عليٌّ رضي الله عنه من عدم قتل الأسير مؤوّلٌ بما إذا لم يكن لهم فئةٌ ، وقالوا : إنّ عليّاً كان إذا أخذ أسيراً استحلفه ألاّ يعين عليه وخلاّه ، أمّا إذا لم تكن لهم فئةٌ فلا يقتل أسيرهم . والمرأة من أهل البغي إذا أسرت وكانت تقاتل حبست ولا تقتل ، إلاّ في حال مقاتلتها . وكذا العبيد والصّبيان .
40 - ويتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز فداؤهم نظير مالٍ ، وإنّما إذا تركهم مع الأمن كان مجّاناً ، لأنّ الإسلام يعصم النّفس والمال ، كما أنّه لا يجوز للإمام موادعتهم على مالٍ ، وإن وادعهم على مالٍ بطلت الموادعة ونظر في المال ، فإن كان من فيئهم أو من صدقاتهم لم يردّه عليهم ، وصرف الصّدقات في أهلها ، والفيء في مستحقّيه ، وإن كان من خالص أموالهم وجب ردّه عليهم .
41 - ويجوز مفاداتهم بأسارى أهل العدل ، وإن أبى البغاة مفاداة الأسرى الّذين معهم وحبسوهم ، قال ابن قدامة : احتمل أن يجوز لأهل العدل حبس من معهم ، ليتوصّلوا إلى تخليص أساراهم ، ويحتمل ألاّ يجوز حبسهم ويطلقون ، لأنّ المترتّب في أسارى أهل العدل لغيرهم .
42 - وعلى ما سبق من عدم جواز قتلهم ، فإنّهم يحبسون ولا يخلّى سبيلهم ، إن كان فيهم منعةٌ ، ولو كان الأسير صبيّاً أو امرأةً أو عبداً إن كانوا مقاتلين ، وإلاّ أطلقوا بمجرّد انقضاء الحرب ، وينبغي عرض التّوبة عليهم ومبايعة الإمام . ولو كانوا مراهقين وعبيداً ونساءً غير مقاتلين أو أطفالاً أطلقوا بعد الحرب دون أن نعرض عليهم مبايعة الإمام .
وفي وجهٍ عند الحنابلة يحبسون ، لأنّ فيه كسراً لقلوب البغاة . وقالوا : إن بطلت شوكتهم ويخاف اجتماعهم في الحال ، فالصّواب عدم إرسال أسيرهم والحالة هذه .
أسرى الحربيّين إذا أعانوا البغاة :
43 - قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : إذا استعان البغاة على قتالنا بقومٍ من أهل الحرب وأمّنوهم ، أو لم يؤمنوهم ، فظهر أهل العدل عليهم ، فوقعوا في الأسر عند أهل العدل ، أخذوا حكم أسرى أهل الحرب ، واستثنى الشّافعيّة ما إذا قال الأسير : ظننت جواز إعانتهم ، أو أنّهم على حقٍّ ولي إعانة المحقّ ، وأمكن تصديقه فإنّه يبلّغ مأمنه ، ثمّ يقاتل كالبغاة .
الأسرى من أهل الذّمّة إذا أعانوا البغاة :
44 - إذا استعان البغاة على قتالنا بأهل الذّمّة ، فوقع أحدٌ منهم في الأسر ، أخذ حكم الباغي عند الحنفيّة ، فلا يقتل إذا لم تكن له فئةٌ ، ويخيّر الإمام إذا كانت له فئةٌ ، ولا يجوز استرقاقه . وقال المالكيّة : إذا استعان الباغي المتأوّل بذمّيٍّ فلا يغرم الذّمّيّ ما أتلفه من نفسٍ أو مالٍ ، ولا يعدّ خروجه معه نقضاً للعهد .
أمّا إن كان الباغي معانداً - أي غير متأوّلٍ - فإنّ الذّمّيّ الّذي معه يكون ناقضاً للعهد ، ويكون هو وماله فيئاً . وهذا إن كان مختاراً ، أمّا إن كان مكرهاً فلا ينتقض عهده ، وإن قتل نفساً يؤخذ بها ، حتّى لو كان مكرهاً . وقول الشّافعيّة في ذلك كقول المالكيّة . قالوا : لو أعان الذّمّيّون البغاة في القتال ، وهم عالمون بالتّحريم مختارون انتقض عهدهم ، كما لو انفردوا بالقتال . أمّا إن قال الذّمّيّون : كنّا مكرهين ، أو ظننّا جواز القتال إعانةً ، أو ظننّا أنّهم محقّون فيما فعلوه ، وأنّ لنا إعانة المحقّ وأمكن صدقهم ، فلا ينتقض عهدهم ، لموافقتهم طائفةً مسلمةً مع عذرهم ، ويقاتلون كبغاةٍ . ومثلهم في ذلك المستأمنون ، على ما صرّح به الشّافعيّة . وللحنابلة قولان في انتقاض عهدهم ،
أحدهما : ينتقض عهدهم ، لأنّهم قاتلوا أهل الحقّ فانتقض عهدهم كما لو انفردوا بقتلهم . ويصيرون كأهل الحرب في قتل مقبلهم واتّباع مدبرهم وجريحهم .
والثّاني : لا ينتقض ، لأنّ أهل الذّمّة لا يعرفون المحقّ من المبطل ، فيكون ذلك شبهةً لهم . ويكون حكمهم حكم أهل البغي في قتل مقبلهم ، والكفّ عن أسرهم ومدبرهم وجريحهم .
وإن أكرههم البغاة على معونتهم ، أو ادّعوا ذلك قبل منهم ، لأنّهم تحت أيديهم وقدرتهم . وكذلك إن قالوا : ظننّا أنّ من استعان بنا من المسلمين لزمتنا معونته ، لأنّ ما ادّعوه محتملٌ ، فلا ينتقض عهدهم مع الشّبهة . وإن فعل ذلك المستأمنون نقض عهدهم . والفرق بينهما أنّ أهل الذّمّة أقوى حكماً ، لأنّ عهدهم مؤبّدٌ ، ولا يجوز نقضه لخوف الخيانة منهم ، ويلزم الإمام الدّفع عنهم ، والمستأمنون بخلاف ذلك . وإذا أسر من يراد عقد الإمامة له ، وكان لا يقدر على الخلاص من الأسر ، منع ذلك من عقد الإمامة له .
أسرى الحرابة :
45 - المحاربون طائفةٌ من أهل الفساد ، اجتمعت على شهر السّلاح وقطع الطّريق ، ويجوز حبس من أسر منهم لاستبراء حاله ، ومن ظفر بالمحارب فلا يلي قتله ، ويرفعه إلى الإمام . قال المالكيّة : إلاّ أن يخاف ألاّ يقيم الإمام عليه الحكم .
ولا يجوز للإمام تأمينه ، وإن استحقّوا الهزيمة فجريحهم أسيرٌ ، والحكم فيهم للإمام ، مسلمين كانوا أو ذمّيّين عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وأحد قولين عند الحنابلة . وكذلك المستأمن عند أبي يوسف والأوزاعيّ . وموضع بيان ذلك مصطلح ( حرابةٌ ) .
أسرى المرتدّين وما يتعلّق بهم من أحكامٍ :
46 - الرّدّة في اللّغة : الرّجوع ، فيقال : ارتدّ عن دينه إذا كفر بعد إسلامٍ .
وتختصّ الرّدّة - في الاصطلاح الفقهيّ - بالكفر بعد الإسلام . وكلّ مسلمٍ ارتدّ فإنّه يقتل إن لم يتب ، إلاّ المرأة عند الحنفيّة فإنّها تحبس ، ولا يترك المرتدّ على ردّته بإعطاء الجزية ولا بأمانٍ ، ولا يجوز استرقاقه حتّى لو أسر بعد أن لحق بدار الحرب ، بخلاف المرأة فإنّها تسترقّ بعد اللّحاق بدار الحرب ، على تفصيلٍ بين المذاهب موضعه مصطلح ( ردّةٌ ) .
47 - وإذا ارتدّ جمعٌ ، وتجمّعوا وانحازوا في دارٍ ينفردون بها عن المسلمين ، حتّى صاروا فيها ذوي منعةٍ وجب قتالهم على الرّدّة بعد مناظرتهم على الإسلام ، ويستتابون وجوباً عند الحنابلة والشّافعيّة ، واستحباباً عند الحنفيّة ، ويقاتلون قتال أهل الحرب ، ومن أسر منهم قتل صبراً إن لم يتب ، ويصرّح الشّافعيّة بأنّنا نبدؤهم بالقتال إذا امتنعوا بنحو حصنٍ .
ولا يجوز أن يسترقّ رجالهم ، ولكن تغنم أموالهم ، وتسبى ذراريّهم الّذين حدثوا بعد الرّدّة ، لأنّها دارٌ تجري فيها أحكام أهل الحرب فكانت دار حربٍ ، ولا يجوز أن يهادنوا على الموادعة ، ولا يصالحوا على مالٍ يقرّون به على ردّتهم ، بخلاف أهل الحرب .
وقد سبى أبو بكرٍ رضي الله عنه ذراريّ من ارتدّ من العرب من بني حنيفة وغيرهم ، وسبى عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه بني ناجية . وإن أسلموا حقنت دماؤهم ، ومضى فيهم حكم السّباء على الصّبيان والنّساء ، فأمّا الرّجال فأحرارٌ لا يسترقّون ، وليس على الرّجال من أهل الرّدّة سبيٌ ولا جزيةٌ ، إنّما هو القتل أو الإسلام . وإن ترك الإمام السّباء وأطلقهم وعفا عنهم وترك لهم أرضهم وأموالهم فهو في سعةٍ .
48 - ويصرّح المالكيّة بعدم استتابة المرتدّين إن حاربوا بأرض الكفر أو بأرض الإسلام ، يقول ابن رشدٍ : إذا حارب المرتدّ ثمّ ظهر عليه فإنّه يقتل بالحرابة ، ولا يستتاب ، كانت حرابته بدار الإسلام أو بعد أن لحق بدار الحرب إلاّ أن يسلم ، فإن كانت حرابته في دار الحرب فهو عند مالكٍ كالحربيّ يسلم ، لا تباعة عليه في شيءٍ ممّا فعل في حال ارتداده . وأمّا إن كان حرابته في دار الإسلام فإنّه يسقط إسلامه عنه حكم الحرابة خاصّةً . وعن ابن القاسم قال : إذا ارتدّ جماعةٌ في حصنٍ فإنّهم يقاتلون ، وأموالهم فيءٌ للمسلمين ، ولا تسبى ذراريّهم . وقال أصبغ : تسبى ذراريّهم وتقسم أموالهم . وهذا الّذي خالفت فيه سيرة عمر سيرة أبي بكرٍ رضي الله عنهما في الّذين ارتدّوا من العرب ، فقد سبى أبو بكرٍ النّساء والصّغار ، وأجرى المقاسمة في أموالهم ، فلمّا ولي عمر نقض ذلك .
49 - ويتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الأسير المرتدّ يقتل إن لم يتب ويعد إلى الإسلام ، ولا فرق بين رجلٍ وامرأةٍ عند الأئمّة الثّلاثة . وروي ذلك عن أبي بكرٍ وعليٍّ ، وبه قال الحسن والزّهريّ والنّخعيّ ومكحولٌ ، لعموم حديث : « من بدّل دينه فاقتلوه » .
50 - ويرى الحنفيّة أنّ المرأة لا تقتل ، وإنّما تحبس حتّى تتوب .
أمّا لو كانت المرأة تقاتل ، أو كانت ذات رأيٍ فإنّها تقتل اتّفاقاً . لكنّها عند الحنفيّة تقتل لا لردّتها ، بل لأنّها تسعى بالفساد .
ويستدلّ الحنفيّة على عدم قتل المرأة المرتدّة إذا أخذت سبياً بما روي من قول الرّسول صلى الله عليه وسلم : « الحق بخالد بن الوليد ، فلا يقتلنّ ذرّيّةً ولا عسيفاً » ، ولا فرق بين الكفر الأصليّ والكفر الطّارئ ، فإنّ الحربيّة إذا سبيت لا تقتل .
51 - ويتّفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنّه لا يجوز أخذ الفداء من الأسرى المرتدّين ، ولا المنّ عليهم بأمانٍ مؤقّتٍ أو أمانٍ مؤبّدٍ ، ولا يترك على ردّته بإعطاء الجزية . كما يتّفقون على أنّ المرتدّ من الرّجال لا يجري فيه إلاّ : العودة إلى الإسلام أو القتل ، لأنّ قتل المرتدّ على ردّته حدٌّ ، ولا يترك إقامة الحدّ لمنفعة الأفراد .
52 - والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ الرّقّ لا يجري على المرتدّة أيضاً ، وإن لحقت بدار الحرب ، لأنّه لا يجوز إمرار أحدٍ من المرتدّين على الكفر بالاسترقاق ، بينما يرى الحنفيّة أنّ المرتدّة تسترقّ بعد اللّحاق بدار الحرب ، ولا تسترقّ في دار الإسلام ، كما في ظاهر الرّواية ، وعن أبي حنيفة في النّوادر : أنّها تسترقّ في دار الإسلام أيضاً .
وقالوا في تعليل ذلك : إنّه لم يشرع قتلها ، ولا يجوز إبقاء الكافر على الكفر إلاّ مع الجزية أو مع الرّقّ ، ولا جزية على النّساء ، فكان إبقاؤها على الرّقّ أنفع .
وقد استرق الصّحابة نساء من ارتدّ .
53 - وبالنّسبة لأصحاب الأعذار من الأسرى المرتدّين ، فإنّهم يقتلون أيضاً . ونقل السّرخسيّ قولاً بأنّ حلول الآفة بمنزلة الأنوثة ، لأنّه تخرج به بنيته ( هيئته وجسمه ) من أن تكون صالحةً للقتال ، فعلى هذا لا يقتلون بعد الرّدّة ، كما لا يقتلون في الكفر الأصليّ . وعلى قول من يرى وجوب قتل المرتدّة - إذا كانت الأسيرة المرتدّة ذات زوجٍ ، وهي من ذوات الحيض - فإنّها تستبرأ بحيضةٍ قبل قتلها خشية أن تكون حاملاً ، فإن ظهر بها حملٌ أخّرت حتّى تضع ، فإن كانت ممّن لا تحيض استبرئت بثلاثة أشهرٍ إن كانت ممّن يتوقّع حملها ، وإلاّ قتلت بعد الاستتابة .
أسرى المسلمين في يد الأعداء :
استئسار المسلم وما ينبغي لاستنقاذه عند تترّس الكفّار به :
أ - الاستئسار :
54 - الاستئسار هو تسليم الجنديّ نفسه للأسر ، فقد يجد الجنديّ نفسه مضطرّاً لذلك .
وقد وقع الاستئسار من بعض المسلمين على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعلم به الرّسول صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليهم . روى البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه بسنده قال : « بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عشرةً رهطاً عيناً ، وأمّر عليهم عاصم بن ثابتٍ الأنصاريّ ، فانطلقوا حتّى إذا كانوا بالهدأة - موضعٌ بين عسفان ومكّة - ذكروا لبني لحيان ، فنفروا لهم قريباً من مائتي رجلٍ كلّهم رامٍ ، فاقتصّوا أثرهم ، فلمّا رآهم عاصمٌ وأصحابه لجئوا إلى فدفدٍ - موضعٍ غليظٍ مرتفعٍ - وأحاط بهم القوم ، فقالوا لهم : انزلوا وأعطوا بأيديكم ، ولكم العهد والميثاق ألاّ نقتل منكم أحداً ، قال عاصمٌ : أمّا أنا فواللّه لا أنزل اليوم في ذمّة كافرٍ ، اللّهمّ خبّر عنّا نبيّك ، فرموهم بالنّبل فقتلوا عاصماً في سبعةٍ ، فنزل إليهم ثلاثة رهطٍ بالعهد والميثاق ، منهم خبيبٌ الأنصاريّ ، وزيد بن الدّثنة ، ورجلٌ آخر . فلمّا استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيّهم فأوثقوهم ، فقال الرّجل الثّالث : هذا أوّل الغدر ، واللّه لا أصحبكم ، إنّ لي في هؤلاء لأسوةً - يريد القتلى - فجرّوه وعالجوه على أن يصحبهم - أي مارسوه وخادعوه ليتبعهم - فأبى فقتلوه ، وانطلقوا بخبيبٍ وابن الدّثنة حتّى باعوهما بمكّة ... » فعلم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بما حدث ، وعدم إنكاره يدلّ على أنّ الاستئسار في هذه الحالة مرخّصٌ فيه ، وقال الحسن : لا بأس أن يستأسر الرّجل إذا خاف أن يغلب . وإلى هذا اتّجه كلٌّ من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
55 - وقد نصّ الشّافعيّة على شروطٍ يلزم توافرها لجواز الاستئسار هي : أن يخاف أن يترتّب على عدم الاستسلام قتله في الحال ، وألاّ يكون المستسلم إماماً ، أو عنده من الشّجاعة ما يمكنه من الصّمود ، وأن تأمن المرأة على نفسها الفاحشة . والأولى - كما نصّ عليه الحنابلة - إذا ما خشي المسلم الوقوع في الأسر أن يقاتل حتّى يقتل ، ولا يسلم نفسه للأسر ، لأنّه يفوز بثواب الدّرجة الرّفيعة ، ويسلم من تحكّم الكفّار عليه بالتّعذيب والاستخدام والفتنة ، وإن استأسر جاز ، لما روي عن أبي هريرة في الحديث المتقدّم .
ب- استنقاذ أسرى المسلمين ومفاداتهم :
56 - إذا وقع المسلم أسيراً فهو حرٌّ على حاله ، وكان في ذمّة المسلمين ، يلزمهم العمل على خلاصه ، ولو بتيسير سبل الفرار له ، والتّفاوض من أجل إطلاق سراحه ، فإذا لم يطلقوا سراحه تربّصوا لذلك . وقد كان الرّسول صلوات الله وسلامه عليه يتحيّن الفرصة المناسبة لتخليص الأسرى . روت كتب السّيرة أنّ « قريشاً أسرت نفراً من المسلمين ، فلمّا لم يجد الرّسول صلى الله عليه وسلم حيلةً لإنقاذهم كان يدعو اللّه لإنقاذهم دبر كلّ صلاةٍ ، ولمّا أفلت أحدهم من الأسر ، وقدم المدينة ، سأله النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن رفيقيه فقال : أنا لك بهما يا رسول اللّه ، فخرج إلى مكّة فدخلها مستخفياً ، فلقي امرأةً علم أنّها تحمل الطّعام لهما في الأسر فتبعها ، حتّى استطاع تخليصهما ، وقدم بهما على الرّسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة » .« وقد استنقذ رسول اللّه كلاًّ من سعد بن أبي وقّاصٍ وعتبة بن غزوان رضي الله عنهما ، وقد أسرهما المشركون ، بأن فاوض عليهما ، وحبس اثنين منهم حتّى يطلقوا سراحهما »،« وكذلك فعل في استنقاذ عثمان وعشرةٍ من المهاجرين رضي الله عنهم بعد صلح الحديبية ». وقد روى سعيدٌ بإسناده أنّ رسول اللّه قال : « إنّ على المسلمين في فيئهم أن يفادوا أسراهم » . ويروى أنّ عمر بن الخطّاب قال : لأن أستنقذ رجلاً من المسلمين من أيدي الكفّار أحبّ إليّ من جزيرة العرب .
57 - ويجب استنقاذ الأسرى بالمقاتلة ما دام ذلك ميسوراً ، فإذا دخل المشركون دار الإسلام فأخذوا الأموال والذّراريّ والنّساء ، ثمّ علم بهم جماعة المسلمين ، ولهم عليهم قوّةٌ ، فالواجب عليهم أن يتّبعوهم ما داموا في دار الإسلام ، فإن دخلوا بهم دار الحرب ، فالواجب على المسلمين أن يتّبعوهم إذا غلب على رأيهم أنّهم يقدرون على استنقاذهم ، فإن شقّ عليهم القتال لتخليصهم فتركوه كانوا في سعةٍ من ذلك ، فإنّا نعلم أنّ في يد الكفّار بعض أسارى المسلمين ، ولا يجب على كلّ واحدٍ منّا الخروج لقتالهم لاستنقاذ الأسرى .
58 - والاستنقاذ إذا لم يتيسّر عن طريق القتال فإنّه يصحّ أن يكون عن طريق الفداء بتبادل الأسرى ، على ما سبق بيان القول فيه ، كما يصحّ أن يكون بالمال أيضاً ، لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم : « أطعموا الجائع ، وعودوا المريض ، وفكّوا العاني » لأنّ ما يخاف من تعذيب الأسير أعظم في الضّرورة من بذل المال ، فجاز دفع أعظم الضّررين بأخفّهما . والحنفيّة على وجوب ذلك في بيت المال ، فإن لم يكن فعلى جميع المسلمين أن يفتدوه . ونقل أبو يوسف عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قال : " كلّ أسيرٍ كان في أيدي المشركين من المسلمين ففكاكه في بيت مال المسلمين " . وهو ما ذهب إليه المالكيّة ، كما نقله الموّاق عن ابن بشيرٍ من أنّه يجب في بيت المال ، فإن تعذّر فعلى عموم المسلمين ، والأسير كأحدهم ، فإن ضيّع الإمام والمسلمون ذلك وجب على الأسير من ماله ، وهو ما رواه ابن رشدٍ أيضاً .
وفي المهذّب أنّه وجهٌ عند الشّافعيّة . والوجه الثّاني عند الشّافعيّة : أنّ بذل المال لفكّ أسرى المسلمين - إن خيف تعذيبهم - جائزٌ عند الضّرورة ، ويكون في مالهم ، ويندب عند العجز افتداء الغير له ، فمن قال لكافرٍ : أطلق هذا الأسير ، وعليّ كذا ، فأطلقه لزمه ، ولا يرجع على الأسير ما لم يأذن له في فدائه .
61 - وأسر المسلم الحرّ لا يزيل حرّيّته ، فمن اشتراه من العدوّ لا يملكه ، وإن اشتراه مسلمٌ بغير أمره فهو متطوّعٌ فيما أدّى من فدائه ، وإن اشتراه بأمره فإنّه يرجع عليه بالثّمن الّذي اشتراه به ، والقياس لا يرجع عليه إلاّ أن يشترط ذلك نصّاً .
ويرى المالكيّة - كما يروي الموّاق - أنّ للمشتريّ أن يرجع عليه ، شاء أو أبى ، لأنّه فداءٌ ، فإن لم يكن له شيءٌ اتّبع به في ذمّته . ولو كان له مالٌ وعليه دينٌ ، فالّذي فداه واشتراه من العدوّ أحقّ به من غرمائه . أمّا إن كان يقصد الصّدقة ، أو كان الفداء من بيت المال فلا يرجع عليه ، وكذا إن كان الأسير يرجو الخلاص بالهروب أو التّرك .
62 - ولو خلّى الكفّار الأسير ، واستحلفوه على أن يبعث إليهم بفدائه ، أو يعود إليهم ، فإن كان هذا نتيجة إكراهٍ لم يلزمه الوفاء ، وإن لم يكره عليه وقدر على الفداء لزمه ، وبهذا قال عطاءٌ والحسن والزّهريّ والنّخعيّ والثّوريّ والأوزاعيّ ، لوجوب الوفاء ، ولأنّ فيه مصلحة الأسارى ، وفي الغدر مفسدةٌ في حقّهم . وقال الشّافعيّ : لا يلزمه ، لأنّه حرٌّ لا يستحقّون بدله . وأمّا إن عجز عن الفداء ، فإن كانت امرأةً فإنّه لا يحلّ لها الرّجوع إليهم ، لقوله تعالى { فلا ترجعوهنّ إلى الكفّار } ، ولأنّ في رجوعها تسليطاً لهم على وطئها حراماً .
وإن كان رجلاً ، ففي روايةٍ عند الحنابلة لا يرجع ، وهو قول الحسن والنّخعيّ والثّوريّ والشّافعيّ . وفي الرّواية الثّانية عندهم يلزمه ، وهو قول عثمان والزّهريّ والأوزاعيّ ،
« لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين صالح قريشاً على ردّ من جاء منهم مسلماً أمضى اللّه ذلك في الرّجال ، ونسخه في النّساء ».
ج - التّترّس بأسارى المسلمين :
63 - التّرس بضمّ التّاء : ما يتوقّى به في الحرب ، يقال : تترّس بالتّرس إذا توقّى به ، ومن ذلك تترّس المشركين بالأسرى من المسلمين والذّمّيّين في القتال ، لأنّهم يجعلونهم كالتّراس ، فيتّقون بهم هجوم جيش المسلمين عليهم ، لأنّ رمي المشركين - مع تترّسهم بالمسلمين - يؤدّي إلى قتل المسلمين الّذين نحرص على حياتهم وإنقاذهم من الأسر .
وقد عني الفقهاء بهذه المسألة ، وتناولوها من ناحية جواز الرّمي مع التّترّس بالمسلمين أو الذّمّيّين ، كما تناولوها من ناحية لزوم الكفّارة والدّية ، وإليك اتّجاهات المذاهب في هذا :
أ - رمي التّرس :
64 - من ناحية رمي التّرس : يتّفق الفقهاء على أنّه إذا كان في ترك الرّمي خطرٌ محقّقٌ على جماعة المسلمين ، فإنّه يجوز الرّمي برغم التّترّس ، لأنّ في الرّمي دفع الضّرر العامّ بالذّبّ عن بيضة الإسلام ، وقتل الأسير ضررٌ خاصٌّ . ويقصد عند الرّمي الكفّار لا التّرس ، لأنّه إن تعذّر التّمييز فعلاً فقد أمكن قصداً ، ونقل ابن عابدين عن السّرخسيّ أنّ القول للرّامي بيمينه في أنّه قصد الكفّار ، وليس قول وليّ المقتول الّذي يدّعي العمد .
أمّا في حالة خوف وقوع الضّرر على أكثر المسلمين فكذلك يجوز رميهم عند جمهور الفقهاء ، لأنّها حالة ضرورةٍ أيضاً ، وتسقط حرمة التّرس .
ويقول الصّاويّ المالكيّ : ولو كان المسلمون المتترّس بهم أكثر من المجاهدين . وفي وجهٍ عند الشّافعيّة لا يجوز ، وعلّلوه بأنّ مجرّد الخوف لا يبيح الدّم المعصوم ، كما أنّه لا يجوز عند المالكيّة إذا كان الخوف على بعض الغازين فقط .
65 - وأمّا في حالة الحصار الّذي لا خطر فيه على جماعة المسلمين ، لكن لا يقدر على الحربيّين إلاّ برمي التّرس ، فجمهور الفقهاء من المالكيّة ، والشّافعيّة ، وجمهور الحنابلة ، والحسن بن زيادٍ من الحنفيّة على المنع ، لأنّ الإقدام على قتل المسلم حرامٌ ، وترك قتل الكافر جائزٌ . ألا يرى أنّ للإمام ألاّ يقتل الأسارى لمنفعة المسلمين ، فكان مراعاة جانب المسلم أولى من هذا الوجه ، ولأنّ مفسدة قتل المسلم فوق مصلحة قتل الكافر .
وذهب جمهور الحنفيّة ، والقاضي من الحنابلة إلى جواز رميهم ، وعلّل الحنفيّة ذلك بأنّ في الرّمي دفع الضّرر العامّ ، وأنّه قلّما يخلو حصنٌ عن مسلمٍ ، واعتبر القاضي من الحنابلة أنّ ذلك من قبيل الضّرورة .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ب - الكفّارة والدّية :
66 - ومن ناحية الكفّارة والدّية عند إصابة أحد أسرى المسلمين نتيجة رمي التّرس ، فإنّ جمهور الحنفيّة على أنّ ما أصابوه منهم لا يجب فيه ديةٌ ولا كفّارةٌ ، لأنّ الجهاد فرضٌ ، والغرامات لا تقرن بالفروض ، لأنّ الفرض مأمورٌ به لا محالة ، وسبب الغرامات عدوانٌ محضٌ منهيٌّ عنه ، وبينهما منافاةٌ ، فوجوب الضّمان يمنع من إقامة الفرض ، لأنّهم يمتنعون منه خوفاً من لزوم الضّمان ، وهذا لا يتعارض مع ما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من أنّه « ليس في الإسلام دمٌ مفرجٌ » - أي مهدرٌ - لأنّ النّهي عامٌّ خصّ منه البغاة وقطّاع الطّريق ، فتخصّ صورة النّزاع ، كما أنّ النّهي في الحديث خاصٌّ بدار الإسلام ، وما نحن فيه ليس بدار الإسلام .
67 - وعند الحسن بن زيادٍ من الحنفيّة وجمهور الحنابلة والشّافعيّة تلزم الكفّارة قولاً واحداً ، وفي وجوب الدّية روايتان :
إحداهما : تجب ، لأنّه قتل مؤمناً خطأً ، فيدخل في عموم قوله تعالى : { ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ وديةٌ مسلّمةٌ إلى أهله إلاّ أن يصّدّقوا } .
الثّانية : لا دية ، لأنّه قتل في دار الحرب برميٍ مباحٍ ، فيدخل في عموم قوله تعالى { وإن كان من قومٍ عدوٍّ لكم وهو مؤمنٌ فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ } ولم يذكر ديةً . وعدم وجوب الدّية هو الصّحيح عند الحنابلة .
68 - ويقول الجمل الشّافعيّ : وجبت الكفّارة إن علم القاتل ، لأنّه قتل معصوماً ، وكذا الدّية ، لا القصاص ، لأنّه مع تجويز الرّمي لا يجتمعان . وفي نهاية المحتاج تقييد ذلك بأن يعلم به ، وأن يكون في الإمكان توقّيه . وينقل البابرتيّ من الحنفيّة عن أبي إسحاق أنّه قال : إن قصده بعينه لزمه الدّية ، علمه مسلماً أو لم يعلمه ، للحديث المذكور . وإن لم يقصده بعينه بل رمى إلى الصّفّ فأصيب فلا دية عليه . والتّعليل الأوّل أنّ الإقدام على قتل المسلم حرامٌ ، وترك قتل الكافر جائزٌ ، لأنّ للإمام أن يقتل الأسارى لمنفعة المسلمين ، فكان تركه لعدم قتل المسلم أولى ، ولأنّ مفسدة قتل المسلم فوق مصلحة قتل الكافر .
69 - ولم نقف للمالكيّة على شيءٍ في هذا إلاّ ما قاله الدّسوقيّ عند تعليقه على قول خليلٍ : وإن تترّسوا بمسلمٍ ، فقال : وإن تترّسوا بأموال المسلمين فيقاتلون ولا يتركون . وينبغي ضمان قيمته على من رماهم ، قياساً على ما يرمى من السّفينة للنّجاة من الغرق ، بجامع أنّ كلاًّ إتلاف مالٍ للنّجاة .
مدى تطبيق بعض الأحكام الشّرعيّة على أسرى المسلمين
حقّ الأسير في الغنيمة :
70 - يستحقّ من أسر قبل إحراز الغنيمة فيما غنم قبل الأسر ، إذا علم حياته أو انفلت من الأسر . لأنّ حقّه ثابتٌ فيها ، وبالأسر لم يخرج من أن يكون أهلاً ، لتقرّر حقّه بالإحراز . ولا شيء له فيما غنمه المسلمون بعد أسره ، لأنّ المأسور في يد أهل الحرب لا يكون مع الجيش حقيقةً ولا حكماً ، فهو لم يشاركهم في إصابة هذا ، ولا في إحرازه بالدّار . وإذا لم يعرف مصير هذا الأسير في يد الحربيّين قسمت الغنائم ، ولم يوقف له منها شيءٌ . وإن قسمت الغنائم ثمّ جاء بعد ذلك حيّاً لم يكن له شيءٌ ، لأنّ حقّ الّذين قسم بينهم قد تأكّد بالقسمة وثبت ملكهم فيها ، ومن ضرورته إبطال الحقّ الضّعيف .
والمذهب عند الحنابلة أنّه إذا هرب فأدرك الحرب قبل تقضّيها أسهم له ، وفي قولٍ لا شيء له . وإن جاء بعد إحراز الغنيمة فلا شيء له .
71 - ومن أسر بعد إخراج الغنائم من دار الحرب أو بيعها ، وكان قد تخلّف في دار الحرب لحاجة بعض المسلمين ، فإنّه يوقف نصيبه حتّى يجيء فيأخذه ، أو يظهر موته فيكون لورثته ، لأنّ حقّه قد تأكّد في المال المصاب بالإحراز . وفي بداية المجتهد : أنّ الغنيمة إنّما تجب عند الجمهور للمجاهدين بأحد شرطين : إمّا أن يكون ممّن حضر القتال ، وإمّا أن يكون ردءاً لمن حضر القتال . وتفصيل الكلام في هذا موضعه مصطلح ( غنيمةٌ ) .
حقّ الأسير في الإرث وتصرّفاته الماليّة :
72 - أسير المسلمين الّذي مع العدوّ يرث إذا علمت حياته في قول عامّة الفقهاء ، لأنّ الكفّار لا يملكن الأحرار بالقهر ، فهو باقٍ على حرّيّته ، فيرث كغيره . وكذلك لا تسقط الزّكاة عنه ، لأنّ تصرّفه في ماله نافذٌ ، ولا أثر لاختلاف الدّار بالنّسبة له . فقد كان شريحٌ يورّث الأسير في أيدي العدوّ . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من ترك مالاً فلورثته ... » فهذا الحديث بعمومه يؤيّد قول الجمهور أنّ الأسير إذا وجب له ميراثٌ يوقف له . وعن سعيد بن المسيّب أنّه لم يورّث الأسير في أيدي العدوّ ، وفي روايةٍ أخرى عنه أنّه يرث .
73 - والمسلم الّذي أسره العدوّ ، ولا يدرى أحيٌّ هو أم ميّتٌ ، مع أنّ مكانه معلومٌ وهو دار الحرب ، له حكمٌ في الحال ، فيعتبر حيّاً في حقّ نفسه ، حتّى لا يورث عنه ماله ، ولا تزوّج نساؤه ، وميّتاً في حقّ غيره حتّى لا يرث من أحدٍ . وله حكمٌ في المآل ، وهو الحكم بموته بمضيّ مدّةٍ معيّنةٍ ، فهو في حكم المفقود . انظر مصطلح ( مفقودٌ ) .
74 - ويسري على الأسير في تصرّفاته الماليّة ما يسري على غيره في حال الصّحّة من أحكامٍ ، فبيعه وهبته وصدقته وغير ذلك جائزٌ ، ما دام صحيحاً غير مكرهٍ . قال عمر بن عبد العزيز :" أجيز وصيّة الأسير وعتاقه وما صنع في ماله ما لم يتغيّر عن دينه ، فإنّما هو ماله يصنع فيه ما يشاء ". أمّا إن كان الأسير في يد مشركين عرفوا بقتل أسراهم ، فإنّه يأخذ حكم المريض مرض الموت ، لأنّ الأغلب منهم أن يقتلوا ، وليس يخلو المرّة في حالٍ أبداً من رجاء الحياة وخوف الموت ، لكن إذا كان الأغلب عنده وعند غيره الخوف عليه ، فعطيّته عطيّة مريضٍ ، وإذا كان الأغلب الأمان كانت عطيّته عطيّة الصّحيح .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( مرض الموت ) .
جناية الأسير وما يجب فيها :
75 - يتّجه جمهور الفقهاء : الشّافعيّة والحنابلة ، وهو قولٌ عند المالكيّة ، إلى أنّه إذا صدر من الأسير حال الأسر ما يوجب حدّاً أو قصاصاً وجب عليه ما يجب في دار الإسلام ، لأنّه لا تختلف الدّاران في تحريم الفعل ، فلم تختلف فيما يجب من العقوبة . فلو قتل بعضهم بعضاً ، أو قذف بعضهم بعضاً ، أو شرب أحدهم خمراً ، فإنّ الحدّ يقام عليهم إذا صاروا إلى بلاد المسلمين ، ولا تمنع الدّار حكم اللّه . ويقول الحطّاب : إذا أقرّ الأسير أنّه زنى ، ودام على إقراره ولم يرجع ، أو شهد عليه ، قال ابن القاسم وأصبغ : عليّة الحدّ .
وإذا قتل الأسير أحداً منهم خطأً ، وقد كان أسلم ، والأسير لا يعلم ، فعليه الدّية والكفّارة . وقيل الكفّارة فقط . وإذا قتله عمداً ، وهو لا يعلمه مسلماً فعليه الدّية والكفّارة . وإن كان قتله عمداً وهو يعلم بإسلامه قتل به . وإذا جنى الأسير على أسيرٍ مثله فكغيرهما .
76 - وقال الحنفيّة - وهو قولٌ عند المالكيّة ، قاله عبد الملك - في جريمة الزّنى - بعدم إقامة الحدّ عليه ، لقوله عليه السلام « لا تقام الحدود في دار الحرب » لانعدام المستوفي ، وإذا لم يجب عليه حين باشر السّبب لا يجب عليه بعد ذلك ، وقالوا : لا حدّ على من زنى وكان أسيراً في معسكر أهل البغي ، لأنّ يد إمام أهل العدل لا تصل إليهم . وقالوا : لو قتل أحد الأسيرين المسلمين الآخر فلا شيء عليه سوى الكفّارة ، وهذا عند أبي حنيفة ، لأنّه بالأسر صار تبعاً لهم ، لصيرورته مقهوراً في أيديهم ، ولهذا يصير مقيماً بإقامتهم ومسافراً بسفرهم . وخصّ الخطأ بالكفّارة ، لأنّه لا كفّارة في العمد ، وبقي عليه عقاب الآخرة .
وقال الصّاحبان بلزوم الدّية أيضاً في الخطأ والعمد ، لأنّ العصمة لا تبطل بعارض الأسر وامتناع القصاص لعدم المنفعة ، وتجب الدّية في ماله الّذي في دار الإسلام .
أنكحة الأسرى :
77 - ظاهر كلام الإمام أحمد بن حنبلٍ أنّ الأسير لا يحلّ له التّزوّج ما دام أسيراً ، وهذا قول الزّهريّ ، وكره الحسن أن يتزوّج في أرض المشركين ، لأنّ الأسير إذا ولد له ولدٌ كان رقيقاً لهم ، ولا يأمن أن يطأ امرأته غيره منهم ، وسئل أحمد عن أسيرٍ اشتريت معه امرأته أيطؤها ؟ فقال : كيف يطؤها ؟ فلعلّ غيره منهم يطؤها ، قال الأثرم : قلت له : ولعلّها تعلق بولدٍ فيكون معهم ، قال : وهذا أيضاً . ويقول الموّاق : الأسير يعلم تنصّره فلا يدري أطوعاً أم كرهاً فلتعتدّ زوجته ، ويوقف ماله ، ويحكم فيه بحكم المرتدّ ، وإن ثبت إكراهه ببيّنةٍ كان بحال المسلم في نسائه وماله . وتفصيل ذلك في موضع ( إكراهٌ ) ( وردّةٌ ) .
إكراه الأسير والاستعانة به :
78 - الأسير إن أكرهه الكفّار على الكفر ، وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان ، لا تبين منه امرأته ، ولا يحرم ميراثه من المسلمين ، ولا يحرمون ميراثهم منه ، وإذا ما أكره على أكل لحم الخنزير أو دخول الكنيسة ففعل وسعه ذلك لقاعدة الضّرورات . ولو أكرهوه على أن يقتل مسلماً لم يكن له ذلك ، كما لا يرخّص له في أن يدلّ على ثغرةٍ ينفذ منها العدوّ إلى مقاتلتنا ، ولا الاشتراك مع العدوّ في القتال عند كثيرٍ من العلماء ، وأجاز ذلك الأوزاعيّ وغيره ، ومنعه مالكٌ وابن القاسم . وتفصيل ذلك موضعه مصطلح ( إكراهٌ ) .
الأمان من الأسير وتأمينه :
79 - لا يصحّ الأمان من الأسير عند الحنفيّة ، لأنّ الأمان لا يقع منه بصفة النّظر منه للمسلمين ، بل لنفسه حتّى يتخلّص منهم ، ولأنّ الأسير خائفٌ على نفسه ، إلاّ أنّه فيما بينهم وبينه إن أمنوه وأمنهم ، فينبغي أن يفي لهم كما يفون له ، ولا يسرق شيئاً من أموالهم ، لأنّه غير متّهمٍ في حقّ نفسه ، وقد شرط أن يفي لهم ، فيكون بمنزلة المستأمن في دارهم . وهو ما قاله اللّيث . ووافقهم كلٌّ من : المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، إذا ما كان الأسير محبوساً أو مقيّداً ، لأنّه مكرهٌ ، وأعطى الشّافعيّة من أمّن آسره حكم المكره ، وقالوا : إنّ أمانه فاسدٌ . أمّا إذا كان مطلقاً وغير مكرهٍ ، فقد نصّ الشّافعيّة على أنّ أسير الدّار - وهو المطلق ببلاد الكفّار الممنوع من الخروج منها - يصحّ أمانه . قال الماورديّ : وإنّما يكون مؤمّنه آمناً بدارهم لا غير ، إلاّ أن يصرّح بالأمان في غيرها . وسئل أشهب عن رجلٍ شذّ عن عسكر المسلمين ، فأسره العدوّ ، فطلبهم المسلمون ، فقال العدوّ للأسير المسلم : أعطنا الأمان ، فأعطاهم الأمان ، فقال : إذا كان أمّنهم ، وهو آمنٌ على نفسه ، فذلك جائزٌ ، وإن كان أمّنهم ، وهو خائفٌ على نفسه ، فليس ذلك بجائزٍ ، وقول الأسير في ذلك جائزٌ .
ويعلّل ابن قدامة لصحّة أمان الأسير إذا عقده غير مكرهٍ ، بأنّه داخلٌ في عموم الخبر الّذي رواه مسلمٌ بسنده من أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال : « ذمّة المسلمين واحدةٌ يسعى بها أدناهم ... » كما أنّه مسلمٌ مكلّفٌ مختارٌ .
صلاة الأسير في السّفر ، والانفلات ، وما ينتهي به الأسر :
80 - الأسير المسلم في أيدي الكفّار إن عزم على الفرار من الأسر عند التّمكّن من ذلك ، وكان الكفّار أقاموا به في موضعٍ يريدون المقام فيه المدّة الّتي تعتبر إقامةً ، ولا تقصر بعدها الصّلاة ، لزمه أن يتمّ الصّلاة ، لأنّه مقهورٌ في أيديهم ، فيكون المعتبر في حقّه نيّتهم في السّفر والإقامة ، لا نيّته . وإن كان الأسير انفلت منهم ، وهو مسافرٌ ، فوطّن نفسه على إقامة شهرٍ في غارٍ أو غيره قصر الصّلاة ، لأنّه محاربٌ لهم ، فلا تكون دار الحرب موضع الإقامة في حقّه ، حتّى ينتهي إلى دار الإسلام .
وتفصيل ذلك موطنه مصطلح ( صلاة المسافر ) .
81 - والأسر ينتهي بما يقرّر الإمام ، من قتلٍ أو استرقاقٍ أو منٍّ أو فداءٍ بمالٍ ، أو عن طريق تبادل الأسرى على ما سبق بيانه ، كما ينتهي الأسر بموت الأسير قبل قرار الإمام فيه ، وكذلك فإنّه قد ينتهي بفرار الأسير ، يقول الكاسانيّ : لو انفلت أسيرٌ قبل الإحراز بدار الإسلام والتحق بمنعتهم يعود حرّاً ، وينتهي أسره ، ولم يعد فيئاً ، لأنّ حقّ أهل دار الإسلام لا يتأكّد إلاّ بالأخذ حقيقةً ، ولم يوجد .
82 - ويصرّح الفقهاء بأنّه يجب على أسرى المسلمين الفرار إن أطاقوه ، ولم يرج ظهور الإسلام ببقائهم ، للخلوص من قهر الأسر ، وقيّد بعضهم الوجوب بعدم التّمكّن من إظهار الدّين ، لكن جاء في مطالب أولي النّهي : وإن أسر مسلمٌ ، فأطلق بشرط أن يقيم في دار الحرب مدّةً معيّنةً ، ورضي بالشّرط لزمه الوفاء ، وليس له أن يهرب لحديث : « المؤمنون عند شروطهم » وإن أطلق بشرط أن يرجع إليهم لزمه الوفاء ، إن كان قادراً على إظهار دينه ، إلاّ المرأة فلا يحلّ لها الرّجوع . واختار ابن رشدٍ - إذا ائتمن العدوّ الأسير طائعاً على ألاّ يهرب ، ولا يخونهم - أنّه يهرب ولا يخونهم في أموالهم .
وأمّا إن ائتمنوه مكرهاً ، أو لم يأتمنوه ، فله أن يأخذ ما أمكنه من أموالهم ، وله أن يهرب بنفسه . وقال اللّخميّ : إن عاهدوه على ألاّ يهرب فليوفّ بالعهد ، فإن تبعه واحدٌ منهم أو أكثر بعد خروجه فليدفعهم حتماً إن حاربوه وكانوا مثليه فأقلّ ، وإلاّ فندباً .

أسرةٌ *
التعريف :
1 - أسرة الإنسان : عشيرته ورهطه الأدنون ، مأخوذٌ من الأسر ، وهو القوّة ، سمّوا بذلك لأنّه يتقوّى بهم ، والأسرة : عشيرة الرّجل وأهل بيته ، وقال أبو جعفرٍ النّحّاس : الأسرة أقارب الرّجل من قبل أبيه .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - لفظ الأسرة لم يرد ذكره في القرآن الكريم ، كذلك لم يستعمله الفقهاء في عباراتهم فيما نعلم . والمتعارف عليه الآن إطلاق لفظ ( الأسرة ) على الرّجل ومن يعولهم من زوجه وأصوله وفروعه . وهذا المعنى يعبّر عنه الفقهاء قديماً بألفاظٍ منها : الآل ، والأهل ، والعيال . كقول النّفراويّ المالكيّ : من قال : الشّيء الفلانيّ وقفٌ على عيالي ، تدخل زوجته في العيال . وفي ابن عابدين : أهله زوجته ، وقالا ، يعني صاحبي أبي حنيفة : كلّ من في عياله ونفقته غير مماليكه ، لقوله تعالى : { فنجّيناه وأهله أجمعين } .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
3 - ما يعرف بأحكام الأسرة أو الأحوال الشّخصيّة فهو اصطلاحٌ حادثٌ ، والمراد به مجموعة الأحكام الّتي تنظّم العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة . وقد فصّلها الفقهاء في أبواب النّكاح والمهر والنّفقات والقسم والطّلاق والخلع والعدد والظّهار والإيلاء والنّسب والحضانة والرّضاع والوصيّة والميراث ونحوها . وتنظر هذه الأحكام تحت هذه العناوين أيضاً ، وتحت عنوان ( أبٌ ، ابنٌ ، بنتٌ ) إلخ .

أسطوانةٌ *
التعريف :
1 - الأسطوانة : السّارية في المسجد أو البيت أو نحوهما .
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك .
الحكم الإجماليّ ، ومواطن البحث :
2 - في وقوف الإمام بين السّواري ، وفي صلاته إلى الأسطوانة خلافٌ . فقال أبو حنيفة ومالكٌ بالكراهة ، وذهب الجمهور إلى عدم الكراهة . وتفصيل ذلك في كتاب الصّلاة ، في مبحث ( صلاة الجماعة ) . أمّا المأمومون : فقد اتّفق الفقهاء على أنّه إذا لم تقطع الأسطوانة الصّفّ فلا كراهة لعدم الدّليل على ذلك . أمّا إذا قطعت ففيه خلافٌ . فالحنفيّة والمالكيّة لا يرون به بأساً ، لعدم الدّليل على المنع . والحنابلة يرون الكراهة ،« لما ورد من النّهي عن الصّفّ بين السّواري »إلاّ أن يكون الصّفّ قدر ما بين السّاريتين ، أو أقلّ فلا يكره . وقد ذكر الفقهاء ذلك أيضاً في صلاة الجماعة .

إسفارٌ *
التعريف :
1 - من معاني الإسفار في اللّغة : الكشف ، يقال : سفر الصّبح وأسفر : أي أضاء ، وأسفر القوم : أصبحوا ، وسفرت المرأة : كشفت عن وجهها .
وأكثر استعمال الفقهاء للإسفار بمعنى ظهور الضّوء ، يقال : أسفر بالصّبح : إذا صلاّها وقت الإسفار ، أي عند ظهور الضّوء ، لا في الغلس .
الحكم الإجماليّ :
2 - يرى جمهور الفقهاء أنّ الوقت الاختياريّ في صلاة الصّبح هو إلى وقت الإسفار ، لما روي : « أنّ جبريل عليه السلام صلّى الصّبح بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم حين طلع الفجر ، وصلّى من الغد حين أسفر ، ثمّ التفت وقال : هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك » .
ويرى الحنفيّة أنّه يستحبّ الإسفار بصلاة الصّبح ، وهو أفضل من التّغليس ، في السّفر والحضر ، وفي الصّيف والشّتاء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « أسفروا بالفجر » ، وفي روايةٍ « نوّروا بالفجر فإنّه أعظم للأجر » . قال أبو جعفرٍ الطّحاويّ : يبدأ بالتّغليس ويختم بالإسفار جمعاً بين أحاديث التّغليس والإسفار .
مواطن البحث :
3 - يبحث الإسفار في الصّلاة عند الكلام عن وقت صلاة الصّبح ، والأوقات المستحبّة .

إسقاطٌ *
التعريف :
1 - من معاني الإسقاط لغةً : الإيقاع والإلقاء ، يقال : سقط اسمه من الدّيوان : إذا وقع ، وأسقطت الحامل : ألقت الجنين ، وقول الفقهاء : سقط الفرض ، أي سقط طلبه والأمر به . وفي اصطلاح الفقهاء : هو إزالة الملك ، أو الحقّ ، لا إلى مالكٍ ولا إلى مستحقٍّ ، وتسقط بذلك المطالبة به ، لأنّ السّاقط ينتهي ويتلاشى ولا ينتقل ، وذلك كالطّلاق والعتق والعفو عن القصاص والإبراء من الدّين ، وبمعنى الإسقاط : الحطّ ، إذ يستعمله الفقهاء بالمعنى نفسه . ويستعمله الفقهاء أيضاً في إسقاط الحامل الجنين . وسبق تفصيله في ( إجهاضٌ ) .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإبراء :
2 - الإبراء عند الفقهاء : إسقاط الشّخص حقّاً له في ذمّة آخر أو قبله . وهذا عند من يعتبر الإبراء من الدّين إسقاطاً محضاً ، أمّا من يعتبره تمليكاً فيقول : هو تمليك المدين ما في ذمّته . وتوسّط ابن السّمعانيّ فقال : هو تمليكٌ في حقّ من له الدّين ، إسقاطٌ في حقّ المدين ، وهذا بالنّظر لبراءة الإسقاط لا لبراءة الاستيفاء .
ويلاحظ أنّه إذا لم يكن الحقّ في ذمّة شخصٍ ولا تجاهه ، كحقّ الشّفعة ، فتركه لا يعتبر إبراءً ، بل هو إسقاطٌ . وبذلك يتبيّن أنّ بينهما عموماً وخصوصاً من وجهٍ . غير أنّ ابن عبد السّلام من المالكيّة يعتبر الإبراء أعمّ من جهةٍ أخرى ، إذ يقول : الإسقاط في المعيّن ، والإبراء أعمّ منه ، لأنّه يكون في المعيّن وغيره .
ب - الصّلح :
3 - الصّلح اسمٌ بمعنى : المصالحة والتّوفيق والسّلم .
وشرعاً : عقدٌ يقتضي قطع النّزاع والخصومة . ويجوز في الصّلح إسقاط بعض الحقّ ، سواءٌ أكان عن إقرارٍ أم إنكارٍ أم سكوتٍ . فإذا كانت المصالحة على أخذ البدل فالصّلح معاوضةٌ ، وليس إسقاطاً ، فبينهما عمومٌ وخصوصٌ وجهيٌّ .
ج - المقاصّة :
4 - يقال تقاصّ القوم : إذا قاصّ كلٌّ منهم صاحبه في الحساب ، فحبس عنه مثل ما كان له عليه . والمقاصّة نوعٌ من الإسقاط ، إذ هي إسقاط ما للإنسان من دينٍ على غريمه في مثل ما عليه . فهي إسقاطٌ بعوضٍ ، في حين أنّ الإسقاط المطلق يكون بعوضٍ وبغير عوضٍ ، وبذلك تكون المقاصّة أخصّ من الإسقاط . ولها شروطٌ تنظر في موضعها .
د - العفو :
5 - من معاني العفو : المحو والإسقاط وترك المطالبة ، يقال : عفوت عن فلانٍ إذا تركت مطالبته بما عليه من الحقّ ، ومنه قوله تعالى : { والعافين عن النّاس } . أي التّاركين مظالمهم عندهم لا يطالبونهم بها . فالعفو الّذي يستعمل في ترك الحقّ مساوٍ للإسقاط في المعنى ، إلاّ أنّ العفو على إطلاقه أعمّ لتعدّد استعمالاته .
هـ - التّمليك :
6 - التّمليك : نقل الملك وإزالته إلى مالكٍ آخر ، سواءٌ أكان المنقول عيناً كما في البيع ، أم منفعةً كما في الإجارة ، وسواءٌ أكان بعوضٍ كما سبق ، أم بدونه كالهبة . والتّمليك بعمومه يفارق الإسقاط بعمومه ، إذ التّمليك إزالةٌ ونقلٌ إلى مالكٍ ، في حين أنّ الإسقاط إزالةٌ وليس نقلاً ، كما أنّه ليس إلى مالكٍ ، لكنّهما قد يجتمعان في الإبراء من الدّين ، عند من يعتبره تمليكاً ، كالمالكيّة وبعض فقهاء الحنفيّة والشّافعيّة ، ولذلك يشترطون فيه القبول .
صفة الإسقاط : حكمه التّكليفيّ :
7 - الإسقاط من التّصرّفات المشروعة في الجملة ، إذ هو تصرّف الإنسان في خالص حقّه ، دون أن يمسّ ذلك حقّاً لغيره . والأصل فيه الإباحة ، وقد تعرض له الأحكام التّكليفيّة الأخرى . فيكون واجباً ، كترك وليّ الصّغير الشّفعة الّتي وجبت للصّغير ، إذا كان الحظّ في تركها ، لأنّه يجب عليه النّظر في ماله بما فيه حظٌّ وغبطةٌ له . وكالطّلاق الّذي يراه الحكمان إذا وقع الشّقاق بين الزّوجين ، وكذلك طلاق الرّجل إذا آلى من زوجته ولم يفئ إليها .
ويكون مندوباً إذا كان قربةً ، كالعفو عن القصاص ، وإبراء المعسر ، والعتق ، والكتابة . ومن النّصوص الدّالّة على النّدب في العفو عن القصاص قوله تعالى : { والجروح قصاصٌ ، فمن تصدّق به فهو كفّارةٌ له } . فندب اللّه تعالى إلى العفو والتّصدّق بحقّ القصاص .. وفي إبراء المدين قوله تعالى : { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ وأن تصدّقوا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون } يقول القرطبيّ : ندب اللّه تعالى بهذه الألفاظ إلى الصّدقة على المعسر ، وجعل ذلك خيراً من إنظاره . ، ولذلك يقول الفقهاء : إنّ المندوب هنا وهو الإبراء أفضل من الواجب وهو الإنظار . وقد يكون حراماً ، كطلاق البدعة ، وهو طلاق المدخول بها في حال الحيض من غير حملٍ ، وكذلك عفو وليّ الصّغير عن القصاص مجّاناً .
وقد يكون مكروهاً ، كالطّلاق بدون سببٍ يستدعيه ،
لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أبغض الحلال إلى اللّه الطّلاق » .
الباعث على الإسقاط :
8 - تصرّفات المكلّفين فيما يملكون التّصرّف فيه لا تأتي عفواً ، بل تكون لها بواعث ، قد تكون شرعيّةً ، فيكون التّصرّف استجابةً لأوامر الشّرع ، وقد تكون لمصالح شخصيّةٍ . والإسقاط من التّصرّفات الّتي يتأتّى فيها الباعث الشّرعيّ والشّخصيّ .
فمن البواعث الشّرعيّة :
العمل على حرّيّة الإنسان الّتي هي الأصل لكلّ النّاس ، وذلك العتق الّذي حثّ عليه الإسلام . ومنها : الإبقاء على الحياة ، وذلك بإسقاط حقّ القصاص ممّن ثبت له هذا الحقّ .
ومنها : معاونة المعسرين ، وذلك بإسقاط الدّين عنهم إن وجد ، وقد سبق ذكر النّصوص الدّالّة على مشروعيّة ذلك .
ومنها : إرادة نفع الجار ، كما في وضع خشبه على جدار جاره وذلك لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يمنع جارٌ جاره أن يغرز خشبه في جداره » إلى غير ذلك ممّا لا يتّسع المقام لذكره .
أمّا البواعث الشّخصيّة :
فمنها : رجاء حسن العشرة بين الزّوجين ، ممّا يدعو الزّوجة إلى إبراء زوجها من المهر في نكاح التّفويض بعد الدّخول ، أو إسقاط الزّوجة حقّها في القسم .
ومنها : الإسراع في الحصول على الحرّيّة ، وذلك كالمكاتب ، إذا أسقط حقّه في الأجل في أداء المال المكاتب ، عليه ، فعجّل أداء النّجوم ( الأقساط ) ، فإنّ السّيّد يلزمه أخذ المال ، لأنّ الأجل حقّ المكاتب فيسقط بإسقاطه كسائر الحقوق ، حتّى لو أبى السّيّد أخذ المال جعله الإمام في بيت المال ، وحكم بعتقه .
ومنها : الانتفاع المادّيّ ، كالخلع والعفو عن القصاص على مالٍ .
أركان الإسقاط :
9 - ركن الإسقاط عند الحنفيّة هو الصّيغة فقط ، ويزاد عليها عند غيرهم : الطّرفان - المسقط وهو صاحب الحقّ ، والمسقط عنه الّذي تقرّر الحقّ قبله - والمحلّ وهو الحقّ الّذي يرد عليه الإسقاط . الصّيغة :
10 - ممّا هو معلومٌ أنّ الصّيغة تتكوّن من الإيجاب والقبول معاً في العقد ، وهي هنا كذلك باتّفاقٍ في الجملة في الإسقاطات الّتي تقابل بعوضٍ كالطّلاق على مالٍ .
وفي غيرها اختلاف الفقهاء بالنّسبة للقبول على ما سيأتي .
الإيجاب في الصّيغة :
11 - الإيجاب في الصّيغة ، هو ما يدلّ على الإسقاط من قولٍ ، أو ما يؤدّي معنى القول ، من إشارةٍ مفهمةٍ أو كتابةٍ أو فعلٍ أو سكوتٍ . ويلاحظ أنّ الإسقاطات قد ميّز بعضها بأسماءٍ خاصّةٍ تعرف بها ، فإسقاط الحقّ عن الرّقّ عتقٌ ، وعن استباحة البضع طلاقٌ ، وعن القصاص عفوٌ ، وعن الدّين إبراءٌ . ولكلّ نوعٍ من هذه الإسقاطات صيغٌ خاصّةٌ سواءٌ أكانت صريحةً ، أم كنايةً تحتاج إلى نيّةٍ أو قرينةٍ . ر : ( طلاقٌ ، عتقٌ ) .
أمّا غير هذه الأنواع من الإسقاطات ، فإنّ حقيقة اللّفظ الّذي يدلّ عليها هو الإسقاط . وما بمعناه . وقد ذكر الفقهاء ألفاظاً متعدّدةً تؤدّي معنى الإسقاط ، وذلك مثل : التّرك والحطّ والعفو والوضع والإبراء في براءة الإسقاط والإبطال والإحلال ، والمدار في ذلك على العرف ودلالة الحال ، ولذلك جعلوا من الألفاظ الّتي تدلّ عليه : الهبة والصّدقة والعطيّة حين لا يراد بهذه الألفاظ حقيقتها وهي التّمليك ، ويكون المقام دالاًّ على الإسقاط ، ففي شرح منتهى الإرادات : من أبرأ من دينه ، أو وهبه لمدينه ، أو أحلّه منه ، أو أسقطه عنه ، أو تركه له ، أو ملّكه له ، أو تصدّق به عليه ، أو عفا عن الدّين ، صحّ ذلك جميعه ، وكان مسقطاً للدّين . وإنّما صحّ بلفظ الهبة والصّدقة والعطيّة ، لأنّه لمّا لم يكن هناك عينٌ موجودةٌ يتناولها اللّفظ انصرف إلى معنى الإبراء . قال الحارثيّ : ولهذا لو وهبه دينه هبةً حقيقيّةً لم يصحّ ، لانتفاء معنى الإسقاط وانتفاء شرط الهبة . وكما يحصل الإسقاط بالقول ، فإنّه يحصل بالكتابة المعنونة المرسومة ، وبالإشارة المفهمة من فاقد النّطق .
كذلك قد يحصل الإسقاط بالسّكوت ، كما إذا علم الشّفيع ببيع المشفوع فيه ، وسكت مع إمكان الطّلب ، فإنّ سكوته يسقط حقّه في طلب الشّفعة . ويحصل الإسقاط أيضاً نتيجة فعلٍ يصدر من صاحب الحقّ ، كمن يشتري بشرط الخيار ، ثمّ يتصرّف في المبيع بوقفٍ أو بيعٍ في زمن الخيار ، فإنّ هذا التّصرّف يعتبر إسقاطاً لحقّه في الخيار .
القبول :
12 - الأصل في الإسقاط أن يتمّ بإرادة المسقط وحده ، لأنّ جائز التّصرّف لا يمنع من إسقاط حقّه ، ما دام لم يمسّ حقّ غيره .
ومن هنا فإنّ الفقهاء يتّفقون على أنّ الإسقاط المحض الّذي ليس فيه معنى التّمليك ، والّذي لم يقابل بعوضٍ ، يتمّ بصدور ما يحقّق معناه من قولٍ ، أو ما يؤدّي معناه دون توقّفٍ على قبول الطّرف الآخر ، كالطّلاق ، فلا يحتاج الطّلاق إلى قبولٍ .
13 - ويتّفقون كذلك على أنّ الإسقاط الّذي يقابل بعوضٍ يتوقّف نفاذه على قبول الطّرف الآخر في الجملة ، كالطّلاق على مالٍ ، لأنّ الإسقاط حينئذٍ يكون معاوضةً ، فيتوقّف ثبوت الحكم على قبول دفع العوض من الطّرف الآخر ، إذ المعاوضة لا تتمّ إلاّ برضى الطّرفين . وقد ألحق الحنفيّة بهذا القسم الصّلح على دم العمد ، فإنّ الحكم فيه يتوقّف على رضى الجاني ، لقوله تعالى : { فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ } والمراد به الصّلح . ولأنّه حقٌّ ثابتٌ للورثة يجري فيه الإسقاط عفواً ، فكذا تعويضاً ، لاشتماله على إحسان الأولياء وإحياء القاتل ، فيجوز بالتّراضي .
وما ذهب إليه الحنفيّة هو قولٌ للإمام مالكٍ وبعض أصحابه . وعند الشّافعيّة والحنابلة ، وفي قولٍ آخر للإمام مالكٍ أنّ من له حقّ القصاص ، إذا أراد أخذ الدّية بدل القصاص ، فله ذلك من غير رضى الجاني ، لقوله تعالى : { فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ } ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : « قام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : من قتل له قتيلٌ فهو بخير النّظرين ، إمّا أن يودى ، وإمّا أن يقاد » . وبهذا قال سعيد بن المسيّب وابن سيرين وعطاءٌ ومجاهدٌ وأبو ثورٍ وابن المنذر .
14 - ويبقى بعد ذلك الإسقاط الّذي فيه معنى التّمليك ، كإبراء المدين من الدّين .
وهذا النّوع من الإسقاط هو الّذي اختلف فيه الفقهاء على أساس ما فيه من جانبي الإسقاط والتّمليك . فالحنفيّة ، والشّافعيّة في الأصحّ ، والحنابلة وأشهب من المالكيّة ، نظروا إلى جانب الإسقاط فيه ، فلا يتوقّف تمامه عندهم على القبول ، لأنّ جائز التّصرّف لا يمنع من إسقاط حقّه أو بعضه . ولأنّه إسقاط حقٍّ ليس فيه تمليك مالٍ ، فلم يعتبر فيه القبول ، كالعتق والطّلاق والشّفعة . بل إنّ الخطيب الشّربينيّ قال : لا يشترط القبول على المذهب ، سواءٌ قلنا : الإبراء تمليكٌ أو إسقاطٌ . ويستوي عند هؤلاء الفقهاء التّعبير بالإبراء أو بهبة الدّين للمدين ، إلاّ ما فرّق به بعض الحنفيّة من أنّ التّعبير بالهبة يحتاج إلى القبول . جاء في الفتاوى الهنديّة : هبة الدّين من الكفيل لا تتمّ بدون القبول ، وإبراؤه يتمّ بدون قبولٍ .
15 - ولمّا كان الإبراء من بدل الصّرف ورأس مال السّلم يتوقّف على القبول عند الحنفيّة ، ممّا يشعر بالتّعارض مع رأيهم في عدم توقّف الإبراء من الدّين على القبول ، فقد علّلوا ذلك بأنّ التّوقّف على القبول فيهما ليس من جهة أنّه هبة الدّين للمدين ، ولكن لأنّ الإبراء فيهما يوجب انفساخ العقد بفوات القبض المستحقّ بالعقد لحقّ الشّارع ، وأحد العاقدين لا ينفرد بفسخه ، فلهذا توقّف على قبول الآخر . والأرجح عند المالكيّة ، وعند بعض الشّافعيّة أنّ إبراء المدين من الدّين يتوقّف تمامه على القبول ، لأنّ الإبراء - على رأيهم - نقلٌ للملك ، فهو تمليك المدين ما في ذمّته ، فيكون من قبيل الهبة الّتي يشترط فيها القبول .
والحكمة في ذلك عندهم هي ترفّع ذوي المروءات عمّا قد يحدث في الإبراء من منّةٍ ، وما قد يصيبهم من ضررٍ بذلك ، لا سيّما من السّفلة ، فكان لهم الرّفض شرعاً ، نفياً للضّرر الحاصل من المنن من غير أهلها ، أو من غير حاجةٍ .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ردّ الإسقاط :
16 - لا يختلف الفقهاء في أنّ الإسقاطات المحضة الّتي ليس فيها معنى التّمليك ، والّتي لم تقابل بعوضٍ ، كالعتق والطّلاق والشّفعة والقصاص لا ترتدّ بالرّدّ ، لأنّها لا تفتقر إلى القبول ، وبالإسقاط يسقط الملك والحقّ ، فيتلاشى ولا يؤثّر فيه الرّدّ ، والسّاقط لا يعود كما هو معلومٌ . ولا يختلفون كذلك في أنّ الإسقاطات الّتي تقابل بعوضٍ ، كالطّلاق والعتق على مالٍ ، ترتدّ بالرّدّ ما لم يسبق قبولٌ أو طلبٌ .
17 - أمّا ما فيه معنى التّمليك كالإبراء من الدّين ، فعند الحنفيّة والمالكيّة في الرّاجح عندهم ، وهو رأي بعض الشّافعيّة ، أنّه يرتدّ بالرّدّ ، نظراً لجانب التّمليك فيه ، ولما قد يترتّب على عدم قابليّته للرّدّ من ضرر المنّة الّتي يترفّع عنها ذوو المروءات .
18 - هذا مع استثناء الحنفيّة لبعض المسائل الّتي لا يرتدّ فيها الإبراء بالرّدّ وهي :
أ - إذا أبرأ المحال المحال عليه فلا يرتدّ بردّه .
ب - إذا أبرأ الطّالب الكفيل فالأرجح أنّه لا يرتدّ بالرّدّ ، وقيل يرتدّ .
ج - إذا طلب المدين الإبراء فأبرأه الدّائن فلا يرتدّ بالرّدّ .
د - إذا قبل المدين الإبراء ثمّ ردّه لا يرتدّ .
وهذه المسائل في الحقيقة ليست خروجاً على الأصل الّذي سار عليه الحنفيّة ، ذلك أنّ الحوالة والكفالة من الإسقاطات المحضة ، لأنّ الواجب هو حقّ المطالبة وليس فيه تمليك مالٍ . وأمّا القبول إذا تمّ فلا معنى للرّدّ بعده ، وكذلك طلب المدين البراءة يعتبر قبولاً .
19 - ومع اتّفاق الحنفيّة على أنّ الإبراء يرتدّ بالرّدّ إلاّ أنّهم يختلفون من حيث تقييد الرّدّ بمجلس الإبراء وعدم تقييده . قال ابن عابدين : هما قولان . وفي الفتاوى الصّيرفيّة : لو لم يقبل ولم يردّ حتّى افترقا ، ثمّ بعد أيّامٍ ردّ لا يرتدّ في الصّحيح .
التّعليق والتّقييد والإضافة في الإسقاطات :
20 - التّعليق هو ربط وجود الشّيء بوجود غيره ، ويستعمل فيه لفظ أداة الشّرط صريحاً ، كإن وإذا ، وانعقاد الحكم فيه يتوقّف على حصول الشّرط .
21 - والتّقييد بالشّروط ما جزم فيه بالأصل ، وشرط فيه أمرٌ آخر ، ولا يستعمل فيه لفظ أداة الشّرط صريحاً .
22 - أمّا الإضافة فهي وإن كانت لا تمنع سببيّة اللّفظ للحكم إلاّ أنّها تجعل الحكم يتأخّر البدء به إلى زمنٍ مستقبلٍ يحدّده المتصرّف .
وبيان ذلك بالنّسبة للإسقاطات هو :
أوّلاً : تعليق الإسقاط على الشّرط :
23 - يجوز باتّفاق الفقهاء تعليق الإسقاطات على الشّرط الكائن بالفعل ( أي الموجود حالة الإسقاط ) ، لأنّه في حكم المنجز ، كقول الدّائن لغريمه : إن كان لي عليك دينٌ فقد أبرأتك ، وكقول الرّجل لامرأته : أنت طالقٌ إن كانت السّماء فوقنا والأرض تحتنا ، وكمن قال لآخر : باعني فلانٌ دارك بكذا ، فقال : إن كان كذا فقد أجزته ، وإن كان فلانٌ اشترى هذا الشّقص بكذا فقد أسقطت الشّفعة . كذلك يجوز باتّفاق الفقهاء التّعليق على موت المسقط ، ويعتبر وصيّةً ، كقوله لمدينه : إذا متّ فأنت بريءٌ . وهذا فيما عدا من علّق طلاق زوجته على موته ، إذ فيه الاختلاف بين تنجيز الطّلاق وبين عدم وقوعه .
أمّا فيما عدا ذلك من الشّروط فيمكن تقسيم الإسقاطات بالنّسبة لها في الجملة إلى الآتي :
24 - أ - إسقاطاتٌ محضةٌ ليس فيها معنى التّمليك ولم تقابل بعوضٍ . وهذه يجوز في الجملة تعليقها على الشّرط ، غير أنّ الحنفيّة وضعوا هنا ضابطاً فقالوا : إن كانت الإسقاطات ممّا يحلف بها ، كالطّلاق والعتق ، فإنّه يجوز تعليقها بالشّرط ملائماً أم غير ملائمٍ . وإن كانت ممّا لا يحلف بها ، كالإذن في التّجارة وتسليم الشّفعة ، فإنّه يجوز تعليقها بالشّرط الملائم فقط ، وهو ما يؤكّد موجب العقد .
ويعبّر الحنفيّة أحياناً بالشّرط المتعارف . ويظهر أنّ المراد بهما واحدٌ ، ففي ابن عابدين : وفي البحر عن المعراج : غير الملائم هو ما لا منفعة فيه للطّالب أصلاً ، كدخول الدّار ومجيء الغد ، لأنّه غير متعارفٍ . وفي فتح القدير - بعد الكلام عن اختلاف الرّوايات في جواز تعليق البراءة من الكفالة بالشّرط - قال : وجه اختلاف الرّوايتين أنّ عدم الجواز إنّما هو إذا كان الشّرط محضاً لا منفعة فيه أصلاً ، لأنّه غير متعارفٍ بين النّاس ، كما لا يجوز تعليق الكفالة بشرطٍ ليس للنّاس فيه تعاملٌ ، فأمّا إذا كان بشرطٍ فيه نفعٌ للطّالب ، وله تعاملٌ ، فتعليق البراءة به صحيحٌ . ولم يتعرّض غير الحنفيّة لهذا التّقسيم ، والّذي يبدو ممّا ذكروه أنّه يجوز عندهم تعليق الإسقاطات المحضة على الشّرط مطلقاً ، دون تفريقٍ بين ما يحلف به وما لا يحلف به ، ويدلّ لذلك الضّابط الّذي وضعه الشّافعيّة وهو : ما كان تمليكاً محضاً لا مدخل للتّعليق فيه قطعاً كالبيع ، وما كان حلاًّ محضاً ، يدخله التّعليق قطعاً كالعتق ، وبينهما مراتب يجري فيها الخلاف كالفسخ والإبراء . وأمّا المالكيّة والحنابلة فإنّ المسائل الّتي ذكروا أنّها تقبل التّعليق تفيد هذا المعنى . وقد ورد الكثير من هذه المسائل في فتاوى الشّيخ عليشٍ المالكيّ ، ومنها : إذا طلبت الحاضنة الانتقال بالأولاد إلى مكان بعيدٍ ، فقال الأب : إن فعلت ذلك فنفقتهم وكسوتهم عليك ، لزمها ذلك ، لأنّ للأب منعها من الخروج بهم إلى مكان بعيدٍ ، فأسقط حقّه بذلك . وإذا قال الشّفيع : إن اشتريت ذلك الشّقص فقد سلّمت لك شفعتي على دينارٍ تعطيني إيّاه ، فإن لم يبعه منك فلا جعل لي عليك ، جاز ذلك .
25 - ب - إسقاطاتٌ فيها معنى المعاوضة ، كالخلع والمكاتبة . وما يلحق بهما من الطّلاق والعتق على مالٍ . فالطّلاق على مالٍ وكذا العتق على مالٍ تعليقهما جائزٌ باتّفاقٍ ، لأنّهما إسقاطٌ محضٌ ، والمعاوضة فيهما معدولٌ بها عن سائر المعاوضات .
وأمّا الخلع فقد أجاز تعليقه الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في الصّحيح ، باعتباره طلاقاً ، ومنعه الحنابلة لمعنى المعاوضة .
وأمّا المكاتبة فقد أجاز تعليقها بالشّرط الحنفيّة والمالكيّة ، ومنعها الحنابلة والشّافعيّة ، جاء في قواعد الزّركشيّ : المعاوضة غير المحضة وهي الّتي يكون المال فيها مقصوداً من جانبٍ واحدٍ ( أي كالمكاتبة ) لا تقبل التّعليق ، إلاّ في الخلع من جانب المرأة .
26 - ج - الإسقاط الّذي فيه معنى التّمليك ، كالإبراء من الدّين . وقد أجاز تعليقه على الشّرط الحنفيّة والمالكيّة . غير أنّ الحنفيّة قيّدوه بالشّرط الملائم أو المتعارف على ما سبق تفسيره . ومنع تعليقة الحنابلة والشّافعيّة في الأصحّ .
وقد استثنى الشّافعيّة ثلاث صورٍ يجوز فيها التّعليق ، وهي :
( 1 ) لو قال : إن رددت ضالّتي فقد أبرأتك عن الدّين الّذي لي عليك صحّ .
( 2 ) تعليق الإبراء ضمناً ، كما إذا علّق عتق عبده ، ثمّ كاتبه فوجدت الصّفة ، عتق ، وتضمّن ذلك الإبراء من النّجوم ( أي الأقساط ) .
( 3 ) البراءة المعلّقة بموت المبرّئ ، وقد سبق بيان ذلك .
ثانياً : تقييد الإسقاط بالشّرط :
27 - يصحّ في الجملة تقييد الإسقاطات بالشّروط ، فإن كان الشّرط صحيحاً لزم ، وإن كان الشّرط فاسداً فلكلّ مذهبٍ تفصيلٌ في الحكم على ما يعتبر فاسداً من الشّروط وما لا يعتبر ، وهل يبطل التّصرّف بفساد الشّرط ، أو يبطل الشّرط ويصحّ التّصرّف . ونترك التّفاصيل لمواضعها . لكنّ الحكم الغالب في الإسقاطات أنّها لو قيّدت بالشّرط الفاسد ، صحّ وبطل الشّرط . ويتبيّن هذا ممّا ذكره بعض الفقهاء من الضّوابط ، ومن الفروع الّتي أوردها غيرهم ، وفيما يلي بيان ذلك .
قال الحنفيّة : كلّ ما جاز تعليقه بالشّرط يجوز تقييده بالشّرط ، ولا يفسد بالشّرط ، الفاسد . وقالوا أيضاً : ما ليس مبادلة مالٍ بمالٍ لا يفسد بالشّرط الفاسد . وذكر صاحب الدّرّ وابن عابدين التّصرّفات الّتي تصحّ ولا تفسد بالشّرط الفاسد ، ومنها : الطّلاق والخلع والعتق والإيصاء والشّركة والمضاربة والكفالة والحوالة والوكالة والكتابة والإذن في التّجارة والصّلح عن دم العمد والإبراء عنه . أمّا المالكيّة والشّافعيّة فلم يربطوا بين التّعليق والتّقييد ، فقد ذكر القرافيّ في الفروق أنّ ما يقبل الشّرط والتّعليق : الطّلاق والعتق ، ولا يلزم من قبول التّعليق قبول الشّرط ، ولا من قبول الشّرط قبول التّعليق ، وتطلب المناسبة في كلّ بابٍ من أبواب الفقه . ومن الأمثلة الّتي وردت عندهم : لو خالعت زوجها واشترطت الرّجعة ، لزم الخلع ، وبطل الشّرط . ولو صالح الجاني وليّ الدّم على شيءٍ بشرط أن يرحل من البلد ، فقال ابن كنانة : الشّرط باطلٌ والصّلح جائزٌ ، وقال ابن القاسم : لا يجوز الصّلح ، وقال المغيرة : الشّرط جائزٌ والصّلح لازمٌ ، وكان سحنونٌ يعجبه قول المغيرة .
ويقول الشّافعيّة : الشّرط الفاسد قد يترتّب عليه بعض أحكام الصّحيح ، ومثل ذلك في الإسقاطات الكتابة والخلع . وممّا قاله الحنابلة في ذلك : إذا قيّد الخلع بشرطٍ فاسدٍ صحّ الخلع ولغا الشّرط . وفي المغني : العتق والطّلاق لا تبطلهما الشّروط الفاسدة .
ثالثاً : إضافة الإسقاط إلى الزّمن المستقبل :
28 - من التّصرّفات ما يظهر أثرها ويترتّب عليها الحكم بمجرّد تمّام الصّيغة ، ولا تقبل إرجاء حكمها إلى زمنٍ آخر كالزّواج والبيع . ومن التّصرّفات ما تكون طبيعتها تمنع ظهور أثرها إلاّ في زمنٍ مستقبلٍ ، كالوصيّة . ومن التّصرّفات ما يقع حكمه منجزاً ، كالطّلاق تنتهي به الزّوجيّة في الحال ، ويصحّ أن يضاف إلى زمنٍ مستقبلٍ لا تنتهي الزّوجيّة إلاّ عند حصوله . وإضافة الطّلاق إلى الزّمن المستقبل جائزٌ عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . وهو منجزٌ عند المالكيّة ولو أضافه إلى المستقبل ، لأنّه بهذه الإضافة أشبه بنكاح المتعة . وكذلك العتق فإنّه إسقاطٌ يقبل الإضافة . وممّا ذكره الحنفيّة من الإسقاطات الّتي لا تقبل الإضافة إلى زمن مستقبلٍ : الإبراء من الدّين وإسقاط القصاص . والحكم الغالب أنّ الإسقاطات الّتي ليس فيها معنى التّمليك تقبل الإضافة إلى الزّمن المستقبل . هذا في الجملة ، ولكلّ مذهبٍ تفصيلٌ في كلّ نوعٍ من أنواع التّصرّفات ، وينظر في موضعه .
من يملك الإسقاط ( المسقط ) :
29 - الإسقاط قد يكون من قبل الشّرع أساساً ، كإسقاط العبادات الّتي يكون في مباشرتها مشقّةٌ وحرجٌ على المكلّف ، وكإسقاط العقوبات الّتي ترد عليها شبهةٌ ، وسيأتي بيان ذلك . وقد يكون الإسقاط من قبل العباد نتيجةً لأمر الشّارع ، إمّا على سبيل الوجوب كالعتق في الكفّارات ، وإمّا على سبيل النّدب كإبراء المعسر من الدّين ، وكالعفو عن القصاص .
وقد يكون الإسقاط من العباد بعضهم لبعضٍ لأسبابٍ خاصّةٍ ، كإسقاط حقّ الشّفعة لعدم الرّغبة في الشّراء . على ما سبق بيانه في الحكم التّكليفيّ .
ما يشترط في المسقط :
30 - الإسقاط من العباد يعتبر من التّصرّفات الّتي يتنازل فيها الإنسان عن حقّه ، فهو في حقيقته تبرّعٌ . ولمّا كان هذا التّصرّف قد يعود على المسقط بالضّرر ، فإنّه يشترط أهليّته للتّبرّع ، وذلك بأن يكون بالغاً عاقلاً . فلا يصحّ الإسقاط من الصّبيّ والمجنون وهذا في الجملة ، لأنّ الحنابلة يقولون بصحّة الخلع من الصّغير الّذي يعقله ، لأنّ فيه تحصيل عوضٍ له . ويشترط كذلك أن يكون غير محجورٍ عليه لسفهٍ أو دينٍ ، وهذا بالنّسبة للتّبرّعات ، لأنّه يجوز أن يطلّق وأن يعفو عن القصاص وأن يخالع ، لكن لا يدفع إليه المال ، ولذلك لا يصحّ الخلع من الزّوجة المحجور عليها لسفهٍ أو صغرٍ ، مع ملاحظة أنّه لا يحجر على السّفيه ، ولا على المدين عند أبي حنيفة . ر : ( حجرٌ ، وسفهٌ ، وأهليّةٌ ) .
ويشترط أيضاً أن يكون ذا إرادةٍ ، فلا يصحّ إسقاط المكره ، إلاّ ما قاله الحنفيّة من صحّة الطّلاق والعتق من المكره . وللفقهاء تفصيلٌ بين الإكراه الملجئ وغير الملجئ . وينظر في ( إكراهٌ ) . ويشترط أن يكون في حال الصّحّة ، إذا كان إسقاطه لكلّ ماله أو أكثر من الثّلث ، فإن كان مريضاً مرض الموت وقت الإسقاط فتصرّفه فيما زاد على الثّلث للأجنبيّ ، أو بأقلّ للوارث ، يتوقّف على إجازة الورثة . ر : ( وصيّةٌ ) .
وإذا كان المريض مديناً والتّركة مستغرقةٌ بالدّيون فلا يصحّ منه الإبراء ، لتعلّق حقّ الغرماء . ويشترط أن يكون مالكاً لما يتصرّف فيه . وفي تصرّف الفضوليّ خلافٌ بين من يجيزه موقوفاً على إجازة المالك ، وهم الحنفيّة والمالكيّة ، وبين من لا يجيزه وهم الشّافعيّة والحنابلة . وفي ذلك تفصيلٌ موضعه مصطلح ( فضوليٌّ ) .
وقد يكون ملك التّصرّف بالوكالة ، وحينئذٍ يجب أن يقتصر التّصرّف على المأذون به للوكيل . وعلى الجملة فإنّه يصحّ التّوكيل بالخلع ، وبالإعتاق على مالٍ ، وبالصّلح على الإنكار ، وفي إبراءٍ من الدّين ولو للوكيل ، إذا عيّنه الموكّل وقال له : أبرئ نفسك . ويراعى في كلّ ذلك ما يشترط في الموكّل والوكيل وما أذن فيه . وينظر تفصيله في ( وكالةٌ ) . وقد يكون ملك التّصرّف بالولاية الشّرعيّة كالوليّ والوصيّ ، وحينئذٍ يجب أن يقتصر تصرّفهما على ما فيه الحظّ للصّغير والمولّى عليه ، فلا يجوز له التّبرّع ولا إسقاط المهر ولا العفو على غير مالٍ ولا ترك الشّفعة إذا كان في التّرك ضررٌ . وهذا في الجملة ( ر : وصايةٌ ولايةٌ ) .
المسقط عنه :
31 - المسقط عنه هو من كان عليه الحقّ أو تقرّر قبله ، ويشترط فيه أن يكون معلوماً في الجملة . هذا ، وأغلب الإسقاطات يكون المسقط عنه أو له معروفاً ، كما في الشّفعة والقصاص والخيار وما شابه ذلك . وإنّما نتصوّر الجهالة في إبراء المدين وفي الإعتاق والطّلاق وما أشبه ذلك . أمّا الإبراء من الدّين فيشترط فيه أن يكون المبرّأ معلوماً ، وهذا باتّفاقٍ . ولذلك لو قال : أبرأت شخصاً أو رجلاً ممّا لي قبله لا يصحّ . ومثله ما لو قال : أبرأت أحدً غريميّ ، أمّا لو قال : أبرأت أهالي المحلّة الفلانيّة ، وكان أهل تلك المحلّة معيّنين ، وعبارةً عن أشخاصٍ معدودين ، فإنّه يصحّ الإبراء .
كذلك يشترط أن يكون الإبراء لمن عليه الحقّ ، فلو أبرئ غير من عليه الحقّ لا يصحّ ، ومثال ذلك : إذا أبرئ قاتلٌ من ديةٍ واجبةٍ على عاقلته ، فلا يصحّ الإبراء في ذلك ، لوقوعه على غير من عليه الحقّ . أمّا لو أبرئت عاقلة القاتل ، أو قال المجنيّ عليه : عفوت عن هذه الجناية ، ولم يسمّ المبرّأ من قاتلٍ أو عاقلةٍ صحّ الإبراء ، لانصرافه إلى من عليه الحقّ . ولا يشترط في الإبراء من الدّين أن يكون المبرّأ مقرّاً بالحقّ ، حيث يجوز الإبراء من الإنكار . ومثل ذلك يقال في غير الدّين ممّا يصحّ إسقاطه .
وأمّا بالنّسبة للطّلاق فإنّه يصحّ مع الإبهام ، لكن لا بدّ من التّعيين ، فمن قال لزوجتيه : إحداكما طالقٌ ، فإنّ الطّلاق يقع ، ولكنّه يلزم بتعيين المطلّقة . وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة ، أمّا عند المالكيّة فالمشهور أنّهما تطلقان ، وهو قول المصريّين ، وقال المدنيّون : يختار واحدةً للطّلاق . وعند الحنابلة : يقرع بينهما إن لم يكن نوى واحدةً بعينها .
محلّ الإسقاط :
32 - المحلّ الّذي يجري عليه التّصرّف يسمّى حقّاً ، وهو بهذا الإطلاق العامّ يشمل الأعيان ، ومنافعها ، والدّيون ، والحقوق المطلقة . وكلّ من ملك حقّاً من هذه الحقوق - بهذا الإطلاق العامّ - يصبح له بحكم الملك ولاية التّصرّف فيه باختياره ، ليس لأحدٍ ولاية الجبر عليه إلاّ لضرورةٍ أو لمصلحةٍ عامّةٍ ، ولا لأحدٍ ولاية المنع عنه إلاّ إذا تعلّق به حقّ الغير ، فيمنع عن التّصرّف من غير رضى صاحب الحقّ .
والإسقاط من هذه التّصرّفات ، إلاّ أنّه ليس كلّ محلٍّ قابلاً للإسقاط ، بل منه ما يقبل الإسقاط لتوفّر شروطه ، ومنه ما لا يقبله لعدم تحقّق شروطه ، ككونه مجهولاً ، أو تعلّق به حقٌّ للغير وهكذا . وبيان ذلك فيما يلي :
ما يقبل الإسقاط
أوّلاً - الدّين :
33 - يصحّ باتّفاقٍ إسقاط الدّين الثّابت في الذّمّة ، لأنّه حقٌّ ، والحقوق تسقط بالإسقاط ، فكلّ من ثبت له دينٌ على غيره ، سواءٌ أكان ثمن مبيعٍ ، أم كان مسلماً فيه ، أم نفقةً مفروضةً ماضيةً للزّوجة ، أم غير ذلك ، فإنّه يجوز له إسقاطه . وسواءٌ أكان الإسقاط خاصّاً بدينٍ أم عامّاً لكلّ الدّين ، وسواءٌ أكان مطلقاً أم معلّقاً أم مقيّداً بشرطٍ على ما سبق بيانه . وكما يجوز الإبراء عن كلّ الدّين فإنّه يجوز الإبراء عن بعضه .
وكما يصحّ إسقاط الدّين بدون عوضٍ ، يصحّ إسقاطه نظير عوضٍ ، مع الاختلاف في الصّورة أو الكيفيّة الّتي يتمّ بها ذلك ، ومن هذه الصّور :
أ - أن يعطي المدين الدّائن ثوباً في مقابلة إبرائه ممّا عليه من الدّين ، فيملك الدّائن العوض المبذول له نظير الإبراء ويبرّأ المدين ، وذلك كما يقول الشّافعيّة .
ب - يقول الحنابلة : من وجبت عليه نفقة امرأته ، وكان له عليها دينٌ ، فأراد أن يحتسب عليها بدينه مكان نفقتها ، فإن كانت موسرةً فله ذلك ، لأنّ من عليه حقٌّ فله أن يقضيه من أيّ أمواله شاء ، وهذا من ماله .
ويظهر أنّ هذه الصّورة تعتبر من قبيل المقاصّة ، والمقاصّة بالتّراضي تعتبر إسقاطاً بعوضٍ من الجانبين . مع مراعاة شروطها من اتّحاد الدّين قدراً ووصفاً وغير ذلك من الشّروط .
ت - كذلك يأتي إسقاط الدّين نظير عوض صورة الصّلح . وقد قسّم القرافيّ الإسقاط إلى قسمين : بعوضٍ وبغيره ، وجعل من الإسقاط بعوضٍ الصّلح عن الدّين .
ث - في حاشية ابن عابدين : إذا أبرأت الزّوجة زوجها من المهر والنّفقة ليطلّقها ، صحّ الإبراء ، ويكون بعوضٍ ، وهو أنّه ملّكها نفسها .
ج - وقد يأتي إسقاط الدّين بعوضٍ في صور التّعليق ، كمن قال لغيره : إن أعطيتني سيّارتك أسقطت عنك الدّين الّذي لي عليك .
ح - والإبراء أيضاً في صورة الخلع يعتبر من قبيل العوض .
ثانياً : العين
34 - الأصل أنّ الأعيان لا تقبل الإسقاط ، على ما سيأتي بيانه فيما لا يقبل الإسقاط ، إلاّ أنّ بعض التّصرّفات تعتبر إسقاطاً للملك . وذلك كالعتق ، فإنّه يعتبر إسقاطاً لملك الرّقبة وهي عينٌ . والعتق مشروعٌ بل مندوبٌ إليه شرعاً ، وقد يكون واجباً كما في الكفّارات .
كذلك الوقف يعتبر إسقاطاً للملك عند بعض الفقهاء ، ففي قواعد المقري : وقف المساجد إسقاط ملكٍ إجماعاً ، وفي غيرها قولان .
وقد يأتي إسقاط العين نظير عوضٍ عمّن عقد الصّلح ، والصّلح جائزٌ شرعاً لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الصّلح جائزٌ بين المسلمين إلاّ صلحاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً » . وسواءٌ أكان عن إقرارٍ ، أم عن إنكارٍ ، أم سكوتٍ ، فإن كان عن إنكارٍ أو سكوتٍ فهو في حقّ المدّعي معاوضة حقّه في زعمه ، وهذا مشروعٌ ، في حقّ المدّعى عليه افتداء اليمين ودفع الخصومة وهذا مشروعٌ . بل إنّ بعض الحنابلة أجاز الصّلح عمّا تعذّر علمه من دينٍ أو عينٍ بمالٍ لئلاّ يفضي إلى ضياع المال .
ويلاحظ أنّ الشّافعيّة لا يجيزون الصّلح عن إنكارٍ . وإن كان الصّلح عن إقرارٍ اعتبر كالبيع ، إن كان مبادلة مالٍ بمالٍ ، أو كالإجارة إن كان مبادلة مالٍ بمنفعةٍ ، أو كالهبة إن كان على ترك بعض العين . ويعتبر في كلّ حالٍ شروطها . وينظر تفصيل ذلك في ( صلحٌ ) .
ثالثاً : المنفعة :
35 - المنافع حقوقٌ تثبت لمستحقّيها ، سواءٌ أكانت نتيجة ملك العين المنتفع بها ، أم كانت نتيجة ملك المنفعة دون الرّقبة ( أي العين ) بمقتضى عقدٍ ، كالإجارة والعاريّة والوصيّة بالمنفعة ، أو بغير عقدٍ ، كتحجير الموات لإحيائه ، والاختصاص بمقاعد الأسواق ، وما شابه ذلك . والأصل في المنافع أنّها تقبل الإسقاط بإسقاط مالك العين المنتفع بها أو مستحقّ منفعتها ، إذ كلّ جائز التّصرّف لا يمنع من إسقاط حقّه ، ما لم يكن هناك مانعٌ من ذلك . وهذا باتّفاقٍ . وصور ذلك كثيرةٌ في مسائل الفقه ومن أمثلتها :
أ - من أوصى لرجلٍ بسكنى داره ، فمات الموصي ، وباع الوارث الدّار ، ورضي به الموصى له ، جاز البيع وبطلت سكناه .
ب - من وصّى بعين دار لزيدٍ ، وبالمنفعة لعمرٍو ، فأسقط الموصى له بالمنفعة حقّه ، سقط بالإسقاط .
ج - من كان له مسيل ماءٍ في دار غيره ، فقال : أبطلت حقّي في المسيل ، فإن كان له حقّ إجراء الماء دون الرّقبة بطل حقّه قياساً على حقّ السّكنى .
د - يجوز إسقاط الحقّ في الانتفاع ببيوت المدارس الموقوفة على الوجه الّذي أسقطه صاحبه .
فإن أسقطه مدّةً مخصوصةً رجع إليه بعد انتهائها ، وإن أطلق في الإسقاط فلا يعود له .
هـ- أماكن الجلوس في المساجد والأسواق يجوز إسقاط الحقّ فيها .
هذا بالنّسبة لإسقاط الحقّ في المنافع بدون عوضٍ .
36 - أمّا إسقاطه بعوضٍ ، فإنّه يرجع إلى قاعدة التّفريق بين ملك المنفعة وملك الانتفاع ، فإنّ الأصل أنّ كلّ من ملك المنفعة ملك المعاوضة عليها ، ومن ملك الانتفاع بنفسه فقط فليس له المعاوضة عليه . وعلى ذلك فكلّ من ملك المنفعة ، سواءٌ أكان مالكاً للرّقبة ، أم مالكاً للمنفعة دون الرّقبة ، فإنّه يجوز له إسقاط حقّه في المنفعة والاعتياض عنه وهذا عند الجمهور . أمّا الحنفيّة ، فإنّ الاعتياض عن المنافع عندهم لا يجوز إلاّ لمالك الرّقبة والمنفعة ، أو لمالك المنفعة بعوضٍ . والمنافع ليست بأموالٍ عندهم . وكذلك لا يجوز عندهم إفراد حقوق الارتفاق بعقد معاوضةٍ على الأصحّ ، وإنّما يجوز تبعاً .
وينظر تفصيل ذلك في ( إجارةٌ ، ارتفاقٌ ، إعارةٌ ، وصيّةٌ ، وقفٌ ) .
37 - ومن الأمثلة على إسقاط الحقّ في المنافع بعوضٍ : ما لو صالح الورثة من أوصى له مورّثهم بسكنى دارٍ معيّنةٍ من التّركة بدراهم مسمّاةٍ جاز ذلك صلحاً ، لأنّه إسقاط حقٍّ ، ومثل ذلك ما لو أنّ الموصى له بعين الدّار صالح الموصى له بسكناها بدراهم أو بمنفعة عينٍ أخرى لتسلّم الدّار له جاز .
رابعاً : الحقّ المطلق :
38 - ينقسم الحقّ بحسب من يضاف إليه إلى الآتي :
- -حقٌّ خالصٌ للّه سبحانه وتعالى ، وهو كلّ ما يتعلّق به النّفع العامّ ، أو هو امتثال أوامره ونواهيه .
- وحقٌّ خالصٌ للعباد ، وهو مصالحهم المقرّرة بمقتضى الشّريعة .
- وما اجتمع فيه حقّ اللّه وحقّ العبد ، كحدّ القذف والتّعزير .
والأصل أنّ الحقّ للّه سبحانه وتعالى ، لأنّه ما من حقٍّ للعبد إلاّ وفيه حقٌّ للّه تعالى ، وهو أمره بإيصال ذلك الحقّ إلى مستحقّه . وإفراد نوعٍ من الحقوق بجعله حقّاً للعبد فقط ، إنّما هو بحسب تسليط العبد على التّصرّف فيه بحيث لو أسقطه لسقط ، فكلّ واحدٍ من الحقّين ( حقّ اللّه وحقّ العبد ) موكولٌ لمن هو منسوبٌ إليه ثبوتاً وإسقاطاً . وبيان ذلك فيما يأتي : حقّ اللّه سبحانه وتعالى :
39 - ذكر حقّ اللّه هنا فيما يقبل الإسقاط إنّما هو باعتبار قبوله للإسقاط من قبل الشّارع ، أمّا من قبل العباد فلا يجوز على ما سيأتي .
وحقوق اللّه : إمّا عباداتٌ محضةٌ ماليّةٌ كالزّكاة ، أو بدنيّةٌ كالصّلاة ، أو جامعةٌ للبدن والمال كالحجّ . وإمّا عقوباتٌ محضةٌ كالحدود . وإمّا كفّاراتٌ وهي متردّدةٌ بين العقوبة والعبادة . ويقول الفقهاء : إنّ حقوق اللّه مبنيّةٌ على المسامحة ، بمعنى أنّه سبحانه وتعالى لن يلحقه ضررٌ في شيءٍ ، ومن ثمّ قبل الرّجوع عن الإقرار بالزّنى فيسقط الحدّ ، بخلاف حقّ الآدميّين فإنّهم يتضرّرون . وبإيجازٍ نذكر الأسباب الموجبة لإسقاط حقّ اللّه كما اعتبرها الشّارع :
40 -حقوق اللّه سبحانه وتعالى تقبل الإسقاط في الجملة للأسباب الّتي يعتبرها الشّرع مؤدّيةً إلى ذلك ، تفضّلاً منه ، ورحمةً بالعباد ، ورفعاً للحرج والمشقّة عنهم ، كإسقاط العبادات والعقوبات عن المجنون ، وكإسقاط بعض العبادات بالنّسبة لأصحاب الأعذار كالمرضى والمسافرين ، لما ينالهم من مشقّةٍ . وقد فصّل الفقهاء المشاقّ وأنواعها ، وبيّنوا لكلّ عبادةٍ مرتبةً معيّنةً من مشاقّها المؤثّرة في إسقاطها ، وأدرجوا ذلك تحت قاعدة : المشقّة تجلب التّيسير ، أخذاً من قوله تعالى : { يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } ، وقوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدّين من حرجٍ } .
والحكم المبنيّ على الأعذار يسمّى رخصةً . ومن أقسام الرّخصة ما يسمّى رخصة إسقاطٍ ، كإسقاط الصّلاة عن الحائض والنّفساء ، وإسقاط الصّوم عن الشّيخ الكبير الّذي لا يقوى عليه . وصلاة المسافر قصراً فرضٌ عند الحنفيّة ، وفي قولٍ للمالكيّة ، وتعتبر رخصة إسقاطٍ ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « صدقةٌ تصدّق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته » . وجه الاستدلال : أنّ التّصدّق بما لا يحتمل التّمليك إسقاطٌ لا يحتمل الرّدّ ، وإن كان ممّن لا يلزم طاعته كوليّ القصاص ، فهو من اللّه الّذي تلزم طاعته أولى .
والمذهب عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : أنّ قصر الصّلاة سنّةٌ للتّرفيه عن العبد . كذلك يسقط فرض الكفاية عمّن لم يقم به ، إذا قام به غيره ، بل إنّ القرافيّ يقول : يكفي في سقوط المأمور به على الكفاية ظنّ الفعل ، لا وقوعه تحقيقاً .
ومن ذلك أيضاً إسقاط الحرمة في تناول المحرّم للضّرورة ، كأكل المضطرّ للميتة ، وإساغة اللّقمة بالخمر لمن غصّ بها ، وإباحة نظر العورة للطّبيب . ويسري هذا الحكم على المعاملات ، فمن الرّخصة ما سقط مع كونه مشروعاً في الجملة ، وذلك كما في السّلم ، لقول الرّاوي : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ، ورخّص في السّلم » . وأنّ الأصل في البيع أن يلاقي عيناً ، وهذا حكمٌ مشروعٌ ، لكنّه سقط في السّلم . ومن التّخفيف : مشروعيّة الطّلاق ، لما في البقاء على الزّوجيّة من المشقّة عند التّنافر ، وكذا مشروعيّة الخلع والافتداء ، ومشروعيّة الكتابة ليتخلّص العبد من دوام الرّقّ . وكلّ ذلك مفصّلٌ في أبوابه الخاصّة من كتب الفقه ، وفي بابي : الرّخصة والأهليّة من كتب الأصول .
حقوق العباد :
41 - المقصود بحقوق العباد هنا ، ما عدا الأعيان والمنافع والدّيون ، وذلك لحقّ الشّفعة والقصاص والخيار . والأصل أنّ كلّ من له حقٌّ إذا أسقطه - وهو من أهل الإسقاط ، والمحلّ قابلٌ للسّقوط - سقط . فالشّفيع له حقّ الأخذ بالشّفعة بعد البيع ، فإذا أسقط هذا الحقّ وترك الأخذ بالشّفعة سقط حقّه ، ووليّ الدّم في القتل العمد له حقّ القصاص ، فإذا عفا وأسقط هذا الحقّ كان له ذلك ، والغانم قبل القسمة له حقّ التّملّك ، ويجوز له إسقاط هذا الحقّ ، وإذا ثبت حقّ الخيار للبائع أو للمشتري كان لمن ثبت له منهما هذا الحقّ أن يسقطه . وهكذا متى ثبت لإنسانٍ حقٌّ ، وهو جائز التّصرّف ، كان من حقّه إسقاطه ، إلاّ لمانعٍ من ذلك كما سيأتي ، وهذا باتّفاقٍ .
هذا بالنّسبة لإسقاط الحقوق بدون عوضٍ ، أمّا إسقاطها نظير عوضٍ فبيانه كالآتي :
42 - فرّق الكثير من فقهاء الحنفيّة بين ما يجوز الاعتياض عنه من الحقوق وما لا يجوز بقاعدةٍ هي : أنّ الحقّ إذا كان مجرّداً عن الملك فإنّه لا يجوز الاعتياض عنه ، وإن كان حقّاً متقرّراً في المحلّ الّذي تعلّق به صحّ الاعتياض عنه . وفرّق البعض الآخر من الحنفيّة بقاعدةٍ أخرى هي : أنّ الحقّ إذا كان شرع لدفع الضّرر فلا يجوز الاعتياض عنه ، وإذا كانت ثبت على وجه البرّ والصّلة فيكون ثابتاً له أصالةً ، فيصحّ الاعتياض عنه .
ومن يرجع إلى الأمثلة الّتي أوردوها يتبيّن له أنّه لا يكاد يوجد فرقٌ بين القاعدتين ، ففي الأشباه لابن نجيمٍ : الحقوق المجرّدة لا يجوز الاعتياض عنها ، كحقّ الشّفعة ، فلو صالح عنه بمالٍ بطلت ورجع به ، ولو صالح المخيّرة بمالٍ لتختاره بطل ولا شيء لها ، ولو صالح إحدى زوجتيه بمالٍ لتترك نوبتها لم يلزم ، ولا شيء لها . هكذا ذكروه في الشّفعة . وخرج عنها حقّ القصاص وملك النّكاح ، وحقّ الرّقّ ، فإنّه يجوز الاعتياض عنها .
والكفيل بالنّفس إذا صالح المكفول له بمالٍ لم يصحّ ولم يجب ، وفي بطلانها روايتان .
وفي حاشية ابن عابدين : لا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجرّدة كحقّ الشّفعة ، ثمّ أورد نفس الأمثلة الّتي جاءت في الأشباه ، ثمّ قال : وعدم جواز الصّلح عن حقّ الشّفعة وحقّ القسم للزّوجة وحقّ الخيار في النّكاح للمخيّرة إنّما هو لدفع الضّرر عن الشّفيع والمرأة ، وما ثبت لذلك لا يصحّ الصّلح عنه ، لأنّ صاحب الحقّ لمّا رضي علم أنّه لا يتضرّر بذلك ، فلا يستحقّ شيئاً . أمّا حقّ القصاص وملك النّكاح وحقّ الرّقّ فقد ثبت على وجه البرّ والصّلة ، فهو ثابتٌ له أصالةً ، لا على وجه رفع الضّرر عن صاحبه . وسار صاحب البدائع على أنّ الحقّ الّذي يجوز الاعتياض عنه ، هو الحقّ الثّابت في المحلّ أصالةً .
أمّا الجمهور ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) فلم نعثر لهم على قاعدةٍ يمكن الاستناد إليها في معرفة الحقوق الّتي يجوز الاعتياض عنها والّتي لا يجوز ، وإنّما يعرف ذلك بالرّجوع إلى المسائل في أماكنها من أبواب الفقه ، كالحضانة والشّفعة والخيار في العقود وما شابه ذلك ، ولذلك سنكتفي بذكر بعض الأمثلة . والجمهور أحياناً مع الحنفيّة في بعض المسائل ، مع اتّفاقهم في سبب الاعتياض ، وأحياناً يختلفون عنهم . وسيظهر ذلك من الأمثلة .
أ - الاعتياض عن حقّ الشّفعة ، هو غير جائزٍ عند الحنفيّة كما سبق ، ويوافقهم في الحكم وفي العلّة الشّافعيّة والحنابلة . في حين أجاز الاعتياض عنها المالكيّة ، وفي روايةٍ عن الإمام أحمد : إذا كان الاعتياض ، من المشتري لا من غيره .
ب - هبة الزّوجة يومها لضرّتها ، لا يجوز الاعتياض عنه عند الحنفيّة ، ووافقهم الشّافعيّة والحنابلة . قال الشّافعيّة : لأنّه ليس عيناً ولا منفعةً فلا يقابل بمالٍ . وقال الحنابلة : إنّ الزّوجة من حقّها كون الزّوج عندها ، وهو لا يقابل بمالٍ . وقال ابن تيميّة : قياس المذهب جواز أخذ العوض عن سائر حقوقها من القسم وغيره . والمالكيّة أجازوا الاعتياض عن حقّها في ذلك ، لأنّه عوضٌ عن الاستمتاع أو عن إسقاط الحقّ .
ت - إذا تعذّر ردّ المبيع المعيب كان للمشتري الحقّ في الاعتياض عن العيب . وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة ، وهو المذهب عند الشّافعيّة ، لأنّ الرّضى بالعيب يمنع الرّجوع بالنّقصان ،« ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل لمشتري المصرّاة الخيار بين الإمساك من غير أرشٍ وبين الرّدّ ». وعند الحنابلة : يجوز إمساك المبيع والاعتياض عن العيب ، لأنّه فات عليه جزءٌ من المبيع ، فكان له المطالبة بعوضه ، ويخالف المصرّاة ، لأنّ الخيار له بالتّدليس ، وكذلك في القول الثّاني عند الشّافعيّة .
ث - القصاص يجوز الاعتياض عنه عند جميع الفقهاء .
ج - يصحّ الصّلح عن إسقاط حقّ الدّعوى ، كحقّ الشّفعة والشّرب ، إلاّ ما كان مخالفاً للشّرع كدعوى الحدّ والنّسب ، ولأنّ الصّلح في الدّعوى لافتداء اليمين ، وهو جائزٌ .
ح - يجوز الصّلح عن التّعزير الّذي هو حقّ العبد ، لكن قال أبو حنيفة : إنّ التّعزير الّذي فيه حقّ اللّه كقبلة الأجنبيّة ، فالظّاهر عدم صحّة الصّلح فيه .
خ - يجوز الاعتياض عن إسقاط حقّ الحضانة عند الحنفيّة والمالكيّة ، على القول بأنّها حقّ الحاضن .
د - يجوز الاعتياض عن إسقاط حقّ الرّجوع في الهبة عند الحنفيّة ونكتفي بذكر هذه الأمثلة ، إذ من العسير حصر الحقوق الّتي يجوز الاعتياض عنها ، ويرجع في ذلك إلى المسائل في أبوابها من كتب الفقه .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ما لا يقبل الإسقاط :
أ - العين :
43 - العين ما يحتمل التّعيين مطلقاً ، جنساً ونوعاً وقدراً وصفةً ، كالعروض من الثّياب ، والعقار من الأرضين والدّور ، والحيوان من الدّوابّ ، والمكيل والموزون .
ومالك العين يجوز له التّصرّف فيها بالنّقل على الوجه المشروع من بيعٍ أو غيره . أمّا التّصرّف فيها بالإسقاط - أي رفع الملك وإزالته ، بأن يقول الشّخص مثلاً : أسقطت ملكي في هذه الدّار لفلانٍ ، يريد بذلك زوال ملكه وثبوته لغيره - فهذا باطلٌ ، ولا يفيد زوال ملك المسقط عن العين ، وثبوت الملك فيها للمسقط له . وقد اتّفق الفقهاء على أنّ الأعيان لا تقبل الإسقاط . إلاّ ما ورد بالنّسبة للعتق والوقف على ما سبق بيانه .
44 - لكن لو حدث هذا التّصرّف من المالك ، وكانت العين تحت يد المسقط له ، فإن كانت العين مغصوبةً هالكةً صحّ الإسقاط ، لأنّه حينئذٍ يكون إسقاطاً لقيمتها المترتّبة في ذمّته ، فصار إسقاطاً للدّين ، وإسقاط الدّين صحيحٌ .
وإن كانت العين قائمةً ، فمعنى إسقاطها إسقاط ضمانها لو هلكت ، وتصير بعد البراءة من عينها كالأمانة ، لا تضمن إلاّ بالتّعدّي . وقال زفر رحمه الله : لا يصحّ الإبراء وتبقى مضمونةً . وإن كانت العين أمانةً ، فالبراءة عنها لا تصحّ ديانةً ، بمعنى أنّ مالكها إذا ظفر بها أخذها . وتصحّ قضاءً ، فلا يسمع القاضي دعواه بعد البراءة . وقد قالوا : الإبراء عن الأعيان باطلٌ ديانةً لا قضاءً . ومعناه أنّها تكون ملكاً له بالإبراء ، وإنّما الإبراء عنها صحيحٌ في سقوط الضّمان ، أو يحمل على الأمانة .
ويقول المالكيّة : إنّ البراءة من المعيّنات يسقط بها الطّلب بقيمتها إذا فاتت ، والطّلب برفع اليد عنها إن كانت قائمةً . وهذا هو المشهور من المذهب ، إلاّ إنّه نقل عن المازريّ ما ظاهره أنّ الإبراء يشمل الأمانات وهي معيّناتٌ ( وهذا في الإبراء العامّ ) . كذلك صرّح ابن عبد السّلام بأنّ الإسقاط في المعيّن ، والإبراء أعمّ منه يكون في المعيّن وغيره .
ب - الحقّ :
ذكر فيما سبق ما يقبل الإسقاط من الحقوق ، سواءٌ أكان من حقّ اللّه أم من حقّ العبد ، ونذكر فيما يلي ما لا يقبل الإسقاط منهما .
ما لا يقبل الإسقاط من حقوق اللّه تعالى :
45 - الأصل أنّ حقّ اللّه لا يقبل الإسقاط من أحدٍ من العباد ، وأنّ ذلك موكولٌ إلى صاحب الشّرع لاعتباراتٍ خاصّةٍ ، كالتّخفيف عن العباد على ما سبق . فحقّ اللّه الخالص من العبادات كالصّلاة والزّكاة ، ومن العقوبات كحدّ الزّنى وحدّ شرب الخمر ، ومن الكفّارات وغير ذلك من الحقوق الّتي ثبتت للعبد بمقتضى الشّريعة كحقّ الولاية على الصّغيرة ، حقّ اللّه هذا لا يجوز لأحدٍ من العباد إسقاطه ، لأنّه لا يملك الحقّ في ذلك ، بل إنّ من حاول ذلك فإنّه يقاتل ، كما فعل أبو بكرٍ رضي الله عنه بمانعي الزّكاة . حتّى إنّ السّنن الّتي فيها إظهار الدّين ، وتعتبر من شعائره ، كالأذان ، لو اتّفق أهل بلدةٍ على تركه وجب قتالهم .
46 - كذلك لا يجوز التّحيّل على إسقاط العبادات ، كمن دخل عليه وقت صلاة ، فشرب خمراً أو دواءً منوّماً حتّى يخرج وقتها - وهو فاقدٌ لعقله - كالمغمى عليه . وكمن كان له مالٌ يقدر به على الحجّ ، فوهبه كيلاً يجب عليه الحجّ .
47 - وتحرم الشّفاعة لإسقاط الحدود الخالصة للّه تعالى . وفي السّرقة كذلك بعد الرّفع للحاكم ، لأنّ الحدّ فيها حقّ اللّه تعالى ، وقد روت عائشة رضي الله تعالى عنها : « أتي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بسارقٍ قد سرق ، فأمر به فقطع ، فقيل : يا رسول اللّه ما كنّا نراك تبلغ به هذا ، قال : لو كانت فاطمة بنت محمّدٍ لأقمت عليها الحدّ » . وروى عروة قال :« شفع الزّبير في سارقٍ فقيل : حتّى يأتي السّلطان ، قال : إذا بلغ السّلطان فلعن اللّه الشّافع والمشفّع ». ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لصفوان ، حين تصدّق على السّارق : « فهلاّ قبل أن تأتيني به » . وقال النّوويّ في شرح مسلمٍ : وأجمعوا على تحريم الشّفاعة في الحدود بعد بلوغه الإمام ، فأمّا قبل بلوغه الإمام فقد أجازه أكثر العلماء ، إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب شرٍّ وأذًى للمسلمين ، فإن كان لم يشفع فيه .
48 - ويلاحظ أنّ السّرقة ، وإن كان الحدّ فيها هو حقّ اللّه ، إلاّ أنّ الجانب الشّخصيّ فيها متحقّقٌ ناحية المال ، ولذلك يجوز الإبراء من المال . أمّا الحدّ فإنّه يجوز العفو عنه قبل الرّفع للحاكم ، أمّا بعده فلا يجوز . لكن قال الحنفيّة - غير زفر ، وروايةٌ لأبي يوسف - لو أنّ المسروق منه ملّك المسروق للسّارق سقط الحدّ .
والقذف ممّا يجتمع فيه حقّ اللّه وحقّ العبد ، مع الاختلاف في تغليب أحدهما ، وعلى الجملة ، فإنّه يجوز العفو فيه ( أي الإسقاط ) قبل التّرافع وبعده عند الشّافعيّة والحنابلة ، ولا يجوز بعد الرّفع عند الحنفيّة ، غير أنّ المالكيّة قيّدوا العفو بعد التّرافع بما إذا كان المقذوف يريد السّتر على نفسه ، ويثبت ذلك بالبيّنة . ولا يشترط هذا القيد بين الابن وأبيه . وروي عن الإمام أبي يوسف أنّه يجوز العفو كذلك بعد الرّفع للإمام .
وأمّا التّعزير ، فما كان منه حقّاً للآدميّ جاز العفو عنه ، وما كان حقّاً للّه فهو موكولٌ إلى الإمام . ونقل عن الإمام مالكٍ أنّه يجب على الإمام إقامته إذا كان في حقّ اللّه .
وعن الإمامين أبي حنيفة وأحمد أنّ ما كان من التّعزير منصوصاً عليه ، كوطء جارية امرأته فيجب امتثال الأمر فيه ، وما لم يكن منصوصاً عليه فهو موكولٌ إلى الإمام .
49 - وما دامت حدود اللّه لا تقبل الإسقاط من العباد ، فبالتّالي لا يجوز الاعتياض عن إسقاطها ، فلا يصحّ أن يصالح سارقاً أو شارباً ليطلقه ولا يرفعه للسّلطان ، لأنّه لا يصحّ أخذ العوض في مقابلته . وكذا لا يصحّ أن يصالح شاهداً على ألاّ يشهد عليه بحقٍّ للّه أو لآدميٍّ ، لأنّ الشّاهد في إقامة الشّهادة محتسبٌ حقّاً للّه تعالى ، لقوله تعالى : { وأقيموا الشّهادة للّه } والصّلح عن حقوق اللّه عزّ وجلّ باطلٌ ويجب عليه ردّ ما أخذ ، لأنّه أخذه بغير حقٍّ .
وهناك أيضاً ما يعتبر حقّاً للّه تعالى ممّا شرع أصلاً لمصلحة العباد ، ولذلك لا يسقط بالإسقاط ، لما في ذلك من منافاة الإسقاط لما هو مشروعٌ . ومن أمثلة ذلك :
الولاية على الصّغير :
50 - من الحقوق الّتي اعتبرها الشّارع وصفاً ذاتيّاً لصاحبها ، ولاية الأب على الصّغير ، فهي لازمةٌ له ولا تنفكّ عنه ، فحقّه ثابتٌ بإثبات الشّرع ، فهي حقٌّ عليه للّه تعالى ، ولذلك لا تسقط بإسقاطه ، لأنّ ذلك يعتبر خلاف المشروع ، وهذا باتّفاقٍ . أمّا غير الأب كالوصيّ ففيه خلافٌ . فعند الحنفيّة والمالكيّة : إذا كان الوصيّ قد قبل الوصاية ، ومات الموصي ، فلا يجوز له عزل نفسه لثبوت هذا الحقّ له . ولأنّها ولايةٌ فلا تسقط بالإسقاط .
أمّا الشّافعيّة والحنابلة : فإنّه يجوز عندهم أن يسقط الوصيّ حقّه ، ولو بعد قبوله بعد موت الموصي ، لأنّه متصرّفٌ بالإذن ، فكان له عزل نفسه كالوكيل .
وينظر تفصيل أنواع الولايات ، كالقاضي وناظر الوقف ، في مصطلح ( ولايةٌ ) .
السّكنى في بيت العدّة :
51 - أوجب الشّارع على المعتدّة أن تعتدّ في المنزل الّذي يضاف إليها بالسّكنى حال وقوع الفرقة أو الموت ، والبيت المضاف إليها في قوله تعالى { لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ } هو البيت الّذي تسكنه . ولا يجوز للزّوج ولا لغيره إخراج المعتدّة من مسكنها . وليس لها أن تخرج وإن رضي الزّوج بذلك ، لأنّ في العدّة حقّاً للّه تعالى ، وإخراجها أو خروجها من مسكن العدّة منافٍ للمشروع ، فلا يجوز لأحدٍ إسقاطه . وهذا في الجملة ، لأنّ المذهب عند الحنابلة : أنّه لا يجب على المطلّقة البائنة قرارها في مسكن العدّة ، لحديث فاطمة بنت قيسٍ الّذي فيه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها : « لا نفقة لك ولا سكنى » .
وإنّما يستحبّ لها ذلك ، خروجاً من الخلاف . وفي ذلك تفصيلٌ كثيرٌ ر : ( عدّةٌ ، سكنى ) .
خيار الرّؤية :
52 - بيع الشّيء قبل رؤيته يثبت خيار الرّؤية للمشتري ، فله الأخذ وله الرّدّ عند رؤيته ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من اشترى شيئاً لم يره فله الخيار إذا رآه » فالخيار هنا ليس باشتراط العاقدين ، وإنّما هو ثابتٌ شرعاً فكان حقّ اللّه تعالى ، ولهذا لا يجوز إسقاطه ، ولا يسقط بالإسقاط ، وهذا متّفقٌ عليه عند من يجيزون بيع الشّيء الغائب ، مع مراعاة شرائط ثبوت الخيار .
ولو أنّ العاقدين تبايعا بشرط إسقاط خيار الرّؤية بطل الشّرط مع الخلاف في صحّة العقد وفساده ، بناءً على حكم الشّروط الفاسدة في البيع . وينظر التّفصيل في : ( بيعٌ ، خيارٌ ) .
حقّ الرّجوع في الهبة :
53 - حقّ الرّجوع في الهبة الّتي يجوز الرّجوع فيها - وهي فيما يهبه الوالد لولده عند الجمهور ، وفيما يهبه الإنسان إذا لم يوجد مانعٌ من موانع الرّجوع في الهبة عند الحنفيّة - حقٌّ ثابتٌ شرعاً ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يحلّ لرجلٍ أن يعطي عطيّةً أو يهب هبةً ، فيرجع فيها ، إلاّ الوالد بما يعطي ولده » . وهذا ما استدلّ به الجمهور . واستدلّ الحنفيّة بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الواهب أحقّ بهبته ما لم يثب منها » أي ما لم يعوّض . قالوا : والعوض فيما وهب لذي الرّحم المحرّم هو : صلة الرّحم ، وقد حصل .
وما دام حقّ الرّجوع في الهبة - فيما يجوز الرّجوع فيه - ثابتاً شرعاً فإنّه لا يجوز إسقاطه ، ولا يسقط بالإسقاط . وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة في قولٍ . والقول الآخر للحنابلة أنّ الرّجوع حقّه ، وهو يسقط بإسقاطه . وعند المالكيّة يجوز للأب الرّجوع فيما وهبه لولده ، إلاّ إذا أشهد عليها ، أو شرط عدم الاعتصار ( أي الرّجوع ) ، فلا رجوع له حينئذٍ على المشهور . وينظر تفصيل ذلك في : ( هبةٌ ) .
ما لا يقبل الإسقاط من حقوق العباد :
سبق أنّ كلّ جائز التّصرّف لا يمنع من إسقاط حقّه ما لم يكن هناك مانعٌ ، وفيما يلي بيان بعض ما لا يقبل الإسقاط من الحقوق اتّفاقاً أو عند بعض الفقهاء ، إمّا لفقد شرطٍ من شروط المحلّ ، أو شرطٍ من شروط الإسقاط في حدّ ذاته .
ما يتعلّق به حقّ الغير :
54 - الإسقاط إذا كان مسّ حقّاً لغير من يباشره فإنّه لا يصحّ ، إذا كان فيه ضررٌ على الغير كحقّ الصّغير ، أو يتوقّف على إجازة من يملك الإجازة كالوارث والمرتهن ، ومن أمثلة ذلك ما يأتي :
حقّ الحضانة :
55 - يرى جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو أيضاً قولٌ للمالكيّة خلاف المشهور عندهم - أنّ للحاضن أن يسقط حقّه بإسقاطه ، وينتقل الحقّ إلى من بعده ، ولا يجبر على الحضانة إلاّ إذا تعيّن ولم يوجد حاضنٌ غيره ، ثمّ إن عاد الحاضن فطلب الحضانة عاد الحقّ إليه . وخالف ذلك المالكيّة في المشهور عندهم فقالوا : إنّ الحاضنة إذا أسقطت حقّها من الحضانة لغير عذرٍ ، بعد وجوبها لها ، ثمّ أرادت العود فلا تعود .
وللتّفصيل ر : ( حضانةٌ ) .
نسب الصّغير :
56 - النّسب حقّ الصّغير ، فإذا ثبت هذا الحقّ فإنّه لا يجوز لمن لحق به إسقاط هذا الحقّ ، فمن أقرّ بابنٍ ، أو هنّئ به فسكت ، أو أمّن على الدّعاء ، أو أخّر نفيه مع إمكان النّفي فقد التحق به ، ولا يصحّ له إسقاط نسبه بعد ذلك .
ولو أنّ امرأةً طلّقها زوجها ادّعت عليه صبيّاً في يده أنّه ابنه منها ، وجحد الرّجل فصالحت عن النّسب على شيءٍ فالصّلح باطلٌ ، لأنّ النّسب حقّ الصّبيّ لا حقّها .
عزل الوكيل :
57 - الأصل أنّ الموكّل يجوز له عزل الوكيل متى شاء ، لأنّه تصرّف في خالص حقّه ، لكن لو تعلّق بالوكالة حقٌّ للغير ، فلا يجوز له أن يعزله بغير رضى صاحب الحقّ ، لأنّ في العزل إبطال حقّه من غير رضاه ، وذلك كالوكيل في الخصومة لا يجوز عزله ما دامت الخصومة مستمرّةً . وكالعدل المتسلّط على بيع المرهون .
وذلك في الجملة عند الحنفيّة والمالكيّة ، مع تفصيلٍ كثيرٍ في شروط العزل وشروط الوكالة في الخصومة ، وتنظر في : ( وكالةٌ ، رهنٌ ) .
تصرّف المفلس :
58 - المحجور عليه للفلس ، يتعلّق حقّ الغرماء بماله ، ولذلك لا يجوز له التّصرّف في ماله تصرّفاً مستأنفاً ، كوقفٍ ، وعتقٍ ، وإبراءٍ ، وعفوٍ مجّاناً فيما لا قصاص فيه ، وذلك لتعلّق حقّ الغرماء بماله ، فهو محجورٌ عليه فيه ، أشبه الرّاهن يتصرّف في الرّهن . ر : ( حجرٌ ، فلسٌ ) .
إسقاط الحقّ قبل وجوبه ، وبعد وجود سبب الوجوب :
59 - يتّفق الفقهاء على عدم صحّة الإسقاط قبل وجوب الحقّ ، وقبل وجود سبب الوجوب ، لأنّ الحقّ قبل ذلك غير موجودٍ بالفعل ، فلا يتصوّر ورود الإسقاط عليه ، فإسقاط ما لم يجب ، ولا جرى سبب وجوبه لا يعتبر إسقاطاً ، وإنّما مجرّد وعدٍ لا يلزم منه الإسقاط مستقبلاً ، كإسقاط الشّفعة قبل البيع ، وإسقاط الحاضنة حقّها في الحضانة قبل وجوبها ، فكلّ هذا لا يعتبر إسقاطاً ، وإنّما هو امتناعٌ عن الحقّ في المستقبل ، ويجوز الرّجوع فيه والعود إلى المطالبة بالحقّ .
60 - أمّا إذا لم يجب الحقّ ، ولكن وجد سبب وجوبه ، ففي صحّة الإسقاط حينئذٍ اختلاف الفقهاء : فعند الحنفيّة والحنابلة ، وهو المعتمد عند المالكيّة ، ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة : أنّه يصحّ الإسقاط بعد وجود السّبب وقبل الوجوب .
فقد جاء في بدائع الصّنائع : الإبراء عن الحقّ بعد وجود سبب الوجوب قبل الوجوب جائزٌ ، كالإبراء عن الأجرة قبل مضيّ مدّة الإجارة . وفي فتح القدير : الإبراء عن سائر الحقوق بعد وجود سبب الوجوب جائزٌ . وفي شرح منتهى الإرادات ، ومثله في المغني : إن عفا مجروحٌ عمداً أو خطأً عن قود نفسه أو ديتها صحّ عفوه ، لإسقاطه حقّه بعد انعقاد سببه .
وفي فتح العليّ المالك وردت عدّة مسائل : كإبراء الزّوجة زوجها من الصّداق في نكاح التّفويض قبل البناء وقبل أن يفرض لها ، وإسقاط المرأة عن زوجها نفقة المستقبل ، وكعفو المجروح عمّا يئول إليه الجرح . ثمّ قال نقلاً عن ابن عبد السّلام : وبعض هذه المسائل أقوى من بعضٍ ، فهل يلزم الإسقاط في ذلك ، لأنّ سبب الوجوب قد وجد أو لا يلزم لأنّها لم تجب ؟ قولان حكاهما ابن رشدٍ . وفي الدّسوقيّ ذكر أنّ المعتمد هو لزوم الإسقاط لجريان السّبب . والأظهر عند الشّافعيّة والقول الثّاني للمالكيّة : أنّه يصحّ إسقاط الحقّ قبل وجوبه ، وإن جرى سبب وجوبه .
جاء في نهاية المحتاج : لو أبرأ المشتري البائع عن الضّمان لم يبرّأ في الأظهر ، إذ هو إبراءٌ عمّا لم يجب ، وهو غير صحيحٍ وإن وجد سببه ، والقول الثّاني : يبرّأ لوجود سبب الضّمان . واستثنى الشّافعيّة صورةً يصحّ فيها الإسقاط قبل الوجوب وهي : من حفر بئراً في ملك غيره بلا إذنٍ ، وأبرأه المالك ، ورضي ببقائها ، فإنّه يبرّأ ممّا وقع فيها .
إسقاط المجهول :
61 - إسقاط الحقّ المعلوم لا خلاف فيه ، والخلاف إنّما هو في المجهول ، كالدّين ، والعيب في المبيع ، وحصّةٍ في تركةٍ ، وما ماثل ذلك . فهذا النّوع محلّ خلافٍ بين الفقهاء في صحّة إسقاطه ، بناءً على اختلافهم في الإبراء من الدّين ، هل هو تمليكٌ أو إسقاطٌ ؟
فعند الحنفيّة والمالكيّة ، وهو المشهور عند الحنابلة ، والقديم عند الشّافعيّ : أنّه يجوز الإبراء من المجهول ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمن اختصما في مواريث قد درست : استهما ، وتوخّيا الحقّ ، وليحلل كلٌّ منكما صاحبه » . ولأنّه إسقاط حقٍّ لا تسليم فيه ، فصحّ في المجهول ، لأنّ الجهالة فيه لا تفضي إلى المنازعة . ومن ذلك عند الحنابلة : صحّة الصّلح عمّا تعذّر علمه من الدّين ، لئلاّ يفضي إلى ضياع المال .
وفي الجديد عند الشّافعيّ ، وهو روايةٌ عند الحنابلة : أنّه لا يصحّ الإبراء من المجهول ، بناءً على أنّه تمليك ما في ذمّته ، فيشترط العلم به .
ولا فرق عند الشّافعيّة ، والحنابلة على القول بعدم الصّحّة بين مجهول الجنس والقدر والصّفة . ويستثني الشّافعيّة من الإبراء من المجهول صورتين :
الأولى : الإبراء من إبل الدّية ، فيصحّ الإبراء منها مع الجهل بصفتها ، لاغتفارهم ذلك في إثباتها في ذمّة الجاني . وكذا الأرش والحكومة يصحّ الإبراء منهما مع الجهل بصفتهما . الثّانية : إذا ذكر قدراً يتحقّق أنّ حقّه أقلّ منه . وأضيف إلى هاتين الصّورتين ما لو أبرأه عمّا عليه بعد موته ، فيصحّ مع الجهالة ، لأنّه وصيّةٌ . كذلك الجهل اليسير الّذي يمكن معرفته لا يؤثّر في الإسقاط عند الشّافعيّة ، كالإبراء من حصّته من مورّثه في التّركة ، إن علم قدر التّركة ، وجهل قدر حصّته . وإن أجاز الوارث وصيّة مورّثه فيما زاد على الثّلث ، وقال : إنّما أجزت لأنّي ظننت المال قليلاً ، وأنّ الثّلث قليلٌ ، وقد بان أنّه كثيرٌ ، قبل قوله بيمينه ، وله الرّجوع بما زاد على ظنّه ، ما لم يكن المال ظاهراً لا يخفى على المجيز ، أو تقوم بيّنةٌ بعلمه وبقدره ، وهذا في الجملة .
62 - أمّا الإبراء من العيوب في البيع ، فالحكم فيه عند الحنفيّة والمالكيّة كالحكم في الدّين ، مع تفصيلٍ بين الحادث والقائم . وعند الحنابلة : الأشهر فيه عدم صحّة الإبراء .
والرّأي الثّاني : يجوز الإبراء فيه . وأمّا عند الشّافعيّة ففيه طريقان :
أحدهما أنّ المسألة على ثلاثة أقوالٍ : قولٌ بصحّة البراءة من كلّ عيبٍ ، وقولٌ بعدم صحّة البراءة والثّالث أنّه لا يبرّأ إلاّ من عيبٍ واحدٍ ، وهو العيب الباطن في الحيوان الّذي لا يعلم به البائع ، قال الشّافعيّ رحمه الله : لأنّ الحيوان يفارق ما سواه ، وقلّما يبرّأ من عيبٍ يظهر أو يخفى ، فدعت الحاجة إلى التّبرّي من العيب الباطن فيه .
هذه أمثلةٌ لما لا يقبل الإسقاط بالاتّفاق ، أو مع الاختلاف لعدم تحقّق شرطٍ من شروط المحلّ أو شروط الإسقاط في حدّ ذاته .
63 - وهناك كثيرٌ من الحقوق الّتي لا تقبل الإسقاط لأسبابٍ مختلفةٍ ، ومن العسير حصر هذه الحقوق لتشعّبها في مسائل الفقه المختلفة . ومن أمثلة ذلك : حقّ الزّوج في الاستمتاع . وهناك ما لا يسقط لقاعدةٍ عند الشّافعيّة وهي : أنّ صفات الحقوق لا تفرد بالإسقاط كالأجل والجودة ، بينما يجوز إسقاطهما عند الحنفيّة خروجاً عن قاعدة " التّابع تابعٌ " .
كذلك قال الحنفيّة : إنّ الشّرط إذا كان في عقدٍ لازمٍ فإنّه يلزم ولا يقبل الإسقاط ، فلو قال ربّ السّلم : أسقطت حقّي في التّسليم في ذلك المكان أو البلد لم يسقط . وكمن أسقط حقّه فيما شرط له من ريع الوقف لا لأحدٍ ، لأنّ الاشتراط له صار لازماً كلزوم الوقف .
وغير ذلك كثيرٌ ، وينظر في مواضعه .
تجزّؤ الإسقاط :
64 - من المعلوم أنّ الإسقاط يرد على محلٍّ ، والمحلّ هو الأساس في بيان حكم التّجزّؤ ، فإذا كان المحلّ يقبل الإسقاط في بعضه دون البعض الآخر ، قيل : إنّ الإسقاط يتجزّأ .
وإن كان المحلّ لا يمكن أن يثبت بالإسقاط في بعضه ، بل يثبت في الكلّ ، قيل : إنّ الإسقاط لا يتجزّأ . ومن القواعد في ذلك عند الحنفيّة ، كما ذكر ابن نجيمٍ والأتاسيّ شارح المجلّة : " ذكر بعض ما لا يتجزّأ كذكر كلّه " . فإذا طلّق نصف تطليقةٍ وقعت واحدةٌ ، أو طلّق نصف المرأة طلقت ، ومنها العفو عن القصاص : إذا عفا عن بعض القاتل كان عفواً عن كلّه ، وكذا إذا عفا بعض الأولياء سقط القصاص كلّه وانقلب نصيب الباقين مالاً .
وخرج عن القاعدة العتق عند أبي حنيفة ، فإنّه إذا أعتق بعض عبده لم يعتق كلّه . وعند الصّاحبين لا يتجزّأ ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من أعتق شركاً له في مملوكٍ فعليه عتقه كلّه » . وأدخل شارح المجلّة تحت القاعدة أيضاً : الكفالة بالنّفس ، والشّفعة ، ووصاية الأب ، والولاية . وذكر الشّافعيّة هذه القاعدة بتوضيحٍ أكثر فقالوا : ما لا يقبل التّبعيض يكون اختيار بعضه كاختيار كلّه ، وإسقاط بعضه كإسقاط كلّه . وذكروا تحت هذه القاعدة المسائل الّتي سبق إيرادها عن ابن نجيمٍ ، وهي : الطّلاق والقصاص والعتق والشّفعة . فإذا عفا الشّفيع عن بعض حقّه سقط الكلّ . واستثنى الشّافعيّة من القاعدة حدّ القذف ، فالعفو عن بعضه لا يسقط شيئاً منه . قاله الرّافعيّ . وزاد في نهاية المحتاج : التّعزير ، فلو عفا عن بعضه لم يسقط منه شيءٌ .
والمسائل المشهورة الّتي وردت من طلاقٍ وعتقٍ وقصاصٍ هي محلّ اتّفاقٍ بين المذاهب ، في أنّ الطّلاق المبعّض أو المضاف إلى جزءٍ من الزّوجة ، أو العتق المضاف إلى جزءٍ من العبد ، أو عفو أحد المستحقّين عن القصاص ، كلّ هذا يسري على الكلّ ، ولا يتبعّض المحلّ ، فتطلق المرأة ، ويعتق العبد ، ويسقط القصاص . وهذا في الجملة في الأصل العامّ ، إلاّ ما ورد عن أبي حنيفة في العتق كما سبق . وللفقهاء تفصيلٌ في فروع كلّ مسألةٍ . فمثلاً إضافة الطّلاق أو العتق إلى الظّفر والسّنّ والشّعر لا يقع به شيءٌ عند الحنابلة ، لأنّ هذه الأشياء تزول ويخرج غيرها فكانت في حكم المنفصل . وفي الإضافة إلى الشّعر قولان عند المالكيّة ، ويقع بالإضافة إليه الطّلاق عند الشّافعيّة . والشّفعة أيضاً الأصل العامّ فيها أنّها لا تتبعّض ، حتّى لا يقع ضررٌ بتفريق الصّفقة . فالشّفيع إمّا أن يأخذ الكلّ أو يترك ، وإذا أسقط حقّه في البعض سقط الكلّ . لكن وقع خلافٌ عند الشّافعيّة ، إذ قيل : إنّ إسقاط بعض الشّفعة لا يسقط شيئاً منها . وليس من تبعيض الشّفعة ما إذا كان البائع أو المشتري اثنين ، فإنّ الشّفيع له أن يأخذ نصيب أحدهما دون الآخر ، وإذا تعدّد الشّفعاء فالشّفعة على قدر الأنصباء . والدّين ممّا يقبل التّبعيض ، فللدّائن أخذ بعضه وإسقاط بعضه .
السّاقط لا يعود :
65 - من المعلوم أنّ السّاقط ينتهي ويتلاشى ، ويصبح كالمعدوم لا سبيل إلى إعادته إلاّ بسببٍ جديدٍ يصير مثله لا عينه ، فإذا أبرأ الدّائن المدين فقد سقط الدّين ، فلا يكون هناك دينٌ ، إلاّ إذا وجد سببٌ جديدٌ ، وكالقصاص لو عفي عنه فقد سقط وسلمت نفس القاتل ، ولا تستباح إلاّ بجنايةٍ أخرى ، وهكذا . وكمن أسقط حقّه في الشّفعة ، ثمّ رجعت الدّار إلى صاحبها بخيار رؤيةٍ ، أو بخيار شرطٍ للمشتري ، فليس له أن يأخذ بالشّفعة ، لأنّ الحقّ قد بطل ، فلا يعود إلاّ بسببٍ جديدٍ .
والإسقاط يقع على الكائن المستحقّ ، وهو الّذي إذا سقط لا يعود ، أمّا الحقّ الّذي يثبت شيئاً فشيئاً ، أي يتجدّد بتجدّد سببه فلا يرد عليه الإسقاط ، لأنّ الإسقاط يؤثّر في الحال دون المستقبل . ومثال ذلك ما جاء في خبايا الزّوايا : لو اشترى عبداً فأبق قبل القبض ، ورضي المشتري بترك الفسخ ، ثمّ بدا له ، يمكّن من الفسخ ، لأنّ التّسليم مستحقٌّ له في الأوقات كلّها ، والإسقاط يؤثّر في الحال دون ما يستحقّ من بعد .
وقال ابن عابدين : لو أسقطت الزّوجة نوبتها لضرّتها فلها الرّجوع ، لأنّها أسقطت الكائن ، وحقّها يثبت شيئاً فشيئاً ، فلا يسقط في المستقبل ، ولا يرد أنّ السّاقط لا يعود ، لأنّ العائد غير السّاقط ، وهذه مسألةٌ متّفقٌ عليها . وقد ذكر ابن نجيمٍ قاعدةً في ذلك فقال : الأصل أنّ المقتضي للحكم إن كان موجوداً والحكم معدومٌ فهو من باب المانع ، وإن عدم المقتضي فهو من باب السّاقط . فهناك فرقٌ إذن بين وجود المقتضي للحكم ، ثمّ سقط الحكم لمانعٍ ، فإذا زال المانع مع وجود المقتضي عاد الحكم ، بخلاف ما إذا عدم المقتضي فلا يعود الحكم . ومن ذلك حقّ الحضانة . جاء في منتهى الإرادات : لا حضانة لفاسقٍ ، ولا لكافرٍ على مسلمٍ ، ولا تزويج بأجنبيٍّ من محضونٍ . وبمجرّد زوال المانع من فسقٍ أو كفرٍ ، أو تزوّجٍ بأجنبيٍّ ، وبمجرّد رجوع ممتنعٍ من حضانةٍ يعود الحقّ له في الحضانة ، لقيام سببها مع زوال المانع . هذا مع الاختلاف بين الفقهاء ، هل الحضانة حقّ الحاضن أو حقّ المحضون . وفي الدّسوقيّ : إذا انتقلت الحضانة لشخصٍ لمانعٍ ، ثمّ زال المانع فإنّها تعود للأوّل ، كما لو تزوّجت الأمّ ودخل بها الزّوج ، وأخذت الجدّة الولد ، ثمّ فارق الزّوج الأمّ ، وقد ماتت الجدّة ، أو تزوّجت ، والأمّ خاليةٌ من الموانع ، فهي أحقّ ممّن بعد الجدّة ، وهي الخالة ومن بعدها . كذا قال المصنّف ( الدّردير ) ، وهو ضعيفٌ . والمعتمد أنّ الجدّة إذا ماتت انتقلت الحضانة لمن بعدها كالخالة ، ولا تعود للأمّ ولو كانت متأيّمةً ( لا زوج لها ) .
وفي الجمل على شرح المنهج : لو أسقطت الحاضنة حقّها انتقلت لمن يليها ، فإذا رجعت عاد حقّها . ومثل ذلك عند الحنفيّة كما في البدائع . وقال ابن نجيمٍ : وفرّعت على " وقولهم : السّاقط لا يعود " قولهم إذا حكم القاضي بردّ شهادة الشّاهد ، مع وجود الأهليّة ، لفسقٍ أو لتهمةٍ ، فإنّه لا يقبل بعد ذلك في تلك الحادثة .
ومن المسائل الّتي ذكرها ابن نجيمٍ للتّفرقة بين ما هو مسقطٌ وما هو مانعٌ قوله : لا يعود التّرتيب بعد سقوطه بقلّة الفوائت ، بخلاف ما إذا سقط بالنّسيان فإنّه يعود بالتّذكّر ، لأنّ النّسيان كان مانعاً لا مسقطاً ، فهو من باب زوال المانع . ولا تصحّ إقالة الإقالة في السّلم ، لأنّه دينٌ ساقطٌ فلا يعود . أمّا عود النّفقة - بعد سقوطها بالنّشوز - بالرّجوع ، فهو من باب زوال المانع ، لا من باب عود السّاقط . وتنظر الفروع في أبوابها .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
أثر الإسقاط :
66 - يترتّب على الإسقاط آثارٌ تختلف باختلاف ما يرد عليه . ومن ذلك :
( 1 ) إسقاط رجلٍ الانتقاع بالبضع بالطّلاق ، ويترتّب عليه آثارٌ متعدّدةٌ ، كالعدّة والنّفقة والسّكنى وجواز الرّجعة ، إن كان الطّلاق رجعيّاً ، وعدم جواز ذلك إن كان بائناً ، وغير ذلك من الآثار . ر : ( طلاقٌ ) .
( 2 ) الإعتاق وهو : إزالة الرّقّ عن المملوك وإثبات الحرّيّة له ، يترتّب عليه ملكه لماله وكسبه ، وإطلاق يده في التّصرّفات ، وإثبات حقّ الولاء للمعتق ، وما شابه ذلك من الأحكام . ر : ( عتقٌ ) .
( 3 ) قد يترتّب على الإسقاط إثبات حقوقٍ تتعلّق بالمحلّ ، كإسقاط حقّ الشّفعة ، يترتّب عليه استقرار الملك للمشتري ، وإسقاط حقّ الخيار في البيع يترتّب عليه لزوم البيع ، لأنّ الملك الثّابت بالبيع قبل الاختيار ملكٌ غير لازمٍ . وإجازة بيع الفضوليّ يترتّب عليها لزوم البيع الموقوف وينظر تفصيل ذلك في : ( بيعٌ - خيارٌ - شفعةٌ - فضوليٌّ ) .
( 4 ) ومن الآثار ما يرد تحت قاعدة : الفرع يسقط بسقوط الأصل ، كما إذا أبرئ المضمون أو المكفول عن الدّين برّئ الضّامن والكفيل ، لأنّ الضّامن والكفيل فرعٌ ، فإذا سقط الأصل سقط الفرع ولا عكس ، فلو أبرئ الضّامن لم يبرّأ الأصيل ، لأنّه إسقاط وثيقةٍ فلا يسقط بها الدّين . ر : ( كفالةٌ - ضمانٌ ) .
( 5 ) وقد يترتّب على الإسقاط الحصول على حقٍّ كان صاحبه ممنوعاً منه ، لتعلّق حقّ الغير ، وذلك مثل صحّة تصرّف الرّاهن في المرهون ، بنحو وقفٍ أو هبةٍ ، إذا أذن المرتهن ، لأنّ منعه كان لتعلّق حقّ المرتهن به ، وقد أسقطه بإذنه .
( 6 ) الغريم إذا وجد عين ماله عند المفلس كان له حقّ الرّجوع فيه بشروطٍ منها : ألاّ يتعلّق بالعين حقٌّ للغير كشفعةٍ ورهنٍ . فإذا أسقط أصحاب الحقوق حقوقهم ، بأن أسقط الشّفيع شفعته ، أو أسقط المرتهن حقّه في الرّهن فلربّ العين أخذها .
( 7 ) إذا أجّل البائع الثّمن بعد العقد سقط حقّ الحبس على ما جاء في البدائع ، لأنّه أخّر حقّ نفسه في قبض الثّمن ، فلا يتأخّر حقّ المشتري في قبض المبيع ، وكذا لو أبرأ البائع المشتري من الثّمن بطل حقّ الحبس .
( 8 ) لو أجّلت الزّوجة المهر لوقتٍ معلومٍ ، فليس لها أن تمنع نفسها ، لأنّ المرأة بالتّأجيل رضيت بإسقاط حقّ نفسها ، فلا يسقط حقّ الزّوج . وهذا في قول أبي حنيفة ومحمّدٍ ، وقال أبو يوسف : لها أن تمنع نفسها ، لأنّ من حكم المهر أن يتقدّم تسليمه على تسليم النّفس ، فلمّا قبل الزّوج التّأجيل كان ذلك رضاً بتأخير حقّ نفسها في القبض ، بخلاف البائع .
ومن ذلك أيضاً الوصيّة فيما زاد على الثّلث بإجازة الورثة . وينظر تفصيل كلّ ذلك في : ( إفلاسٌ - بيعٌ - حبسٌ - رهنٌ ) .
( 9 ) إسقاط الشّارع العبادات بسبب الأعذار قد يسقط الطّلب بها بعد ذلك ، فلا يطالب بالقضاء ، كالصّوم بالنّسبة للشّيخ الكبير الّذي لا يقدر عليه . وقد يطالب بالقضاء ، كالصّوم بالنّسبة للحائض والمسافر .
( 10 ) الإبراء من الدّين أو من الحقّ يترتّب عليه براءة ذمّة المبرّأ متى استوفى الإبراء شروطه . وسواءٌ أكان عن حقٍّ خاصٍّ أم حقٍّ عامٍّ ، بحسب ما يرد في صيغة المبرّئ . ويترتّب كذلك سقوط حقّ المطالبة ، فلا تسمع الدّعوى فيما تناوله الإبراء إلى حين وقوعه ، دون ما يحدث بعده . ولا تقبل الدّعوى بعد ذلك بحجّة الجهل أو النّسيان .
إلاّ أنّ المالكيّة قيّدوا ذلك بما إذا لم يكن الإبراء مع الصّلح . فإذا كان الإبراء مع الصّلح ، أو وقع بعد الصّلح إبراءٌ عامٌّ ، ثمّ ظهر خلافه فله نقضه ، لأنّه إبراءٌ على دوام صفة الصّلح لا إبراءٌ مطلقٌ ، إلاّ إذا التزم في الصّلح عدم القيام عليه ولو ببيّنةٍ فلا تسمع الدّعوى .
هذا ، مع استثناء الحنفيّة من الإبراء بعض المسائل ، كضمان الدّرك ( استحقاق المبيع ) ، وكدعوى الوكالة والوصاية ، وكادّعاء الوارث ديناً للميّت على رجلٍ ، وفي ذلك تفصيلٌ كثيرٌ ينظر في ( إبراءٌ - دعوى ) .
( 11 ) الإبراء العامّ يمنع الدّعوى بالحقّ قضاءً لا ديانةً ، إن كان بحيث لو علم بماله من الحقّ لم يبرّئه ، كما في الفتاوى الولوالجية . لكن في خزانة الفتاوى : الفتوى على أنّه يبرّأ قضاءً وديانةً وإن لم يعلم به .
وعند الشّافعيّة : لو أبرأه في الدّنيا دون الآخرة برّئ فيهما ، لأنّ أحكام الآخرة مبنيّةٌ على أحكام الدّنيا ، وهو أحد قولين عند المالكيّة ، ذكرهما القرطبيّ في شرح مسلمٍ .
بطلان الإسقاط :
67 - للإسقاط أركانٌ ، ولكلّ ركنٍ شروطه الخاصّة ، فإذا لم يتحقّق شرطٌ من الشّروط الّتي سبق بيانها بطل الإسقاط ، أي بطل حكمه ، فلا ينفذ . ومن أمثلة ذلك : أنّه يشترط في المسقط أن يكون بالغاً عاقلاً ، فإذا كان المتصرّف بالإسقاط صبيّاً أو مجنوناً فلا يصحّ الإسقاط ولا ينفذ . ولو كان التّصرّف بالإسقاط منافياً للمشروع ، فإنّه يكون تصرّفاً باطلاً ولا يسقط بالإسقاط ، كإسقاط الولاية ، أو إسقاط حدٍّ من حدود اللّه . وكذلك الإسقاط لا يرد على الأعيان ، ويعتبر إسقاطها باطلاً . ولذلك خرّجه الفقهاء على إسقاط الضّمان .
وقد يقع الإسقاط صحيحاً ، لكن يبطل إذا ردّه المسقط عنه ، عند من يقول أنّه يرتدّ بالرّدّ كالحنفيّة . في قاعدةٍ ذكرها الحنفيّة هي : أنّه إذا بطل الشّيء بطل ما في ضمنه ، قلو أبرأه ضمن عقدٍ فاسدٍ فسد الإبراء . وأغلب هذه المسائل وردت فيما سبق في البحث .

إسكارٌ *
التعريف :
1 - الإسكار لغةً : مصدر أسكره الشّراب . وسكر سكراً ، من باب تعب ، والسّكر اسمٌ منه ، أي أزال عقله . والإسكار في اصطلاح الفقهاء : تغطية العقل بما فيه شدّةٌ مطربةٌ كالخمر . ويرى جمهور الفقهاء أنّ ضابط الإسكار هو أن يختلط كلامه ، فيصير غالب كلامه الهذيان ، حتّى لا يميّز بين ثوبه وثوب غيره عند اختلاطهما ، ولا بين نعله ونعل غيره ، وذلك بالنّظر لغالب النّاس . وقال أبو حنيفة : السّكران الّذي لا يعرف السّماء من الأرض ، ولا الرّجل من المرأة . ر : ( أشربةٌ ) .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإغماء :
2 - الإغماء آفةٌ تعطّل القوى المدركة عن أفعالها مع بقاء العقل مغلوباً .
ب - التّخدير :
3 - التّخدير تغشية العقل من غير شدّةٍ مطربةٍ .
ج- التّفتير :
4 - المفتّر ما من شأنه أن يضعف الأعضاء ويليّن الجسم بشدّةٍ ويسكّن حدّته .
الحكم الإجماليّ :
5 - تعاطي ما يحدث الإسكار محرّمٌ موجبٌ للحدّ ، حيث لا توجد شبهةٌ مسقطةٌ له . أمّا عند أبي حنيفة فالخمر محرّمةٌ بالنّصّ ، ويحدّ شارب القليل والكثير منها . وأمّا غير الخمر فلا يحرم ، ولا يحدّ شاربه إلاّ بالقدر الّذي أسكر فعلاً . وتفصيل ذلك في ( أشربةٌ ) .
كما أنّ للسّكر أثراً في التّصرّفات القوليّة الفعليّة ، كالطّلاق والبيوع والرّدّة والخطابات وغيرهما . وينظر في الملحق الأصوليّ ، باعتباره من عوارض الأهليّة ، وفي الحدود .
مواطن البحث :
6 - يبحث موضوع الإسكار في حدّ الشّرب ، عند الكلام عن ضابط الإسكار ، وفي أوصاف الخمريّة ، وفي علّة حدّ شارب الخمر ، وفي السّرقة عند أثر الإسكار في الإحراز .

إسكانٌ *
انظر : سكنى .
إسلامٌ *
التعريف :
1 - من معاني الإسلام في اللّغة : الإذعان والانقياد ، والدّخول في السّلم ، أو في دين الإسلام . والإسلام يكون أيضاً بمعنى : الإسلاف ، أي عقد السّلم ، يقال : أسلمت إلى فلانٍ في عشرين صاعاً مثلاً ، أي اشتريتها منه مؤجّلةً بثمنٍ حالٍّ .
أمّا في الشّرع فيختلف معناه تبعاً لوروده منفرداً ، أو مقترناً بالإيمان .
فمعناه منفرداً : الدّخول في دين الإسلام ، أو دين الإسلام نفسه . والدّخول في الدّين هو استسلام العبد للّه عزّ وجلّ باتّباع ما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم من الشّهادة باللّسان ، والتّصديق بالقلب ، والعمل بالجوارح .
ومعناه إذا ورد مقترناً بالإيمان هو : أعمال الجوارح الظّاهرة ، من القول والعمل كالشّهادتين والصّلاة وسائر أركان الإسلام . وإذا انفرد الإيمان يكون حينئذٍ بمعنى : الاعتقاد بالقلب والتّصديق باللّه تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرّه مع الانقياد .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإيمان :
2 - سبق تعريف الإسلام منفرداً ومقترناً بالإيمان . وهذا يتأتّى في تعريف الإيمان أيضاً . فالإيمان منفرداً : هو تصديق القلب بما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم والإقرار باللّسان والعمل به . أمّا إذا اقترن بالإسلام فإنّ معناه يقتصر على تصديق القلب ، كما جاء في حديث سؤال جبريل ونصّه : عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال : « بينما نحن جلوسٌ عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ ، إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثّياب ، شديد سواد الشّعر ، لا يرى عليه أثر السّفر ، ولا يعرفه منّا أحدٌ ، حتّى جلس إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفّيه على فخذيه ، وقال : يا محمّد أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : الإسلام : أن تشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً رسول اللّه ، وتقيم الصّلاة ، وتؤتي الزّكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلاً . قال : صدقت . قال : فعجبنا له يسأله ويصدّقه ، قال : فأخبرني عن الإيمان ، قال : أن تؤمن باللّه ، وملائكته وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه ، قال : صدقت » . الحديث .
إطلاق الإسلام على ملل الأنبياء السّابقين وأتباعهم :
3 - اختلف علماء الإسلام في ذلك ، فبعضهم يرى أنّ الإسلام يطلق على الملل السّابقة . واحتجّ بقوله تعالى : { شرع لكم من الدّين ما وصّى به نوحاً والّذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدّين ولا تتفرّقوا فيه } الآية ، وآياتٍ أخرى .
ويرى آخرون : أنّه لم توصف به الأمم السّابقة ، وإنّما وصف به الأنبياء فقط ، وشرّفت هذه الأمّة بأن وصفت بما وصف به الأنبياء ، تشريفاً لها وتكريماً .
ووجه اختصاص الأمّة المحمّديّة بهذا الاسم " الإسلام " هو : أنّ الإسلام اسمٌ للشّريعة المشتملة على العبادات المختصّة بهذه الأمّة ، من الصّلوات الخمس ، وصوم رمضان ، والغسل من الجنابة ، والجهاد ، ونحوها . وذلك كلّه مع كثيرٍ غيره خاصٍّ بهذه الأمّة ، ولم يكتب على غيرها من الأمم ، وإنّما كتب على الأنبياء فقط . ويؤكّد هذا المعنى - وهو اختصاص الأمّة المحمّديّة باسم الإسلام - قوله تعالى : { ملّة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين } . فالضّمير ( هو ) يرجع لإبراهيم عليه السلام ، كما يراه علماء السّلف لسابقيّة قوله في الآية الأخرى : { ربّنا واجعلنا مسلمين لك ، ومن ذرّيّتنا أمّةً مسلمةً لك } . فدعا بذلك لنفسه ولولده ، ثمّ دعا لأمّةٍ من ذرّيّته ، وهي هذه الأمّة فقال : { ربّنا وابعث فيهم رسولاً منهم } الآية ، وهو سيّدنا محمّدٌ صلى الله عليه وسلم فاستجاب اللّه دعاءه ، فبعث محمّداً إليهم ، وسمّاهم مسلمين . فاتّفق أئمّة السّلف على أنّ اللّه تعالى لم يذكر أمّةً بالإسلام غير هذه الأمّة ، ولم يسمع بأمّةٍ ذكرت به غيرها .
4 - وقال الإمام ابن تيميّة : وقد تنازع النّاس فيمن تقدّم من أمّة موسى وعيسى هل هم مسلمون أم لا ؟ فالإسلام الحاضر الّذي بعث اللّه به محمّداً صلى الله عليه وسلم المتضمّن لشريعة القرآن ، ليس عليه إلاّ أمّة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم والإسلام اليوم عند الإطلاق يتناول هذا .
وأمّا الإسلام العامّ المتناول لكلّ شريعةٍ بعث اللّه بها نبيّاً ، فإنّه إسلام كلّ أمّةٍ متّبعةٍ لنبيٍّ من الأنبياء . وعلى هذا الأساس يمكن أن تفهم كلّ الآيات الكريمة الّتي تعرّض فيها القرآن الكريم لهذه الكلمة مستعملةً بالنّسبة للأمم الأخرى ، إمّا على أنّها تشير إلى المعنى اللّغويّ لمادّة أسلم ، أو أنّها تشير إلى المعنى المشترك بين الشّرائع السّماويّة كلّها الّذي بعث اللّه به جميع الرّسل ، وإليه الإشارة في كثيرٍ من الآيات ، ومنها قوله تعالى : { ولقد بعثنا في كلّ أمّةٍ رسولاً أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطّاغوت } .
أثر الدّخول في الإسلام في التّصرّفات السّابقة :
5 - الأصل أنّ تصرّفات غير المسلمين مع المسلمين وغيرهم صحيحةٌ إلاّ ما جاء الإسلام بإبطاله ، كما يعلم في أبواب الفقه المختلفة .
وإذا كان من دخل في الإسلام متزوّجاً بأكثر من أربعٍ ، أو بمن يحرم الجمع بينهنّ ، كأختين ، فإنّه يجب عليه أن يفارق ما زاد على أربعٍ ، أو إحدى الأختين . واستدلّ له القرافيّ « بقول النّبيّ عليه الصلاة والسلام لغيلان لمّا أسلم على عشر نسوةٍ : أمسك أربعاً وفارق سائرهنّ » . وهل يلزمه فراق من عدا الأربع الّتي تزوّجهنّ أوّلاً ، أو من شاء ؟ في ذلك خلافٌ يرجع إليه في بابه . وكذلك في مسألة فراق أيّ الأختين شاء .
وإذا أسلم الزّوجان الكافران معاً ، قبل الدّخول أو بعده ، فهما على نكاحهما ، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم . إذا أسلم زوج الكتابيّة قبل الدّخول أو بعده ، أو أسلما معاً ، فالنّكاح باقٍ بحاله ، سواءٌ أكان زوجها كتابيّاً أو غير كتابيٍّ ، لأنّ للمسلم أن يبتدئ نكاح كتابيّةٍ ، فاستدامته أولى ، ولا خلاف في هذا بين القائلين بإجازة نكاح الكتابيّة .
وأمّا إن أسلمت الكتابيّة قبله وقبل الدّخول ، تعجّلت الفرقة ، سواءٌ أكان زوجها كتابيّاً أو غير كتابيٍّ ، إذ لا يجوز لكافرٍ نكاح مسلمةٍ . قال ابن المنذر : أجمع على هذا كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم ، والصّحيح أنّ في المسألة خلاف أبي حنيفة ، إذا كان في دار الإسلام ، فإنّه لا فرقة إلاّ بعد أن يعرض عليه الإسلام فيأبى . وإن كان إسلامهما بعد الدّخول فالحكم فيه كالحكم فيما لو أسلم أحد الزّوجين الوثنيّين على ما يأتي :
6 - وإذا أسلم أحد الزّوجين الوثنيّين ، أو المجوسيّين ، أو كتابيٌّ متزوّجٌ بوثنيّةٍ ، أو مجوسيّةٌ قبل الدّخول ، تعجّلت الفرقة بينهما من حين إسلامه ، ويكون ذلك فسخاً لا طلاقاً . وهذا مذهب أحمد والشّافعيّ . وقال الحنفيّة : لا تتعجّل الفرقة ، بل إن كانا في دار الإسلام عرض الإسلام على الآخر ، فإن أبى وقعت الفرقة حينئذٍ ، وإن أسلم استمرّت الزّوجيّة ، وإن كانا في دار الحرب وقف ذلك على انقضاء ثلاث حيضٍ ، أو مضيّ ثلاثة أشهرٍ ، وليست عدّةً ، فإن لم يسلم الآخر وقعت الفرقة . وقال مالكٌ : إن كانت هي المسلمة عرض عليه الإسلام ، أسلم وإلاّ وقعت الفرقة ، وإن كان هو المسلم تعجّلت الفرقة .
أمّا إن كان إسلام أحد الزّوجين الوثنيّين أو المجوسيّين أو زوجة الكتابيّ ، بعد الدّخول ، ففي المسألة ثلاثة اتّجاهاتٍ :
الأوّل : يقف الأمر على انقضاء العدّة ، فإن أسلم الآخر قبل انقضائها فهما على النّكاح ، وإن أسلم حتّى انقضت العدّة وقعت الفرقة منذ اختلف الدّينان ، فلا يحتاج إلى استئناف العدّة . وهذا قول الشّافعيّ ، وروايةٌ عن أحمد .
الثّاني . تتعجّل الفرقة . وهذا روايةٌ عن أحمد وقول الحسن وطاووسٍ .
الثّالث : يعرض الإسلام على الآخر إن كان في دار الإسلام ، وهو قول أبي حنيفة ، كقوله في إسلام أحدهما قبل الدّخول ، إلاّ أنّ المرأة إذا كانت في دار الحرب ، فانقضت مدّة التّربّص ، وهي ثلاثة أشهرٍ أو ثلاثة حيضٍ ، وقعت الفرقة ، ولا عدّة عليها بعد ذلك ، لأنّه لا عدّة على الحربيّة . وإن كانت هي المسلمة ، فخرجت إلينا مهاجرةً ، فتمّت الحيض هنا ، فكذلك عند أبي حنيفة . وقال الصّاحبان : عليها العدّة .
ما يلزم الكافر إذا أسلم من التّكاليف السّابقة على الإسلام :
7 - قال القرافيّ : إنّ أحوال الكافر مختلفةٌ إذا أسلم ، فيلزمه ثمن البياعات ، وأجر الإجارات ، ودفع الدّيون الّتي اقترضها ونحو ذلك ، ولا يلزمه من حقوق الآدميّين القصاص ، ولا الغصب والنّهب إن كان حربيّاً . وأمّا الذّمّيّ فيلزمه جميع المظالم وردّها ، لأنّه عقد الذّمّة وهو راضٍ بمقتضى عقد الذّمّة . وأمّا الحربيّ فلم يرض بشيءٍ ، فلذلك أسقطنا عنه الغصوب والنّهوب والغارات ونحوها .
وأمّا حقوق اللّه تعالى ممّا تقدّم في كفره ، فلا تلزمه وإن كان ذمّيّاً لا ظهارٌ ولا نذرٌ ولا يمينٌ من الأيمان ، ولا قضاء الصّلوات ، ولا الزّكوات ، ولا شيءٍ فرّط فيه من حقوق اللّه تعالى ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « الإسلام يجبّ ما كان قبله » وضابط الفرق : أنّ حقوق العباد قسمان : منها ما رضي به حالة كفره ، واطمأنّت نفسه بدفعه لمستحقّه ، هذا لا يسقط بالإسلام ، لأنّ إلزامه إيّاه ليس منفّراً له عن الإسلام لرضاه . وما لم يرض بدفعه لمستحقّه ، كالقتل والغصب ونحو ، فإنّ هذه الأمور إنّما دخل عليها معتمداً على أنّه لا يوفّيها أهلها ، فهذا كلّه يسقط ، لأنّ في إلزامه ما لم يعتقد لزومه تنفيراً له عن الإسلام ، فقدّمت مصلحة الإسلام على مصلحة ذوي الحقوق .
وأمّا حقوق اللّه تعالى فتسقط مطلقاً رضي بها أم لا . والفرق بينها وبين حقوق الآدميّين من وجهين : أحدهما : أنّ الإسلام حقٌّ للّه تعالى ، والعبادات حقٌّ للّه تعالى ، فلمّا كان الحقّان لجهةٍ واحدةٍ ناسب أن يقدّم أحدهما على الآخر ، ويسقط أحدهما الآخر ، لحصول الحقّ الثّاني لجهة الحقّ السّاقط . وأمّا حقّ الآدميّين فلجهة الآدميّين ، والإسلام ليس حقّاً لهم ، بل لجهة اللّه تعالى ، فناسب ألاّ يسقط حقّهم بتحصيل حقّ غيرهم .
وثانيهما : أنّ اللّه تعالى كريمٌ جوادٌ ، تناسب رحمته المسامحة ، والعبد بخيلٌ ضعيفٌ ، فناسب ذلك التّمسّك بحقّه ، فسقطت حقوق اللّه تعالى مطلقاً ، وإن رضي بها ، كالنّذور والأيمان ، أو لم يرض بها كالصّلوات . ولا يسقط من حقوق العباد إلاّ ما تقدّم الرّضى به ، فهذا هو الفرق بين القاعدتين .
الآثار اللاّحقة لدخول الإسلام :
8 - إذا أسلم الكافر أصبح كغيره من المسلمين ، له ما لهم من الحقوق ، وعليه ما عليهم من الواجبات . فتلزمه التّكاليف الشّرعيّة ، كالعبادات والجهاد . إلخ . وتجري عليه أحكام الإسلام ، كإباحة تولّي الولايات العامّة كالإمامة ، والقضاء ، والولايات الخاصّة الواقعة على المسلمين ... إلخ .
الأثر المترتّب على الإسلام فيما يتعلّق بالتّكاليف الشّرعيّة كالعبادات والجهاد وغيرها :
9 - الكافر في حال كفره هل هو مخاطبٌ بفروع الشّريعة ومكلّفٌ بها أم لا ؟ قال النّوويّ : المختار أنّ الكفّار مخاطبون بفروع الشّريعة المأمور بها ، والمنهيّ عنها ، ليزداد عذابهم في الآخرة . ويستوفي المسألة علماء الأصول في مباحث التّكليف ، فليرجع إليها .
فإذا أسلم الكافر فإنّه يعصم بذلك نفسه وماله وأولاده الصّغار ، كما في الحديث المعروف : « أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا : لا إله إلاّ اللّه ، فمن قالها فقد عصم منّي ماله ونفسه إلاّ بحقّه ، وحسابه على اللّه » وفي روايةٍ أخرى : « فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم ، إلاّ بحقّها ، لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين » فتثبت هذه العصمة للنّفس مباشرةً ، وللمال تبعاً لعصمة النّفس ، وتجري عليه أحكام الشّريعة الجارية على المسلمين تلك الّتي كانت ممنوعةً عنه بالكفر .
ويحصل التّوارث بينه وبين أقاربه المسلمين ، فيرثهم إن ماتوا ، ويرثونه كذلك . لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم » ولانعقاد الإجماع على ذلك . كما أنّه يحرم من إرث أقاربه الكفّار ، ويحلّ له تزوّج المسلمة ، كما يحرم عليه تزوّج المشركة من غير أهل الكتاب ، أي الوثنيّة .
وتبطل - في حقّ من أسلم - ماليّة الخمر والخنزير بعدما كان له ذلك ، وتلزمه جميع التّكاليف الشّرعيّة وفي مقدّمتها أركان الإسلام : الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ ، أصولاً وفروعاً ، بالنّسبة لجميع التّكاليف . وكذلك يفرض عليه الجهاد ، بعدما كان غير مطالبٍ به ، لحديث : « من مات ولم يغز ، ولم يحدّث به نفسه ، مات على شعبةٍ من نفاقٍ » وتحلّ الصّلاة خلفه ، والصّلاة عليه إذا مات ، وغسله وكفنه ودفنه في مقابر المسلمين ، إلى غير هذا من أحكامٍ تعرّضت لها كتب الفقه في كلّ المذاهب .
10 - إذا باع ذمّيٌّ لآخر خمراً وخنزيراً ، ثمّ أسلما ، أو أسلم أحدهما قبل القبض ، يفسخ البيع ، لأنّه بالإسلام حرم البيع والشّراء ، فيحرم القبض والتّسليم أيضاً ، أخذاً من قوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين } .
وقال ابن رشدٍ : لو أسلموا لأحرزوا بإسلامهم ما بأيديهم من الرّبا وثمن الخمر والخنزير ، لقول اللّه تعالى : { فمن جاءه موعظةٌ من ربّه فانتهى فله ما سلف } .
كما يجب على الّذي أسلم أن يهجر بلد الكفر وبلد الحرب . قال ابن رشدٍ : لقد وجب بالكتاب والسّنّة والإجماع على من أسلم ببلد الكفر أن يهجره ، ويلحق بدار المسلمين ، ولا يسكن بين المشركين ، ويقيم بين أظهرهم ، وذلك إذا كان لا يتمكّن من إقامة شعائر دينه ، أو يجبر على أحكام الكفر . وانظر تفصيل ذلك في مصطلح ( هجرةٌ ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ما يشترط لصحّته الإسلام :
11 - ممّا يشترط الإسلام لصحّته من التّصرّفات :
( 1 ) العقد على المرأة المسلمة .
( 2 ) ولاية عقد نكاحها .
( 3 ) الشّهادة على عقد نكاحها .
( 4 ) شركة المفاوضة ، وهي أن يتساوى الشّركاء في المال والدّين والتّصرّف . وأجازها أبو يوسف بين المسلم والذّمّيّ .
( 5 ) الوصيّة بمصحفٍ أو ما بمعناه ، فلا بدّ من كون الموصى له مسلماً .
( 6 ) النّذر ، فيشترط إسلام النّاذر ، لأنّ النّذر لا بدّ أن يكون قربةً ، وفعل الكافر لا يوصف بكونه قربةً . وهذا مذهب الحنفيّة والمالكيّة وظاهر مذهب الشّافعيّة . ويصحّ عند الحنابلة . قال صاحب كشّاف القناع : ويصحّ النّذر من كافرٍ ولو بعبادةٍ ، لحديث عمر رضي الله عنه قال : « قلت يا رسول اللّه : إنّي كنت نذرت في الجاهليّة أن أعتكف ليلةً ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك » .
(7) القضاء بين المسلمين .
(8) الولايات العامّة كلّها ، وهي الخلافة ، وما تفرّع منها ، من الولاية وإمارة الجيوش ، والوزارة والشّرطة ، والدّواوين الماليّة ، والحسبة ، وذلك لقوله تعالى : { ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً } .
(9) الشّهادة على المسلمين في غير حال ضرورة الوصيّة في السّفر ، لقوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } أي من رجال المسلمين . وقال الإمام ابن قيّم الجوزيّة الحنبليّ : أجاز اللّه سبحانه شهادة الكفّار على المسلمين في السّفر في الوصيّة للحاجة بقوله تعالى : { أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض } . ثمّ قال : وقول الإمام أحمد في قبول شهادته في هذا الموضع ضرورةٌ حضراً وسفراً ، ولو قيل تقبل شهادتهم مع أيمانهم في كلّ شيءٍ عدم فيه المسلمون لكان له وجهٌ ، ويكون بدلاً مطلقاً .
ب - الدّين ، أو الملّة :
12 - من معاني الدّين لغةً : العادة والسّيرة والحساب والطّاعة والملّة . وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم بمعانٍ متعدّدةٍ .
التّوحيد : كما في قوله تعالى : { إنّ الدّين عند اللّه الإسلام } .
الحساب : كقوله تعالى : { الّذين يكذّبون بيوم الدّين } .
الحكم : كقوله تعالى : { كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } .
الملّة : كقوله تعالى : { هو الّذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ } .
وكقوله تعالى : { وذلك دين القيّمة } يعني الملّة المستقيمة .
واصطلاحاً : يطلق الدّين على الشّرع ، كما يطلق على ملّة كلّ نبيٍّ . وقد يخصّ بملّة الإسلام ، كما قال تعالى : { إنّ الدّين عند اللّه الإسلام } .
13 - وعلى ضوء هذه المعاني اللّغويّة ، وعلى ضوء التّوجيه القرآنيّ الّذي سلك في استعمال هذه الكلمة بالمعاني الّتي ذكرناها ، أو بغيرها الّتي اشتمل عليها القرآن ، لا نكاد نلمس قرقاً جوهريّاً بين مسمّى الإسلام ومسمّى الدّين ، ما عدا العموم والخصوص .
ما يُخْرِج المرء عن الإسلام :
14 - كلّ ما يصير الكافر بالإقرار به مسلماً يكفر المسلم بإنكاره . وكذا كلّ ما يقطع الإسلام من نيّة كفرٍ ، أو قول كفرٍ ، أو فعل كفرٍ ، سواءٌ استهزاءً أم اعتقاداً أم عناداً . وقال القاضي أبو بكر بن العربيّ : كلّ من فعل فعلاً من خصائص الكفّار على أنّه دينٌ ، أو ترك فعلاً من أفعال المسلمين يدلّ على إخراجه من الدّين ، فهو كافرٌ بهذين الاعتقادين لا بالفعلين .
وفي الدّرّ المختار : لا يخرج الرّجل من الإيمان إلاّ جحود ما أدخله فيه ، ثمّ ما تيقّن أنّه ردّةٌ يحكم بها ، وما يشكّ أنّه ردّةٌ لا يحكم به ، إذ الإسلام الثّابت لا يزول بالشّكّ ، مع أنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه . وفي الخلاصة وغيرها ، إذا كان في المسألة وجوهٌ توجب التّكفير ووجهٌ واحدٌ يمانعه فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الّذي يمنع التّكفير تحسيناً للظّنّ بالمسلم ، إلاّ إذا صرّح بإرادة موجب الكفر فلا ينفع التّأويل . وللتّفصّل يرجع إلى مصطلح ( ردّةٌ ) .
ما يصير به الكافر مسلماً :
15 - ذكر الفقهاء أنّ هناك طرقاً ثلاثةً يحكم بها على كون الشّخص مسلماً وهي :
النّصّ - والتّبعيّة - والدّلالة .
أمّا النّصّ فهو أن يأتي بالشّهادتين صريحاً .
وأمّا التّبعيّة فهي أن يأخذ التّابع حكم المتبوع في الإسلام ، كما يتّبع ابن الكافر الصّغير أباه إذا أسلم مثلاً ، وسيأتي الكلام عليها مستوفًى .
وأمّا طريق الدّلالة فهي سلوك طريق الفعل للدّخول في الإسلام .
أوّلاً : الإسلام النّصّ :
وهو النّطق بالشّهادتين وما يقوم مقام النّطق ، والبرء من كلّ دينٍ غير دين الإسلام .
16 - يكفي كلّ الكفاية التّصريح بالشّهادة بوحدانيّة اللّه تعالى وتقديسه ، مدعّماً بالتّصديق الباطنيّ والاعتقاد القلبيّ الجازم بالرّبوبيّة والإقرار بالعبوديّة له تعالى ، والتّصريح كذلك بكلمة الشّهادة برسالة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند اللّه من أصول العقائد وشرائع الإسلام ، من صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وحجٍّ ، فليس هناك عنوانٌ في قوّته ودلالته على التّحقّق من هذه العقيدة الكاملة أصرح من النّطق بصيغتي الشّهادتين : " أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأشهد أنّ محمّداً رسول اللّه ".
فالكافر الّذي أنار اللّه بصيرته وأشرقت على قلبه أنوار اليقين ، ويريد أن يعتنق الإسلام فلا بدّ له من التّلفّظ بالشّهادتين عند التّمكّن والقدرة على ذلك ، بخلاف غير القادر كالأخرس ، ومن غير المتمكّن كالخائف والشّرق ومن عاجلته المنيّة ، وكلّ من قام به عذرٌ يمنعه النّطق ، فنصدّق عذره إن تمسّك به بعد زوال المانع . ولا لزوم لأن تكون صيغتهما بالعربيّة حتّى بالنّسبة لمن يحسنها . وأمّا من يرى اختصاص رسالة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم بالعرب ، فلا بدّ أن يقرّ بعموم رسالته . وأمّا المسلم أصالةً ، أي من كان من أبناء المسلمين ، فهو مسلمٌ تبعاً لوالديه ، ومحمولٌ على ذلك ، ولو لم ينطق بالشّهادتين طوال عمره .
وأوجبها عليه بعضهم ولو مرّةً في العمر .
17 - وقد ذهب جمهور المحقّقين إلى أنّ التّصديق بالقلب كافٍ في صحّة مطلق الإيمان بينه وبين اللّه . وأمّا الإقرار بالشّهادتين فإنّه شرطٌ لإجراء الأحكام الدّنيويّة عليه فقط ، ولا يحكم عليه بكفرٍ إلاّ إن اقترن به فعلٌ يدلّ على كفره كالسّجود للصّنم .
إذن فحكم الإسلام في الظّاهر يثبت بالشّهادتين ، أو ما يؤدّي معناهما لتقام عليه أحكام الشّريعة فيما له وما عليه كما سيأتي . وقد جاء في الحديث الشّريف عن الشّريد بن سويدٍ الثّقفيّ قال : « قلت يا رسول اللّه : إنّ أمّي أوصت أن أعتق عنها رقبةً مؤمنةً ، وعندي جاريةٌ سوداء نوبيّةٌ أفأعتقها ؟ قال : ادعها ، فدعوتها فجاءت فقال : من ربّك ؟ قالت : اللّه ، قال : فمن أنا ؟ قالت : رسول اللّه ، قال : اعتقها فإنّها مؤمنةٌ » .
وقد قال الإمام النّوويّ : اتّفق أهل السّنّة من المحدّثين والفقهاء والمتكلّمين على أنّ المؤمن الّذي يحكم بأنّه من أهل القبلة ولا يخلّد في النّار لا يكون إلاّ من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقاداً جازماً حاليّاً من الشّكوك ونطق بالشّهادتين .
18 - فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة إلاّ إذا عجز عن النّطق لخللٍ في لسانه ، أو لعدم التّمكّن منه لمعاجلة المنيّة له ، أو لغير ذلك فإنّه يكون مؤمناً ، أمّا إذا أتى بالشّهادتين فلا يشترط معهما أن يقول : أنا بريءٌ من كلّ دينٍ خالف الإسلام ، إلاّ إذا كان من الكفّار الّذين يعتقدون اختصاص رسالة سيّدنا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم للعرب ، فإنّه لا يحكم بإسلامه إلاّ بأن يستبرأ . أمّا إذا اقتصر على قوله : لا إله إلاّ اللّه ، ولم يقل : محمّدٌ رسولٌ اللّه ، فالمشهور من مذهب الشّافعيّ ومذاهب العلماء أنّه لا يكون مسلماً ، ومن أصحابنا الشّافعيّة من قال : يكون مسلماً ، ويطالب بالشّهادة الأخرى ، فإن أبى جعل مرتدّاً ، ويحتجّ لهذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم : « أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه ، فمن قالها فقد عصم منّي ماله ونفسه إلاّ بحقّها ، وحسابه على اللّه » .
وهذا محمولٌ عند الجماهير على قول الشّهادتين ، واستغني بذكر إحداهما عن الأخرى لارتباطهما وشهرتهما . وجاء في فتح القدير : سئل أبو يوسف عن الرّجل كيف يسلم ، فقال : يقول أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً رسول اللّه ، ويقرّ بما جاء من عند اللّه ، ويتبرّأ من الدّين الّذي انتحله . وفيه أنّ النّصرانيّ يقول : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، ويتبرّأ من النّصرانيّة ، وكذا اليهوديّة وغيرها . وأمّا من في دار الحرب فيحمل على الإسلام إذا قال : محمّدٌ رسول اللّه ، أو قال : دخلت دين الإسلام ، أو دخلت دين محمّدٍ صلى الله عليه وسلم فهو دليل إسلامه ، فكيف إذا أتى بالشّهادتين . وأمّا توبة المرتدّ فهو أن يتبرّأ من كلّ دينٍ غير دين الإسلام ، بعد أن يأتي بالشّهادتين ، وأن يتبرّأ ممّا انتقل إليه .
أركان الإسلام
أركان الإسلام خمسةٌ :
19 - جاءت الآيات القرآنيّة الكريمة مجملةً بالأوامر والأحكام فيما يخصّ هذه الأركان ، وكذلك في السّنّة النّبويّة أحاديث كثيرةٌ ، فمن ذلك ما رواه عمر بن الخطّاب قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « بني الإسلام على خمسٍ : شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً رسول اللّه ، وإقام الصّلاة ، وإيتاء الزّكاة ، والحجّ ، وصوم رمضان » . رواه البخاريّ ومسلمٌ . وأيضاً الحديث السّابق المشهور بحديث جبريل .
الرّكن الأوّل : شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً رسول اللّه :
20 - هذه الشّهادة من أوّل ما يدخل به المرء في الإسلام ، فكانت أوّل واجبٍ على المكلّف يتحتّم عليه أداؤه تصديقاً واعتقاداً ونطقاً . وأئمّة السّلف كلّهم متّفقون على أنّ أوّل ما يؤمر به العبد الشّهادتان . وقد كانت رسالات كلّ الرّسل تدعو إلى التّوحيد الّذي تضمّنته هذه الكلمة ، والإقرار بالألوهيّة والرّبوبيّة للّه سبحانه وتعالى . وقد جاء في القرآن الكريم : { وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلاّ نوحي إليه أنّه لا إله إلاّ أنا فاعبدون } فكانت هذه الكلمة أوّل ما يدخل به المرء في الإسلام ، وإذا كانت آخر ما يخرج به المسلم من الدّنيا دخل بها الجنّة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « من كان آخر كلامه لا إله إلاّ اللّه دخل الجنّة » . والإيمان أيضاً برسالة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم هو إيمانٌ بجميع ما جاء به من عند اللّه وما تتضمّنه رسالته ، وإيمانٌ بجميع الرّسل ، وتصديقٌ برسالاتهم . والجمع بين هذين الأصلين في هذا الرّكن الرّكين الّذي يسبق كلّ الأركان تتحقّق به باقي الأركان .
الرّكن الثّاني : إقام الصّلاة .
21 - الصّلاة لغةً بمعنى الدّعاء ، وقد أضاف الشّرع إلى الدّعاء ما شاء من أقوالٍ وأفعالٍ وسمّي مجموع ذلك الصّلاة ، أو هي منقولةٌ من الصّلة الّتي تربط بين شيئين ، فهي بذلك صلةٌ بين العبد وربّه ، وفرضت ليلة الإسراء بمكّة قبل الهجرة بسنةٍ .
ووجوب الصّلوات الخمس من المعلوم من الدّين بالضّرورة بالكتاب والسّنّة والإجماع . فمن جحدها كلّها أو بعضها فهو كافرٌ مرتدٌّ .
أمّا من أقرّ بوجوبها وامتنع من أدائها ، فقيل : فاسقٌ يقتل حدّاً إن تمادى على الامتناع ، وقيل : من تركها متعمّداً أو مفرّطاً فهو كافرٌ يقتل كفراً .
وقد جاءت الآيات الكثيرة من القرآن الكريم دالّةٌ على ذلك ، منها قوله تعالى : { وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة } وقوله تعالى : { إنّ الصّلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } ، وغيرها كثيرٌ . أمّا الأحاديث النّبويّة فمنها « سئل صلى الله عليه وسلم : أيّ الأعمال أفضل ؟ فقال : الصّلاة لمواقيتها » إلى غير ذلك . ر : ( صلاةٌ ) .
الرّكن الثّالث : إيتاء الزّكاة .
22 - الزّكاة لغةً : النّموّ والزّيادة . يقال : زكا الشّيء إذا نما وكثر ، إمّا حسّاً كالنّبات والمال ، أو معنًى كنموّ الإنسان بالفضائل والصّلاح .
وشرعاً : إخراج جزءٍ من مالٍ مخصوصٍ لقومٍ مخصوصين بشرائط مخصوصةٍ ، وسمّيت صدقة المال زكاةً ، لأنّها تعود بالبركة في المال الّذي أخرجت منه وتنمّيه . وركنيّتها ووجوبها ثابتان بالكتاب والسّنّة والإجماع . فمن جحد وجوبها مرتدٌّ ، لإنكاره ما قام من الدّين ضرورةً . ومن أقرّ بوجوبها وامتنع من أدائها أخذت منه كرهاً ، بأن يقاتل ويؤدّب على امتناعه عن أدائها . وقرنت بالصّلاة في القرآن الكريم في اثنين وثمانين آيةً .
وفرضت في مكّة مطلقةً أوّلاً ، وفي السّنة الثّانية من الهجرة حدّدت الأنواع الّتي تجب فيها ، ومقدار النّصاب في كلٍّ ر : ( زكاةٌ ) .
الرّكن الرّابع : الصّيام .
23 - الصّوم لغةً : مطلق الإمساك والكفّ ، فكلّ من أمسك عن شيءٍ يقال فيه : صام عنه . وفي الشّرع : الإمساك عن شهوتي الفرج والبطن يوماً كاملاً بنيّة التّقرّب .
ووجوبها وركنيّتها ثابتان بالكتاب والسّنّة والإجماع . قال اللّه تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون أيّاماً معدوداتٍ } . وقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشّهر فليصمه } . ومن السّنّة قوله صلى الله عليه وسلم : « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته » ر : ( صيامٌ ) .
الرّكن الخامس : الحجّ .
24 - الحجّ في اللّغة : القصد . وشرعاً : القصد إلى البيت الحرام بشرائط مخصوصةٍ وفي أيّامٍ مخصوصةٍ . والأصل في وجوبه قوله تعالى : { وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً } وقوله تعالى : { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه } . ومن السّنّة قوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه فرض عليكم الحجّ فحجّوا » .
فركنيّته ووجوبه ثابتان بالكتاب والسّنّة والإجماع ، وهو معلومٌ من الدّين بالضّرورة ، فمن جحد ذلك فهو كافرٌ . ومن أقرّ به وتركه فاللّه حسبه ، لا يتعرّض إليه بشيءٍ ، لتوقّفه على الاستطاعة وسقوطه بعدمها . ر : ( حجٌّ ) .
ثانياً : الإسلام بالتّبعيّة
إسلام الصّغير بإسلام أحد أبويه :
25 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا أسلم الأب وله أولادٌ صغارٌ ، أو من في حكمهم - كالمجنون إذا بلغ مجنوناً - فإنّ هؤلاء يحكم بإسلامهم تبعاً لأبيهم .
وذهب الجمهور ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إلى أنّ العبرة بإسلام أحد الأبوين ، أباً كان أو أمّاً ، فيحكم بإسلام الصّغار بالتّبعيّة ، لأنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، لأنّه دين اللّه الّذي ارتضاه لعباده . وقال مالكٌ : لا عبرة بإسلام الأمّ أو الجدّ ، لأنّ الولد يشرف بشرف أبيه وينتسب إلى قبيلته . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ إسلام الجدّ - وإن علا - يستتبع الحكم بإسلام الأحفاد الصّغار ومن في حكمهم ، ولو كان الأب حيّاً كافراً ، وذلك لقوله تعالى : { والّذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيّتهم بإيمانٍ ألحقنا بهم ذرّيّتهم } .
وقال الثّوريّ : إذا بلغ الصّبيّ يخيّر بين دين أبويه ، فأيّهما اختار كان على دينه .
الإسلام بالتّبعيّة لدار الإسلام :
26 - يدخل في ذلك الصّغير إذا سبي ولم يكن معه أحدٌ من أبويه ، إذا أدخله السّابي إلى دار الإسلام . وكذلك لقيط دار الإسلام ، حتّى لو كان ملتقطه ذمّيّاً . وكذلك اليتيم الّذي مات أبواه وكفله أحد المسلمين ، فإنّه يتّبع كافله وحاضنه في الدّين ، كما صرّح بذلك ابن القيّم . وانفرد الحنابلة بأنّ الولد يحكم بإسلامه إذا مات واحدٌ من أبويه الذّمّيّين ، واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كلّ مولودٍ يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه » .
ثالثاً : الإسلام بالدّلالة :
27 - قال ابن نجيمٍ : الأصل أنّ الكافر متى فعل عبادةً فإن كانت موجودةً في سائر الأديان لا يكون بها مسلماً ، كالصّلاة منفرداً ، والصّوم ، والحجّ الّذي ليس بكاملٍ ، والصّدقة ، ومتى فعل ما اختصّ بشرعنا ، ولو من الوسائل كالتّيمّم . وكذلك ما كان من المقاصد أو من الشّعائر ، كالصّلاة بجماعةٍ والحجّ الكامل والأذان في المسجد وقراءة القرآن ، يكون به مسلماً ، وإليه أشار في المحيط وغيره . وقد اعتبر الفقهاء جملةً من الأفعال تقوم دلالةً على كون الشّخص مسلماً ، ولو لم يعرف عنه النّطق بالشّهادتين .
أ - الصّلاة :
28 - يرى الحنفيّة والحنابلة أنّه يحكم بإسلام الكافر بفعل الصّلاة . لكن قال الحنابلة : يحكم بإسلامه بالصّلاة سواءٌ في دار الحرب أو دار الإسلام ، وسواءٌ صلّى جماعةً أو فرداً ، فإن أقام بعد ذلك على الإسلام ، وإلاّ فهو مرتدٌّ تجري عليه أحكام المرتدّين .
وإن مات قبل ظهور ما ينافي الإسلام فهو مسلمٌ ، يرثه ورثته المسلمون دون الكافرين ، واحتجّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّي نهيت عن قتل المصلّين » وقوله : « العهد الّذي بيننا وبينهم الصّلاة » وقوله : « من صلّى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الّذي له ذمّة اللّه وذمّة رسوله ، فلا تخفروا اللّه في ذمّته » . فجعلها حدّاً بين الإيمان والكفر ، فمن صلّى فقد دخل في حدّ الإسلام ، ولأنّها عبادةٌ تختصّ بالمسلمين فالإتيان بها إسلامٌ ، كالشّهادتين .
وقال الحنفيّة : لا يحكم بإسلامه بالصّلاة إلاّ إن صلاّها كاملةً في الوقت مأموماً في جماعةٍ ، إلاّ أنّ محمّد بن الحسن يرى أنّه حتّى لو صلّى وحده مستقبل القبلة فإنّه يحكم بإسلامه ، وقال المالكيّة وبعض الشّافعيّة : لا يحكم بإسلام الكافر بمجرّد صلاته ، لأنّ الصّلاة من فروع الإسلام ، فلم يصر مسلماً بفعلها ، كالحجّ والصّيام ، ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلاّ اللّه وأنّي رسول اللّه ، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها » . وقال بعضهم : إن صلّى في دار الإسلام فليس بمسلمٍ ، لأنّه قد يقصد الاستتار بالصّلاة وإخفاء دينه ، وإن صلّى في دار الحرب فهو مسلمٌ ، لأنّه لا تهمة في حقّة . والدّليل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « من صلّى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الّذي له ذمّة اللّه وذمّة رسوله فلا تخفروا اللّه في ذمّته » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا رأيتم الرّجل يتعاهد المساجد فاشهدوا له بالإيمان » فإنّ اللّه يقول : { إنّما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه واليوم الآخر وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة ولم يخش إلاّ اللّه فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } .
قال ابن قدامة : من صلّى حكمنا بإسلامه ظاهراً ، أمّا صلاته في نفسه فأمرٌ بينه وبين اللّه تعالى . فالرّجل يتعهّد المساجد ويرتادها لإقامة الصّلوات في أوقاتها والإنصات فيها لما يتلى من آيات اللّه ، وما يلقى فيها من العبر والعظات ، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، مع العلم بأنّ المساجد لا يرتادها إلاّ المؤمنون الطّائعون والمخلصون في إيمانهم للّه ، فلا جرم إن كان هذا الحديث النّبويّ يشير إلى أنّ هذا الارتياد هو أمارةٌ على الإيمان ، يشهد له قوله تعالى : { إنّما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه واليوم الآخر } . الآية .
ب - الأذان :
29 - ويحكم بإسلام الكافر بالأذان في المسجد وفي الوقت ، لأنّه من خصائص ديننا وشعار شرعنا ، وليس لمجرّد أنّه يشتمل على الشّهادتين ، بل لأنّه من قبيل الإسلام بالفعل .
ج - سجود التّلاوة :
30 - ويحكم بإسلام الكافر بسجود التّلاوة ، لأنّه من خصائصنا ، فإنّه سبحانه أخبر عن الكفّار في قوله تعالى : { وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون } .
د - الحجّ :
31 - وكذلك لو حجّ ، وتهيّأ للإحرام . ولبّى وشهد المناسك مع المسلمين ، فإنّه يحكم بإسلامه . وإن لبّى ولم يشهد المناسك ، أو شهدها ولم يلبّ ، فلا يحكم بإسلامه .

إسلامٌ *
انظر : سلمٌ .
إسلافٌ *
انظر : سلفٌ .
إسنادٌ *
التعريف :
1 - الإسناد لغةً يكون :
أ - بمعنى إمالة الشّيء إلى الشّيء حتّى يعتمد عليه .
ب - ويأتي أيضاً بمعنى رفع القول إلى قائله ونسبته إليه .
ويأتي اصطلاحاً لمعانٍ :
أ - إعانة الغير ، كالمريض مثلاً ، بتمكينه من التّوكّؤ على المسند ، ونحوه إسناد الظّهر إلى الشّيء . وتفصيل الكلام في الإسناد بهذا المعنى يأتي تحت عنواني : ( استنادٌ ) ( وإعانةٌ ) .
ب - ما يذكر لتقوية القضيّة المدّعاة . والكلام فيه تحت عنواني ( إثباتٌ ) ( وسندٌ ) .
ج - الإضافة ، ومنه قولهم : إسناد الطّلاق إلى وقتٍ سابقٍ وتفصيله في مصطلح ( إضافةٌ ) .
د - الطّريق الموصّل إلى متن الحديث . وبيانه فيما يلي :
الإسناد بمعنى الطّريق الموصّل إلى متن الحديث :
2 - هذا الاصطلاح هو للأصوليّين والمحدّثين ، وله عندهم إطلاقان :
الأوّل : أنّ إسناد الحديث هو ذكر سنده ، وهو ضدّ الإرسال . والسّند : سلسلة رواته بين القائل والرّاوي الأخير . وهذا الاصطلاح في الإسناد هو الأشهر عند المحدّثين .
الثّاني : ونقله ابن الصّلاح عن ابن عبد البرّ ، أنّ الإسناد هو رفع الحديث إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم . فمقابل الحديث المسند - على هذا القول - الحديث الموقوف ، وهو ما لم يرفع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم . بل هو من قول الصّحابيّ .
والمقطوع : وهو ما انتهى إلى التّابعيّ .
العلاقة بين الإسناد والسّند :
3 - السّند :
السّند هو الطّريق الموصّل إلى متن الحديث . والمراد بالطّريق : سلسلة رواة الحديث ، والمراد بمتن الحديث : ألفاظ الحديث المرويّة . وأمّا الإسناد فهو ذكر ذلك الطّريق وحكايته والإخبار به . فبين ( الإسناد ) ( والسّند ) تباينٌ . وهذا الوجه هو المشهور في التّفريق بين الاصطلاحين . قال السّخاويّ : هو الحقّ .
ونقل السّيوطيّ في التّفريق بين الاصطلاحين خلاف هذا . قال : قال ابن جماعة والطّيبيّ : السّند هو الإخبار عن طريق المتن ، وأمّا الإسناد فهو رفع الحديث إلى قائله . هذا ما نصّوا عليه في الفرق بين الاصطلاحين ، ولكن باستقراء مواضع من كلام المحدّثين نجدهم يستعملون الإسناد بمعنى السّند كثيراً بنوعٍ من التّساهل أو المجاز ، حتّى لقد قال ابن جماعة : المحدّثون يستعملون السّند والإسناد بمعنًى واحدٍ .
منزلة الإسناد :
4 - يقول الأصوليّون : إنّ الاحتجاج بالسّنة موقوفٌ بالنّسبة إلينا على السّند ، بأن يقول المحتجّ بها : حدّثني فلانٌ من غير واسطةٍ ، أو بواسطةٍ أنّه صلى الله عليه وسلم قال : أو فعل ، أو أقرّ كذا .. وإن لم يكن الاحتجاج موقوفاً على السّند بالنّسبة إلى الصّحابة ، أي لسماعهم الأحاديث من النّبيّ صلى الله عليه وسلم مباشرةً . ومباشرتهم لرؤية أفعاله . وهذا في غير المتواتر ، أمّا المتواتر فيغني تواتره عن بيان إسناده . وقد نقل مسلمٌ في مقدّمة صحيحه عن عبد اللّه بن المبارك رضي الله عنه أنّه قال : الإسناد من الدّين ، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء . وقال الشّافعيّ رضي الله عنه : الّذي يطلب الحديث بلا سندٍ كحاطب ليلٍ يحمل حزمة حطبٍ وفيه أفعى وهو لا يدري .
5 - وإنّما احتيج إلى الإسناد للحاجة إلى ضبط المرويّات والتّوثّق منها ، وظهرت تلك الحاجة بعدما شرع أهل الأهواء في افتراء أحاديث يقوّون بها ما يذهبون إليه .
قال ابن سيرين : لم يكونوا يسألون عن الإسناد ، فلمّا وقعت الفتنة قالوا : سمّوا لنا رجالكم ، فينظر إلى أهل السّنّة فيؤخذ حديثهم ، وإلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم .
الإسناد وثبوت الحديث :
6 - إن كان إسناد الحديث صحيحاً لم يلزم منه صحّة المتن وثبوته ، لاحتمال كون الحديث شاذّاً ، أو لاحتمال وجود علّةٍ قادحةٍ . فإنّ الحديث إنّما يكون صحيحاً إذا جمع إلى صحّة الإسناد السّلامة من الشّذوذ والعلّة . إلاّ أنّ بعضهم ذكر أنّ أئمّة نقد الحديث إذا قال الواحد منهم في حديثٍ : إنّه صحيح الإسناد ، ولم يقدح فيه فالظّاهر منه الحكم على الحديث بأنّه صحيحٌ في نفسه ، لأنّ عدم العلّة والقادح هو الأصل والظّاهر . كذا ذكره ابن الصّلاح في مقدّمته . ولا يلزم من صحّة الحديث ظاهراً أنّه مقطوعٌ بصحّته في نفس الأمر ، لجواز الخطّ أو النّسيان على الثّقة . ولكنّ إسناد الحديث ليس بشرطٍ لصحّة الحديث المرسل ، ويحتجّ به إن كان الّذي أرسله ثقةٌ ، وهو قول الأئمّة الثّلاثة : أبي حنيفة ومالكٍ وأحمد ، وقيل في تعليل ذلك : من أسند فقد أحالك ، ومن أرسل فقد تكفّل لك ، أي بالصّحّة . ولا يقبله الإمام الشّافعيّ إلاّ إن اعتضد بما يقوّيه . وفي المسألة تفصيلاتٌ أخرى . انظر ( إرسالٌ ) .
والصّحيح أنّ المسند من الأحاديث أقوى من المرسل .
صفات الأسانيد :
7 - يوصف الإسناد بصفاتٍ مختلفةٍ ، فقد يوصف مثلاً بالعلوّ أو بالنّزول . فإن كانت الوسائط قليلةً فهو إسنادٌ عالٍ ، وإن كانت كثيرةً فهو نازلٌ .
كما يوصف الإسناد بالقوّة والصّحّة ، أو بالحسن أو بالضّعف ، وقد يقال : إسنادٌ معنعنٌ ، أو مدلّسٌ ، أو غريبٌ ، أو غير ذلك . ويعرف ذلك كلّه بالرّجوع إلى مواطنه من كتب علوم الحديث أو أبواب السّنّة من الملحق الأصوليّ .
ما يحتاج إلى الإسناد . والإسناد في العصر الحديث :
8 - يحتاج إلى الإسناد كلّ ما يحتجّ به ممّا ليس بمتواترٍ ، ومن ذلك ثبوت القراءات القرآنيّة بالإسناد . ومنه أيضاً ثبوت الأحاديث النّبويّة القوليّة والفعليّة المرويّة بالإسناد . وقد دخل الإسناد في رواية الكتب المؤلّفة في علوم الدّين ، حتّى إنّه دخل في رواية كتب اللّغة والأدب والتّاريخ وغيرها . إلاّ أنّ الإسناد ترك غالباً في هذه الأعصر الأخيرة ، حتّى في كتب الحديث . ولعلّ ذلك اكتفاءً من العلماء بتواتر تلك الكتب عن مؤلّفيها ، كالبخاريّ ومسلمٍ وأبي داود ، أو لشهرتها عنهم ، ممّا يغني عن إيراد الأسانيد ، ونظراً لطول الأسانيد ونزولها بدرجةٍ تضعّفت الثّقة بها ، فلا تكاد تكافئ ما قد يبذل فيها من الجهود . ومع ذلك ففي إحيائها بركة المحافظة على هذه الخصّيصة من خصائص ، الأمّة الإسلاميّة .

إسهامٌ *
التعريف :
1 - الإسهام في اللّغة يأتي بمعنيين : الأوّل : جعل الشّخص صاحب حصّةٍ أو نصيبٍ ، يقال : أسهمت له بألفٍ ، يعني أعطيته ألفاً . ويصبح الشّخص ذا سهمٍ في أمورٍ منها : الميراث ، والقسمة ، والغنيمة ، والفيء ، والنّفقة ، والشّرب إن كان له استحقاقٌ في ذلك .
والثّاني : الإقراع . يقال : أسهم بينهم ، أي أقرع بينهم . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذين المعنيين .
الإسهام بالمعنى الأوّل : جعل الشّخص صاحب حصّةٍ :
2 - الإسهام في جميع حالات الاشتراك ، كالاشتراك في الهدي ، يجعل لكلٍّ من المشتركين سهماً فيه . والاشتراك في العمل يجعل لكلٍّ من المشتركين سهماً من الرّبح أو تحمل الخسارة . كما يثبت الإسهام لكلٍّ من الشّركاء نصيباً في الشّفعة . والاشتراك في الرّهن - إذا رهن عيناً عند اثنين - يجعل لكلٍّ من المرتهنين حظّاً في حفظها .
والاشتراك في الجناية الخطأ يوجب على كلٍّ من الجناة حظّاً من الدّية ، ومن ذلك إسهام العاقلة في تحمّل الدّية في جناية الخطأ . وقد فصّل الفقهاء ذلك في أبوابه الخاصّة به .
الإسهام بالمعنى الثّاني : القرعة :
3 - اتّفق الفقهاء على جواز القرعة إذا كانت لتطييب القلوب ، بل هي مندوبةٌ في ذلك ، كإقراع المسافر بين نسائه لإخراج من يسافر بها منهنّ ، والإقراع بينهنّ لتعيين من يبدأ بها في القسمة ، ونحو ذلك . كما اتّفقوا على مشروعيّة القرعة لتعيين الحقّ في القسمة بعد الإفراز ، قطعاً للخلاف وتطييباً للقلوب .
ولكنّهم اختلفوا في مشروعيّة القرعة لإثبات حقّ البعض وإبطال حقّ البعض الآخر ، كمن طلّق إحدى زوجتيه ثمّ مات ولم يعيّن . فأنكر الحنفيّة أن يتمّ التّعيين بالقرعة ، وأقرّ ذلك غيرهم . وقد فصّل الفقهاء ذلك في أبواب العتق والنّكاح والقسمة والطّلاق .

أسيرٌ *
انظر : أسرى .
إشارةٌ *
التعريف :
1 - الإشارة لغةً : التّلويح بشيءٍ يفهم منه ما يفهم من النّطق ، فهي الإيماء إلى الشّيء بالكفّ والعين والحاجب وغيرها . وأشار عليه بكذا : أبدى له رأيه ، والاسم الشّورى .
وهي عند الإطلاق حقيقةٌ في الحسّيّة ، وتستعمل مجازاً في الذّهنيّة ، كالإشارة بضمير الغائب ونحوه ، فإن عدّي " إلى " تكون بمعنى الإيماء باليد ، ونحوها ، وإن عدّي ب " على " تكون بمعنى الرّأي .
والإشارة في اصطلاح الفقهاء مثلها في اللّغة ، ويستعملها الأصوليّون في مبحث الدّلالات ، ويعرّفون دلالة الإشارة بأنّها : دلالة اللّفظ على ما لم يقصد به ، ولكنّه لازمٌ له . كدلالة قوله تعالى : { لا جناح عليكم إن طلّقتم النّساء ما لم تمسّوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضةً } على صحّة النّكاح بدون ذكر المهر ، لأنّ صحّة الطّلاق فرع صحّة النّكاح .
أمّا عبارة النّصّ فهي المعنى الّذي يتبادر فهمه من صيغته ، ويكون هو المقصود من سياقه ، وسيأتي تفصيل ما يتّصل بذلك في الملحق الأصوليّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الدّلالة :
2 - الدّلالة : كون الشّيء بحيث يفهم منه شيءٌ آخر ، كدلالة اللّفظ على المعنى ، وهي أعمّ من الإشارة .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ب - الإيماء :
3 - الإيماء : مرادفٌ للإشارة لغةً ، وعند الأصوليّين عرّفه بعضهم بأنّه : إلقاء المعنى في النّفس بخفاءٍ .
صفتها : الحكم الإجماليّ :
4 - الإشارة تقوم مقام اللّفظ في أغلب الأمور ، لأنّها تبيّن المراد كالنّطق ، ولكنّ الشّارع يقيّد النّاطقين بالعبارة في بعض التّصرّفات كالنّكاح ، فإذا عجز إنسانٌ عنها ، أقام الشّارع إشارته مقام نطقه في الجملة .
إشارة الأخرس :
5 - إشارة الأخرس معتبرةٌ شرعاً ، وتقوم مقام عبارة النّاطق فيما لا بدّ فيه من العبارة ، إذا كانت معهودةً في جميع العقود كالبيع ، والإجارة ، والرّهن ، والنّكاح ، والحلول : كالطّلاق ، والعتاق ، والإبراء . وغير ذلك كالأقارير - ما عدا الإقرار بالحدود ، ففيه خلافٌ كما يأتي قريباً - والدّعاوى " والإسلام .
وهذا القدر متّفقٌ عليه بين الفقهاء فيما نعلم ، وفي اللّعان والقذف خلافٌ . فقد قال الحنفيّة وبعض الحنابلة : إنّ الإشارة لا تقوم مقام النّطق فيهما ، لأنّ في الإشارة شبهةٌ يدرأ بها الحدّ ، وقال مالكٌ والشّافعيّ وبعض الحنابلة : إشارة الأخرس كنطقه فيهما .
ولا فرق في اعتبار إشارة الأخرس بين أن يكون قادراً على الكتابة ، أو عاجزاً عنها ، ولا بين أن يكون الخرس أصالةً أو طارئاً عند جمهور الفقهاء .
ونقل عن المتولّي من الشّافعيّة : إنّما تعتبر إشارة الأخرس إذا كان عاجزاً عن الكتابة ، لأنّها أضبط . ولم يفرّق المالكيّة بين إشارة الأخرس وكتابته ، فظاهره أنّه لا يشترط لقبول إشارته العجز عن الكتابة .
ويشترط الحنفيّة لقبول إشارته ما يلي :
أ - أن يكون قد ولد أخرس ، أو طرأ عليه الخرس ودام حتّى الموت . وهذه رواية الحاكم عن أبي حنيفة ، وفي هذا من الحرج ما فيه ، وقدّر التّمرتاشيّ الامتداد لسنةٍ .
وفي التتارخانية : أنّه إذا طرأ عليه الخرس ودام حتّى صارت إشارته مفهومةً اعتبرت إشارته كعبارته وإلاّ لم تعتبر .
ب - ألاّ يقدر على الكتابة . جاء في تكملة حاشية ابن عابدين : قال الكمال : قال بعض الشّافعيّة : إن كان يحسن الكتابة لا يقع طلاقه بالإشارة ، لاندفاع الضّرورة بما هو أدلّ على المراد من الإشارة ، وهو قولٌ حسنٌ ، وبه قال بعض مشايخنا .
قال ابن عابدين : بل هذا القول تصريحٌ بما هو مفهومٌ من ظاهر الرّواية ، ففي كافي الحاكم الشّهيد ما نصّه : فإن كان الأخرس لا يكتب ، وكان له إشارةٌ تعرف في طلاقه ، ونكاحه ، وشرائه ، وبيعه فهو جائزٌ ، وإن كان لم يعرف ذلك منه أو شكّ فيه فهو باطلٌ . ثمّ قال : فيفيد أنّه إن كان يحسن الكتابة لا تجوز إشارته .وفي الأشباه والنّظائر : أنّ المعتمد أنّ عدم القدرة على الكتابة ليس شرطاً للعمل بالإشارة .
وقال السّيوطيّ والزّركشيّ من الشّافعيّة : يستثنى من هذه القاعدة المتقدّمة في إقامة إشارة الأخرس مقام نطقه مسائل لا تقوم فيها إشارة الأخرس مقام النّطق ، منها :
( 1 ) إذا خاطب بالإشارة في الصّلاة لا تبطل صلاته في الأصحّ .
( 2 ) إذا نذر بالإشارة لا ينعقد نذره .
( 3 ) إذا شهد بالإشارة لا تقبل شهادته في الأصحّ ، لأنّ إقامتها مقام النّطق للضّرورة ، ولا ضرورة في شهادته لإمكان شهادة النّاطق .
( 4 ) إذا حلف لا يكلّم زيداً فكلّمه بالإشارة لا يحنث .
( 5 ) إذا حلف بالإشارة لا تنعقد يمينه إلاّ في اللّعان .
إقرار الأخرس بما يوجب الحدّ :
6 - اختلف الفقهاء في صحّة إقرار الأخرس بالزّنى وغيره من الحدود . فذهب الشّافعيّة ، والقاضي من الحنابلة ، وابن القاسم من المالكيّة إلى أنّه يحدّ إن أقرّ بالزّنى بإشارته ، قالوا : لأنّ من صحّ إقراره بغير الزّنى صحّ إقراره به . وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يحدّ بإقراره بالزّنى ، لأنّ الإشارة تحتمل ما فهم منها وغيره ، فيكون ذلك شبهةً في درء الحدّ ، والحدود تدرأ بالشّبهات . وتفصيل ذلك في مصطلحي : ( حدودٌ ، وإقرارٌ ) .
إشارة الأخرس بالإقرار بما يوجب القصاص :
7 - إشارته في ذلك مقبولةٌ في قول الفقهاء في القصاص ، لأنّه من حقوق العباد .
تقسيم إشارة الأخرس :
8 - صرّح الشّافعيّة بأنّه إذا كانت إشارة الأخرس بحيث يفهمها كلّ من وقف عليها فهي صريحةٌ . وإن كان يختصّ بفهمها ذوو الفطنة والذّكاء ، فهي كنايةٌ وإن انضمّ إليها قرائن . وتعرف نيّة الأخرس فيما إذا كانت إشارته كنايةً بإشارةٍ أخرى أو كتابةٍ . أمّا إذا لم يفهم إشارته أحدٌ فهي لغوٌ . وعند المالكيّة لا تكون إشارة الأخرس كنايةً ، فإن كانت مفهمةً فهي صريحةٌ وإلاّ فلغوٌ . ولم نعثر للحنفيّة والحنابلة على قسمة الإشارة من الأخرس إلى صريحٍ وكنايةٍ ، وتفصيل ما يخصّ الإشارة في الطّلاق يأتي في بابه .
إشارة الأخرس بقراءة القرآن :
9 - للفقهاء في المسألة اتّجاهان :
الأوّل : يجب تحريك الأخرس لسانه في تكبير الصّلاة وقراءة القرآن ، لأنّ الصّحيح يلزمه النّطق بتحريك لسانه ، فإذا عجز عن أحدهما لزمه الآخر . وهو قول الحنفيّة والشّافعيّة ، وقول القاضي من الحنابلة .
والثّاني : لا يجب عليه ذلك ، وهو مذهب المالكيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة .
وخرج بعض الحنفيّة والشّافعيّة على قولهم بوجوب التّحريك ، تحريم تحريك الأخرس لسانه بالقراءة وهو جنبٌ .
الشّهادة بالإشارة :
10 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا تجوز شهادة الأخرس بحالٍ ، وإن فهم إشارته كلّ أحدٍ . لأنّ المعتبر في الشّهادة اليقين ، والإشارة لا تخلو عن احتمالٍ . وذهب المالكيّة إلى أنّها تقبل إذا كانت مفهمةً .
معتقل اللّسان :
11 - مذهب الجمهور ، وهو قولٌ عند الحنابلة صوّبه صاحب الإنصاف أنّ معتقل اللّسان - وهو واسطةٌ بين النّاطق والأخرس - إن كان عاجزاً عن النّطق فهو كالأخرس ، وتقوم إشارته المفهمة مقام العبارة ، فإن أوصى بالإشارة ، أو قرئت عليه الوصيّة ، وأشار أن " نعم " صحّت الوصيّة . والمذهب عند الحنابلة أنّ المعتقل اللّسان لا تصحّ وصيّته .
إشارة النّاطق :
12 - من كان مستطيعاً للنّطق ففي إقامة إشارته مقام النّطق اتّجهان :
الأوّل : أنّها لغوٌ في الجملة . وهو مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، إلاّ في مسائل معدودةٍ نصّ عليها الحنفيّة والشّافعيّة أقاموا فيها الإشارة مقام النّطق . وإنّما قالوا بإلغائها ، لأنّها مهما قويت دلالتها فإنّها لا تفيد اليقين الّذي تفيده العبارة ،
ومن المسائل الّتي استثنوها :
أ - إشارة المفتي بالجواب .
ب - أمان الكفّار ، ينعقد بالإشارة تغليباً لحقن الدّم ، فلو أشار المسلم إلى الكافر بالأمان ، فانحاز إلى صفّ المسلمين لم يحلّ قتله .
ج - إذا سلّم عليه في الصّلاة فردّ بالإشارة لم تفسد صلاته .
د - الإشارة بالعدد في الطّلاق .
هـ- لو أشار المحرم إلى الصّيد فصيد ، حرم عليه الأكل منه . وزاد الحنفيّة الإشارة بالإقرار بالنّسب لتشوّف الشّرع إلى إثباته ، وبالإسلام والكفر .
الثّاني : أنّ إشارة النّاطق معتبرةٌ كنطقه ، ما دامت مفهومةً بين النّاس ومتعارفاً بينهم على مدلولها . وقالوا : إنّ التّعاقد بالإشارة أولى من التّعاقد بالأفعال ( التّعاطي ) ، لأنّ الإشارة يطلق عليها أنّها كلامٌ . قال اللّه تعالى : { قال : آيتك ألاّ تكلّم النّاس ثلاثة أيّامٍ إلاّ رمزاً } وهذا مذهب المالكيّة إلاّ في عقد النّكاح خاصّةً ، دون تعيين المنكوحة أو النّاكح .
تعارض عبارة النّصّ مع إشارته :
13 - سبق بيان المراد بعبارة النّصّ وبإشارته ( ر : ف 1 ) ، فإذا تعارضت عبارة نصٍّ وإشارة آخر يرجّح مفهوم العبارة في الجملة ، على خلافٍ وتفصيلٍ ينظر في الملحق الأصوليّ .
ردّ السّلام في الصّلاة :
14 - اختلف الفقهاء في جواز ردّ السّلام في الصّلاة ، فرخّصت طائفةٌ من التّابعين في الرّدّ بالقول كسعيد بن المسيّب والحسن البصريّ وقتادة . وروى عن أبي هريرة أنّه كان إذا سلّم عليه وهو في الصّلاة ردّه حتّى يسمع . وذهب جماعةٌ إلى أنّه يردّ بعد الانصراف من الصّلاة . واتّفق الأئمّة الأربعة على أنّ ردّ السّلام بالقول . في الصّلاة مبطلٌ لها . على اختلافٍ بينهم في بعض التّفصيل . فالرّاجح عند المالكيّة : أنّ الرّدّ بالإشارة واجبٌ .
ويرى الشّافعيّة أنّه يستحبّ الرّدّ بالإشارة . وذهب الأحناف إلى أنّه يكره ردّه بالإشارة باليد ، ولا تفسد به الصّلاة ، جاء في حاشية ابن عابدين : ردّ السّلام بيده لا يفسدها ، خلافاً لمن عزا إلى أبي حنيفة أنّه مفسدٌ ، فإنّه لم يعرف نقله من أحدٍ من أهل المذهب .
وعند الحنابلة يردّ بالإشارة . وقد استدلّ القائلون بالرّدّ بعد الانصراف من الصّلاة بحديث ابن مسعودٍ قال : « كنّا نسلّم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو في الصّلاة ، فيردّ علينا ، فلمّا رجعنا من عند النّجاشيّ سلّمنا عليه ، فلم يردّ علينا وقال : إنّ في الصّلاة شغلاً » . واستدلّ القائلون بالرّدّ بالإشارة بحديث جابرٍ قال : « إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعثني لحاجةٍ ، ثمّ أدركته وهو يسير فسلّمت عليه فأشار إليّ ، فلمّا فرغ دعاني فقال : إنّك سلّمت عليّ آنفاً وأنا أصلّي » وفي روايةٍ لمسلمٍ : « فلمّا انصرف قال : إنّه لم يمنعني أن أردّ عليك إلاّ أنّي كنت أصلّي » . وحديث ابن عمر عن صهيبٍ أنّه قال : « مررت برسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي ، فسلّمت عليه فردّ إليّ إشارةً » .
الإشارة في التّشهّد :
15 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يستحبّ للمصلّي في التّشهّد الإشارة بسبّابته ، وتسمّى في اصطلاح الفقهاء " المسبّحة " وهي الّتي تلي الإبهام ، ويرفعها عند التّوحيد ولا يحرّكها ، لحديث ابن الزّبير « أنّه صلى الله عليه وسلم كان يشير بأصبعه إذا دعا ، ولا يحرّكها » وقيل يحرّكها ، لحديث وائل بن حجرٍ « أنّه صلى الله عليه وسلم : رفع أصبعه فرأيته يحرّكها » وتفصيل كيفيّة الإشارة من حيث عقد الأصابع أو بسطها ، والتّحريك وعدمه يأتي في ( الصّلاة ) .
إشارة المحرم إلى الصّيد :
16 - إذا أشار المحرم إلى صيدٍ ، أو دلّ حلالاً عليه فصاده حرم على المحرم أكله . وهذا القدر لا يعلم فيه خلافٌ بين الفقهاء ، « لحديث أبي قتادة في قصّة اصطياده وهو غير محرمٍ ، قال : فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : منكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها ، أو أشار إليها ؟ قالوا : لا قال : فكلوا ما بقي من لحمها » . وإن لم تكن منه إعانةٌ على قتله بشيءٍ حلّ له الأكل منه عند جمهور الفقهاء للحديث السّابق .
واختلف الفقهاء في وجوب الجزاء على المشير ، فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه يجب عليه الجزاء ، لأنّ الإشارة إلى الصّيد من محظورات الإحرام بدليل تحريم الأكل منه ، فتكون جنايةً على الصّيد بتفويت الأمن على وجهٍ ترتّب عليه قتله ، فصارت كالقتل . وعند المالكيّة والشّافعيّة لا جزاء على المشير ، لأنّ النّصّ علّق الجزاء بالقتل . وليست الإشارة قتلاً .
الإشارة إلى الحجر الأسود والرّكن اليمانيّ :
17 - اتّفق الفقهاء على استحباب استلام الحجر الأسود والرّكن اليمانيّ باليد أو غيرها عند الطّواف ، لحديث « ابن عمر رضي الله عنهما قال : ما تركت استلام هذين الرّكنين في شدّةٍ ولا رخاءٍ منذ رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستلمهما » . كما اتّفقوا على استحباب الإشارة إلى الحجر الأسود عند تعذّر الاستلام ، لحديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال : « طاف النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعيرٍ ، كلّما أتى على الرّكن أشار إليه » . واختلفوا في الإشارة إلى الرّكن اليمانيّ عند تعذّر الاستلام . فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه لا يشير إليه إن عجز عن استلامه ، وذهب الشّافعيّة ومحمّد بن الحسن إلى أنّه يشير إلى الرّكن اليمانيّ قياساً على الحجر الأسود .
التّسليم بالإشارة :
18 - لا تحصل سنّة ابتداء السّلام بالإشارة باليد أو الرّأس للنّاطق ، ولا يسقط فرض الرّدّ عنه بها . لأنّ السّلام من الأمور الّتي جعل لها الشّارع صيغاً مخصوصةً ، لا يقوم مقامها غيرها ، إلاّ عند تعذّر صيغتها الشّرعيّة . وتكاد تتّفق عبارات الفقهاء على القول : بأنّه لا بدّ من الإسماع ، ولا يكون الإسماع إلاّ بقولٍ . وقد ورد في الحديث : « لا تسلّموا تسليم اليهود ، فإنّ تسليمهم بالأكفّ والرّءوس والإشارة » . وروى علقمة عن عطاء بن أبي رباحٍ قال : « كانوا يكرهون التّسليم باليد » . يعني الصّحابة رضوان الله عليهم .
أمّا الأصمّ ومن في حكمه ، وغير المقدور على إسماعه كالبعيد ، فالإشارة مشروعةٌ في حقّه ، وقال بعض الفقهاء : إذا سلّم على أصمّ لا يسمع ينبغي أن يتلفّظ بالسّلام ، لقدرته عليه ، ويشير باليد . ويسقط قرض الرّدّ من الأخرس بالإشارة ، لأنّه مقدوره ، ويردّ عليه بالإشارة والتّلفّظ معاً . وانظر مصطلح : ( سلامٌ ) .
الإشارة في أصل اليمين :
19 - لا تنعقد يمين النّاطق بالإشارة ، لأنّها لا تنعقد إلاّ بأسماء اللّه وصفاته .
أمّا الأخرس فذهب بعض الفقهاء إلى أنّ يمينه لا تنعقد . وذهب آخرون إلى أنّه إذا كانت له إشارةٌ مفهمةٌ حلف ، وتصحّ يمينه ، وإن كانت غير مفهمةٍ ، ووجبت عليه يمينه ، وقف حتّى تفهم إشارته . ونسب الزّركشيّ هذا للإمام الشّافعيّ . وانظر مصطلح ( أيمانٌ ) .
إشارة القاضي إلى أحد الخصوم :
20 - لا يجوز للحاكم أن يعمل أعمالاً تسبّب التّهمة وسوء الظّنّ في مجلس الحكم ، ممّا يوهم أنّه يفضّله على خصمه ، كالإشارة لأحد الخصمين باليد ، أو بالعين أو بالرّأس ، لأنّ ذلك يسبّب انكساراً لقلب الخصم الآخر ، وقد يحمله ذلك على ترك الدّعوى واليأس من العدالة ، ممّا يترتّب عليه ضياع حقّه . وهذا محلّ اتّفاقٍ بين الفقهاء .
وقد روى عمر بن شبّة في كتاب قضاة البصرة بإسناده عن أمّ سلمة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من ابتلي بالقضاء بين المسلمين ، فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفع على الآخر » وفي روايةٍ : « فليسوّ بينهم في النّظر والإشارة والمجلس » .
إشارة المحتضر إلى الجاني عليه :
21 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يعتبر قول المحتضر : قتلني فلانٌ ، ولا يكون ذلك لوثاً ، لأنّه لا يقبل دعواه على الغير بالمال ، فلا يقبل ادّعاؤه عليه بالدّم ، ولأنّه مدّعٍ فلا يكون قوله حجّةً على غيره . لحديث : « لو يعطى النّاس بدعواهم لادّعى ناسٌ دماء رجالٍ وأموالهم » فإذا لم تعتبر أقواله فلا تقبل إشارته من باب أولى . وذهب مالكٌ إلى أنّه إذا قال المحتضر الحرّ المسلم البالغ العاقل : قتلني فلانٌ عمداً ، ثمّ مات فإنّه يكون لوثاً ، فيثبت القصاص بعد حلف أولياء الدّم يمين القسامة . أمّا إذا قال : قتلني خطأً ، ففي ذلك عن الإمام مالكٍ روايتان : إحداهما : لا يقبل قوله ، لأنّه يتّهم على أنّه أراد إغناء ورثته .
والثّانية : أنّ قوله يقبل ، وتكون معه القسامة ، ولا يتّهم ، لأنّه في حالٍ يصدّق فيه الكاذب ، ويتوب فيه الفاجر ، فمن تحقّق مصيره إلى الآخرة وأشرف على الموت فلا يتّهم في إراقة دم مسلمٍ ظلماً ، وغلبة الظّنّ في هذا ينزل منزلة غلبة الظّنّ في صدق الشّاهد ، والغالب من أحوال النّاس عند الموت التّوبة والاستغفار والنّدم على التّفريط . وتزوّده من دنياه قتل نفسٍ خلاف الظّاهر وغير المعتاد .
إشارة المحتضر إلى تصرّفاتٍ ماليّةٍ :
22 - إذا كان المحتضر قادراً على النّطق فلا تقبل إشارته ، أمّا إذا كان غير قادرٍ على النّطق فإشارته تقوم مقام عبارته . وفي حاشية ابن عابدين : إن لم يكن معتقل اللّسان لم تعتبر إشارته إلاّ في أربعٍ : الكفر ، والإسلام ، والنّسب ، والإفتاء .
وعند المالكيّة : أنّ الإشارة المفهمة كالنّطق مطلقاً . وعلى هذا فإنّ إشارة المحتضر إلى تصرّفٍ ماليٍّ كعبارته ، سواءٌ أكان قادراً على النّطق أم لا .

إشاعةٌ *
التعريف :
1 - الإشاعة مصدر أشاع ، وأشاع ذكر الشّيء : أطاره وأظهره ، وشاع الخبر في النّاس شيوعاً أي انتشر وذاع وظهر . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ .
وقد تطلق الإشاعة على الأخبار الّتي لا يعلم من أذاعها . وكثيراً ما يعبّر الفقهاء عن هذا المعنى بألفاظٍ أخرى غير الإشاعة كالاشتهار ، والإفشاء ، والاستفاضة .
الحكم الإجماليّ :
2 - قد تكون الإشاعة حراماً ، إذا كانت إظهاراً لما يمسّ أعراض النّاس كإشاعة الفاحشة ، لقوله تعالى : { إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الّذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدّنيا والآخرة } . هذا هو الحكم الأخرويّ ، وبالنّسبة للحكم المترتّب على الإشاعة الكاذبة فهو حدّ القذف إن توفّرت شروطه ، وإلاّ فالتّعزير . ر : ( قذفٌ ، تعزيرٌ ) .
أمّا المشاع عنه فلا عقوبه عليه بمجرّد الإشاعة ، قال القليوبيّ : لا يكتفى بالإشاعة - أي شيوع الزّنى - في جواز القذف ، لأنّ السّتر مطلوبٌ . وقد ورد أنّ في آخر الزّمان « يجلس الشّيطان بين الجماعة ، فيتكلّم بالكلمة فيتحدّثون بها ، ويقولون : لا ندري من قالها » . فمثل هذا لا ينبغي أن يسمع فضلاً عن أن يثبت به حكمٌ .
على أنّ من واجب أولي الأمر قطع دابر الفساد بالطّرق المناسبة .
3 - وقد تكون الإشاعة طريقاً لثبوت بعض الأحكام ، ومن ذلك : أيمان القسامة ، فإنّها يكتفى لطلبها بالإشاعة ، فالإشاعة هنا تعتبر لوثاً . ومن ذلك : سقوط الحدّ عن الزّوجين إن دخلا بلا شهودٍ وثبت الوطء . إن فشا النّكاح ، أي شاع واشتهر .
4 - وإذا كان إظهار الشّيء يترتّب عليه منع الوقوع في الحرام ، فإنّ إشاعته تكون مطلوبةً ، وذلك كإشاعة الرّضاعة ممّن ترضع ، قال ابن عابدين : الواجب على النّساء ألاّ يرضعن كلّ صبيٍّ من غير ضرورةٍ ، وإذا أرضعن فليحفظن ذلك ، وليشهرنه ويكتبنه احتياطاً .
مواطن البحث :
5 - تنظر مواطن الإشاعة في أبواب الرّضاع ، والنّكاح ، والشّهادة والقسامة ، والصّيام ( في رؤية الهلال ) والقذف ، وأصل الوقف ، وثبوت النّسب .

أشباهٌ *
التعريف اللّغويّ :
1 - الأشباه جمعٌ مفرده شبهٌ ، والشّبه والشّبه : المثل ، والجمع أشباهٌ ، وأشبه الشّيء ماثله ، وبينهم أشباهٌ أي أشياء يتشابهون بها .
التعريف الاصطلاحيّ :
أ - عند الفقهاء :
2 - لا يخرج استعمال الفقهاء للفظ الأشباه عن المعنى اللّغويّ .
ب - عند الأصوليّين :
3 - اختلف الأصوليّون في تعريف الشّبه ، حتّى قال إمام الحرمين الجوينيّ : لا يمكن تحديده ، وقال غيره : يمكن تحديده . فقيل : هو الجمع بين الأصل والفرع بوصفٍ يوهم اشتماله على الحكمة المقتضية لحكمٍ من غير تعيينٍ ، كقول الشّافعيّ في النّيّة في الوضوء والتّيمّم : طهارتان فأنّى تفترقان . وقال القاضي أبو بكرٍ : هو أن يكون الوصف لا يناسب الحكم بذاته ، لكنّه يكون مستلزماً لما يناسبه بذاته . وحكى الأبياريّ في " شرح البرهان " عن القاضي أنّه : ما يوهم الاشتمال على وصفٍ مخيّلٍ . وقيل : الشّبه هو الّذي لا يكون مناسباً للحكم ولكن عرف اعتبار جنسه القريب في الجنس القريب .
وأوضح تعريفٍ له هو ما قاله شارح مسلمٍ الثّبوت : الشّبه هو ما ليس بمناسبٍ لتراثه ، بل يوهم المناسبة ، وذلك التّوهّم إنّما هو بالتفات الشّارع إليه في بعض الأحكام ، فيتوهّم فيه المناسبة ، كقولك : إزالة الخبث طهارةٌ تراد للصّلاة فتعيّن فيها الماء ، ولا يجوز مائعٌ آخر ، كإزالة الحدث يتعيّن فيها الماء .
وفي المستصفى : قياس الشّبه هو الجمع بين الفرع والأصل بوصفٍ ، مع الاعتراف بأنّ ذلك الوصف ليس علّةً للحكم ، وذلك كقول أبي حنيفة مسح الرّأس لا يتكرّر تشبيهاً له بمسح الخفّ والتّيمّم ، والجامع أنّه مسحٌ ، فلا يستحبّ فيه التّكرار قياساً على التّيمّم ومسح الخفّ . وفي الرّسالة يقول الشّافعيّ في قياس الشّبه : يكون الشّيء له في الأصول أشباهٌ ، فذلك يلحق بأولاها به وأكثرها شبهاً فيه ، فقد يختلف القايسون في هذا .
صفته : الحكم الإجماليّ :
أوّلاً : عند الفقهاء :
4 - إذا نيط الحكم بأصلٍ فتعذّر انتقل إلى أقرب شبهٍ له . ولذلك اعتبر جمهور الفقهاء الشّبه طريقاً من طرق الحكم في أبوابٍ معيّنةٍ ، من ذلك جزاء صيد المحرم ، قال اللّه تعالى : { ومن قتله منكم متعمّداً فجزاءٌ مثل ما قتل من النّعم يحكم به ذوا عدلٍ منكم } أي يحكمان فيه بأشبه الأشياء ، ومن ذلك في النّسب ما روي أنّ عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « دخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو مسرورٌ تبرق أسارير وجهه فقال : أي عائشة . ، ألم تري إلى مجزّزٍ المدلجيّ دخل فرأى أسامة وزيداً وعليهما قطيفةٌ قد غطّيا رءوسهما وبدت أقدامهما ، فقال : إنّ هذه الأقدام بعضها من بعضٍ » .
وذلك يدلّ على أنّ إلحاق القافة يفيد النّسب لسرور النّبيّ صلى الله عليه وسلم به ، وهو لا يسرّ بباطلٍ . وقد أخذ بهذا جمهور الفقهاء خلافاً للحنفيّة .
5 - ويشترط في القضاء بالشّبه قول أهل الخبرة والمعرفة في الأمر الّذي يكون فيه التّخاصم ، كاعتبار مجزّزٍ المدلجيّ من أهل الخبرة في القيافة .
6 - لكنّ الاعتماد على الشّبه بقول أهل الخبرة يكون فيما لم يرد فيه نصٌّ أو حكمٌ ، ولذلك يعتبر اللّعان مانعاً من إعمال الشّبه ، وقد « قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قصّة المتلاعنين : إن جاءت به أكحل العينين ، سابغ الأليتين ، مدلج السّاقين ، فهو لشريك ابن سحماء ، فجاءت به كذلك ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : لولا ما مضى من كتاب اللّه لكان لي ولها شأنٌ » . وهذا بالنّسبة للنّصّ ، أمّا بالنّسبة للحكم فقد قال اللّه تعالى في جزاء الصّيد : { يحكم به ذوا عدلٍ منكم } وقد قضى الصّحابة رضوان الله عليهم في بعض الحيوانات ، كقول عمر وعثمان وعليٍّ وزيد بن ثابتٍ وابن عبّاسٍ ومعاوية : في النّعامة بدنةٌ . وما لم يقض فيه الصّحابة فيرجع فيه إلى قول عدلين من أهل الخبرة .
7 - ويلاحظ أنّ الإمام أبا حنيفة وأصحابه يخالفون الجمهور في الاعتماد على الشّبه في النّسب . كما أنّ الشّبه في حزّاء الصّيد هو عند الجمهور من حيث الخلقة ، وعند الحنفيّة المثل هو القيمة . وتفصيل ذلك يرجع إليه في مواضعه .
8- كذلك يعتمد على الشّبه في الاختلاف الواقع بين المتداعيين عند المالكيّة .
جاء في تبصرة الحكّام : إن اختلف البائع والمشتري في ثمن السّلعة ، فإن ادّعى أحدهما ثمناً يشبه ثمن السّلعة ، وادّعى الآخر مالاً يشبه أن يكون ثمناً لها ، فإن كانت السّلعة فائتةً ( أي قد خرجت من يد المدّعى عليه بهلاكٍ أو بيعٍ أو نحوهما ) فالقول قول مدّعي الأشبه منهما اتّفاقاً ( أي عند المالكيّة ) ، لأنّ الأصل عدم التّغابن ، والشّراء بالقيمة وما يقاربها . وإن كانت السّلعة قائمةً فالمشهور أنّه لا يراعى الأشبه ، لأنّهما قادران على ردّ السّلعة . وفي المنثور في القواعد للزّركشيّ في باب الرّبا : إذا كان المبيع لا يكال ولا يوزن فيعتبر بأقرب الأشياء شبهاً به على أحد الأوجه . والصّلح مع الإقرار يحمل على البيع أو الإجارة أو الهبة . والأصل فيه أنّ الصّلح يجب حمله على أقرب العقود إليه وأشبهها به ، لتصحيح تصرّف العاقد ما أمكن . ر : ( صلحٌ ) .
ثانياً : عند الأصوليّين
9 - اختلف الأصوليّون هل الشّبه حجّةٌ أم لا ؟ فقيل : إنّه حجّةٌ وإليه ذهب الأكثرون ، وقيل : إنّه ليس بحجّةٍ وبه قال أكثر الحنفيّة . وقيل غير ذلك .
وينظر تفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ ( القياس ) .
المراد بفنّ الأشباه والنّظائر في علم الفقه :
10 - المراد بفنّ الأشباه والنّظائر - كما ذكر الحمويّ في تعليقه على أشباه ابن نجيمٍ - : المسائل الّتي يشبه بعضها بعضاً مع اختلافها في الحكم لأمورٍ خفيّةٍ أدركها الفقهاء بدقّة أنظارهم . وفائدته كما ذكر السّيوطيّ أنّه فنٌّ به يطّلع على حقائق الفقه ومداركه ومأخذه وأسراره ، ويتمهّر في فهمه واستحضاره ، ويقتدر على الإلحاق والتّخريج ، ومعرفة أحكام المسائل الّتي ليست بمسطورةٍ ، والحوادث والوقائع الّتي لا تنقضي على مرّ الزّمان .
وقد كتب عمر بن الخطّاب إلى أبي موسى الأشعريّ : اعرف الأمثال والأشباه ، ثمّ قس الأمور عندك ، فاعمد إلى أحبّها إلى اللّه وأشبهها بالحقّ فيما ترى .

اشتباهٌ *
التعريف :
1 - الاشتباه مصدر : اشتبه ، يقال اشتبه الشّيئان وتشابها : أشبه كلّ واحدٍ مهما الآخر . والمشتبهات من الأمور : المشكلات . والشّبهة اسمٌ من الاشتباه وهو الالتباس .
والاشتباه في الاستعمال الفقهيّ أخصّ منه في اللّغة ، فقد عرّف الجرجانيّ الشّبهة بأنّها : ما لم يتيقّن كونه حراماً أو حلالاً . وقال السّيوطيّ : الشّبهة ما جهل تحليله على الحقيقة وتحريمه على الحقيقة . ويقول الكمال بن الهمام : الشّبهة ما يشبه الثّابت وليس بثابتٍ ، ولا بدّ من الظّنّ لتحقّق الاشتباه .
الألفاظ ذات الصّلة

أ - الالتباس :
2 - الالتباس هو : الإشكال ، والفرق بينه وبين الاشتباه على ما قال الدّسوقيّ : أنّ الاشتباه معه دليلٌ ( يرجّح أحد الاحتمالين ) والالتباس لا دليل معه .
ب - الشّبهة :
3 - يقال : اشتبهت الأمور وتشابهت : التبست فلم تتميّز ولم تظهر ، ومنه اشتبهت القبلة ونحوها ، والجمع فيها شبهٌ وشبهاتٌ . وقد سبق أنّها ما لم يتعيّن كونه حراماً أو حلالاً نتيجة الاشتباه . وللفقهاء في تقسيمها وتسميتها اصطلاحاتٌ ، فجعلها الحنفيّة نوعين : الأوّل : شبهةٌ في الفعل ، وتسمّى شبهة اشتباهٍ أو شبهة مشابهةٍ ، أي شبهةٌ في حقّ من اشتبه عليه فقط ، بأن يظنّ غير الدّليل دليلاً ، كما إذا ظنّ جارية امرأته تحلّ له ، فمع الظّنّ لا يحدّ ، حتّى لو قال : علمت أنّها تحرم عليّ حدّ .
النّوع الثّاني : شبهةٌ في المحلّ ، وتسمّى شبهةٌ حكميّةٌ أو شبهة ملكٍ ، أي شبهةٌ في حكم الشّرع بحلّ المحلّ . وهي تمنع وجوب الحدّ ، ولو قال علمت أنّها حرامٌ عليّ . وتتحقّق بقيام الدّليل النّافي للحرمة في ذاته ، لكن لا يكون الدّليل عاملاً لقيام المانع كوطء أمة الابن ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « أنت ومالك لأبيك » ، ولا يتوقّف هذا النّوع على ظنّ الجاني واعتقاده ، إذ الشّبهة بثبوت الدّليل قائمةٌ . وجعلها الشّافعيّة ثلاثة أقسامٍ :
-1 - شبهةٌ في المحلّ ، كوطء الزّوجة الحائض أو الصّائمة ، لأنّ التّحريم ليس لعينه بل لأمرٍ عارضٍ كالإيذاء وإفساد العبادة .
- 2 - وشبهةٌ في الفاعل ، كمن يجد امرأةً على فراشه فيطؤها ، ظانّاً أنّها زوجته .
- 3 - وشبهةٌ في الجهة ، كالوطء في النّكاح بلا وليٍّ أو بلا شهودٍ . وتفصيل ذلك في مصطلح شبهةٌ . والمقصود هنا بيان أنّ الشّبهة أعمّ من الاشتباه ، لأنّها قد تنتج نتيجة الاشتباه ، وقد تنتج دون اشتباهٍ .
ج - التّعارض :
4 - التّعارض لغةً : المنع بالاعتراض عن بلوغ المراد . واصطلاحاً : تقابل الحجّتين المتساويتين على وجهٍ توجب كلّ واحدةٍ منهما ضدّ ما توجبه الأخرى . وسيأتي أنّ التّعارض أحد أسباب الاشتباه .
د - الشّكّ :
5 - الشّكّ لغةً : خلاف اليقين ، وهو التّردّد بين شيئين ، سواءٌ استوى طرفاه ، أو رجّح أحدهما على الآخر ، وقد استعمله الفقهاء كذلك . وهو عند الأصوليّين : التّردّد بين أمرين بلا ترجيحٍ لأحدهما على الآخر عند الشّاكّ ، فالشّكّ سببٌ من أسباب الاشتباه .
هـ - الظّنّ :
6 - الظّنّ خلاف اليقين . وقد يستعمل بمعنى اليقين ، كما في ، قوله تعالى : { الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم } .
وفي الاصطلاح : هو الاعتقاد الرّاجح مع احتمال النّقيض ، وهو طريقٌ لحدوث الاشتباه . - و - الوهم :
7 - الوهم : ما سبق القلب إليه مع إرادة غيره .
وفي الاصطلاح : هو إدراك الطّرف المرجوح ، أو كما قال عنه ابن نجيمٍ : رجحان جهة الخطأ ، فهو دون كلٍّ من الظّنّ والشّكّ ، وهو لا يرتقي إلى تكوين اشتباهٍ .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
أسباب الاشتباه :
8 - قد ينشأ الاشتباه نتيجة خفاء الدّليل بسببٍ من الأسباب ، كالإجمال في الألفاظ واحتمالها التّأويل ، ودوران الدّليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه ، ودورانه بين العموم والخصوص ، واختلاف الرّواية بالنّسبة للحديث ، وكالاشتراك في اللّفظ ، أو التّخصيص في عامّه ، أو التّقييد في مطلقه ، كما ينشأ الاشتباه عند تعارض الأدلّة دون مرجّحٍ . كما أنّ النّصوص في دلالتها ليست على وضعٍ واحدٍ ، فمنها ما دلالته على الأحكام ظنّيّةٌ ، فيجتهد الفقهاء للتّعرّف على ما يدلّ عليه النّصّ ، وقد يتشابه الأمر عليهم نتيجة ذلك ، إذ من الحقائق الثّابتة اختلاف النّاس في تفكيرهم ، وتباين وجهات نظرهم .
والاشتباه النّاشئ عن خفاءٍ في الدّليل يعذر المجتهد فيه ، بعد بذله الجهد واستفراغه الوسع ، ويكون فيما انتهى إليه من رأيٍ قد اتّبع الدّليل المرشد إلى تعرّف قصد الشّارع .
وبيان ذلك فيما يلي :
أ - اختلاف المخبرين :
9 - ومن ذلك ما لو أخبره عدلٌ بنجاسة الماء ، وأخبره آخر بطهارته . فإنّ الأصل عند تعارض الخبرين وتساويهما تساقطهما ، وحينئذٍ يعمل بالأصل وهو الطّهارة ، إذ الشّيء متى شكّ في حكمه ردّ إلى أصله ، لأنّ اليقين لا يزول بالشّكّ ، والأصل في الماء الطّهارة .
ومن هذا القبيل ما لو أخبر عدلٌ بأنّ هذا اللّحم ذبحه مجوسيٌّ ، وأخبر عدلٌ آخر أنّه ذكّاه مسلمٌ ، فإنّه لا يحلّ لبقاء اللّحم على الحرمة الّتي هي الأصل . إذ حلّ الأكل متوقّفٌ على تحقّق الذّكاة الشّرعيّة . وبتعارض الخبرين لم يتحقّق الحلّ ، فبقيت الذّبيحة على الحرمة .
ب - الإخبار المقتضي للاشتباه :
10 - وهو الإخبار الّذي اقترنت به قرائن توقع في الاشتباه . مثال ذلك : أن يعقد على امرأةٍ ، ثمّ تزفّ إليه أخرى بناءً على أنّها زوجته ، ويدخل بها على هذا الاعتقاد ، ثمّ يتبيّن أنّها ليست المرأة الّتي عقد عليها . فإن وطئها فإنّه لا حدّ عليه اتّفاقاً ، لأنّه اعتمد دليلاً شرعيّاً في موضع الاشتباه ، وهو الإخبار . وقد أورد الفقهاء فروعاً كثيرةً مثل هذا الفرع ، وهي مبنيّةٌ على هذا الأساس .
ت - تعارض الأدلّة ظاهراً :
11 - لا يوجد بين أدلّة الأحكام الشّرعيّة في واقع الأمر تعارضٌ ، لأنّها جميعها من عند اللّه تعالى . أمّا ما يظهر من التّعارض بين الدّليلين فلعدم العلم بظروفهما وشروط تطبيقهما ، أو بما يراد بكلٍّ منهما على سبيل القطع ، أو لجهلنا بزمن ورودهما ، وغير ذلك ممّا يرتفع به التّعارض . فمن الاشتباه بسبب تعارض الأدلّة في الظّاهر ما إذا سرق الوالد من مال ولده ، إذ أنّ نصوص العقاب على السّرقة تشمل في عمومها هذه الواقعة . فاللّه سبحانه وتعالى يقول : { والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما ... } . غير أنّه قد جاء في السّنّة ما يفيد حلّ مال الابن لأبيه . فقد روي أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال : « أنت ومالك لأبيك » وقوله : « إنّ أطيب ما أكل الرّجل من كسبه ، وإنّ ولده من كسبه » ووجود مثل هذا ينتج اشتباهاً في الحكم يترتّب عليه إسقاط الحدّ ، لأنّ من أعظم الشّبهات أخذ الرّجل من مالٍ جعله الشّرع له ، وأمره بأخذه وأكله . وقال أبو ثورٍ وابن المنذر بإقامة الحدّ .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( سرقةٌ ) .
ومن الاشتباه النّاشئ عن تعارض الأدلّة في الظّاهر ما ورد بالنّسبة لطهارة سؤر الحمار ، فقد روي عن عبد اللّه بن عبّاسٍ أنّه كان يقول :" الحمار يعتلف القتّ والتّبن فسؤره طاهرٌ وعن جابرٍ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل : أنتوضّأ بما أفضلت الحمر ؟ قال : نعم ، وبما أفضلت السّباع كلّها » ، وروي عن عبد اللّه بن عمر أنّه كان يقول :" إنّه رجسٌ" والتّوقّف في الحكم عند تعارض الأدلّة واجبٌ . فلذلك كان مشكوكاً فيه ، والمراد بالشّكّ التّوقّف عن إعطاء حكمٍ قاطعٍ ، لتعارض الأدلّة . قال ابن عابدين : الأصحّ أنّ سؤر الحمار مشكوكٌ في طهوريّته ( أي كونه مطهّراً ، لا في طهارته في ذاته ) وهو قول الجمهور . وسببه تعارض الأخبار في لحمه ، وقيل : اختلاف الصّحابة في سؤره ، وقد استوى ما يوجب الطّهارة والنّجاسة فتساقطا للتّعارض ، فيصار إلى الأصل ، وهو هنا شيئان : الطّهارة في الماء ، والنّجاسة في اللّعاب ، وليس أحدهما أولى من الآخر ، فبقي الأمر مشكلاً ، نجساً من وجهٍ ، طاهراً من وجهٍ .
ث - اختلاف الفقهاء :
12 - من ذلك ما قاله الفقهاء من عدم وجوب الحدّ بالوطء في نكاحٍ مختلفٍ فيه ، كالنّكاح بلا وليٍّ ، فالحنفيّة يجيزونه . وسقوط الحدّ بسبب ذلك قول أكثر أهل العلم ، لأنّ الاختلاف في إباحة الوطء فيه شبهةٌ ، والحدود تدرأ بالشّبهات ويرجع في تفصيل ذلك إلى باب ( حدّ الزّنى ) . ومن ذلك المصلّي بالتّيمّم إذا رأى سراباً ، وكان أكبر رأيه أنّه ماءٌ ، فإنّه يباح له أن ينصرف ، وإن استوى الأمران لا يحلّ له قطع الصّلاة ، وإذا فرغ من الصّلاة ، إن ظهر أنّه كان ماءً يلزمه الإعادة ، وإلاّ فلا . نصّ على ذلك الحنفيّة . والشّافعيّة والحنابلة على أنّ من تيمّم لفقد الماء فوجده أو توهّمه بطل تيمّمه إن لم يكن في صلاةٍ . ويحصل هذا التّوهّم برؤية سرابٍ . ومحلّ بطلانه بالتّوهّم إن بقي من الوقت زمنٌ لو سعى فيه إلى ذلك لأمكنه التّطهّر به والصّلاة فيه . وإذا بطل التّيمّم بتوهّم وحود الماء فإنّه بطلانه بالظّنّ أو الشّكّ أولى ، سواءٌ أتبيّن له خلاف ظنّه أم لم يتبيّن ، لأنّ ظنّ وجود الماء مبطلٌ للتّيمّم . وعند المالكيّة : إن وجد الماء بعد الدّخول في الصّلاة فيجب عليه إتمامها . ونصّ الحنابلة على أنّ من خاف على نفسه أو ماله إذا ما طلب الماء ساغ له التّيمّم ، ولو كان خوفه بسبب ظنّه فتبيّن عدم السّبب . مثل من رأى سواداً باللّيل ظنّه عدوّاً ، فتبيّن أنّه ليس بعدوٍّ بعد أن تيمّم وصلّى لم يعد لكثرة البلوى . وقيل : يلزمه الإعادة ، لأنّه تيمّم من غير سببٍ مبيحٍ للتّيمّم .
ج – الاختلاط :
13 – يقصد به اختلاط الحلال بالحرام وعسر التّمييز بينهما . كما لو اختلطت الأواني الّتي فيها ماءٌ طاهرٌ بالأواني الّتي فيها ماءٌ نجسٌ ، واشتبه الأمر ، بأن لم يمكن التّمييز بينهما ، فإنّه يسقط استعمال الماء ، ويجب التّيمّم عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو قول سحنونٍ من المالكيّة ، لأنّ أحدهما نجسٌ يقيناً ، والآخر طاهرٌ يقيناً ، لكن عجز عن استعماله لعدم علمه فيصار إلى البدل . وتفصيل ذلك يرجع فيه إلى مصطلح ( ماءٌ ) .
ومن هذا القبيل ما إذا اشتبهت عليه ثيابٌ طاهرةٌ بنجسةٍ ، وتعذّر التّمييز بينها ، ولم يجد ثوباً طاهراً بيقينٍ ، وليس معه ما يطهّرهما به ، واحتاج إلى الصّلاة ، فالحنفيّة ، وهو المشهور عند المالكيّة ، ومذهب الشّافعيّة خلافاً للمزنيّ ، أنّه يتحرّى بينها ، ويصلّي بما غلب على ظنّه طهارته . وقال الحنابلة وابن الماجشون من المالكيّة : لا يجوز التّحرّي ويصلّي في ثياب منها بعدد النّجس منها ، ويزيد صلاةً في ثوبٍ آخر . وقال أبو ثورٍ والمزنيّ : لا يصلّي في شيءٍ منها كالأواني . وإنّما يتحرّى - عند من قال بذلك - إذا لم يجد ثوباً طاهراً ، أو ما يطهّر به ما اشتبه عليه من الثّياب . وإذا تحرّى فلم يترجّح أحدهما على الآخر صلّى في أحدهما . والقائلون بالتّحرّي هنا قالوا : لأنّه لا خلف للثّوب في ستر العورة ، بخلاف الاشتباه في الأواني ، لأنّ التّطهّر بالماء له خلفٌ وهو التّيمّم .
ح - الشّكّ ( بالمعنى الأعمّ يشمل أيضاً الظّنّ والوهم ) :
14 - ومن ذلك ما قالوه فيمن أيقن بالوضوء وشكّ في الحدث من أنّه لا وضوء عليه ، إذ اليقين لا يزول بالشّكّ ، وهو ما ذهب إليه فقهاء المذاهب ، غير أنّه نقل عن مالكٍ أنّه قال : من أيقن بالوضوء وشكّ في الحدث ابتدأ الوضوء ، وقد روى ابن وهبٍ عن مالكٍ أنّه قال : أحبّ إليّ أن يتوضّأ ، وهذا يدلّ على أنّ الوضوء عند مالكٍ في ذلك إنّما هو استحبابٌ واحتياطٌ ، كما أجمعوا على أنّ من أيقن بالحدث وشكّ في الوضوء أنّ شكّه لا يعتبر وعليه الوضوء ، لأنّه المتيقّن . والمراد بالشّكّ هنا مطلق التّردّد سواءٌ أكان على السّواء أم كان أحد طرفيه أرجح . وعلى هذا فلا فرق بين أن يغلب على ظنّه أحدهما أو يتساوى الأمران عندهما ، لأنّ غلبة الظّنّ إذا لم تكن مضبوطةً بضابطٍ شرعيٍّ لا يلتفت إليها ، ولأنّه إذا شكّ تعارض عنده الأمران ، فيجب سقوطهما كالبيّنتين إذا تعارضتا ، ويرجع إلى اليقين
وقالوا : من تيقّن الطّهارة والحدث معاً واشتبه عليه الأمر فلم يعلم الأخير منهما والأسبق فيعمل بضدّ ما قبلهما ، فإن كان قبل ذلك محدثاً فهو الآن متطهّرٌ ، لأنّه تيقّن الطّهارة بعد ذلك الحدث وشكّ في انتقاضها ، لأنّه لا يدري هل الحدث الثّاني قبلها أو بعدها . وإن كان متطهّراً وكان يعتاد التّجديد فهو الآن محدثٌ ، لأنّه متيقّنٌ حدثاً بعد تلك الطّهارة وشكّ في زواله ، لأنّه لا يدري هل الطّهارة الثّانية متأخّرةٌ عنه أم لا . ومن هذا القبيل ما قالوه في الصّائم لو شكّ في غروب الشّمس ، فإنّه لا يصحّ له أن يفطر مع الشّكّ ، لأنّ الأصل بقاء النّهار . ولو أفطر وهو شاكٌّ ولم يتبيّن الحال بعد ذلك فعليه القضاء اتّفاقاً .
أمّا إذا شكّ الصّائم في طلوع الفجر فالمستحبّ له ألاّ يأكل لاحتمال أن يكون الفجر قد طلع ، فيكون الأكل إفساداً للصّوم فيتحرّز عنه ، لما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « الحلال بيّنٌ والحرام بيّنٌ وبينهما أمورٌ مشتبهاتٌ » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » . ولو أكل وهو شاكٌّ فإنّه لا يحكم بوجوب القضاء عليه ، لأنّ فساد الصّوم مشكوكٌ فيه ، إذ الأصل بقاء اللّيل فلا يثبت النّهار بالشّكّ ، وإلى هذا اتّجه فقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
وقال المالكيّة : من أكل شاكّاً في الفجر فعليه القضاء مع الحرمة ، وإن كان الأصل بقاء اللّيل ، هذا بالنّسبة لصوم الفرض . وقيل : وفي النّفل أيضاً . كما قيل مع الكراهة لا الحرمة . ومن أكل معتقداً بقاء اللّيل أو حصول الغروب ثمّ طرأ الشّكّ ، فعليه القضاء بلا حرمةٍ .
د - الجهل :
15 - ومن ذلك الأسير في دار الحرب ، إذا لم يعرف دخول رمضان ، وأراد صومه ، فتحرّى وصام شهراً عن رمضان فتبيّن أنّه أخطأ . فإذا كان صام قبل حلول شهر رمضان فعلاً لم يجزئه ، لأنّه أدّى الواجب قبل وجوبه ووجود سببه ، وهو مشاهدة الشّهر ، ونقل الشّيرازيّ عن الأصحاب من الشّافعيّة قولاً آخر بالإحزاء ، لأنّه عبادةٌ تفعل في السّنة مرّةً ، فجاز أن يسقط فرضها بالفعل قبل الوقت عند الخطأ ، كالوقوف بعرفة إذا أخطأ النّاس ووقفوا قبل يوم عرفة ، ثمّ قال : والصّحيح أنّه لا يجزئه ، لأنّه تيقّن الخطأ فيما يؤمن مثله في القضاء ، فلم يعتدّ بما فعله ، كما لو تحرّى في وقت الصّلاة فصلّى قبل الوقت .
وإن تبيّن أنّ الشّهر الّذي صامه كان بعد رمضان صحّ .
وإذا كان الشّهر الّذي صامه ناقصاً ، ورمضان الّذي صامه النّاس تامّاً صام يوماً ، إذ لا بدّ من موافقة العدد ، لأنّ صوم شهرٍ آخر بعده يكون قضاءً ، والقضاء يكون على قدر الفائت . وعند الشّافعيّة وجهٌ آخر اختاره أبو حامدٍ الإسفرايينيّ بالإجزاء ، لأنّ الشّهر يقع على ما بين الهلالين ، ولهذا لو نذر صوم شهرٍ ، فصام شهراً نقاصاً بالأهلّة أجزأه . ثمّ قال الشّيرازيّ : والصّحيح عندي أنّه يجب عليه صوم يومٍ .
ومن ذلك الاشتباه في القبلة بالنّسبة لمن يجهلها . فقد نصّ فقهاء المذاهب على أنّ من اشتبهت عليه جهة القبلة ، ولم يكن عالماً بها ، سأل من بحضرته ممّن يعلمها من أهل المكان . وحدّ الحضرة أن يكون بحيث لو صاح به سمعه . فإذا تحرّى بنفسه وصلّى دون سؤالٍ ، وتبيّن له بعد ذلك أنّه لم يصب القبلة ، أعاد الصّلاة ، لعدم إجزاء التّحرّي مع القدرة على الاستخبار ، لأنّ التّحرّي دون الاستخبار ، إذ الخبر ملزمٌ له ولغيره ، بينما التّحرّي ملزمٌ له دون غيره ، فلا يصار إلى الأدنى مع إمكان الأعلى ، أمّا إذا لم يكن بحضرته أحدٌ يرجع إليه في ذلك ، أو كان وسأله ولم يجبه ، أو لم يدلّه ثمّ تحرّى ، فإنّ صلاته تصحّ ، حتّى لو تبيّن له بعد ذلك أنّه أخطأ ، لما روي عن عامر بن ربيعة أنّه قال : « كنّا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ مظلمةٍ ، فلم ندر أين القبلة ، فصلّى كلّ رجلٍ منّا على حياله - أي قبالته - فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فنزل قول اللّه سبحانه { فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه } » . ولأنّ العمل بالدّليل الظّاهر واجبٌ إقامةً للواجب بقدر الوسع ، وإقامةً للظّنّ مقام اليقين لتعذّره . ولما روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنّ " قبلة المتحرّي جهة قصده إن تحرّى ثمّ قبل الصّلاة أخبره عدلان من أهل الجهة أنّ القبلة إلى جهةٍ أخرى ، أخذ بقولهما ولا عبرة بالتّحرّي .
ذ - النّسيان :
16 - ومن ذلك المرأة إذا نسيت عادة حيضها ، واشتبه عليها الأمر بالنّسبة للحيض والطّهر ، بأن لم تعلم عدد أيّام حيضها المعتادة ، ولا مكان هذه الأيّام من الشّهر فإنّها تتحرّى ، فإن وقع تحرّيها على طهرٍ تعطى حكم الطّاهرات ، وإن كان على حيضٍ أعطيت حكمه ، لأنّ غلبة الظّنّ من الأدلّة الشّرعيّة .
وإن تردّدت ولم يغلب على ظنّها شيءٌ فهي المحيّرة ، وتسمّى المضلّلة ، لا يحكم لها بشيءٍ من الطّهر أو الحيض على التّعيين ، بل تأخذ بالأحوط في حقّ الأحكام ، لاحتمال كلّ زمانٍ يمرّ عليها من الحيض والطّهر والانقطاع ، ولا يمكن جعلها حائضاً دائماً لقيام الإجماع على بطلانه ، ولا طاهراً دائماً لقيام الدّم ، ولا التّبعيض لأنّه تحكّمٌ ، فوجب الأخذ بالأحوط في حقّ الأحكام للضّرورة . وتفصيل أحكامها في مصطلح ( استحاضةٌ ) .
س - وجود دليلٍ غير قويٍّ على خلاف الأصل :
17 - ومن ذلك ما قاله فقهاء الحنفيّة وابن شبرمة والثّوريّ وابن أبي ليلى في إثبات الشّفعة بسبب الجواز ، أو بسبب الشّركة في مرافق العقار ، ووافقهم الشّافعيّة في الصّحيح عندهم بالنّسبة للشّريك في ممرّ الدّار ، بأن كان للمشتري طريقٌ آخر إلى الدّار ، أو أمكن فتح بابٍ لها إلى شارع . وأمّا جمهور الفقهاء فيقصرونها على الشّركة في نفس العقار المبيع فقط ، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة ، لأنّ الشّفعة تثبت على خلاف الأصل ، إذ هي انتزاع ملك المشتري بغير رضاءٍ منه ، وإجبارٌ له على المعاوضة ، ولما روى جابرٌ من قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الشّفعة فيما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطّرق فلا شفعة » وبما روي عن سعيد بن المسيّب أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قسمت الأرض وحدّت فلا شفعة فيها » .
ومقتضى الأصل أن لا يثبت حقّ الأخذ بالشّفعة أصلاً ، لكنّها ثبتت فيما لا يقسم بالنّصّ الصّريح غير معقول المعنى ، فبقي الأمر في المقسوم على الأصل ، أو ثبت معلولاً بدفع ضررٍ خاصٍّ وهو ضرر القسمة .
وما استدلّ به الحنفيّة ومن معهم من أحاديث ، فإنّ في أسانيدها مقالاً . قال ابن المنذر : الثّابت عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حديث جابرٍ - السّابق ذكره - وما عداه من الأحاديث الّتي استدلّ بها الحنفيّة ومن معهم ، كالحديث الّذي رواه أبو رافعٍ « الجار أحقّ بسقبه » ، والحديث الّذي رواه سمرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « جار الدّار أحقّ بالدّار » . فإنّ فيها مقالاً . على أنّه يحتمل أنّه أراد بالجار الشّريك ، فإنّه جارٌ أيضاً . فكلّ هذا أورث شبهةً عند الجمهور ، لأنّ ما استدلّ به الحنفيّة غير قويٍّ ، وجاء على خلاف الأصل ، ولذا لم يثبتوا الشّفعة بسبب الجوار والشّركة في مرافق العقار ، وقصروها على الشّركة في العقار نفسه . وبناءً على هذا الاشتباه : لو قضى قاضٍ بها لا يفسخ قضاؤه . ومن الاشتباه النّاجم عن وجود دليلٍ غير قويٍّ على خلاف الأصل : ما قاله الحنفيّة من أنّ دلالة العامّ الّذي لم يخصّص قطعيّه ، فيدلّ على جميع الأفراد الّتي يصدق عليها معناه . فإذا دخله التّخصيص كانت دلالته ظنّيّةً . بينما يرى جمهور الأصوليّين أنّ دلالة العامّ في جميع أحواله ظنّيّةٌ ، إذ الأصل أنّه ما من عامٍّ إلاّ وخصّص . وما دام العامّ لا يكاد يخلو من مخصّصٍ ، فإن هذا يورث شبهةً قويّةً تمنع القول بقطعيّته في إفادة الشّمول والاستغراق ، ويترتّب على هذا الخلاف أنّ الحنفيّة يمنعون تحصيص عامّ الكتاب والسّنّة المتواترة ابتداءً بالدّليل الظّنّيّ ، خلافاً للجمهور .
وعلى هذا فقد ذهب الحنفيّة إلى تحريم أكل ذبيحة المسلم ، إذا تعمّد ترك التّسمية عليها ، لعموم قوله تعالى : { ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه } ولم يخصّصوا هذا العموم بحديث : « ذبيحة المسلم حلالٌ ، ذكر اسم اللّه أو لم يذكره » ، لأنّه خبر آحادٍ ، وقد وافقهم المالكيّة والحنابلة في تحريم ذبيحة المسلم إذا ترك التّسمية عمداً ، بينما الشّافعيّة يجيزون أكلها ، لأنّ دلالة العامّ عندهم ظنّيّةٌ ، فيجوز تحصيصه بما هو ظنّيٌّ ، وإن كرهوا تعمّد التّرك . وتفصيل ذلك في ( تذكيةٌ ، وتسميةٌ ) .
ومن هذا القبيل أيضاً : اختلاف الفقهاء في سرقة ما قيمته نصابٌ من الماء المحرّز ، فالأصل في الماء المحرّز أنّه مالٌ متقوّمٌ ، وأنّه ملكٌ لمن أحرزه ، ولا شركة فيه ولا شبهة الشّركة ، وقد ورد النّهي عن « بيع الماء إلاّ ما حمل » . ولهذا قال جمهور الفقهاء بوجوب القطع ، يقول ابن رشدٍ : اختلف الفقهاء في الأشياء الّتي أصلها مباحٌ ، هل يجب في سرقتها القطع ؟ فذهب الجمهور إلى أنّ القطع في كلّ متموّلٍ يجوز بيعه وأخذ العوض فيه ، وعمدتهم عموم الآية الموجبة للقطع ، يقول اللّه تعالى : { والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما } وعموم الآثار الواردة في اشتراط النّصاب ، ومنها ما ثبت عن السّيّدة عائشة رضي الله عنها أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال : « لا تقطع يد السّارق إلاّ في ربع دينارٍ فصاعداً » . ويقول الدّسوقيّ : ويجب القطع وإن كان المسروق محقّراً كماءٍ وحطبٍ ، لأنّه متموّلٌ ما دام محرّزاً ، ولو كان مباح الأصل . وهذا مذهب الشّافعيّة ، والقول المشهور عن أبي يوسف . لكنّ أبا حنيفة ومحمّد بن الحسن ، والحنابلة يرون عدم القطع ، لأنّه لا يتموّل عادةً ، ولأنّ الإباحة الأصليّة تورث شبهةً بعد الإحراز ، ولأنّ التّافه لا يحرّز عادةً ، أو لا يحرّز إحراز الخطير ، وينتهون إلى أنّ الاعتماد على معنى التّفاهة دون إباحة الأصل ، وإن كان منهم من يرى أنّ السّبب شبهة الشّركة .
ش - الإبهام مع عدم إمكان البيان :
18 - ومن ذلك ما إذا طلّق الرّجل إحدى زوجتيه ، دون تعيين واحدةٍ منهما ، ثمّ مات قبل البيان ، فيحدث الاشتباه بسبب ذلك فيمن وقع عليها الطّلاق . فالحنفيّة يفصّلون في هذه المسألة أحكام المهر المسمّى ، وحكم الميراث ، وحكم العدّة . فأمّا حكم المهر فإن كانتا مدخولاً بهما فلكلّ واحدةٍ منهما جميع المهر ، لأنّ كلّ واحدةٍ منهما تستحقّ جميع المهر ، منكوحةً كانت أو مطلّقةً . وإن كانتا غير مدخولٍ بهما فلهما مهرٌ ونصف مهرٍ بينهما ، لكلّ واحدةٍ . منهما ثلاثة أرباع المهر ، لأنّ كلّ واحدةٍ منهما يحتمل أن تكون زوجةً متوفّى عنها ، ويحتمل أن تكون مطلّقةً . فإن كانت زوجةً متوفّى عنها تستحقّ جميع المهر ، لأنّ الموت بمنزلة الدّخول ، وإن كانت مطلّقةً تستحقّ النّصف فقط ، لأنّ النّصف سقط بالطّلاق قبل الدّخول ، فلكلّ واحدةٍ منهما كلّ المهر في حالٍ ، والنّصف في حالٍ ، وليست إحداهما بأولى من الأخرى ، فيتنصّف ، فيكون لكلّ واحدةٍ ثلاثة أرباع مهرٍ .
وأمّا حكم الميراث ، فهو أنّهما يرثان منه ميراث امرأةٍ واحدةٍ ، ويكون بينهما نصفين في الأحوال كلّها ، لأنّ إحداهما منكوحةٌ بيقينٍ ، وليست إحداهما بأولى من الأخرى ، فيكون قدر ميراث امرأةٍ واحدةٍ بينهما بالسّويّة . وأمّا حكم العدّة ، فعلى كلّ واحدةٍ منهما عدّة الوفاة وعدّة الطّلاق ، أيّهما أطول ، لأنّ إحداهما منكوحةٌ والأخرى مطلّقةٌ ، وعلى المنكوحة عدّة الوفاة ، وعلى المطلّقة عدّة الطّلاق ، فدارت كلّ واحدةٍ من العدّتين في حقّ كلّ واحدةٍ من المرأتين بين الوجوب وعدم الوجوب ، والعدّة يحتاط في إيجابها ، ومن الاحتياط القول بوجوبها على كلّ واحدةٍ منهما . والمالكيّة يوافقون الحنفيّة في حكم الميراث والصّداق . ولم نقف على نصٍّ لهم بالنّسبة للعدّة . ولهم في الصّداق تفصيلٌ يرجع إليه في مصطلح ( صداقٌ ) . أمّا الشّافعيّة فإنّهم بالنّسبة للميراث يرون أنّه يوقف للزّوجتين من ماله نصيب زوجةٍ إلى أن يصطلحا ، لأنّه قد ثبت إرث إحداهما بيقينٍ ، وليست إحداهما بأولى من الأخرى ، فإن قال وارث الزّوج : أنا أعرف الزّوجة منهما ففيه قولان :
أحدهما : يرجع إليه ، لأنّه لمّا قام مقامه في استلحاق النّسب قام مقامه في تعيين الزّوجة . والثّاني : لا يرجع إليه ، لأنّ كلّ واحدةٍ منهما زوجةٌ في الظّاهر ، وفي الرّجوع إلى بيانه إسقاط وارثٍ مشاركٍ ، والوارث لا يملك إسقاط من يشاركه في الميراث . وقيل : إنّه في صورة ما إذا طلّق إحدى زوجتيه دون تعيينٍ لا يرجع إلى الوارث قولاً واحداً ، لأنّه اختيار شهوةٍ . وبالنّسبة للعدّة فإنّهم قالوا : إن لم يدخل بهما اعتدّت كلّ واحدةٍ منهما أربعة أشهرٍ وعشراً ، لأنّ كلّ واحدةٍ منهما يجوز أن تكون هي الزّوجة ، فوجبت العدّة عليهما ليسقط الفرض بيقينٍ . وإن دخل بهما ، فإن كانتا حاملين اعتدّتا بوضع الحمل ، لأنّ عدّة الطّلاق والوفاة في الحمل واحدةٌ . وإن كانتا من ذوات الشّهور اعتدّتا بأربعة أشهرٍ وعشرٍ ، لأنّها تجمع عدّة الطّلاق والوفاة ، وإن كانتا من ذوات الأقراء اعتدّتا بأقصى الأجلين .
وأمّا المهر فلم نجد نصّاً في المسألة .
وأمّا الحنابلة فقد نصّوا على أنّ من طلّق واحدةً من نسائه ، ومات قبل البيان ، أخرجت بالقرعة ، فمن تقع عليها القرعة فلا ميراث لها . وقد روي ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه ، وهو قول أبي ثورٍ ، لأنّه إزالة ملكٍ عن الآدميّ فتستعمل فيه القرعة عند الاشتباه ، كالعتق . ولأنّ الحقوق تساوت على وجهٍ تعذّر تعيّن المستحقّ فيه من غير قرعةٍ ، فينبغي أن تستعمل فيه القرعة ، كالقسمة بين النّساء في السّفر . فأمّا قسمة الميراث بين الجميع ففيه إعطاء من لا تستحقّ وإنقاض المستحقّ ، وفي وقف قسمة الميراث إلى غير غايةٍ تضييعٌ لحقوقهنّ ، وحرمان الجميع منع الحقّ عن صاحبه يقيناً .
ومن ذلك ما قالوه في ميراث الغرقي والهدمى والحرقى ، لأنّ من شروط الإرث تحقّق حياة الوارث وقت وفاة المورّث . وبالنّسبة للغرقى والهدمى والحرقى الّذين بينهم توارثٌ ماتوا معاً أو متعاقبين ، ولم يعلم أيّهم أسبق موتاً ، فإنّ ذلك يترتّب عليه اشتباهٌ عند التّوريث ، إذ لا يدرى أيّهم أسبق موتاً ، ولذا فإنّ جمهور الفقهاء قالوا : يمتنع التّوارث بينهم ، وإنّما توزّع تركة كلٍّ منهم على ورثته الأحياء دون اعتبارٍ لمن مات معه ، إذ لا توارث بالشّكّ ، وهو المعتمد ، لاحتمال موتهم معاً أو متعاقبين ، فوقع الشّكّ في الاستحقاق ، واستحقاق الأحياء متيقّنٌ ، والشّكّ لا يعارض اليقين . وتفصيله في ( إرثٌ ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
طرق إزالة الاشتباه :
19 - من اشتبه عليه أمرٌ ما فإنّ إزالة الاشتباه تكون عن طريق التّحرّي ، أو الأخذ بالقرائن ، أو استصحاب الحال ، أو الأخذ بالاحتياط ، أو بإجراء القرعة ونحوها .
وفيما يلي بيان ما تقدّم .
أ - التّحرّي :
20 - وهو عبارةٌ عن طلب الشّيء بغالب الرّأي عند تعذّر الوقوف على حقيقته ، وقد جعل التّحرّي حجّةً حال الاشتباه وفقد الأدلّة ، لضرورة العجز عن الوصول إلى المتحرّى عنه . وحكمه وقوع العمل صواباً في الشّرع . فمن اشتبهت عليه القبلة مثلاً ، ولم يجد سبيلاً لمعرفتها تحرّى . لما روي عن عامر بن ربيعة أنّه قال : « كنّا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ مظلمةٍ ، فلم ندر أين القبلة ، فصلّى كلّ رجلٍ منّا على حياله ، فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فنزل قول اللّه سبحانه : { فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه } » . وقال عليٌّ رضي الله عنه : قبلة المتحرّي جهة قصده ، ولأنّ العمل بالدّليل الظّاهر واجبٌ وإقامةٌ للواجب بقدر الوسع . والفروض إصابة عين الكعبة أو جهتها بالاجتهاد والتّحرّي ، على تفصيلٍ واختلافٍ بيانه في مصطلح ( استقبالٌ ) .
ب - الأخذ بالقرائن :
21 - القرينة : هي الأمارة الّتي ترجّح أحد الجوانب عند الاشتباه . جاء في فواتح الرّحموت : أنّ القرينة ما يترجّح به المرجوح . وقد تكون القرينة قطعيّةً ، وقد عرّفت مجلّة الأحكام العدليّة القرينة القاطعة بأنّها : الأمارة البالغة حدّ اليقين . ولا خلاف في أصل اعتبار القرينة على ما هو مبيّنٌ في مصطلح ( إثباتٌ ) ( ف 31 ) .
ومن هذا القبيل حكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده بالقيافة ( اتّباع الأثر وتعرّف الشّبه ) وجعلها دليلاً يثبت به النّسب عند الاشتباه .
وإذا تداعى رجلان شيئاً ، وقدّم كلٌّ منهما بيّنة قبوله ، وتساويا في العدالة ، واشتبه الأمر على القاضي ، فإن كان المدّعى به في يد أحدهما كان ذلك قرينةً ترجّح جانبه . وهذا معنى قولهم : تقدّم بيّنة الدّاخل على بيّنة الخارج عند التّكافؤ على ما هو المشهور .
ج - استصحاب الحال :
22 - المراد به استبقاء حكمٍ ثبت في الزّمن الماضي على ما كان ، واعتباره موجوداً مستمرّاً إلى أن يوجد دليلٌ يغيّره . وقد عرّفوه بأنّه استدلالٌ بالمتحقّق في الماضي على الوقوع في الحال . وقال الشّوكانيّ : المراد استصحاب الحال لأمرٍ وجوديٍّ أو عدميٍّ ، عقليٍّ أو شرعيٍّ . فمن علم أنّه متوضّئٌ ، ثمّ شكّ في طروء الحدث ، فإنّه يحكم بطهارته وبقاء وضوئه ما لم يثبت خلاف ذلك ، لأنّ الطّهارة الثّابتة بيقينٍ لا يحكم بزوالها بالشّكّ .
وتفصيل الكلام في حجّيّة الاستصحاب والتّرجيح به عند الاشتباه وانعدام الدّليل سبق بيانه في مصطلح ( استصحابٌ ) .
د - الأخذ بالاحتياط :
23 - جاء في اللّغة : الاحتياط طلب الأحظّ والأخذ بأوثق الوجوه . ومنه قولهم : افعل الأحوط . وقد نصّ الفقهاء على أنّه عند الاشتباه مثلاً ، فيما إذا وجد الزّوجان في فراشهما المشترك منيّاً ، ولم يذكر كلٌّ منهما مصدره ، وقال الزّوج : إنّه من المرأة ولعلّها احتلمت ، وقالت الزّوجة : إنّه من الرّجل ولعلّه احتلم ، فالأصحّ أنّه يجب الغسل عليهما احتياطاً . كما نصّوا في باب العدّة على أنّ المرأة المعقود عليها ، واختلى بها زوجها ثمّ فارقها ، فإنّها تعتدّ احتياطاً ، وإن لم يدخل بها ، لأنّ الخلوة مثار الشّبهة ، وهذا للمحافظة على الأعراض والأنساب .
هـ – الانتظار لمضيّ المدّة :
24- وهذا يكون فيما له مدّةٌ محدّدةٌ ، كدخول شهر رمضان ، فإنّ اللّه سبحانه يقول : { فمن شهد منكم الشّهر فليصمه } .
فإن اشتبه الأمر وغمّ الهلال وجب إكمال شعبان ثلاثين يوماً ، لخبر « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غمّ عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين يوماً » .
و - إجراء القرعة :
25 - يقول القرافيّ : متى تعيّنت المصلحة أو الحقّ في جهةٍ فلا يجوز الإقراع ، لأنّ في القرعة ضياع ذلك الحقّ المعيّن والمصلحة المتعيّنة ، ومتى تساوت الحقوق والمصالح ، واشتبه في المستحقّ فهذا هو موضع القرعة عند التّنازع ، منعاً للضّغائن . وتفصيلة في ( إثباتٌ ) ( ف ) وفي ( قرعةٌ ) .
الأثر المترتّب على الاشتباه :
26 - درء الحدّ : من أظهر ما يترتّب على الاشتباه من آثارٍ : درء الحدّ عن الجاني . فقد روت السّيّدة عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم » . وروي عن ابن مسعودٍ ادرءوا الحدود بالشّبهات . إلخ . وعن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قال : لأن أعطّل الحدود بالشّبهات أحبّ إليّ من أن أقيمها بالشّبهات . ويقول الكاسانيّ : إنّ الحدّ عقوبةٌ متكاملةٌ فيستدعي جنايةً متكاملةً ، فإذا كانت هناك شبهةٌ كانت الجناية غير متكاملةٍ .
27 - وممّا يترتّب على الاشتباه من آثارٍ عمليّةٍ عند اشتباه المصلّي : وجوب سجود السّهو جبراً ، لترك الواجب الأصليّ في الصّلاة أو تغييره ، أو تغيير فرضٍ منها عن محلّه الأصليّ ساهياً ، فيجب جبره بالسّجود .
فقد روى أبو سعيدٍ الخدريّ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا شكّ أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلّى ثلاثاً أم أربعاً ؟ فليطرح الشّكّ ، وليبن على ما استيقن ، ثمّ يسجد سجدتين قبل أن يسلّم . فإن كان صلّى خمساً شفعن له صلاته وإن كان صلّى إتماماً لأربعٍ كانتا ترغيماً للشّيطان » . ولأنّ الأصل عدم الإتيان بما شكّ فيه ، فلزمه الإتيان به . كما لو شكّ هل صلّى أو لا . وتفصيل ذلك في ( سجود السّهو ) .
28 - وممّا يترتّب على اشتباه القاضي فيما ينبغي أن يحكم به في الدّعوى الّتي ينظرها : مشاورة الفقهاء للاستئناس برأيهم ، وذلك ندباً عند جمهور الفقهاء ، ووجوباً في قولٍ عند المالكيّة ، وقد كان عثمان رضي الله عنه إذا جلس أحضر أربعةً من الصّحابة ثمّ استثارهم ، فإن رأوا ما راه أمضاه . يقول ابن قدامة : إذا نزل بالقاضي الأمر المشكل عليه مثله شاور فيه أهل العلم والأمانة . ثمّ قال : لأنّه قد ينتبه بالمشاورة ، ويذكر ما نسيه بالمذاكرة . والمشاورة هنا لاستخراج الأدلّة ، ويعرف القاضي الحقّ بالاجتهاد ، ولا يجوز أن يقلّد غيره ما دام مجتهداً . ومن أجل تيسير أمر المشورة على القاضي ، فإنّه يستحبّ أن يحضر مجلس الماضي أهل العلم من كلّ مذهبٍ ، حتّى إذا حدثت حادثةٌ يفتقر إلى أن يسألهم عنها ، سألهم ليذكروا أدلّتهم فيها وجوابهم فيها .
29 - كما قد يترتّب على الاشتباه وقف قسمة التّركة ، أو الاحتفاظ بقدرٍ منها ، كما إذا كان ضمن الورثة حملٌ عند وفاة المورّث ، ولا يدرى أذكرٌ هو أم أنثى ، حتّى يعلم نصيبه ، أو أصل استحقاقه في الإرث ، وكذلك بالنّسبة للمفقود والأسير ، فإنّه يجعل حيّاً بالنّسبة لماله حتّى يقوم الدّليل على وفاته ، ويجعل ميّتاً في مال غيره ، لكن يوقف له نصيبه كما يوقف نصيب الحمل حتّى يتبيّن حاله أو يقضي باعتباره ميّتاً . وتفصيل كلّ ذلك وبيانه في مصطلح : ( إرثٌ ) .
اشتراطٌ *
التعريف :
1 - الاشتراط لغةً : مصدرٌ للفعل اشترط ، واشترط معناه : شرط . تقول العرب : شرط عليه كذا أي ألزمه به ، فالاشتراط يرجع معناه إلى معنى الشّرط .
والشّرط ( بسكون الرّاء ) له عدّة معانٍ ، منها : إلزام الشّيء والتزامه . قال في القاموس : الشّرط إلزام الشّيء والتزامه في البيع ونحوه ، كالشّريطة ، ويجمع على شرائط وشروطٍ . والشّرط ( بفتح الرّاء ) معناه العلامة ، ويجمع على أشراطٍ . والّذي يعني به الفقهاء هو الشّرط ( بسكون الرّاء ) وهو إلزام الشّيء والتزامه . فإن اشترط الموكّل على الوكيل شرطاً فلا بدّ للوكيل أن يتقيّد به . وكذلك سائر الشّروط الصّحيحة الّتي تكون بين المتعاقدين ، فلا بدّ من التزامها وعدم الخروج عنها .
أمّا الاشتراط في الاصطلاح ، فقد عرّف الأصوليّون الشّرط بأنّه : ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده وجودٌ ولا عدمٌ لذاته ، ولا يشتمل على شيءٍ من المناسبة في ذاته بل في غيره . والشّرط بهذا المعنى يخالف المانع ، إذ يلزم من وجوده العدم . ويخالف السّبب ، إذ يلزم من وجوده الوجود ، ومن عدمه العدم . ويخالف جزء العلّة ، لأنّه يشتمل على شيءٍ من المناسبة ، لأنّ جزء المناسب مناسبٌ .
2 - والشّرط عند الأصوليّين قد يكون عقليّاً ، أو شرعيّاً ، أو عاديّاً ، أو لغويّاً ، باعتبار الرّابط بين الشّرط ومشروطه ، إن كان سببه العقل ، أو الشّرع ، أو العادة ، أو اللّغة . وهناك أقسامٌ أخرى للشّرط يذكرها الأصوليّون في كتبهم .
وللتّفصيل ينظر الملحق الأصوليّ .
3 - أمّا الشّرط عند الفقهاء فهو نوعان : أحدهما : الشّرط الحقيقيّ ( الشّرعيّ ) .
وثانيها : الشّرط الجعليّ . وفيما يلي معنى كلٍّ منهما :
أ - الشّرط الحقيقيّ :
4 - الشّرط الحقيقيّ هو ما يتوقّف عليه وجود الشّيء بحكم الشّرع ، كالوضوء بالنّسبة للصّلاة ، فإنّ الصّلاة لا توجد بلا وضوءٍ ، لأنّ الوضوء شرطٌ لصحّتها . وأمّا الوضوء فإنّه يوجد ، فلا يترتّب على وجوده وجود الصّلاة ، ولكن يترتّب على انتفائه انتفاء صحّة الصّلاة .
ب - الشّرط الجعليّ :
5 - الشّرط الجعليّ نوعان :
أحدهما : الشّرط التّعليقيّ ، وهو ما يترتّب عليه الحكم ولا يتوقّف عليه ، كالطّلاق المعلّق على دخول الدّار ، كما إذا قال لها : إن دخلت الدّار فأنت طالقٌ ، فإنّ الطّلاق مرتّبٌ على دخولها الدّار ، فلا يلزم من انتفاء الدّخول انتفاء الطّلاق ، بل قد يقع الطّلاق بسببٍ آخر . وثانيها : الشّرط المقيّد ، ومعناه التزام أمرٍ لم يوجد في أمرٍ وجد بصيغةٍ مخصوصةٍ . والاشتراط عند الفقهاء هو فعل المشترط ، بأن يعلّق أحد تصرّفاته ، أو يقيّدها بالشّرط ، فمعنى الاشتراط لا يتحقّق إلاّ في الشّرط الجعليّ . وسيأتي التّفصيل في مصطلح : ( شرطٌ ) .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّعليق :
6 - فرّق الزّركشيّ في قواعده بين الاشتراط والتّعليق ، بأنّ التّعليق ما دخل على أصل الفعل بأداته ، كإن وإذا ، والشّرط ما جزم فيه بالأصل ، وشرط فيه أمرٌ آخر . وقال الحمويّ في حاشيته على ابن نجيمٍ في الفرق بينهما : إنّ التّعليق ترتيب أمرٍ لم يوجد على أمرٍ يوجد ، بإن أو إحدى أخواتها ، والشّرط التزام أمرٍ لم يوجد في أمرٍ وجد بصيغةٍ مخصوصةٍ .
الاشتراط الجعليّ وأثره على التّصرّفات :
7 - الاشتراط الجعليّ قد يكون تعليقيّاً ، وقد يكون تقييديّاً ، فالاشتراط التّعليقيّ . هو عبارةٌ عن معنًى يعتبره المكلّف ، ويعلّق عليه تصرّفاً من تصرّفاته ، كالطّلاق ، والبيع وغيرهما . وقد سبق أنّ التّعليق هو عبارةٌ عن ترتيب أمرٍ لم يوجد على أمرٍ يوجد ، بإن أو إحدى أخواتها . فالاشتراط التّعليقيّ هو فعل المشترط ، كأن يعلّق أحد تصرّفاته على الشّرط .
هذا ، ولصحّة التّعليق شروطٌ يذكرها الفقهاء في كتبهم .
منها : أن يكون المعلّق عليه معلوماً يمكن الوقوف عليه ، ولهذا لو علّق الطّلاق بمشيئه اللّه تعالى لا يقع عند الحنفيّة والشّافعيّة ، لأنّ مشيئة اللّه سبحانه وتعالى لا يمكن الوقوف عليها . ومنها : أن يكون المعلّق عليه أمراً مستقبلاً ، بخلاف الماضي ، فإنّه لا مدخل للتّعليق فيه ، فهو تنجيزٌ حقيقةً ، وإن كان تعليقاً في الصّورة .
ومنها : ألاّ يفصل بين الشّرط وجوابه بما يعتبر فاصلاً في العادة ، فإن فعل ذلك لم يصحّ التّعليق . وللاشتراط التّعليقيّ أثره على التّصرّفات إذا اشترطه المشترط ، فإنّ من التّصرّفات ما يقبل التّعليق ، ومنها ما لا يقبله .
التّصرّفات الّتي لا تقبل التّعليق :
8 - منها : البيع ، وهو من التّمليكات ، لا يقبل الاشتراط التّعليقيّ عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لأنّ البيع فيه انتقالٌ للملك من طرفٍ إلى طرفٍ ، وانتقال الأملاك إنّما يعتمد الرّضا ، والرّضا يعتمد الجزم ، ولا جزم مع التّعليق .
ومنها : النّكاح ، فإنّه لا يصحّ تعليقه على أمرٍ في المستقبل عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . وتفصيل ذلك في باب النّكاح .
التّصرّفات الّتي تقبل الاشتراط التّعليقيّ :
9 - منها : الكفالة ، فإنّها تقبل الاشتراط التّعليقيّ عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة على الوجه الأصحّ . وتفصيل ذلك يأتي في موضعه .
هذا ، وبالنّظر إلى ما قاله العلماء في التّصرّفات على اختلاف أنواعها من التّمليكات والمعاوضات والالتزامات والإطلاقات والإسقاطات والتّبرّعات والولايات ، فإنّنا نجدهم متّفقين على أنّ بعض هذه التّصرّفات لا يقبل الاشتراط التّعليقيّ مطلقاً ، كالتّمليكات ، والمعاوضات ، والأيمان باللّه تعالى ، والإقرار . وبعضها يقبل الاشتراط التّعليقيّ مطلقاً ، كالولايات والالتزام ببعض الطّاعات ، كالنّذر مثلاً والإطلاقات . وبعضها فيه الخلاف من حيث قبوله الاشتراط التّعليقيّ أو عدم قبوله له ، كالإسقاطات وبعض عقود التّبرّعات وغيرها .
وسيأتي تفصيل ذلك كلّه في مصطلح : ( شرطٌ ) .
الاشتراط التّقييديّ وأثره :
10 - سبق أنّ الاشتراط التّقييديّ عند الفقهاء معناه : التزام أمرٍ لم يوجد في أمرٍ وجد بصيغةٍ مخصوصةٍ . أو أنّه : ما جزم فيه بالأصل وشرط فيه أمرٌ آخر . فالشّرط بهذين المعنيين يتحقّق فيه معنى الاشتراط ، لأنّ التزام أمرٍ لم يوجد في أمرٍ وجد ، أو اشتراط أمرٍ آخر بعد الجزم بالأصل هو الاشتراط . ولهذا الشّرط أثره على التّصرّفات إذا اشترط فيها من حيث الصّحّة والفساد أو البطلان . وبيان ذلك أنّ التّصرّف إذا قيّد بشرطٍ فلا يخلو هذا الشّرط إمّا أن يكون صحيحاً أو فاسداً أو باطلاً .
فإن كان الشّرط صحيحاً ، كما لو اشترط في البقرة كونها حلوباً فالبيع جائزٌ ، لأنّ المشروط صفةٌ للمبيع أو الثّمن ، وهي صفةٌ محضةٌ لا يتصوّر انقلابها أصلاً ، ولا يكون لها حصّةٌ من الثّمن بحالٍ . وإن كان الشّرط باطلاً أو فاسداً ، كما لو اشترى ناقةً على أن تضع حملها بعد شهرين ، كان البيع فاسداً . وكما لو قال : بعتك داري على أن تزوّجني ابنتك ، أو على أن أزوّجك ابنتي لم يصحّ ، لاشتراطه عقداً آخر ، ولشبهه بنكاح الشّغار . وإنّ الحنفيّة الّذين يفرّقون بين الفاسد والباطل يذكرون له ثلاثة أقسامٍ : صحيحٌ ، وفاسدٌ ، وباطلٌ . والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة الّذين لا يفرّقون بين الفاسد والباطل ، ويقولون بأنّهما واحدٌ ، يذكرون له قسمين : صحيحٌ ، وفاسدٌ أو باطلٌ . كما أنّ الفقهاء يذكرون للشّرط الصّحيح أنواعاً وللشّرط الفاسد أنواعاً ، وإنّ من الشّروط الفاسدة ما يفسد التّصرّف ويبطله ، ومنها ما يبقى التّصرّف معه صحيحاً . وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء اللّه في مصطلح ( شرطٌ ) .
ضوابط الاشتراط التّقييديّ عند الفقهاء :
11 - الاشتراط التّقييديّ قسمان : صحيحٌ ، وفاسدٌ أو باطلٌ .
القسم الأوّل : الاشتراط الصّحيح :
12 - الاشتراط الصّحيح ضابطه عند الحنفيّة : أنّه اشتراط صفةٍ قائمةٍ بمحلّ العقد وقت صدوره ، أو اشتراط ما يقتضيه العقد أو ما يلائم مقتضاه ، أو اشتراط ما ورد في الشّرع دليلٌ بجواز اشتراطه ، أو اشتراط ما جرى عليه التّعامل بين النّاس . وضابطه عند المالكيّة : أنّه اشتراط صفةٍ قائمةٍ بمحلّ العقد وقت صدوره ، أو اشتراط ما يقتضيه العقد ، أو اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولا ينافيه . وضابطه عند الشّافعيّة : أنّه اشتراط صفةٍ قائمةٍ بمحلّ العقد وقت صدوره ، أو اشتراط ما يقتضيه العقد ، أو اشتراط ما يحقّق مصلحةً مشروعةً للعاقدين ، أو اشتراط العتق لتشوّف الشّارع إليه . وضابطه عند الحنابلة : أنّه اشتراط صفةٍ قائمةٍ بمحلّ العقد وقت صدوره ، أو اشتراط ما يقتضيه العقد أو يؤكّد مقتضاه ، أو اشتراط ما أجاز الشّارع اشتراطه ، أو اشتراط ما يحقّق مصلحةً للعاقدين .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
القسم الثّاني : الاشتراط الفاسد أو الباطل :
وهذا النّوع ضربان : أحدهما : ما يفسد التّصرّف ويبطله ،
وثانيهما : ما يبقى التّصرّف معه صحيحاً . وهاك ضابط كلٍّ منهما .
الضّرب الأوّل : ما يفسد التّصرّف ويبطله :
13 - ضابطه عند الحنفيّة : اشتراط أمرٍ يؤدّي إلى غدرٍ غير يسيرٍ ، أو اشتراط أمرٍ محظورٍ ، أو اشتراط ما لا يقتضيه العقد ، وفيه منفعةٌ لأحد المتعاقدين أو لغيرهما ، أو للمعقود عليه ( إذا كان هذان الأخيران من أهل الاستحقاق ) ، أو اشتراط ما لا يلائم مقتضى العقد ، ولا ممّا جرى عليه التّعامل بين النّاس ، ولا ممّا ورد في الشّرع دليلٌ بجوازه . وضابطه عند المالكيّة : اشتراط أمرٍ محظورٍ ، أو أمرٍ يؤدّي إلى غدرٍ ، أو اشتراط ما ينافي مقتضى العقد . وضابطه عند الشّافعيّة : اشتراط أمرٍ لم يرد في الشّرع ، أو اشتراط أمرٍ يخالف مقتضى العقد ، أو اشتراط أمرٍ يؤدّي إلى جهالةٍ . وضابطه عند الحنابلة : اشتراط عقدين في عقدٍ ، أو اشتراط شرطين في عقدٍ واحدٍ ، أو اشتراط ما يخالف المقصود من العقد .
الضّرب الثّاني : ما يبطل ويبقى التّصرّف معه صحيحاً :
14 - وضابطه عند الحنفيّة : كلّ ما لا يقتضيه العقد ولا يلائم مقتضاه ، ولم يرد في الشّرع أو العرف دليلٌ بجوازه ، وليس فيه منفعةٌ لأحد المتعاقدين ، أو للمعقود عليه إذا كان من أهل الاستحقاق . فإذا اقترن بالعقد كان العقد صحيحاً والشّرط باطلاً .
وضابطه عند المالكيّة : اشتراط البراءة من العيوب ، أو اشتراط الولاء لغير المعتق ، أو اشتراط ما يخالف مقتضى العقد دون الإخلال بمقصوده .
وضابطه عند الشّافعيّة : اشتراط ما لا غرض فيه ، أو ما يخالف مقتضى العقد دون الإخلال بمقصوده . وضابطه عند الحنابلة : اشتراط ما ينافي مقتضى العقد ، أو اشتراط أمرٍ يؤدّي إلى جهالةٍ ، أو أمرٍ غير مشروعٍ . هذا ، وقد ذكر المالكيّة أنّ من الشّروط الفاسدة شروطاً تسقط إذا أسقطها المشترط . وضابطها عندهم : اشتراط أمرٍ يناقض المقصود من البيع ، أو يخلّ بالثّمن فيه ، أو يؤدّي إلى غدرٍ في الهبة .

اشتراكٌ *
التعريف :
1 - يطلق الاشتراك في اللّغة على الالتباس ، يقال : اشترك الأمر : التبس ، ويأتي الاشتراك بمعنى التّشارك . ورجلٌ مشتركٌ : إذا كان يحدّث نفسه كالمهموم ، أي أنّ رأيه مشتركٌ ليس بواحدٍ ، ولفظٌ مشتركٌ له أكثر من معنًى .
ويطلق الاشتراك في عرف العلماء ، كأهل العربيّة والأصول والميزان ( المنطق ) على معنيين : أحدهما : الاشتراك المعنويّ . وهو كون اللّفظ المفرد موضوعاً لمفهومٍ عامٍّ مشتركٍ بين الأفراد ، وذلك اللّفظ يسمّى مشتركاً معنويّاً .
ثانيهما : الاشتراك اللّفظيّ . وهو كون اللّفظ المفرد موضوعاً لمعنيين معاً على سبيل البدل من غير ترجيحٍ ، وذلك اللّفظ يسمّى مشتركاً لفظيّاً . أمّا الاشتراك عند الفقهاء : فلا يخرج عن معناه في اللّغة بمعنى التّشارك .
الألفاظ ذات الصّلة :
الخلطة :
2 - الخلطة هي الشّركة ، وهي نوعان : خلطة أعيانٍ ، وهي ما إذا كان الاشتراك في الأعيان . وخلطة أوصافٍ : وهي أن يكون مال كلّ واحدٍ من الخليطين متميّزاً فخلطاه ، واشتركا في عددٍ من الأوصاف ، كالمراح ( المأوى ) والمرعى والمشرب والمحلب والفحل والرّاعي . وللخلطة أثرٌ عند بعض الفقهاء في اكتمال نصاب الأنعام واحتساب الزّكاة . وتفصيله في ( زكاةٌ ) .
المشترك عند الأصوليّين وأقسامه :
3 - المشترك ما كان اللّفظ فيه موضوعاً حقيقةً في معنيين أو أكثر ، وينقسم المشترك عند الأصوليّين إلى قسمين : معنويٍّ ولفظيٍّ .
الأوّل : المشترك المعنويّ . وهو اللّفظ المفرد الموضوع لمفهومٍ عامٍّ مشتركٍ بين الأفراد ، وينقسم إلى المتواطئ والمشكّك .
أ - المتواطئ : وهو الكلّيّ الّذي تساوى المعنى في أفراده ، كالإنسان ، فإنّه متساوي المعنى في أفراده من زيدٍ وعمرٍو وغيرهما . وسمّي متواطئاً من التّواطؤ ( التّوافق ) لتوافق أفراد معناه فيه .
ب - المشكّك : وهو الكلّيّ الّذي تفاوت معناه في أفراده ، كالبياض ، فإنّ معناه في الثّلج أشدّ منه في العاج .
الثّاني : المشترك اللّفظيّ . وهو اللّفظ الموضوع لمعنيين معاً على سبيل البدل . أو هو أن يتّحد اللّفظ ويتعدّد المعنى على سبيل الحقيقة فيهما ، كالقرء ، فإنّه حقيقةٌ في الحيض والطّهر .
عموم المشترك :
4 - اختلفوا في عموم المشترك ، وهو أن يراد باللّفظ المشترك في استعمالٍ واحدٍ جميع معانيه ، بأن تتعلّق النّسبة بكلّ واحدٍ منها ، بأن يقال : رأيت العين ويراد بها الباصرة والجارية والذّهب وغيرها من معانيها ، ورأيت الجون ، ويراد به الأبيض والأسود ، وأقرأت هندٌ ، ويراد بها حاضت وطهرت .
فذهب الإمام أبو حنيفة إلى منع عموم المشترك ، وعليه الكرخيّ وفخر الدّين الرّازيّ والبصريّ والجبّائيّ وأبو هاشمٍ من المعتزلة . وذهب مالكٌ والشّافعيّ والقاضي أبو بكرٍ الباقلاّنيّ المالكيّ والقاضي عبد الجبّار المعتزليّ إلى جواز عموم المشترك .
مواطن الاشتراك :
5 - يرد الاشتراك كثيراً في الفقه فيما نجمل بعض أحكامه مع الإحالة إلى موطنها في كتب الفقه .
أ - الشّركة : وهي نوعان جبريّةٌ واختياريّةٌ .
- 1 - الجبريّة : وهي بأن يختلط مالان لرجلين اختلاطاً لا يمكن التّمييز بينهما ، أو يرثا مالاً .
- 2 - الاختياريّة : بأن يشتريا عيناً ، أو يتّهبا ، أو يوصى لهما فيقبلان ، أو يستوليا على مالٍ ، أو يخلطا مالهما . وفي جميع ذلك كلّ واحدٍ منهما أجنبيٌّ في نصيب الآخر ، لا يتصرّف فيه إلاّ بإذنه . والشّركة في العقود نوعان أيضاً : فهي إمّا شركةٌ في المال ، أو شركةٌ في الأعمال . فالشّركة في الأموال أنواعٌ : مفاوضةٌ وعنانٌ ووجوهٌ ، وشركةٌ في العروض . والشّركة في الأعمال نوعان : جائزةٌ ، وهي شركة الصّنائع ، وفاسدةٌ وهي الشّركة في المباحات . وهناك اختلافٌ بين الفقهاء في مشروعيّة بعض الشّركات .
وفي تفصيل أنواع الشّركات راجع مصطلح ( شركةٌ ) .
ب - الاشتراك في الجناية :
بأن يشترك اثنان فصاعداً في قتلٍ عمدٍ أو شبه عمدٍ أو خطأٍ أو قطع عضوٍ أو جرحٍ ، فاختلف في الانتقال إلى الدّية ، أو قتل الجماعة بالواحد على تفصيلٍ يرجع إليه في مصطلح ( جناياتٌ ، قصاصٌ ) .
ج- الاشتراك في الإرث :
وهو اشتراكٌ جبريٌّ كما تقدّم . وفي كيفيّة توزيع الأنصبة وإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه انظر مصطلح ( إرثٌ ) .
د - الطّريق المشترك :
وهو أن تشترك عدّة دورٍ في طريقٍ واحدٍ . وهذا الطّريق إمّا أن يكون مفتوحاً وهو الشّارع ، أو يكون مسدوداً . وفي البناء الزّائد على البيت إلى الدّرب تفصيلٌ في الجواز والحرمة . انظر مصطلح ( طريقٌ ) .
هـ - زوال الاشتراك :
يزول الاشتراك بالقسمة بين الشّركاء بأنفسهم بالتّراضي ، لأنّ الحقّ لهم ، ومن نصّبوه للقسمة وكيلٌ لهم . انظر مصطلح ( قسمةٌ ) . وكما تقسم الأعيان المشتركة تقسم المنافع المشتركة أيضاً مهايأةً ، أي مناوبةً في الزّمن . وينظر مصطلح : ( قسمةٌ ) ( ومهايأةٌ ) .

اشتغال الذّمّة *
التّعريف :
1 - الاشتغال في اللّغة : التّلهّي بشيءٍ عن شيءٍ ، وهو ضدّ الفراغ ، والذّمّة في اللّغة : العهد والضّمان والأمان . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : « وذمّة المسلمين واحدةٌ يسعى بها أدناهم ، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين » . ولا يخرج استعمال الفقهاء للاشتغال عن المعنى اللّغويّ .
أمّا الذّمّة فهي عند بعضهم : وصفٌ يصير الشّخص به أهلاً للإيجاب له وعليه ، وهو ما يعبّر عنه الفقهاء والأصوليّون بأهليّة الوجوب . وبعضهم عرّفها بأنّها : نفسٌ لها عهدٌ ، فإنّ الإنسان يولد وله ذمّةٌ صالحةٌ للوجوب له وعليه . فهي محلّ الوجوب لها وعليها .
ولعلّ تسمية النّفس بالذّمّة من قبيل تسمية المحلّ ( أي النّفس ) بالحال ( أي الذّمّة ) . فمعنى اشتغال الذّمّة بالشّيء عند الفقهاء هو وجوب الشّيء لها أو عليها ، ومقابله فراغ الذّمّة وبراءتها ، كما يقولون : إنّ الحوالة لا تتحقّق إلاّ بفراغ ذمّة الأصيل ، والكفالة لا تتحقّق مع براءة ذمّته .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - براءة الذّمّة :
2 - هي فراغ الذّمّة وضدّ الاشتغال ، وهي أصلٌ من الأصول المسلّمة الفقهيّة . يحال عليه ما لم يثبت خلافه ، والقاعدة الكلّيّة تقول : الأصل براءة الذّمّة . ولذا لم يقبل شغلها إلاّ بدليلٍ ، وموضع تفصيله مصطلح ( براءة الذّمّة ) .
ب - تفريغ الذّمّة :
3 - ومعناه جعل الذّمّة فارغةً ، وهو يحصل بالأداء مطلقاً ، أو بالإبراء في حقوق العباد الّتي تقبل الإبراء ، كما يحصل بالموت في حقوق اللّه تعالى على خلافٍ وتفصيلٍ يذكر في موضعه . ويحصل أيضاً بالكفالة بعد الموت فيما يتعلّق بحقوق العباد . وعبّر الأصوليّون عن وجوب تفريغ الذّمّة بوجوب الأداء ، كما يقول صاحب التّوضيح : إنّ وجوب الأداء هو لزوم تفريغ الذّمّة عمّا تعلّق بها .
صفتها : الحكم الإجماليّ :
4 - الغالب استعمال هذا المصطلح في الدّيون من حقوق العباد الماليّة ، ولهذا يعرّف الفقهاء الدّين بأنّه ما ثبت في الذّمّة ، كمقدارٍ من الدّراهم في ذمّة رجلٍ ، ومقدارٍ منها ليس بحاضرٍ . وفي هذه الحالة يلزم تفريغها بالأداء أو الإبراء . وتظلّ الذّمّة مشغولةً وإن مات ، ولذا يوفّى الدّين من مال المدين المتوفّى إذا ترك مالاً . وموضع تفصيله مصطلح ( دينٌ ) . والحقّ أنّ الذّمّة كما تشتغل بحقوق النّاس الماليّة ، تشغلها الأعمال المستحقّة ، كالعمل في ذمّة الأجير في إجارة العمل ، وتشغلها أيضاً الواجبات الدّينيّة من صلاةٍ وصيامٍ ونذورٍ ، لأنّ الواجب في الذّمّة قد يكون مالاً ، وقد يكون عملاً من الأعمال ، كأداء صلاةٍ فائتةٍ ، وإحضار شخصٍ أمام القضاء ونحو ذلك ، وحين اشتغال الذّمّة بشيءٍ من هذه الأمور يجب تفريغها ، إمّا بالأداء ، وإمّا بالإبراء إذا كانت حقّاً للعباد .
الوجوب في الذّمّة ، وتفريغها :
5 - عبّر الفقهاء عن اشتغال الذّمّة بالوجوب ، كما يقولون : إنّ الوجوب هو اشتغال ذمّة المكلّف بالشّيء ، ووجوب الأداء هو لزوم تفريغ الذّمّة عمّا تعلّق بها .
والأصل أنّ الإيجاب هو سبب اشتغال الذّمّة ، لأنّ اشتغال الذّمّة يحصل بالوجوب عليها . يقول صاحب التّوضيح فيما يتعلّق بالأداء والقضاء : إنّ الشّرع شغل الذّمّة بالواجب ثمّ أمر بتفريغها ويقول الغزاليّ في مستصفاه : اشتغلت الذّمّة بالأداء ، وبقيت بعد انقضاء الوقت ، فأمر بتفريغها بإتيان المثل ، فالوجوب الّذي ثبت في الذّمّة واحدٌ .
مواطن البحث :
6 - يتكلّم الفقهاء عن اشتغال الذّمّة في الكلام عن القواعد الفقهيّة ، وفي عقد الكفالة ، والحوالة ، وفي بحث الدّين . والقرض .
والأصوليّون يتكلّمون عنه في بحوث الأهليّة ، والأداء ، والقضاء ، والمأمور به ، وفي بحث القدرة كشرطٍ للتّكليف . وللتّفصيل يرجع إلى الملحق الأصوليّ .

اشتمال الصّمّاء *
التعريف :
1 - في اللّغة : اشتمل بالثّوب إذا أداره على جسده كلّه حتّى لا تخرج منه يده ، واشتمل عليه الأمر : أحاط به ، والشّملة الصّمّاء : الّتي ليس تحتها قميصٌ ولا سراويل . قال أبو عبيدٍ : اشتمال الصّمّاء هو أن يشتمل بالثّوب حتّى يجلّل به جسده ، ولا يرفع منه جانباً ، فيكون فيه فرجةٌ تخرج منها يده ، وهو التّلفّع .
أمّا في الاصطلاح : فيرى جمهور الفقهاء أنّه لا يخرج عن المعنى اللّغويّ . ويرى بعضهم أنّ اشتمال الصّمّاء هو ما يطلق عليه : الاضطباع ، وهو أن يضع طرفي ثوبه على عاتقه الأيسر . كما أنّ الكثرة من الفقهاء يرون أنّ اشتمال الصّمّاء لا يكون في حالة وجود إزارٍ . ويرى بعضهم أنّه لا مانع من أن يكون متّزراً أو غير متّزرٍ .
ومنشأ الخلاف في هذا مبنيٌّ على الثّوب .
صفتها : الحكم الإجماليّ :
2 - مع اختلافهم في التعريف على ما تقدّم فقد اتّفقوا على أنّ اشتمال الصّمّاء - إن انكشفت معه العورة - كان حراماً ومفسداً للصّلاة . وأمّا إذا لم يؤدّ إلى ذلك فقد اتّفقوا أيضاً على الكراهة ، ولكن حملها بعضهم على كراهة التّنزيه ، وبعضهم على أنّها كراهةٌ تحريميّةٌ . والأصل في ذلك ما رواه البخاريّ عن أبي هريرة وأبي سعيدٍ رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّه نهى عن لبستين : اشتمال الصّمّاء ، وأن يحتبي الرّجل بثوبٍ ليس بين فرجه وبين السّماء شيءٌ » .
مواطن البحث :
3 - ينظر تفصيل الموضوع في : ( لباسٌ ، وصلاةٌ ، وعورةٌ ، ومكروهات الصّلاة ) .

اشتهاءٌ *
التعريف :
1 - الاشتهاء في اللّغة : حبّ الشّيء واشتياقه ، والرّغبة فيه ونزوع النّفس إليه ، سواءٌ أكان ذلك خاصّاً بالنّساء أم بغير ذلك . والشّهوة كذلك ، وقد يقال للقوّة الّتي تشتهي الشّيء شهوةً . ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ ، وأغلب ما يعنون باستعمالهم للفظي اشتهاءٍ وشهوةٍ إنّما هو بالنّسبة لرغبة الرّجل في المرأة ورغبتها فيه ، وهو ما يجده أحدهما أو كلاهما من لذّةٍ نفسيّةٍ ، بتحريك القلب وميله ، أو لذّةٍ حسّيّةٍ بتحرّك أعضاء التّناسل ، وذلك عند النّظر أو المسّ ، أو المباشرة ، وما يترتّب على ذلك من أحكامٍ .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - الشّبق : وهو هياج شهوة النّكاح ، فالشّبق أخصّ من الاشتهاء .
صفتها : الحكم الإجماليّ :
3 - الاشتهاء الطّبيعيّ الّذي لا إرادة في إيجاده لا يتعلّق به حكمٌ ، لقوله تعالى : { لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها } ولقوله عليه الصلاة والسلام : « اللّهمّ هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك » ولكنّ الحكم يتعلّق بالاشتهاء الإراديّ .
وما تشتهيه النّفس : إمّا مباحٌ أو محرّمٌ .
أمّا المباح : فقد حكى الماورديّ في إعطاء النّفس حظّها من الشّهوات المباحة مذاهب . أحدها : منعها وقهرها حتّى لا تطغى .
الثّاني : إعطاؤها تخيّلاً على نشاطها .
الثّالث ، وهو الأشبه : التّوسّط . أمّا اشتهاء المحرّم فحرامٌ ، وأكثر ما يذكره الفقهاء في ذلك هو اشتهاء الرّجل المرأة الأجنبيّة ، أو العكس ، ويرتّبون على ذلك أحكاماً منها :
أ - النّظر :
4 - القاعدة العامّة في ذلك أنّ النّظر بشهوةٍ حرامٌ قطعاً لكلّ منظورٍ إليه من أجنبيّةٍ أو محرّمٍ ، لا زوجته وأمته ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من نظر إلى محاسن امرأةٍ أجنبيّةٍ عن شهوة صبّ في عينيه الآنك يوم القيامة » وخوف الشّهوة أو الشّكّ في الاشتهاء يحرم معه النّظر أيضاً ، والمرأة كالرّجل في ذلك يحرم نظرها إلى الرّجل إذا كان بشهوةٍ ، أو خافت ، أو شكّت في الاشتهاء . وهذا بالنّسبة لمن يشتهى من رجلٍ أو امرأةٍ . أمّا الصّغيرة الّتي لا تشتهى ، ومثلها العجوز فإنّه يحلّ النّظر والمسّ ، لانعدام خوف الفتنة ، أمّا عند خوف الفتنة فلا يجوز أيضاً . ويستثنى من حرمة النّظر ما إذا كانت هناك ضرورةٌ كالعلاج ، أو الشّهادة ، أو القضاء ، أو الخطبة للنّكاح ، فإنّه يباح النّظر حينئذٍ ولو مع الاشتهاء . وهذا باتّفاق الفقهاء مع تفصيلاتٍ تنظر في مصطلحي ( النّظر ، واللّمس ) وغيرهما .
ب - حرمة المصاهرة :
5 - يرى الحنفيّة أنّ من مسّته امرأةٌ بشهوةٍ حرمت عليه أمّها وبنتها ، وكذلك من مسّ امرأةً بشهوةٍ أو نظر إلى فرجها الدّاخل ، . لأنّ المسّ والنّظر سببٌ داعٍ للوطء ، فيقام مقامه في موضع الاحتياط ( والمسّ بشهوةٍ أن تنتشر الآلة أو تزداد انتشاراً ) وهو رأي المالكيّة أيضاً ، خلافاً للشّافعيّة وللحنابلة ، وفي الموضع تفصيلاتٌ كثيرةٌ تنظر في ( حرمةٌ - نكاحٌ - زنًى ) .
مواطن البحث :
6 - الاشتهاء أو الشّهوة تتعلّق به أحكامٌ عدّةٌ كنقض الوضوء ، وبطلان الصّلاة ، وإيجاب الغسل ، وحدّ الزّنى إن أدّى إلى مباشرةٍ في الفرج ، وتنظر في ( وضوءٌ ، وطهارةٌ ، وصلاةٌ ، وزنى ) .

نهاية الجزء الرابع/ الموسوعة الفقهية
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الموسوعة الفقهية / الجزء الخامس

إشرافٌ*
التعريف :
1 - الإشراف لغةً : مصدر أشرف ، أي اطّلع على الشّيء من أعلى . وإشراف الموضع : ارتفاعه ، والإشراف : الدّنوّ والمقاربة . وانطلاقاً من المعنى الأوّل أطلق المحدّثون كلمة إشرافٍ على ( المراقبة المهيمنة ) . وهو معنًى استعمله الفقهاء كالمعاني اللّغويّة الأخرى . فقد استعملوه في مراقبة ناظر الوقف والوصيّ والقيّم ومن في معناهم . الإشراف بمعنى العلوّ :
أ - إشراف القبر :
2 - لا يحلّ أن يكون القبر مشرفاً بالاتّفاق ، لما رواه مسلمٌ وغيره عن أبي الهيّاج الأسديّ قال : « قال لي عليّ بن أبي طالبٍ : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ألاّ تدع تمثالاً إلاّ طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته » وفي اعتبار تسنيم القبر إشرافاً خلافٌ تجده مفصّلاً في كتاب الجنائز من كتب الفقه .
ب - إشراف البيوت :
3 - يباح للإنسان أن يعلو ببنائه ما شاء بشرطين :
الأوّل : ألاّ يضرّ بغيره ، كمنع النّور أو الهواء عن الغير .
الثّاني : ألاّ يكون صاحب البناء ذمّيّاً ، فيمنع من تطويل بنائه على بناء المسلمين ، وإن رضي المسلم بذلك ، ليتميّز البناءان ، ولئلاّ يطّلع على عورة المسلم . وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب الجزية . الإشراف بمعنى الاطّلاع من أعلى :
4 - يمنع الشّخص من الإشراف على دار غيره إلاّ بإذنه ، ولذلك يمنع من أن يفتح في جداره كوّةً يشرف منها على جاره وعياله .
5 - أمّا الإشراف على الكعبة والنّظر إليها فهو من جملة القربات ، والسّاعي بين الصّفا والمروة يصعد على الصّفا وعلى المروة حتّى يشرف على الكعبة ، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الحجّ عند كلامهم على السّعي بين الصّفا والمروة . الإشراف بمعنى المراقبة المهيمنة :
6 - إقامة هذا النّوع من الإشراف واجبٌ تحقيقاً للمصالح الّتي هي مقصدٌ من مقاصد الشّارع ويتجلّى ذلك فيما يأتي :
أ - الولاية : سواءٌ أكانت ولايةً عامّةً كولاية أمير المؤمنين والقاضي ونحوهما ، أم ولايةً خاصّةً كولاية الأب على ابنه الصّغير ، كما سيأتي ذلك مفصّلاً في مبحث ( ولايةٌ ) .
ب - الوصاية : كالوصاية على المحجور عليه كما هو مبيّنٌ في مبحث ( الحجر ) .
ج - القوامة : كقوامة الرّجل على زوجته ، كما هو مفصّلٌ في مبحث ( النّكاح ) .
د - النّظارة : كناظر الوقف ، كما هو مفصّلٌ في كتاب الوقف من كتب الفقه . الإشراف بمعنى المقاربة والدّنوّ :
7 - يترتّب على الإشراف بهذا المعنى كثيرٌ من الأحكام ، ذكرها الفقهاء في أبوابها ، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر :
أ - عدم أكل الذّبيحة إذا ذبحت بعد أن أشرفت على الموت ، على خلافٍ وتفصيلٍ مبيّنٍ في كتاب الذّبائح ( التّذكية ) .
ب - وجوب إنقاذ من أشرف على الموت كالغريق ونحوه إن كان من الممكن إنقاذه .
ج - وجوب الانتفاع باللّقطة إذا أشرفت على التّلف . كما هو مبيّنٌ في كتاب ( اللّقطة ) .
إشراكٌ*
التعريف :
1 - الإشراك : مصدر أشرك ، وهو اتّخاذ الشّريك ، يقال أشرك باللّه : جعل له شريكاً في ملكه ، والاسم الشّرك . قال اللّه تعالى حكايةً عن لقمان : { يا بنيّ لا تشرك باللّه إنّ الشّرك لظلمٌ عظيمٌ } هذا هو المعنى المراد عند الإطلاق . كما يطلق أيضاً على الكفر الشّامل لجميع الملل غير الإسلام . فالشّرك أخصّ من الكفر على الإطلاق العامّ ، فكلّ شركٍ كفرٌ ولا عكس . كما يطلق الإشراك على مخالطة الشّريكين . يقال : أشرك غيره في الأمر أو البيع : جعله له شريكاً . كما يقال : تشارك الرّجلان ، واشتركا ، وشارك أحدهما الآخر . وتفصيله في مصطلحي ( توليةٍ ، وشركةٍ ) .
الإشراك باللّه تعالى :
2 - الإشراك باللّه تعالى جنسٌ تحته أنواعٌ ، وكلّه مذمومٌ ، وإن كان بعضه أكبر من بعضٍ . والشّرك له مراتب ، فمنه الشّرك الأكبر ، ومنه الأصغر ، وهو الشّرك الخفيّ .
أ - الشّرك الأكبر : وهو اتّخاذ الشّريك للّه تعالى في ألوهيّته أو عبادته ، وهو المراد بقوله تعالى : { إنّ الشّرك لظلمٌ عظيمٌ } وعن ابن مسعودٍ في الصّحيحين قال : « سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أيّ الذّنب أعظم عند اللّه ؟ قال : أن تجعل للّه ندّاً وهو خلقك »
ب - الشّرك الأصغر وهو الشّرك الخفيّ : وهو مراعاة غير اللّه في العبادة . مثل الرّياء والنّفاق ، لقوله تعالى : { ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً } قال ابن حجرٍ : نزلت فيمن يطلب الحمد والأجر بعباداته وأعماله . وقول رسول اللّه : « إنّ أدنى الرّياء شركٌ ، وأحبّ العبيد إلى اللّه الأتقياء الأسخياء الأخفياء » وقوله عليه السلام : « إنّ أخوف ما أتخوّف على أمّتي الإشراك باللّه ، أما أنّي لست أقول يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً ، ولكن أعمالاً لغير اللّه وشهوةً خفيّةً »
ما يكون به الشّرك :
3 - يكون الشّرك بأمورٍ يتنوّع اسمه بحسبها إلى ما يأتي :
أ - شرك الاستقلال ، وهو إثبات إلهين مستقلّين كشرك الثّنويّة ، أو أكثر من إلهين .
ب - شرك التّبعيض ، وهو اعتقاد أنّ الإله مركّبٌ من آلهةٍ ، كشرك النّصارى القائلين بالأقانيم الثّلاثة وشرك البراهمة .
ت - شرك التّقريب ، وهو عبادة غير اللّه ليقرّب إلى اللّه زلفًى ، كشرك متقدّمي الجاهليّة .
ث - شرك التّقليد ، وهو عبادة غير اللّه تعالى تبعاً للغير ، كشرك متأخّري الجاهليّة .
ج - الحكم بغير ما أنزل اللّه مع استحلال ذلك : لقوله تعالى : { اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه } وقد ورد « أما إنّهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنّهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئاً استحلّوه ، وإذا حرّموا عليهم شيئاً حرّموه » فهم لم يعبدوهم ولكن شرعوا لهم ما لم يأذن به اللّه . وشرك الأغراض : وهو العمل لغير اللّه تعالى .
ح - شرك الأسباب : وهو إسناد التّأثير للأسباب العاديّة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الكفر :
4 - الكفر اسمٌ يقع على ضروبٍ من الذّنوب ، منها الشّرك باللّه ، ومنها الجحد للنّبوّة ، ومنها استحلال ما حرّم اللّه ، ومنها إنكار ما علم من الدّين بالضّرورة . أمّا الشّرك فهو خصلةٌ واحدةٌ ، هو اتّخاذ إلهٍ مع اللّه . وقد يطلق الشّرك على كلّ كفرٍ على سبيل المبالغة . فعلى هذا يكون كلّ شركٍ كفراً ، ولا يكون كلّ كفرٍ شركاً إلاّ على سبيل المبالغة .
ب - التّشريك :
5 - التّشريك مصدر : شرّك ، وهو جعلك الغير لك شريكاً في الأمر أو البيع . فهو بمعنى الإشراك . إلاّ أنّه عند الإطلاق ينصرف الإشراك إلى : اتّخاذ شريكٍ للّه ، والتّشريك : اتّخاذك للغير شريكاً في المال أو الأمر .
صفته و حكمه التّكليفيّ :
6 - الإشراك باللّه تعالى حرامٌ . وحكم الأنواع الخمسة الأولى كفر مرتكبها بالإجماع . وحكم السّادس المعصية من غير كفرٍ بالإجماع . وحكم السّابع التّفصيل ، فمن قال في الأسباب العاديّة : إنّها تؤثّر بطبعها فقد حكي الإجماع على كفره ، ومن قال إنّها مؤثّرةٌ ( على سبيل الاستقلال ) بقوّةٍ أودعها اللّه فيها فهو فاسقٌ .
إسلام المشرك :
7 - يدخل المشرك كغيره من الكفّار في الإسلام بالنّطق بالشّهادتين ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه ، فمن قالها فقد عصم منّي ماله ونفسه إلاّ بحقّه ، وحسابه على اللّه » . ولم تشترط المذاهب الأربعة إضافة شيءٍ إلى الشّهادتين ، كالتّبرّي من كلّ دينٍ يخالف دين الإسلام ، إلاّ في بعض الحالات . وهناك أمورٌ أخرى يدخل بها المشرك في الإسلام ، وينظر تفصيل ذلك كلّه تحت عنوان ( إسلامٌ ) .
نكاح المشرك والمشركة :
8 - أنكحة الكفّار المتّفق عليها بينهم الأصل فيها الصّحّة ، وأنّهم يقرّون عليها ، وفي ذلك خلافٌ وتفصيلٌ موطنه مصطلحا : ( نكاحٌ ، وكفرٌ ) . ولا يختلف نكاح المشركين عن غيرهم من الكفّار أهل الكتاب إلاّ في أنّ الكافر إذا أسلم وكانت زوجته كتابيّةً فله استدامة نكاحها ، وليس له ذلك إن كانت مشركةً غير كتابيّةٍ ، وانظر التّفصيل تحت عنوان ( نكاحٌ ) .
الاستعانة بالمشركين في الجهاد :
9 - المراد بالمشرك هنا ما يعمّ كلّ كافرٍ ، فينظر : إن خرج للخدمة ، كسائق سيّارةٍ ونحوه ، فذلك جائزٌ اتّفاقاً . أمّا إذا خرج للقتال فهناك ثلاثة اتّجاهاتٍ : ذهب الجمهور إلى الجواز مطلقاً ، سواءٌ أكان خروجه بدعوةٍ أم بغير دعوةٍ ، واستدلّوا على ذلك « بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم استعان بناسٍ من اليهود في حربه» ، كما روي «أنّ صفوان بن أميّة خرج مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حنينٍ »، وهو على شركه ، فأسهم له .
وذهب المالكيّة في المعتمد عندهم إلى منع الاستعانة بالمشرك ، لكن لا يمنع إذا خرج من تلقاء نفسه . والرّأي الآخر للمالكيّة - وهو اختيار أصبغ - أنّه يمنع مطلقاً .
أخذ الجزية من المشركين :
10 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجزية تقبل من أهل الكتاب ، لقوله تعالى : { قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ، ولا يحرّمون ما حرّم اللّه ورسوله ، ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون } واتّفقوا كذلك على أخذها من المجوس ، لنصّ الحديث « سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب » ولأنّ لهم شبهة كتابٍ .« وقد وضع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الجزية عليهم ». أمّا ما عدا هؤلاء فهم ثلاثة أنواعٍ :
أ - مرتدّون : وهؤلاء لا تقبل منهم الجزية بالإجماع ، لأنّ المرتدّ كفر بربّه بعد ما هدي للإسلام ووقف على محاسنه ، فلا يقبل منه إلاّ الإسلام أو السّيف .
ب - مشركون من العرب : وهؤلاء لا تقبل منهم الجزية عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض المالكيّة ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نشأ بين أظهرهم ، والقرآن نزل بلغتهم ، فالمعجزة في حقّهم أظهر ، ولذلك لا يقبل منهم إلاّ الإسلام ، فإن لم يسلموا قتلوا ، والرّاجح عند المالكيّة أنّه تقبل منهم الجزية .
ج - مشركون من غير العرب : وهؤلاء لا تقبل منهم الجزية عند الشّافعيّة وظاهر مذهب الإمام أحمد ، ولا يقبل منهم إلاّ الإسلام أو السّيف ، لقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وقوله « صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه ، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها »
وعند الحنفيّة والمالكيّة وروايةً عن الإمام أحمد تقبل منهم الجزية ، لأنّه يجوز استرقاقهم ، فيجوز ضرب الجزية عليهم .
11-أجاز العلماء إعطاء الأمان للمشرك ليسمع كلام الله؛ لقوله تعالى:{وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} قال الأوزاعي :هي إلى يوم القيامة . كما أجازه للرسل ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤمن رسل المشركين ، وقال لرسولي مسيلمة :« لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما» ويكون الأمان من الإمام ، لأن ولايته عامة ، ومن والأمير لمن يوجد بإزائه من المشركين ، ومن مسلم مكلف مختار لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم :« ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ،فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لايقبل منه صرف ولاعدل» والتفصيل في مصطلح ( مستأمن )
صيد المشرك وذبيحته:
12 - اتّفق العلماء على تحريم صيد المجوسيّ وذبيحته إلاّ ما لا ذكاة له كالسّمك والجراد ، فإنّهم أجمعوا على إباحته . وحكم سائر الكفّار من عبدة الأوثان والزّنادقة وغيرهم حكم المجوس في تحريم ذبائحهم وصيدهم إلاّ ما لا ذكاة له كالسّمك والجراد ، لقوله « صلى الله عليه وسلم أحلّت لنا ميتتان : الحوت والجراد » وقال في البحر « هو الطّهور ماؤه ، الحلّ ميتته » . كما اتّفق فقهاء المذاهب على حلّ صيد الكتابيّ وذبيحته ، لقوله تعالى : { وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم } قال البخاريّ : طعامهم : ذبائحهم ، وهو المرويّ عن ابن مسعودٍ وأهل العلم ، ولما روي عن قيس بن السّكن الأسديّ قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّكم نزلتم بفارسٍ من النّبط ، فإذا اشتريتم لحماً فإن كان من يهوديٍّ أو نصرانيٍّ فكلوا ، وإن كان ذبيحة مجوسيٍّ فلا تأكلوا » وللتّفصيل ر - ( صيدٌ ، ذبائح ) .
الأشربة*
التعريف :
1 - الأشربة جمع شرابٍ ، والشّراب : اسمٌ لما يشرب من أيّ نوعٍ كان ، ماءً أو غيره ، وعلى أيّ حالٍ كان . وكلّ شيءٍ لا مضغ فيه فإنّه يقال فيه : يشرب . وفي الاصطلاح تطلق الأشربة على ما كان مسكراً من الشّراب ، سواءٌ كان متّخذاً من الثّمار ، كالعنب والرّطب والتّين ، أو من الحبوب كالحنطة أو الشّعير ، أو الحلويّات كالعسل . وسواءٌ كان مطبوخاً أو نيئاً . وسواءٌ كان معروفاً باسمٍ قديمٍ كالخمر ، أو مستحدثٍ ( كالعرق والشمبانيا ... إلخ ) ، لحديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ليشربنّ أناسٌ من أمّتي الخمر ويسمّونها بغير اسمها » . أنواع الأشربة المسكرة وحقيقة كلّ نوعٍ :
2 - تطلق الأشربة المسكرة عند الفقهاء على اختلاف مذاهبهم على قسمين : الخمر ، والأشربة الأخرى .
النّوع الأوّل : الخمر
التعريف :
3 - الخمر لغةً : ما أسكر من عصير العنب ، وسمّيت بذلك لأنّها تخامر العقل . وحقيقة الخمر إنّما هي ما كان من العنب دون ما كان من سائر الأشياء . قال الفيروزآبادي : الخمر ما أسكر من عصير العنب ، أو هو عامٌّ ، والعموم أصحّ ، لأنّها حرّمت وما بالمدينة خمر عنبٍ ، وما كان شرابهم إلاّ البسر والتّمر . وقال الزّبيديّ يشرح قول صاحب القاموس : ( أو عامٌّ ) أي : ما أسكر من عصير كلّ شيءٍ ، لأنّ المدار على السّكر وغيبوبة العقل ، وهو الّذي اختاره الجماهير . وسمّي الخمر خمراً ، لأنّها تخمّر العقل وتستره ، أو لأنّها تركت حتّى أدركت واختمرت . فعلى القول الأوّل يكون إطلاق اسم الخمر على سائر الأنبذة المسكرة من باب القياس اللّغويّ لما فيها من مخامرة العقل .
4 - واصطلاحاً : اختلف الفقهاء في تعريف الخمر بناءً على اختلافهم في حقيقتها في اللّغة وإطلاق الشّرع . فذهب أهل المدينة ، وسائر الحجازيّين ، وأهل الحديث كلّهم ، والحنابلة ، وبعض الشّافعيّة إلى أنّ الخمر تطلق على ما يسكر قليله أو كثيره ، سواءٌ اتّخذ من العنب أو التّمر أو الحنطة أو الشّعير أو غيرها . واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كلّ مسكرٍ خمرٌ ، وكلّ خمرٍ حرامٌ » . وبقول عمر رضي الله عنه : أيّها النّاس : إنّه نزل تحريم الخمر ، وهي من خمسةٍ : من العنب ، والتّمر ، والعسل ، والحنطة ، والشّعير . والخمر ما خامر العقل . وإنّ القرآن لمّا نزل بتحريم الخمر فهم الصّحابة - وهم أهل اللّسان - أنّ كلّ شيءٍ يسمّى خمراً يدخل في النّهي ، فأراقوا المتّخذ من التّمر والرّطب ولم يخصّوا ذلك بالمتّخذ من العنب ، على أنّ الرّاجح من حيث اللّغة كما تقدّم هو العموم . ثمّ على تقدير التّسليم بأنّ المراد بالخمر المتّخذ من عصير العنب خاصّةً . فإنّ تسمية كلّ مسكرٍ خمراً من الشّرع كان حقيقةً شرعيّةً ، وهي مقدّمةٌ على الحقيقة اللّغويّة . وذهب أكثر الشّافعيّة ، وأبو يوسف ومحمّدٌ من الحنفيّة ، وبعض المالكيّة إلى أنّ الخمر هي المسكر من عصير العنب إذا اشتدّ ، سواءٌ أقذف بالزّبد أم لا ، وهو الأظهر عند الشّرنبلاليّ وذهب أبو حنيفة وبعض الشّافعيّة إلى أنّ الخمر هي عصير العنب إذا اشتدّ . وقيّده أبو حنيفة وحده بأن يقذف بالزّبد بعد اشتداده . واشترط الحنفيّة في عصير العنب كونه نيئاً . يتبيّن ممّا سبق أنّ إطلاق اسم الخمر على جميع أنواع المسكرات عند الفريق الأوّل من باب الحقيقة ، فكلّ مسكرٍ عندهم خمرٌ .
وأمّا الفريق الثّاني والثّالث ، فحقيقة الخمر عندهم عصير العنب إذا غلى واشتدّ عند الفريق الثّاني ، وقذف بالزّبد عند الفريق الثّالث . وإطلاقه على غيره من الأشربة مجازٌ وليس بحقيقةٍ . النّوع الثّاني : الأشربة المسكرة الأخرى
5 - ذهب جماهير العلماء إلى أن يكون كلّ مسكرٍ خمراً هو حقيقةٌ لغويّةٌ أو شرعيّةٌ كما علم ممّا سبق ، وجمهور الشّافعيّة الّذين ذهبوا إلى أنّ الخمر ما كان من عصير العنب لا يخالفون الجمهور في أنّ ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ ، والاختلاف في الإطلاق بين الجمهور ، وأكثر الشّافعيّة لم يغيّر الأحكام من وجوب الحدّ عند شرب قليله ، والنّجاسة ، وغير ذلك ممّا يتعلّق بالخمر ، ما عدا مسألة تكفير مستحلّ غير الخمر ، فلا يكفر منكر حكمه للاختلاف فيه ، كما سيأتي كلّ ذلك مفصّلاً . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الخمر الّتي يحرم قليلها وكثيرها ، ويحدّ بها ، ويكفر مستحلّها ، إلى غير ذلك هي المتّخذة من عصير العنب خاصّةً ، أمّا الأنبذة عندهم فلا يحدّ شاربها إلاّ إذا سكر منها . والأشربة المحرّمة عند الحنفيّة على ثلاثة أنواعٍ النّوع الأوّل : الأشربة المتّخذة من العنب وهي:
أ - الخمر وهي المتّخذة من عصير العنب النّيء إذا غلى واشتدّ عند أبي يوسف ومحمّدٍ ، وقذف بالزّبد عند أبي حنيفة . وبقول الصّاحبين من عدم اشتراط قذف الزّبد قال الأئمّة الثّلاثة مالكٌ والشّافعيّ وأحمد . ولعصير العنب أنواعٌ بحسب ذهاب جزءٍ منه بالطّبخ ، كالباذق ، والطّلاء ، والمثلّث ، والمنصّف ولا يختلف حكمها كما سيأتي بيانه . وفي حكم هذا النّوع ما يتّخذ من الزّبيب ، وهو صنفان :
1 - نقيع الزّبيب وهو أن يترك الزّبيب في الماء من غير طبخٍ حتّى تخرج حلاوته إلى الماء ، ثمّ يشتدّ ويغلي ويقذف بالزّبد عند أبي حنيفة ، أو لم يقذف بالزّبد عند صاحبيه .
2 - نبيذ الزّبيب وهو النّيء من ماء الزّبيب إذا طبخ أدنى طبخٍ وغلى واشتدّ .
النّوع الثّاني : ما يتّخذ من التّمر أو الرّطب ( وهو السّكّر ) والبسر ( وهو الفضيخ ) . وفي حكم هذا النّوع الخليطان . وهو شرابٌ من ماء الزّبيب وماء التّمر أو البسر أو الرّطب المختلطين إذا طبخا أدنى طبخٍ وإن اشتدّ ، ولا عبرة بذهاب الثّلثين
النّوع الثّالث : نبيذ ما عدا العنب والتّمر كالعسل أو التّين أو البرّ ونحوها . هذه هي الأشربة المحرّمة عند الحنفيّة ، أمّا الخمر فبإجماع الأمّة ، وأمّا نبيذ العنب والتّمر فيحرم عند أبي حنيفة وأبي يوسف القدر المسكر منها خلافاً لمحمّدٍ ، وأمّا نبيذ العسل والتّين والبرّ والشّعير ونحو ذلك فمباحٌ عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، بشرط ألاّ يشرب للهوٍ أو طربٍ ، وخالفهما محمّدٌ ، ورأيه هو المفتى به عند الحنفيّة ، كما سيتّضح فيما يأتي .
أحكام الخمر :
6 - المراد بالخمر هنا جميع المسكرات جرياً على مذهب الجمهور ، وأحكامها ما يأتي : الأوّل : تحريم شربها قليلها وكثيرها :
7 - ثبتت حرمة الخمر بكتاب اللّه وسنّة رسوله وإجماع الأمّة . أمّا الكتاب . فقوله تعالى : { إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون . إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ، ويصدّكم عن ذكر اللّه وعن الصّلاة فهل أنتم منتهون } . وتحريم الخمر كان بتدريجٍ وبمناسبة حوادث متعدّدةٍ ، فإنّهم كانوا مولعين بشربها . وأوّل ما نزل صريحاً في التّنفير منها قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس } فلمّا نزلت هذه الآية تركها بعض النّاس ، وقالوا : لا حاجة لنا فيما فيه إثمٌ كبيرٌ ، ولم يتركها بعضهم ، وقالوا : نأخذ منفعتها ، ونترك إثمها . فنزلت هذه الآية : { لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى } فتركها بعض النّاس ، وقالوا : لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصّلاة ، وشربها بعضهم في غير أوقات الصّلاة حتّى نزلت : { يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر ... } الآية . فصارت حراماً عليهم ، حتّى صار يقول بعضهم : ما حرّم اللّه شيئاً أشدّ من الخمر
8 - وقد أكّد تحريم الخمر والميسر بوجوهٍ من التّأكيد : منها : تصدير الجملة بإنّما . ومنها : أنّه سبحانه وتعالى قرنهما بعبادة الأصنام . ومنها : أنّه جعلهما رجساً . ومنها : أنّه جعلهما من عمل الشّيطان ، والشّيطان لا يأتي منه إلاّ الشّرّ البحت . ومنها : أنّه أمر باجتنابهما . ومنها : أنّه جعل الاجتناب من الفلاح ، وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خيبةً وممحقةً . ومنها : أنّه ذكر ما ينتج منهما من الوبال ، وهو وقوع التّعادي والتّباغض من أصحاب الخمر والقمار ، وما يؤدّيان إليه من الصّدّ عن ذكر اللّه ، وعن مراعاة أوقات الصّلاة . وقوله تعالى : { فهل أنتم منتهون } من أبلغ ما ينهى به ، كأنّه قيل : قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصّوارف والموانع ، فهل أنتم مع هذه الصّوارف منتهون ، أم أنتم على ما كنتم عليه ، كأن لم توعظوا ولم تزجروا .
9 - وأمّا السّنّة فقد وردت أحاديث كثيرةٌ في تحريم الخمر قليلها وكثيرها . وقد قال جماهير العلماء : كلّ شرابٍ أسكر كثيره حرم قليله ، فيعمّ المسكر من نقيع التّمر والزّبيب وغيرهما ، لما تقدّم من الآية الكريمة وللأحاديث الشّريفة التّالية : عن عائشة رضي الله عنها أنّه صلى الله عليه وسلم قال : « كلّ شرابٍ أسكر فهو حرامٌ » . وقال عليه الصلاة والسلام : « كلّ مسكرٍ خمرٌ ، وكلّ خمرٍ حرامٌ » . وعن سعد بن أبي وقّاصٍ أنّه صلى الله عليه وسلم قال : « أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره » . وعن النّبيّ أنّه قال : « ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ » . وقال عليه الصلاة والسلام : « كلّ مسكرٍ حرامٌ ، وما أسكر منه الفرق فملء الكفّ منه حرامٌ » . وعن أمّ سلمة قالت : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن كلّ مسكرٍ ومفتّرٍ » . فهذه الأحاديث كلّها دالّةٌ على أنّ كلّ مسكرٍ حرامٌ ، ومنها ما يدلّ على تسمية كلّ مسكرٍ خمراً ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « كلّ مسكرٍ خمرٌ » . كما يدلّ بعضها على أنّ المسكر حرامٌ لعينه ، قلّ أو كثر ، سكر منه شاربه أو لم يسكر ، وهذا عند الجمهور . وذهب الحنفيّة إلى أنّ النّيء من عصير العنب إذا غلى واشتدّ عند الصّاحبين ، وقذف بالزّبد عند أبي حنيفة ، هو الخمر الّتي يحرم شرب قليلها وكثيرها إلاّ عند الضّرورة ، لأنّها محرّمة العين ، فيستوي في الحرمة قليلها وكثيرها . أمّا عصير غير العنب والتّمر ، أو المطبوخ منهما بشرطه ، فليس حراماً لعينه . ومن هنا فلا يحرم إلاّ السّكر منه كما سيأتي تفصيله . وأمّا السّكر والفضيخ ونقيع الزّبيب ، فيحرم شرب قليلها وكثيرها باتّفاق الفقهاء ، لما تقدّم من الأحاديث ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : « الخمر من هاتين الشّجرتين » . وأشار عليه الصلاة والسلام إلى النّخلة والكرمة . والّذي هاهنا هو المستحقّ لاسم الخمر ، فكان حراماً . هذا إذا كان عصيرهما نيئاً غير مطبوخٍ ، وغلى واشتدّ عند الصّاحبين ، وقذف بالزّبد عند أبي حنيفة . أمّا المطبوخ من هذه الأشياء فسيأتي حكمه عند الأحناف . شرب درديّ الخمر :
10 - ذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم شرب درديّ الخمر ، ويحدّ شاربه ، لأنّه خمرٌ بلا شكٍّ ، وسواءٌ درديّ الخمر أو درديّ غيره ، وأنّه لا فرق بين الجميع ، ويحدّ بالثّخين منها إذا أكله . وذهب الأحناف إلى كراهة شرب درديّ الخمر ، لأنّ فيه ذرّات الخمر المتناثرة ، وقليله ككثيره ، ولكن لا يحدّ شارب الدّرديّ إلاّ إذا سكر ، لأنّه لا يسمّى خمراً ، فإذا سكر منه وجب الحدّ عليه ، كما في شرب الباذق أو المنصّف .
حكم المطبوخ من العنب أو عصيره :
11 - إنّ المطبوخ من عصير العنب أدنى طبخٍ ، بحيث ذهب منه أقلّ من الثّلثين ، وكان مسكراً يحرم شرب قليله وكثيره عند الفقهاء عامّةً ، لأنّه إذا ذهب أقلّ من الثّلثين بالطّبخ ، فالحرام فيه باقٍ ، وهو ما زاد على الثّلث . أمّا إذا ذهب ثلثاه بالطّبخ ، وبقي ثلثه فهو حلالٌ وإن اشتدّ عند أبي حنيفة وأبي يوسف . وقال محمّدٌ : يحرم . وهذا الخلاف فيما إذا قصد به التّقوّي ، أمّا إذا قصد به التّلهّي فإنّه لا يحلّ بالاتّفاق . وعن محمّدٍ مثل قولهما . وعنه أنّه كره ذلك ، وعنه أنّه توقّف فيه . هذا إذا طبخ عصير العنب ، فأمّا إذا طبخ العنب كما هو ، فقد حكى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنّ حكمه حكم العصير لا يحلّ حتّى يذهب ثلثاه . وروى الحسن عن أبي حنيفة أنّ حكمه حكم الزّبيب ، حتّى لو طبخ أدنى طبخةٍ يكون بمنزلة الزّبيب ، أي يحلّ منه ما دون المسكر وإن لم يذهب ثلثاه ، لأنّ طبخه قبل عصره أبعد عن صفة الخمر ، فلم يعتبر ذهاب الثّلثين .
حكم المطبوخ من نبيذ التّمر ونقيع الزّبيب وسائر الأنبذة :
12 - مذهب جمهور العلماء - كما تقدّم - أنّ ما أسكر من النّيء والمطبوخ ، سواءٌ اتّخذ من العنب أو التّمر أو الزّبيب أو غيرها يحرم شرب قليله وكثيره ، وقد سبق ذكر أدلّتهم . أمّا عند الحنفيّة ، فقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف : إنّ المطبوخ من نبيذ التّمر ونقيع الزّبيب أدنى طبخةٍ ، يحلّ شربه ولا يحرم إلاّ السّكر منه . وعن محمّدٍ روايتان : الرّواية الأولى : لا يحلّ شربه ، لكن لا يجب الحدّ إلاّ بالسّكر . والرّواية الثّانية : قال محمّدٌ : لا أحرّمه ، ولكن لا أشرب منه . واحتجّ أبو حنيفة وأبو يوسف لقولهما : بأنّ طبخ العصير على هذه الصّفة - وهي أن يذهب أقلّ من ثلثيه - لا يحرم إلاّ السّكر منه ، وإن اشتدّ وقذف بالزّبد ، إذا غلب على ظنّه أنّ الشّراب لا يسكره ، وذلك لأنّه ليس فيه قوّة الإسكار بنفسه . هذا ، وإن حلّ شرب القليل الّذي لا يسكر عند أبي حنيفة وأبي يوسف ليس مطلقاً ، ولكنّه مقيّدٌ بشروطٍ هي :
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
1 - أن يكون شربه للتّقوّي ونحوه من غرضٍ صحيحٍ .
2 - أن يشربه لا للّهو والطّرب ، فلو شربه للّهو أو الطّرب فقليله وكثيره حرامٌ .
3 - ألاّ يشرب ما يغلب على ظنّه أنّه مسكرٌ ، فلو شرب حينئذٍ ، فيحرم القدح الأخير الّذي يحصل السّكر بشربه ، وهو الّذي يعلم يقيناً ، أو بغالب الرّأي ، أو بالعادة أنّه يسكره . وهذا كلّه عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، كما تقدّم ، ومثلهما بقيّة فقهاء العراق : إبراهيم النّخعيّ من التّابعين ، وسفيان الثّوريّ ، وابن أبي ليلى ، وشريكٌ ، وابن شبرمة ، وسائر فقهاء الكوفيّين ، وأكثر علماء البصريّين ، فإنّهم قالوا : إنّ المحرّم من غير الخمر من سائر الأنبذة الّتي يسكر كثيرها هو السّكر نفسه ، لا العين ، وهذا إنّما هو في المطبوخ منها .
13 - ودليل أبي حنيفة ومن معه من السّنّة ما يأتي :
أ - عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أتي بنبيذٍ فشمّه ، فقطّب وجهه لشدّته ، ثمّ دعا بماءٍ فصبّه عليه وشرب منه »
ب - « إنّ النّبيّ قال : لا تنبذوا الزّهو والرّطب جميعاً ، ولا تنبذوا الرّطب والزّبيب جميعاً ، ولكن انتبذوا كلّ واحدٍ منها على حدته » ، وفي لفظ البخاريّ ذكر التّمر بدل الرّطب . قالوا : وهذا نصٌّ على أنّ المتّخذ من كلّ واحدٍ منها مباحٌ .
ج - عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن التّمر والزّبيب أن يخلط بينهما ، يعني في الانتباذ » . وزيد في روايةٍ أنّه قال : « من شربه منكم فليشربه زبيباً فرداً ، وتمراً فرداً ، وبسراً فرداً » .
د - واستدلّوا على إباحة الخليطين بما روته عائشة رضي الله عنها قالت : « كنّا ننتبذ لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم في سقاءٍ ، فنأخذ قبضةً من تمرٍ ، وقبضةً من زبيبٍ ، فنطرحهما فيه ، ثمّ نصبّ عليه الماء فننتبذه غدوةً فيشربه عشيّةً ، وننتبذه عشيّةً فيشربه غدوةً »
14 - وأدلّتهم من الآثار :
أ - ما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه كتب إلى عمّار بن ياسرٍ رضي الله عنه : إنّي أتيت بشرابٍ من الشّام طبخ حتّى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه ، فذهب منه شيطانه وريح جنونه ، وبقي طيبه وحلاله ، فمر المسلمين قبلك ، فليتوسّعوا به في أشربتهم . فقد نصّ على أنّ الزّائد على الثّلث حرامٌ ، وأشار إلى أنّه ما لم يذهب ثلثاه فالقوّة المسكرة فيه قائمةٌ ، ورخّص في الشّراب الّذي ذهب ثلثاه وبقي ثلثه .
ب - ما روي أيضاً عن عمر رضي الله عنه أنّه كان يشرب النّبيذ الشّديد ، وأنّه هو وعليٌّ وأبو عبيدة بن الجرّاح ومعاذ بن جبلٍ وأبو الدّرداء وأبو موسى الأشعريّ أحلّوا الطّلاء ، وكانوا يشربونه ، وهو : ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه ، وقال عمر : هذا الطّلاء مثل طلاء الإبل ، ثمّ أمر بشربه ، وكان عليٌّ يرزق النّاس طلاءً يقع فيه الذّباب ، فلا يستطيع الخروج منه ، أي لحلاوته . حكم الأشربة الأخرى :
15 - تقدّم أنّ مذهب جمهور العلماء تحريم كلّ شرابٍ مسكرٍ قليله وكثيره ، وعلى هذا فإنّ الأشربة المتّخذة من الحبوب والعسل واللّبن والتّين ونحوها يحرم شرب قليلها إذا أسكر كثيرها ، وبهذا قال محمّد بن الحسن من الحنفيّة وهو المفتى به عندهم . وذلك للأدلّة المتقدّمة من أنّ كلّ شرابٍ مسكرٍ خمرٌ وكلّ خمرٍ حرامٌ " وغير ذلك . ورأي الجمهور مرويٌّ عن عمر ، وعليٍّ ، وابن مسعودٍ ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، وسعد بن أبي وقّاصٍ ، وأبيّ بن كعبٍ ، وأنسٍ ، وعائشة ، وابن عبّاسٍ ، وجابر بن عبد اللّه ، والنّعمان بن بشيرٍ ، ومعاذ بن جبلٍ ، وغيرهم من فقهاء الصّحابة رضي الله عنهم . وبذلك قال ابن المسيّب ، وعطاءٌ ، وطاوسٌ ومجاهدٌ ، والقاسم ، وقتادة ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبو ثورٍ ، وأبو عبيدٍ ، وإسحاق بن راهويه ، والأوزاعيّ ، وجمهور فقهاء الحجاز ، وجمهور المحدّثين عن فقهاء التّابعين ومن بعدهم . تفصيلاتٌ لبعض المذاهب في بعض الأشربة :
16 - اختلف المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في حكم بعض الأشربة غير المسكرة في تقديرهم ، كالخليطين ، والنّبيذ ، والفقّاع .
أ - الخليطان : ذهب المالكيّة إلى تحريم الخليطين من الأشياء الّتي من شأنها أن تقبل الانتباذ ، كالبسر والرّطب ، والتّمر والزّبيب ولو لم يشتدّا ، لأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم « نهى أن ينبذ الرّطب والبسر جميعاً » . والنّهي يقتضي التّحريم ، إذا لم يكن هناك قرينةٌ تصرفه إلى غير ذلك كالكراهة . أي أخذاً بظاهر هذا الحديث وغيره يحرم الخليطان ، وإن لم يكن الشّراب منهما مسكراً سدّاً للذّرائع . وقال الشّافعيّة : يكره من غير المسكر : المنصّف ، وهو ما يعمل من تمرٍ ورطبٍ ، والخليط : وهو ما يعمل من بسرٍ ورطبٍ ، لأنّ الإسكار يسرع إلى ذلك بسبب الخلط قبل أن يتغيّر ، فيظنّ الشّارب أنّه ليس بمسكرٍ ، ويكون مسكراً ، فإن أمن سكره ولم تكن فيه شدّةٌ مطربةٌ فيحلّ . وقال الحنابلة : يكره الخليطان ، وهو أن ينبذ في الماء شيئان ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين وعن أحمد : الخليطان حرامٌ ، قال القاضي : يعني أحمد بقوله : ( هو حرامٌ ) . إذا اشتدّ وأسكر ، وهذا هو الصّحيح إن شاء اللّه ، وإنّما نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعلّة إسراعه إلى السّكر المحرّم ، فإذا لم يوجد لم يثبت التّحريم .
ب - النّبيذ غير المسكر :
17 - قال الحنابلة وغيرهم : لا يكره إذا كانت مدّة الانتباذ قريبةً أو يسيرةً ، وهي يومٌ وليلةٌ . أمّا إذا بقي النّبيذ مدّةً يحتمل فيها إفضاؤه إلى الإسكار ، فإنّه يكره ، ولا يثبت التّحريم عند المالكيّة والشّافعيّة إلاّ بالإسكار ، فلم يعتبروا المدّة أو الغليان . ولا يثبت التّحريم عند الحنابلة ما لم يغل العصير ، أو تمض عليه مدّة ثلاثة أيّامٍ بلياليها . وإن طبخ العصير أو النّبيذ قبل فورانه واشتداده ، أو قبل أن تمضي عليه ثلاثة أيّامٍ حتّى صار غير مسكرٍ كالدّبس ، ونحوه من المربّيات ، وشراب الخرّوب ، فهو مباحٌ ، لأنّ التّحريم إنّما ثبت في المسكر ، فبقي ما عداه على أصل الإباحة . واستدلّوا بحديث ابن عبّاسٍ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينقع له الزّبيب ، فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثّالثة ، ثمّ يأمر به فيسقى أو يهراق » .
الانتباذ في الأوعية :
18 - الانتباذ : اتّخاذ النّبيذ المباح ، وقد اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز الانتباذ في الأوعية المصنوعة من جلدٍ ، وهي الأسقية ، واختلفوا فيما سواها . فذهب الحنفيّة إلى جواز الانتباذ في كلّ شيءٍ من الأواني ، سواءٌ الدّبّاء والحنتم والمزفّت والنّقير ، وغيرها ، لأنّ الشّراب الحاصل بالانتباذ فيها ليست فيه شدّةٌ مطربةٌ ، فوجب أن يكون الانتباذ في هذه الأوعية وغيرها مباحاً . وما ورد من النّهي عن الانتباذ في هذه الأوعية منسوخٌ بقوله صلى الله عليه وسلم : « كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأدم ، فاشربوا في كلّ وعاءٍ ، غير ألا تشربوا مسكراً » وفي روايةٍ « نهيتكم عن الظّروف ، وإنّ ظرفاً لا يحلّ شيئاً ولا يحرّمه ، وكلّ مسكرٍ حرامٌ » فهذا إخبارٌ صريحٌ عن النّهي عنه فيما مضى ، فكان هذا الحديث ناسخاً للنّهي . ويدلّ عليه أيضاً ما روى أحمد عن أنسٍ ، قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن النّبيذ في الدّبّاء والنّقير والحنتم والمزفّت » ، ثمّ قال بعد ذلك : « ألا كنت نهيتكم عن النّبيذ في الأوعية ، فاشربوا فيما شئتم ، ولا تشربوا مسكراً ، من شاء أوكى سقاءه على إثمٍ » والقول بنسخ الانتباذ في الأوعية المذكورة هو قول جمهور الفقهاء ، ومنهم الشّافعيّة والحنابلة في الصّحيح عندهم ، فلا يحرم ولا يكره الانتباذ في أيّ وعاءٍ . وقال جماعةٌ منهم ابن عمر وابن عبّاسٍ ومالكٌ وإسحاق : يكره الانتباذ في الدّبّاء والمزفّت ، وعليهما اقتصر مالكٌ ، فلا يكره الانتباذ في غير الدّبّاء والمزفّت .
وكره أحمد في روايةٍ والثّوريّ الانتباذ في الدّبّاء والحنتم والنّقير والمزفّت ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الانتباذ فيها ، فالنّهي عند هؤلاء باقٍ ، سدّاً للذّرائع ، لأنّ هذه الأوعية تعجّل شدّة النّبيذ .
حالات الاضطرار :
19 - ما سبق من تحريم الخمر أو الأنبذة عند الإسكار إنّما هو في الأحوال العاديّة . أمّا عند الاضطرار فإنّ الحكم يختلف ، ويرخّص شرعاً تناول الخمر ، ولكن بمعياره الشّرعيّ الّذي تباح به المحرّمات ، كضرورة العطش ، أو الغصص ، أو الإكراه ، فيتناول المضطرّ بقدر ما تندفع به الضّرورة ، وهذا ليس مجمعاً على جميعه ، بل فيه خلافٌ بين الفقهاء على النّحو التّالي :
أ - الإكراه :
20 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى جواز شرب الخمر عند الإكراه ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « إنّ اللّه تجاوز عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » إلاّ أنّ الشّافعيّة مع قولهم بالجواز ألزموا شارب الخمر عند الإكراه - وكلّ آكل حرامٍ أو شاربه - أن يتقيّأه إن أطاقه ، لأنّه أبيح شربه للإكراه ، ولا يباح بقاؤه في البطن بعد زوال السّبب . ولزيادة التّفصيل راجع مصطلح : ( إكراهٌ ) .
ب - الغصص أو العطش :
21 - يجوز للمضطرّ شرب الخمر إن لم يجد غيرها ( ولو ماءً نجساً كما صرّح به المالكيّة والحنابلة ) لإساغة لقمةٍ غصّ بها ، باتّفاق فقهاء المذاهب الأربعة ، خلافاً لابن عرفة من المالكيّة الّذي يرى أنّ ضرورة الغصص تدرأ الحدّ ولا تمنع الحرمة . وإنّما حلّت عند غيره من الفقهاء لدفع الغصص إنقاذاً للنّفس من الهلاك ، والسّلامة بذلك قطعيّةٌ ، وهي من قبيل الرّخصة الواجبة عند الشّافعيّة . أمّا شرب الخمر لدفع العطش ، فذهب الحنفيّة - وهو قولٌ يقابل الأصحّ عند الشّافعيّة - إلى جواز شربها في حالة الضّرورة ، كما يباح للمضطرّ تناول الميتة والخنزير ، وقيّدها الحنفيّة بقولهم : إن كانت الخمر تردّ ذلك العطش ومفهومه أنّها إن لم تردّ العطش لا يجوز . وذهب المالكيّة - وهو الأصحّ عند الشّافعيّة - إلى تحريم شربها لدفع العطش ، قال المالكيّة : لأنّها لا تزيل العطش ، بل تزيده حرارةً لحرارتها ويبوستها . وقيّد الحنابلة حرمة شربها بكونها صرفاً ، أي غير ممزوجةٍ بما يروي من العطش ، فإن مزجت بما يروي من العطش جاز شربها لدفع الضّرورة . وأمّا ضرورة التّداوي فسيأتي بيانها في أواخر هذا البحث .
الثّاني من أحكام الخمر : أنّه يكفر مستحلّها :
22 - لقد ثبتت حرمة الخمر بدليلٍ قطعيٍّ ، وهو القرآن الكريم والسّنّة والإجماع ، كما سبق . فمن استحلّها فهو كافرٌ مرتدٌّ حلال الدّم والمال . وللتّفصيل في ذلك انظر مصطلح : ( ردّةٌ ) . هذا ، وإنّ الخمر الّتي يكفر مستحلّها هي ما اتّخذ من عصير العنب ، أمّا ما أسكر من غير عصير العنب النّيء فلا يكفر مستحلّه ، وهذا محلّ اتّفاقٍ بين الفقهاء ، لأنّ حرمتها دون حرمة الخمر الثّابتة بدليلٍ قطعيٍّ ، وهذه ثبتت حرمتها بدليلٍ ظنّيٍّ غير مقطوعٍ به من أخبار الآحاد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وآثار الصّحابة .
الثّالث عقوبة شاربها :
23 - ثبت حدّ شارب الخمر بالسّنّة ، فقد وردت أحاديث كثيرةٌ في حدّ شارب الخمر ، منها ما روي عن أنسٍ « أنّ النّبيّ أتي برجلٍ قد شرب الخمر ، فجلده بجريدتين نحو أربعين » . قال : وفعله أبو بكرٍ ، فلمّا كان عمر استشار النّاس ، فقال عبد الرّحمن : أخفّ الحدود ثمانون ، فأمر به عمر . وعن السّائب بن يزيد قال : « كنّا نؤتى بالشّارب في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكرٍ ، فصدراً من خلافة عمر ، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا ، حتّى كان آخر إمرة عمر ، فجلد أربعين ، حتّى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين » . وقد أجمع الصّحابة ومن بعدهم على جلد شارب الخمر ، ثمّ اختلفوا في مقداره ما بين أربعين أو ثمانين . والجمهور على القول بالثّمانين . وتفصيله في ( حدّ الشّرب ) . وعلى هذا يحدّ عند الجمهور شارب الخمر سواءٌ أسكر أم لم يسكر ، وكذا شارب كلّ مسكرٍ ، سواءٌ أشرب كثيراً أم قليلاً . والمفتى به عند الحنفيّة أنّه يحدّ من شرب الخمر قليلها أو كثيرها ، وكذا يحدّ من سكر من شرب غيرها .
ضابط السّكر :
24 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وصاحبا أبي حنيفة وغيرهم إلى أنّ السّكران هو الّذي يكون غالب كلامه الهذيان ، واختلاط الكلام ، لأنّ هذا هو السّكران في عرف النّاس وعاداتهم ، فإنّ السّكران في متعارف النّاس اسمٌ لمن هذى ، وإليه أشار الإمام عليٌّ رضي الله عنه بقوله : إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وحدّ المفتري ثمانون . فحدّ السّكر الّذي يمنع صحّة العبادات ، ويوجب الفسق على شارب النّبيذ ونحوه هو الّذي يجمع بين اضطراب الكلام فهماً وإفهاماً ، وبين اضطراب الحركة مشياً وقياماً ، فيتكلّم بلسانٍ منكسرٍ ، ومعنًى غير منتظمٍ ، ويتصرّف بحركة مختبطٍ ، ومشي متمايلٍ ، وما زاد على ذلك ممّا يذكره الإمام أبو حنيفة فهو زيادةٌ في حدّ السّكر أي مقداره . وذهب أبو حنيفة إلى أنّ السّكر الّذي يتعلّق به وجوب الحدّ هو الّذي يزيل العقل بحيث لا يفهم السّكران شيئاً ، ولا يعقل منطقاً ، ولا يفرّق بين الرّجل والمرأة ، والأرض والسّماء ، لأنّ الحدود يؤخذ في أسبابها بأقصاها ، درءاً للحدّ ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم » وقول الصّاحبين أبي يوسف ومحمّدٍ مال إليه أكثر المشايخ من الحنفيّة ، وهو المختار للفتوى عندهم . قال في الدّرّ : يختار للفتوى لضعف دليل الإمام .
طرق إثبات السّكر :
25 - إنّ إثبات الشّرب الموجب لعقوبة الحدّ لأجل إقامته على الشّارب بواسطة الشّهادة أو الإقرار أو القيء ونحوها تفصيله في حدّ شرب الخمر . وانظر مصطلح ( إثباتٌ ) .
حرمة تملّك وتمليك الخمر :
26 - يحرم على المسلم تملّك أو تمليك الخمر بأيّ سببٍ من أسباب الملك الاختياريّة أو الإراديّة ، كالبيع والشّراء والهبة ونحو ذلك ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « إنّ الّذي حرّم شربها حرّم بيعها » . وعن جابرٍ قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام » أمّا إذا كان التّملّك للخمر بسببٍ جبريٍّ كالإرث ، فإنّها تدخل في ملكه وتورث ، كما إذا كانت ملكاً لذمّيٍّ فأسلم ، أو تخمّر عند المسلم عصير العنب قبل تخلّله ، ثمّ مات والخمر في حوزته ، فإنّها تنتقل ملكيّتها إلى وارثه بسببٍ غير إراديٍّ ، فلا يكون ذلك من باب التّملّك والتّمليك الاختياريّ المنهيّ عنه . وينبني على ما تقدّم أنّ الخمر هل هي مالٌ أو لا ؟ اختلف العلماء في ذلك : فذهب الحنفيّة في الأصحّ عندهم ، والمالكيّة إلى أنّها مالٌ متقوّمٌ ، لكن يجوز إتلافها لغرضٍ صحيحٍ ، وتضمن إذا أتلفت لذمّيٍّ . في حين ذهب الحنفيّة - في مقابل الأصحّ - والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّها ليست بمالٍ ، وعلى هذا فيجوز إتلافها ، لمسلمٍ كانت أو ذمّيٍّ . أمّا غير الخمر من المسكر المائع ، فذهب الجمهور ومحمّدٌ من الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز إتلافه خلافاً لأبي حنيفة وأبي يوسف وللتّفصيل انظر في ذلك مصطلحي ( بيعٌ ) ( وإتلافٌ ) .
ضمان إتلاف الخمر أو غصبها :
27 - اتّفق الفقهاء على أنّ الخمر إن كانت لمسلمٍ فلا يضمن متلفها ، واختلفوا في ضمان من أتلف خمر الذّمّيّ ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى القول بالضّمان ، وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى القول بعدم الضّمان ، لانتفاء تقوّمها كسائر النّجاسات واتّفقوا أيضاً على أنّه لا تراق الخمرة المغصوبة من مسلمٍ إذا كانت محترمةً - وهي الّتي عصرت لا بقصد الخمريّة ، وإنّما بقصد التّخليل - وتردّ إلى المسلم ، لأنّ له إمساكها لتصير خلاًّ . والضّمان هنا إذا وجب على المسلم ، فإنّه يكون بالقيمة عند الحنفيّة والمالكيّة لا بالمثل ، لأنّ المسلم ممنوعٌ عن تمليكه وتملّكه إيّاها ، لما فيه من إعزازها . وإذا وجب لذمّيٍّ على ذمّيٍّ ، فقد صرّح الحنفيّة بأنّه يكون بالمثل . وينظر أيضاً مصطلح ( إتلافٌ ) ( وضمانٌ ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
حكم الانتفاع بالخمر :
28 - ذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم الانتفاع بالخمر للمداواة ، وغيرها من أوجه الانتفاع ، كاستخدامها في دهنٍ ، أو طعامٍ ، أو بل طينٍ . واحتجّوا بقوله صلى الله عليه وسلم : « وإنّ اللّه لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم » . وأخرج مسلمٌ في صحيحه وغيره « أنّ طارق بن سويدٍ رضي الله عنه سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه - أو كره أن يصنعها - فقال : إنّما أصنعها للدّواء ، فقال : إنّه ليس بدواءٍ ، ولكنّه داءٌ » . وقال الجمهور : يحدّ من شربها لدواءٍ . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ التّداوي بالخمر حرامٌ في الأصحّ إذا كانت صرفاً غير ممزوجةٍ بشيءٍ آخر تستهلك فيه ، ويجب الحدّ . أمّا إذا كانت ممزوجةً بشيءٍ آخر تستهلك فيه ، فإنّه يجوز التّداوي به عند فقد ما يقوم به التّداوي من الطّاهرات ، وحينئذٍ تجري فيه قاعدة الضّرورة الشّرعيّة .
وإذاً يجوز التّداوي بذلك لتعجيل شفاءٍ ، بشرط إخبار طبيبٍ مسلمٍ عدلٍ بذلك ، أو معرفته للتّداوي به ، وبشرط أن يكون القدر المستعمل قليلاً لا يسكر . وذهب الإمام النّوويّ إلى الجزم بحرمتها فقال : المذهب الصّحيح تحريم الخمر للتّداوي .
حكم سقيها لغير المكلّفين :
29 - يحرم على المسلم المكلّف أن يسقي الخمر الصّبيّ ، أو المجنون ، فإن أسقاهم فالإثم عليه لا على الشّارب ، ولا حدّ على الشّارب ، لأنّ خطاب التّحريم متوجّهٌ إلى البالغ العاقل . وقد قال صلى الله عليه وسلم : « الخمر أمّ الخبائث » وقال : « لعن اللّه الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها » . ويحرم أيضاً على المسلم أن يسقي الخمر للدّوابّ صرّح بذلك المالكيّة والحنابلة .
الاحتقان أو الاستعاط بالخمر :
30 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه يكره تحريماً الاحتقان بالخمر ( بأخذها حقنةً شرجيّةً ) أو جعلها في سعوطٍ ، لأنّه انتفاعٌ بالمحرّم النّجس ، ولكن لا يجب الحدّ ، لأنّ الحدّ مرتبطٌ بالشّرب ، فهو سبب تطبيق الحدّ . ويلاحظ - كما سبق - أنّه يستوجب عقوبةً أخرى زاجرةً بطريق التّعزير . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الاحتقان بها يعتبر حراماً . وخلافهم مع الحنفيّة إنّما هو في التّسمية ، فالحنفيّة يسمّون ما طلب الشّارع تركه على وجه الحتم والإلزام بدليلٍ ظنّيٍّ مكروهاً تحريماً ، والجمهور يسمّونه حراماً . وهم يوافقون الحنفيّة في أنّه لا حدّ في حالة الاحتقان بالخمر ، لأنّ الحدّ للزّجر ، ولا حاجة للزّجر في هذه الحالة ، لأنّ النّفس لا ترغب في مثل ذلك عادةً . ولكنّ الحنابلة قالوا بوجوب الحدّ في حالة الاستعاط ، لأنّ الشّخص أوصل الخمر إلى باطنه من حلقه .
حكم مجالسة شاربي الخمر :
31 - يحرم مجالسة شرّاب الخمر وهم يشربونها ، أو الأكل على مائدة يشرب عليها شيءٌ من المسكرات خمراً كان أو غيره ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يقعد على مائدةٍ يشرب عليها الخمر » .
نجاسة الخمر :
32 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الخمر نجسةٌ نجاسةً مغلّظةً ، كالبول والدّم لثبوت حرمتها وتسميتها رجساً . كما ورد في القرآن الكريم : { إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ ... } والرّجس في اللّغة : الشّيء القذر والنّتن . أمّا الأشربة الأخرى المختلف فيها فالحكم بالحرمة يستتبع عندهم الحكم بنجاستها . وذهب بعض الفقهاء ، منهم ربيعة شيخ مالكٍ والصّنعانيّ والشّوكانيّ ، إلى طهارتها ، تمسّكاً بالأصل ، وحملوا الرّجس في الآية على القذارة المعنويّة . أمّا البهيمة إذا سقيت خمراً ، فهل تحلّ أو تحرم لأجل الخمر ؟ في المسألة تفصيلٌ ينظر في مصطلح ( أطعمةٌ ) .
أثر تخلّل الخمر وتخليلها :
33 - إذا تخلّلت الخمر بنفسها بغير قصد التّخليل يحلّ ذلك الخلّ بلا خلافٍ بين الفقهاء . لقوله صلى الله عليه وسلم : « نعم الأدم الخلّ » . ويعرف التّخلّل بالتّغيّر من المرارة إلى الحموضة ، بحيث لا يبقى فيها مرارةٌ أصلاً عند أبي حنيفة ، حتّى لو بقي فيها بعض المرارة لا يحلّ شربها ، لأنّ الخمر عنده لا تصير خلاًّ إلاّ بعد تكامل معنى الخليّة فيه . كما لا يصير العصير خمراً إلاّ بعد تكامل معنى الخمريّة . وقال الصّاحبان : تصير الخمر خلاًّ بظهور قليلٍ من الحموضة فيها ، اكتفاءً بظهور الخلّيّة فيه ، كما أنّ العصير يصير خمراً بظهور دليل الخمريّة ، كما أشرنا في بيان مذهبهما .
تخليل الخمر بعلاجٍ :
34 - قال الشّافعيّة والحنابلة ، وهو روايةٌ عن مالكٍ لا يحلّ تخليل الخمر بالعلاج كالخلّ والبصل والملح ، أو إيقاد نارٍ عندها ، ولا تطهر حينئذٍ ، لأنّنا مأمورون باجتنابها ، فيكون التّخليل اقتراباً من الخمر على وجه التّموّل ، وهو مخالفٌ للأمر بالاجتناب ، ولأنّ الشّيء المطروح في الخمر يتنجّس بملاقاتها فينجّسها بعد انقلابها خلاًّ ، ولأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أمر بإهراق الخمر بعد نزول آية المائدة بتحريمها . وعن « أبي طلحة أنّه سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن أيتامٍ ورثوا خمراً ، فقال : أهرقها ، قال : أفلا أخلّلها ؟ قال : لا »
وعن ابن عبّاسٍ « أهدى رجلٌ لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم راوية خمرٍ ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أما علمت أنّ اللّه حرّمها ؟ فقال : لا ، فسارّه رجلٌ إلى جنبه ، فقال : بم ساررته ؟ فقال : أمرته أن يبيعها ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّ الّذي حرّم شربها حرّم بيعها ، ففتح الرّجل المزادتين حتّى ذهب ما فيهما » . فقد أراق الرّجل ما في المزادتين بحضرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه ، ولو جاز تخليلها لما أباح له إراقتها ، ولنبّهه على تخليلها . وهذا نهيٌ يقتضي التّحريم ، ولو كان إلى استصلاحها سبيلٌ مشروعٌ لم تجز إراقتها ، بل أرشدهم إليه ، سيّما وهي لأيتامٍ يحرم التّفريط في أموالهم . واستدلّوا أيضاً بإجماع الصّحابة - كما يقولون - فقد روى أسلم عن عمر رضي الله عنه أنّه صعد المنبر فقال :( لا تأكل خلاًّ من خمرٍ أفسدت ، حتّى يبدأ اللّه تعالى إفسادها ، وذلك حين طاب الخلّ ، ولا بأس على امرئٍ أصاب خلاًّ من أهل الكتاب أن يبتاعه ما لم يعلم أنّهم تعمّدوا إفسادها فعند ذلك يقع النّهي ). وهذا قولٌ يشتهر بين النّاس لأنّه إعلانٌ للحكم بين النّاس على المنبر ، فلم ينكر أحدٌ . وبه قال الزّهريّ . وظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، والرّاجح عند المالكيّة أنّه يحلّ شربها ، ويكون التّخليل جائزاً أيضاً ، لأنّه إصلاحٌ ، والإصلاح مباحٌ ، قياساً على دبغ الجلد ، فإنّ الدّباغ يطهّره ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « أيّما إهابٍ دبغ فقد طهر » وقال عن جلد الشّاة الميتة : « إنّ دباغها يحلّه كما يحلّ خلٌّ الخمر » فأجاز النّبيّ صلى الله عليه وسلم التّخليل ، كما ثبت حلّ الخلّ شرعاً ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم أيضاً : « خير خلّكم خلّ خمركم » وبدليل قوله الّذي سبق ذكره أيضاً : « نعم الأدم الخلّ » ، فإنّه لم يفرّق بين التّخلّل بنفسه والتّخليل ، فالنّصّ مطلقٌ . ولأنّ التّخليل يزيل الوصف المفسد ، ويجعل في الخمر صفة الصّلاح ، والإصلاح مباحٌ ، لأنّه يشبه إراقة الخمر . وفي روايةٍ ثالثةٍ عن مالكٍ - وهي المشهورة - أنّه على سبيل الكراهة .
تخليل الخمر بنقلها ، أو بخلطها بخلٍّ :
35 - إذا نقلت الخمر من الظّلّ إلى الشّمس ، أو بالعكس ، ولو بقصد التّخليل ، فتخلّلت يحلّ الخلّ الحاصل عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة . والصّحيح عند الحنفيّة : أنّه لو وقعت الشّمس على الخمر بلا نقلٍ ، كرفع سقفٍ كان فوقها ، لا يحلّ نقلها . وعلّل الشّافعيّة الحلّ بقولهم : لأنّ الشّدّة المطربة ( أي الإسكار ) الّتي هي علّة النّجاسة والتّحريم ، قد زالت من غير أن تعقّب نجاسةً في الوعاء ، فتطهر . وقال الحنابلة : إن نقلت الخمر من موضعٍ إلى آخر ، فتخلّلت من غير أن يلقى فيها شيءٌ ، فإن لم يكن قصد تخليلها حلّت بذلك ، لأنّها تخلّلت بفعل اللّه تعالى ، وإن قصد بذلك تخليلها احتمل أن تطهر ، لأنّه لا فرق بينهما إلاّ القصد ، فلا يقتضي تحريمها .
ويحتمل ألاّ تطهر ، لأنّها خلّلت بفعلٍ ، كما لو ألقي فيها شيءٌ .
إمساك الخمر لتخليلها :
36 - اختلفوا في جواز إمساك الخمر بقصد تخليلها . فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى جوازه ، وهذا الخلّ عندهم حلالٌ طاهرٌ . وذهب الحنابلة إلى تحريم إمساك الخمر بقصد تخليلها ، لكن يحلّ عندهم للخلاّل إمساك الخمر ليتخلّل ، لئلاّ يضيع ماله .
طهارة الإناء :
37 - إذا تخلّلت الخمرة وطهرت - حسب اختلاف أقوال العلماء السّابقة في طهارتها أو نجاستها - فإنّ الإناء الّذي فيه الخمر يطهر أعلاه وأسفله عند أكثرهم . وهناك اختلافٌ عند المالكيّة حول طهارة أعلى الإناء ، لكن في حاشية الدّسوقيّ الجزم بالطّهارة . أمّا الحنفيّة فالمفتى به في مذهبهم أنّ أعلى الإناء يطهر تبعاً . وذهب بعضهم إلى أنّ أعلاه لا يطهر ، لأنّه خمرٌ يابسةٌ إلاّ إذا غسل بالخلّ ، فتخلّل من ساعته فيطهر .
إشعارٌ*
التعريف :
1 - الإشعار : الإعلام ، يقال أشعر البدنة : أعلمها ، وذلك بأن يشقّ جلدها ، أو يطعنها في سنامها في أحد الجانبين بمبضعٍ أو نحوه ، ليعرف أنّها هديٌ . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّقليد :
2 - التّقليد : وهو للبدنة ، أن يعلّق في عنقها شيءٌ من نعلٍ أو نحوه ، ليعلم أنّها هديٌ ، فليس في التّقليد خروج دمٍ . والفرق ظاهرٌ .
صفته الحكم الإجماليّ :
3 - اختلف الفقهاء في حكم إشعار بدن الهدي وهي الإبل خاصّةً ، فجمهور الفقهاء : ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وصاحبا أبي حنيفة ) على أنّه يسنّ إشعارها ، لما روت عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : « فتلت قلائد هدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ أشعرها وقلّدها » وفعله الصّحابة ، ولأنّه إيلامٌ لغرضٍ صحيحٍ فجاز كالكيّ ، والوسم ، والفصد ، والحجامة ، وتشعر البقرة كالإبل لأنّها من البدن . وكره أبو حنيفة الإشعار للبدنة ، لأنّه مثلةٌ وإيلامٌ ، ولم يكره أبو حنيفة أصل الإشعار ، وإنّما كره إشعار أهل زمانه الّذي يخاف منه الهلاك ، فأمّا من قطع الجلد دون اللّحم فلا بأس به ، وهو مستحبٌّ لمن أحسنه .
مواطن البحث :
4 - أورد بعض الفقهاء مسألة إشعار البدن في الحجّ عند الكلام عن الهدي ، والبعض الآخر عند الكلام عن النّيّة عند الإحرام .
إشلاءٌ*
التعريف
1 - الإشلاء في اللّغة مصدر : أشلى الكلب إذا دعاه باسمه ، أمّا من قال : أشليت الكلب على الصّيد ، فإنّما معناه : دعوته فأرسلته على الصّيد . وقد ثبتت صحّة إشلاء الكلب بمعنى إغرائه ، والمراد به التّسليط على أشلاء الصّيد ، وهي أعضاؤه . ولا يخرج استعمال الفقهاء للإشلاء عن معنى الإغراء والتّسليط عليه .
الألفاظ ذات الصّلة
الزّجر :
2 - الزّجر يكون بمعنى : النّهي والمنع بلفظٍ ، يقال : زجرته فانزجر ، ويقال : زجر الصّيّاد الكلب : أي صاح به فانزجر ، أي منعه عن متابعة الصّيد فامتنع ، فالزّجر على هذا ضدّ الإشلاء .
صفته :
الحكم الإجماليّ :
3 - استجابة الكلب للإشلاء - بمعنى الدّعاء - لا يكون علامةً على كون الجارح معلّماً ، وخاصّةً الكلب ، لأنّه ألوفٌ يأتي إلى صاحبه بمجرّد الدّعاء ، وعلامة التّعلّم هنا : أن يأتي بما يكون مخالفاً لطبعه . أمّا استجابة الكلب للإشلاء - بمعنى التّسليط والزّجر - فقد عدّه جمهور الفقهاء من علامة كون الكلب معلّماً ، بحيث يستجيب لهذا الإشلاء ، فينفّذ ما يريده صاحبه .
مواطن البحث :
4 - استعمل الفقهاء الإشلاء في باب الصّيد عند الكلام عن شروط حلّ الصّيد .
إشهاد*ٌ
التعريف
1 - الإشهاد في اللّغة : مصدر أشهد ، وأشهدته على كذا فشهد عليه أي : صار شاهداً ، وأشهدني عقد زواجه : أي أحضرني . ولا يخرج استعمال الفقهاء للإشهاد عن هذين المعنيين . وسيقتصر البحث على الإشهاد بالمعنى الأوّل وهو : طلب تحمّل الشّهادة .
الألفاظ ذات الصّلة

أ - الشّهادة :
2 - قد تكون الشّهادة دون سبق إشهادٍ ، تحصل بطلبٍ أو دونه ، والإشهاد هو طلب تحمّل الشّهادة .
ب - الاستشهاد :
3 - الاستشهاد يأتي بمعنى الإشهاد ، أي طلب تحمّل الشّهادة ، كما في قوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان } وقد يأتي الاستشهاد بمعنى طلب أداء الشّهادة . كما يأتي الاستشهاد بمعنى أن يقتل في سبيل اللّه .
ج - الإعلان ( والإشهار )
4 - قد يتحقّق الإعلان دون الإشهاد ، كما لو أعلنوا النّكاح بحضرة صبيانٍ ، أو أمام نساءٍ . وقد يتحقّق الإشهاد دون الإعلان ، كإشهاد رجلين على النّكاح واستكتامهما .
صفته " حكمه التّكليفيّ :
5 - الإشهاد تعتريه الأحكام الخمسة ، فيكون واجباً كما في النّكاح ، ويكون مندوباً ، كالإشهاد في البيع عند أكثر الفقهاء ، وجائزاً كما في البيع عند البعض ، ومكروهاً كالإشهاد على العطيّة ، أو الهبة للأولاد إن حصل فيها تفاوتٌ عند البعض ، وحراماً كالإشهاد على الجور وذهبت طائفةٌ من أهل العلم إلى إيجاب الإشهاد في كلّ ما ورد الأمر به .
مواطن الإشهاد :
رجوع الأجنبيّ بقيمة ما جهّز به الميّت إذا أشهد :
6 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ الأجنبيّ أو الغريب - الّذي لا يلزمه تجهيز الميّت - لو كفّن الميّت كفن المثل ، وكذا كلّ ما يلزمه ، فإنّه يرجع بقيمة ما دفع إن نوى الرّجوع ، وأشهد بذلك ، غير أنّ الإشهاد عند الشّافعيّة لا يعتدّ به إلاّ بعد العجز عن استئذان الحاكم ، وكان مال الميّت غائباً ، أو امتنع من يلزمه تجهيز الميّت عن ذلك . وعند الحنابلة : لا يشترط الإشهاد للرّجوع ، ويرجع إن نوى الرّجوع ، أشهد أو لم يشهد ، استأذن الحاكم أو لا ، ولم أقف على حكم اشتراط الإشهاد عند المالكيّة .
الإشهاد على إخراج زكاة الصّغير :
7 - أغلب الفقهاء ممّن أوجبوا الزّكاة في مال الصّغير لا يطلبون الإشهاد على إخراجها . ويشهد الوصيّ عند ابن حبيبٍ من المالكيّة على إخراج زكاة مال الصّغير ، فإن لم يشهد وكان مأموناً صدّق ، وغير المأمون هل يلزمه غرم المال أو يحلف ؟ لم يجد الخطّاب فيه نصّاً . وكالزّكاة عنده زكاة الفطر .
الإشهاد في البيع : الإشهاد على عقد البيع :
8 - الإشهاد على عقد البيع أقطع للنّزاع ، وأبعد عن التّجاحد ، لذلك ينبغي الإشهاد عليه عند عامّة الفقهاء . إلاّ أنّهم يختلفون في حكمه التّكليفيّ ، ولهم في ذلك ثلاثة آراءٍ :
أ - ندب الإشهاد فيما له خطرٌ : وهو قول الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وهو ما جاء في بعض كتب الشّافعيّة ، واستدلّوا على ذلك بقول اللّه سبحانه : { وأشهدوا إذا تبايعتم } حملوا الأمر على النّدب ، وصرفه عن الوجوب عندهم أدلّةٌ كثيرةٌ منها : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اشترى من يهوديٍّ طعاماً بنسيئةٍ فأعطاه درعاً له رهناً » ،« واشترى من رجلٍ سراويل ، ومن أعرابيٍّ فرساً فجحده الأعرابيّ حتّى شهد له خزيمة بن ثابتٍ »، ولم ينقل أنّه أشهد في شيءٍ من ذلك ، ولأنّ الصّحابة كانوا يتبايعون في عصره في الأسواق فلم يأمرهم بالإشهاد ولا نقل عنهم فعله . أمّا الأشياء القليلة الخطر كحوائج البقّال والعطّار وشبههما ، فلا يستحبّ ذلك فيها ، لأنّ العقود تكثر فيشقّ الإشهاد عليها وتقبح إقامة البيّنة عليها ، والتّرافع إلى الحاكم من أجلها ، بخلاف الكبيرة الخطر .
ب - جواز الإشهاد ، وهو قول الشّافعيّة ، قالوا : إنّ الأمر في الآية للإرشاد ، لا ثواب فيه إلاّ لمن قصد الامتثال .
ج - وجوب الإشهاد : وهو قول طائفةٍ من أهل العلم ، روي ذلك عن ابن عبّاسٍ ، وممّن رأى وجوب الإشهاد على البيع عطاءٌ ، وجابر بن زيدٍ ، والنّخعيّ لظاهر الأمر ، ولأنّه عقد معاوضةٍ فيجب الإشهاد عليه كالنّكاح .
طلب الإشهاد من الوكيل بالبيع :
9 - ذهب الحنفيّة ، والشّافعيّة إلى أنّ الموكّل لو أمر الوكيل بالبيع والإشهاد ، فباع ولم يشهد ، فالبيع جائزٌ ، لأنّه أمره بالبيع مطلقاً ، وأمره بالإشهاد كان معطوفاً على الأمر بالبيع ، فلا يخرج به الأمر بالبيع من أن يكون مطلقاً ، ألا ترى أنّ اللّه عزّ وجلّ أمر بالإشهاد على البيع فقال تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } ثمّ من باع ولم يشهد كان بيعه جائزاً ، أمّا إذا شرط عليه الإشهاد ، كقوله : بع بشرط أن تشهد فقد قال الشّافعيّة : إنّه يوجب الإشهاد ولا يلزم الموكّل بدونه إلاّ بإجازته . ولم أقف على حكم هذه المسألة عند المالكيّة والحنابلة .
الإشهاد على بيع مال الصّغير نسيئةً :
10 - ذهب الشّافعيّة ،والحنابلة إلى أنّه يجب الإشهاد على بيع مال الصّغير نسيئةً خوف جحده ، قال الشّافعيّة : ولو ترك الإشهاد بطل البيع على المعتمد ، فإن عسر الإشهاد كأن كان يبيع الوصيّ أو الأمين شيئاً فشيئاً من مال الصّغير ، فإنّه يقبل قولهما ، فإن باعا مقداراً كبيراً جملةً فلا بدّ من الإشهاد . ولا يجب الإشهاد عند الحنفيّة على بيع مال الصّغير نسيئةً ، وهو قول المالكيّة بالنّسبة للأب ، أمّا الوصيّ ففيه قولان . أحدهما يصدّق بلا بيّنةٍ ، والثّاني تلزمه البيّنة .
الإشهاد على سائر العقود :
11 - الإشهاد على سائر العقود والتّصرّفات حكمه حكم الإشهاد على البيع عند الحنفيّة والشّافعيّة ، باستثناء النّكاح عندهما ، والرّجعة عند الشّافعيّة ، فالإشهاد واجبٌ وسيأتي تفصيل ذلك . وعند المالكيّة سائر الحقوق والمداينات كالبيع يسنّ الإشهاد فيها ما لم يتعلّق بها حقٌّ للغير فيجب ، وكذا إن لم يتعلّق بها حقٌّ للغير وطلب الإشهاد أحد العاقدين . وذكر التّسوّليّ في شرح التّحفة ما يفيد وجوب الإشهاد في عقود التّبرّعات كالوقف ، والهبة ، والوصيّة ، وكذلك كلّ ما كان من غير عوضٍ كالتّوكيل والضّمان ونحوهما ، حيث جعل الإشهاد في هذه شرط صحّةٍ .
الإشهاد عند الامتناع عن تسليم وثيقة الدّين :
12 - لو كان لرجلٍ حقٌّ على آخر بوثيقةٍ ، فدفع الّذي عليه الحقّ ما عليه ، وطلب الوثيقة منه أو حرقها ، فالمالكيّة والحنابلة على أنّه لا يلزم دفع الوثيقة ، وإنّما للمدين أن يشهد على صاحب الدّين وتبقى الوثيقة بيده ، لأنّه يدفع بها عن نفسه ، إذ لعلّ الّذي كان عليه الدّين أن يستدعي بيّنةً قد سمعوا إقرار صاحب الدّين بقبضه منه ، أو حضروا دفعه إليه ، ولم يعلموا على أيّ وجهٍ كان الدّفع ، فيدّعي أنّه إنّما دفع إليه ذلك المال سلفاً أو وديعةً ، ويقول : هات بيّنةً تشهد لك أنّ ما قبضت منّي هو من حقٍّ واجبٍ لك ، فبقاء الوثيقة وقيامه بها يسقط هذه الدّعوى الّتي تلزمه ، وقال الحنابلة : لأنّه ربّما خرج ما قبضه مستحقّاً فيحتاج إلى حجّةٍ بحقّه ، قالوا : ولا يجوز لحاكمٍ إلزامه . وقال عيسى بن دينارٍ وأصبغ : له أخذ الوثيقة ، وبه قال شارح المنتهى من الحنابلة ولم نقف على حكم ذلك عند فقهاء الحنفيّة والشّافعيّة .
الإشهاد على قضاء الدّين عن الغير :
13 - لو قضى الرّجل دين غيره ونوى الرّجوع فإنّ جمهور الفقهاء لا يشترطون الإشهاد على قضاء الدّين ونيّة الرّجوع . وقال القاضي من الحنابلة : الإشهاد على نيّة الرّجوع شرطٌ للرّجوع ، لأنّ العرف جرى على أنّ من دفع دين غيره من غير إشهادٍ كان متبرّعاً .
الإشهاد على ردّ المرهون :
14 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في الصّحيح عندهم إلى أنّ المرتهن لو ادّعى ردّ العين المرهونة وأنكر الرّاهن ، فالقول قول الرّاهن ، ولا يصدّق المرتهن إلاّ ببيّنةٍ . وقواعد الحنفيّة تقضي بقبول قول المرتهن ، لأنّه أمينٌ ، والأمين مصدّقٌ فيما يدّعيه ، ويوافق الحنابلة - في مقابل الأصحّ - في هذا الحنفيّة .
الإشهاد عند إقراض مال الصّغير :
15 - يشترط الإشهاد على إقراض الوليّ مال الصّغير عند الشّافعيّة ، أمّا عند بقيّة الفقهاء الّذين أجازوا تسليف مال الصّغير ، فيجوز عندهم الإقراض بلا إشهادٍ ، وإن كان الإشهاد حينئذٍ أولى احتياطاً .
الإشهاد على الحكم بالحجر :
16 - للفقهاء في الإشهاد على الحجر رأيان :
أحدهما : الوجوب ، وهو قول الصّاحبين من الحنفيّة في الحجر على المدين ، وإنّما وجب الإشهاد لأنّ الحجر حكمٌ من القاضي ويتعلّق به أحكامٌ ، وربّما يقع فيه التّجاحد فيحتاج إلى إثباته ، ويأخذ السّفيه حكم المدين في الحجر وما يترتّب عليه ، أمّا أبو حنيفة فإنّه يمنع الحجر عليهما ، وإن كان يرى الحجر على من يترتّب على تصرّفاته ضررٌ عامٌّ ، كالطّبيب الجاهل والمفتي الماجن والمكاري المفلّس . ووجوب الإشهاد هو ما يؤخذ من قواعد المالكيّة ، وفروعهم . جاء في الحطّاب : من أراد أن يحجر على ولده أتى الإمام ليحجر عليه ، ويشهر ذلك في المجامع والأسواق ، ويشهد على ذلك ولأنّه يتعلّق به حقٌّ للغير فوجب الإشهاد عليه . ووجوب الإشهاد وجهٌ محكيٌّ عند الشّافعيّة في الحاوي والمستظهري عن أبي عليّ بن أبي هريرة في حجر السّفيه ، ووصفوه بأنّه شاذٌّ .
الثّاني : استحباب الإشهاد ، وهو قول الشّافعيّة والحنابلة ، سواءٌ أكان الحجر لمصلحة الإنسان نفسه أم بسبب الدّين . والحاكم هو الّذي يشهد .
الإشهاد على فكّ الحجر :
17 - الصّبيّ إذا بلغ رشيداً ، وكان وليّه هو الأب فلا يحتاج في فكّ الحجر إلى إشهادٍ . لأنّه وليّه بحكم الشّرع . أمّا إذا بلغ سفيهاً فالحجر عليه وفكّه عنه من القاضي ، ولا بدّ فيه من إشهادٍ أمّا إذا كان القائم عليه الوصيّ المختار أو الوصيّ من القاضي فإنّه يحتاج في فكّ الحجر عنه إلى الإشهاد والإشهار ، لأنّ ولايتهما مستمدّةٌ من القاضي .
الإشهاد على دفع المال إلى الصّغير بعد بلوغه :
18 - للفقهاء في الإشهاد على تسليم مال الصّغير إذا بلغ رأيان :
الأوّل : وجوب الإشهاد ، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ، وبه قال مالكٌ ، وابن القاسم ، عملاً بظاهر الأمر في قوله تعالى { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } ، ولا يصدّق الدّافع في دعوى ردّ مال الصّغير حتّى يشهد .
الثّاني : استحباب الإشهاد ، وهو قول الحنفيّة ، والحنابلة ، للاحتياط لكلّ واحدٍ من اليتيم ووليّ ماله ، وهو قولٌ ضعيفٌ للشّافعيّة ، فأمّا اليتيم ، فلأنّه إذا قامت عليه البيّنة كان أبعد من أن يدّعي ما ليس له ، وأمّا الوصيّ فلأنّه يبطل دعوى اليتيم بأنّه لم يدفعه إليه . ويصدّق في دعوى الرّدّ عند أبي حنيفة وأصحابه وعند الشّافعيّة في مقابل الصّحيح . وقريبٌ من قول الحنفيّة والحنابلة ، قول ابن الماجشون وابن عبد الحكم من المالكيّة ، أنّه يصدّق الوصيّ بيمينه وإن لم يشهد ولو طال الزّمان ، على ما هو المعروف من المذهب ، وفي الموّازيّة : إن طال الزّمان كعشرين سنةً يقيمون معه ولا يطلبون ، فالقول قوله بيمينه ، لأنّ العرف قبض أموالهم إذا رشدوا ، وجعل ابن زربٍ الطّول ثمانية أعوامٍ .
الإشهاد على ما وكّل في قبضه :
19 - عند تنازع الوكيل والموكّل في دعوى على ما وكّل في قبضه ، فالوكيل كالمودع عند الحنفيّة في أنّه أمينٌ ، إلاّ الوكيل بقبض الدّين إذا ادّعى بعد موت الموكّل أنّه قبضه ودفعه في حال حياته ، لم يقبل قوله إلاّ ببيّنةٍ ، والوكيل كالمودع أيضاً عند الاختلاف في الرّدّ عند المالكيّة والشّافعيّة ، وكذا الوكيل بغير أجرٍ عند الحنابلة لا يختلف عن المودع يقبل قوله بلا إشهادٍ ، فإن كان وكيلاً بأجرٍ ففيه وجهان ذكرهما أبو الخطّاب ، وهو قولٌ ضعيفٌ للشّافعيّة .
إشهاد الوكيل بقضاء الدّين ونحوه :
20 - يتّفق الفقهاء على أنّ الموكّل إذا دفع للوكيل مالاً وأمره بقضاء الدّين وبالإشهاد على القضاء ، ففعل ولم يشهد ، وأنكر المستحقّ ، فالوكيل يضمن ويصدّق المستحقّ ، فإن أمره بقضاء الدّين ولم يأمره بالإشهاد فقال : قبضته ، وأنكر المستحقّ ، فإنّ المستحقّ يصدّق باتّفاقٍ ، ولا يقبل قول الوكيل على الغريم ، وله مطالبة الموكّل ، لأنّ ذمّته لا تبرأ بالدّفع إلى وكيله . وتفصيل ذلك في ( الوكالة والشّهادة ) .
الإشهاد على الوديعة : إشهاد المودع :
21 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه يستحبّ الإشهاد عند تسليم الوديعة إلى الوديع للاستيثاق ، قياساً على البيع . وظاهر نصوص الحنابلة الجواز .
الإشهاد على ردّ الوديعة إلى مالكها :
22 - فقهاء الحنفيّة والحنابلة والأصحّ عند الشّافعيّة ، لا يلزم عندهم أن يشهد المودع على ردّ الوديعة إلى مالكها ، لأنّه مصدّقٌ في الرّدّ على المودع فلا فائدة في الإشهاد ، وعدم لزوم الإشهاد قول المالكيّة إن كان المودع أخذها دون إشهادٍ ، فإن أخذها بإشهادٍ فإنّه لا يبرأ في دعوى الرّدّ إلاّ ببيّنةٍ ، لأنّه حين أشهد عليه لم يكتف بأمانته ، ولا بدّ أن تكون البيّنة مقصودةً للتّوثّق ، أمّا إذا دفعها أمام شهودٍ ، ولم يشهد عليها ، فليس بشهادةٍ حتّى يقول : اشهدوا بأنّي استودعته كذا وكذا . ولو تبرّع الوديع بالإشهاد على نفسه فلا يبرأ إلاّ بإشهادٍ . ولزوم الإشهاد على الرّدّ - إن أخذها المودع بإشهادٍ - روايةً عن أحمد ، وخرّجها ابن عقيلٍ على أنّ الإشهاد على دفع الحقوق الثّابتة بالبيّنة واجبٌ ، فيكون تركه تفريطاً فيجب فيه الضّمان . فإذا قال المودع : لا أردّ حتّى تشهد ، فمن قال يقبل قوله بيمينه - وهم الشّافعيّة في وجهٍ ، وروايةً عن أحمد - وذلك حيث يكون عليه بيّنةٌ الوديعة - فليس له التّأخير حتّى يشهد ، لوجود ما يبرّئ به ذمّته ، وهو قبول قوله بيمينه .
الإشهاد في الرّدّ على رسول المالك أو وكيله :
23 - ذهب المالكيّة ، وهو ما صحّحه البغويّ من الشّافعيّة إلى أنّ الوديع إن ردّ الوديعة على رسول المالك أو وكيله فله التّأخير حتّى يشهد ، فإن لم يشهد فلا يصدّق في دعوى التّسليم إلى الرّسول أو الوكيل . وذهب الحنابلة ، وهو ما صحّحه الغزاليّ من الشّافعيّة إلى أنّه يصدّق بيمينه ولو لم يشهد . ولم يصرّح الحنفيّة بالإشهاد في الرّدّ على الوكيل ، لكنّهم قالوا : يضمن المودع إن سلّم الوديعة دون عذرٍ لغير المالك ، ومن لم يكن من عيال الوديع الّذين يحفظ بهم ماله عادةً . وهذا يدلّ على أنّ الأولى الإشهاد ليدرأ الضّمان عن نفسه في حال الجحود .
الإشهاد عند قيام بعض الأعذار بالمودع :
24 - المالكيّة يلزمون بالإشهاد على الأعذار الّتي تمنع من بقاء الوديعة تحت يده ، ويكون بمعاينة العذر ، ولا يكفي قوله : اشهدوا أنّي أودعها لعذرٍ . ولا يخالف الحنفيّة في وجوب الإشهاد على الأعذار ، إذ لا يصدّق المودع عندهم إن دفعها لأجنبيٍّ لعذرٍ إلاّ ببيّنةٍ . وعند الشّافعيّة إن تعذّر الرّدّ إلى المالك فإنّه يسلّمها إلى القاضي ، ويشهد القاضي على نفسه بقبضها كما قاله الماورديّ ، والمعتمد خلافه ، فإن فقد القاضي سلّمها لأمينٍ . وهل يلزمه الإشهاد عليها ؟ وجهان حكاهما الماورديّ أوجههما عدمه . كما في مسألة القاضي . هذا إن أراد سفراً والحريق والإغارة عذران كالسّفر . فإذا مرض مرضاً مخوفاً ، وعجز عن الرّدّ إلى الحاكم أو الأمين ، أشهد وجوباً على الإيصاء بها إليهما .
ولم ينصّ الحنابلة على الإشهاد عند قيام الأعذار بالمودع ، ولا يضمن المودع عندهم إن سلّمها لأجنبيٍّ لعلّةٍ ، كمن حضره الموت أو أراد سفراً .
 
أعلى