حكمه التّكليفيّ :
أنواع السّرّ : يتنوّع السّرّ إلى ثلاثة أنواعٍ :
أ - ما أمر الشّرع بكتمانه .
ب - ما طلب صاحبه كتمانه .
ج - ما من شأنه الكتمان واطّلع عليه بسبب الخلطة أو المهنة .
النّوع الأوّل : ما أمر الشّرع بكتمانه :
6 - من الأمور ما يحظر الشّرع إفشاءه لمصلحةٍ دينيّةٍ أو دنيويّةٍ حسب ما يترتّب على إفشائه من ضررٍ . فممّا لا يجوز إفشاؤه :
ما يجري بين الزّوجين حال الوقاع ، فإنّ إفشاء ما يقع بين الرّجل وزوجته حال الجماع أو ما يتّصل بذلك حرامٌ منهيٌّ عنه ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « إنّ من شرّ النّاس عند اللّه منزلةً يوم القيامة الرّجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ، ثمّ ينشر سرّها » والمراد من نشر السّرّ ، ذكر ما يقع بين الرّجل وامرأته من أمور الوقاع ووصف تفاصيل ذلك ، وما يجري من المرأة من قولٍ أو فعلٍ ونحو ذلك .
أمّا مجرّد ذكر الوقاع فإذا لم يكن لحاجةٍ ، فذكره مكروهٌ ، لأنّه ينافي المروءة ، فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت » . فإن دعت إلى ذكره حاجةٌ ، وترتّبت عليه فائدةٌ فهو مباحٌ . كما لو ادّعت الزّوجة على زوجها أنّه عنّينٌ ، أو معرضٌ عنها ، أو تدّعي عليه العجز ، فإن لم يكن ما ادّعته صحيحاً فلا كراهة في الذّكر ، فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّي لأفعل ذلك ، أنا وهذه ، ثمّ نغتسل » وقال لأبي طلحة : « أعرّستم اللّيلة » ؟ والمرأة كالرّجل في عدم جواز إفشاء ما يجري من الرّجال حال الوقاع .
وإفشاء السّرّ منهيٌّ عنه لما فيه من الإيذاء والتّهاون بحقّ أصحاب السّرّ من الجيران والأصدقاء ونحوهم . فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا حدّث الرّجل الحديث ثمّ التفت فهي أمانةٌ » وقال : « الحديث بينكم أمانةٌ » . وقال الحسن( إنّ من الخيانة أن تحدّث بسرّ أخيك ) .
النّوع الثّاني : ما طلب صاحبه كتمانه :
7 - ما استكتمك إيّاه الغير وائتمنك عليه ، فلا يجوز بثّه وإفشاؤه للغير ، حتّى أخصّ أصدقاء صاحب السّرّ ، فلا يكشف شيئاً منه ولو بعد القطيعة بين من أسرّ ومن أسرّ إليه ، فإنّ ذلك من لؤم الطّبع وخبث الباطن .
وهذا إذا التزمت بالكتمان ، أمّا إذا لم تلتزم ، فلا يجب الكتمان ، ويدلّ لذلك حديث زينب امرأة ابن مسعودٍ ونصّه : عن زينب امرأة عبد اللّه قالت : « كنت في المسجد ، فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : تصدّقن ولو من حليّكنّ » . « وكانت زينب تنفق على عبد اللّه وأيتامٍ في حجرها . فقالت لعبد اللّه : سل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أيجزي عنّي أن أنفق عليك وعلى أيتامي في حجري من الصّدقة ؟ فقال : سلي أنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . فانطلقت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فوجدت امرأةً من الأنصار على الباب ، حاجتها مثل حاجتي ، فمرّ علينا بلالٌ فقلنا : سل النّبيّ صلى الله عليه وسلم أيجزي عنّي أن أنفق على زوجي وأيتامٍ لي في حجري . وقلنا : لا تخبر بنا . فدخل فسأله ، فقال : من هما ؟ قال : زينب . قال : أيّ الزّيانب ؟ قال : امرأة عبد اللّه . قال : نعم ، ولها أجران : أجر القرابة وأجر الصّدقة » . قال القرطبيّ - فيما نقله ابن حجرٍ في فتح الباري - : " ليس إخبار بلالٍ باسم المرأتين بعد أن استكتمتاه بإذاعة سرٍّ ولا كشف أمانةٍ ، لوجهين :
أحدهما : أنّهما لم تلزماه بذلك ، وإنّما علم أنّهما رأتا أن لا ضرورة تحوج إلى كتمانهما .
ثانيهما : أنّه أخبر بذلك جواباً لسؤال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لكون إجابته أوجب من التّمسّك بما أمرتاه به من الكتمان .
وهذا كلّه بناءً على أنّه التزم لهما بذلك . ويحتمل أن تكونا سألتاه ( أي ولم يلتزم لهما بالكتمان ) ولا يجب إسعاف كلّ سائلٍ . وقد تتضمّن الغيبة إفشاءً للسّرّ فيما إذا كان الأمر المكروه الّذي يذكر به الغير في غيابه من الأمور الخفيّة ، أو ممّا يطلب صاحبه كتمانه ، وقد نهى الشّرع عن الغيبة في قوله تعالى : { ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه } وفي الحديث الّذي رواه أبو هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : اللّه ورسوله أعلم . قال : ذكرك أخاك بما يكره . قال : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول . قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فقد بهتّه » وتفصيله في مصطلح ( غيبةٌ ) .
النّوع الثّالث :
8 - ما اطّلع عليه صاحبه بمقتضى المهنة ، كالطّبيب والمفتي وأمين السّرّ وغيرهم .
9 - وممّا يكون أحياناً من الإفشاء المحرّم للسّرّ النّميمة : وهي لغةً تبليغ الخبر على وجه الإفساد ، وهي كذلك في اصطلاح العلماء ، وأكثر إطلاقها على من ينمّ قول الغير إلى المقول فيه ، أي ينقله إليه إذا كان سرّاً قد استكتمه إيّاه ، كأن يقول فلانٌ يقول فيك : كذا وكذا . والنّميمة حرامٌ منهيٌّ عنها ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يدخل الجنّة قتّاتٌ » أي النّمّام ، ولما فيها من الإفساد بين النّاس . وقد تجب النّميمة كما إذا سمع إنسانٌ شخصاً يتحدّث بإرادة إيذاء إنسانٍ ظلماً وعدواناً ، فيجب على من سمع أن يحذّر المقصود بالإيذاء ، فإن أمكن تحذيره بغير ذكر من سمع منه فيقتصر على التّحذير ، وإلاّ ذكره باسمه . وتفصيله في مصطلح ( نميمةٌ ) .
ما يجوز فيه السّتر والإفشاء ، والسّتر أفضل :
10 - نصّ فقهاء المذاهب على أنّه يجوز في الحدود الشّهادة والسّتر ، لكنّ السّتر أفضل فيما كان حقّاً للّه عزّ وجلّ ، واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من ستر مسلماً ستره اللّه يوم القيامة » وبقوله عليه الصلاة والسلام « لو سترته بثوبك كان خيراً لك » . واستثنوا من ذلك المتهتّك الّذي لا يبالي بإتيان المحظورات ولا يتألّم لذكره بالمعاصي . وقال الفقهاء : يقول الشّاهد على السّرقة : أخذ ، لا سرق ، إحياءً للحقّ ورعايةً للسّتر . وإذا طعن في الشّهود يجوز أن يسأل عنهم القاضي جهراً أو سرّاً على المفتى به عند الحنفيّة . وقال المالكيّة : إنّ الشّاهد مخيّرٌ في الرّفع إلى القاضي أو التّرك ، إلاّ في الحدود فالتّرك فيها أولى ، لما فيه من السّتر المطلوب في غير المتجاهر بفسقه ، وأمّا المجاهر فيرفع أمره . وكون التّرك مندوباً هو قولٌ لبعض المالكيّة ، وفي الموّاق : ستر الإنسان على نفسه وعلى غيره واجبٌ ، وحينئذٍ يكون ترك الرّفع واجباً .
وقال صاحب الطّريقة المحمّديّة من الحنفيّة : ما وقع في مجلسٍ ممّا يكره إفشاؤه إن لم يخالف الشّرع يجب كتمانه . وإن خالف الشّرع ، فإن كان حقّاً للّه تعالى ، ولم يتعلّق به حكمٌ شرعيٌّ ، كالحدّ والتّعزير فكذلك ، وإن تعلّق به حكمٌ شرعيٌّ فلك الخيار ، والسّتر أفضل كالزّنا وشرب الخمر . وإن كان حقّ العبد ، فإن تعلّق به ضررٌ لأحدٍ ماليٌّ لا بدنيٌّ ، أو حكمٌ شرعيٌّ كالقصاص والتّضمين ، فعليك الإعلام إن جهل ، والشّهادة إن طلب ، وإلاّ فالكتم .
استعمال المعاريض لتجنّب إفشاء السّرّ :
11 - المعاريض في الكلام هي التّورية بالشّيء عن الشّيء . وفي الحديث : « إنّ في المعاريض لمندوحةً عن الكذب » . وقال عمر بن الخطّاب : أما في المعاريض ما يكفي الرّجل عن الكذب ؟ وروي ذلك عن ابن عبّاسٍ وغيره . وهذا إذا اضطرّ الإنسان إلى الكذب لتجنّب إفشاء السّرّ ، وتفصيله في مصطلح ( توريةٌ ) ( وتعريضٌ ) .
وقال إمام زاده من الحنفيّة : ويعدّ الحديث الّذي حدّثه به أخوه أمانةً ، ولا يفشيها لغيره إلاّ بإذنه ، وإذا حدّث به أحداً أدّاه على أحسن وجهٍ ، واختار أجود ما سمع .
تجنّب الإفشاء في الحرب :
12 - كتمان أسرار جيش المسلمين عن العدوّ مطلوبٌ ، لأنّ السّرّ قد يصل إلى العدوّ فيستفيد من ذلك . ولذلك جاز الكذب في الحرب تجنّباً لإفشاء أسرار المسلمين للعدوّ .
ومن الكتمان ألاّ يذكر قائد الجيش لجنوده الوجه الّذي يريدون ،« فقد كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوةً ورّى بغيرها »،أمّا السّعي للحصول على أسرار العدوّ فهو مطلوبٌ ، لاتّقاء شرّه ،« وقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستطلع أخبار العدوّ ».
إفضاءٌ *
التّعريف :
1 - الإفضاء : مصدر أفضى ، وفضا المكان فضواً : إذا اتّسع ، وأفضى الرّجل بيده إلى الأرض : مسّها بباطن راحته ، وأفضى إلى امرأته : باشرها وجامعها ، وأفضاها : جعل مسلكيها بالافتضاض واحداً ، وأفضى إلى الشّيء : وصل إليه ، وأفضى إليه بالسّرّ : أعلمه .
2 - ويطلق الفقهاء الإفضاء ، ويريدون به معاني الأوّل :
الملامسة . قال الشّافعيّ رحمه الله : الملامسة أن يفضي الرّجل بشيءٍ من جسده إلى جسد المرأة ، أو تفضي إليه بشيءٍ منها بلا حائلٍ ( ر : وضوءٌ ، ومسٌّ ) .
الثّاني : الجماع . ومن ذلك قوله تعالى : { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعضٍ } فالمراد بالإفضاء الجماع عند بعض الفقهاء .
الثّالث : خلط السّبيلين . مثل أن يجامع الرّجل امرأته الصّغيرة الّتي لا تحتمل الجماع ، فيصيّر مسلكيها مسلكاً واحداً .
حكم الإفضاء :
3 - الإفضاء بمعنى إفشاء السّرّ ، ينظر في مصطلح ( إفشاء السّرّ ) .
أمّا الإفضاء بمعنى الملامسة . هل هو ناقضٌ للوضوء وموجبٌ للمهر أو لا ؟ فموطنه مصطلح : ( وضوءٌ ، ومهرٌ ) .
أمّا حكم الإفضاء بمعنى خلط السّبيلين : فالمفضي إمّا أن يكون الزّوج أو أجنبيّاً .
إفضاء الزّوج :
4 - إذا وطئ الرّجل زوجته الكبيرة المحتملة للوطء ، فأفضاها ، لا يجب عليه الضّمان عند أبي حنيفة ومحمّدٍ ، وهو رأي الحنابلة ، لأنّه وطءٌ مستحقٌّ ، فلم يجب ما تلف به كالبكارة ، ولأنّه فعلٌ مأذونٌ فيه ممّن يصحّ إذنه ، فلم يضمن ما تلف بسرايته ، كما لو أذنت في مداواتها بما يفضي إلى ذلك . وقال أبو يوسف : يجب الضّمان ، كما لو كان في أجنبيّةٍ ، وهو رأي المالكيّة والشّافعيّة ، غير أنّهم اختلفوا في تقدير الواجب ، فقال أبو يوسف : إذا أفضاها فاستمسك البول فعليه ثلث ديةٍ ، وقال المالكيّة : عليه حكومةٌ ، وقال الشّافعيّة : فيه ديةٌ كاملةٌ . وإذا لم يستمسك بولها ، ففيها ديةٌ كاملةٌ عند أبي يوسف ، وديةٌ وحكومةٌ ، أو ديتان عند الشّافعيّة ، وعند المالكيّة رأيان :
الأوّل للمدوّنة فيه حكومةٌ فقط .
والثّاني لابن القاسم ، فيه الدّية . وإذا أفضى زوجته الصّغيرة ، أو الّتي لا تحتمل الوطء ، ففيها الضّمان بالإجماع على ما هو مبيّنٌ عند الفقهاء ، وهذا كلّه إذا كان الجماع في المحلّ المشروع . وأمّا إذا كان الإفضاء في غيره فإنّه يكون بذلك متعدّياً ، فيجب عليه الضّمان إجماعاً على ما سبق ، لأنّه استعمالٌ في محلٍّ غير مأذونٍ فيه .
إفضاء الأجنبيّ :
5 - إذا أفضى امرأةً في زنًى فإن كانت مطاوعةً حدّا ، ولا غرم عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، لأنّه ضررٌ حصل من فعلٍ مأذونٍ فيه منها ، فلم يضمنه ، كأرش بكارتها ، وقال الشّافعيّة : عليه ديةٌ مع الحدّ ، لأنّ المأذون فيه الوطء لا الفتق ، فأشبه ما لو قطع يدها . وإن كانت المرأة مغتصبةً ( غير مطاوعةٍ ) ، فعلى المغتصب الحدّ والضّمان إجماعاً ، غير أنّهم اختلفوا في مقداره ، فقال الحنفيّة : عليه أرش الإفضاء لا العقر ، وذهب المالكيّة إلى أنّ فيه الصّداق وحكومة عدلٍ ، وذهب الشّافعيّة : إلى أنّ فيه الدّية ، وذهب الحنابلة : إلى أنّ فيه ثلث ديتها ومهر مثلها .
الإفضاء في نكاحٍ فاسدٍ :
6 - إذا وطئ امرأةً بشبهةٍ ، أو في نكاحٍ فاسدٍ فأفضاها ، فقد نصّ الحنابلة على أنّ عليه أرش إفضائها مع مهر مثلها ، لأنّ الفعل إنّما أذن فيه اعتقاداً أنّ المستوفي له هو المستحقّ ، فإذا كان غيره ثبت في حقّه وجوب الضّمان لما أتلف ، كما لو أذن في أخذ الدّين لمن يعتقد أنّه مستحقّه فبان أنّه غيره .
وقال أبو حنيفة : يجب لها أكثر الأمرين من مهر مثلها أو أرش إفضائها ، لأنّ الأرش لإتلاف العضو ، فلا يجمع بين ضمانه وضمان منفعته ، كما لو قلع عيناً .
وقال الشّافعيّة : فيه الدّية ، لأنّه إتلافٌ ، ولم يفرّقوا بين النّكاح الصّحيح والفاسد .
وقال المالكيّة : يجب حكومة عدلٍ للإتلاف والإفضاء زيادةً على المهر .
إفطارٌ *
التعريف :
1 - الإفطار لغةً : مصدر أفطر : يقال : أفطر الصّائم : دخل في وقت الفطر وكان له أن يفطر ، ومن ذلك حديث : « إذا أقبل اللّيل من هاهنا ، وأدبر النّهار من هاهنا ، وغربت الشّمس ، فقد أفطر الصّائم » . والإفطار في الاصطلاح لا يخرج عن هذا المعنى .
الحكم التّكليفيّ :
2 - الأصل في الإفطار بالنّسبة لمن وجب عليه الصّوم الحرمة ، إذ الصّوم معناه الإمساك عن كلّ ما يفطر . أمّا بالنّسبة لصوم رمضان فظاهرٌ ، وأمّا بالنّسبة للصّوم الواجب بالنّذر فكذلك ، لأنّه يسلك بالنّذر مسلك الواجب بالشّرع .
وقد يعرض له الوجوب ، لوجود مانعٍ من الصّوم ، سواءٌ أكان المانع من ناحية الشّخص ، كالمرض ، المؤدّي للهلاك ، وكالحائض والنّفساء ، أم كان المانع من ناحية الأيّام الّتي نهي عن الصّيام فيها كيومي العيد .
3 - وقد يكون الفطر مكروهاً :
كالمسافر الّذي تحقّقت له شرائط السّفر ، فإنّه يجوز له الفطر مع الكراهة عند المالكيّة ، إذ الصّوم أفضل لقوله تعالى : { وأن تصوموا خيرٌ لكم } . وكإفطار من شرع في صوم النّفل إن كان بغير عذرٍ ، لقوله تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم } . وللخروج من خلاف من أوجب إتمامه .
4 - وقد يكون مندوباً :
كما لو كان هناك عذرٌ ، كمساعدة ضيفٍ في الأكل إذا عزّ عليه امتناع مضيفه منه أو عكسه ، فلا يكره الإفطار بل يستحبّ ، لحديث « وإنّ لزورك عليك حقّاً » وحديث : « من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه » .
أمّا إذا لم يعزّ على أحدهما امتناع الآخر عن ذلك ، فالأفضل عدم خروجه منه .
5 - وقد يكون مباحاً :
كالمريض الّذي لا يخشى الهلاك ، ولكنّه يخشى زيادة المرض ، وكالحامل الّتي تخاف ضرراً يسيراً على حملها أو نفسها . ومن المباح عند الجمهور الصّيام في السّفر على خلاف الأفضليّة بناءً على اعتباره رخصةً أو عزيمةً .
أثر الإفطار :
أ - في قطع الصّوم المتتابع :
6 - من أفطر بغير عذرٍ في نهار صومٍ واجبٍ يجب فيه التّتابع ، كصومٍ عن كفّارة ظهارٍ أو قتلٍ ، انقطع تتابعه ووجب استئنافه ، فإن كان لعذرٍ فلا ينقطع تتابعه ويبني على ما سبق . وهذا في الجملة .
وللفقهاء تفصيلٌ فيما يعتبر عذراً لا يقطع التّتابع وما لا يعتبر ( ر : صومٌ - كفّارةٌ ) .
ب - في ترتّب القضاء وغيره :
7 - يجب القضاء على من أفطر في صيامٍ واجبٍ وهذا باتّفاقٍ . وفي صيام التّطوّع خلافٌ . وقد يكون مع القضاء فديةٌ أو كفّارةٌ . وفي ذلك تفصيلٌ ينظر في موضعه .
إفكٌ *
التعريف :
1 - الإفك : لغةً : الكذب . ويستعمله الفقهاء في باب القذف بمعنى الكذب ، وفي الألوسيّ وغيره ، الإفك : أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء ، وكثيراً ما يفسّر بالكذب مطلقاً . وقيل هو البهتان لا تشعر به حتّى يفجأك ، وأصله من الأفك ( بفتحٍ فسكونٍ ) وهو القلب والصّرف ، لأنّ الكذب مصروفٌ عن الوجه الحقّ .
وقد قال المفسّرون في قوله تعالى : { إنّ الّذين جاءوا بالإفك عصبةٌ منكم } إنّ المراد ما افتري على عائشة رضي الله عنها ، فتكون ( أل ) في " الإفك " للعهد ، وجوّز بعضهم حمل ( أل ) على الجنس ، قيل فيفيد القصر : كأنّه لا إفك إلاّ ذلك الإفك ، وفي لفظ ( المجيء ) إشارةٌ إلى أنّهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصلٌ . وقد ورد في سورة النّور - الآية 11 فما بعدها - ذكر حادثة الإفك ، وتشريف اللّه تعالى لعائشة ، وتبرئتها بالوحي .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - الإفك حرامٌ ، فيه يصوّر الحقّ بصورة الباطل ، ولا يخرج في عقوبته عن عقوبة الكذب ، وفيه التّعزير ، إلاّ أن يكون قذفاً بالمفهوم الشّرعيّ ، وهو ما كان موضوعه الاتّهام كذباً بالفاحشة ، فيكون فيه الحدّ . وتفصيله في ( القذف ) .
إفلاسٌ *
التعريف :
1 - الإفلاس مصدر أفلس ، وهو لازمٌ ، يقال : أفلس الرّجل إذا صار ذا فلوسٍ بعد أن كان ذا ذهبٍ وفضّةٍ ، أو صار إلى حالٍ ليس له فلوسٌ . والفلس اسم المصدر ، بمعنى الإفلاس . والإفلاس في الاصطلاح : أن يكون الدّين الّذي على الرّجل أكثر من ماله ، وسواءٌ أكان غير ذي مالٍ أصلاً ، أم كان له مالٌ إلاّ أنّه أقلّ من دينه . قال ابن قدامة : وإنّما سمّي من غلب دينه ماله مفلساً وإن كان له مالٌ ، لأنّ ماله مستحقّ الصّرف في جهة دينه ، فكأنّه معدومٌ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّفليس :
2 - التّفليس هو : مصدر فلّست الرّجل ، إذا نسبته إلى الإفلاس .
واصطلاحاً : جعل الحاكم المدين مفلساً بمنعه من التّصرّف في ماله . وهذا ما صرّح به الحنفيّة والشّافعيّة عندما عرّفوا التّفليس بالمعنى الأخصّ . والعلاقة بين التّفليس والإفلاس : أنّ الإفلاس أثر التّفليس في الجملة . وجرى المالكيّة على أنّ التّفليس يطلق على ما قبل الحجر بعد قيام الغرماء على المدين ، قالوا : ويقال حينئذٍ : إنّه تفليسٌ بالمعنى الأعمّ ، ويطلق على ما بعد الحجر عليه بحكم الحاكم ، ويكون حينئذٍ تفليساً بالمعنى الأخصّ .
ب - الإعسار :
3 - الإعسار في اللّغة : مصدر أعسر ، وهو ضدّ اليسار . والعسر : اسم مصدرٍ ، وهو الضّيق والشّدّة والصّعوبة .
وفي الاصطلاح : عدم القدرة على النّفقة بمالٍ ولا كسبٍ . فبين الإعسار والإفلاس عمومٌ وخصوصٌ مطلقٌ ، فكلّ مفلسٍ معسرٌ ، ولا عكس .
ج - الحجر :
4 - الحجر لغةً : المنع مطلقاً ، وشرعاً : منع نفاذ تصرّفٍ قوليٍّ . وهو أعمّ من التّفليس من حيث الأثر ، إذ يشمل منع الصّبيّ والسّفيه والمجنون ومن في حكمهم من التّصرّف في المال .
حكم الإفلاس :
5 - لمّا كان الإفلاس صفةً للشّخص لا فعلاً له لم يوصف بحلٍّ ولا حرمةٍ ، ولكن للإفلاس مقدّماتٌ هي من فعل المكلّف ، كالاستدانة ، وهذه قد ترد عليها الأحكام التّكليفيّة ، ويرجع في ذلك إلى مصطلح ( استدانةٌ ) .
وقد يكون سبب الإفلاس الإعسار ، وله أحكامٌ وضعيّةٌ ( آثارٌ ) مفصّلةٌ في مصطلح ( إعسارٌ ) ، وأمّا الإفلاس من حيث إنّه أثرٌ للتّفليس ، فإنّه يناسب هنا الكلام على أحكام التّفليس .
الحكم التّكليفيّ للتّفليس :
6 - إذا أحاط الدّين بمال المدين ، وطلب الغرماء الحجر عليه ، وجب على الحاكم تفليسه عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وصاحبي أبي حنيفة ، وهو المفتى به عند الحنفيّة . واشترط المالكيّة لوجوب ذلك ألاّ يمكن للغرماء الوصول إلى حقّهم إلاّ به . أمّا إذا أمكن الوصول إلى حقّهم بغير ذلك كبيع بعض ماله ، فإنّه لا يصار إلى التّفليس .
وذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا يفلّس ، لأنّه كامل الأهليّة ، وفي الحجر عليه إهدارٌ لآدميّته . واستدلّ القائلون بتفليسه : بأنّ الكلّ مجمعٌ على الحجر على المريض مرض الموت فيما زاد على الثّلث لحقّ الورثة ، فلأن يحجر عليه ويمنع من التّصرّف في أمواله لحقّ الغرماء أولى . وممّا يتّصل بهذا الموضوع : أنّه هل يجوز للحاكم أن يبيع ماله جبراً عليه أو لا ؟ ذهب الجمهور إلى جواز ذلك مستدلّين بحديث معاذٍ : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حجر عليه ، وباع ماله في دينٍ كان عليه ، وقسمه بين غرمائه … » وكذلك أثر أسيفعٍ : أنّه كان يشتري الرّواحل ، فيغالي بها ، ثمّ يسرع في السّير فيسبق الحاجّ ، فأفلس ، فرفع أمره إلى عمر بن الخطّاب فقال : ( أمّا بعد : أيّها النّاس فإنّ الأسيفع أسفع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال : سبق الحاجّ ، إلاّ أنّه قد أدان مغرضاً ، فأصبح وقد رين به ، فمن كان له دينٌ فليأتنا بالغداة نقسم ماله بين غرمائه ، وإيّاكم والدّين … )
ولأنّه محجورٌ عليه محتاجٌ إلى قضاء دينه فجاز بيع ماله بغير رضاه ، كالصّغير والمجنون . وقال أبو حنيفة : لا يباع ماله جبراً عنه ، لأنّه لا ولاية عليه في ماله ، إلاّ أنّ الحاكم يجبره على البيع إذا لم يمكن الإيفاء بدون إجبارٍ ، لقوله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم } .
واستثنى أبو حنيفة من ذلك أنّه إذا كان دينه دراهم ، وفي المال دراهم ، دفعت للغريم جبراً . وكذلك إن كان دينه دنانير وفي المال دنانير ، دفعت للدّائنين جبراً . وكذلك إذا كان عليه أحد النّقدين وفي ماله النّقد الآخر ، لأنّهما كجنسٍ واحدٍ . واستدلّ لذلك بأنّ الغريم إذا ظفر بمثل دينه أخذه جبراً ، فالحاكم أولى ، وهذا الاستثناء عنده من قبيل الاستحسان . وممّا يتّصل بهذا أنّ المدين المستغرق بالدّين ، يحرم عليه ديانةً كلّ تصرّفٍ يضرّ بالدّائنين ، كما يحرم على الآخرين أن يتعاملوا معه بما يضرّ بدائنيه متى علموا .
وتفصيل ذلك في ( استدانةٌ ) .
شرائط الحجر على المفلس :
الشّريطة الأولى :
7 - يشترط للحجر على المفلس عند كلّ من أجازه أن يطلب الغرماء أو من ينوب عنهم أو يخلفهم الحجر عليه . فلو طالبوا بديونهم ولم يطلبوا الحجر لم يحجر عليه .
ولا يشترط أن يطلبه جميع الغرماء ، بل لو طلبه واحدٌ منهم لزم ، وإن أبى بقيّة الغرماء ذلك أو سكتوا ، أو طلبوا تركه ليسعى . وإذا فلّس لطلب بعضهم كان للباقين المحاصّة .
ولو طلب المدين تفليس نفسه والحجر عليه لم يجبه الحاكم إلى ذلك من غير طلب الغرماء . وهذا عند المالكيّة والحنابلة ، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة . والأصحّ عندهم يحجر على المدين بسؤاله أو سؤال وكيله ، قيل : وجوباً ، وقيل : جوازاً . قالوا : لأنّ له غرضاً ظاهراً في ذلك ، وهو صرف ماله إلى ديونه .
ووجه الأوّل أنّ الحجر ينافي الحرّيّة والرّشد ، وإنّما حجر بطلب الغرماء للضّرورة ، وأنّهم لا يتمكّنون من تحصيل مقصودهم إلاّ بالحجر ، خشية الضّياع ، بخلاف المدين فإنّ غرضه الوفاء ، وهو متمكّنٌ منه ببيع أمواله وقسمتها على غرمائه . وجعل بعضهم من الحجر بطلب المدين« حجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم على معاذٍ ». قالوا : الأصوب أنّه كان بسؤال معاذٍ نفسه .
وقال الشّافعيّة : ولو كان الدّين لقاصرٍ ، ولم يسأل وليّه الحجر ، وجب على الحاكم الحجر من غير سؤالٍ ، لأنّه ناظرٌ لمصلحته . ومثله عندهم ما لو كانت الدّيون لمسجدٍ ، أو جهةٍ عامّةٍ كالفقراء . وقال الشّافعيّة أيضاً في حالة ما إذا طلب بعض الدّائنين الحجر دون بعضٍ : يشترط أن يكون دين الطّالب أكثر من مال المدين ، وإلاّ فلا حجر ، لأنّ دينه يمكن وفاؤه بكماله . وهذا هو المعتمد عندهم ، وفي قولٍ : يعتبر أن يزيد دين الجميع على ماله ، لا دين طالب الحجر فقط .
الشّريطة الثّانية :
8 - يشترط أن يكون الدّين الّذي طلب ربّه الحجر على المدين بسببه ديناً حالاًّ ، سواءٌ أكان حالاًّ أصالةً ، أم حلّ بانتهاء أجله ، فلا حجر بالدّين المؤجّل ، لأنّه لا يطالب به في الحال ، ولو طولب به لم يلزمه الأداء .
الشّريطة الثّالثة :
9 - يشترط أن تكون الدّيون على المفلس أكثر من ماله . وعلى هذا فلا يفلّس بدينٍ مساوٍ لماله ، وهو قول المالكيّة ، ويفهم أيضاً من كلام الحنابلة ، وقال المالكيّة : ولو لم يزد دينه الحالّ على ماله لكن بقي من مال المدين مالاً يفي بالمؤجّل يفلّس أيضاً ، كمن عليه مائتان . مائةٌ حالّةٌ ومائةٌ مؤجّلةٌ ، ومعه مائةٌ وخمسون فقط ، فيفلّس ، إلاّ إن كان يرجى من تنميته للفضلة - وهي خمسون في مثالنا - وفاء المؤجّل .
وقال الشّافعيّة : إن كانت ديونه بقدر ماله ، فإن كان كسوباً ينفق من كسبه فلا حجر لعدم الحاجة ، وإن لم يكن كسوباً ، وكانت نفقته من ماله ، فيحجر عليه كي لا يضيّع ماله في نفقته على قولٍ عندهم . والأصحّ عندهم : أنّه لا حجر في هذه الحال أيضاً ، لتمكّن الغرماء من المطالبة في الحال .
الشّريطة الرّابعة :
10 - الدّين الّذي يحجر به هو دين الآدميّين . أمّا دين اللّه تعالى فلا يحجر به . نصّ على ذلك الشّافعيّة . قالوا : ولو فوريّاً ، كنذرٍ ، وإن كان مستحقّوه محصورين ، وكالزّكاة إذا حال الحول وحضر المستحقّون .
الشّريطة الخامسة :
11 - يشترط أن يكون الدّين المحجور به لازماً ، فلا حجر بالثّمن في مدّة الخيار ، نصّ على ذلك الشّافعيّة .
الحجر على المدين الغائب :
12 - يصحّ عند الحنفيّة على قول الصّاحبين الحجر على المدين الغائب ، ولكن يشترط علم المحجور عليه بعد الحجر ، حتّى إنّ كلّ تصرّفٍ باشره بعد الحجر قبل العلم به يكون صحيحاً عندهم .
وإن ثبت الدّين بإقراره ، أو ببيّنةٍ قامت عليه عند القاضي ، فغاب المطلوب قبل الحكم وامتنع من الحضور ، قال أبو يوسف : ينصب القاضي وكيلاً ، ويحكم عليه بالمال ، إن سأل الخصم ذلك ، وإن سأل الخصم أن يحجر عليه ، فعند أبي حنيفة ومحمّدٍ لا يحكم ولا يحجر حتّى يحضر الغائب ، ثمّ يحكم عليه ، ثمّ يحجر عليه عند محمّدٍ ، لأنّه إنّما يحجر بعد الحكم لا قبله . كذا في الذّخيرة . وفي النّوادر عن محمّدٍ : إن كانوا قد أثبتوا ديونهم يحجر عليه . ويصحّ الحجر على الغائب كذلك عند المالكيّة ، إن كانت غيبته متوسّطةً كعشرة أيّامٍ ، أو طويلةً كشهرٍ مثلاً ، أمّا الغائب الغيبة القريبة ففي حكم الحاضر .
واشترطوا للحجر على الغائب ألاّ يتقدّم العلم بملاءته قبل سفره . فإن علم ملاءته قبل سفره استصحب ذلك ولم يفلّس .. وعند ابن رشدٍ يفلّس في الغيبة الطّويلة ، وإن علم ملاءته حال خروجه . ولم نجد للشّافعيّة والحنابلة كلاماً عن هذه المسألة فيما اطّلعنا عليه .
من يحجر على المفلس :
13 - لا يكون المفلس محجوراً عليه إلاّ بحجر القاضي عليه . والحجر للقاضي دون غيره ، لاحتياجه إلى نظرٍ واجتهادٍ . هذا وإنّ لقيام الغرماء على المدين الّذي أحاط الدّين بماله بعض أحكام التّفليس عند المالكيّة ، ويسمّى هذا عند المالكيّة تفليساً عامّاً ، وهو أن يقوم الغرماء على من أحاط الدّين بماله - وقبل أن يحجر عليه الحاكم - فيسجنوه ، أو يقوموا عليه فيستتر عنهم فلا يجدونه ، ويحولون بينه وبين التّصرّف في ماله بالبيع والشّراء والأخذ والإعطاء ، هذا بالإضافة إلى منع تبرّعه ، ومنعهم لسفره ، كما في كلّ مدينٍ بدينٍ حالٍّ أو يحلّ في الغيبة ، وليس لهم في هذه الحال منعه من تزوّجٍ واحدةٍ ، وتردّدوا في حجّ الفريضة ، والفتوى عندهم على أنّ لهم منعه منه . ونقل ابن رجبٍ الحنبليّ في قواعده أنّ ابن تيميّة كان لا يرى نفاذ تبرّع المدين بالدّين المستغرق بعد المطالبة .
ونقل عن الإمام أحمد أنّ تصرّفه بالعين الّتي له حقّ الرّجوع فيها على المحجور عليه لا ينفذ إن طالبه بها صاحبها ، ولو قبل الحجر .
وأمّا عند سائر الفقهاء فإنّ المفلس قبل الحجر عليه كغير المفلس ، وما يفعله من بيعٍ أو هبةٍ أو إقرارٍ أو قضاء بعض الغرماء دون بعضٍ فهو جائزٌ نافذٌ ، لأنّه رشيدٌ غير محجورٍ عليه ، فنفذ تصرّفه كغيره . ونصّ شارح المنتهى من الحنابلة على أنّه يحرم عليه التّصرّف في ماله بما يضرّ غريمه . وصيغة الحجر أن يقول الحاكم : منعتك من التّصرّف ، أو حجرت عليك للفلس . ويقتضي كلام الجمهور التّخيير بين الصّيغتين ، ونحوهما - كفلّستك - من كلّ ما يفيد معنى الحجر .
الإثبات :
14 - لا حجر بالدّين إلاّ إن ثبت لدى القاضي بطريقٍ من طرق الإثبات الشّرعيّة ( ر : إثباتٌ ) .
إشهار الحجر بالإفلاس والإشهاد عليه :
15 - الّذين قالوا بمشروعيّة الحجر على المفلس قالوا : يستحبّ إظهار الحجر عليه وإشهاره لتجتنب معاملته ، كي لا يستضرّ النّاس بضياع أموالهم .
وقال الحنفيّة - على رأي الصّاحبين - والشّافعيّة والحنابلة : ويسنّ الإشهاد عليه لينتشر ذلك عنه ، ولأنّه ربّما عزل الحاكم أو مات ، فيثبت الحجر عند الآخر فيمضيه ، ولا يحتاج إلى ابتداء حجرٍ ثانٍ . ولأنّ الحجر تتعلّق به أحكامٌ ، وربّما يقع التّجاحد فيحتاج إلى إثباته . ولم يتعرّض المالكيّة لذلك فيما اطّلعنا عليه من كلامهم .
آثار الحجر على المفلس :
16 - إذا حجر القاضي على المفلس ، تعلّق بذلك من الآثار ما يلي :
أ - تتعلّق حقوق الغرماء بماله ، ويمنع من الإقرار على ذلك المال والتّصرّف فيه .
ب - انقطاع الطّلب عنه بدينٍ جديدٍ بعد الحكم بالإفلاس .
ج - حلول الدّين المؤجّل في ذمّة المدين .
د - استحقاق من وجد عين ماله عند المدين استرجاعه .
هـ-استحقاق بيع مال المفلّس وقسمه بين الغرماء .
وفيما يلي تفصيل القول في هذه الآثار .
الأوّل : تعلّق حقّ الغرماء بالمال :
17 - بالحجر يتعلّق حقّ الغرماء بالمال ، نظير تعلّق حقّ الرّاهن بالمال المرهون ، فلا ينفذ تصرّف المحجور عليه في ذلك المال بما يضرّهم ، ولا ينفذ إقراره عليه . والمال الّذي يتعلّق به حقّ الغرماء هو مال المدين الّذي يملكه حال الحجر اتّفاقاً عند من يقول بجواز تفليس المدين . وأمّا ما يحدث له بعد ذلك فلا يشمله الحجر عند صاحبي أبي حنيفة - رحمهم الله - والمالكيّة ، وعلى قولٍ عند الشّافعيّة - هو مقابل الأصحّ عندهم - قالوا : كما لا يتعدّى حجر الرّاهن على نفسه في العين المرهونة إلى غيرها .
والأصحّ عند الشّافعيّة ومذهب الحنابلة : يشمله الحجر كذلك ما دام الحجر قائماً ، نحو ما ملكه بإرثٍ ، أو هبةٍ أو اصطيادٍ أو صدقةٍ أو ديةٍ أو وصيّةٍ ، قال الشّافعيّة : أو شراءٍ في الذّمّة . قالوا : لأنّ مقصود الحجر وصول الحقوق إلى أهلها ، وذلك لا يختصّ بالموجود . فعلى قول الحنفيّة والمالكيّة يتصرّف المحجور عليه لفلسٍ فيما تجدّد له بعد الحجر من المال ، سواءٌ كان عن أصلٍ ، كربح مالٍ تركه بيده بعض من فلّسه ، أو عن معاملةٍ جديدةٍ ، أو عن غير أصلٍ كميراثٍ وهبةٍ ووصيّةٍ .
ولا يمنع من ذلك التّصرّف إلاّ بحجرٍ جديدٍ على ما صرّح به المالكيّة .
الإقرار :
18 - على قول الحنفيّة والحنابلة - وهو خلاف الأظهر عند الشّافعيّة - لا يقبل على الغرماء إقرار المفلّس بشيءٍ من ماله الّذي حجر عليه فيه ، لاحتمال التّواطؤ بين المفلّس ومن أقرّ له ، ويلزمه ما أقرّ به بعد فكّ الحجر عنه .
والأظهر عند الشّافعيّة : أنّه يقبل في حقّ الغرماء ، إن أسند وجوبه إلى ما قبل الحجر عليه أو أطلق ، لا إن أضافه إلى ما بعد الحجر . وعند المالكيّة تفصيلٌ ، قالوا : يقبل إقراره على غرمائه إن أقرّ بالمجلس الّذي حجر عليه فيه ، أو قريباً منه ، إن كان دينه الّذي حجر عليه به ثبت بالإقرار ، أو علم تقدّم المعاملة بينهما . أمّا في غير ذلك إن ثبت بالبيّنة ، فلا يقبل إمراره عليه لغيرهم .
تصرّفات المفلّس في المال :
19 - تصرّفات المفلّس ثلاثة أنواعٍ :
الأوّل : تصرّفاتٌ نافعةٌ للغرماء ، كقبوله الهبة والصّدقة ، فهذه لا يمنع منها .
الثّاني : تصرّفاتٌ ضارّةٌ ، كهبته لماله ، ووقفه له ، وتصدّقه به ، والإبراء منه ، وسائر التّبرّعات ، فهذه يؤثّر فيها الحجر عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وعلى الأظهر عند الشّافعيّة . والقول الثّاني عند الشّافعيّة : أنّ التّصرّف يقع موقوفاً ، فإن فضل ذلك عن الدّين نفذ وإلاّ لغا . ومن أجل ذلك قال الحنابلة : لا يكفّر المفلّس بغير الصّوم ، لئلاّ يضرّ بالغرماء . ويستثنى من هذا النّوع التّصرّف بعد الموت ، كما لو أوصى بمالٍ . وإنّما صحّ هذا لأنّ الوصيّة تخرج من الثّلث بعد حقّ الدّائنين . واستثنى الحنابلة أيضاً تصرّفه بالصّدقة اليسيرة . الثّالث : تصرّفاتٌ دائرةٌ بين النّفع والضّرّ ، كالبيوع والإجارة . والأصل في هذا النّوع أنّه باطلٌ على قول بعض الفقهاء ، منهم الحنابلة والشّافعيّة في الأظهر ، وابن عبد السّلام من المالكيّة .
ومذهب المالكيّة : أنّه يمنع من التّصرّف المذكور ، فإن أوقعه وقع موقوفاً على نظر الحاكم إن اختلف الغرماء ، وعلى نظرهم إن اتّفقوا ، ومذهب الحنفيّة على قول الصّاحبين أنّ للمفلّس أن يبيع ماله بثمنٍ مثله ، لأنّه لا يبطل حقّ الغرماء ، وإن باع بالغبن لا يصحّ منه ، سواءٌ أكان الغبن يسيراً أم فاحشاً ، ويخيّر المشتري بين إزالة الغبن وبين الفسخ .
ولو باع بعض ماله لغريمه بدينه ، فقال الحنابلة : لا يصحّ ، لأنّه محجورٌ عليه . وقال الشّافعيّة في الأصحّ عندهم : لا يصحّ إلاّ بإذن القاضي ، لأنّ الحجر يثبت على العموم ، ومن الجائز أن يظهر له غريمٌ آخر . ومقابله عند الشّافعيّة : يصحّ ، ولو بغير إذن القاضي ، لأنّ الأصل عدم الغريم الآخر . لكن لا يصحّ إلاّ بشرط أن يكون البيع للغرماء جميعهم بلفظٍ واحدٍ ، وأن يكون دينهم من نوعٍ واحدٍ .
وقال الحنفيّة : إن باع ماله من الغريم ، وجعل الدّين بالثّمن على سبيل المقاصّة صحّ إن كان الغريم واحداً . وإن كان الغريم أكثر من واحدٍ ، فباع ماله من أحدهم بمثل قيمته يصحّ ، كما لو باع من أجنبيٍّ بمثل قيمته ، ولكنّ المقاصّة لا تصحّ ، كما لو قضى دين بعض الغرماء دون بعضٍ . ولم نجد المالكيّة تعرّضوا لهذه المسألة بخصوصها ، فيظهر أنّها عندهم أيضاً موقوفةٌ على نظر القاضي أو الغرماء كما تقدّم .
التّصرّف في الذّمّة من المحجور عليه لفلسٍ :
20 - لو تصرّف المحجور عليه لفلسٍ تصرّفاً في ذمّته بشراءٍ أو بيعٍ أو كراءٍ صحّ ، نصّ على ذلك المالكيّة ، والشّافعيّة على الصّحيح عندهم ، والحنابلة ، وهو مقتضى مذهب الصّاحبين ، لأهليّته للتّصرّف ، والحجر يتعلّق بماله لا بذمّته ، ولأنّه لا ضرر فيه على الغرماء ، ويتبع به بعد فكّ الحجر عنه .
إمضاء التّصرّفات السّابقة على الحجر أو إلغاؤها :
21 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ للمفلّس بعد الحجر عليه إمضاء خيارٍ ، وفسخٌ لعيبٍ فيما اشتراه قبل الحجر ، لأنّه إتمامٌ لتصرّفٍ سابقٍ على حجره فلم يمنع منه ، كاسترداد وديعةٍ أودعها قبل الحجر عليه ، وسواءٌ أكان في ذلك الإمضاء أو الفسخ حظٌّ للمفلّس أو لم يكن . وقال المالكيّة : ينتقل الخيار للحاكم أو للغرماء ، فلهم الرّدّ أو الإمضاء .
وصرّح الحنفيّة بأنّ البيع ، إن كان بمثل القيمة جاز من المحجور عليه ، فيؤخذ منه مراعاةً لحظّ الغرماء في الفسخ أو الإمضاء .
حكم ما يلزم المفلّس من الحقوق في مدّة الحجر :
22 - ما لزم المفلّس من ديةٍ أو أرش جنايةٍ زاحم مستحقّها الغرماء ، وكذا كلّ حقٍّ لزمه بغير رضى الغريم واختياره ، كضمان إتلاف المال ، لانتفاء تقصيره . بخلاف التّصرّفات الّتي تقدّم ذكر المنع منها ، فإنّها تكون برضا الغريم واختياره . قال الشّافعيّة على الأصحّ عندهم : ولو أقرّ المفلّس بجنايةٍ قبل إقراره على الغرماء ، سواءٌ أسند المفلّس سبب الحقّ إلى ما قبل الحجر أو إلى ما بعده .
وجعل من ذلك صاحب المغني أنّه لو أفلس ، وله دارٌ مستأجرةٌ فانهدمت ، بعدما قبض المفلّس الأجرة ، انفسخت الإجارة فيما بقي من المدّة ، وسقط من الأجرة بقدر ذلك . ثمّ إن وجد عين ما له أخذ بقدر ذلك ، وإن لم يجده شارك الغرماء بقدره .
الأثر الثّاني - انقطاع المطالبة عنه :
23 - وذلك لقول اللّه تعالى : { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ } وقول النّبيّ لغرماء معاذٍ : « خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلاّ ذلك » وفي روايةٍ « ولا سبيل لكم عليه » فمن أقرضه شيئاً أو باعه شيئاً عالماً بحجره لم يملك مطالبته ببدله حتّى ينفكّ الحجر عنه ، لتعلّق حقّ الغرماء حالة الحجر بعين مال المفلّس ، ولأنّه هو المتلف لماله بمعاملة من لا شيء معه ، لكن إن وجد المقرض أو البائع أعيان ما لهما فلهما أخذها كما سبق ، إن لم يعلما بالحجر .
الأثر الثّالث - حلول الدّين المؤجّل :
24 - في حلول الدّيون الّتي على المفلّس بالحجر عليه قولان للفقهاء :
الأوّل وهو قول المالكيّة المشهور عندهم ، وقولٌ للشّافعيّ هو خلاف الأظهر عند أصحابه ، وروايةً عن أحمد : أنّ الدّيون المؤجّلة الّتي على المفلّس تحلّ بتفليسه . قال المالكيّة : ما لم يكن المدين قد اشترط عدم حلولها بالتّفليس . واحتجّ أصحاب هذا القول : بأنّ التّفليس يتعلّق به الدّين بالمال ، فيسقط الأجل ، كالموت . قال المالكيّة : ولو طلب الدّائن بقاء دينه مؤجّلاً لم يجب لذلك .
والثّاني ، وهو قول الحنفيّة ، والشّافعيّ وهو الأظهر عند أصحابه ، وروايةً عن أحمد هي الّتي اقتصر عليها في الإقناع : لا يحلّ الأجل بالتّفليس . قالوا : لأنّ الأجل حقٌّ للمفلّس ، فلا يسقط بفلسه ، كسائر حقوقه ، ولأنّه لا يوجب حلول ما له ، فلا يوجب حلول ما عليه ، كالجنون والإغماء ، وليس هو كالموت ، فإنّ الموت تخرب به الذّمّة ، بخلاف التّفليس . فعلى هذا القول : لا يشارك أصحاب الدّيون المؤجّلة أصحاب الدّيون الحالّة ، إلاّ إن حلّ المؤجّل قبل قسمة المال فيحاصّهم . أو قبل قسمة بعضه فيشاركهم الدّائن في ذلك البعض . قال الرّمليّ من الشّافعيّة ، وصاحب الإقناع من الحنابلة : وإذا بيعت أموال المفلّس لم يدّخر منها شيءٌ للمؤجّل . ولا يرجع ربّ الدّين المؤجّل على الغرماء إذا حلّ دينه بشيءٍ ، لأنّه لم يستحقّ مشاركتهم حال القسمة . وقال الحنفيّة : يرجع عليهم فيما قبضوا بالحصص . أمّا على القول الأوّل : فيشارك أصحاب الدّيون المؤجّلة أصحاب الدّيون الحالّة في مال المفلّس . أمّا ديون المفلّس على النّاس فلا تحلّ بفلسه إذا كانت مؤجّلةً ، لا يعلم في ذلك خلافٌ .
الأثر الرّابع : مدى استحقاق الغريم أخذ عين ماله إن وجدها :
إذا أوقع الحجر على المفلّس ، فوجد أحد أصحاب الدّيون عين ماله الّتي باعها للمفلّس وأقبضها له ، ففي أحقّيّته باسترجاعها قولان للعلماء :
25 - القول الأوّل : أنّ بائعها أحقّ بها بشروطه ، وهو قول مالكٍ والشّافعيّ وأحمد والأوزاعيّ والعنبريّ وإسحاق وأبي ثورٍ وابن المنذر ، وروي هذا القول عن بعض الصّحابة ، منهم عثمان وعليٌّ رضي الله عنهما ، وعن عروة بن الزّبير من التّابعين . واحتجّ أصحاب هذا القول بحديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع « من أدرك ماله بعينه عند رجلٍ أو إنسانٍ قد أفلس فهو أحقّ به من غيره » .
واحتجّوا أيضاً بأنّ هذا عقدٌ يلحقه الفسخ بالإقالة ، فجاز فيه الفسخ لتعذّر العوض ، كالمسلم فيه إذا تعذّر ، وبأنّه لو شرط في العقد رهناً ، فعجز عن تسليمه ، استحقّ الفسخ ، وهو وثيقةٌ بالثّمن ، فالعجز عن تسليم الثّمن نفسه أولى .
26 - القول الثّاني : قول أبي حنيفة وأهل الكوفة وقول ابن سيرين وإبراهيم من التّابعين وابن شبرمة . وروي عن عليٍّ رضي الله عنه :" أنّه ليس أحقّ بها ، بل هو في ثمنها أسوة الغرماء ". واحتجّوا بأنّ هذا مقتضى الأصول اليقينيّة المقطوع بها ، قالوا : وخبر الواحد إذا خالف الأصول يردّ ،
كما قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه :" لا ندع كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا لحديث امرأةٍ ".
قالوا : ولما روي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : « أيّما رجلٍ مات أو أفلس فوجد بعض غرمائه ماله بعينه فهو أسوة الغرماء » . قالوا : وهذا الحديث أولى من غيره ، لموافقته الأصول العامّة ، ولأنّ الذّمّة باقيةٌ وحقّه فيها .
الرّجوع فيما قبضه المدين بغير الشّراء :
27 - اختلف القائلون بالرّجوع فيما قبضه الغريم بغير الشّراء .
أ - فقد عمّم الشّافعيّة القول بأنّ له الرّجوع في عين ماله بالفسخ في سائر المعاوضات الماليّة المحضة كالقرض والسّلم ، بخلاف غيرها ، كالهبة ، والنّكاح والصّلح عن دم العمد والخلع .
وصنيع الحنابلة يوحي بأنّ قولهم في ذلك كقول الشّافعيّة ، وإن لم نرهم صرّحوا بذلك ، لكنّ تمثيلهم لما يرجع فيه بعين القرض ورأس مال السّلم والعين المؤجّرة يدلّ على ذلك .
ب - وأجاز المالكيّة الرّجوع للوارث ، ومن ذهب له الثّمن ، أو تصدّق عليه به ، أو أحيل به . وأبوا الرّجوع فيما لا يمكن الرّجوع فيه كعصمةٍ ، فلو خالعت زوجها على مالٍ ، ثمّ فلّست قبل أداء البدل ، لم يكن لمخالعها الرّجوع بالعصمة لأنّها خرجت منه ، ويحاصّ الغرماء ببدل الخلع ، وكما لو فلّس الجاني بعد الصّلح عن القصاص لم يكن لأولياء القتيل الرّجوع إلى القصاص ، لتعذّر ذلك شرعاً بعد العفو ، بل يحاصّون الغرماء بعوض الصّلح .
شروط الرّجوع في عين المال :
جملة الشّروط الّتي اشترطها القائلون بالرّجوع في عين المال الّتي عند المفلّس هي كما يلي : الشّرط الأوّل :
28 - أن يكون المفلّس قد ملكها قبل الحجر لا بعده . فإن كان ملكها بعد الحجر فليس البائع أحقّ بها ، ولو لم يكن عالماً بالحجر ، وذلك لأنّه ليس له المطالبة بثمنها في الحال ، فلم يملك الفسخ .
وقيل : ليس هذا شرطاً ، لعموم الخبر . وقيل بالتّفريق بين العالم ومن لم يعلم .
الشّرط الثّاني :
29 - قال الحنابلة : أن تكون السّلعة باقيةً بعينها ، ولم يتلف بعضها ، فإن تلفت كلّها أو تلف جزءٌ منها ، كما لو انهدم بعض الدّار ، أو تلفت ثمرة البستان ، لم يكن للبائع الرّجوع ، وكان أسوة الغرماء .
واحتجّوا بقول النّبيّ : « من أدرك ماله بعينه عند رجلٍ أو إنسانٍ قد أفلس فهو أحقّ به من غيره » قالوا : فإنّ قوله : " بعينه " يقتضي ذلك . ولأنّه إذا أدركه بعينه فأخذه انقطعت الخصومة بينهما .
وعند المالكيّة والشّافعيّة يمنع تلف كلّه الرّجوع ، ولا يمنع تلف بعضه الرّجوع ، على تفصيلٍ عندهم في ذلك يرجع إليه في بابه .
الشّرط الثّالث :
30 - أن تكون السّلعة عند المفلّس على حالها الّتي اشتراها عليها . فإن انتقلت عين السّلعة عن الحال الّتي اشتراها عليها ، بعد شرائه لها - قال الحنابلة : بما يزيل اسمها - منع ذلك الرّجوع ، كما لو طحن الحنطة ، أو فصّل الثّوب ، أو ذبح الكبش ، أو تتمّر رطبه ، أو نجّر الخشبة باباً ، أو نسج الغزل ، أو فصّل القماش قميصاً . وهذا عند المالكيّة والحنابلة . وقالوا : لأنّه لم يجد عين ماله .
وقال الشّافعيّة : إن لم تزد القيمة بهذا الانتقال رجع ولا شيء للمفلّس . وإن نقصت فلا شيء للبائع إن رجع به . وإن زادت ، فالأظهر أنّه يباع وللمفلّس من ثمنه بنسبة ما زاد .
الشّرط الرّابع :
31 - ألاّ يكون المبيع قد زاد عند المفلّس زيادةً . متّصلةً ، كالسّمن والكبر ، وتجدّد الحمل - ما لم تلد - وهذا على قولٍ في مذهب أحمد .
وقول المالكيّة والشّافعيّة ، وهو روايةً عن أحمد : أنّ الزّيادة المتّصلة المتولّدة لا تمنع الرّجوع ، ويفوز بها البائع ، إلاّ أنّ المالكيّة يخيّرون الغرماء بين أن يعطوا السّلعة ، أو ثمنها الّذي باعها به . وهذا بخلاف نقص الصّفة فلا يمنع الرّجوع .
أمّا الزّيادة المنفصلة فإنّها لا تمنع الرّجوع ، وذلك كالثّمرة والولد . وهذا قول مالكٍ والشّافعيّ وأحمد ، سواءٌ أنقص بها المبيع أم لم ينقص ، إذا كان نقص صفةٍ . والزّيادة المنفصلة للمشتري وهو المفلّس .
الشّرط الخامس :
32 - ألاّ يكون قد تعلّق بالسّلعة حقٌّ للغير ، كأن وهبها المشتري أو باعها أو وقفها فلا رجوع ، لأنّه لم يدرك متاعه بعينه عند المفلّس ، فلا يدخل في النّصّ .
وقال المالكيّة في المرهون : إنّ للدّائن أن يفكّ الرّهن بدفع ما رهنت به العين ، ويأخذها ، ويحاصّ الغرماء بما دفع .
الشّرط السّادس :
33 - وهو للشّافعيّة . قالوا : أن يكون الثّمن ديناً ، فلو كان الثّمن عيناً قدّم على الغرماء بقبض العين الّتي هي ثمنٌ ، وذلك كما لو باع بقرةً ببعيرٍ ، ثمّ أفلس المشتري ، فالبائع يرجع بالبعير ولا يرجع بالمبيع ، أي البقرة .
الشّرط السّابع :
34 - قال الشّافعيّة : أن يكون الثّمن حالاًّ عند الرّجوع ، فلا رجوع فيما كان ثمنه مؤجّلاً ولم يحلّ ، إذ لا مطالبة في الحال .
وقال الحنابلة : إن كان الثّمن مؤجّلاً لم يحلّ رجوع البائع في السّلعة ، فتوقّف إلى الأجل ، فيختار البائع حينئذٍ بين الفسخ والتّرك . ولا تباع فيما يباع من مال المفلّس . قالوا : لأنّ حقّ البائع تعلّق بها ، فقدّم على غيره ، وإن كان مؤجّلاً ، كالمرتهن .
الشّرط الثّامن :
35 - وهو للحنابلة ، قالوا : يشترط ألاّ يكون البائع قد قبض من ثمنها شيئاً . وإلاّ سقط حقّه في الرّجوع . قالوا : والإبراء من بعض الثّمن كقبضه .
واحتجّوا بما روى الدّارقطنيّ من حديث أبي هريرة مرفوعاً : « أيّما رجلٍ باع سلعةً ، فأدرك سلعته بعينها عند رجلٍ قد أفلس ، ولم يكن قبض من ثمنها شيئاً ، فهي له . وإن كان قبض من ثمنها شيئاً فهو أسوة الغرماء » .
وقال الشّافعيّ في مذهبه الجديد : للبائع أن يرجع بما يقابل الباقي من دينه . وقال مالكٌ : هو مخيّرٌ إن شاء ردّ ما أخذه ورجع في جميع العين ، وإن شاء حاصّ الغرماء ولم يرجع .
الشّرط التّاسع :
36 - وهو للمالكيّة ، قالوا : يشترط ألاّ يفديه الغرماء بثمنه الّذي على المفلّس ، فإن فدوه - ولو بما لهم - لم يأخذه ، وكذا لو ضمنوا له الثّمن ، وهم ثقاتٌ ، أو أعطوا به كفيلاً ثقةً . وقال الشّافعيّة والحنابلة : لا يسقط حقّه في الفسخ ، ولو قال الغرماء له : لا تفسخ ونحن نقدّمك بالثّمن من التّركة . قال الحنابلة : لعموم الأدلّة . وقال الشّافعيّة : لما في ذلك من المنّة ، ولخوف ظهور غريمٍ آخر .
لكن لو أنّ الغرماء بذلوا الثّمن للمفلّس ، فأعطاه للبائع سقط حقّه في الفسخ .
الشّرط العاشر :
37 - أن يكون المفلّس حيّاً إلى أخذها ، فإن مات بعد الحجر عليه ، سقط حقّ البائع في الرّجوع . وهذا مذهب مالكٍ وأحمد . لحديث : « ... فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء » . وفي روايةٍ : « أيّما امرئٍ مات ، وعنده مال امرئٍ بعينه ، اقتضى منه شيئاً أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء » . قالوا : ولأنّه تعلّق به حقّ غير المفلّس ، وهم الورثة ، كالمرهون ، وكما لو باعه . وقال الشّافعيّ : له الفسخ واسترجاع العين ، لحديث أبي هريرة مرفوعاً : « أيّما رجلٍ مات أو أفلس فصاحب المتاع أحقّ بمتاعه إذا وجده بعينه » .
الشّرط الحادي عشر :
38 - أن يكون البائع أيضاً حيّاً ، فلو مات قبل الرّجوع فلا رجوع على قولٍ عند الحنابلة . وفي الإنصاف : للورثة الرّجوع .
الشّرط الثّاني عشر :
39 - قال الشّافعيّة على الأصحّ عندهم : له أن يرجع فور علمه بالحجر ، فإن تراخى في الرّجوع ، وادّعى أنّه جهل أنّ الرّجوع على الفور ، قبل منه . ولو صولح عن الرّجوع على مالٍ لم يصحّ الصّلح ، وبطل حقّه من الفسخ إن علم . ووجه اشتراطه عندهم أنّه كالرّدّ بالعيب ، بجامع دفع الضّرر . والقول الآخر للشّافعيّة ، وهو مذهب الحنابلة : أنّ الرّجوع على التّراخي . قالوا : وهو كرجوع الأب في هبته لابنه .
الرّجوع بعين الثّمن :
40 - لو كان الغريم اشترى من المفلّس شيئاً في الذّمّة ، وأسلم الثّمن ، ولم يقبض السّلعة ، حتّى حجر على المفلّس ، فهل يرجع الغريم بما أسلمه من النّقود ؟ قال المالكيّة : نعم يرجع إن ثبت عينها ببيّنةٍ أو طبعٍ ، قياساً للثّمن على المثمّن .
وقال أشهب من المالكيّة : لا يرجع ، لأنّ الأحاديث إنّما فيها « من وجد سلعته ... » و : « من وجد متاعه ... » والنّقدان لا يطلق عليهما ذلك عرفاً .
ثمّ قد قال المالكيّة : ولو اشترى شراءً فاسداً ففسخه الحاكم وأفلس البائع ، فالمشتري أحقّ بالثّمن إن كان موجوداً لم يفت . ولم نعثر على نصٍّ في هذه المسألة لسائر المذاهب . استحقاق مشتري العين أخذها إن حجر على البائع للفلس قبل تقبيضها :
41 - نصّ الحنابلة على أنّ الرّجل لو باع عيناً ، ثمّ أفلس قبل تقبيضها ، فالمشتري أحقّ بها من الغرماء ، لأنّها عين ملكه ، وذلك صادقٌ عندهم سواءٌ كانت السّلعة ممّا لا يحتاج لحقّ توفيةٍ ، كدارٍ وسيّارةٍ ، أو ما يحتاج إليه ، كالمكيل والموزون .
ولم نجد تعرّضاً لهذه المسألة في المذاهب الأخرى .
هل يحتاج الرّجوع إلى حكم حاكمٍ :
42 - لا يفتقر الرّجوع في العين إلى حكم حاكمٍ ، على مذهب الحنابلة ، وعلى الأصحّ في مذهب الشّافعيّة . قالوا : لأنّه ثبت بالنّصّ . ولو حكم بمنع الفسخ حاكمٌ فعند الشّافعيّة : لا ينقض حكمه قالوا : لأنّ المسألة اجتهاديّةٌ ، والخلاف فيها قويٌّ ، إذ النّصّ كما يحتمل أنّه " أحقّ بعين متاعه " يحتمل أنّه " أحقّ بثمنه " وإن كان الأوّل أظهر .
وعند الحنابلة : يجوز نقض حكمه ، نقل صاحب المغني عن نصّ أحمد : لو حكم حاكمٌ بأنّ صاحب المتاع أسوة الغرماء ، ثمّ رفع إلى رجلٍ يرى العمل بالحديث ، جاز له نقض حكمه . أي فما كان بهذه المثابة لا يحتاج إلى حكم حاكمٍ .
ما يحصل به الرّجوع :
43 - يحصل الرّجوع بالقول ، بأن يقول : فسخت البيع أو رفعته أو نقضته أو أبطلته أو رددت . نصّ على هذا الشّافعيّة والحنابلة ، قال الحنابلة : فلو قال ذلك صحّ رجوعه ولو لم يقبض العين . فلو رجع كذلك ثمّ تلفت العين تلفت من مال البائع ما لم يتبيّن أنّها تلفت قبل رجوعه ، أو كانت بحالةٍ لا يصحّ الرّجوع فيها لفقد شريطةٍ من شرائط الرّجوع المعتبرة ، أو لمانعٍ يمنع الرّجوع ، كما لو كان دقيقاً فاتّخذه خبزاً ، أو حديداً فاتّخذه سيفاً .
أمّا الرّجوع بالفعل : فقد نصّ الشّافعيّة - في الأصحّ عندهم - والحنابلة على أنّ الرّجوع لا يحصل بالتّصرّف النّاقل للملكيّة كالبيع ، ولو نوى به الرّجوع . قال صاحب مطالب أولي النّهى : حتّى لو أخذ العين بنيّة الرّجوع لم يحصل الرّجوع . والقول الآخر : أنّه يحصل بذلك ، كالبيع في مدّة الخيار . ولم نجد للمالكيّة نصّاً في ذلك .
ظهور عينٍ مستحقّةٍ في مال المفلّس :
44 - لو ظهر شيءٌ مستحقٌّ في مال المفلّس فهو لصاحبه .
ولو أنّ المفلّس باعه قبل الحجر ثمّ استحقّ - والثّمن تالفٌ - فإنّ المشتري يشارك الغرماء كواحدٍ منهم ، وسواءٌ أكان تلف الثّمن قبل الحجر أو بعده ، لأنّ دينه من جملة الدّيون الثّابتة في ذمّة المفلّس قبل إفلاسه . وإن كان الثّمن غير تالفٍ ، فالمشتري أولى به على ما صرّح به الشّافعيّة ، ويفهم من كلام الحنابلة ، لأنّه عين ماله .
الرّجوع في الأرض بعد البناء فيها أو غرسها :
45 - عند الشّافعيّة والحنابلة : إذا أفلس مشتري الأرض وحجر عليه ، وكان قد غرس فيها غراساً أو بنى بناءً ، لم يمنع ذلك من رجوع البائع فيها . والزّرع الّذي يجذّ مرّةً بعد أخرى وتبقى أصوله كالغراس في هذا .
ثمّ إن تراضى الطّرفان - البائع من جهةٍ ، والغرماء مع المفلّس من الجهة الأخرى - على القلع ، أو أباه البائع وطلبوه هم فلهم ذلك ، لأنّه ملكٌ للمفلّس لا حقٌّ للبائع فيه ، ولا يمنع الإنسان من أخذ ملكه . ويلزم حينئذٍ تسوية الأرض من الحفر ، وأرش نقص الأرض بسبب القلع يجب ذلك في مال المفلّس ، لأنّه نقصٌ حصل لتخليص ملك المفلّس ، فكان عليه ، ويقدّم به الآخذ على حقوق الغرماء عند الشّافعيّة ، لأنّه لمصلحة تحصيل المال ، ويحاصّهم به عند الحنابلة . وإن أبى المفلّس والغرماء القلع ، لم يجبروا عليه ، لأنّه وضع بحقٍّ . وللآخذ حينئذٍ تملّك الغرس والبناء بقيمته قائماً ، لأنّه غرس أو بنى وهو صاحب حقٍّ ، وإن شاء فله القلع وإعطاؤه للغرماء مع أرش نقصه ، فإن أبى الآخذ تملّك الغرس والبناء ، وأبى أداء أرش النّقص ، فلا رجوع له على الأظهر عند الشّافعيّة والمقدّم عند الحنابلة ، لأنّ الرّجوع حينئذٍ ضررٌ على الغرماء ، ولا يزال الضّرر بالضّرر .
والوجه الآخر عند الطّرفين : له الرّجوع ، وتكون الأرض على ملكه ، والغرس والبناء للمفلّس . ولم يتعرّض المالكيّة والحنفيّة لهذه المسألة فيما اطّلعنا عليه من كلامهم .
إفلاس المستأجر :
46 - عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إذا آجر عيناً له بأجرةٍ حالّةٍ ولم يقبضها حتّى حجر على المستأجر لفلسٍ ، فالمؤجّر مخيّرٌ ، إن شاء رجع في العين بالفسخ ، وإن شاء ترك ذلك للغرماء وحاصّ بجميع الأجرة .
وإن اختار الفسخ ، وكان قد مضى شيءٌ من المدّة ، فقال المالكيّة والشّافعيّة : يشارك المؤجّر الغرماء بأجرة ما مضى ، ويفسخ في الباقي . وقال الحنابلة : في هذه الحال يسقط حقّه في الفسخ بناءً على قولهم : إنّ تلف بعض السّلعة يمنع الرّجوع .
إفلاس المؤجّر :
47 - إن آجر داراً بعينها ثمّ أفلس المؤجّر ، فالإجارة ماضيةٌ ولا تنفسخ بفلسه للزومها ، وسواءٌ أقبض العين أم لم يقبضها . وإن طلب الغرماء بيع الدّار المعيّنة في الحال بيعت مؤجّرةً ، وإن اتّفقوا على تأخير بيعها حتّى تنقضي الإجارة جاز .
أمّا إن استأجر داراً موصوفةً في الذّمّة ، ثمّ أفلس المؤجّر قبل القبض ، فالمستأجر أسوة الغرماء ، لعدم تعلّق حقّه بعينٍ . وقال المالكيّة والشّافعيّة : وإن أفلس ملتزم عملٍ في الذّمّة ، وقد سلّم للمستأجر عيناً ليستوفي منها ، قدّم بها كالمعيّنة في العقد . ثمّ قال الشّافعيّة : فإن لم يكن سلّم له عيناً ، وكانت الأجرة باقيةً في يد المؤجّر ، فللمستأجر الفسخ ويستردّ الأجرة . فإن كانت تالفةً ضرب مع الغرماء بأجرة المثل للمنفعة ، ولا تسلّم إليه حصّته منها بالمحاصّة ، لامتناع الاعتياض عن المسلم فيه ، إذ إجارة الذّمّة سلمٌ في المنافع ، فيحصل له بعض المنفعة الملتزمة إن تبعّضت بلا ضررٍ ، كحمل مائة رطلٍ مثلاً ، وإلاّ - كخياطة ثوبٍ - فسخ ، ويحاصّ بالأجرة المبذولة . ولم نجد للحنفيّة كلاماً في هذه المسائل .
الأثر الخامس من آثار الحجر على المفلّس : بيع الحاكم ماله :
48 - يبيع الحاكم مال المحجور عليه لفلسٍ ، عند غير أبي حنيفة ومن وافقه ، ليؤدّي ما عليه من الدّيون . وإنّما يبيعه إن كان من غير جنس الدّين . ويراعي الحاكم عند البيع ما فيه المصلحة للمفلّس . وذكر ابن قدامة الأمور التّالية ، وذكرها غيره أيضاً :
أ - يبيع بنقد البلد لأنّه أوفر ، فإن كان في البلد نقودٌ باع بغالبها ، فإن تساوت باع بجنس الدّين .
ب - يستحبّ إحضار المفلّس البيع ، قال : ليحصي ثمنه ويضبطه ليكون أطيب لقلبه ، ولأنّه أعرف بجيّد متاعه ورديئه ، فإذا حضر تكلّم عليه ، فتكثر الرّغبة فيه .
ت - يستحبّ إحضار الغرماء أيضاً ، لأنّه يباع لهم ، وربّما رغبوا في شراء شيءٍ منه ، فزادوا في ثمنه ، فيكون أصلح لهم وللمفلّس ، وأطيب لنفوسهم وأبعد من التّهمة ، وربّما وجد أحدهم عين ماله فيأخذها .
ث - يستحبّ بيع كلّ شيءٍ في سوقه ، لأنّه أحوط وأكثر لطلاّبه وعارفي قيمته .
ج-يترك للمفلّس من ماله شيءٌ ، ويأتي تفصيل الكلام فيه .
ح- يلاحظ الحاكم نوعاً من التّرتيب تتحقّق به المصلحة ، فيما يقدّم بيعه وما يؤخّره ، فيقدّم الأيسر فالأيسر ، حسبما هو أنظر للمفلّس ، إذ قد يكتفي ببيع البعض ، فيبدأ ببيع الرّهن ،0 ويدفع إلى المرتهن قدر دينه ، ويردّ ما فضل من الثّمن على الغرماء ، وإن بقيت من دينه بقيّةٌ ضرب بها مع الغرماء .
ثمّ يبيع ما يسرع إليه الفساد من الطّعام الرّطب وغيره ، لأنّ إبقاءه يتلفه . وقدّمه الشّافعيّة على بيع الرّهن . ثمّ يبيع الحيوان ، لأنّه معرّضٌ للتّلف ، ويحتاج إلى مئونةٍ في بقائه .
ثمّ يبيع السّلع والأثاث ، لأنّه يخاف عليه الضّياع وتناله الأيدي .
ثمّ يبيع العقار آخراً . قال المالكيّة : يستأني به الشّهر والشّهرين .
ونصّ الشّافعيّة على أنّ هذا التّرتيب مستحبٌّ في غير الحيوان ، وما يسرع إليه الفساد ، وما يخاف عليه النّهب أو استيلاء نحو ظالمٍ عليه .
وذكر المالكيّة الأمور الآتية أيضاً :
خ - أنّه لا يبيع إلاّ بعد الإعذار في البيّنة للمفلّس فيما ثبت عنده من الدّين ، والإعذار لكلٍّ من القائمين ( الدّائنين المطالبين ) ، لأنّ لكلٍّ الطّعن في بيّنة صاحبه ، ويحلف كلاًّ من الدّائنين أنّه لم يقبض من دينه شيئاً ، ولا أحال به ، ولا أسقطه ، وأنّه باقٍ في ذمّته إلى الآن .
د - وأنّه يبيع بالخيار ثلاثاً لطلب الزّيادة في كلّ سلعةٍ ، إلاّ ما يفسده التّأخير .
ذ - وقال الشّافعيّة : لا يبيع بأقلّ من ثمن المثل ، وهو مذهب الحنابلة ، كما في مطالب أولي النّهى ، وبعض الشّافعيّة قال : يبيع بما تنتهي إليه الرّغبات ، قالوا جميعاً : فإن ظهر راغبٌ في السّلعة بأكثر ممّا بيعت به - وكان ذلك في مدّة خيارٍ ، ومنه خيار المجلس - وجب الفسخ ، والبيع للزّائد . وبعد مدّة الخيار لا يلزم الفسخ ، ولكن يستحبّ للمشتري الإقالة .
ر - وقالوا أيضاً : لا يبيع إلاّ بنقدٍ ، ولا يبيع بثمنٍ مؤجّلٍ ، ولا يسلّم المبيع حتّى يقبض الثّمن .
ما يترك للمفلّس من ماله :
49 - يترك للمفلّس من ماله ما يأتي :
أ - الثّياب : يترك للمفلّس بالاتّفاق دستٌ من ثيابه ، وقال الحنفيّة : أو دستان . ويباع ما عداهما من الثّياب . وقال الحنفيّة : يباع ما لا يحتاج إليه في الحال ، كثياب الشّتاء في الصّيف . وقال المالكيّة : يباع ثوبا جمعته إن كثرت قيمتهما ، ويشتري له دونهما ، وهو بمعنى ما صرّح به الحنابلة والشّافعيّة من أنّ الثّياب إن كانت رفيعةً لا يلبس مثله مثلها تباع ، ويترك له أقلّ ما يكفيه من الثّياب .
وقال المالكيّة والشّافعيّة : يترك لعياله كما يترك له من الملابس .
ب - الكتب : وتترك له الكتب الّتي يحتاج إليها في العلوم الشّرعيّة وآلتها ، إن كان عالماً لا يستغني عنها . عند الشّافعيّة ، وعلى قولٍ في مذهب المالكيّة . والمقدّم عند المالكيّة أنّها تباع أيضاً .
ت - دار السّكنى : قال مالكٌ والشّافعيّ - في الأصحّ عنه - وشريحٌ : تباع دار المفلّس ويكترى له بدلها ، واختار هذا ابن المنذر ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لغرماء الّذي أصيب في ثمارٍ ابتاعها : « خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلاّ ذلك » . وقال أحمد وإسحاق ، وهو قولٌ عند الحنفيّة والشّافعيّة . لا تباع داره الّتي لا غنًى له عن سكناها . فإن كانت الدّار نفيسة بيعت واشتري له ببعض ثمنها مسكنٌ يبيت فيه ، ويصرف الباقي إلى الغرماء .
ث - آلات الصّانع : قال الحنابلة وبعض المالكيّة : تترك للمفلّس آلة صنعته ، ثمّ قال المالكيّة من هؤلاء : إنّما تترك إن كانت قليلة القيمة ، كمطرقة الحدّاد : وقال بعضهم : تباع أيضاً . ونصّ الشّافعيّة أنّها تباع .
ج - رأس مال التّجارة : قال الحنابلة وابن سريجٍ من الشّافعيّة : يترك للمفلّس رأس مالٍ يتّجر فيه ، إذا لم يحسن الكسب إلاّ به . قال الرّمليّ : وأظنّه يريد الشّيء اليسير ، أمّا الكثير فلا . ولم نر نصّاً في ذلك للحنفيّة والمالكيّة .
ح - القوت الضّروريّ : عند المالكيّة والحنابلة : يترك للمفلّس أيضاً من ماله قدر ما يكفيه وعياله من القوت الضّروريّ الّذي تقوم به البنية ، لا ما يترفّه . قال المالكيّة : وتترك له ولزوجاته وأولاده ووالديه النّفقة الواجبة عليه ، بالقدر الّذي تقوم به البنية . وهذا إن كان ممّن لا يمكنه الكسب ، أمّا إن كان ذا صنعةٍ يكتسب منها ، أو يمكنه أن يؤجّر نفسه فلا يترك له شيءٌ . ثمّ قد قال المالكيّة : يترك ذلك له ولمن ذكر قدر ما يكفيهم إلى وقتٍ يظنّ بحسب الاجتهاد أنّه يحصل له فيه ما تتأتّى معه المعيشة .
أمّا عند الشّافعيّة فلا يترك له من القوت شيءٌ ما عدا قوت يوم القسمة ، ولا نفقة عليه أيضاً لقريبٍ ، لأنّه معسرٌ بخلاف حاله قبل القسمة . وتسقط نفقة القريب لما بعد القسمة أيضاً عند الحنابلة .
الإنفاق على المفلّس وعلى عياله مدّة الحجر وقبل قسمة ماله على الغرماء :
50 - عند الحنفيّة على قول الصّاحبين ، والشّافعيّة والحنابلة ، وهو مقتضى مذهب المالكيّة كما تقدّم : يجب على الحاكم أن ينفق من مال المفلّس عليه - أي على المفلّس - بالمعروف ، وهو أدنى ما ينفق على مثله ، إلى أن يقسم ماله . وذلك لأنّ ملكه لم يزل عن ماله قبل القسمة . وكذلك ينفق على من تلزم المفلّس نفقته ، من زوجةٍ وقريبٍ ولو حدث بعد الحجر ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « ابدأ بنفسك ثمّ بمن تعول »، وهذا ما لم يستغن المفلّس بكسبٍ حلالٍ لائقٍ به .
وفي الخانيّة من كتب الحنفيّة : ولا يضيّق عليه في مأكوله ومشروبه وملبوسه ، ويقدّر له المعروف والكفاف . أمّا بعد القسمة فقد تقدّم بيان ما يترك له من النّفقة .
المبادرة بقسم مال المفلّس بين غرمائه :
51 - نصّ المالكيّة على أنّه لا ينبغي الاستيناء ( التّمهّل والتّأخير ) بقسم مال المفلّس ، وقال الشّافعيّة والحنابلة : يندب المبادرة بالقسم لبراءة ذمّة المدين ، ولئلاّ يطول زمن الحجر عليه ، ولئلاّ يتأخّر إيصال الحقّ لمستحقّه ، وتأخير قسمه مطلٌ وظلمٌ للغرماء . قال الشّافعيّة : ولا يفرّط في الاستعجال ، كي لا يطمع فيه بثمنٍ بخسٍ . وقال المالكيّة : إن كان يخشى أن يكون على المفلّس دينٌ لغير الغرماء الحاضرين فإنّ القاضي يستأني بالقسم باجتهادٍ .
ونصّ الشّافعيّة على أنّه لا يلزم الحاكم أن ينتظر ليتمّ بيع الأموال كلّها ، بل يندب للحاكم عندهم أن يقسم بالتّدريج كلّ ما يقبضه . فإن طلب الغرماء ذلك وجب . فإن تعسّر ذلك لقلّة الحاصل يؤخّر القسمة حتّى يجتمع ما تسهل قسمته ، فيقسمه ، ولو طلبه الغرماء لم يلزمه .
هل يلزم قبل القسمة حصر الدّائنين ؟
52 - نصّ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه لا يكلّف القاضي غرماء المفلّس إثبات أنّه لا غريم غيرهم ، وذلك لاشتهار الحجر ، فلو كان ثمّة غريمٌ لظهر . وهذا بخلاف قسمة التّركة عند جميعهم ، فإنّ القاضي لا يقسم حتّى يكلّفهم بيّنةً تشهد بحصرهم .
ظهور غريمٍ بعد القسمة :
53 - لو قسم الحاكم مال المفلّس بين غرمائه ، فظهر غريمٌ بعد ذلك بدينٍ سابقٍ على الحجر ، شارك كلّ واحدٍ معهم بالحصّة ، ولم تنقض القسمة . فإن أتلف أحدهم ما أخذه رجع عليه كذلك ، على ما نصّ عليه الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . ثمّ قال الشّافعيّة : فإن كان الآخذ معسراً جعل ما أخذه كالمعدوم ، وشارك من ظهر الآخرين .
وقال المالكيّة : إن اقتسموا ، ولم يعلموا بالغريم الآخر ، يرجع على كلّ واحدٍ منهم بما ينوبه ، ولا يأخذ أحدٌ عن أحدٍ . وإن كانوا عالمين يرجع عليهم بحصّته ، ولكن يأخذ المليء عن المعدم ، والحاضر عن الغائب ، والحيّ عن الميّت ، أي في حدود ما قبضه كلٌّ منهم . وفي قولٍ عند الشّافعيّة : تنقض القسمة بكلّ حالٍ ، كما لو ظهر وارثٌ بعد قسمة التّركة .
كيفيّة قسمة مال المفلّس بين غرمائه :
54 - أ - يبدأ من مال المفلّس بإعطاء أجرة من يصنع ما فيه مصلحةٌ للمال ، من منادٍ وسمسارٍ وحافظٍ وحمّالٍ وكيّالٍ ووزّانٍ ونحوهم ، تقدّم على ديون الغرماء . ذكر ذلك صاحب الإقناع من الحنابلة . وذكر الدّردير من المالكيّة تقديم ساقي الزّرع الّذي أفلس ربّه على المرتهن ، وقال : إذ لولاه لما انتفع بالزّرع .
ب - ثمّ بمن له رهنٌ لازمٌ أي مقبوضٌ ، فيختصّ بثمنه إن كان قدر دينه ، لأنّ حقّه متعلّقٌ بعين الرّهن وذمّة الرّاهن . وما زاد من ثمن الرّهن ردّ على المال ، وما نقص ضرب به الغريم مع الغرماء . وأضاف المالكيّة : إنّ الصّانع أحقّ من الغرماء بما في يده إذا أفلس ربّ الشّيء المصنوع بعد تمام العمل حتّى يستوفي أجرته منه ، لأنّه وهو تحت يده كالرّهن ، حائزه أحقّ به في الفلس ، وإلاّ فليس أحقّ به إذا سلّمه لربّه قبل أن يفلّس ، أو أفلس ربّه قبل تمام العمل .
قالوا : ومن استأجر دابّةً ونحوها كسفينةٍ ، وأفلس ، فربّها أحقّ بالمحمول عليها من أمتعة المكتري ، يأخذه في أجرة دابّته وإن لم يكن ربّها معها ، ما لم يقبض المحمول ربّه - وهو المكتري - قبض تسلّمٍ . وهذا بخلاف مكتري الحانوت ونحوه فلا يختصّ بما فيه . والفرق أنّ بحيازة الظّهر لما فيها من الحمل والنّقل أقوى من حيازة الحانوت والدّار .
وقال المالكيّة أيضاً : وكذلك المكتري لدابّةٍ ونحوها أحقّ بها حتّى يستوفي من منافعها ما نقده من الكراء ، سواءٌ أكانت معيّنةً أو غير معيّنةٍ ، إلاّ أنّها إن كانت غير معيّنةٍ لم يكن أحقّ بها ما لم يقبضها قبل فلس المؤجّر .
ج - ثمّ من وجد عين ماله أخذها بشروطها المتقدّمة . وكذا من له عينٌ مؤجّرةٌ استأجرها منه المفلّس ، فله أخذها وفسخ الإجارة على الخلاف والتّفصيل المتقدّم .
د - ثمّ تقسم أموال المفلّس المتحصّلة بين غرمائه . وهذا إن كانت الدّيون كلّها من النّقد . وكذلك إن كانت كلّها عروضاً موافقةً لمال المفلّس في الجنس والصّفة ، فلا حاجة للتّقويم ، بل يتحاصّون بنسبة عرض كلٍّ منهم إلى مجموع الدّيون .
فإن كانت الدّيون كلّها أو بعضها عروضاً وكان مال المفلّس نقداً ، قوّمت العروض بقيمتها يوم القسمة ، وحاصّ كلّ غريمٍ بقيمة عروضه ، يشترى له بها من جنس عروضه وصفتها . ويجوز مع التّراضي أخذٌ الثّمن إن خلا من مانعٍ ، كما لو كان دينه ذهباً ، ونابه في القسم فضّةٌ ، فلا يجوز له أخذ ما نابه ، لأنّه يؤدّي إلى الصّرف المؤخّر . وهذا التّفصيل منصوص المالكيّة . ولو أنّ المفلّس أو الحاكم قضى ديون بعضهم دون بعضٍ ، أو قضى بعضاً منهم أكثر ممّا تقتضيه التّسوية المذكورة شاركوه فيما أخذ بالنّسبة .
ما يطالب به المفلّس بعد قسمة ماله :
55 - لا تسقط ديون الفلس الّتي لم يف ماله بها ، بل تبقى في ذمّته .
ثمّ إن كان هناك أرضٌ أو عقارٌ موصًى له بنفعه أو موقوفٌ عليه ، يلزم بإجارته ، ويصرف بدل المنفعة إلى الدّيون ، ويؤجّر مرّةً بعد أخرى إلى أن تتمّ البراءة ، صرّح بذلك الشّافعيّة والحنابلة . أمّا تكليف المفلّس حينئذٍ بالتّكسّب ، بإيجار نفسه لسداد الدّيون الباقية ، فقد قسّم الشّافعيّة الدّيون إلى قسمين :
الأوّل : ما كان المفلّس عاصياً بسببه ، كغاصبٍ ، وجانٍ متعمّدٍ ، فهذا يلزم بالتّكسّب ، ولو بإجارة نفسه ، ولو كان ذلك مزرياً به ، بل متى أطاقه لزمه ، قالوا : إذ لا نظر للمروآت في جنب الخروج من المعصية ، ولأنّ التّوبة من المعصية واجبةٌ ، وهي متوقّفةٌ في حقوق الآدميّين على الوفاء .
الثّاني : ما لم يعص به من الدّيون ، فهذا لا يلزمه التّكسّب ولا إيجار نفسه .
وأمّا المالكيّة فقد أطلقوا القول بأنّ المفلّس لا يلزم بالتّكسّب ولو كان قادراً عليه ، ولو كان قد شرط على نفسه ذلك في عقد الدّين . قالوا : لأنّ الدّين إنّما تعلّق بذمّته .
وأمّا الحنابلة فقد أطلقوا القول بإجبار المفلّس المحترف على الكسب ، وإيجار نفسه فيما يليق به من الصّنائع ، واحتجّوا بأنّ المنافع تجري مجرى الأعيان في صحّة العقد عليها ، فأجبر على العقد عليها ، كما يباع ماله رغماً عنه .
ثمّ قال المالكيّة والحنابلة : لا يجبر المفلّس على قبول التّبرّعات ، من هبةٍ أو وصيّةٍ أو عطيّةٍ أو صدقةٍ ، لئلاّ يلزم بتحمّل منّةٍ لا يرضاها ، ولا على اقتراضٍ . وكذا لا يجبر على خلع زوجته وإن بذلت ، لأنّ عليه في ذلك ضرراً ، ولا على أخذ ديةٍ عن قودٍ وجب له بجنايةٍ عليه أو على مورّثه ، لأنّ ذلك يفوّت المعنى الّذي لأجله شرع القصاص . ثمّ إن عفا باختياره على مالٍ ثبت وتعلّقت به حقوق الغرماء . وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجبر على التّكسّب ، ولا يؤاجره القاضي ، لسداد ديونه من الأجرة .
ما ينفكّ به الحجر عن المفلّس :
56 - عند الشّافعيّة - ومثلهم الحنابلة فيما لو بقي على المفلّس شيءٌ من الدّيون - لا ينفكّ الحجر عنه بقسمة ماله بين الغرماء ، قال الشّافعيّة : ولا ينفكّ الحجر أيضاً باتّفاق الغرماء على فكّه ، ولا بإبرائهم للمفلّس ، بل إنّما ينفكّ بفكّ القاضي ، لأنّه لا يثبت إلاّ بإثبات القاضي ، فلا ينفكّ إلاّ بفكّه ، ولأنّه يحتاج إلى نظرٍ واجتهادٍ ، ولاحتمال ظهور غريمٍ آخر . ولا ينتظر البراءة من كلّ الدّيون ، بل متى ثبت إعساره بالباقي يفكّ الحجر عليه كما لا يحجر على المعسر أصالةً . وقال القليوبيّ من الشّافعيّة : المعتمد يبقى محجوراً إلى تمام الأداء . وصرّح الحنابلة بأنّ الحجر ينفكّ عن المفلّس إن لم يبق عليه للغرماء شيءٌ ، دون حاجةٍ إلى فكّه من قبل الحاكم . قالوا : لأنّ المعنى الّذي حجر عليه لأجله قد زال .
أمّا عند المالكيّة ، وهو وجهٌ آخر عند الحنابلة ذكره صاحب المغني : فإنّ حجر المفلّس ينفكّ بمجرّد قسمة الموجود من ماله . قال المالكيّة : ويحلف أنّه لم يكتم شيئاً ، فينفكّ حينئذٍ ولو بلا حكم حاكمٍ . ثمّ قد قال المالكيّة والحنابلة : وإذا انفكّ الحجر عن المفلّس ، ثمّ ثبت أنّ عنده مالاً غير ما قسم ، أو اكتسب بعد فكّ الحجر مالاً ، يعاد الحجر عليه بطلب الغرماء ، وتصرّفه حينئذٍ قبل الحجر صحيحٌ . ولا يعاد الحجر عليه بعد انفكاكه ما لم يثبت أو يتجدّد له مالٌ . ولم نجد تصريحاً بحكم هذه المسألة لدى الحنفيّة ، غير أنّهم قالوا في الحجر على السّفيه ( وهو المبذّر لماله ) : لا يرتفع الحجر عنه إلاّ بحكم القاضي عند أبي يوسف .
ما يلزم المفلّس من الدّيون بعد فكّ الحجر :
57 - إذا انفكّ الحجر عن المفلّس بقسم ماله أو بفكّ القاضي الحجر عنه على التّفصيل المتقدّم ، وبقي عليه شيءٌ من الدّين ، فلزمته ديونٌ أخرى بعد فكّ الحجر عنه ، وتجدّد له مالٌ ، فحجر عليه مرّةً أخرى بطلب الغرماء ، قال الحنابلة : يشارك أصحاب الحجر الأوّل ببقيّة ديونهم أصحاب الحجر الثّاني بجميع ديونهم ، لأنّهم تساووا في ثبوت حقوقهم في ذمّته ، فتساووا في الاستحقاق .
أمّا المالكيّة فقد فصلوا ، فقالوا : يشارك الأوّلون الآخرين فيما تجدّد بسببٍ مستقلٍّ ، كإرثٍ وصلةٍ وأرش جنايةٍ ووصيّةٍ ونحو ذلك ، ولا يشاركونهم في أثمان ما أخذه من الآخرين ، وفيما تجدّد عن ذلك إلاّ أن يفضل عن ديونهم فضلةٌ .
ومذهب الشّافعيّة أنّه لو فكّ الحجر عن المفلّس ، وحدث له مالٌ بعده فلا تعلّق لأحدٍ به ، فيتصرّف فيه كيف شاء ، فلو ظهر له مالٌ - كان قبل الفكّ - تبيّن بقاء الحجر فيه ، سواءٌ حدث له بعد الفكّ مالٌ وغرماء أو لا ، والمال الّذي ظهر أنّه كان قبل فكّ الحجر للغرماء الأوّلين ، ويشاركون من حدث بعدهم فيما حدث بعد الفكّ ، ولا يشارك غريمٌ حادثٌ من قبله في مالٍ حدث قبله أو معه .
أحكام من مات مفلّساً :
58 - من مات مفلّساً تجري بعض أحكام الإفلاس في حقّ ديونه ، ويمتنع جريان بعض أحكام الإفلاس الأخرى . ويرجع للتّفصيل إلى مصطلح ( تركةٌ ) .
أحكامٌ أخرى يستتبعها التّفليس :
59 - إذا فلّس المدين استتبع تفليسه أحكاماً في بعض ما كان صدر منه من التّصرّفات ، كما في توكيله أو ضمانه أو غير ذلك . وينظر حكم كلّ شيءٍ من ذلك في بابه .
أقارب *
انظر : قرابةٌ
إقالةٌ *
التعريف :
1 - الإقالة في اللّغة : الرّفع والإزالة ، ومن ذلك قولهم : أقال اللّه عثرته إذا رفعه من سقوطه . ومنه الإقالة في البيع ، لأنّها رفع العقد .
وهي في اصطلاح الفقهاء : رفع العقد ، وإلغاء حكمه وآثاره بتراضي الطّرفين .
الألفاظ ذات الصّلة
أ - البيع :
2 - تختلف الإقالة عن البيع في أمورٍ منها :
أنّهم اختلفوا في الإقالة ، فقال بعضهم : إنّها فسخٌ ، وقال آخرون : هي بيعٌ ، وهناك أقوالٌ أخرى سيأتي تفصيلها .
ومنها أنّ الإقالة يمكن أن يقع فيها الإيجاب بلفظ الاستقبال كقول أحدهما : أقلني ، بخلاف البيع فإنّه لا يقع إلاّ بلفظ الماضي ، لأنّ لفظة الاستقبال للمساومة حقيقةً ، والمساومة في البيع معتادةٌ ، فكانت اللّفظة محمولةً على حقيقتها ، فلم تقع إيجاباً ، بخلاف الإقالة ، لأنّ المساومة فيها ليست معتادةً ، فيحمل اللّفظ فيها على الإيجاب .
ب - الفسخ :
3 - تختلف الإقالة عن الفسخ في أنّ الفسخ هو رفع جميع أحكام العقد وآثاره واعتباره كأن لم يكن بالنّسبة للمستقبل . وأمّا الإقالة فقد اعتبرها بعضهم فسخاً ، واعتبرها آخرون بيعاً . حكم الإقالة التّكليفيّ :
4 - الإقالة دائرةٌ بين النّدب والوجوب بحسب حالة العقد ، فإنّها تكون مندوباً إليها إذا ندم أحد الطّرفين ، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه : « من أقال مسلماً بيعته أقال اللّه عثرته » . وقد دلّ الحديث على مشروعيّة الإقالة ، وعلى أنّها مندوبٌ إليها ، لوعد المقيلين بالثّواب يوم القيامة .
وأمّا كون المقال مسلماً فليس بشرطٍ ، وإنّما ذكره لكونه حكماً أغلبيّاً ، وإلاّ فثواب الإقالة ثابتٌ في إقالة غير المسلم ، وقد ورد بلفظ : « من أقال نادماً ... » .
وتكون الإقالة واجبةً إذا كانت بعد عقدٍ مكروهٍ أو بيعٍ فاسدٍ ، لأنّه إذا وقع البيع فاسداً أو مكروهاً وجب على كلٍّ من المتعاقدين الرّجوع إلى ما كان له من رأس المال صوناً لهما عن المحظور ، لأنّ رفع المعصية واجبٌ بقدر الإمكان ، ويكون ذلك بالإقالة أو بالفسخ .
كما ينبغي أن تكون الإقالة واجبةً إذا كان البائع غارّاً للمشتري وكان الغبن يسيراً ، وإنّما قيّد الغبن باليسير هنا ، لأنّ الغبن الفاحش يوجب الرّدّ إن غرّه البائع على الصّحيح .
ركن الإقالة :
5 - ركن الإقالة الإيجاب والقبول الدّالاّن عليها . فإذا وجد الإيجاب من أحدهما والقبول من الآخر بلفظٍ يدلّ عليه فقد تمّ الرّكن ، وهي تتوقّف على القبول في المجلس ، نصّاً بالقول أو دلالةً بالفعل . ويأتي القبول من الآخر بعد الإيجاب ، أو تقدّم السّؤال ، أو قبض الآخر ما هو له في مجلس الإقالة أو مجلس علمها ، لأنّ مجلس العلم في حقّ الغائب كمجلس اللّفظ في الحاضر ، فلا يصحّ من الحاضر في غير مجلسها .
الألفاظ الّتي تنعقد بها الإقالة :
6 - لا خلاف في أنّ الإقالة تنعقد صحيحةً بلفظ الإقالة أو ما يدلّ عليها ، كما لا خلاف في أنّها تنعقد بلفظين يعبّر بهما عن الماضي .
ولكنّ الخلاف في صيغة اللّفظ الّذي تنعقد به إذا كان أحدهما ماضياً والآخر مستقبلاً . فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنّها تصحّ بلفظين أحدهما مستقبلٌ والآخر ماضٍ ، كما لو قال : أقلني : فقال ، أقلتك ، أو قال له : جئتك لتقيلني ، فقال : أقلتك ، فهي تنعقد عندهما بهذين اللّفظين كما ينعقد النّكاح . ومع أنّ الإقالة بيعٌ عند أبي يوسف ، فإنّه لم يعط الإقالة حكمه ، لأنّ المساومة لا تجري في الإقالة ، فحمل اللّفظ على التّحقيق بخلاف البيع .
وأمّا محمّدٌ فهو يقول : إنّها لا تنعقد إلاّ بلفظين يعبّر بهما عن الماضي ، لأنّها كالبيع فأعطيت بسبب الشّبه حكم البيع ، وذلك بأن يقول أحدهما : أقلت ، والآخر : قبلت ، أو رضيت ، أو هويت ، أو نحو ذلك .
وتنعقد بفاسختك وتاركت ، كما تصحّ بلفظ " المصالحة " وتصحّ بلفظ " البيع " وما يدلّ على المعاطاة ، لأنّ المقصود المعنى ، وكلّ ما يتوصّل إليه أجزأ . خلافاً للقاضي من الحنابلة في أنّ ما يصلح للعقد لا يصلح للحلّ ، وما يصلح للحلّ لا يصلح للعقد . وتنعقد الإقالة بالتّعاطي كالبيع ، كما لو قال له : أقلتك فردّ إليه الثّمن ، وتصحّ بالكتابة والإشارة من الأخرس .
شروط الإقالة :
7 - يشترط لصحّة الإقالة ما يلي :
أ - رضى المتقايلين : لأنّها رفع عقدٍ لازمٍ ، فلا بدّ من رضى الطّرفين .
ب - اتّحاد المجلس : لأنّ معنى البيع موجودٌ فيها ، فيشترط لها المجلس ، كما يشترط للبيع .
ج - أن يكون التّصرّف قابلاً للنّسخ كالبيع والإجارة ، فإن كان التّصرّف لا يقبل الفسخ كالنّكاح والطّلاق فلا تصحّ الإقالة .
د - بقاء المحلّ وقت الإقالة ، فإن كان هالكاً وقت الإقالة لم تصحّ ، فأمّا قيام الثّمن وقت الإقالة فليس بشرطٍ .
هـ - تقابض بدلي الصّرف في إقالة الصّرف ، وهذا على قول من يقول : إنّها بيعٌ ، لأنّ قبض البدلين إنّما وجب حقّاً للّه تعالى ، وهذا الحقّ لا يسقط بإسقاط العبد .
و - ألاّ يكون البيع بأكثر من ثمن المثل في بيع الوصيّ ، فإن كان لم تصحّ إقالته .
حقيقتها الشّرعيّة :
8 - للفقهاء في تكييف الإقالة اتّجاهاتٌ :
الأوّل : أنّها فسخٌ ينحلّ به العقد في حقّ العاقدين وغيرهما ، وهو قول الشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن . وجه هذا القول أنّ الإقالة في اللّغة عبارةٌ عن الرّفع ، يقال في الدّعاء : « اللّهمّ أقلني عثراتي »، أي ارفعها ، والأصل أنّ معنى التّصرّف شرعاً ما ينبئ عنه اللّفظ لغةً ، ورفع العقد فسخه ، ولأنّ البيع والإقالة اختلفا اسماً ، فتخالفا حكماً ، فإذا كانت رفعاً لا تكون بيعاً ، لأنّ البيع إثباتٌ والرّفع نفيٌ ، وبينهما تنافٍ ، فكانت الإقالة على هذا التّقدير فسخاً محضاً ، فتظهر في حقّ كافّة النّاس .
الثّاني : أنّها بيعٌ في حقّ العاقدين وغيرهما ، إلاّ إذا تعذّر جعلها بيعاً فإنّها تكون فسخاً ، وهذا قول أبي يوسف والإمام مالكٍ . ومن أمثلة ذلك أن تقع الإقالة في الطّعام قبل قبضه . وجه هذا القول أنّ معنى البيع هو مبادلة المال بالمال ، وهو أخذ بدلٍ وإعطاء بدلٍ ، وقد وجد ، فكانت الإقالة بيعاً لوجود معنى البيع فيها ، والعبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ والمباني .
الثّالث : أنّها فسخٌ في حقّ العاقدين بيعٌ في حقّ غيرهما ، وهو قول أبي حنيفة .
وجه هذا القول أنّ الإقالة تنبئ عن الفسخ والإزالة ، فلا تحتمل معنًى آخر نفياً للاشتراك ، والأصل العمل بحقيقة اللّفظ ، وإنّما جعل بيعاً في حقّ غير العاقدين ، لأنّ فيها نقل ملكٍ بإيجابٍ وقبولٍ بعوضٍ ماليٍّ ، فجعلت بيعاً في حقّ غير العاقدين محافظةً على حقّه من الإسقاط ، إذ لا يملك العاقدان إسقاط حقّ غيرهما .
آثار اختلاف الفقهاء في حقيقة الإقالة :
يترتّب على اختلاف الفقهاء في حقيقة الإقالة آثارٌ في التّطبيق في أحوالٍ كثيرةٍ منها ما يلي : أوّلاً - الإقالة بأقلّ أو أكثر من الثّمن :
9 - إذا تقايل المتبايعان ولم يسمّيا الثّمن الأوّل ، أو سمّيا زيادةً على الثّمن الأوّل ، أو سمّيا جنساً آخر سوى الجنس الأوّل ، قلّ أو كثر ، أو أجّلا الثّمن الأوّل ، فالإقالة على الثّمن الأوّل ، وتسمية الزّيادة والأجل والجنس الآخر باطلةٌ على القول بأنّ الإقالة فسخٌ ، سواءٌ أكانت الإقالة قبل القبض أو بعده ، وسواءٌ أكان المبيع منقولاً أم غير منقولٍ ، لأنّ الفسخ رفع العقد الأوّل ، والعقد وقع بالثّمن الأوّل ، فيكون فسخه بالثّمن الأوّل ، وحكم الفسخ لا يختلف بين ما قبل القبض وما بعده ، وبين المنقول وغير المنقول ، وتبطل تسمية الزّيادة والنّقصان والجنس الآخر والأجل ، وتبقى الإقالة صحيحةً ، لأنّ تسمية هذه الأشياء لا تؤثّر في الإقالة ، ولأنّ الإقالة رفع ما كان لا رفع ما لم يكن ، حيث إنّ رفع ما لم يكن ثابتاً محالٌ .
وتكون الإقالة أيضاً بمثل الثّمن الأوّل المسمّى ، لا بما يدفع بدلاً عنه ، حتّى لو كان عشرة دنانير فدفع إليه دراهم عوضاً عنها ، ثمّ تقايلا - وقد رخّصت الدّنانير - رجع بالدّنانير لا بما دفع ، لأنّه لمّا اعتبرت الإقالة فسخاً ، والفسخ يردّ على عين ما يردّ عليه العقد ، كان اشتراط خلاف الثّمن الأوّل باطلاً .
ثانياً - الشّفعة فيما يردّ بالإقالة :
10 - يقتضي القياس ألاّ يكون للشّفيع حقّ الشّفعة فيما ردّ بالإقالة إذا اعتبرت هذه الإقالة فسخاً مطلقاً ، وهذا قياسٌ على أصل محمّدٍ وزفر من الحنفيّة ، لأنّ الإقالة عند محمّدٍ فسخٌ ، إلاّ إذا لم يمكن جعلها فسخاً فتجعل بيعاً . وعن زفر : هي فسخٌ في حقّ النّاس كافّةً .
أمّا سائر الحنفيّة ، وكذلك بقيّة المذاهب الأخرى ، فإنّها تعطي الشّفيع حقّ الشّفعة فيما ردّ بالإقالة . فعلى اعتبار أنّها فسخٌ في حقّ العاقدين بيعٌ في حقٍّ ثالثٍ ، كما هو عند أبي حنيفة ، أو على اعتبار أنّها بيعٌ في حقّهما ، كما هو عند أبي يوسف ، فإنّ الشّفيع يأخذ بالشّفعة بعد تقايل البيع بين البائع والمشتري ، فمن اشترى داراً ولها شفيعٌ ، فسلّم الشّفعة ، ثمّ تقايلا البيع ، أو اشتراها ولم يكن بجنبها دارٌ ، ثمّ بنيت بجنبها دارٌ ، ثمّ تقايلا البيع ، فإنّ الشّفيع يأخذها بالشّفعة . وعلى أصل أبي حنيفة تكون الإقالة بيعاً في حقّ غير العاقدين ، والشّفيع غيرهما ، فتكون بيعاً في حقّه فيستحقّ . وعلى أصل أبي يوسف تعدّ الإقالة بيعاً جديداً في حقّ الكلّ ، ولا مانع من جعلها بيعاً في حقّ الشّفيع ، ولهذا الشّفيع الأخذ بالشّفعة ، إن شاء بالبيع الأوّل ، وإن شاء بالبيع الحاصل بالإقالة ، أو بمعنًى آخر من أيّهما شاء : من المشتري لأجل الشّراء ، أو من البائع لشرائه من المشتري بالإقالة ، حيث تكون الإقالة بيعاً من المشتري للبائع ، وحيث تكون فسخ بيعٍ فتؤخذ من المشتري فقط ، ولا يتمّ فسخه إلاّ إن رضي الشّفيع لأنّ الشّراء له .
إقالة الوكيل :
11 - من ملك البيع ملك الإقالة ، فصحّت إقالة الموكّل بيع وكيله ، وتصحّ إقالة الوكيل بالبيع إذا تمّت قبل قبض الثّمن . فإن أقال بعد قبضه يضمن الثّمن للموكّل ، إذ تعتبر الإقالة من الوكيل حينئذٍ شراءً لنفسه . وبإقالة الوكيل بالبيع يسقط الثّمن عن المشتري عند أبي حنيفة ومحمّدٍ ، ويلزم المبيع الوكيل . وعند أبي يوسف لا يسقط الثّمن عن المشتري أصلاً . وتجوز الإقالة من الوكيل بالسّلم في قول أبي حنيفة ومحمّدٍ كالإبراء ، خلافاً لأبي يوسف . والمراد بإقالة الوكيل بالسّلم : الوكيل بشراء السّلم ، بخلاف الوكيل بشراء العين .
وإقالة الوكيل بالشّراء لا تجوز بإجماع الحنفيّة بخلاف الوكيل بالبيع ، وعند مالكٍ لا تجوز إقالة الوكيل بالبيع مطلقاً .
واتّفق الشّافعيّة والحنابلة على صحّة التّوكيل في حقّ كلّ آدميٍّ من العقود والفسوخ . وعلى هذا فيصحّ التّوكيل بالإقالة عندهم ابتداءً ، سواءٌ أقلنا : إنّ الإقالة فسخٌ على المذهب عندهم جميعاً أم بيعٌ . هذا ، ولم يذكر الشّافعيّة والحنابلة من له حقّ الإقالة من غير المتعاقدين سوى الورثة على الصّحيح من المذهبين .
أمّا حكم الإقالة الصّادرة من الوكيل بالبيع والوكيل بالشّراء فلم يتطرّقوا له . والمتولّي على الوقف إذا اشترى شيئاً بأقلّ من قيمته فإنّ إقالته لا تصحّ .
محلّ الإقالة :
12 - محلّ الإقالة العقود اللاّزمة في حقّ الطّرفين ممّا يقبل الفسخ بالخيار ، لأنّ هذه العقود لا يمكن فسخها إلاّ باتّفاق الطّرفين المتعاقدين ، وعلى ذلك فإنّ الإقالة تصحّ في العقود الآتية : البيع - المضاربة - الشّركة - الإجارة - الرّهن ( بالنّسبة للرّاهن فهي موقوفةٌ على إجازة المرتهن أو قضاء الرّاهن دينه ) - السّلم - الصّلح .
وأمّا العقود الّتي لا تصحّ فيها الإقالة فهي العقود غير اللاّزمة ، كالإعارة والوصيّة والجعالة ، أو العقود اللاّزمة الّتي لا تقبل الفسخ بالخيار ، مثل الوقف والنّكاح حيث لا يجوز فسخ أحدهما بالخيار .
أثر الشّروط الفاسدة في الإقالة :
13 - إذا اعتبرنا الإقالة فسخاً ، فإنّها لا تبطل بالشّروط الفاسدة ، بل تكون هذه الشّروط لغواً ، وتصحّ الإقالة . ففي الإقالة في البيع ، إذا شرط أكثر ممّا دفع ، فالإقالة على الثّمن الأوّل ، لمتعذّر الفسخ على الزّيادة ، وتبطل الشّرط ، لأنّه يشبه الرّبا ، وفيه نفعٌ لأحد المتعاقدين مستحقٌّ بعقد المعاوضة خالٍ عن العوض .
وكذا إذا شرط أقلّ من الثّمن الأوّل ، لتعذّر الفسخ على الأقلّ ، لأنّ فسخ العقد عبارةٌ عن رفعه على الوصف الّذي كان قبله ، والفسخ على الأقلّ ليس كذلك ، لأنّ فيه رفع ما لم يكن ثابتاً وهو محالٌ . والنّقصان لم يكن ثابتاً فرفعه يكون محالاً ، إلاّ أن يحدث في المبيع عيبٌ فتجوز الإقالة بالأقلّ ، لأنّ الحطّ يجعل بإزاء ما فات من العيب .
وهذا على قياس قول أبي حنيفة ومحمّدٍ وغيرهما ممّن يرون الإقالة فسخاً ، وأمّا على قياس قول من قال : إنّ الإقالة بيعٌ ، فإنّها تبطل بالشّروط الفاسدة ، لأنّ البيع يبطل بالشّروط الفاسدة ، فإذا زاد كان قاصداً بهذا ابتداء البيع ، وإذا شرط الأقلّ فكذلك .
الإقالة في الصّرف :
14 - الإقالة في الصّرف كالإقالة في البيع ، أي يشترط فيها التّقابض من الجانبين قبل الافتراق كما في ابتداء عقد الصّرف .
فلو تقايلا الصّرف ، وتقابضا قبل الافتراق ، مضت الإقالة على الصّحّة . وإن افترقا قبل التّقابض بطلت الإقالة ، سواءٌ اعتبرت بيعاً أم فسخاً .
فعلى اعتبارها بيعاً كانت المصارفة مبتدأةً ، فلا بدّ من التّقابض يداً بيدٍ ، ما دامت الإقالة بيعاً مستقلاًّ يحلّها ما يحلّ البيوع ، ويحرّمها ما يحرّم البيوع ، فلا تصلح الإقالة إذ حصل الافتراق قبل القبض .وعلى اعتبارها فسخاً في حقّ المتعاقدين ، فهي بيعٌ جديدٌ في حقٍّ ثالثٍ ، واستحقاق القبض حقٌّ للشّرع ، وهو هنا ثالثٌ ، فيعتبر بيعاً جديداً في حقّ هذا الحكم فيشترط فيه التّقابض . وهلاك البدلين في الصّرف لا يعدّ مانعاً من الإقالة ، لأنّه في الصّرف لا يلزمه ردّ المقبوض بعد الإقالة ، بل ردّه أو ردّ مثله ، فلم تتعلّق الإقالة بعينهما ، فلا تبطل بهلاكهما .
إقالة الإقالة :
15 - إقالة الإقالة إلغاءٌ لها والعودة إلى أصل العقد ، وهي تصحّ في أحوالٍ معيّنةٍ ، فلو تقايلا البيع ، ثمّ تقايلا الإقالة ، ارتفعت الإقالة وعاد البيع . وقد استثنى العلماء من إقالة الإقالة إقالة المسلم قبل قبض المسلم فيه ، فإنّها لا تصحّ ، لأنّ المسلم فيه دينٌ وقد سقط بالإقالة الأولى ، فلو انفسخت لعاد المسلم فيه الّذي سقط ، والسّاقط لا يعود .
ما يبطل الإقالة :
16 - من الأحوال الّتي تبطل فيها الإقالة بعد وجودها ما يأتي :
أ - هلاك المبيع : فلو هلك المبيع بعد الإقالة وقبل التّسليم بطلت ، لأنّ من شرطها بقاء المبيع ، لأنّها رفع العقد وهو محلّه ، بخلاف هلاك الثّمن فإنّه لا يمنع الإقالة لكونه ليس بمحلّ العقد ، ولذا بطل البيع بهلاك البيع قبل القبض دون الثّمن .
وهذا إذا لم يكن الثّمن قيميّاً ، فإن كان قيميّاً فهلك بطلت الإقالة .
ولكن لا يردّ على اشترط قيام المبيع لصحّة الإقالة إقالة السّلم قبل قبض المسلم فيه ، لأنّها صحيحةٌ سواءٌ أكان رأس المال عيناً أم ديناً ، وسواءٌ أكان قائماً في يد المسلم إليه أم هالكاً . لأنّ المسلم فيه وإن كان ديناً حقيقةً فله حكم العين حتّى لا يجوز الاستبدال به قبل قبضه .
ب - تغيّر المبيع : كأن زاد المبيع زيادةً منفصلةً متولّدةً ، كما لو ولدت الدّابّة بعد الإقالة ، فإنّها تبطل بذلك ، وكذلك الزّيادة المتّصلة غير المتولّدة كصبغ الثّوب . وعند المالكيّة تبطل الإقالة بتغيّر ذات المبيع مهما كان . كتغيّر الدّابّة بالسّمن والهزال ، بخلاف الحنابلة .
اختلاف المتقايلين :
17 - قد يقع الاختلاف بين المتقايلين على صحّة البيع ، أو على كيفيّته ، أو على الثّمن ، أو على الإقالة من أساسها . فإنّهما إذا اتّفقا على صحّة البيع ، ثمّ اختلفا في كيفيّته تحالفا ، فيحلف كلٌّ على نفي قول صاحبه وإثبات قوله .
ويستثنى من التّحالف ما لو تقايلا العقد ثمّ اختلفا في قدر الثّمن فلا تحالف ، بل القول قول البائع لأنّه غارمٌ . ولو اختلف البائع والمشتري ، فقال المشتري : بعته من البائع بأقلّ من الثّمن الأوّل قبل نقده وفسد البيع بذلك ، وقال البائع : بل تقايلناه ، فالقول للمشتري مع يمينه في إنكاره الإقالة .
فإن كان البائع هو الّذي يدّعي أنّه اشتراه من المشتري بأقلّ ممّا باعه ، والمشتري يدّعي الإقالة يحلف كلٌّ على دعوى صاحبه .
نهاية الجزء الخامس/ الموسوعة الفقهية
إقامة *
التّعريف :
1 - الإقامة في اللّغة مصدر : أقام ، وأقام بالمكان : ثبت به ، وأقام الشّيء : ثبّته أو عدله ، وأقام الرّجل الشّرع : أظهره ، وأقام الصّلاة : أدام فعلها ، وأقام للصّلاة إقامةً : نادى لها . وتطلق الإقامة في الشّرع بمعنيين :
الأوّل : الثّبوت في المكان ، فيكون ضدّ السّفر .
الثّاني : إعلام الحاضرين المتأهّبين للصّلاة بالقيام إليها ، بألفاظٍ مخصوصةٍ وصفةٍ مخصوصةٍ .
أوّلاً : أحكام الإقامة الّتي بمعنى الثّبوت في المكان
أ - إقامة المسافر :
2 - يصبح المسافر مقيماً إذا دخل وطنه ، أو نوى الإقامة في مكان ما بالشّروط الّتي ذكرها الفقهاء ، وينقطع بذلك عنه حكم السّفر ، وتنطبق عليه أحكام المقيم ، كامتناع القصر في الصّلاة ، وعدم جواز الفطر في رمضان . وإقامة الآفاقيّ داخل المواقيت المكانيّة ، أو في الحرم تعطيه حكم المقيم داخل المواقيت أو داخل الحرم من حيث الإحرام ، وطواف الوداع ، والقدوم ، والقران ، والتّمتّع . وينظر تفصيلات ذلك في ( قران - تمتّع - حجّ - إحرام ) .
ب-إقامة المسلم في دار الحرب :
3 - إقامة المسلم في دار الحرب لا تقدح في إسلامه ، إلاّ أنّه إذا كان يخشى على دينه ، بحيث لا يمكنه إظهاره ، تجب عليه الهجرة إلى دار الإسلام ، لقول اللّه تعالى : « إنّ الّذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، قالوا : فيم كنتم ؟ قالوا : كنّا مستضعفين في الأرض . قالوا : ألم تكن أرض اللّه واسعةً فتهاجروا فيها » ، وهذا إذا كان يمكنه الهجرة ولم يكن به عجز ، لمرضٍ أو إكراهٍ على الإقامة .
أمّا إذا كان لا يخشى الفتنة ويتمكّن من إظهار دينه مع إقامته في دار الحرب ، فإنّه يستحبّ له الهجرة إلى دار الإسلام ، لتكثير المسلمين ومعونتهم ، ولا تجب عليه الهجرة .
وقد كان العبّاس عمّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مقيماً بمكّة مع إسلامه .
وللفقهاء تفصيلات كثيرة في ذلك : ( ر : جهاد - دار الحرب - دار الإسلام - هجرة ) .
ثانياً : الإقامة للصّلاة
الألفاظ ذات الصّلة بإقامة الصّلاة :
4 - هناك ألفاظ لها صلة بالإقامة للصّلاة منها :
أ - الأذان : يعرّف الأذان بأنّه : إعلام بدخول وقت الصّلاة بألفاظٍ معلومةٍ مأثورةٍ على صفةٍ مخصوصةٍ يحصل بها الإعلام .
فالأذان والإقامة يشتركان في أنّ كلّاً منهما إعلام ، ويفترقان من حيث إنّ الإعلام في الإقامة هو للحاضرين المتأهّبين لافتتاح الصّلاة ، والأذان للغائبين ليتأهّبوا للصّلاة ، كما أنّ صيغة الأذان قد تنقص أو تزيد عن الإقامة على خلافٍ بين المذاهب .
ب - التّثويب : التّثويب عود إلى الإعلام بعد الإعلام . وهو عند الفقهاء ، زيادة " الصّلاة خير من النّوم " .
حكم الإقامة التّكليفيّ :
5 - في حكم الإقامة التّكليفيّ رأيان :
الأوّل : أنّ الإقامة فرض كفايةٍ إذا قام به البعض سقط عن الآخرين ، وإذا ترك أثموا جميعاً . قال بهذا الحنابلة ، وهو رأي لبعض الشّافعيّة في الصّلوات الخمس ، ولبعضٍ آخر للجمعة فقط . وهو رأي عطاءٍ والأوزاعيّ ، حتّى روي عنهما أنّه إن نسي الإقامة أعاد الصّلاة ، وقال مجاهد : إن نسي الإقامة في السّفر أعاد ، ولعلّه لما في السّفر من الحاجة إلى إظهار الشّعائر . واستدلّ للقول بأنّها فرض كفايةٍ بكونها من شعائر الإسلام الظّاهرة ، وفي تركها تهاون ، فكانت فرض كفايةٍ مثل الجهاد .
الثّاني : أنّ الإقامة سنّة مؤكّدة ، وهو مذهب المالكيّة ، والرّاجح عند الشّافعيّة ، وهو الأصحّ عند الحنفيّة ، وقال محمّد بالوجوب ، ولكن المراد بالسّنّة هنا السّنن الّتي هي من شعائر الإسلام الظّاهرة ، فلا يسع المسلمين تركها ، ومن تركها فقد أساء ، لأنّ ترك السّنّة المتواترة يوجب الإساءة وإن لم يكن من شعائر الإسلام ، فهذا أولى ، وفسّر أبو حنيفة السّنّيّة بالوجوب ، حيث قال في التّاركين : أخطئوا السّنّة وخالفوا وأثموا ، والإثم إنّما يلزم بترك الواجب . واحتجّوا للسّنّيّة « بقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابيّ المسيء صلاته : افعل كذا وكذا» . ولم يذكر الأذان ولا الإقامة مع أنّه صلى الله عليه وسلم ذكر الوضوء واستقبال القبلة وأركان الصّلاة ولو كانت الإقامة واجبةً لذكرها .
تاريخ تشريع الإقامة وحكمتها :
6 - تاريخ تشريع الإقامة هو تاريخ تشريع الأذان ( ر : أذان ) .
أمّا حكمتها : فهي إعلاء اسم اللّه تعالى واسم رسوله صلى الله عليه وسلم وإقرار للفلاح والفوز عند كلّ صلاةٍ في اليوم أكثر من مرّةٍ ، لتركيز ذلك في نفس المسلم ، وإظهار لشعيرةٍ من أفضل الشّعائر .
كيفيّة الإقامة :
7 - اتّفقت المذاهب على أنّ ألفاظ الإقامة هي نفس ألفاظ الأذان في الجملة بزيادة : " قد قامت الصّلاة - بعد - حيّ على الفلاح " . وكذلك اتّفقوا على أنّ التّرتيب بين ألفاظها هو نفس ترتيب ألفاظ الأذان ، إلاّ أنّهم اختلفوا في تكرار وإفراد ألفاظها على الوجه الآتي :
اللّه أكبر . تقال في بدء الإقامة " مرّتين " عند المذاهب الثّلاثة ، وأربع مرّاتٍ عند الحنفيّة . أشهد أن لا إله إلاّ اللّه . تقال " مرّةً واحدةً " عند المذاهب الثّلاثة " ومرّتين " عند الحنفيّة . أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه . تقال " مرّةً واحدةً " عند المذاهب الثّلاثة " ومرّتين " عند الحنفيّة . حيّ على الصّلاة . تقال : « مرّةً واحدةً " عند المذاهب الثّلاثة " ومرّتين " عند الحنفيّة . حيّ على الفلاح . تقال : « مرّةً واحدةً " عند المذاهب الثّلاثة " ومرّتين " عند الحنفيّة . قد قامت الصّلاة . تقال " مرّتين " عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة " ومرّةً واحدةً " عند المالكيّة على المشهور .
اللّه أكبر . تقال " مرّتين " على المذاهب الأربعة .
لا إله إلاّ اللّه . تقال " مرّةً واحدةً " على المذاهب الأربعة . ويستخلص من ذلك أنّ المذاهب الثّلاثة تختلف عن الحنفيّة بإفراد أكثر ألفاظ الإقامة كما تقدّم . واحتجّوا بما روي عن أنسٍ قال : « أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة » . وبما روي عن ابن عمر قال : « إنّما كان الأذان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مرّتين مرّتين ، والإقامة مرّةً مرّةً » . أمّا الحنفيّة فيجعلون الإقامة مثل الأذان بزيادة " قد قامت الصّلاة " مرّتين بعد " حيّ على الفلاح " . واحتجّوا بحديث عبد اللّه بن زيدٍ الأنصاريّ ،« أنّه جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول اللّه : رأيت في المنام كأنّ رجلاً قام وعليه بردان أخضران ، فقام على حائطٍ فأذّن مثنى مثنى ، وأقام مثنى مثنى » ولما روي كذلك عن عبد اللّه بن زيدٍ « فاستقبل القبلة يعني الملك ، وقال : اللّه أكبر . اللّه أكبر .. إلى آخر الأذان . قال ثمّ أمهل هنيهةً ، ثمّ قام فقال مثلها ، ألا أنّه قال : زاد بعد ما قال : حيّ على الفلاح : قد قامت الصّلاة ، قد قامت الصّلاة » . وأمّا المالكيّة فيختلفون عن غيرهم في تثنية قد قامت الصّلاة ، فالمشهور عندهم أنّها تقال مرّةً واحدةً . لما روى أنس قال : « أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة » .
حدر الإقامة :
8 - الحدر هو الإسراع وقطع التّطويل .
وقد اتّفق الفقهاء على الحدر في الإقامة والتّرسّل في الأذان ، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا أذّنت فترسّل ، وإذا أقمت فاحدر » ، ولما روى أبو عبيدٍ بإسناده ، عن عمر رضي الله عنه أنّه قال لمؤذّن بيت المقدس : " إذا أذّنت فترسّل ، وإذا أقمت فاحذم "
قال الأصمعيّ : وأصل الحذم - بالحاء المهملة - في المشي إنّما هو الإسراع .
وقت الإقامة :
9 - شرعت الإقامة أهبةً للصّلاة بين يديها ، تفخيماً لها كغسل الإحرام ، وغسل الجمعة ، ثمّ لإعلام النّفس بالتّأهّب والقيام للصّلاة ، وإعلام الافتتاح . ولا يصحّ تقديمها على وقت الصّلاة ، بل يدخل وقتها بدخول وقت الصّلاة ، ويشترط لها شرطان ، الأوّل : دخول الوقت ، والثّاني : إرادة الدّخول في الصّلاة . فإن أقام قبيل الوقت بجزءٍ يسيرٍ بحيث دخل الوقت عقب الإقامة ، ثمّ شرع في الصّلاة عقب ذلك لم تحصل الإقامة ، وإن أقام في الوقت وأخّر الدّخول في الصّلاة بطلت إقامته إن طال الفصل ، لأنّها تراد للدّخول في الصّلاة فلا يجوز إطالة الفصل .
ما يشترط لإجزاء الإقامة :
10 - يشترط في الإقامة ما يأتي :
دخول الوقت ، ونيّة الإقامة ، والأداء باللّغة العربيّة ، والخلوّ من اللّحن المغيّر للمعنى ، ورفع الصّوت . ولكن رفع الصّوت بالإقامة يكون أخفّ من رفعه بالأذان ، لاختلاف المقصود في كلٍّ منهما . فالمقصود من الأذان : إعلام الغائبين بالصّلاة ، أمّا الإقامة فالمقصود منها طلب قيام الحاضرين فعلاً للصّلاة ، وقد تقدّم ذلك في وقت الإقامة .
وكذلك يشترط التّرتيب بين الكلمات والموالاة بين ألفاظ الإقامة .
وفي هذه الشّروط خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح " أذان " .
شرائط المقيم :
11 - تشترك الإقامة مع الأذان في هذه الشّرائط ونذكرها إجمالاً ، ومن أراد زيادة تفصيلٍ فليرجع إلى مصطلح ( أذان ) ، وأوّل هذه الشّروط .
أ - الإسلام : اتّفق الفقهاء على اشتراط الإسلام في المقيم ، فلا تصحّ الإقامة من الكافر ولا المرتدّ لأنّها عبادة ، وهما ليسا من أهلها .
ب - الذّكورة : اتّفق الفقهاء على عدم جواز أذان المرأة وإقامتها لجماعة الرّجال ، لأنّ الأذان في الأصل للإعلام ، ولا يشرع لها ذلك ، والأذان يشرع له رفع الصّوت ، ولا يشرع لها رفع الصّوت ، ومن لا يشرع في حقّه الأذان لا يشرع في حقّه الإقامة .
وأمّا إذا كانت منفردةً أو في جماعة النّساء ففيه اتّجاهات .
الأوّل : الاستحباب . وهو قول المالكيّة والشّافعيّة ، وهي رواية عند الحنابلة .
الثّاني : الإباحة . وهي رواية عن أحمد .
الثّالث : الكراهة . وهو قول الحنفيّة .
ج - العقل : نصّ فقهاء المذاهب على بطلان أذان وإقامة المجنون والمعتوه والسّكران ، وقالوا : يجب إعادة أذانهم ، ولم يخالف في هذا إلاّ بعض الحنفيّة في السّكران ، حيث قالوا بكراهة أذانه وإقامته واستحباب إعادتهما .
د - البلوغ : للعلماء في إقامة الصّبيّ ثلاثة آراء :
الأوّل : لا تصحّ إقامة الصّبيّ سواء أكان مميّزاً أم غير مميّزٍ ، وهو رأي عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
الثّاني : تصحّ إقامته إن كان مميّزاً عاقلاً ، وهو رأي آخر في تلك المذاهب .
الثّالث : الكراهة إذا كان مميّزاً ، وهو رأي للحنفيّة .
هـ- العدالة : في إقامة الفاسق ثلاثة أقوالٍ :
الأوّل : لا يعتدّ بها ، وهو رأي للحنفيّة ، ورأي للحنابلة .
الثّاني : الكراهة : وهو رأي للحنفيّة ، والشّافعيّة ، والمالكيّة .
الثّالث : يصحّ ويستحبّ إعادته . وهو رأي للحنفيّة والحنابلة .
وينظر تفصيل وتوجيه ذلك في ( الأذان ) .
و-الطّهارة : اتّفق الفقهاء على كراهة الإقامة مع الحدث الأصغر ، لأنّ السّنّة وصل الإقامة بالشّروع بالصّلاة ، واتّفقوا على سنّيّة الإعادة ما عدا الحنفيّة . وفي رأيٍ للحنفيّة أنّ إقامة المحدث حدثاً أصغر جائزة بغير كراهةٍ .
أمّا من الحدث الأكبر ففيه رأيان :
الأوّل : ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو إحدى الرّوايتين عند الحنابلة ، إلى كراهة إقامة المحدث حدثاً أكبر .
الثّاني : الرّواية الأخرى عند الحنابلة : بطلان الأذان مع الحدث الأكبر ، وهو قول عطاءٍ ومجاهد والأوزاعيّ وإسحاق .
ما يستحبّ في الإقامة :
12 - اتّفقت المذاهب على استحباب الحدر في الإقامة والتّرسّل في الأذان كما مرّ ( ف ) . وفي الوقف على آخر كلّ جملةٍ في الإقامة رأيان :
الأوّل : قال المالكيّة ، وهو رأي للحنفيّة ، الإقامة معربة إن وصل كلمةً بكلمةٍ . فإن وقف المقيم وقف عليها بالسّكون .
الثّاني : قال الحنابلة ، وهو رأي آخر للحنفيّة ، ورأي للمالكيّة : الإقامة على الجزم مثل الأذان ، لما روي عن النّخعيّ موقوفاً عليه ومرفوعاً إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « الأذان جزم ، والإقامة جزم ، والتّكبير جزم » . وفي التّكبيرتين الأوليين أقوال ، فالتّكبيرة الأولى فيها قولان :
الأوّل ، للحنفيّة والمالكيّة : فيها الوقف بالسّكون ، والفتح ، والضّمّ .
الثّاني ، رأي للمالكيّة : فيها السّكون ، أو الضّمّ . أمّا التّكبيرة الثّانية ففيها أيضاً قولان : الأوّل ، رأي للمالكيّة ، ورأي للحنفيّة : الجزم لا غير ، لما روي أنّ « الإقامة جزم » .
الثّاني : الإعراب وهو : الضّمّ ، وهو رأي آخر للمالكيّة ، ورأي للحنفيّة ، والجميع جائز ، ولكن الخلاف في الأفضل والمستحبّ .
13 - ومن مستحبّات الأذان والإقامة عند المذاهب : استقبال القبلة ، غير أنّهم استثنوا من ذلك الالتفات عند الحيعلتين " حيّ على الصّلاة ، حيّ على الفلاح " . وفي الالتفات عند الحيعلتين في الإقامة ثلاثة آراء .
الأوّل : يستحبّ الالتفات عند الحيعلتين .
الثّاني : يستحبّ إذا كان المكان متّسعاً ، ولا يستحبّ إذا كان المكان ضيّقاً ، أو الجماعة قليلةً . وهذان الرّأيان للحنفيّة والشّافعيّة .
الثّالث : لا يستحبّ أصلاً لأنّ الاستحباب في الأذان كان لإعلام الغائبين ، والإقامة لإعلام الحاضرين المنتظرين للصّلاة ، فلا يستحبّ تحويل الوجه ، وهذا الرّأي للحنابلة ، وهو رأي للحنفيّة ، ورأي للشّافعيّة . ويؤخذ من كلام المالكيّة جواز الالتفات في الحيعلتين . وفي رأيٍ آخر أنّ المستحبّ هو استقبال القبلة في الابتداء .
14 - ويستحبّ فيمن يقيم الصّلاة : أن يكون تقيّاً ، عالماً بالسّنّة ، وعالماً بأوقات الصّلاة ، وحسن الصّوت ، مرتفعه من غير تطريبٍ ولا غناءٍ ، وتفصيل ذلك في الأذان .
15 - واتّفق الفقهاء على أنّه يستحبّ لمقيم الصّلاة أن يقيم واقفاً . وتكره الإقامة قاعداً من غير عذرٍ . فإن كان بعذرٍ فلا بأس . قال الحسن العبديّ : « رأيت أبا زيدٍ صاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكانت رجله أصيبت في سبيل اللّه ، يؤذّن قاعداً »
ولما روي أنّ « الصّحابة كانوا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ فانتهوا إلى مضيقٍ ، وحضرت الصّلاة ، فمطرت السّماء من فوقهم ، والبلّة من أسفل فيهم ، فأذّن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته وأقام ، فتقدّم على راحلته ، فصلّى بهم يومئ إيماءً ، يجعل السّجود أخفض من الرّكوع » . كما تكره إقامة الماشي والرّاكب في السّفر وغيره من غير عذرٍ . لما روي أنّ بلالاً رضي الله عنه « أذّن وهو راكب ، ثمّ نزل وأقام على الأرض ». ولأنّه لو لم ينزل لوقع الفصل بين الإقامة والشّروع في الصّلاة بالنّزول وأنّه مكروه ، ولأنّه يدعو النّاس إلى القيام للصّلاة وهو غير متهيّئٍ لها .
ويرى الحنابلة أنّ إقامة الرّاكب في السّفر بدون عذرٍ جائزةً بدون كراهةٍ .
ما يكره في الإقامة
16 - يكره في الإقامة : ترك شيءٍ من مستحبّاتها الّتي سبقت الإشارة إليها ، وممّا يكره أيضاً : الكلام في الإقامة لغير ضرورةٍ إذا كان كثيراً ، أمّا إن كان الكلام في الإقامة لضرورةٍ مثل ما لو رأى أعمى يخاف وقوعه في بئرٍ ، أو حيّةً تدبّ إلى غافلٍ ، أو سيّارةً توشك أن تدهمه وجب عليه إنذاره ويبني على إقامته .
أمّا الكلام القليل لغير ضرورةٍ ففيه رأيان :
الأوّل : لا يكره بل يؤدّي إلى ترك الأفضل . قال بهذا الحنفيّة والشّافعيّة ، واستدلّوا لذلك بما ثبت في الصّحيح من « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تكلّم في الخطبة » فالأذان أولى . ألاّ يبطل ، وكذلك الإقامة ، ولأنّهما يصحّان مع الحدث ، وقاعداً ، وغير ذلك من وجوه التّخفيف .
الثّاني : يكره له ذلك ، ويبني على إقامته ، وبهذا قال الزّهريّ والمالكيّة والحنابلة ، لأنّ الإقامة حدر ، وهذا يخالف الوارد ، ويقطع بين كلماتها . واتّفق الفقهاء على أنّ التّمطيط والتّغنّي والتّطريب بزيادة حركةٍ أو حرفٍ أو مدٍّ أو غيرها في الأوائل والأواخر مكروه ، لمنافاة الخشوع والوقار . أمّا إذا تفاحش التّغنّي والتّطريب بحيث يخلّ بالمعنى فإنّه يحرم بدون خلافٍ في ذلك . لما روي أنّ رجلاً قال لابن عمر :« إنّي لأحبّك في اللّه . قال : وأنا أبغضك في اللّه ، إنّك تتغنّى في أذانك ». قال : حمّاد يعني التّطريب .
إقامة غير المؤذّن :
17 - قال الشّافعيّة والحنابلة : ينبغي أن يتولّى الإقامة من تولّى الأذان . واحتجّوا بما روي عن الحارث الصّدائيّ أنّه قال : « بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بلالاً إلى حاجةٍ له فأمرني أن أؤذّن فأذّنت ، فجاء بلال وأراد أن يقيم ، فنهاه عن ذلك وقال : إنّ أخا صداءٍ هو الّذي أذّن ، ومن أذّن فهو الّذي يقيم » ولأنّهما فعلان من الذّكر يتقدّمان الصّلاة ، فيسنّ أن يتولّاهما واحد كالخطبتين ، ووافقهم الحنفيّة على هذا الرّأي إذا كان المؤذّن يتأذّى من إقامة غيره ، لأنّ أذى المسلم مكروه .
وقال المالكيّة : لا بأس أن يؤذّن رجل ويقيم غيره ، لما رواه أبو داود في حديث عبد اللّه بن زيدٍ أنّه رأى الأذان في المنام فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : « ألقه على بلالٍ ، فألقاه عليه ، فأذّن بلال ، فقال عبد اللّه : أنا رأيته وأنا كنت أريده قال : أقم أنت » . ولأنّه يحصل المقصود منه ، فأشبه ما لو تولّاهما معاً ، ووافقهم على ذلك الحنفيّة إذا كان المؤذّن لا يتأذّى من إقامة غيره .
إعادة الإقامة في المسجد الواحد :
18 - لو صلّى في مسجدٍ بأذانٍ وإقامةٍ ، هل يكره أن يؤذّن ويقام فيه ثانياً ؟
في المسألة ثلاثة آراء :
الأوّل للحنفيّة ، وهو رأي للمالكيّة ، ورأي ضعيف للشّافعيّة : إذا صلّى في المسجد بأذانٍ وإقامةٍ كره لمن جاء بعدهم أن يؤذّن ويقيم ، وشرط الحنفيّة أن يكون من أذّن وصلّى أوّلاً هم أهل المسجد " أي أهل حيّه " فمن ، جاء بعدهم فأذان الجماعة وإقامتهم لهم أذان وإقامة . الثّاني في الرّأي الرّاجح للمالكيّة والشّافعيّة : يستحبّ أن يؤذّن ويقيم للجماعة الثّانية ، إلاّ أنّه لا يرفع صوته فوق ما يسمعون ، ووافقهم على ذلك الحنفيّة إذا كان المسجد على الطّريق ، وليس له أهل معلومون ، أو صلّى فيه غير أهله بأذانٍ وإقامةٍ ، فإنّه يجوز لأهله أن يؤذّنوا ويقيموا .
الثّالث للحنابلة : الخيار ، إن شاء أذّن وأقام ويخفي أذانه وإقامته ، وإن شاء صلّى من غير أذانٍ ولا إقامةٍ .
ما يقام له من الصّلوات :
19 - يقام للصّلوات الخمس المفروضة في حال الحضر والسّفر والانفراد والجماعة والجمعة . واتّفق الفقهاء على طلب الإقامة لكلٍّ من الصّلاتين المجموعتين ،
لأنّ « الرّسول صلى الله عليه وسلم جمع المغرب والعشاء بمزدلفة وأقام لكلّ صلاةٍ » . ولأنّهما صلاتان جمعهما وقت واحد ، وتصلّى كلّ صلاةٍ وحدها ، فاقتضى أن تكون لكلّ صلاةٍ إقامة .
واتّفق الفقهاء على طلب الإقامة للصّلوات الفوائت ، لما روي عن أبي سعيدٍ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « أنّه حين شغلهم الكفّار يوم الأحزاب عن أربع صلواتٍ أمر بلالاً أن يؤذّن ويقيم لكلّ واحدةٍ منهنّ ، حتّى قالوا : أذّن وأقام وصلّى الظّهر ، ثمّ أذّن وأقام وصلّى العصر ، ثمّ أذّن وأقام وصلّى المغرب ، ثمّ أذّن وأقام وصلّى العشاء » .
واتّفق الفقهاء على استحباب الإقامة للمنفرد ، سواء صلّى في بيته أو في مكان آخر غير المسجد ، لخبر عقبة بن عامرٍ ، قال : « سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : يعجب ربّك من راعي غنمٍ في رأس الشّظيّة للجبل يؤذّن ويقيم للصّلاة ويصلّي ، فيقول اللّه عزّ وجلّ : انظروا إلى عبدي هذا يؤذّن ويقيم الصّلاة يخاف منّي ، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنّة » .
ولكنّه إذا اقتصر على أذان الحيّ وإقامته أجزأه ، لما روي أنّ عبد اللّه بن مسعودٍ « صلّى بعلقمة والأسود بغير أذانٍ ولا إقامةٍ وقال : يكفينا أذان الحيّ وإقامتهم ».
الإقامة لصلاة المسافر :
20 - الأذان والإقامة للفرد والجماعة مشروعان في السّفر كما في الحضر ، سواء أكان السّفر سفر قصرٍ أو دونه .
الأذان للصّلاة المعادة :
21 - في الإقامة للصّلاة المعادة في وقتها للفساد رأيان :
الأوّل : للحنفيّة : تعاد الصّلاة الفاسدة في الوقت بغير أذانٍ ولا إقامةٍ ، وأمّا إن قضوها بعد الوقت قضوها في غير ذلك المسجد بأذانٍ وإقامةٍ .
الثّاني : للمالكيّة : يقام للصّلاة المعادة للبطلان أو الفساد ، ولم يعثر للشّافعيّة والحنابلة على تصريحٍ بذلك ، ولكن قواعدهم لا تأباه .
ما لا يقام له من الصّلوات :
22 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يسنّ الإقامة لغير الصّلوات الخمس والجمعة . فلا أذان ولا إقامة لصلاة الجنازة ولا للوتر ولا للنّوافل ولا لصلاة العيدين وصلاة الكسوف والخسوف والاستسقاء . لما روي عن « جابر بن سمرة قال : صلّيت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم العيد غير مرّةٍ ولا مرّتين بغير أذانٍ ولا إقامةٍ » .
وما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : « خسفت الشّمس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فبعث منادياً ينادي : الصّلاة جامعة » .
إجابة السّامع للمؤذّن والمقيم :
23 - نصّ الفقهاء على صيغة الإجابة باللّسان فقالوا : يقول السّامع مثل ما يقول المقيم ، إلاّ في الحيعلتين " حيّ على الصّلاة وحيّ على الفلاح" فإنّه يحوقل "لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه " . ويزيد عند إقامة الصّلاة " أقامها اللّه وأدامها " ، لما روى أبو داود بإسناده عن بعض أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّ بلالاً أخذ في الإقامة فلمّا أن قال : قد قامت الصّلاة ، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أقامها اللّه وأدامها » . وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر في الأذان الّذي رواه جعفر بن عاصمٍ عن أبيه عن عمر بن الخطّاب أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قال المؤذّن : اللّه أكبر اللّه أكبر ، فقال أحدكم : اللّه أكبر اللّه أكبر » وانظر مصطلح أذان .
وحكم الإجابة باللّسان أنّها سنّة عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وأمّا الحنفيّة فإنّ الإجابة عندهم تكون في الأذان دون الإقامة .
الفصل بين الأذان والإقامة :
24 - صرّح الفقهاء باستحباب الفصل بين الأذان والإقامة بصلاةٍ أو جلوسٍ أو وقتٍ يسع حضور المصلّين فيما سوى المغرب ، مع ملاحظة الوقت المستحبّ للصّلاة .
وتكره عندهم الإقامة للصّلاة بعد الأذان مباشرةً بدون هذا الفصل ، وذلك لما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « أنّه قال لبلالٍ : اجعل بين أذانك وإقامتك نفساً حتّى يقضي المتوضّئ حاجته في مهلٍ ، وحتّى يفرغ الآكل من أكل طعامه في مهلٍ »
وفي روايةٍ : « ليكن بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرغ الآكل من أكله ، والشّارب من شربه ، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته » .
ولأنّ المقصود بالأذان إعلام النّاس بدخول الوقت ليتهيّئوا للصّلاة بالطّهارة فيحضروا المسجد ، وبالوصل ينتفي هذا المقصود ، وتفوت صلاة الجماعة على كثيرٍ من المسلمين . وقد ورد عن بعض الفقهاء تحديد مقدار الفصل بين الأذان والإقامة ، فروى الحسن عن أبي حنيفة أنّ مقدار الفصل في الفجر قدر ما يقرأ عشرين آيةً ، وفي الظّهر قدر ما يصلّي أربع ركعاتٍ ، يقرأ في كلّ ركعةٍ نحواً من عشر آياتٍ ، وفي العصر مقدار ما يصلّي ركعتين ، يقرأ في كلّ ركعةٍ نحواً من عشر آياتٍ .
أمّا في المغرب : فقد اتّفق الفقهاء على تعجيل الإقامة فيها لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « بين كلّ أذانين صلاة لمن شاء إلاّ المغرب » لأنّ مبنى المغرب على التّعجيل ، ولما روى أبو أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لن تزال أمّتي بخيرٍ ما لم يؤخّروا المغرب إلى اشتباك النّجوم » وعلى هذا يسنّ أن يكون الفصل بين الأذان والإقامة فيها يسيراً .
وللعلماء في مقدار هذا الفصل اليسير أقوال :
أ - قال أبو حنيفة والمالكيّة : يفصل بين الأذان والإقامة في المغرب قائماً بمقدار ثلاث آياتٍ ، ولا يفصل بالصّلاة ، لأنّ الفصل بالصّلاة تأخير ، كما لا يفصل المقيم بالجلوس ، لأنّه تأخير للمغرب ، ولأنّه لم يفصل بالصّلاة فبغيرها أولى .
ب - وقال أبو يوسف ومحمّد : يفصل بجلسةٍ خفيفةٍ كالجلسة بين الخطبتين ، وهو الرّاجح عند الشّافعيّة والحنابلة ، ووجه قولهم أنّ الفصل مسنون ولا يمكن بالصّلاة ، فيفصل بالجلسة لإقامة السّنّة .
ج - وأجاز الحنابلة وبعض الشّافعيّة الفصل بركعتين بين الأذان والإقامة في المغرب ، أي أنّهما لا يكرهان ولا يستحبّان .
الأجرة على الإقامة مع الأذان :
25 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا وجد من يؤذّن ويقيم محتسباً - ممّن تتحقّق فيه شرائط المؤذّن - فلا يجوز استئجار أحدٍ للأذان والإقامة . وأمّا إذا لم يوجد المتطوّع أو وجد ولم تتحقّق فيه الشّروط فهل يستأجر على الأذان والإقامة ؟
في المسألة ثلاثة آراء :
الأوّل : المنع لأنّه طاعة ، ولا يجوز استئجار أحدٍ على الطّاعة لأنّه عامل لنفسه ، ولما روي أنّ « آخر ما عهد به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعثمان بن العاص رضي الله عنه أن يصلّي بالنّاس صلاة أضعفهم ، وأن يتّخذ مؤذّناً لا يأخذ عليه أجراً » وهذا الرّأي لمتقدّمي الحنفيّة ، وهو رأي للمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
الثّاني : الجواز لأنّه كسائر الأعمال ، وهو قول لمتأخّري الحنفيّة ، ورأي للمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ووجه ذلك : أنّ بالمسلمين حاجةً إليه ، وقد لا يوجد متطوّع . ولأنّه إذا انقطع له قد لا يجد ما يقيت به عياله .
الثّالث ، وهو رأي للشّافعيّة : يجوز للإمام أن يستأجر دون آحاد النّاس لأنّه هو الّذي يتولّى مصالح المسلمين . ويجوز له الإعطاء من بيت المال .
هذا ، وقد صرّح الشّافعيّة بأنّه لا يجوز الاستئجار على الإقامة فقط بدون الأذان لأنّه عمل قليل . والتّفصيل في مصطلح ( أذان ، وإجارة ) .
الإقامة لغير الصّلاة :
26 - يستحبّ الأذان في أذن المولود اليمنى والإقامة في اليسرى ، لما روي عن أبي رافعٍ قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أذّن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة بالصّلاة » . وينظر مصطلح ( أذان ) فقرة 51 ( ج 2 ص 372 ) .
اقتباس *
التّعريف :
1 - الاقتباس في اللّغة : هو طلب القبس ، وهو الشّعلة من النّار ، ويستعار لطلب العلم ، قال الجوهريّ في الصّحاح : اقتبست منه علماً : أي استفدته .
وفي الاصطلاح : تضمين المتكلّم كلامه - شعراً كان أو نثراً - شيئاً من القرآن أو الحديث ، على وجهٍ لا يكون فيه إشعار بأنّه من القرآن أو الحديث .
أنواعه :
2 - الاقتباس على نوعين : أحدهما : ما لم ينقل فيه المقتبس ( بفتح الباء ) عن معناه الأصليّ ، ومنه قول الشّاعر :
قد كان ما خفت أن يكونا إنّا إلى اللّه راجعونا
وهذا من الاقتباس الّذي فيه تغيير يسير ، لأنّ الآية { إنّا إليه راجعون } .
والثّاني : ما نقل فيه المقتبس عن معناه الأصليّ كقول ابن الرّوميّ :
لئن أخطأت في مدحك ما أخطأت في منعي
لقد أنزلت حاجاتي ( بوادٍ غير ذي زرعٍ )
فقوله { بوادٍ غير ذي زرعٍ } اقتباس من القرآن الكريم ، فهي وردت في القرآن الكريم بمعنى " مكّة المكرّمة " ، إذ لا ماء فيها ولا نبات ، فنقله الشّاعر عن هذا المعنى الحقيقيّ إلى معنًى مجازيٍّ هو : " لا نفع فيه ولا خير " .
حكمه التّكليفيّ :
3 - يرى جمهور الفقهاء جواز الاقتباس في الجملة إذا كان لمقاصد لا تخرج عن المقاصد الشّرعيّة تحسيناً للكلام ، أمّا إن كان كلاماً فاسداً فلا يجوز الاقتباس فيه من القرآن ، وذلك ككلام المبتدعة وأهل المجون والفحش .
قال السّيوطيّ : لم يتعرّض له المتقدّمون ولا أكثر المتأخّرين ، من الشّافعيّة مع شيوع الاقتباس في أعصارهم واستعمال الشّعراء له قديماً وحديثاً ، وقد تعرّض له جماعة من المتأخّرين ، فسئل عنه الشّيخ العزّ بن عبد السّلام فأجازه ، واستدلّ له بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله في الصّلاة وغيرها : « وجّهت وجهي ... » إلخ . وقوله : « اللّهمّ فالق الإصباح وجاعل اللّيل سكناً والشّمس والقمر حسباناً اقض عنّي الدّين وأغنني من الفقر » . وفي سياق الكلام لأبي بكرٍ ... { وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون } .
وفي حديثٍ لابن عمر ... { لقد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنة } .
وقد اشتهر عند المالكيّة تحريمه وتشديد النّكير على فاعله ، لكن منهم من فرّق بين الشّعر فكره الاقتباس فيه ، وبين النّثر فأجازه . وممّن استعمله في النّثر من المالكيّة القاضي عياض وابن دقيق العيد وقد استعمله فقهاء الحنفيّة في كتبهم الفقهيّة .
4 - ونقل السّيوطيّ عن شرح بديعيّة ابن حجّة أن الاقتباس ثلاثة أقسامٍ :
الأوّل : مقبول ، وهو ما كان في الخطب والمواعظ والعهود .
والثّاني : مباح ، وهو ما كان في الغزل والرّسائل والقصص .
والثّالث : مردود ، وهو على ضربين .
أحدهما : اقتباس ما نسبه اللّه إلى نفسه ، بأن ينسبه المقتبس إلى نفسه ، كما قيل عمّن وقع على شكوى بقوله : { إنّ إلينا إيابهم ، ثمّ إنّ علينا حسابهم } .
والآخر : تضمين آيةٍ في معنى هزلٍ أو مجونٍ . قال السّيوطيّ : وهذا التّقسيم حسن جدّاً ، وبه أقول .
اقتداء *
التّعريف :
1 - الاقتداء لغةً : مصدر اقتدى به ، إذا فعل مثل فعله تأسّياً ، ويقال : فلان قدوة : أي يقتدى به ، ويتأسّى بأفعاله .
ويستعمله الفقهاء بالمعنى اللّغويّ ، وهو إذا كان في الصّلاة يعرّفونه بأنّه : اتّباع المؤتمّ الإمام في أفعال الصّلاة . أو هو ربط صلاة المؤتمّ بالإمام بشروطٍ خاصّةٍ جاء بها الشّرع ، وبيّنها الفقهاء في كتاب الصّلاة عند الكلام عن صلاة الجماعة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الائتمام :
2 - الائتمام : بمعنى الاقتداء . يقول ابن عابدين : إذا ربط صلاته بصلاة إمامه حصل له صفة الاقتداء والائتمام ، وحصل لإمامه صفة الإمامة .
والاقتداء في استعمال الفقهاء أعمّ من الائتمام ، لأنّه يكون في الصّلاة وغيرها .
ب - الاتّباع :
3 - من معاني الاتّباع في اللّغة : المشي خلف الغير ، ومنه اتّباع الجنائز ، والمطالبة بالحقّ كما في الآية { فمن عفي له من أخيه شيء فاتّباع بالمعروف } ويأتي بمعنى الائتمام ، يقال : اتّبع القرآن : ائتمّ به وعمل بما فيه .
واستعمله الفقهاء بهذه المعاني ، كما استعملوه بمعنى الرّجوع إلى قولٍ ثبتت عليه حجّة ، فهو بهذا المعنى أخصّ من الاقتداء .
ج - التّأسّي :
4 - التّأسّي في اللّغة : من الأسوة بمعنى القدوة ، يقال : تأسّيت به وائتسيت : أي اقتديت . فالتّأسّي بمعنى الاقتداء . ومن معاني التّأسّي : التّعزّي ، أي : التّصبّر . وأكثر ما يكون الاقتداء في الصّلاة ، أمّا التّأسّي فيستعمل في غير ذلك .
د - التّقليد :
5 - التّقليد عبارة عن : قبول قول الغير بلا حجّةٍ ولا دليلٍ .
أقسام الاقتداء :
6 - الاقتداء على أقسامٍ ، منها : اقتداء المؤتمّ بالإمام في أفعاله من القيام والرّكوع والسّجود وغيرها . ومنها : الاقتداء في غير الصّلاة ، فهو بمعنى التّأسّي ، كاقتداء الأمّة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله ، واتّباع سنّته ، وغير ذلك كما سيأتي .
الاقتداء في الصّلاة
7 - الاقتداء في الصّلاة هو : ربط صلاة المؤتمّ بصلاة الإمام كما سبق ، فلا بدّ أن يكون هناك إمام ومقتدٍ ، ولو واحداً . وأقلّ من تنعقد به الجماعة - في غير العيدين والجمعة - اثنان ، وهو أن يكون مع الإمام واحد ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الاثنان فما فوقهما جماعة » ولفعله عليه الصلاة والسلام حين « صلّى بابن عبّاسٍ وحده » .
وسواء كان ذلك الواحد رجلاً أو امرأةً أو صبيّاً يعقل ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمّى الاثنين مطلقاً جماعةً . وأمّا المجنون والصّبيّ الّذي لا يعقل فلا عبرة بهما ، لأنّهما ليسا من أهل الصّلاة . هذا ، وهناك شروط لا بدّ من توفّرها في الاقتداء والمقتدى به ( الإمام ) ، وحالات تخصّ المقتدي أي ( المأموم ) نذكرها فيما يلي :
شروط المقتدى به ( الإمام ) :
8 - يشترط في الإمام في الجملة : الإسلام والعقل اتّفاقاً ، والبلوغ عند الجمهور ، وكذلك الذّكورة إذا كان المقتدون ذكوراً ، والسّلامة من الأعذار - كرعافٍ وسلس البول - إذا اقتدى به أصحّاء ، والسّلامة من عاهات اللّسان - كفأفأةٍ وتمتمةٍ - إذا اقتدى به السّليم منهما ، وكذا السّلامة من فقد شرطٍ كطهارةٍ وستر عورةٍ .
على تفصيلٍ وخلافٍ في بعضها يذكر في مصطلح : ( إمامة ) .
شروط الاقتداء :
أ - النّيّة :
9 - اتّفق الفقهاء على أنّ نيّة المؤتمّ الاقتداء بالإمام شرط لصحّة الاقتداء ، إذ المتابعة عمل يفتقر إلى النّيّة . والمعتبر في النّيّة عمل القلب اللّازم للإرادة ، ويستحبّ التّلفّظ بها عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو قول للحنابلة قياساً على الحجّ . وذكر جماعة إلى أنّ التّلفّظ بها بدعة ، لأنّه لم يرد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من الصّحابة والتّابعين . ويشترط في النّيّة أن تكون مقارنةً للتّحريمة ، أو متقدّمةً عليها بشرط ألاّ يفصل بينها وبين التّحريمة فاصل أجنبيّ ، وعلى ذلك فلا تصحّ نيّة الاقتداء في خلال الصّلاة بعدما أحرم منفرداً عند جمهور الفقهاء : ( الحنفيّة ، والمالكيّة ، وهو رواية عند الحنابلة )
وقال الشّافعيّة ، وهو رواية عند الحنابلة : يجوز للّذي أحرم منفرداً أن يجعل نفسه مأموماً ، بأن تحضر جماعة فينوي الدّخول معهم بقلبه في صلاتهم ، سواء أكان في أوّل الصّلاة أم قد صلّى ركعةً فأكثر . ولا فرق في اشتراط النّيّة للمأموم بين الجمعة وسائر الصّلوات عند المالكيّة ، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة .
وعند الحنفيّة ، وهو مقابل الصّحيح عند الشّافعيّة : لا يشترط في الجمعة نيّة الاقتداء وكذلك العيدان ، لأنّ الجمعة لا تصحّ بدون الجماعة ، فكان التّصريح بنيّة الجمعة أو العيد مغنياً عن التّصريح بنيّة الجماعة . ولا يجب تعيين الإمام باسمه كزيدٍ ، أو صفته كالحاضر ، أو الإشارة إليه ، بل تكفي نيّة الاقتداء بالإمام ، فإن عيّنه وأخطأ بطلت صلاته ، لربط صلاته بمن لم ينو الاقتداء به .
هذا ، ولا يشترط لصحّة الاقتداء أن يكون الإمام قد نوى الإمامة عند جمهور الفقهاء خلافاً للحنابلة . واشترط الحنفيّة نيّة الرّجل الإمامة لصحّة اقتداء النّساء به .
وتفصيله في مصطلح ( إمامة )
ب - عدم التّقدّم على الإمام :
10 - يشترط لصحّة الاقتداء ألاّ يتقدّم المقتدي إمامه في الموقف عند جمهور الفقهاء : ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) لحديث : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به » والائتمام الاتّباع ، والمتقدّم غير تابعٍ ، ولأنّه إذا تقدّم الإمام يشتبه عليه حال الإمام ، ومحتاج إلى النّظر وراءه في كلّ وقتٍ ليتابعه ، فلا يمكنه المتابعة .
وقال مالك : هذا ليس بشرطٍ ، ويجزئه التّقدّم إذا أمكنه متابعة الإمام ، لأنّ الاقتداء يوجب المتابعة في الصّلاة ، والمكان ليس من الصّلاة . لكنّه يندب أن يكون الإمام متقدّماً على المأموم ، ويكره التّقدّم على الإمام ومحاذاته إلاّ لضرورةٍ .
والاعتبار في التّقدّم وعدمه للقائم بالعقب ، وهو مؤخر القدم لا الكعب ، فلو تساويا في العقب وتقدّمت أصابع المأموم لطول قدمه لم يضرّ . وكذلك إذا كان المأموم طويلاً وسجد قدّام الإمام ، إذا لم تكن عقبه مقدّمةً على الإمام حالة القيام ، صحّت الصّلاة ، أمّا لو تقدّمت عقبه وتأخّرت أصابعه فيضرّ ، لأنّه يستلزم تقدّم المنكب ، والعبرة في التّقدّم بالألية للقاعدين ، وبالجنب للمضطجعين .
11 - فإذا كان المأموم امرأةً أو أكثر من واحدٍ يقف خلف الإمام ، وإذا كان واحداً ذكراً - ولو صبيّاً - يقف على يمين الإمام مساوياً له عند الجمهور ، وذهب الشّافعيّة ومحمّد بن الحسن إلى أنّه يستحبّ تأخّره عن الإمام قليلاً .
وصرّح الحنفيّة بأنّ محاذاة المرأة للرّجال تفسد صلاتهم . يقول الزّيلعيّ الحنفيّ : فإن حاذته امرأة مشتهاة في صلاةٍ مطلقةٍ - وهي الّتي لها ركوع وسجود - مشتركةٍ بينهما تحريمةً وأداءً في مكان واحدٍ بلا حائلٍ ، ونوى الإمام إمامتها وقت الشّروع بطلت صلاته دون صلاتها ، لحديث : « أخّروهنّ من حيث أخّرهنّ اللّه » وهو المخاطب به دونها ، فيكون هو التّارك لفرض القيام ، فتفسد صلاته دون صلاتها .
وجمهور الفقهاء : ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) يقولون : إنّ محاذاة المرأة للرّجال لا تفسد الصّلاة ، ولكنّها تكره ، فلو وقفت في صفّ الرّجال لم تبطل صلاة من يليها ولا من خلفها ولا من أمامها ، ولا صلاتها ، كما لو وقفت في غير الصّلاة ، والأمر في الحديث بالتّأخير لا يقتضي الفساد مع عدمه .
هذا ، وفي الصّلاة حول الكعبة في المسجد الحرام يشترط لصحّة الاقتداء عند الجمهور عدم تقدّم المأموم على الإمام في نفس الجهة ، حتّى إذا تقدّمه في غير جهتهما لم يضرّ اتّفاقاً . وتفصيل هذه المسألة وكيفيّة الصّلاة داخل الكعبة يرجع فيه إلى مصطلحي : ( صلاة الجماعة ، واستقبال القبلة ) .
ت - ألاّ يكون المقتدي أقوى حالاً من الإمام :
12 - يشترط لصحّة الاقتداء عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ) ألاّ يكون المقتدي أقوى حالاً من الإمام ، فلا يجوز اقتداء قارئٍ بأمّيٍّ ، ولا مفترضٍ بمتنفّلٍ ، ولا بالغٍ بصبيٍّ في فرضٍ ، ولا قادرٍ على ركوعٍ وسجودٍ بعاجزٍ عنهما ، وكذلك لا يصحّ اقتداء سالمٍ بمعذورٍ ، كمن به سلس بولٍ ، ولا مستور عورةٍ بعارٍ عند الحنفيّة والحنابلة ، ويكره ذلك عند المالكيّة .
وقد ذكر الحنفيّة في ذلك قاعدةً فقالوا : الأصل أنّ حال الإمام إن كان مثل حال المقتدي أو فوقه جازت صلاة الكلّ ، وإن كان دون حال المقتدي صحّت صلاة الإمام . ولا تصحّ صلاة المقتدي . إلاّ إذا كان الإمام أمّيّاً والمقتدي قارئاً ، أو كان الإمام أخرس فلا يصحّ صلاة الإمام أيضاً . وقد توسّع الحنفيّة في تطبيق هذا الأصل على كثيرٍ من المسائل ، ووافقهم المالكيّة والحنابلة في هذه القاعدة مع خلافٍ وتفصيلٍ في بعض المسائل . وخالفهم الشّافعيّة في أكثر المسائل كما سيأتي بيانه عند الكلام في : ( اختلاف صفة الإمام والمقتدي ) .
ث - اتّحاد صلاتي المقتدي والإمام :
13 - يشترط في الاقتداء اتّحاد صلاتي الإمام والمأموم سبباً وفعلاً ووصفاً ، لأنّ الاقتداء بناء التّحريمة على التّحريمة ، فالمقتدي عقد تحريمته لمّا انعقدت له تحريمة الإمام ، فكلّ ما تنعقد له تحريمة الإمام جاز البناء عليه من المقتدي ، وعلى ذلك فلا تصحّ ظهر خلف عصرٍ أو غيره ولا عكسه ، ولا تصحّ صلاة ظهرٍ قضاءً خلف ظهرٍ أداءً ، ولا ظهرين من يومين مختلفين ، كظهر يوم السّبت خلف ظهر الأحد الماضيين ، إذ لا بدّ من الاتّحاد في عين الصّلاة وصفتها وزمنها ، وهذا عند جمهور الفقهاء : ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ) وذلك لقوله عليه السلام : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به فلا تختلفوا عليه » .
وقال الشّافعيّة : من شروط صحّة القدوة توافق نظم صلاتيهما في الأفعال الظّاهرة ، ولا يشترط اتّحاد الصّلاتين . وعلى ذلك تصحّ قدوة من يؤدّي الصّلاة بمن يقضيها ، والمفترض بالمتنفّل ، ومؤدّي الظّهر بالعصر ، وبالمعكوس . أي القاضي بالمؤدّي ، والمتنفّل بالمفترض ، وفي العصر بالظّهر ، نظراً لاتّفاق الفعل في الصّلاة وإن اختلفت النّيّة . وكذا يجوز الظّهر والعصر بالصّبح والمغرب ، وتجوز الصّبح خلف الظّهر في الأظهر عند الشّافعيّة ، وله حينئذٍ الخروج بنيّة المفارقة أو الانتظار ليسلّم مع الإمام وهو الأفضل . لكن الأولى فيها الانفراد . فإن اختلف فعلهما كمكتوبةٍ وكسوفٍ أو جنازةٍ ، لم يصحّ الاقتداء في ذلك على الصّحيح ، لمخالفته النّظم ، وتعذّر المتابعة معها .
أمّا اقتداء المتنفّل خلف المفترض فجائز عند جميع الفقهاء .
ج- عدم الفصل بين المقتدي والإمام :
14- يشترط لصحّة الاقتداء ألاّ يكون بين المقتدي والإمام فاصل كبير .
وهذا الشّرط محلّ اتّفاقٍ بين فقهاء المذاهب في الجملة ، وإن اختلفوا في بعض الفروع والتّفاصيل على النّحو التّالي :
بُعْد المسافة :
15 - فرّق جمهور الفقهاء بين المسجد وغير المسجد فيما يتعلّق بالمسافة بين الإمام والمقتدي ، فقال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : إذا كان المأموم يرى الإمام أو من وراءه ، أو يسمع التّكبير وهما في مسجدٍ واحدٍ صحّ الاقتداء ، وإن بعدت المسافة . أمّا في خارج المسجد فإذا كانت المسافة قدر ما يسع صفّين فإنّها تمنع من صحّة الاقتداء عند الحنفيّة ، إلاّ في صلاة العيدين ، وفي صلاة الجنازة خلاف عندهم . ولا يمنع الاقتداء بعد المسافة في خارج المسجد إذا لم يزد عن ثلاثمائة ذراعٍ عند الشّافعيّة . واشترط الحنابلة في صحّة الاقتداء خارج المسجد رؤية المأموم للإمام أو بعض من وراءه . فلا يصحّ الاقتداء إن لم ير المأموم أحدهما ، وإن سمع التّكبير ، ومهما كانت المسافة .
ولم يفرّق المالكيّة بين المسجد وغيره ولا بين قرب المسافة وبعدها ، فقالوا بصحّة الاقتداء إذا أمكن رؤية الإمام أو المأموم أو سماع الإمام ولو بمسمّعٍ .
وجود الحائل ، وله عدّة صورٍ :
16 - الأولى : إن كان بين المقتدي والإمام نهر كبير تجري فيه السّفن ( ولو زورقاً عند الحنفيّة ) لا يصحّ الاقتداء ، وهذا باتّفاق المذاهب ، وإن اختلفوا في تحديد النّهر الكبير والصّغير . فقال الحنفيّة والحنابلة : النّهر الصّغير هو ما لا تجري فيه السّفن ، وقال المالكيّة : هو ما لا يمنع من سماع الإمام ، أو بعض المأمومين ، أو رؤية فعل أحدهما .
وقال الشّافعيّة : هو النّهر الّذي يمكن العبور من أحد طرفيه إلى الآخر من غير سباحةٍ بالوثوب فوقه ، أو المشي فيه ، وفي حكمه النّهر المحوج إلى سباحةٍ عند الشّافعيّة على الصّحيح .
17 - الثّانية : يمنع من الاقتداء طريق نافذ يمكن أن تجري فيه عجلة ، وليس فيه صفوف متّصلة عند الحنفيّة والحنابلة . قال الحنفيّة : لو كان على الطّريق مأموم واحد لا يثبت به الاتّصال ، وبالثّلاث يثبت ، وفي المثنّى خلاف . ولا يضرّ الطّريق إذا لم يمنع من سماع الإمام أو بعض المأمومين أو رؤية فعل أحدهما عند المالكيّة ، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ، ولهذا صرّحوا بجواز صلاة الجماعة لأهل الأسواق وإن فرّقت الطّرق بينهم وبين إمامهم . والرّواية الثّانية عند الشّافعيّة يضرّ ، لأنّه قد تكثر فيه الزّحمة فيعسر الاطّلاع على أحوال الإمام . هذا ، وأجاز أكثر الفقهاء الفصل بطريقٍ في صلاة الجمعة والعيدين وصلاة الخوف ونحوها ، والتّفصيل في مواضعها .
18 - الثّالثة : صرّح الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عن الحنابلة ، بأنّه إذا كان بين الإمام والمأموم جدار كبير أو باب مغلق يمنع المقتدي من الوصول إلى إمامه لو قصد الوصول إليه لا يصحّ الاقتداء ، ويصحّ إذا كان صغيراً لا يمنع ، أو كبيراً وله ثقب لا يشتبه عليه حال الإمام سماعاً أو رؤيةً ، لما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « كان يصلّي في حجرة عائشة رضي الله عنها والنّاس في المسجد يصلّون بصلاته » .
قال الشّافعيّة : فإن حال ما يمنع المرور لا الرّؤية كالشّبّاك أو يمنع الرّؤية لا المرور كالباب المردود فوجهان .
وعلى هذا الاقتداء في المساكن المتّصلة بالمسجد الحرام وأبوابها من خارجه صحيح ، إذا لم يشتبه حال الإمام لسماعٍ أو رؤيةٍ ، ولم يتخلّل إلاّ الجدار ، كما ذكره شمس الأئمّة فيمن صلّى على سطح بيته المتّصل بالمسجد أو في منزله بجنب المسجد وبينه وبين المسجد حائط مقتدياً بإمامٍ في المسجد وهو يسمع التّكبير من الإمام أو من المكبّر تجوز صلاته . ويصحّ اقتداء الواقف على السّطح بمن هو في البيت ، ولا يخفى عليه حاله .
ولم يفرّق المالكيّة ، وهو رواية عند الحنابلة بين ما إذا كان الجدار كبيراً أو صغيراً ، فقالوا بجواز الاقتداء إذا لم يمنع من سماع الإمام أو بعض المأمومين أو رؤية فعل أحدهما .
ح - اتّحاد المكان :
19 - يشترط لصحّة الاقتداء أن يجمع المقتدي والإمام موقف واحد ، إذ من مقاصد الاقتداء اجتماع جمعٍ في مكان ، كما عهد عليه الجماعات في الأعصر الخالية ، ومبنى العبادات على رعاية الاتّباع فيشترط ليظهر الشّعار . وللفقهاء في تطبيق هذا الشّرط تفصيل ، وفي بعض الفروع خلاف كالآتي :
أوّلاً - الأبنية المختلفة :
20 - تقدّم ما يتعلّق بالأبنية المنفصلة .
ثانياً - الاقتداء في السّفن المختلفة :
21 - يشترط في الاقتداء ألاّ يكون المقتدي في سفينةٍ والإمام في سفينةٍ أخرى غير مقترنةٍ بها عند الحنفيّة ، وهو المختار عند الحنابلة ، لاختلاف المكان ، ولو اقترنتا صحّ اتّفاقاً ، للاتّحاد الحكميّ . والمراد بالاقتران : مماسّة السّفينتين ، وقيل ربطهما .
وتوسّع المالكيّة في جواز اقتداء ذوي سفنٍ متقاربةٍ ، ولم يشترطوا ربط السّفينتين ، ولا المماسّة ، ولم يحدّدوا المسافة حيث قالوا : جاز اقتداء ذوي سفنٍ متقاربةٍ في المرسى بإمامٍ واحدٍ في بعضها يسمعون أقواله أو أقوال من معه في سفينته من مأمومين ، أو يرون أفعاله أو أفعال من معه في سفينته من مأمومين . وكذلك لو كانت السّفن سائرةً على المشهور ، لأنّ الأصل السّلامة من طروء ما يفرّقها من ريحٍ أو غيره . لكنّهم نصّوا على استحباب أن يكون الإمام في السّفينة الّتي تلي القبلة .
وقال الشّافعيّة : لو كانا في سفينتين صحّ اقتداء أحدهما بالآخر وإن لم تكونا مكشوفتين ، ولم تربط إحداهما بالأخرى ، بشرط ألاّ تزيد المسافة على ثلاثمائة ذراعٍ ، وعدم الحائل ، والماء بينهما كالنّهر بين المكانين ، بمعنى أنّه يمكن اجتيازه سباحةً ولم يشترطوا الالتصاق ولا الرّبط ، خلافاً للحنفيّة ، والمختار عند الحنابلة .
ثالثاً : علوّ موقف المقتدي على الإمام أو عكسه :
22 - يجوز أن يكون موقف المأموم عالياً - ولو بسطحٍ - عن الإمام عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو رأي المالكيّة في غير صلاة الجمعة . فصحّ اقتداء من بسطح المسجد بالإمام الّذي يصلّي بالمسجد ، لإمكان المتابعة .
ويكره أن يكون موقف الإمام عالياً عن موقف المأموم .
ولم يفرّق الشّافعيّة بين ارتفاع موقف الإمام والمأموم ، فشرطوا في هذه الحال ، محاذاة بعض بدن المأموم بعض بدن الإمام ، والعبرة في ذلك بالطّول العاديّ ، وقال النّوويّ يكره ارتفاع المأموم على إمامه حيث أمكن وقوفهما بمستوًى واحدٍ ، وعكسه كذلك ، إلاّ لحاجةٍ تتعلّق بالصّلاة ، كتبليغٍ يتوقّف عليه إسماع المأمومين وتعليمهم صفة الصّلاة ، فيستحبّ ارتفاعهما لذلك ، تقديماً لمصلحة الصّلاة .
وهذا الكلام في البناء ونحوه . أمّا الجبل الّذي يمكن صعوده كالصّفا أو المروة أو جبل أبي قبيسٍ فالعبرة فيه بالمسافة الّتي سبق القول فيها وهي ثلاثمائة ذراعٍ . فالاقتداء فيه صحيح وإن كان المأموم أعلى من الإمام .
خ - عدم توسّط النّساء بين الإمام والمأموم :
23 - يشترط لصحّة الاقتداء عند الجمهور عدم توسّط النّساء ، فإن وقفت المرأة في صفّ الرّجل كره ، ولم تبطل صلاتها ، ولا صلاة من يليها ، ولا من خلفها . لأنّها لو وقفت في غير صلاةٍ لم تبطل صلاته ، فكذلك في الصّلاة ، وقد ثبت أنّ « عائشة رضي الله عنها كانت تعترض بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نائمةً وهو يصلّي » . والنّهي للكراهة ، ولهذا لا تفسد صلاتها فصلاة من يليها أولى . وهكذا إن كان هناك صفّ تامّ من النّساء ، فإنّه لا يمنع اقتداء من خلفهنّ من الرّجال .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه يشترط لصحّة الاقتداء ألاّ يكون بين المقتدي والإمام صفّ من النّساء بلا حائلٍ قدر ذراعٍ ، وبهذا قال أبو بكرٍ من الحنابلة ، والمراد بالصّفّ عند الحنفيّة ما زاد على الثّلاث ، وفي روايةٍ المراد بالصّفّ الثّلاث ، وعلى هذا قالوا :
- 1 - المرأة الواحدة تفسد صلاة ثلاثةٍ ، واحدٍ عن يمينها وآخر عن يسارها وآخر خلفها ، ولا تفسد أكثر من ذلك .
- 2 - والمرأتان تفسدان صلاة أربعةٍ من الرّجال ، واحدٍ عن يمينهما ، وآخر عن يسارهما ، وصلاة اثنين خلفهما .
- 3 - وإن كنّ ثلاثاً أفسدن صلاة واحدٍ عن يمينهنّ ، وآخر عن يسارهنّ وثلاثةٍ ثلاثةٍ إلى آخر الصّفوف . وهذا جواب ظاهر الرّواية . وفي رواية الثّلاث كالصّفّ ، تفسد صلاة كلّ الصّفوف خلفهنّ إلى آخر الصّفوف ، لأنّ الثّلاثة جمع كامل .
وفي روايةٍ عن أبي يوسف أنّ الثّنتين كالثّلاث . وفي روايةٍ أخرى جعل الثّلاث كالاثنتين .
د - العلم بانتقالات الإمام :
24 - يشترط في الاقتداء علم المأموم بانتقالات الإمام ، بسماعٍ أو رؤيةٍ للإمام أو لبعض المقتدين به ، لئلاّ يشتبه على المقتدي حال الإمام فلا يتمكّن من متابعته ، فلو جهل المأموم أفعال إمامه الظّاهرة كالرّكوع والسّجود ، أو اشتبهت عليه لم تصحّ صلاته ، لأنّ الاقتداء متابعة ، ومع الجهل أو الاشتباه لا تمكن المتابعة ، وهذا الشّرط متّفق عليه عند الفقهاء . زاد الحنفيّة : وكذا علمه بحال إمامه من إقامةٍ أو سفرٍ قبل الفراغ أو بعده ، وهذا فيما لو صلّى الرّباعية ركعتين في مصرٍ أو قريةٍ .
هذا ، وقد تقدّم أنّ الحنابلة لا يجوّزون الاقتداء خارج المسجد بالسّماع وحده . بل يشترطون في إحدى الرّوايتين رؤية المأموم للإمام أو بعض المقتدين به ، لقول عائشة لنساءٍ كنّ يصلّين في حجرتها :" لا تصلّين بصلاة الإمام فإنّكنّ دونه في حجابٍ "
ولأنّه لا يمكنه المتابعة في الغالب .
وأمّا على الرّواية الأخرى فالحنابلة يكتفون بالعلم بانتقالات الإمام بالسّماع أو بالرّؤية .
ذ - صحّة صلاة الإمام :
25 - يشترط لصحّة الاقتداء صحّة صلاة الإمام ، فلو تبيّن فسادها لا يصحّ الاقتداء ، قال الحنفيّة : لو تبيّن فساد صلاة الإمام ، فِسْقاً منه ، أو نسياناً لمضيّ مدّة المسح ، أو لوجود الحدث أو غير ذلك ، لم تصحّ صلاة المقتدي لعدم صحّة البناء ، وكذلك لو كانت صحيحةً في زعم الإمام فاسدةً في زعم المقتدي لبنائه على الفاسد في زعمه .
والمراد بالفسق هنا : الفسق الّذي يخلّ بركنٍ أو شرطٍ في الصّلاة ، كأن يصلّي وهو سكران ، أو هو محدث متعمّداً . أمّا الفسق في العقيدة ، أو بارتكاب المحرّمات ، فهي مسألة خلافيّة ، وقد شدّد فيها الإمام أحمد ، وقال : إنّه إذا كان داعياً إلى بدعته ، وعلم بذلك المقتدي ، فعليه إعادة الصّلاة ، حتّى لو علم بذلك بعد الصّلاة ، وهذه الرّواية المعتمدة في المذهب . أمّا إذا كان لا يدعو إلى بدعته ، وهو مستور الحال ، فالظّاهر أنّه لا إعادة على من اقتدى به ، وفي روايةٍ : عليه الإعادة .
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الصّلاة خلف الفاسق مكروهة ، ولا إعادة فيها . لحديث : « صلّوا خلف من قال لا إله إلاّ اللّه » . ولأنّ ابن عمر كان يصلّي خلف الحجّاج . وأنّ الحسن والحسين كانا يصلّيان خلف مروان ووراء الوليد بن عقبة . ومثله ما ذهب إليه المالكيّة حيث قالوا : لا يصحّ الاقتداء بإمامٍ تبيّن في الصّلاة أو بعدها أنّه كافر ، أو امرأة ، أو مجنون ، أو فاسق ( على خلافٍ فيه ) أو ظهر أنّه محدث ، إن تعمّد الحدث أو علم المؤتمّ بحدثه في الصّلاة أو قبلها ، أو اقتدى به بعد العلم ولو ناسياً .
وكذا قال الشّافعيّة : لا يصحّ اقتداؤه بمن يعلم بطلان صلاته ، كمن علم بكفره أو حدثه أو نجاسة ثوبه ، لأنّه ليس في صلاةٍ فكيف يقتدي به ، وكذا لا يصحّ الاقتداء بإمامٍ يعتقد المقتدي بطلان صلاته . وصرّح الحنابلة بأنّه لا يصحّ الاقتداء بكافرٍ ولو ببدعةٍ مكفّرةٍ ولو أسرّه وجهل المأموم كفره ثمّ تبيّن له . وكذلك من ظنّ كفره أو حدثه ، ولو بان خلاف ذلك فيعيد المأموم ، لاعتقاده بطلان صلاته . لكن المالكيّة قالوا : لو علم المقتدي بحدث إمامه بعد الصّلاة فلا بطلان . كما أنّ الحنابلة صرّحوا بأنّه لو صلّى خلف من يعلمه مسلماً ، فقال بعد الصّلاة : هو كافر ، لم يؤثّر في صلاة المأموم لأنّها كانت محكوماً بصحّتها .
وأمّا الإمام فلو أخطأ أو نسي لم يؤاخذ بذلك المأموم ، كما في البخاريّ وغيره ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أئمّتكم يصلّون لكم ولهم ، فإن أصابوا فلكم ولهم ، وإن أخطئوا فلكم وعليهم » . فجعل خطأ الإمام على نفسه دونهم ، وقد صلّى عمر وغيره من الصّحابة رضي الله عنهم وهو جنب ناسياً للجنابة ، فأعاد ولم يأمر المأمومين بالإعادة ، وهذا مذهب جمهور العلماء ، كمالكٍ والشّافعيّ وأحمد في المشهور عنه .
وكذلك لو فعل الإمام ما يسوغ عنده ، وهو عند المأموم يبطل الصّلاة ، مثل أن يفتصد ويصلّي ولا يتوضّأ ، أو يمسّ ذكره ، أو يترك البسملة ، وهو يعتقد أنّ صلاته تصحّ مع ذلك ، والمأموم يعتقد أنّها لا تصحّ مع ذلك ، فجمهور العلماء على صحّة صلاة المأموم ، كما هو مذهب مالكٍ وأحمد في أظهر الرّوايتين ، بل في أنصّهما عنه . وهو أحد الوجهين في مذهب الشّافعيّ ، اختاره القفّال وغيره . واستدلّ الإمام أحمد لهذا الاتّجاه بأنّ الصّحابة - رضوان الله عليهم - كان يصلّي بعضهم خلف بعضٍ على اختلافهم في الفروع . وأنّ المسائل الخلافيّة لا تخلو إمّا أن يصيب المجتهد فيكون له أجران : أجر اجتهاده وأجر إصابته ، أو أن يخطئ فله أجر واحد وهو أجر اجتهاده ، ولا إثم عليه في الخطأ .
أحوال المقتدي :
26 - المقتدي إمّا مدرك ، أو مسبوق ، أو لاحق ، فالمدرك : من صلّى الرّكعات كاملةً مع الإمام ، أي أدرك جميع ركعاتها معه ، سواء أأدرك معه التّحريمة أو أدركه في جزءٍ من ركوع الرّكعة الأولى إلى أن قعد معه القعدة الأخيرة ، وسواء أسلّم معه أم قبله . والمدرك يتابع إمامه في أفعاله وأقواله ، إلاّ في حالاتٍ خاصّةٍ تذكر في كيفيّة الاقتداء .
27 - والمسبوق : من سبقه الإمام بكلّ الرّكعات بأن اقتدى بالإمام بعد ركوع الأخيرة ، أو ببعض الرّكعات . وقد اختلفوا في حكمه ، فقال أبو حنيفة والحنابلة : ما أدركه المسبوق فهو آخر صلاته قولاً وفعلاً ، فإن أدركه فيما بعد الرّكعة الأولى كالثّانية أو الثّالثة لم يستفتح ، ولم يستعذ ، وما يقضيه فهو أوّل صلاته ، يستفتح فيه ، ويتعوّذ ، ويقرأ الفاتحة والسّورة كالمنفرد ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ما أدركتم فصلّوا ، وما فاتكم فاقضوا » والمقضيّ هو الفائت ، فيكون على صفته ، لكن لو أدرك من رباعيّةٍ أو مغربٍ ركعةً ، تشهّد عقب قضاء ركعةٍ أخرى عند الحنابلة كما قال به سائر الفقهاء ، غير أبي حنيفة ، لئلاّ يلزم تغيير هيئة الصّلاة ، لأنّه لو تشهّد عقب ركعتين لزم قطع الرّباعيّة على وترٍ ، والثّلاثيّة شفعاً ، ومراعاة هيئة الصّلاة ممكنة ، وقال أبو حنيفة : لو أدركه في ركعة الرّباعيّ يقضي ركعتين بفاتحةٍ وسورةٍ ثمّ يتشهّد ، ثمّ يأتي بفاتحةٍ خاصّةٍ ، ليكون القضاء بالهيئة الّتي فاتت .
وقال الشّافعيّة : ما أدركه المسبوق مع الإمام فهو أوّل صلاته ، وما يفعله بعد سلام إمامه آخرها ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « فما أدركتم فصلّوا ، وما فاتكم فأتمّوا » وإتمام الشّيء لا يكون إلاّ بعد أوّله ، وعلى ذلك إذا صلّى مع الإمام الرّكعة الثّانية من الصّبح ، وقنت الإمام فيها يعيد في الباقي القنوت ، ولو أدرك ركعةً من المغرب مع الإمام تشهّد في الثّانية . وذهب المالكيّة ، وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة ، وهو المعتمد في المذهب ، أنّ المسبوق يقضي أوّل صلاته في حقّ القراءة ، وآخرها في حقّ التّشهّد ، فمدرك ركعةٍ من غير فجرٍ يأتي بركعتين بفاتحةٍ وسورةٍ وتشهّدٍ بينهما ، وبرابعة الرّباعيّ بفاتحةٍ فقط ، ولا يعقد قبلهما ، فهو قاضٍ في حقّ القول عملاً برواية : « وما فاتكم فاقضوا » لكنّه بانٍ على صلاته في حقّ الفعل عملاً برواية : « وما فاتكم فأتمّوا » وذلك تطبيقاً لقاعدة الأصوليّين : ( إذا أمكن الجمع بين الدّليلين جُمِع ) فحملنا رواية الإتمام على الأفعال ، ورواية القضاء على الأقوال .
28 - والاّحق : هو من فاتته الرّكعات كلّها أو بعضها بعد اقتدائه بعذرٍ ، كغفلةٍ وزحمةٍ ، وسبق حدثٍ ونحوها ، أو بغير عذرٍ كأن سبق إمامه في ركوعٍ أو سجودٍ ، كما عرّفه الحنفيّة ، وهو المتخلّف عن الإمام بركنٍ أو أكثر ، كما عبّر عنه غير الحنفيّة .
وحكم الاّحق عند الحنفيّة كمؤتمٍّ ، لا يأتي بقراءةٍ ولا سجود سهوٍ ، ولا يتغيّر فرضه بنيّة إقامةٍ ، ويبدأ بقضاء ما فاته بعذرٍ ، ثمّ يتابع الإمام إن لم يكن قد فرغ ، عكس المسبوق . وقال الجمهور : ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إن تخلّف عن الإمام بركعةٍ فأكثر بعذرٍ ، من نومٍ أو غفلةٍ ، تابع إمامه فيما بقي من صلاته ، ويقضي ما سبقه الإمام به بعد سلام الإمام كالمسبوق ، وإن تخلّف بركنين بغير عذرٍ بطلت صلاته عندهم . وكذلك لو تخلّف بركنٍ واحدٍ عمداً عند المالكيّة ، وهو رواية عند الشّافعيّة ، ولا تبطل في الأصحّ عندهم .
وإن تخلّف بركنٍ أو ركنين لعذرٍ فإنّ المأموم يفعل ما سبقه به إمامه ويدركه إن أمكن ، فإن أدركه فلا شيء عليه ، وإلاّ تبطل هذه الرّكعة فيتداركها بعد سلام الإمام . وهذا في الجملة ، وفي المسألة تفصيل ، وفي بعض الفروع خلاف يرجع إليه في مصطلح ( لاحق ) .
كيفيّة الاقتداء
أوّلاً - في أفعال الصّلاة :
29 - الاقتداء في الصّلاة هو متابعة الإمام ، والمتابعة واجبة في الفرائض والواجبات من غير تأخير واجبٍ ، ما لم يعارضها واجب آخر ، فإن عارضها واجب آخر فلا ينبغي أن يفوته ، بل يأتي به ثمّ يتابعه ، لأنّ الإتيان به لا يفوّت المتابعة بالكلّيّة ، وإنّما يؤخّرها ، وتأخير أحد الواجبين مع الإتيان بهما أولى من ترك أحدهما بالكلّيّة ، بخلاف ما إذا كان ما يعارض المتابعة سنّة ، فإنّه يترك السّنّة ويتابع الإمام بلا تأخيرٍ ، لأنّ ترك السّنّة أولى من تأخير الواجب . وعلى ذلك فلو رفع الإمام رأسه من الرّكوع أو السّجود قبل أن يتمّ المأموم التّسبيحات الثّلاث وجب متابعته ، وكذا عكسه . بخلاف سلام الإمام أو قيامه لثالثةٍ قبل إتمام المأموم التّشهّد ، فإنّه لا يتابعه ، بل يتمّ التّشهّد لوجوبه .
هذا ، ومقتضى الاقتداء والمتابعة ألاّ يحصل فعل من أفعال المقتدي قبل فعل الإمام ، وقد فصّل الفقهاء بين الأفعال الّتي يسبّب فيها سبق المأموم فعل إمامه أو مقارنته له بطلان الاقتداء ، وبين غيرها من الأفعال ، فقالوا : إن تقدّم المأموم إمامه في تكبيرة الإحرام لم يصحّ الاقتداء أصلاً ، لعدم صحّة البناء ، وهذا باتّفاق المذاهب .
وجمهور الفقهاء : ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو رواية عن أبي يوسف من الحنفيّة ) على أنّ مقارنة المأموم للإمام في تكبيرة الإحرام تضرّ بالاقتداء وتبطل صلاة المقتدي ، عمداً كان أو سهواً ، لحديث : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به ، فلا تختلفوا عليه ، فإذا كبّر فكبّروا ، وإذا ركع فاركعوا » لكن المالكيّة قالوا : إن سبقه الإمام ولو بحرفٍ صحّت ، إن ختم المقتدي معه أو بعده ، لا قبله . واشترط الشّافعيّة ، وهو المفهوم من كلام الحنابلة ، تأخّر جميع تكبيرة المقتدي عن تكبيرة الإمام .
ولا تضرّ مقارنة تكبيرة المقتدي لتكبير الإمام عند أبي حنيفة ، حتّى نقل عنه القول بأنّ المقارنة هي السّنّة ، قال في البدائع : ومنها ( أي من سنن الجماعة ) أن يكبّر المقتدي مقارناً لتكبير الإمام فهو أفضل باتّفاق الرّوايات عن أبي حنيفة .. لأنّ الاقتداء مشاركة ، وحقيقة المشاركة المقارنة ، إذ بها تتحقّق المشاركة في جميع أجزاء العبادة .
واتّفق الفقهاء على أنّ المقتدي يتابع الإمام في السّلام ، بأن يسلّم بعده ، وصرّح الحنفيّة : أنّه لو سلّم الإمام قبل أن يفرغ المقتدي من الدّعاء الّذي يكون بعد التّشهّد ، أو قبل أن يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإنّه يتابع الإمام في التّسليم . أمّا عند الجمهور فلو سلّم الإمام قبل أن يصلّي المأموم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّه يصلّي عليه ، ثمّ يسلّم من صلاته ، لأنّ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم من أركان الصّلاة . ولو سلّم قبل الإمام سهواً فإنّه يعيد ، ويسلّم بعده ، ولا شيء عليه ، أمّا إن سلّم قبل الإمام عمداً فإنّه تبطل صلاته عند الجمهور ، إلاّ أن ينوي المفارقة عند بعض الشّافعيّة .
أمّا مقارنة المقتدي للإمام في السّلام فلا تضرّ عند جمهور الفقهاء ، إلاّ أنّها مكروهة عند الشّافعيّة والحنابلة ، أمّا المالكيّة فقالوا : مساواته للإمام تبطل الصّلاة .
ولا تضرّ مقارنة المأموم للإمام في سائر الأفعال ، كالرّكوع والسّجود مع الكراهة أو بدونها على خلافٍ بين الفقهاء ، فإن تقدّمه في ركوعٍ أو سجودٍ ينبغي البقاء فيهما حتّى يدركه الإمام ، ولو رفع المقتدي رأسه من الرّكوع أو السّجود قبل الإمام ينبغي أن يعود ولا يعتبر ذلك ركوعين أو سجودين اتّفاقاً ، وفي المسألة تفصيل ينظر في ( صلاة ) .
ثانياً - الاقتداء في أقوال الصّلاة :
30 - لا يشترط لصحّة الاقتداء متابعة الإمام في سائر أقوال الصّلاة غير تكبيرة الإحرام والسّلام ، كالتّشهّد والقراءة والتّسبيح ، فيجوز فيها التّقدّم والتّأخّر والموافقة .
اختلاف صفة المقتدي والإمام :
أ - اقتداء المتوضّئ بالمتيمّم :
31 - يجوز اقتداء المتوضّئ بالمتيمّم عند جمهور الفقهاء . ( المالكيّة والحنابلة وأبي حنيفة وأبي يوسف ) ، لما ورد في حديث « عمرو بن العاص أنّه بعثه النّبيّ صلى الله عليه وسلم أميراً على سريّةٍ ، فأجنب ، وصلّى بأصحابه بالتّيمّم لخوف البرد ، وعلم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يأمرهم بالإعادة » .
واستدلّ الحنفيّة للجواز كذلك على أصلهم بأنّ التّيمّم يرفع الحدث مطلقاً من كلّ وجهٍ ، ما بقي شرطه ، وهو العجز عن استعمال الماء ، ولهذا تجوز الفرائض المتعدّدة بتيمّمٍ واحدٍ عندهم .
وكره المالكيّة اقتداء المتوضّئ بالمتيمّم ، كما أنّ الحنابلة صرّحوا بأنّ إمامة المتوضّئ أولى من إمامة المتيمّم ، لأنّ التّيمّم لا يرفع الحدث ، بل يستباح به الصّلاة للضّرورة .
وقال الشّافعيّة : لا يجوز الاقتداء بمن تلزمه الإعادة كمتيمّمٍ بمتيمّمٍ ، ولو كان المقتدي مثله ، أمّا المتيمّم الّذي لا إعادة عليه فيجوز اقتداء المتوضّئ به ، لأنّه قد أتى عن طهارته ببدلٍ مغنٍ عن الإعادة . وقال محمّد بن الحسن من الحنفيّة : لا يصحّ اقتداء المتوضّئ بالمتيمّم مطلقاً في غير صلاة الجنازة ، للزوم بناء القويّ على الضّعيف .
اقتداء الغاسل بالماسح :
32 - اتّفق الفقهاء على جواز اقتداء غاسلٍ بماسحٍ على خفٍّ أو جبيرةٍ ، لأنّ الخفّ مانع سراية الحدث إلى القدم ، وما حلّ بالخفّ يرفعه المسح ، فهو باقٍ على كونه غاسلاً ، كما علّله الحنفيّة ، ولأنّ صلاته مغنية عن الإعادة لارتفاع حدثه ، لأنّ المسح يرفع الحدث كما وجّهه الآخرون .
اقتداء المفترض بالمتنفّل :
33 - جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة وهو المختار عند الحنابلة ) على عدم جواز اقتداء المفترض بالمتنفّل ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به ، فلا تختلفوا عليه » ولقوله عليه السلام : « الإمام ضامن » ومقتضى الحديثين ألاّ يكون الإمام أضعف حالاً من المقتدي ، ولأنّ صلاة المأموم لا تؤدّى بنيّة الإمام ، فأشبهت صلاة الجمعة خلف من يصلّي الظّهر .
وقال الشّافعيّة ، وهو الرّواية الثّانية عند الحنابلة : يصحّ اقتداء المفترض بالمتنفّل بشرط توافق نظم صلاتيهما ، لما ورد في الصّحيحين : « أنّ معاذاً كان يصلّي مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم عشاء الآخرة ، ثمّ يرجع إلى قومه فيصلّي بهم تلك الصّلاة » .
فإن اختلف فعلهما كمكتوبةٍ وكسوفٍ أو جنازةٍ ، لم يصحّ الاقتداء في ذلك على الصّحيح لمخالفته النّظم وتعذّر المتابعة .
34 - ويتفرّع على هذه المسألة اقتداء البالغ بالصّبيّ في الفرض ، فإنّه لا يجوز عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ) لقول الشّعبيّ : لا يؤمّ الغلام حتّى يحتلم . ولأنّه لا يؤمن من الصّبيّ الإخلال بشرطٍ من شرائط الصّلاة .
وقال الشّافعيّة : يصحّ اقتداء البالغ الحرّ بالصّبيّ المميّز ، ولو كانت الصّلاة فرضاً ، للاعتداد بصلاته ، لأنّ« عمرو بن سلمة كان يؤمّ قومه على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو ابن ستّ أو سبع سنين ». لكنّهم صرّحوا بكراهة الاقتداء بالصّبيّ المميّز .
هذا في صلاة الفريضة ، أمّا في النّافلة فجاز اقتداء البالغ بالصّبيّ عند بعض الحنفيّة ، وهو المشهور عند المالكيّة ، ورواية عند الحنابلة . وفي المختار عند الحنفيّة ، ورواية عند المالكيّة والحنابلة : لا يجوز لأنّ نفل الصّغير دون نفل البالغ ، حيث لا يلزمه القضاء بالإفساد ، ولا يبنى القويّ على الضّعيف ، كما علّله الحنفيّة ..
اقتداء المفترض بمن يصلّي فرضاً آخر :
35 - جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ) على أنّه لا يجوز اقتداء مفترضٍ بمن يصلّي فرضاً آخر غير فرض المأموم ، فلا يصحّ اقتداء من يصلّي ظهراً خلف من يصلّي عصراً أو غيره ، ولا عكسه ، ولا اقتداء من يصلّي أداءً بمن يصلّي قضاءً ، لأنّ الاقتداء بناء تحريمة المقتدي على تحريمة الإمام ، وهذا يقتضي اتّحاد صلاتيهما ، كما سبق في شروط الاقتداء . ويجوز ذلك عند الشّافعيّة إذا توافق نظم صلاتيهما في الأفعال الظّاهرة ، فيصحّ اقتداء من يصلّي فرضاً من الأوقات الخمسة بمن يصلّي فرضاً آخر منهما أداءً وقضاءً ، مع تفصيلٍ ذكر في موضعه .
اقتداء المقيم بالمسافر وعكسه :
36 - يجوز اقتداء المقيم بالمسافر في الوقت وخارج الوقت باتّفاق الفقهاء ، فإذا أتمّ الإمام المسافر صلاته يقول للمصلّين خلفه : أتمّوا صلاتكم فإنّي مسافر . فيقوم المقتدي المقيم ليكمل صلاته . ويعتبر في هذه الحالة كالمسبوق عند أكثر الفقهاء .
كذلك يجوز اقتداء المسافر بالمقيم في الوقت بلا خلافٍ ، وحينئذٍ يجب عليه إتمام صلاته أربعاً متابعةً للإمام . أمّا اقتداء المسافر بالمقيم خارج الوقت فلا يجوز في صلاةٍ رباعيّةٍ عند الحنفيّة ، لأنّ المسافر بعد فوات الوقت تقرّر أنّ فرضه ركعتان فيكون اقتداء مفترضٍ بمتنفّلٍ في حقّ قعدةٍ أو قراءةٍ باقتدائه في شفعٍ أوّلٍ أو ثانٍ .
اقتداء السّليم بالمعذور :
37 - يرى جمهور الفقهاء : ( الحنفيّة والحنابلة ، ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة ) أنّه لا يجوز اقتداء السّليم بالمعذور ، كمن به سلس البول ، واستطلاق البطن ، وانفلات الرّيح ، وكذا الجرح السّائل ، والرّعاف ، والمستحاضة ، لأنّ أصحاب الأعذار يصلّون مع الحدث حقيقةً ، لكن جعل الحدث الموجود في حقّهم كالمعدوم ، للحاجة إلى الأداء فلا يتعدّاهم ، لأنّ الضّرورة تقدّر بقدرها ، ولأنّ الصّحيح أقوى حالاً من المعذور ، ولا يجوز بناء القويّ على الضّعيف ، ولأنّ الإمام ضامن ، بمعنى أنّه تضمن صلاته صلاة المقتدي ، والشّيء لا يتضمّن ما هو فوقه .
وقال الشّافعيّة في الأصحّ : يصحّ اقتداء السّليم بصاحب السّلس ، والطّاهرة بالمستحاضة غير المتحيّرة ، لصحّة صلاتهم من غير إعادةٍ .
وجواز اقتداء السّليم بالمعذور هو قول المالكيّة في المشهور ، لأنّه إذا عفي عن الأعذار في حقّ صاحبها عفي عنها في حقّ غيره . لكنّهم صرّحوا بكراهة إمامة أصحاب الأعذار للأصحّاء . وقد نقل في التّاج والإكليل عن المالكيّة في جواز أو عدم جواز اقتداء السّليم بالمعذور قولين . واستدلّ للجواز بأنّ عمر كان إماماً وأخبر أنّه يجد ذلك ( أي سلس المذي ) ولا ينصرف ويجوز اقتداء صاحب العذر بمثله مطلقاً ، أي ولو اختلف العذر ، أو إن اتّحد عذرهما على تفصيلٍ يذكر في مصطلح ( عذر ) .
اقتداء المكتسي بالعاري :
38 - صرّح جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة ) بعدم صحّة اقتداء المكتسي ( أي مستور العورة ) بالعاري ، لأنّ المقتدي أقوى حالاً من الإمام ، فيلزم اقتداء القويّ بالضّعيف .
ولأنّه تارك لشرطٍ يقدر عليه المأموم ، فأشبه اقتداء المعافى بمن به سلس البول .
حتّى إنّ المالكيّة قالوا : إن وجدوا ثوباً صلّوا به أفذاذاً لا يؤمّهم به أحد .
وذهب الشّافعيّة في الأصحّ إلى جواز اقتداء المستور بالعاري ، بناءً على أصلهم في جواز اقتداء السّليم بالمعذور . أمّا اقتداء العاري بالعاري فيجوز عند عامّة الفقهاء ، إلاّ أنّ المالكيّة قيّدوا الجواز بما إن اجتمعوا بظلامٍ ، وإلاّ تفرّقوا وصلّوا أفذاذاً متباعدين .
اقتداء القارئ بالأمّيّ :
39 - لا يجوز اقتداء القارئ بالأمّيّ عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، والجديد من مذهب الشّافعيّة ) لأنّ الإمام ضامن ويتحمّل القراءة عن المأموم ، ولا يمكن ذلك في الأمّيّ ، لعدم قدرته على القراءة ، ولأنّهما تاركان لشرطٍ يقدران عليه بتقديم القارئ ، والمراد بالأمّيّ هنا عند الفقهاء : من لا يحسن القراءة الّتي تتوقّف عليها الصّلاة .
ويجوز اقتداء القارئ بالأمّيّ في القديم من مذهب الشّافعيّة ، في الصّلاة السّرّيّة دون الجهريّة ، وذهب المزنيّ إلى صحّة الاقتداء به مطلقاً .
وجمهور العلماء على بطلان صلاة القارئ إذا اقتدى بالأمّيّ ، لعدم صحّة بناء صلاته على صلاة الأمّيّ ، كذلك تبطل صلاة الأمّيّ الّذي أمّ القارئ عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في الجديد لفقد شرطٍ يقدران عليه .
أمّا الحنابلة فقد فصّلوا في الموضوع فقالوا : إن أمّ أمّيّ أمّيّاً وقارئاً ، فإن كانا عن يمينه ، أو كان الأمّيّ عن يمينه والقارئ عن يساره صحّت صلاة الإمام والأمّيّ المأموم ، وبطلت صلاة القارئ لاقتدائه بأمّيٍّ . وإن كانا خلفه ، أو القارئ وحده عن يمينه ، والأمّيّ عن يساره فسدت صلاة القارئ لاقتدائه بالأمّيّ ، وتبطل صلاة الأمّيّ المأموم لكونه فذّاً خلف الإمام أو عن يساره ، وذلك مبطل للصّلاة عندهم .
هذا ، ويجوز اقتداء الأمّيّ بمثله بلا خلافٍ عند الفقهاء .
اقتداء القادر بالعاجز عن ركنٍ :
40 - لا يجوز اقتداء من يقدر على ركنٍ ، كالرّكوع أو السّجود أو القيام ، بمن لا يقدر عليه عند المالكيّة والحنابلة ، وهو قول محمّدٍ من الحنفيّة ، لأنّ الإمام عجز عن ركنٍ من أركان الصّلاة فلم يصحّ الاقتداء به كالعاجز عن القراءة إلاّ بمثله ، ولعدم جواز اقتداء القويّ بالضّعيف كما مرّ ، إلاّ أنّ الحنابلة استثنوا إمام الحيّ المرجوّ زوال علّته ، وفي هذه الحالة يصحّ أن يصلّي المقتدرون وراءه جلوساً أو قياماً عندهم .
ويجوز اقتداء قائمٍ بقاعدٍ يركع ويسجد عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وجاز ذلك عند الشّافعيّة ولو لم يكن القاعد قادراً على الرّكوع أو السّجود ، لحديث عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « صلّى آخر صلاته قاعداً والقوم خلفه قيام » .
واختلفوا في اقتداء المستوي خلف الأحدب ، فقال الحنفيّة والشّافعيّة بجوازه ، وقيّده بعض الحنفيّة بألاّ تبلغ حدبته حدّ الرّكوع ، ويميّز قيامه عن ركوعه ، وقال المالكيّة بجوازه مع الكراهة ، ومنعه الحنابلة مطلقاً .
أمّا إذا كان الإمام يصلّي بالإيماء فلا يجوز اقتداء القائم أو الرّاكع أو السّاجد خلفه عند الجمهور ( الحنفيّة عدا زفر ، والمالكيّة والحنابلة ) خلافاً للشّافعيّة الّذين قاسوا المضطجع والمستلقي على القاعد .
ويجوز اقتداء المومئ بمثله عند الجمهور خلافاً للمالكيّة في المشهور ، لأنّ الإيماء لا ينضبط ، فقد يكون إيماء المأموم أخفض من إيماء الإمام ، وقد يسبقه المأموم في الإيماء ، وهذا يضرّ .
الاقتداء بالفاسق :
41 - الفاسق : من فعل كبيرةً ، أو داوم على صغيرةٍ . وقد صرّح الحنفيّة والشّافعيّة بجواز الاقتداء بالفاسق مع الكراهة ، أمّا الجواز فلما ورد في الحديث : « صلّوا خلف كلّ برٍّ وفاجرٍ » ، ولما رواه الشّيخان أنّ ابن عمر " كان يصلّي خلف الحجّاج على ظلمه . وأمّا الكراهة فلعدم الوثوق به في المحافظة على الشّروط .
وقال الحنابلة - وهو رواية عند المالكيّة - : لا تصحّ إمامة فاسقٍ بفعلٍ ، كزانٍ وسارقٍ وشارب خمرٍ ونمّامٍ ونحوه ، أو اعتقادٍ ، كخارجيٍّ أو رافضيٍّ ولو كان مستوراً . لقوله تعالى : { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون } ، ولما روي عن جابرٍ مرفوعاً : « لا تؤمّن امرأة رجلاً ، ولا أعرابيّ مهاجراً ، ولا فاجر مؤمناً إلاّ أن يقهره بسلطانٍ يخاف سوطه وسيفه » . وفصّل المالكيّة في الرّواية الأخرى المعتمدة بين الفاسق بجارحةٍ كزانٍ وشارب خمرٍ ، وبين من يتعلّق فسقه بالصّلاة ، كأن يقصد بتقدّمه الكبر ، أو يخلّ بركنٍ أو شرطٍ ، أو سنّةٍ عمداً ، فقالوا بجواز الاقتداء بالأوّل دون الثّاني .
وهذا كلّه في الصّلوات الخمس ، أمّا في الجمع والأعياد فيجوز الاقتداء بالفاسق اتّفاقاً ، لأنّهما يختصّان بإمامٍ واحدٍ ، فالمنع منهما خلفه يؤدّي إلى تفويتهما دون سائر الصّلوات .
الاقتداء بالأعمى والأصمّ والأخرس :
42 - لا خلاف بين الفقهاء في صحّة الاقتداء بالأعمى والأصمّ ، لأنّ العمى والصّمم لا يخلّان بشيءٍ من أفعال الصّلاة ، ولا بشروطها . لكن الحنفيّة والحنابلة صرّحوا بكراهة إمامة الأعمى ، كما صرّح المالكيّة بأفضليّة إمامة البصير المساوي للأعمى في الفضل ، لأنّه أشدّ تحفّظاً من النّجاسات .
وقال الشّافعيّة : الأعمى والبصير سواء لتعارض فضليهما ، لأنّ الأعمى لا ينظر ما يشغله فهو أخشع ، والبصير ينظر الخبث فهو أقدر على تجنّبه ، وهذا إذا كان الأعمى لا يتبذّل ، أمّا إذا تبذّل أي ترك الصّيانة عن المستقذرات ، كأن لبس ثياب البذلة ، كان البصير أولى منه . أمّا الأخرس فلا يجوز الاقتداء به ، لأنّه يترك أركان الصّلاة من التّحريمة والقراءة . حتّى إنّ الشّافعيّة والحنابلة صرّحوا بعدم جواز الاقتداء بالأخرس ، ولو كان المقتدي مثله ، وصرّح الحنفيّة أنّ الأخرس أسوأ حالاً من الأمّيّ ، لقدرة الأمّيّ على التّحريمة دون الأخرس ، فلا يجوز اقتداء الأمّيّ بالأخرس ، ويجوز العكس .
الاقتداء بمن يخالفه في الفروع :
43 - لا خلاف بين الفقهاء في صحّة الاقتداء بإمامٍ يخالف المقتدي في الفروع ، إذا كان الإمام يتحامى مواضع الخلاف ، بأن يتوضّأ من الخارج النّجس من غير السّبيلين كالفصد مثلاً ، ولا ينحرف عن القبلة انحرافاً فاحشاً ، ويراعي الدّلك والموالاة في الوضوء ، والطّمأنينة في الصّلاة .
وكذلك يصحّ الاقتداء بإمامٍ مخالفٍ في المذهب إذا كان لا يعلم منه الإتيان بما يفسد الصّلاة عند المقتدي بيقينٍ ، لأنّ الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم من المسلمين لم يزل بعضهم يقتدي ببعضٍ مع اختلافهم في الفروع ، ولما فيه من وحدة الصّفّ وقوّة المسلمين .
أمّا إذا علم المقتدي أنّ الإمام أتى بمانعٍ لصحّة الصّلاة في مذهب المأموم ، وليس مانعاً في مذهبه ، كترك الدّلك والموالاة في الوضوء ، أو ترك شرطاً في الصّلاة عند المأموم ، فقد صرّح المالكيّة والحنابلة - وهو رواية عند الشّافعيّة - بصحّة الاقتداء ، لأنّ المعتبر في شروط الصّلاة مذهب الإمام لا المأموم ، ما لم يكن المتروك ركناً داخلاً في الصّلاة عند المالكيّة ، كترك الرّفع من الرّكوع . وفي الأصحّ عند الشّافعيّة لا يصحّ الاقتداء اعتباراً بنيّة المقتدي ، لأنّه يعتقد فساد صلاة إمامه ، فلا يمكن البناء عليه .
وقال الحنفيّة : إن تيقّن المقتدي ترك الإمام مراعاة الفروض عند المقتدي لم يصحّ الاقتداء ، وإن علم تركه للواجبات فقط يكره ، أمّا إن علم منه ترك السّنن فينبغي أن يقتدي به ، لأنّ الجماعة واجبة ، فتقدّم على ترك كراهة التّنزيه ، وهذا بناء على أنّ العبرة لرأي المقتدي - وهو الأصحّ - وقيل : لرأي الإمام ، وعليه جماعة . قال في النّهاية : وهو الأقيس ، وعليه فيصحّ الاقتداء ، وإن كان الإمام لا يحتاط .
الاقتداء في غير الصّلاة
44 - الاقتداء في غير الصّلاة - بمعنى التّأسّي والاتّباع - يختلف حكمه باختلاف المقتدى به ، فالاقتداء بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في أمور الدّين وما يتعلّق بالشّريعة واجب أو مندوب ( بحسب حكم ذلك الفعل ) ، والاقتداء بأفعاله صلى الله عليه وسلم الجبلّيّة حكمه الإباحة ، والاقتداء بالمجتهد فيما اجتهد فيه من المسائل الفقهيّة مطلوب لمن ليس له أهليّة الاجتهاد عند الأصوليّين .
وتفصيل هذه المسائل في الملحق الأصوليّ ، وانظر مصطلحي ( اتّباع ، وتأسّي ) .
اقتراض *
انظر : استدانة .
اقتصار *
التّعريف :
1 - الاقتصار على الشّيء لغةً : الاكتفاء به ، وعدم مجاوزته ، وقد ورد استعمال الاقتصار بهذا المعنى في بعض فروع الشّافعيّة ، كقولهم في كفاية الرّقيق : ولا يكفي الاقتصار على ستر العورة ، قال الغزاليّ : ببلادنا احترازاً عن بلاد السّودان . وفي الاستنجاء قال المحلّيّ : وجمعهما ( الماء والحجر ) بأن يقدّم الحجر أفضل من الاقتصار على أحدهما .
والاقتصار على الماء أفضل من الاقتصار على الحجر ، لأنّه يزيل العين والأثر بخلاف الحجر . وقد جاء استعمال " الاقتصار " في المثالين السّابقين بمعناه اللّغويّ " اكتفاء " . ولتمام الفائدة يراجع مصطلح : ( استناد ) .
والاقتصار عند الفقهاء هو أن يثبت الحكم عند حدوث العلّة لا قبل الحدوث ولا بعده ، كما في الطّلاق المنجّز ، وعرّفه صاحب الدّرّ المختار بأنّه : ثبوت الحكم في الحال ، ومثّل له ابن عابدين : بإنشاء البيع والطّلاق والعتاق وغيرها ، والتّعريفان متقاربان .
ويتّضح أنّ المعنى الاصطلاحيّ لم يخرج عن المعنى اللّغويّ للاقتصار ، لأنّ ثبوت الحكم في الحال يعني الاكتفاء بالحال وعدم مجاوزته ، لا إلى الماضي ولا إلى المستقبل .
2 - ويلاحظ في تعريف " الاقتصار " الأمور التّالية :
أ - أنّه أحد الطّرق الّتي يثبت بها الحكم .
ب - ثبوت الحكم عن طريق الاقتصار يكون في الحال ، أي لا قبله ولا بعده .
ج - أنّه إنشاء وليس بخبرٍ .
د - أنّه إنشاء منجز لا معلّق .
الألفاظ ذات الصّلة :
3 - يتّضح معنى الاقتصار من ذكر بقيّة الطّرق الّتي يثبت بها الحكم وتعريفها ، وهي ألفاظ ذات صلةٍ بالاقتصار . قال الحصكفيّ : اعلم أنّ طرق ثبوت الأحكام أربعة : الانقلاب ، والاقتصار ، والاستناد ، والتّبيين .
الانقلاب :
4 - الانقلاب : صيرورة ما ليس بعلّةٍ علّةً ، كما إذا علّق الطّلاق بالشّرط ، كأن يقول الرّجل لامرأته : أنت طالق إن دخلت الدّار ، فإنّ " أنت طالق " علّة لثبوت حكمه ، وهو الطّلاق ، لكنّه بالتّعليق على الدّخول لم ينعقد علّةً إلاّ عند وجود شرطه ، وهو الدّخول ، فعند وجود الشّرط ينقلب ما ليس بعلّةٍ علّةً . ويتبيّن من تعريف الانقلاب أنّه يتّفق مع الاقتصار في أنّهما إنشاء لا خبر ، إلاّ أنّهما يختلفان في أنّ الاقتصار منجّز ، والانقلاب معلّق .
الاستناد :
5 - الاستناد : ثبوت الحكم في الحال ، ثمّ يستند إلى ما قبله بشرط بقاء المحلّ كلّ المدّة ، كلزوم الزّكاة حين الحول مستنداً لوجود النّصاب ، وكالمضمونات تملك عند أداء الضّمان مستنداً إلى وقت وجود السّبب .
فالأثر الرّجعيّ هنا واضح ، بخلاف الاقتصار فليس فيه أثر رجعيّ .
الفرق بين الاستناد والاقتصار :
6 - الاستناد أحد الطّرق الأربعة الّتي تثبت بها الأحكام ، وقد تبيّن من خلال تعريفه أنّ الاستناد له أثر رجعيّ بخلاف الاقتصار .
جاء في المدخل الفقهيّ العامّ :
في الاصطلاح القانونيّ الشّائع اليوم في عصرنا يسمّى انسحاب الأحكام على الماضي أثراً رجعيّاً ، ويستعمل هذا التّعبير في رجعيّة أحكام القوانين نفسها كما في آثار العقود على السّواء . فيقال : هذا القانون له أثر رجعيّ ، وذاك ليس له ، كما يقال : إنّ بيع ملك الغير بدون إذنه إذا أجازه المالك يكون لإجازته أثر رجعيّ ، فيعتبر حكم العقد سارياً منذ انعقاده لا منذ إجازته ، وليس في لغة القانون اسم لعدم الأثر الرّجعيّ .
أمّا الفقه الإسلاميّ فيسمّي عدم رجعيّة الآثار اقتصاراً ، بمعنى أنّ الحكم يثبت مقتصراً على الحال لا منسحباً على الماضي . ويسمّي رجعيّة الآثار استناداً ، وهو اصطلاح المذهب الحنفيّ ، ويسمّيه المالكيّة " انعطافاً " . ثمّ أضاف صاحب المدخل : وتارةً يكون الانحلال مقتصراً ليس له انعطاف وأثر رجعيّ ، وإنّما يسري حكمه على المستقبل فقط من تاريخ وقوعه ، وذلك في العقود الاستمراريّة كالشّركة وكالإجارة .
فالفسخ أو الانفساخ يقطعان تأثير هذه العقود بالنّسبة إلى المستقبل ، أمّا ما مضى فيكون على حكم العقد ، وكذا انحلال الوكالة بالعزل لا ينقض تصرّفات الوكيل السّابقة .
ثمّ يستحسن التّمييز في تسمية انحلال العقد بين حالتي الاستناد والاقتصار ، فيقترح تسمية الحلّ والانحلال في حالة الاستناد : فسخاً وانفساخاً ، وفي حالة الاقتصار : إنهاءً وانتهاءً .
7- هذا ، ولم نر التّصريح بهذين المصطلحين في مذهب غير الحنفيّة ، إلاّ أنّ الشّافعيّة فرّقوا بين حالتين في الفسخ .
قال الإمام السّيوطيّ في كتابه الأشباه والنّظائر : الفسخ هل يرفع العقد من أصله ، أو من حينه ؟ يمكن أن نفهم من قول السّيوطيّ هذا أنّهم فرّقوا بين ما يرفع العقد من أصله وبين ما يرفع العقد من حينه ، فيصدق على الأوّل الاستناد عند الحنفيّة ، وعلى الثّاني الاقتصار عندهم أيضاً . فقد فرّق السّيوطيّ هنا بين ماله أثر رجعيّ ، وبين ما ليس له أثر رجعيّ .
8- وقد مثّلوا لما يرفع العقد من حينه بما يلي :
أ - الفسخ بخيار العيب ، والتّصرية ونحوهما ، والأصحّ أنّه من حينه .
ب - فسخ البيع بخيار المجلس أو الشّرط فيه وجهان ، أصحّهما في شرح المهذّب من حينه .
ج - الفسخ بالفلس من حينه قطعاً .
هـ- الرّجوع في الهبة من حينه قطعاً .
و- وفسخ النّكاح بأحد العيوب ، والأصحّ : أنّه من حينه .
ز - فسخ الحوالة : انقطاع من حينه .
9- ومثّل لما يرفع العقد من أصله أيضاً بقولهم : إذا كان رأس مال السّلم في الذّمّة ، وعيّن في المجلس ، ثمّ انفسخ السّلم بسببٍ يقتضيه ورأس المال باقٍ ، فهل يرجع إلى عينه أو بدله ؟ وجهان : الأصحّ الأوّل . قال الغزاليّ : والخلاف يلتفت إلى أنّ المسلم فيه إذا ردّ بالعيب هل يكون نقضاً للملك في الحال ، أو هو مبيّن لعدم جريان الملك ؟ .
ومقتضى هذا التّفريع : أنّ الأصحّ هنا ، أنّه رفع للعقد من أصله ، ويجري ذلك أيضاً في نجوم الكتابة ( أقساطها ) ، وبدل الخلع إذا وجد به عيباً فردّه .
لكن في الكتابة يرتدّ العتق لعدم القبض المعلّق عليه .
وفي الخلع : لا يرتدّ الطّلاق بل يرجع إلى بدل البضع . هذا ما ذهب إليه الإمام السّيوطيّ في الأشباه والنّظائر ، في أنّ الفسخ يرفع العقد من أصله حيناً ومن حينه حيناً آخر .
إلاّ أنّنا حينما نرجع إلى الرّوضة نجد الإمام النّوويّ يرجّح أنّ الفسخ يرفع العقد من حينه ، وأنّ الرّفع من الأصل ضعيف .
وقد تبعه في ذلك القليوبيّ في حاشيته على شرح المنهاج للمحلّيّ ، فيقول : إنّ الفسخ يرفع العقد من أصله ، وهو ضعيف .
ويقول المحلّيّ : بناءً على الأصحّ : إنّ الفسخ يرفع العقد من حينه .
التّبيين :
10 - التّبيين : أن يظهر في الحال أنّ الحكم كان ثابتاً من قبل ، مثل أن يقول في اليوم : إن كان زيد في الدّار فأنت طالق ، وتبيّن في الغد وجوده فيها ، يقع الطّلاق في اليوم ، ويعتبر ابتداء المدّة منه . ويخالف التّبيين الاقتصار في أنّ الحكم في التّبيين يظهر أنّه كان ثابتاً من قبل ، في حين أنّ الحكم في الاقتصار يثبت في الحال فقط .
هذا ، ولمّا كان الاقتصار إنشاءً للعقود ، أو الفسوخ المنجزة ، شملها جميعاً ، لأنّ التّنجيز هو الأصل فيها .
مثال العقود : البيع والسّلم والإجارة والقراض وغير ذلك .
ومثال الفسوخ : الطّلاق والعتاق وغير ذلك . أمّا إذا كانت الفسوخ غير منجزةٍ ، بأن كان لها أثر رجعيّ ، وانسحب حكمها على الماضي ، فتدخل حينئذٍ في باب الاستناد .
ومثاله ما لو قال : أنت طالق قبل موت فلانٍ بشهرٍ ، لم تطلق حتّى يموت فلان بعد اليمين بشهرٍ ، فإن مات لتمام الشّهر طلقت مستنداً إلى أوّل الشّهر ، فتعتبر العدّة أوّله .
اقتضاء *
التّعريف :
1 - الاقتضاء : مصدر اقتضى ، يقال : اقتضيت منه حقّي ، وتقاضيته : إذا طلبته وقبضته وأخذته منه ، وأصله من قضاء الدّين .
والاقتضاء في استعمال الفقهاء بمعناه اللّغويّ . ويستعمله الأصوليّون بمعنى الدّلالة . يقولون : الأمر يقتضي الوجوب أي يدلّ عليه ، ويستعملونه أيضاً بمعنى الطّلب .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - القضاء :
2 - القضاء : إعطاء الحقّ والفراغ منه ، ومنه أداء ما على الإنسان من حقوقٍ للّه تعالى ، سواء كان أداؤها في الوقت المحدّد لها ، ومنه قول اللّه عزّ وجلّ : { فإذا قضيتم مناسككم } أي أدّيتموها وفرغتم منها ، أو كان أداؤها بعد خروج وقتها كقضاء الفائتة .
وبعض الأصوليّين يقول : إنّ لفظ القضاء عامّ يجوز إطلاقه على تسليم عين الواجب ( وهو الأداء ) ، أو تسليم مثله ( وهو القضاء ) ، لأنّ معنى القضاء : الإسقاط والإتمام والإحكام ، وهذه المعاني موجودة في تسليم عين الواجب ، كما هي موجودة في تسليم مثله ، فيجوز إطلاق القضاء على الأداء بطريق الحقيقة لعموم معناه ، إلاّ أنّه لمّا اختصّ بتسليم المثل عرفاً أو شرعاً كان في غيره مجازاً ، وكان إطلاقه على الأداء حقيقةً لغويّةً ، مجازاً عرفيّاً أو شرعيّاً . ويشمل أيضاً أداء ما على الإنسان من حقوقٍ لغيره كقولهم : لو عرف الوصيّ ديناً على الميّت فقضاه لا يأثم . .
ب - الاستيفاء :
3 - الاستيفاء : طلب الوفاء ، يقال : استوفيت من فلانٍ ما لي عليه أي : أخذته حتّى لم يبق عليه شيء ، واستوفيت المال : إذا أخذته كلّه . وهو بذلك نوع من أنواع الاقتضاء . دلالة الاقتضاء :
4 - دلالة الاقتضاء هي تقدير محذوفٍ يتوقّف عليه صحّة الكلام أو صدقه .
والكلام الّذي لا يصحّ إلاّ بالزّيادة هو المقتضى ، والمزيد هو المقتضي ، وطلب الزّيادة هو الاقتضاء ، والحكم الّذي ثبت به هو حكم المقتضي ، ومثاله ما يتوقّف عليه لصحّة قول القائل : أعتق عبدك عنّي بألفٍ ، فنفس هذا الكلام هو المقتضي ، لعدم صحّته في نفسه شرعاً ، لأنّ العتق فرع الملكيّة ، فكأنّه قال : بعني عبدك بكذا أو وكّلتك في إعتاقه ، وطلب الزّيادة الّتي يصحّ بها الكلام هي الاقتضاء ، وهذه الزّيادة ( وهي البيع ) هي المقتضى ، وما ثبت بالبيع ( وهو الملك ) هو حكم المقتضي ، ومثاله ما يتوقّف عليه صدق المتكلّم ، كقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » فإنّ رفع الخطأ وغيره مع تحقّقه ممتنع فلا بدّ من إضمار نفي حكمٍ يمكن نفيه ، كنفي المؤاخذة والعقاب .
ومنه ما أضمر لصحّة الكلام عقلاً ، كقوله تعالى : { واسأل القرية } ، فإنّه لا بدّ من إضمار ( أهل ) لصحّة الملفوظ به عقلاً .
الاقتضاء بمعنى الطّلب :
5 - الحكم التّكليفيّ هو : خطاب اللّه تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتضاء أو التّخيير . والاقتضاء - وهو الطّلب - إمّا أن يكون طلب الفعل أو طلب تركه . وطلب الفعل ، إن كان على سبيل الجزم فهو الإيجاب ، وإن كان غير جازمٍ فهو النّدب . وأمّا طلب التّرك ، فإن كان جازماً فهو التّحريم ، وإن كان غير جازمٍ فهو الكراهة .
أمّا التّخيير فهو قسيم الاقتضاء ، إذ هو ما كان فعله وتركه على السّواء .
اقتضاء الحقّ :
6 - الشّائع في استعمال الفقهاء هو التّعبير بلفظ ( الاستيفاء ) مقصوداً به أخذ الحقّ ، سواء أكان حقّاً ماليّاً كاستيفاء الأجير أجرته ، أم كان حقّاً غير ماليٍّ كاستيفاء المنافع والقصاص وغير ذلك .
ويأتي الاقتضاء بمعنى طلب قضاء الحقّ ، ومنه الحديث : « رحم اللّه رجلاً سمحاً إذا باع ، وإذا اشترى ، وإذا اقتضى » قال ابن حجرٍ في شرحه : أي طلب قضاء حقّه بسهولةٍ وعدم إلحافٍ . ( ر : اتّباع . استيفاء ) .
اقتناء *
التّعريف :
1 - الاقتناء : مصدر اقتنى الشّيء يقتنيه ، إذا اتّخذه لنفسه ، لا للبيع أو للتّجارة . يقال : هذه الفرس قنية ، وقنية ( بكسر القاف وضمّها ) إذا اتّخذها للنّسل أو للرّكوب ونحوهما ، لا للتّجارة . وقنوت البقرة ، وقنيتها : أي اتّخذتها للحلب أو الحرث . ومال قنيانٍ : إذا اتّخذته لنفسك . والمعنى الاصطلاحيّ لهذا اللّفظ لا يفترق عن المعنى اللّغويّ .
حكم الاقتناء :
2 - الاقتناء للأشياء قد يكون مباحاً ، بل قد يكون مندوباً ، مثل اقتناء المصاحف وكتب الحديث والعلم . وقد يكون مباحاً في حالٍ دون حالٍ ، مثل اقتناء الذّهب والفضّة ، واقتناء الكلب المعلّم وغير ذلك من المباحات بشروطها ، ينظر تفصيلها في مصطلح ( إباحة ) .
وقد يكون حراماً مثل الخنزير والخمر وآلات اللّهو المحرّم .
3 - وقد تعرّض الفقهاء لزكاة المقتنيات وقالوا : لا يزكّى المقتنى من النّعم في الجملة إلاّ ما أسيم لحملٍ أو ركوبٍ أو نسلٍ ، إذا بلغت نصاباً ، لقوله عليه الصلاة والسلام « في خمسٍ من الإبل السّائمة صدقة »
كما يزكّى المقتنى من الذّهب والفضّة مضروبها وتبرها وحليّها وآنيّتها ، نوى التّجارة أو لم ينو ، إذا بلغ ذلك نصاباً . وهذا عند الحنفيّة ، ووافقهم على ذلك المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في الجملة ، إلاّ في حليّ النّساء . ( ر : زكاة ) .
اقتيات *
التّعريف :
1 - الاقتيات لغةً : مصدر اقتات ، واقتات : أكل القوت ، والقوت : ما يؤكل ليمسك الرّمق ، كالقمح والأرز .
والأشياء المقتاتة : هي الّتي تصلح أن تكون قوتاً تغذّى به الأجسام على الدّوام ، بخلاف ما يكون قواماً للأجسام لا على الدّوام .
ويستعمل الاقتيات عند الفقهاء بالمعنى اللّغويّ ، إذ عرّفه الدّسوقيّ بأنّه : ما تقوم البنية باستعماله بحيث لا تفسد عند الاقتصار عليه .
والأغذية أعمّ من القوت ، فإنّها قد يتناولها الإنسان تقوّتاً أو تأدّماً أو تفكّهاً أو تداوياً .
الحكم الإجماليّ : ومواطن البحث :
2 - يتكلّم الفقهاء عن الاقتيات في الزّكاة ، وفي بيع الرّبويّات ، وفي الاحتكار .
ففي الزّكاة لا يخالف أحد من الفقهاء في وجوب الزّكاة في الزّروع والثّمار إن كانت ممّا يقتات اختياراً ويدّخر ، أمّا غير القوت ففي بعض أنواعه زكاة عند بعض الفقهاء ، ولا زكاة فيه عند البعض الآخر .
3 - وفي بيع الرّبويّات لا يعتبر الاقتيات علّةً في الرّبا عند جمهور الفقهاء .
وعند المالكيّة : علّة الرّبا الاقتيات والادّخار ، إذ حرّموا الرّبا في كلّ ما كان قوتاً مدّخراً ، ونفوه عمّا ليس بقوتٍ كالفواكه ، وعمّا هو قوت لا يدّخر كاللّحم ، وفي معنى الاقتيات عندهم : ما يصلح القوت كالملح والتّوابل .
وفي الاحتكار يتّفق الفقهاء على منع احتكار الأقوات على اختلافٍ بينهم في ذلك المنع ، فأغلبهم على تحريمه . ونظراً لأهمّيّة الأقوات لكلّ النّاس قال أكثر الفقهاء : الاحتكار لا يجري إلاّ في الأقوات . وقد سبق تفصيل ذلك في بحث ( احتكار ) ..
أقراء *
انظر : قرء .
إقراء *
التّعريف :
1 - الإقراء لغةً : الحمل على القراءة ، يقال : أقرأ غيره يقرئه إقراءً . وأقرأه القرآن فهو مقرئ ، وإذا قرأ الرّجل القرآن أو الحديث على الشّيخ يقول : أقرأني فلان ، أي حملني على أن أقرأ عليه . ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ . ( الحمل على القراءة ) سواء أكان ذلك بقصد الاستماع والذّكر ، أم كان بقصد التّعليم والحفظ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - القراءة والتّلاوة :
2 - القراءة والتّلاوة بمعنًى واحدٍ ، تقول : فلان يتلو كتاب اللّه : أي يقرؤه ويتكلّم به ، قال اللّيث : تلا يتلو تلاوةً يعني : قرأ ، والغالب في التّلاوة أنّها تكون للقرآن ، وجعله بعضهم أعمّ من تلاوة القرآن وغيره .
ب - المدارسة :
3 - المدارسة هي : أن يقرأ الشّخص على غيره ، ويقرأ غيره عليه .
ج - الإدارة :
4 - الإدارة هي : أن يقرأ بعض الجماعة قطعةً ، ثمّ يقرأ غيرهم ما بعدها ، وهكذا .
الحكم الإجماليّ :
5 - الإقراء بقصد الذّكر واستماع القرآن - وخاصّةً ممّن كان صوته حسناً - أمر مستحبّ . فعن ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه قال : « قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : اقرأ عليّ القرآن ، فقلت : يا رسول اللّه أقرأ عليك ، وعليك أنزل ؟ قال : إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري ، قال : فقرأت عليه سورة النّساء حتّى جئت إلى هذه الآية : { فكيف إذا جئنا من كلّ أمّةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } قال : حسبك الآن ، فالتفت إليه فإذا عيّناه تذرفان » . وفي ذلك تفصيل : ( ر : استماع - قرآن ) .
6- والإقراء بقصد التّعليم والحفظ ، ومنه قوله تعالى : { سنقرئك فلا تنسى } . فهو يعتبر في الجملة من فروض الكفاية . جاء في منح الجليل : من فروض الكفاية القيام بعلوم الشّرع ممّن هو أهل له ، غير ما يجب عيناً ، وهو ما يحتاجه الشّخص في نفسه ، ثمّ قال : والمراد بالقيام بها حفظها وإقراؤها وقراءتها وتحقيقها .
ويتعلّق بذلك أحكام مختلفة كأخذ الأجرة على ذلك . وينظر تفصيل ذلك في - ( تعليم - إجارة - اعتكاف ) .
إقرار *
التّعريف :
1 - من معاني الإقرار في اللّغة : الاعتراف . يقال : أقرّ بالحقّ إذا اعترف به . وأقرّ الشّيء أو الشّخص في المكان : أثبته وجعله يستقرّ فيه .
وفي اصطلاح الفقهاء ، الإقرار : هو الإخبار عن ثبوت حقٍّ للغير على المخبر ، وهذا تعريف الجمهور . وذهب بعض الحنفيّة إلى أنّه إنشاء ، وذهب آخرون منهم إلى أنّه إخبار من وجهٍ ، وإنشاء من وجهٍ .
والإقرار عند المحدّثين والأصوليّين هو : عدم الإنكار من النّبيّ صلى الله عليه وسلم على قولٍ أو فعلٍ صدر أمامه . وتنظر أحكامه في مصطلح ( تقرير ) ، والملحق الأصوليّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاعتراف :
2 - الاعتراف لغةً : مرادف للإقرار . يقال : اعترف بالشّيء : إذا أقرّ به على نفسه . وهو كذلك عند الفقهاء . يقول قاضي زاده : روي في السّنّة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « رجم ماعزاً بإقراره بالزّنى ، والغامديّة باعترافها » ، « وقال في قصّة العسيف : واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها » . فأثبت الحدّ بالاعتراف . فالاعتراف إقرار ، وقال القليوبيّ : إنّه تفسير بالمرادف .
ب - الإنكار :
3 - الإنكار : ضدّ الإقرار . يقال في اللّغة : أنكرت حقّه : إذا جحدته .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ ( ر : مصطلح : إنكار ) .
والمنكر في الاصطلاح : من يتمسّك ببقاء الأصل .
ج - الدّعوى :
4 - الدّعوى في الاصطلاح : مباينة للإقرار ، فهي قول مقبول عند القاضي يقصد به طلب حقٍّ قبل الغير ، أو دفع الخصم عن حقّ نفسه .
د - الشّهادة :
5 - الشّهادة هي : الإخبار في مجلس الحكم بلفظ الشّهادة لإثبات حقٍّ للغير على الغير . فيجمع كلّاً من الإقرار والدّعوى والشّهادة أنّها إخبارات ، والفرق بينها أنّ الإخبار إن كان عن حقٍّ سابقٍ على المخبر ويقتصر حكمه عليه فإقرار ، وإن لم يقتصر : فإمّا ألاّ يكون للمخبر فيه نفع ، وإنّما هو إخبار عن حقٍّ لغيره على غيره فهو الشّهادة ، وإمّا أن يكون للمخبر نفع فيه ، لأنّه إخبار بحقٍّ له ، فهو الدّعوى .
كما تفترق من ناحية أنّ الإقرار يصحّ بالمبهم ويلزم تعيينه .
أمّا الدّعوى بالمبهم فإن كانت بما يصحّ وقوع العقد عليه مبهماً كالوصيّة فإنّها تصحّ . وأمّا الدّعوى على المدّعى عليه المبهم فلا تصحّ ، ولا تسمع .
وأمّا الشّهادة بالمبهم فإن كان المشهود به يصحّ مبهماً صحّت الشّهادة به كالعتق والطّلاق ، وإلاّ لم تصحّ ، لا سيّما الشّهادة الّتي لا تصحّ بدون دعوى .
الحكم التّكليفيّ :
6 - الأصل في الإقرار بحقوق العباد الوجوب ، ومن ذلك : الإقرار بالنّسب الثّابت لئلاّ تضيع الأنساب ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال حين نزلت آية الملاعنة : « أيّما رجلٍ جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب اللّه عنه وفضحه اللّه على رءوس الأوّلين والآخرين » ،وكذلك الإقرار بالحقّ الّذي عليه للغير إذا كان متعيّناً لإثباته ، لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب .
دليل مشروعيّة الإقرار :
7 - ثبتت حجّيّة الإقرار بالكتاب والسّنّة والإجماع والمعقول .
أمّا الكتاب فقوله تعالى : { وليملل الّذي عليه الحقّ } أمره بالإملال ، فلو لم يقبل إقراره لمّا كان لإملاله معنًى .
وقوله تعالى : { بل الإنسان على نفسه بصيرة } أي شاهد كما قاله ابن عبّاسٍ .
وأمّا السّنّة : فما روي أنّه عليه الصلاة والسلام « رجم ماعزاً والغامديّة بإقرارهما » ، فإذا وجب الحدّ بإقراره على نفسه فالمال أولى أن يجب .
وأمّا الإجماع : فلأنّ الأمّة أجمعت على أنّ الإقرار حجّة قاصرة على المقرّ ، حتّى أوجبوا عليه الحدود والقصاص بإقراره ، والمال أولى .
وأمّا المعقول : فلأنّ العاقل لا يقرّ على نفسه كاذباً بما فيه ضرر على نفسه أو ماله ، فترجّحت جهة الصّدق ، في حقّ نفسه ، لعدم التّهمة ، وكمال الولاية .
أثر الإقرار :
8 - أثر الإقرار ظهور ما أقرّ به ، أي ثبوت الحقّ في الماضي ، لا إنشاء الحقّ ابتداءً ، فلو أقرّ لغيره بمالٍ والمقرّ له يعلم أنّ المقرّ كاذب في إقراره ، لا يحلّ له أخذ المال عن كرهٍ منه فيما بينه وبين اللّه تعالى ، إلاّ أن يسلّمه إيّاه بطيب نفسٍ منه فيكون تمليكاً مبتدأً على سبيل الهبة . وقال صاحب النّهاية ومن يحذو حذوه : حكمه لزوم ما أقرّ به على المقرّ .
حجّيّة الإقرار :
9 - الإقرار خبر ، فكان محتملاً للصّدق والكذب باعتبار ظاهره ، ولكنّه جعل حجّةً لظهور رجحان جانب الصّدق فيه ، إذ المقرّ غير متّهمٍ فيما يقرّ به على نفسه .
قال ابن القيّم : الحكم بالإقرار يلزم قبوله بلا خلافٍ .
والأصل أنّ الإقرار حجّة بنفسه ، ولا يحتاج لثبوت الحقّ به إلى القضاء ، فهو أقوى ما يحكم به ، وهو مقدّم على البيّنة . ولهذا يبدأ الحاكم بالسّؤال عنه قبل السّؤال عن الشّهادة . قال القاضي أبو الطّيّب : ولهذا لو شهد شاهدان للمدّعي ثمّ أقرّ المدّعى عليه حكم بالإقرار وبطلت الشّهادة . ولذا قيل : إنّه سيّد الحجج .
على أنّ حجّيّته قاصرة على المقرّ وحده لقصور ولاية المقرّ عن غيره فيقتصر عليه . فلا يصحّ إلزام أحدٍ بعقوبةٍ نتيجة إقرار آخر بأنّه شاركه في جريمته . وهذا ما جرى عليه القضاء في عهد الرّسول صلى الله عليه وسلم . فقد روي أنّ « رجلاً جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إنّه قد زنى بامرأةٍ - سمّاها - فأرسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فدعاها فسألها عمّا قال ، فأنكرت فحدّه وتركها » .
غير أنّ هناك بعض حالاتٍ لا بدّ فيها للحكم بمقتضى الإقرار من إقامة البيّنة أيضاً . وهذا إذا ما طلب تعدّي الحكم إلى الغير . فلو ادّعى شخص على مدين الميّت أنّه وصيّه في التّركة ، وصدّقه المدين في دعوى الوصاية والدّين ، فإنّ الوصاية لا تثبت بهذا الإقرار بالنّسبة لمدينٍ آخر ينكر الوصاية وإنّما يحتاج إلى بيّنةٍ .
وفي الدّرّ المختار : أحد الورثة أقرّ بالدّين المدّعى به على مورثه ، وجحده الباقون ، يلزمه الدّين كلّه إن وفّت حصّته من الميراث به ، وقيل : لا يلزمه إلاّ حصّته من الدّين رفعاً للضّرر عنه ، لأنّه إنّما أقرّ بما يتعلّق بكلّ التّركة . وهو قول الشّعبيّ والبصريّ والثّوريّ ومالكٍ وابن أبي ليلى ، واختاره ابن عابدين ، ولو شهد هذا المقرّ مع آخر أنّ الدّين كان على الميّت قبلت شهادته ، ولا يؤخذ منه إلاّ ما يخصّه .
وبهذا علم أنّه لا يحلّ الدّين في نصيبه بمجرّد إقراره ، بل بقضاء القاضي عليه بإقراره . يقول ابن عابدين : ولو أقرّ من عنده العين أنّه وكيل بقبضها لا يكفي إقراره ، ويكلّف الوكيل إقامة البيّنة على إثبات الوكالة حتّى يكون له قبض ذلك . ثمّ الإقرار حجّة في النّسب ، ويثبت به النّسب إلاّ إذا كذّبه الواقع ، كأن يقرّ بنسب من لا يولد مثله لمثله .
سبب الإقرار :
10 - سبب الإقرار كما يقول الكمال بن الهمام : إرادة إسقاط الواجب عن ذمّته بإخباره وإعلامه ، لئلاّ يبقى في تبعة الواجب .
ركن الإقرار :
11 - أركان الإقرار عند غير الحنفيّة أربعة : مقرّ ، ومقرّ له ، ومقرّ به ، وصيغة ، وذلك لأنّ الرّكن عندهم هو ما لا يتمّ الشّيء إلاّ به ، سواء أكان جزءاً منه أم لازماً له . وزاد بعضهم كما يقول الرّمليّ : المقرّ عنده من حاكمٍ أو شاهدٍ ، وقال : وهذه الزّيادة محلّ نظرٍ ، إذ لو توقّف تحقّق الإقرار على ذلك لزم أنّه لو أقرّ خالياً بحيث لا يسمعه شاهد ، ولم يكن أمام قاضٍ ، ثمّ بعد مدّةٍ تبيّن أنّه أقرّ على هذا الوجه في يوم كذا ، لم يعتدّ بهذا الإقرار ، لعدم وجود هذا الرّكن الزّائد ، وهو ممنوع ، ولذا فإنّه لا يشترط .
وأمّا ركن الإقرار عند الحنفيّة فهو الصّيغة فقط ، صراحةً كانت أو دلالةً ، وذلك لأنّ الرّكن عندهم : ما يتوقّف عليه وجود الشّيء ، وهو جزء من ماهيّته .
المقرّ وما يشترط فيه :
المقرّ من صدر منه الإخبار عن ثبوت حقٍّ للغير على نفسه وتشترط فيه أمور :
الشّرط الأوّل : المعلوميّة :
12 - أوّل ما يشترط لاعتبار الإقرار والأخذ به أن يكون المقرّ معلوماً حتّى لو قال رجلان : لفلانٍ على واحدٍ منّا ألف درهمٍ لا يصحّ ، لأنّه إذا لم يكن معلوماً لا يتمكّن المقرّ له من المطالبة ، وكذلك إذا قال أحدهما : غصب واحد منّا ، أو زنى ، أو سرق ، أو شرب ، أو قذف ، لأنّ من عليه الحقّ غير معلومٍ ويجبران على البيان .
الشّرط الثّاني : العقل :
13 - ويشترط في المقرّ أن يكون عاقلاً . فلا يصحّ إقرار الصّبيّ غير المميّز والمجنون والمعتوه والنّائم والسّكران على تفصيلٍ يأتي بيانه .
إقرار المعتوه :
14 - لا يصحّ إقرار المعتوه ولو بعد البلوغ ، لأنّ حكمه حكم الصّبيّ المميّز ، فلا يلتزم بشيءٍ فيه ضرر إلاّ إذا كان مأذوناً له فيصحّ إقراره بالمال ، لكونه من ضرورات التّجارة : كالدّيون ، والودائع ، والعواريّ ، والمضاربات ، والغصوب ، فيصحّ إقراره . لالتحاقه في حقّها بالبالغ العامل . بخلاف ما ليس من باب التّجارة : كالمهر ، والجناية ، والكفالة ، حيث لا يصحّ إقراره بها لأنّها لا تدخل تحت الإذن .
إقرار النّائم والمغمى عليه :
15 - النّائم والمغمى عليه إقرارهما كإقرار المجنون ، لأنّهما حال النّوم والإغماء ليسا من أهل المعرفة والتّمييز ، وهما شرطان لصحّة الإقرار .
إقرار السّكران :
16 - السّكران من فقد عقله بشرب ما يسكر ، وإقرار السّكران جائز بالحقوق كلّها إلاّ الحدود الخالصة ، والرّدّة بمنزلة سائر التّصرّفات . وهذا عند الحنفيّة والمزنيّ من الشّافعيّة وأبي ثورٍ إذا كان سكره بطريقٍ محظورٍ ، لأنّه لا ينافي الخطاب ، إلاّ إذا أقرّ بما يقبل الرّجوع كالحدود الخالصة حقّاً للّه تعالى ، لأنّ السّكران يكاد لا يثبت على شيءٍ فأقيم السّكر مقامه فيما يحتمل الرّجوع فلا يلزمه شيء .
وإن سكر بطريقٍ غير محرّمٍ ، كمن شرب المسكر مكرهاً لا يلزمه شيء ، وكذا من شرب ما لا يعلم أنّه مسكر فسكر بذلك .
وقال المالكيّة : إنّ السّكران لا يؤاخذ بإقراره ، لأنّه وإن كان مكلّفاً إلاّ أنّه محجور عليه في المال ، وكما لا يلزمه إقراره . لا تلزمه العقود ، بخلاف جناياته فإنّها تلزمه .
وقال جمهور الشّافعيّة : إقرار السّكران صحيح ، ويؤاخذ به في كلّ ما أقرّ به ، سواء وقع الاعتداء فيها على حقّ اللّه سبحانه أو على حقّ العبد ، لأنّ المتعدّي بسكره يجب أن يتحمّل نتيجة عمله ، تغليظاً عليه وجزاءً لما أقدم عليه وهو يعلم أنّه سيذهب عقله .
17 - أمّا من تغيّب عقله بسببٍ يعذر فيه فلا يلزم بإقراره ، سواء أقرّ بما يجب فيه الحدّ حقّاً للّه خالصاً أو ما فيه حقّ العبد أيضاً .
وكذا فإنّه لا يصحّ إقرار السّكران في روايةٍ عند الحنابلة ، قال ابن منجّا : إنّها المذهب وجزم به في الوجيز وغيره . وجاء في أوّل كتاب الطّلاق عند الحنابلة أنّ في أقوال السّكران وأفعاله خمس رواياتٍ أو ستّة ، وأنّ الصّحيح في المذهب : أنّه مؤاخذ بعبارته .
إقرار السّفيه :
18 - السّفيه بعد الحجر عليه لا يصحّ إقراره بالمال ، لأنّه من التّصرّفات الضّارّة المحضة من حيث الظّاهر ، وإنّما قبل الإقرار من المأذون للضّرورة .
وإذا بلغ الصّبيّ سفيهاً أو ذا غفلةٍ وحجر عليه بسبب ذلك أو اعتبر محجوراً عليه فإنّه في تصرّفاته الماليّة الضّارّة يأخذ حكم الصّبيّ المميّز ، فإذا تزوّج وأقرّ بأنّ المهر الّذي قرّره لها أكثر من مهر المثل فالزّيادة باطلة ، وهكذا فإنّ القاضي يردّ كلّ تصرّفاته الماليّة الضّارّة . وعلى القول بأنّ الحجر عليه لا بدّ من الحكم به ولا يكون تلقائيّاً بسبب السّفه فإنّ السّفيه المهمل - أي الّذي لم يحجر عليه - يصحّ إقراره .
ونصّ الشّافعيّة على أنّه لا يصحّ إقراره بنكاحٍ ، ولا بدينٍ أسند وجوبه إلى ما قبل الحجر ، أو إلى ما بعده ، ولا يقبل إقراره بعينٍ في يده في حال الحجر ، وكذا بإتلاف مال الغير ، أو جناية توجب المال في الأظهر . وفي قولٍ عندهم يقبل ، لأنّه إذا باشر الإتلاف يضمن ، فإذا أقرّ به قبل إقراره ، ويصحّ إقراره بالحدّ والقصاص لعدم تعلّقهما بالمال ، وسائر العقوبات مثلهما لبعد التّهمة ، ولو كان الحدّ سرقةً قطع ، ولا يلزمه المال .
وذكر الأدميّ البغداديّ من الحنابلة : أنّ السّفيه إن أقرّ بحدٍّ أو قودٍ أو نسبٍ أو طلاقٍ لزم - ويتبع به في الحال - وإن أقرّ بمالٍ أخذ به بعد رفع الحجر عنه . والصّحيح من مذهب الحنابلة : صحّة إقرار السّفيه بالمال سواء لزمه باختياره أو لا ، ويتبع به بعد فكّ الحجر عنه ، وقيل : لا يصحّ مطلقاً ، وهو احتمال ذكره ابن قدامة في المقنع في باب الحجر ، واختاره هو والشّارح .
الشّرط الثّالث : البلوغ :
19 - أمّا البلوغ فإنّه ليس بشرطٍ لصحّة الإقرار فيصحّ إقرار الصّبيّ العاقل المأذون له بالدّين والعين ، لأنّ ذلك من ضرورات التّجارة ، ويصحّ إقراره في قدر ما أذن له فيه دون ما زاد ، ونصّ الحنابلة على أنّه المذهب وعليه جمهور الأصحاب ، وهو قول أبي حنيفة . وقال الشّافعيّ : لا يصحّ إقراره بحالٍ لعموم الخبر : « رفع القلم عن ثلاثةٍ ، عن الصّبيّ حتّى يبلغ ، وعن المجنون حتّى يفيق ، وعن النّائم حتّى يستيقظ » ولأنّه لا تقبل شهادته ، وفي قولٍ عند الحنابلة : إنّه لا يصحّ إقرار المأذون له إلاّ في الشّيء اليسير . إلاّ أنّه لا يصحّ إقرار المحجور عليه ، لأنّه من التّصرّفات الضّارّة المحضة من حيث الظّاهر . ويقبل إقرار الصّبيّ ببلوغه الاحتلام في وقت إمكانه ، إذ لا يمكن معرفة ذلك إلاّ من جهته ، وكذا ادّعاء الصّبيّة البلوغ برؤية الحيض . ولو ادّعى البلوغ بالسّنّ قبل ببيّنةٍ ، وقيل : يصدّق في سنٍّ يبلغ في مثلها ، وهي تسع سنين ، وقيل : عشر سنين ، وقيل : اثنتا عشرة سنةً ، ويلزمه بهذا البلوغ ما أقرّ به . وأفتى الشّيخ تقيّ الدّين : فيمن أسلم أبوه ، فادّعى أنّه بالغ ، بأنّه إذا كان لم يقرّ بالبلوغ إلى حين الإسلام فقد حكم بإسلامه قبل الإقرار بالبلوغ . وذلك بمنزلة ما إذا ادّعت انقضاء العدّة بعد أن ارتجعها ، وقال : هذا يجيء في كلّ من أقرّ بالبلوغ بعد حقٍّ ثبت في حقّ الصّبيّ ، مثل الإسلام ، وثبوت أحكام الذّمّة تبعاً لأبيه .
الشّرط الرّابع : فهم المقرّ لما يقرّ به .
20 - لا بدّ للزوم الإقرار واعتباره أن تكون الصّيغة مفهومةً للمقرّ فلو لقّن العامّيّ كلماتٍ عربيّةً لا يعرف معناها لم يؤاخذ بها ، لأنّه لمّا لم يعرف مدلولها يستحيل عليه قصدها ، لأنّ العامّيّ - غير المخالط للفقهاء - يقبل منه دعوى الجهل بمدلول كثيرٍ من ألفاظ الفقهاء ، بخلاف المخالط فلا يقبل منه فيما لا يخفى على مثله معناه . وبالأولى لو أقرّ العربيّ بالعجميّة أو العكس وقال : لم أدر ما قلت ، صدّق بيمينه ، لأنّه أدرى بنفسه والظّاهر معه .
الشّرط الخامس : الاختيار :
21 - ويشترط في المقرّ الاختيار ، مدعاةً للصّدق ، فيؤاخذ به المكلّف بلا حجرٍ ، أي حال كونه غير محجورٍ عليه . فإذا أقرّ الحرّ البالغ العاقل طواعيةً بحقٍّ لزمه .
وقال الحنابلة : إنّه يصحّ من مكلّفٍ مختارٍ بما يتصوّر منه التزامه ، بشرط كونه بيده وولايته واختصاصه ، ولو على موكّله أو مورثه أو مولّيه .
الشّرط السّادس : عدم التّهمة :
22 - ويشترط في المقرّ لصحّة إقراره أن يكون غير متّهمٍ في إقراره ، لأنّ التّهمة تخلّ برجحان الصّدق على جانب الكذب في إقراره ، لأنّ إقرار الإنسان على نفسه شهادة . قال اللّه تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم } والشّهادة على نفسه إقرار . والشّهادة ترد بالتّهمة . ومن أمثلته : ما لو أقرّ لمن بينه وبينه صداقة أو مخالطة .
23 - وممّن يتّهم في إقراره المدين المحجور عليه ، لإحاطة الدّين بماله الّذي حجر عليه فيه ، وهو ما يعبّر عنه بالمفلس .
بل صرّح المالكيّة أنّ هذا القيد - ألاّ يكون متّهماً - إنّما يعتبر في المريض ونحوه والصّحيح المحجور عليه ، لإحاطة الدّين بماله الّذي حجر عليه فيه . والصّحيح : أنّ المفلس بالنّسبة لما فلّس فيه متّهم في إقراره ، فلا يقبل إقراره لأحدٍ ، حيث كان الدّين الّذي فلّس فيه ثابتاً بالبيّنة ، لأنّه متّهم على ضياع مال الغرماء ، ولا يبطل الإقرار ، بل هو لازم يتبع به في ذمّته ، ويؤاخذ به المقرّ فيما يجدّ له من مالٍ فقط ، ولا يحاصّ المقرّ له الغرماء بالدّين الّذي أقرّ له به المفلس .
ونقل القاضي عن الإمام أحمد أنّ المفلس إذا أقرّ ، وعليه دين ببيّنةٍ ، يبدأ بالدّين الّذي بالبيّنة ، لأنّه أقرّ بعد تعلّق الحقّ بتركته ، فوجب ألاّ يشارك المقرّ له من ثبت دينه ببيّنةٍ ، كغريم المفلس الّذي أقرّ له بعد الحجر عليه ، وبهذا قال النّخعيّ والثّوريّ وأصحاب الرّأي . وفصّل الشّافعيّة ، فقالوا : لو أقرّ المفلس بعينٍ أو دينٍ وجب قبل الحجر ، فالأظهر قبوله في حقّ الغرماء لانتفاء التّهمة الظّاهرة ، وقيل : لا يقبل إقراره في حقّ الغرماء ، لئلاّ يضرّهم بالمزاحمة ، ولأنّه ربّما واطأ المقرّ له .
وإن أسند وجوبه إلى ما بعد الحجر لم يقبل في حقّهم ، بل يطالب بعد فكّ الحجر . ولو لم يسند وجوبه إلى ما قبل الحجر ولا لما بعده ، فقياس المذهب - على ما قاله الرّافعيّ - تنزيله على الأقلّ ، وهو جعله كالمسند إلى ما بعد الحجر .
إقرار المريض مرض الموت :
24 - وممّن يتّهم في إقراره : المريض مرض موتٍ في بعض الحالات على ما سنبيّنه في مصطلح ( مرض الموت ) وإن كان الأصل أنّ المرض ليس بمانعٍ من صحّة الإقرار في الجملة . إذ الصّحّة ليست شرطاً في المقرّ لصحّة إقراره ، لأنّ صحّة إقرار الصّحيح برجحان جانب الصّدق ، وحال المريض أدلّ على الصّدق ، فكان إقراره أولى بالقبول . غير أنّ المالكيّة نصّوا على أنّ من أقرّ بشيءٍ في صحّته : بشيءٍ من المال ، أو الدّين ، أو البراءات ، أو قبض أثمان المبيعات ، فإقراره عليه جائز ، لا تلحقه فيه تهمة ، ولا يظنّ فيه توليج ، والأجنبيّ والوارث في ذلك سواء ، وكذا القريب والبعيد والعدوّ والصّديق .
ويقول الحطّاب : من أقرّ بشيءٍ في صحّته لبعض ورثته ، قدّم المقرّ له بعد موت المقرّ ، ويقيم البيّنة على الإقرار . قال ابن رشدٍ : هذا هو المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالكٍ المشهور في المذهب . ووقع في المبسوط لابن كنانة والمخزوميّ وابن أبي حازمٍ ومحمّد بن مسلمة أنّه لا شيء له ، وإن أقرّ له في صحّته إذا لم يقم عليه بذلك بيّنةً حتّى هلك إلاّ أن يعرف سبب ذلك ، فإن عرف ذلك فبها وإلاّ فإذا لم يعرف له سبب فلا شيء له ، لأنّ الرّجل يتّهم أن يقرّ بدينٍ في صحّته لمن يثق به من ورثته على ألاّ يقوم به حتّى يموت . وقيل : إنّه نافذ ويحاصّ به الغرماء في الفلس ، وهو قول ابن القاسم في المدوّنة والعتبيّة ، وقال ابن رشدٍ : لا يحاصّ به على قول ابن القاسم إن ثبت ميله إليه إلاّ باليمين ، واختار ابن رشدٍ إبطال الإقرار بالدّين مراعاةً لقول المدنيّين .
وعلى هذا فإقرار المريض مرض موتٍ بالحدّ والقصاص مقبول اتّفاقاً ، وكذا إقراره بدينٍ لأجنبيٍّ فإنّه ينفذ من كلّ ماله ما لم يكن عليه ديون أقرّ بها في حال صحّته عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وأصحّ الرّوايات عند الحنابلة ، وهو المذهب عندهم ، وجزم به في الوجيز ، لأنّه لم يتضمّن إبطال حقّ الغير وكان المقرّ له أولى من الورثة ، لقول عمر : إذا أقرّ المريض بدينٍ جاز ذلك عليه في جميع تركته ، ولأنّ قضاء الدّين من الحوائج الأصليّة ، وحقّ الورثة يتعلّق بالتّركة بشرط الفراغ . وفي رواية عند الحنابلة : أنّه لا يقبل ، وفي روايةٍ أخرى عندهم لا يصحّ بزيادةٍ على الثّلث .
قال ابن قدامة : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ إقرار المريض في مرضه لغير وارثٍ جائز ، وحكى أصحابنا روايةً أخرى أنّه لا يقبل ، لأنّه إقرار في مرض الموت أشبه الإقرار لوارثٍ . وقال أبو الخطّاب في روايةٍ أخرى : إنّه لا يقبل إقراره بزيادةٍ على الثّلث ، لأنّه ممنوع من عطيّة ذلك الأجنبيّ ، كما هو ممنوع من عطيّة الوارث ، فلا يصحّ إقراره بما لا يملك عطيّته بخلاف الثّلث فما دون . والمقصود بالأجنبيّ هنا أن يكون غير وارثٍ في المقرّ فيشمل القريب غير الوارث . ويصرّح المالكيّة بذلك فيقولون : إن أقرّ لقريبٍ غير وارثٍ كالخال أو لصدّيقٍ ملاطفٍ أو مجهولٍ حاله - لا يدرى هل هو قريب أم لا - صحّ الإقرار إن كان لذلك المقرّ ولد وإلاّ فلا ، وقيل : يصحّ .
وأمّا لو أقرّ لأجنبيٍّ غير صديقٍ كان الإقرار لازماً كان له ولد أم لا . وقال الشّافعيّة : للوارث تحليف المقرّ له على الاستحقاق .
وأمّا إقرار المريض لوارثٍ فهو باطل إلاّ أن يصدّقه الورثة أو يثبت ببيّنةٍ عند الحنفيّة والمذهب عند الحنابلة ، وفي قولٍ للشّافعيّة . وعند المالكيّة : إن كان متّهماً في إقراره كأن يقرّ لوارثٍ قريبٍ مع وجود الأبعد أو المساوي ، كمن له بنت وابن عمٍّ فأقرّ لابنته لم يقبل وإن أقرّ لابن عمّه قبل ، لأنّه لا يتّهم في أنّه يزري ابنته ويوصّل المال إلى ابن عمّه . وعلّة منع الإقرار التّهمة ، فاختصّ المنع بموضعها .
وأطال المالكيّة في تصوير ذلك والتّفريع عليه . وقالوا : من مرض بعد الإشهاد في صحّته لبعض ولده فلا كلام لبقيّة أولاده إن كتب الموثّق أنّ الصّحيح قبض من ولده ثمن ما باعه له ، فإن لم يكتب فقيل : يحلف مطلقاً . وقيل : يحلف إن اتّهم الأب بالميل إليه .
قال الموّاق : لا يقبل إقرار المريض لمن يتّهم عليه . وسئل المازريّ عمّن أوصى بثلث ماله ، ثمّ اعترف بدنانير لمعيّنٍ : فأجاب إن اعترف في صحّته حلف المقرّ له يمين القضاء . واستدلّ القائلون ببطلان الإقرار بما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا وصيّة لوارثٍ ، ولا إقرار له بالدّين » ، وبالأثر عن ابن عمر أنّه قال : " إذا أقرّ الرّجل في مرضه بدينٍ لرجلٍ غير وارثٍ فإنّه جائز وإن أحاط بماله ، وإن أقرّ لوارثٍ فهو باطل إلاّ أن يصدّقه الورثة " . وقول الواحد من فقهاء الصّحابة مقدّم على القياس . ولم يعرف لابن عمر في ذلك مخالف من الصّحابة فكان إجماعاً ، ولأنّه تعلّق حقّ الورثة بماله في مرضه ، ولهذا يمنع من التّبرّع على الوارث أصلاً ، ففي تخصيص البعض به إبطال حقّ الباقين .
وفي كتب الحنابلة : لو أقرّت المرأة بأنّها لا مهر لها على زوجها لم يصحّ ، إلاّ أن يقيم بيّنةً أنّها أخذته .
إقرار المريض بالإبراء :
25 - إذا أقرّ المريض أنّه أبرأ فلاناً من الدّين الّذي عليه في صحّته لا يجوز ، لأنّه لا يملك إنشاء الإبراء للحال ، فلا يملك الإقرار به ، بخلاف الإقرار باستيفاء الدّين ، لأنّه إقرار بقبض الدّين ، وأنّه يملك إنشاء القبض فيملك الإخبار عنه بالإقرار . وهذا مذهب الحنفيّة . ويقرب منهم الشّافعيّة إذ يقولون : إذا أبرأ المريض مرض الموت أحد مديونيه ، والتّركة مستغرقة بالدّيون ، لم ينفذ إبراؤه لتعلّق حقّ الغرماء . بينما يقول المالكيّة في باب الإقرار : وإن أبرأ إنسان شخصاً ممّا قبله أو أبرأه من كلّ حقٍّ له عليه ، أو أبرأه وأطلق بريء مطلقاً ممّا في الذّمّة وغيرها معلوماً أو مجهولاً . وهذه العبارة بإطلاقها شاملة للمريض وللصّحيح ، وشاملة للإبراء من دين الصّحّة وغيره .
الرّكن الثّاني : المقرّ له ، وما يشترط فيه :
المقرّ له من يثبت له الحقّ المقرّ به ، ويحقّ له المطالبة به أو العفو عنه واشترط الفقهاء فيه ما يأتي :
الشّرط الأوّل : ألاّ يكون المقرّ له مجهولاً :
26 - فلا بدّ أن يكون معيّناً ، بحيث يمكن أن يطالب به ، ولو كان حملاً . كأن يقول : عليّ ألف لفلانٍ ، أو عليّ ألف لحمل فلانة ، وسيأتي تفصيل الإقرار للحمل . أو يكون مجهولاً جهالةً غير فاحشةٍ ، كأن يقول : عليّ مال لأحد هؤلاء العشرة ، أو لأحد أهل البلد ، وكانوا محصورين عند الشّافعيّة ، والنّاطفيّ وخواهر زاده من الحنفيّة .
الإقرار مع جهالة المقرّ له :
27 - أجمع الفقهاء على أنّ الجهالة الفاحشة بالمقرّ له لا يصحّ معها الإقرار ، لأنّ المجهول لا يصلح مستحقّاً ، إذ لا يجبر المقرّ على البيان ، من غير تعيين المستحقّ ، فلا يفيد الإقرار شيئاً .
وأمّا إذا كانت الجهالة غير فاحشةٍ بأن قال : عليّ ألف لأحد هذين أو لأحد هؤلاء العشر : أو لأحد أهل البلد وكانوا محصورين ، فهناك اتّجاهان :
الأوّل : ما ذهب إليه الشّافعيّة ، وهو ما اختاره النّاطفيّ وخواهر زاده من الحنفيّة . أنّ هذا الإقرار صحيح ، لأنّه قد يفيد وصول الحقّ إلى المستحقّ بتحليف المقرّ لكلٍّ من حصرهم ، أو بتذكّره ، لأنّ المقرّ قد ينسى ، وهو ما يفهم من مغني ابن قدامة ، لأنّه مثّل بالجهالة اليسيرة . والثّاني : ما ذهب إليه جمهور الحنفيّة ، وهو ما اختاره السّرخسيّ : من أنّ أيّ جهالةٍ تبطل الإقرار ، لأنّ المجهول لا يصلح مستحقّاً ، ولا يجبر المقرّ على البيان ، من غير تعيين المدّعي .
الشّرط الثّاني : أن تكون للمقرّ له أهليّة استحقاق المقرّ به حسّاً وشرعاً :
28 - فلو أقرّ لبهيمةٍ أو دارٍ ، بأنّ لها عليه ألفاً وأطلق لم يصحّ الإقرار ، لأنّهما ليسا من أهل الاستحقاق . أمّا لو ذكر سبباً يمكن أن ينسب إليه ، كما لو قال : عليّ كذا لهذه الدّابّة بسبب الجناية عليها ، أو لهذه الدّار بسبب غصبها أو إجارتها ، فالجمهور على أنّ هذا الإقرار صحيح ، ويكون الإقرار في الحقيقة لصاحب الدّابّة أو الدّار وقت الإقرار وهو اختيار المرداويّ ، كما جزم به صاحب الرّعاية ، وابن مفلحٍ في الفروع من الحنابلة .
لكن جمهور الحنابلة على أنّ هذا الإقرار لا يصحّ ، لأنّ هذا الإقرار وقع للدّار وللدّابّة ، وهما ليستا من أهل الاستحقاق .
الإقرار للحمل :
29 - إن أقرّ لحمل امرأةٍ عيّنها بدينٍ أو عيّن فقال : عليّ كذا ، أو عندي كذا لهذا الحمل وبيّن السّبب فقال : بإرثٍ أو وصيّةٍ ، كان الإقرار معتبراً ولزمه ما أقرّ به لإمكانه . وكان الخصم في ذلك وليّ الحمل عند الوضع ، إلاّ إذا تمّ الوضع لأكثر من أربع سنين - من حين الاستحقاق مطلقاً - الّتي هي أقصى مدّة الحمل - كما يرى فريق من الفقهاء - أو لستّة أشهرٍ فأكثر - الّتي هي أقلّ مدّة الحمل - وهي فراش لم يستحقّ ، لاحتمال حدوث الحمل بعد الإقرار . ولا يصحّ الإقرار إلاّ لحملٍ يتيقّن وجوده عند الإقرار ، ويكون ذلك بما إذا وضعته لأقلّ من ستّة أشهرٍ ، أو لأكثر من ذلك إلى سنتين عند الحنفيّة ، وإلى أربعةٍ عند الشّافعيّة . وينصّ المالكيّة : ولزم الإقرار للحمل ، وإن كان الإقرار أصله وصيّةً فله الكلّ ، وإن كان بالإرث من الأب - وهو ذكر - فكذلك ، وإن كان أنثى فلها النّصف ، وإن ولدت ذكراً وأنثى فهو بينهما بالسّويّة إن أسنده إلى وصيّةٍ ، وأثلاثاً إن أسنده إلى إرثٍ ، إلاّ إذا كانت جهة التّوريث يستوي فيها الذّكر والأنثى كالإخوة لأمٍّ ، وإن أسند السّبب إلى جهةٍ لا تمكن في حقّه كقوله : باعني شيئاً فلغو للقطع بكذبه ، وعند الشّافعيّة قول بغير ذلك .
وإن أطلق الإقرار ولم يسنده إلى شيءٍ صحّ عند الحنابلة ، لإطلاقهم القول بصحّة الإقرار بحال حمل امرأةٍ ، لجواز أن يكون له وجه . وقال أبو الحسن التّميميّ : لا يصحّ إلاّ أن يسنده إلى سببٍ من إرثٍ أو وصيّةٍ ، وقيل : لا يصحّ مطلقاً . قال في النّكت : ولا أحسب هذا قولاً في المذهب .
وصحّ في الأظهر عند الشّافعيّة ، ويحمل على الممكن في حقّه ، صوناً لكلام المكلّف عن الإلغاء ما أمكن . وفي قولٍ عند الشّافعيّة : لا يصحّ ، إذ المال لا يجب إلاّ بمعاملةٍ أو جنايةٍ ، وهما منتفيان في حقّه ، فحمل الإطلاق على الوعد . وقال أبو يوسف من الحنفيّة : إن أجمل الإقرار لا يصحّ ، لأنّ الإقرار المبهم يحتمل الصّحّة والفساد ، لأنّه إن كان يصحّ بالحمل على الوصيّة والإرث فإنّه يفسد بالحمل على البيع والغصب والقرض ، كما أنّ الحمل في نفسه محتمل الوجود والعدم ، والشّكّ من وجهٍ واحدٍ يمنع صحّة الإقرار ، فمن وجهين أولى . وقال محمّد : يصحّ حملاً لإقرار العاقل على الصّحّة .
ولو انفصل الحمل ميّتاً فلا شيء على المقرّ للحمل أو ورثته ، للشّكّ في حياته وقت الإقرار . فيسأل القاضي المقرّ حسبةً عن جهة إقرارٍ من إرثٍ أو وصيّةٍ ليصل الحقّ لمستحقّه . وإن مات المقرّ قبل البيان بطل . وإن ألقت حيّاً وميّتاً جعل المال للحيّ .
الإقرار للميّت :
30 - لو قال : لهذا الميّت عليّ كذا فذلك إقرار صحيح ، وهو إقرار في الحقيقة للورثة يتقاسمونه قسمة الميراث ، لكن إن كان المقرّ له حملاً ثمّ سقط ميّتاً بطل الإقرار ، إن كان سبب الاستحقاق ميراثاً أو وصيّةً ، ويرجع المال إلى ورثة المورث ، أو ورثة الموصي .
الإقرار بالحمل :
31 - نصّ الحنفيّة : على أنّ من أقرّ لرجلٍ بحمل فرسٍ أو حمل شاةٍ فإنّ إقراره صحيح ولزمه ما أقرّ به ، لأنّ له وجهاً صحيحاً وهو الوصيّة بالحمل ، بأن تكون الفرس أو الشّاة لواحدٍ ، وأوصى بحملها لرجلٍ ، ومات والمقرّ وارثه ، وقد علم بوصيّةٍ مورثه .
الإقرار للجهة :
32 - الأصل أنّه يصحّ الإقرار لمن كان لديه أهليّة ماليّةٍ أو استحقاقٍ كالوقف والمسجد ، فيصحّ الإقرار لهما . على نفسه بمالٍ له ، ويصرف في إصلاحه وبقاء عينه ، كأن يقول ناظر على مسجدٍ أو وقفٍ : ترتّب في ذمّتي مثلاً للمسجد أو للوقف كذا . فإنّ الإقرار لهذا ومثله كالطّريق والقنطرة والسّقاية ، يصحّ ، ولو لم يذكر سبباً ، كغلّة وقفٍ أو وصيّةٍ ، لأنّه إقرار من مكلّفٍ مختارٍ فلزمه ، كما لو عيّن السّبب ويكون لمصالحها ، فإذا أسنده لممكنٍ بعد الإقرار صحّ . وفي وجهٍ عند الحنابلة ذكره التّميميّ : أنّ الإقرار للمسجد ونحوه من الجهات لا يصحّ إلاّ مع ذكر السّبب .
الشّرط الثّالث : ألاّ يُكَذّب المقرّ في إقراره :
33 - يشترط الفقهاء لصحّة الإقرار ألاّ يكذّب المقرّ له المقرّ فيما أقرّ به ، فإن كذّبه بطل إقراره لأنّ الإقرار ممّا يرتدّ بالرّدّ إلاّ في بعض مسائل : منها الإقرار بالحرّيّة والرّقّ والنّسب وولاء العتاقة والوقف والطّلاق والميراث والنّكاح وابراء الكفيل وإبراء المدين بعد قوله : أبرئني . فلو قال المقرّ له للمقرّ : ليس لي عليك شيء ، أو لا علم لي ، واستمرّ التّكذيب فلا يؤاخذ بإقراره . والتّكذيب يعتبر من بالغٍ رشيدٍ .
ونصّ الشّافعيّة على أنّه إن كذّب المقرّ له المقرّ وكان قد أقرّ له بعينٍ ، ترك المال المقرّ به في يد المقرّ في الأصحّ ، لأنّ يده مشعرة بالملك ظاهراً ، والإقرار بالطّارئ عارضه التّكذيب فسقط ، فتبقى يده على ما معه يد ملكٍ لا مجرّد استحفاظٍ . ويقابل الأصحّ أنّ الحاكم ينزعه منه ويحفظه إلى ظهور مالكه . وإذا ادّعى المقرّ له جنساً آخر بعد أن كذّب المقرّ حلف المقرّ . أمّا إذا أقرّ المقرّ بشيءٍ ثمّ ادّعى أنّه كاذب في إقراره حلف المقرّ له أو وارثه على المفتى به - عند الحنفيّة - أنّ المقرّ لم يكن كاذباً في إقراره . وقيل : لا يحلف ، وفي جامع الفصولين : أقرّ فمات فقال ورثته : إنّه أقرّ كاذباً فلم يجز إقراره ، والمقرّ له عالم به ليس لهم تحليفه ، إذ وقت الإقرار لم يتعلّق حقّهم بمال المقرّ فصحّ الإقرار ، وحيث تعلّق حقّهم صار حقّاً للمقرّ له .
الرّكن الثّالث : المقرّ به :
34 - المقرّ به في الأصل نوعان : حقّ اللّه تعالى ، وحقّ العبد . وحقّ اللّه تعالى نوعان : حقّ خالص للّه ، وحقّ للّه فيه حقّ وللعبد أيضاً .
ولصحّة الإقرار بحقّ اللّه شروط هي : تعدّد الإقرار ، ومجلس القضاء والعبارة . حتّى إنّ الأخرس إذا كتب الإقرار فيما هو حقّ اللّه بيده ، أو بما يعرف أنّه إقرار بهذه الأشياء يجوز ، بخلاف الّذي اعتقل لسانه ، لأنّ للأخرس إشارةً معهودةً فإذا أتى بها يحصل العلم بالمشار إليه ، وليس ذلك لمن اعتقل لسانه ، ولأنّ إقامة الإشارة مقام العبارة أمر ضروريّ ، والخرس ضرورة لأنّه أصليّ ، وكذلك فإنّه لا يشترط لصحّة الإقرار بحقّ اللّه تعالى الصّحو حتّى يصحّ إقرار السّكران ، وفي ذلك كلّه تفصيل وخلاف مبيّن في الحدود ، وعند الكلام عن حقّ اللّه تعالى .
وأمّا حقّ العبد فهو المال ، من العين والدّين والنّسب والقصاص والطّلاق والعتاق ونحوها ، ولا يشترط لصحّة الإقرار بها ما يشترط لصحّة الإقرار بحقوق اللّه تعالى . فهي تثبت مع الشّبهات ، بخلاف حقوق اللّه تعالى . والشّرائط المختصّة بحقوق العباد نوعان :
نوع يرجع إلى المقرّ له ، وهو أن يكون معلوماً على ما سبق ،
ونوع يرجع إلى المقرّ به ، فيشترط لصحّة الإقرار بالعين والدّين الفراغ عن تعلّق حقّ الغير . فإن كان مشغولاً بحقّ الغير لم يصحّ ، لأنّ حقّ الغير معصوم محترم ، فلا يجوز إبطاله من غير رضاه ، فلا بدّ من معرفة وقت التّعلّق .
35 - ولمّا كان الإقرار إخباراً عن كائنٍ ، وذلك قد يكون معلوماً وقد يكون مجهولاً ، فإنّ جهالة المقرّ به لا تمنع صحّة الإقرار بغير خلافٍ . فلو أتلف على آخر شيئاً ليس من ذوات الأمثال فوجبت عليه قيمته ، أو جرح آخر جراحةً ليس لها في الشّرع أرش مقدّر فأقرّ بالقيمة والأرش ، فكان الإقرار بالمجهول إخباراً عن المخبر عنه على ما هو به . ويجبر على البيان لأنّه هو المجمل ، فكان البيان عليه ، قال اللّه تعالى : { فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه ثمّ إنّ علينا بيانه } ويصحّ بيانه متّصلاً ومنفصلاً ، لأنّه بيان محض فلا يشترط فيه الوصل . 36 - لا بدّ أن يبيّن شيئاً له قيمة ، لأنّه أقرّ بما في ذمّته ، وما لا قيمة له لا يثبت في الذّمّة ، وإذا بيّن شيئاً له قيمة فإن صدّقه المقرّ له وادّعى عليه زيادةً ، أخذ ذلك القدر المعيّن ، وأقام البيّنة على الزّيادة ، وإلاّ حلّفه عليها إن أراد ، لأنّه منكر للزّيادة ، والقول قول المنكر مع يمينه ، وإن كذّبه وادّعى عليه مالاً آخر أقام البيّنة ، وإلاّ حلّفه عليه ، وليس له أن يأخذ ما عيّنه ، لأنّه أبطل إقراره بالتّكذيب .
وعلى هذا فإذا قال : لفلانٍ عليّ مال ، يصدّق في القليل والكثير . لأنّ المال اسم ما يتموّل ، وهذا يقع على القليل والكثير ، ويصحّ بيانه متّصلاً ومنفصلاً . وبهذا قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . ونقل ابن قدامة عن أبي حنيفة أنّه لا يقبل تفسيره . بغير المال الزّكويّ ، وأنّ بعض أصحاب مالكٍ حكوا عنه ثلاثة أوجهٍ : أحدها كغير المالكيّة ،
والثّاني : لا يقبل إلاّ أوّل نصابٍ من نصب الزّكاة من نوع أموالهم ،
والثّالث : ما يقطع فيه السّارق ويصحّ مهراً .
ويقول الزّيلعيّ : لم يصدّق في أقلّ من درهمٍ ، لأنّ ما دونه لا يطلق عليه اسم المال عادةً وهو المعتبر . ولو قال : له عليّ مال عظيم فالواجب نصاب ، لأنّه عظيم في الشّرع حتّى اعتبر صاحبه غنيّاً . وعن أبي حنيفة أنّه لا يصدّق في أقلّ من عشرة دراهم ، لأنّه نصاب السّرقة والمهر ، وهو عظيم حيث تقطع به اليد ويصلح مهراً .
ويجبره القاضي على البيان ، ولا بدّ أن يبيّن ما له قيمة ، لأنّ ما لا قيمة له لا يجب في الذّمّة ، فإذا بيّن بما لا قيمة له اعتبر رجوعاً ، والقول قوله مع يمينه ، وإن ادّعى المقرّ له أكثر من ذلك فالقول قول المقرّ مع يمينه .
ولو أقرّ له بشيءٍ أو حقٍّ ، وقال : أردت حقّ الإسلام ، لا يصحّ إن قاله مفصولاً ، ويصحّ إن قاله موصولاً . وينصّ المالكيّة على أنّه إن قال : لك أحد ثوبين ، عيّن المقرّ . فإن عيّن له الأدنى حلف إن اتّهمه المقرّ له ، وإذا لم يعيّن بأن قال : لا أدري . قيل للمقرّ له : عيّن أنت . فإن عيّن أدناهما أخذه بلا يمينٍ ، وإن عيّن أجودهما حلف للتّهمة وأخذه ، وإن قال : لا أدري ، حلفا معاً على نفي العلم ، واشتركا فيهما بالنّصف .
وقال المالكيّة : لو قال : له في هذه الدّار حقّ ، أو في هذا الحائط ، أو في هذه الأرض ، ثمّ فسّر ذلك بجزءٍ منها قبل تفسيره ، قليلاً كان أو كثيراً ، شائعاً كان أو معيّناً .
وينصّ الحنابلة على أنّه إن امتنع عن التّفسير حبس حتّى يفسّر ، لأنّه ممتنع من حقٍّ عليه ، فيحبس به ، كما لو عيّنه وامتنع من أدائه . وقال القاضي : يجعل ناكلاً ويؤمر المقرّ له بالبيان . وقالوا : إن مات من عليه الحقّ أخذ ورثته بمثل ذلك ، لأنّ الحقّ ثبت على مورثهم فيتعلّق بتركته ، وقد صارت إلى الورثة ، فيلزمهم ما لزم مورثهم ، كما لو كان الحقّ مبيّناً ، وإن لم يخلّف الميّت تركةً فلا شيء على الورثة .
ونصّ الشّافعيّة على أنّه لو فسّره بما لا يتموّل - لكن من جنسه - كحبّة حنطةٍ ، أو بما يحلّ اقتناؤه ككلبٍ معلّمٍ ، قبل في الأصحّ ويحرم أخذه ويجب ردّه . وقيل : لا يقبل فيهما ، لأنّ الأوّل لا قيمة له فلا يصحّ التزامه بكلمة " عليّ " ، والثّاني : ليس بمالٍ ، وظاهر الإقرار المال . وقالوا : لا يقبل تفسيره بنحو عيادة مريضٍ وردّ سلامٍ ، إذ لا مطالبة بهما ، وهم يشترطون أن يكون المقرّ به ممّا يجوز به المطالبة . أمّا لو كان قال : له عليّ حقّ ، فإنّه يقبل لشيوع الحقّ في استعمال كلّ ذلك .
وكذلك يصرّح الحنابلة بأنّه متى فسّر إقراره بما يتموّل في العادة قبل تفسيره وثبت ، إلاّ أن يكذّبه المقرّ له ، ويدّعي جنساً آخر أو لا يدّعي شيئاً ، فبطل إقراره ، وكذا إن فسّره بما ليس بمالٍ في الشّرع ، وإن فسّره بكلبٍ غير جائزٍ اقتناؤه فكذلك . وإن فسّره بكلبٍ يجوز اقتناؤه ، أو جلد ميتةٍ غير مدبوغٍ ففيه وجهان ، الأوّل : يقبل لأنّه شيء يجب ردّه ، والوجه الثّاني : لا يقبل ، لأنّ الإقرار إخبار عمّا يجب ضمانه وهذا لا يجب ضمانه ، غير أنّهم قالوا : إن فسّره بحبّة حنطةٍ أو شعيرٍ لم يقبل ، لأنّ هذا لا يتموّل عادةً على انفراده . وقالوا أيضاً : إن فسّره بحقّ شفعةٍ قبل ، لأنّه حقّ واجب ويئول إلى مالٍ ، وإن فسّره بحدّ قذفٍ قبل ، لأنّه حقّ يجب عليه - وهم في ذلك كالشّافعيّة - غير أنّهم قالوا بالنّسبة لحدّ القذف : يحتمل ألاّ يقبل لأنّه لا يئول إلى مالٍ ، والأوّل أصحّ وإن فسّره بردّ سلامٍ أو تشميت عاطسٍ ونحوه لم يقبل - خلافاً للشّافعيّة - لأنّه يسقط بفواته فلا يثبت في الذّمّة ، وقالوا : يحتمل أن يقبل تفسيره ، فهم في هذا كالشّافعيّة .
37 - ولو كان المقرّ به معلوم الأصل ومجهول الوصف ، نحو أن يقول : إنّه غصب من فلانٍ ثوباً من العروض ، فيصدّق في البيان من جنس ذلك سليماً كان أو معيباً ، لأنّ الغصب يردّ على السّليم والمعيب عادةً ، وقد بيّن الأصل وأجّل الوصف ، فيرجع في بيان الوصف إليه فيصحّ منفصلاً ، ومتى صحّ بيانه يلزمه الرّدّ إن قدر عليه ، وإن عجز عنه تلزمه القيمة وإن قال : غصبت شيئاً فطلب منه البيان ففسّره بما ليس بمالٍ قبل ، لأنّ اسم الغصب يقع عليه . قال ابن قدامة : وهو مذهب الشّافعيّ . وحكي عن أبي حنيفة أنّه لا يقبل تفسيره بغير المكيل والموزون ممّا لا يثبت في الذّمّة بنفسه .
ولو أقرّ بأنّ ما عنده لغيره كان رهناً ، فقال المقرّ له : بل وديعة ، فالقول قول المقرّ له ( المالك ) لأنّ العين تثبت بالإقرار ، وادّعى المقرّ ديناً لا يعترف له به والقول قول المنكر ، ولأنّه أقرّ بمالٍ لغيره وادّعى أنّ له به تعلّقاً ( حقّاً في الاحتباس ) فلم يقبل ، كما لو ادّعاه بكلامٍ منفصلٍ ، وكذلك لو أقرّ له بدارٍ وقال : استأجرتها ، أو بثوبٍ وادّعى أنّه خاطه بأجرٍ يلزم المقرّ له . لم يقبل لأنّه مدّعٍ على غيره حقّاً فلا يقبل قوله إلاّ ببيّنةٍ .
وإن قال : لك عليّ ألف من ثمن مبيعٍ لم أقبضه ، فقال المدّعى عليه : بل لي عليك ألف ولا شيء لك عندي . قال أبو الخطّاب : فيه وجهان :
أحدهما . القول قول المقرّ له ، لأنّه اعترف له بالألف وادّعى عليه مبيعاً ، فأشبه ما إذا قال : هذا رهن فقال المالك : وديعة ، أو له عليّ ألف لم أقبضها .
الثّاني : القول قول المقرّ وهو قياس المذهب ، وهو قول الشّافعيّ وأبي يوسف ، لأنّه أقرّ بحقٍّ في مقابلة حقٍّ له ولا ينفكّ أحدهما عن الآخر . ويصرّح ابن قدامة بأنّ الشّهادة على الإقرار بالمجهول تقبل ، لأنّ الإقرار به صحيح ، وما كان صحيحاً في نفسه صحّت الشّهادة به كالمعلوم .
38 - ونصّ الشّافعيّة على أنّه يشترط في المقرّ به لصحّة الإقرار ألاّ يكون ملكاً للمقرّ حين يقرّ ، لأنّ الإقرار ليس إزالةً عن الملك ، وإنّما هو إخبار عن كونه ملكاً للمقرّ له ، فلا بدّ من تقديم المخبر عنه على الخبر ، فلو قال : داري أو ثوبي أو ديني الّذي على زيدٍ لعمرٍو ولم يرد الإقرار فهو لغو ، لأنّ الإضافة إليه تقتضي الملك له ، فينافي إقراره لغيره ويحمل على الوعد بالهبة . ولو قال : هذا لفلانٍ وكان ملكي إلى أن أقررت به ، فأوّل كلامه إقرار ، وآخره لغو ، فليطرح آخره فقط ، ويعمل بأوّله ، لاشتماله على جملتين مستقلّتين .
39 - كما اشترطوا لإعمال الإقرار - أي التّسليم لا لصحّته ، أن تكون العين المقرّ بها في يد المقرّ حسّاً أو حكماً ، كالمعار أو المؤجّر تحت يد الغير ، لأنّه عند انتفاء يده عنه يكون مدّعياً أو شاهداً ، ومتى حصل بيده لزمه تسليمه ، لأنّ هذا الشّرط ليس شرط صحّةٍ . فلو أقرّ ولم يكن في يده ثمّ صار في يده عمل بمقتضى إقراره ، واستثنوا من اشتراط أن يكون في يده ما لو باع بشرط الخيار له أو لهما ، ثمّ ادّعاه رجل ، فأقرّ البائع في مدّة الخيار له به فإنّه يصحّ . أمّا لو كانت العين في يده باعتباره نائباً عن غيره كناظر وقفٍ ووليّ محجورٍ فلا يصحّ إقراره . وكذلك صرّح الحنابلة باشتراط أن يكون المقرّ به بيد المقرّ وولايته واختصاصه ، فلا يصحّ إقراره بشيءٍ في يد غيره ، أو في ولاية غيره ، كما لو أقرّ أجنبيّ على صغيرٍ ، أو وقفٍ في ولاية غيره أو اختصاصه ، لكنّهم قالوا بصحّة إقراره بمالٍ في ولايته واختصاصه ، كأن يقرّ وليّ اليتيم ونحوه أو ناظر الوقف ، لأنّه يملك إنشاء ذلك . واشترطوا أن يتصوّر التزام المقرّ بما أقرّ به ، أي أن يمكن صدقه ، فلو أقرّ بارتكابه جنايةً منذ عشرين سنةً وعمره لا يتجاوز العشرين ، فإنّ إقراره لا يصحّ .
الرّكن الرّابع : الصّيغة :
40 - الصّيغة هي ما يظهر الإرادة من لفظٍ ، أو ما يقوم مقامه من كتابةٍ أو إشارةٍ ، وإظهار الإرادة لا بدّ منه ، فلا عبرة بالإرادة الباطنة .
يقول السّرخسيّ : إنّ ما يكون بالقلب فهو نيّة ، والنّيّة وحدها لا تكفي ، ويقول ابن القيّم : إنّ اللّه تعالى وضع الألفاظ بين عباده تعريفاً ودلالةً على ما في نفوسهم ، فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئاً عرّفه بمراده وما في نفسه بلفظه ، ورتّب على تلك الإرادات والمقاصد أحكامها بواسطة الألفاظ ، ولم يرتّب تلك الأحكام على مجرّد ما في النّفوس من غير دلالة فعلٍ أو قولٍ ، ولا على مجرّد ألفاظٍ مع العلم بأنّ المتكلّم بها لم يرد معانيها .
وصيغة الإقرار نوعان : صريح ودلالة . فالصّريح نحو أن يقول : لفلانٍ عليّ ألف درهمٍ ، لأنّ كلمة ( عليّ ) كلمة إيجابٍ لغةً وشرعاً . قال اللّه تعالى : { وللّه على النّاس حجّ البيت .. } وكذا لو قال لرجلٍ : هل لي عليك ألف درهمٍ ؟ فقال الرّجل : نعم . لأنّ كلمة نعم بمثابة إعادةٍ لكلامه ، وكذا لو قال : لفلانٍ في ذمّتي ألف درهمٍ ، لأنّ ما في الذّمّة هو الدّين ، فيكون إقراراً بالدّين .
هذا ما مثّل به الحنفيّة ، ولا تخرج أمثلة غيرهم عن ذلك ، والعرف في هذا هو المرجع . والأمر بكتابة الإقرار إقرار حكماً ، إذ الإقرار كما يكون باللّسان يكون بالبنان ، فلو قال للكاتب : اكتب إقراراً بألفٍ عليّ لفلانٍ ، صحّ الإقرار واعتبر ، كتب أو لم يكتب .
ويقول ابن عابدين : إنّ الكتابة المرسومة المعنونة كالنّطق بالإقرار ، ولا فرق بين أن تكون الكتابة بطلبٍ من الدّائن أو بلا طلبه . ونقل عن الأشباه لابن نجيمٍ أنّه إذا كتب ولم يقل شيئاً لا تحلّ الشّهادة ، لأنّ الكتابة قد تكون للتّجربة . ولو كتب أمام الشّهود وقال : اشهدوا عليّ بما فيه ، كان إقراراً إن علموا بما فيه وإلاّ فلا .
والإيماء بالرّأس من النّاطق ليس بإقرارٍ إلاّ في النّسب والإسلام والكفر والإفتاء .
وأمّا الصّيغة الّتي تفيد الإقرار دلالةً فهي أن يقول له رجل : لي عليك ألف ، فيقول : قد قبضتها ، لأنّ القضاء اسم لتسليم مثل الواجب في الذّمّة ، فيقتضي ما يعيّن الوجوب ، فكان الإقرار بالقضاء إقراراً بالوجوب ، ثمّ يدّعي الخروج عنه بالقضاء فلا يصحّ إلاّ بالبيّنة ، وكذا إذا قال : أجّلني بها . لأنّ التّأجيل تأخير المطالبة مع قيام أصل الدّين في الذّمّة .
الصّيغة من حيث الإطلاق والتّقييد :
الصّيغة قد تكون مطلقةً كما تقدّم ، وقد تكون مقترنةً . والقرينة في الأصل نوعان :
41 - أ - قرينة مبيّنة ( على الإطلاق ) ، وهي المعيّنة لبعض ما يحتمله اللّفظ ، فإن كان اللّفظ يحتمل المعنيين على السّواء صحّ بيانه متّصلاً كان البيان أو منفصلاً ، وإن كان لأحد الاحتمالين رجحان تسبق إليه الأفهام من غير قرينةٍ لا يصحّ إن كان البيان منفصلاً ، ويصحّ بالنّسبة للمتّصل إذا لم يتضمّن الرّجوع .
وبصفةٍ عامّةٍ إذا كانت القرينة منفصلةً عن الإقرار بأن قال : لفلانٍ عليّ عشرة دراهم وسكت ، ثمّ قال : إلاّ درهماً ، لا يصحّ الاستثناء عند كافّة العلماء وعامّة الصّحابة ، إلاّ ما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه يصحّ ، لأنّ الاستثناء بيان فيصحّ متّصلاً ومنفصلاً . ووجه قول العامّة أنّ صيغة الاستثناء إذا انفصلت عن الجملة الملفوظة لا تكون كلام استثناءٍ لغةً ، وقالوا . إنّ الرّواية عن ابن عبّاسٍ لا تكاد تصحّ . وبيان ذلك تفصيلاً سبق في مصطلح ( استثناء ) .
42-ب- قرينة مغيرة ( من حيث الظاهر ) مبنية ( حقيقة )، وهذه يتغير بها الاسم لكن يتبين بها المراد، فكان تغييراً صورة ،تبييناً معنى، ومنه ما يلي :
أ- تعليق الإقرار على المشيئة :
43- القرينة المغيرة قد تدخل على أصل الإقرار، ، وتكون متصلة به، كتعليق الإقرار على مشيئة الله أو مشيئة فلان . وهذا يمنع صحة الإقرار عند الحنفية، لأن التعليق على المشيئة يجعل الأمر محتملاً . والإقرار إخبار عن كائن، والكائن لا يحتمل التعليق . وهو ما ذهب إليه ابن المواز وابن عبد الحكم من المالكية إذ قالا : لو علق الإقرار على المشيئة لم يلزمه شيء، وكأنه أدخل ما يوجب الشك، وهو مفاد قول الشافعية فيمن قرن إقراره بقوله فيما أحسب أو أظن، إذ قالوا : إنه لغو، لعدم اللزوم على المذهب، لأنه علق مشيئة إقراره على شرط فلم يصح، ولأن ما علق على مشيئة الله لا سبيل إلى معرفته . قال الشيرازي : إن قال :له عليّ ألف إن شاء الله لم يلزمه شيء، لأن ما علق على مشيئة الله تعالى لاسبيل إلى معرفته ، وإن قال : له علي ألف إن شاء زيد أو قدم فلان لم يلزمه شيء .
ويرى المالكية –عدا ابن المواز وابن عبد الحكم –وكذا الحنابلة أن الإقرار يلزمه، نص عليه أحمد، وقال سحنون :أجمع أصحابنا على ذلك .غير أن الحنابلة يفرقون بين التعليق على مشيئة الله، وبين التعليق على مشيئة الأشخاص .
يقول ابن قدامة : لأنه أقر ثم علق رفع الإقرار على أمر لايعلم فلم يرتفع . وإن قال :لك علي ألف إن شئت، أو إن شاء زيد لم يصح الإقرار، ولأنه علقه على شرط يمكن علمه فلم يصح. ويفارق التعليق على مشئية الله تعالى، لأنها كثيراً ما تذكر تبركاً وصلة وتفويضاً إلى الله، لا للاشتراط، لقوله تعالى { لتدخُلُنّ المسجدَ الحرامَ إن شاء الله آمنِين } بخلاف مشيئة الآدمي، كما أن مشيئته تعالى لا تعلم إلا بوقوع الأمر، فلا يمكن وقف الأمر على وجودها ، ومشيئة الآدمي يمكن العلم بها فيمكن جعلها شرطاً يتوقف الأمرعلى وجودها، ويتعين حمل الأمر هنا على المستقبل، فيكون وعداً لا إقراراً .
وقال القاضي : لو علق الإقرار على مشيئة المقر له أو شخص آخر صح الإقرار، لأنه عقبه بما يرفعه، فصح الإقرار دون ما رفعه . أي كأنه أقر ثم رجع فلا يصح رجوعه .
ب - تعليق الإقرار على شرطٍ :
44 - وضع الحنابلة قاعدةً عامّةً بأنّ كلّ إقرارٍ معلّقٍ على شرطٍ ليس بإقرارٍ ، لأنّه ليس بمقرٍّ في الحال ، وما لا يلزمه في الحال لا يصير واجباً عند وجود الشّرط ، لأنّ الشّرط لا يقتضي إيجاب ذلك . ونصّ الحنفيّة على أنّه لو أقرّ بشيءٍ على أن يكون له خيار الشّرط ، فإنّ الإقرار صحيح ويبطل الشّرط ، لأنّ شرط الخيار في معنى الرّجوع ، والإقرار في حقوق العباد لا يحتمل الرّجوع ، لأنّ الإقرار إخبار فلا يقبل الخيار ، وهو مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لأنّ ما يذكره المقرّ بعد الإقرار يعتبر رفعاً له فلا يقبل كالاستثناء .
ج - تغيير وصف المقَرّ به :
45 - إن كان التّغيير متّصلاً باللّفظ كأن يقول : لفلانٍ عليّ ألف درهمٍ وديعة . كان إقراراً الوديعة ، أمّا إن كان منفصلاً ، بأن سكت ثمّ قال : هي وديعة فلا يصحّ ، ويكون إقراراً بالدّين ، لأنّ البيان هنا لا يصحّ إلاّ بشرط الوصل ، ولو قال : عليّ ألف درهمٍ وديعة قرضاً أو ديناً ، فهو إقرار بالدّين ، لجواز أن يكون أمانةً في الابتداء ثمّ يصير مضموناً في الانتهاء ، إذ الضّمان قد يطرأ على الأمانة متّصلاً كان أو منفصلاً ، لأنّ الإنسان في الإقرار بالضّمان غير متّهمٍ .
د - الاستثناء في الإقرار :
46 - إن كان الاستثناء من جنس المستثنى منه ومتّصلاً به ، فإن كان استثناء الأقلّ فلا خلاف في جوازه ، كأن يقول : عليّ لفلانٍ عشرة دراهم إلاّ ثلاثةً فيلزمه سبعة . أمّا إن كان استثناء الأكثر بأن قال : عليّ لفلانٍ عشرة دراهم إلاّ تسعةً فجائز في ظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، ويلزمه درهم وهو الصّحيح ، لأنّ الاستثناء تكلّم بالباقي بعد الثّنيا ، وهذا المعنى كما يوجد في استثناء الأقلّ يوجد في استثناء الأكثر من القليل ، وإن كان غير مستحسنٍ عند أهل اللّغة ، وروي عن أبي يوسف أنّه لا يصحّ وعليه العشرة .
وإن كان استثناء الكلّ من الكلّ بأن يقول : لفلانٍ عليّ عشرة دنانير إلاّ عشرةً فباطل ، وعليه العشرة كاملةً ، لأنّه ليس استثناءً ، وإنّما هو إبطال ورجوع ، والرّجوع عن الإقرار في حقّ العباد لا يصحّ . وقال الشّافعيّة : يصحّ الاستثناء وهو إخراج ما لولاه لدخل بنحو إلاّ ، وذلك إن اتّصل إجماعاً ، والسّكوت اليسير غير مضرٍّ ، ويضرّ كلام أجنبيّ يسير أو سكوت طويل ، ويشترط أن يقصده قبل فراغ الإقرار ، ولكونه رفعاً لبعض ما شمله اللّفظ احتاج إلى نيّةٍ ولو كان إخباراً ، ولم يستغرق المستثنى المستثنى منه ، فإن استغرقه كخمسةٍ إلاّ خمسةً كان باطلاً بالإجماع إلاّ من شذّ ، لما في ذلك من المناقضة الصّريحة . وقال الحنابلة : لو قال : عليّ ألف إلاّ ستّمائةٍ لزمه الألف لأنّه استثنى الأكثر ، ولم يرد ذلك في لغة العرب .
هـ – الاستثناء من خلاف الجنس :
47 – إن كان الاستثناء من خلاف الجنس – ما لا يثبت ديناً في الذّمّة – فلا يصحّ عند الحنفيّة ، وعليه جميع ما أقرّ به ، فإن قال : له عليّ عشرة دراهم إلاّ ثوباً بطل الاستثناء ، خلافاً للشّافعيّة . وإن كان ممّا يثبت ديناً في الذّمّة بأن قال : لفلانٍ عليّ مائة دينارٍ إلاّ عشرة دراهم أو إلاّ قفيز حنطةٍ ، صحّ عند الشّيخين ، ويطرح ممّا أقرّ به قدر قيمة المستثنى ، لأنّه إن لم يمكن تحقيق معنى المجانسة في الاسم أمكن تحقيقها في الوجوب في الذّمّة ، فالدّراهم والحنطة من حيث احتمال الوجوب في الذّمّة من جنس الدّنانير ، وقال محمّد بن الحسن وزفر : إنّ الاستثناء استخراج بعض ما لولاه لدخل تحت نصّ المستثنى منه ، وذلك لا يتحقّق إلاّ إذا اتّحد الجنس . وقال الحنابلة : لا يصحّ الاستثناء من غير الجنس ولا من غير النّوع على ما هو المذهب وعليه جماهير الأصحاب .
أمّا الشّافعيّة فقد نصّوا على أنّه يصحّ الاستثناء من خلاف الجنس لورود الكتاب وغيره بذلك ، يقول اللّه سبحانه : { لا يسمعون فيها لغواً إلاّ سلاماً } ويقول : { ما لهم به من علمٍ إلاّ اتّباع الظّنّ } وقالوا : ويلزم المقرّ بالبيان ، فلو كان أقرّ لآخر بألف درهمٍ إلاّ ثوباً لزمه البيان بثوبٍ قيمته دون الألف .
وقالوا : ويصحّ الاستثناء من المعيّن كهذه الدّار إلاّ هذا البيت .
و - تعقيب الإقرار بما يرفعه :
48 - قال المالكيّة : لو عقّب الإقرار بما يرفعه بأن قال : لك عليّ ألف من ثمن خمرٍ أو خنزيرٍ لم يلزمه شيء ، إلاّ أن يقول الطّالب ( المقرّ له ) : هي ثمن برٍّ أو ما يشبهه فيلزمه مع يمين الطّالب . ولو قال : عليّ ألف من ثمن كذا ثمّ قال : لم أقبض المبيع ، قال ابن القاسم وسحنون وغيرهما : يلزمه الثّمن ولا يصدّق في عدم القبض . وقيل : القول قوله . وقال الحنابلة : إذا وصل بإقراره ما يغيّره أو يسقطه ، كأن يقول : عليّ ألف من ثمن خمرٍ أو استوفاه الدّائن أو من ثمن مبيعٍ فاسدٍ لم أقبضه لزمه الألف ، لأنّ كلّ ما ذكره بعد الإقرار بالألف يعتبر رفعاً له فلا يقبل ، كاستثناء الكلّ .
وفي قوله له : عليّ من ثمن خمرٍ أو خنزيرٍ ألف لا يجب . ولو قال : كان له عليّ ألف وقضيته إيّاه ، أو أبرأني منه ، أو قضيت منها خمسمائةٍ ، فهو منكر ، لأنّه قول يمكن صدقه ولا تناقض فيه من جهة اللّفظ ، فوجب قبول قوله بيمينه وهو المذهب . ولا يلزمه شيء كاستثناء البعض استثناءً متّصلاً ، بخلاف استثناء البعض المنفصل ، لأنّ الحقّ قد استقرّ بسكوته فلا يرفعه استثناء ولا غيره . ولا يصحّ استثناء ما زاد على النّصف ، ويصحّ في النّصف - على ما هو المذهب - فما دونه من غير خلافٍ لأنّه لغة العرب .
ز - تقييد الإقرار بالأجل :
49 - إذا أقرّ شخص بدينٍ عليه لآخر وقال : إنّه مؤجّل ، وادّعى المقرّ له حلوله ولزومه ، أي صدقه في الدّين وكذبه في التّأجيل ، فإنّ الدّين يلزمه حالاً عند الحنفيّة ، وهو قول للمالكيّة ، لأنّه أقرّ على نفسه بمالٍ ، وادّعى حقّاً لنفسه أنكره المقرّ له ، فالقول للمنكر بيمينه . والقول الآخر للمالكيّة أنّ المقرّ يحلف ، ويقبل قوله في التّنجيم والتّأجيل ، وقد اختلف في يمين المقرّ ، وهذا أحوط ، وبه كان يقضي متقدّمو قضاة مصر وهو مذهب كلٍّ من الشّافعيّة والحنابلة .
ح - الاستدراك في الإقرار :
50 - قال الحنفيّة : إن كان الاستدراك في القدر ، فهو على ضربين : إمّا أن يكون في الجنس كأن يقول : لفلانٍ عليّ ألف درهمٍ لا بل ألفان ، فعليه ألفان وهو قول الجمهور . وقيل : يكون عليه ثلاثة آلافٍ ، وهو قول زفر وهو القياس ، والأوّل استحسان . وجه الاستحسان أنّ الإقرار إخبار ، والمخبر عنه ما يجري الغلط في قدره أو وصفه عادةً ، فقبل الاستدراك ما لم يكن متّهماً فيه . بخلاف الاستدراك في خلاف الجنس لأنّ الغلط لا يقع فيه عادةً . ووجه القياس أنّ قوله : لفلانٍ عليّ ألف درهمٍ إقرار بألفٍ وهذا لا رجوع فيه ، والاستدراك صحيح ، فأشبه الاستدراك في خلاف الجنس ، فأشبه ما لو قال لامرأته : أنت طالق واحدةً بل ثنتين ، إذ يقع ثلاث تطليقاتٍ .
وإن كان الاستدراك في صفة المقرّ به ، فعليه أرفع الصّفتين ، لأنّه غير متّهمٍ في ذلك ، أمّا بالنّسبة لأنقصهما فهو متّهم ، فكان مستدركاً في الزّيادة راجعاً في النّقصان ، فيصحّ استدراكه ولا يصحّ رجوعه ، وإن أرجع الاستدراك إلى المقرّ له ، بأن قال : هذه الألف لفلانٍ بل لفلانٍ ، وادّعاها كلّ واحدٍ منهما كانت لمن أقرّ له أوّلاً ، لأنّه لمّا أقرّ له بها صحّ إقراره له ، فصار واجب الدّفع إليه ، فقوله بعد ذلك رجوع عن الإقرار الأوّل فلا يصحّ في حقّه ، وصحّ إقراره بها للثّاني في حقّه - أي الثّاني - لكن إن دفعه للأوّل بغير قضاءٍ ضمن للثّاني ، لإتلافها عليه بدفعها للأوّل .
هذا بخلاف ما لو قال : غصبت هذا الشّيء من فلانٍ لا بل من فلانٍ ، فإنّه يدفعه للأوّل ويضمن للثّاني ، سواء دفعه للأوّل بقضاءٍ أو بغير قضاءٍ ، لأنّ الغصب سبب لوجوب الضّمان ، فكان الإقرار به إقراراً بوجود سبب وجوب الضّمان ، وهو ردّ القيمة عند القدرة وقيمتها عند العجز ، وقد عجز عن ردّها إلى المقرّ له الثّاني ، فيلزمه ردّ قيمتها .
عدم اشتراط القبول في صحّة الإقرار :
51 - الإقرار ليس بعقدٍ حتّى تتكوّن صيغته من إيجابٍ وقبولٍ . وإنّما هو تصرّف قوليّ والتزام من جانب المقرّ وحده ، فليس القبول شرطاً لصحّة الإقرار ، لكنّه يرتدّ بالرّدّ ، والملك يثبت للمقرّ له بلا تصديقٍ وقبولٍ ، ولكن يبطل بردّه ، فالإقرار للحاضر يلزم من جانب المقرّ حتّى لا يصحّ إقراره لغيره به قبل ردّه ، ولا يلزم من جانب المقرّ له فيصحّ ردّه . أمّا الإقرار للغائب فإنّه وإن كان صحيحاً إلاّ أنّه لا يلزم ، وإنّما يتوقّف لزومه على عدم الرّدّ ، ولعدم لزومه للمقرّ صحّ إقراره لغيره ، كما لا يلزم المقرّ له فيصحّ له ردّه . وكلّ من أقرّ لرجلٍ بملكٍ فكذّبه به بطل إقراره ، لأنّه لا يثبت للإنسان ملك لا يعترف به ، والإقرار بما في الذّمّة ليس من التّبرّعات ، وفي المال وجهان : يترك في يد المقرّ لأنّه كان محكوماً له به فإذا بطل إقراره بقي على ما كان عليه . وقيل : يؤخذ إلى بيت المال لأنّه لم يثبت له مالك . وقيل : يؤخذ فيحفظ حتّى يظهر مالكه ، لأنّه لا يدّعيه أحد . فإن عاد أحدهما فكذّب نفسه دفع إليه ، لأنّه يدّعيه ولا منازع له فيه .
الصّوريّة في الإقرار :
52 - لمّا كان الإقرار إخباراً يحتمل الصّدق والكذب جاز تخلّف مدلوله الوضعيّ ، بمعنى أنّه قد يكون في الحقيقة كاذباً يترتّب عليه أثره لزوماً . فإذا ادّعى أنّ مورثه أقرّ تلجئةً ، قال بعضهم : له تحليف المقرّ له ، ولو ادّعى أنّه أقرّ كاذباً لا يقبل . ووجه الفرق : أنّ في التّلجئة يدّعي الوارث على المقرّ له فعلاً له ، وهو تواطؤه مع المقرّ في السّرّ ، فلذا يحلف بخلاف دعوى الإقرار كاذباً كما لا يخفى .
ونقل الموّاق عن سماع أشهب وابن نافعٍ لو سأل شخص ابن عمّه أن يسكنه منزلاً فقال : هو لزوجتي ، ثمّ قال : لثانٍ ولثالثٍ كذلك ، ثمّ طلبت امرأته بذلك فقال : إنّما قلته اعتذاراً لنمنعه ، فلا شيء لها بذلك الإقرار . أي لا يعتبر كلامه إقراراً . ويقول الشّيخ منصور البهوتيّ الحنبليّ : إذا خاف شخص أن يأخذ آخر ماله ظلماً جاز له الإقرار - صورةً - بما يدفع هذا الظّلم ، ويحفظ المال لصاحبه . مثل أن يقرّ بحاضرٍ أنّه ابنه أو أخوه أو أنّ له عليه كذا ديناً ، ويتأوّل في إقراره ، بأن يعني بكونه ابنه صغره ، أو بقوله أخي أخوّة الإسلام . والاحتياط أن يشهد على المقرّ له أنّ هذا الإقرار تلجئة ، تفسيره كذا وكذا . وعلى هذا فالإقرار لا يعتبر ما دام قد ثبتت صوريّته ، وقواعد الشّافعيّة لا تأبى ذلك .
التّوكيل في الإقرار :
53 - الأصل أنّ التّوكيل يجوز في كلّ ما يقبل النّيابة ، ومن ذلك الإقرار ، كما هو مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وفي قولٍ عند الشّافعيّة ، إذ الإخبار من الموكّل حقيقةً ، ومن الوكيل حكماً ، لأنّ فعل الوكيل كفعل الموكّل ، فكأنّ الإقرار صدر ممّن عليه الحقّ . وصرّح الشّافعيّة بأنّ إقرار الوكيل بالتّصرّف إذا أنكره الموكّل لا ينفذ ، كما صرّح المالكيّة بأنّ إقرار الوكيل يلزم الموكّل إن كان مفوّضاً أو جعل له الإقرار . والأصحّ عند الشّافعيّة : أنّ التّوكيل في الإقرار لا يجوز . نعم يكون بالتّوكيل بالإقرار مقرّاً لثبوت الحقّ عليه . وبالنّسبة لإقرار الوكيل بالخصومة فإنّه لا يقبل إقراره بقبض الدّين إلاّ إذا كان قد فوّض في ذلك عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وابن أبي ليلى ، لأنّ الإقرار معنًى يقطع الخصومة وينافيها فلا يملكه الوكيل ، ولأنّ الإذن في الخصومة لا يقتضي الإقرار ، فإن أقرّ بشيءٍ لم يلزم الموكّل ما أقرّ به ، ويكون الوكيل كشاهدٍ . وقال أبو حنيفة ومحمّد بن الحسن : يقبل إقراره في مجلس الحكم فيما عدا الحدود والقصاص ، وقال أبو يوسف : يقبل إقراره في مجلس الحكم وغيره ، لأنّ الإقرار أحد جوابي الدّعوى ، فصحّ من الوكيل بالخصومة كما يصحّ منه الإنكار ، لكنّ الحنفيّة يتّفقون على أنّ الموكّل إذا نصّ في عقد الوكالة على أنّ الوكيل ليس له الإقرار ، لم يكن له حقّ الإقرار في ظاهر الرّواية ، فلو أقرّ عند القاضي لا يصحّ ، وخرج به عن الوكالة ، كما نصّوا على أنّ التّوكيل بالإقرار يصحّ ، ولا يصير الموكّل بمجرّد التّوكيل مقرّاً خلافاً للشّافعيّة ، ونقل ابن عابدين عن الطّواويسيّ : معناه أن يوكّل بالخصومة ويقول : خاصم ، فإذا رأيت لحوق مئونةٍ أو خوف عارٍ عليّ فأقرّ بالمدّعى يصحّ إقراره على الموكّل كما في البزّازيّة . وقال ابن عابدين : ويظهر منه وجه عدم كونه إقراراً أي بمجرّد الوكيل .
أثر الشّبهة في الإقرار :
54 - الشّبهة لغةً : الالتباس ، وشبّه عليه الأمر : خلّط حتّى اشتبه لغيره وعرّفها الفقهاء بأنّها : ما يشبه الثّابت وليس بثابتٍ فهي بهذا تؤثّر على الإثبات ومنه الإقرار . فلو احتمل الإقرار اللّبس أو التّأويل أو شابه شيء من الغموض والخفاء اعتبر ذلك شبهةً ، والشّيء المقرّ به إمّا أن يكون حقّاً للّه تعالى أو حقّاً للعباد . وحقوق العباد تثبت مع الشّبهات ، بخلاف حقوق اللّه تعالى ، فإنّ منها ما يسقط بالشّبهة ، كالزّنى والسّرقة وشرب الخمر ، ومنها ما لا يسقط بالشّبهة ، كالزّكاة والكفّارة . على تفصيلٍ يبيّن في موضعه ، وينظر في مصطلح ( حقّ ، وشبهة ) .
55 - وجمهور الفقهاء على عدم الاعتداد بإقرار الأخرس بالإشارة غير المفهمة ، لما فيها من الشّبهة . يقول ابن قدامة : وأمّا الأخرس فإن لم تفهم إشارته فلا يتصوّر منه إقرار . وإن فهمت إشارته ، فقال القاضي : عليه الحدّ ، وهو قول الشّافعيّ وابن القاسم من المالكيّة وأبي ثورٍ وابن المنذر . لأنّ من صحّ إقراره بغير الزّنى صحّ إقراره به كالنّاطق . وقال أصحاب أبي حنيفة : لا يحدّ ، لأنّ الإشارة تحتمل ما فهم منها وغيره ، فيكون ذلك شبهةً في درء الحدّ ، وهو احتمال كلام الخرقيّ .
56 - وقد سبق الكلام عن إقرار الصّبيّ والمجنون والسّكران والمكره وأثر ذلك كلّه في الإقرار . كما أنّ تكذيب المقرّ له للمقرّ فيما أقرّ به ، أو ظهور كذب المقرّ - كمن يقرّ بالزّنى فظهر مجبوباً - مانع من إقامة الحدّ ، لتيقّن كذب الإقرار .
ولو أقرّ بشيءٍ وكذّبه المقرّ له ، وكان أهلاً للتّكذيب ، فلا يصحّ ، لأنّه منكر ، والقول له ، كإقراره بدينٍ بسبب كفالةٍ . ويقول الشّيرازيّ : لو أقرّ لرجلٍ بمالٍ في يده فكذّبه المقرّ له بطل الإقرار ، لأنّه ردّه ، وفي المال وجهان :
أحدهما : أنّه يؤخذ منه ويحفظ لأنّه لا يدّعيه ، والمقرّ له لا يدّعيه ، فوجب على الإمام حفظه كالمال الضّائع .
والثّاني : لا يؤخذ منه ، لأنّه محكوم له بملكه ، فإذا ردّه المقرّ له بقي في ملكه .
وفي المغني : لو أقرّ أنّه زنى بامرأةٍ فكذّبته فعليه الحدّ دونها ، وبه قال الشّافعيّ ، لأنّ استيفاء ثبوته في حقّها لا يبطل إقراره ، كما لو سكتت ، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : لا حدّ عليه لأنّا صدّقناها في إنكارها فصار محكوماً بكذبه .
وينصّ المالكيّة على أنّه يلزم لإبطال الإقرار بتكذيب المقرّ له أن يستمرّ التّكذيب ، بحيث إذا رجع المقرّ له إلى تصديقه صحّ الإقرار ولزم ، ما لم يرجع المقرّ .
كلّ هذا ممّا يوجد شبهةً في الإقرار . فوجود الشّبهة فيه أو وجود ما يعارضه أولى بالاعتداد به من الإقرار نفسه ، لأنّ الأصل براءة الذّمّة ، ولا يعدل عن هذا الأصل إلاّ بدليلٍ ثابتٍ يقينيٍّ لا يوجد ما يعارضه أو يوهن منه .
الشّبهة بتقادم الإقرار في حقوق اللّه :
57 - جاء في الهداية والفتح : التّقادم لا يبطل الإقرار عند محمّدٍ ، كما في حدّ الزّنى الّذي لا يبطل التّقادم الإقرار به اتّفاقاً . وفي نوادر ابن سماعة عن محمّدٍ قال : أنا أقيم عليه الحدّ وإن جاء بعد أربعين عاماً . وعندهما لا يقام الحدّ على الشّارب إلاّ إذا أقرّ به عند قيام الرّائحة . فالتّقادم يؤثّر على الإقرار بالشّرب عندهما فيسقط الحدّ .
وفي الهداية والفتح والبحر : التّقادم يؤثّر على الشّهادة في حقوق اللّه عدا حدّ القذف ، لما فيه من حقّ العبد ، لما فيه من رفع العار عنه ، بخلاف الإقرار ، فإنّ التّقادم لا يؤثّر عليه ، ويحدّ بإقراره مع التّقادم إلاّ في حدّ الشّرب فقط عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، فإنّ التّقادم فيه يبطل الإقرار خلافاً لمحمّدٍ .
58 - أمّا حقوق العباد فإنّ التّقادم لا يؤثّر فيها ، لا في الإقرار بها ولا في الشّهادة عليها . ويقول ابن قدامة : إن أقرّ بزنًى قديمٍ وجب الحدّ ، وبهذا قال الحنابلة والمالكيّة والأوزاعيّ والنّوويّ وإسحاق وأبو ثورٍ . لعموم الآية ولأنّه حقّ يثبت على الفور فيثبت بالبيّنة بعد تطاول الزّمان كسائر الحقوق . ونقل عن أبي حنيفة أنّه قال : لا أقبل بيّنةً على زنًى قديمٍ وأحدّه بالإقرار به ، وأنّه قول ابن حامدٍ ، وذكره ابن أبي موسى مذهباً لأحمد .
الرّجوع عن الإقرار :
59 - الرّجوع قد يكون صريحاً كأن يقول : رجعت عن إقراري ، أو كذبت فيه ، أو دلالةً كأن يهرب عند إقامة الحدّ ، إذ الهرب دليل الرّجوع ، فإن كان بحقٍّ من حقوق اللّه الّتي تسقط بالشّبهة كالزّنى ، فإنّ جمهور الفقهاء : الحنفيّة والمشهور عند المالكيّة ومذهب كلٍّ من الشّافعيّة والحنابلة على أنّ الرّجوع يعتبر ، ويسقط الحدّ عنه ، لأنّه يحتمل أن يكون صادقاً في الرّجوع وهو الإنكار ، ويحتمل أن يكون كاذباً فيه ، فإن كان صادقاً في الإنكار يكون كاذباً في الإقرار ، وإن كان كاذباً في الإنكار يكون صادقاً في الإقرار ، فيورث شبهةً في ظهور الحدّ ، والحدود لا تستوفى مع الشّبهات ، وقد روي أنّ« ماعزاً لمّا أقرّ بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالزّنى لقّنه الرّجوع ». فلو لم يكن محتملاً للسّقوط بالرّجوع ما كان للتّلقين معنًى ، سواء أرجع قبل القضاء أم بعده ، قبل الإمضاء أم بعده . ويستوي أن يكون الرّجوع بالقول أو بالفعل بأن يهرب عند إقامة الحدّ عليه ، وإنكار الإقرار رجوع ، فلو أقرّ عند القاضي بالزّنى أربع مرّاتٍ ، فأمر القاضي برجمه فقال : ما أقررت بشيءٍ يدرأ عنه الحدّ . ولأنّ من شرط إقامه الحدّ بالإقرار البقاء عليه إلى تمام الحدّ ، فإن رجع عن إقراره أو هرب كفّ عنه ، وبهذا قال عطاء ويحيى بن يعمر والزّهريّ وحمّاد ومالك والثّوريّ والشّافعيّ وإسحاق وأبو حنيفة وأبو يوسف . وقال الحسن وسعيد بن جبيرٍ وابن أبي ليلى : يقام عليه الحدّ ولا يترك ، لأنّ ماعزاً هرب فقتلوه ولم يتركوه ، ولو قبل رجوعه للزمتهم الدّية ، ولأنّه حقّ وجب بإقراره ، فلم يقبل رجوعه كسائر الحقوق . وحكي عن الأوزاعيّ أنّه إن رجع حدّ للفرية على نفسه ، وإن رجع عن السّرقة والشّرب ضرب دون الحدّ . ونقل الشّيرازيّ عن أبي ثورٍ أنّه لا يقبل رجوعه ، لأنّه حقّ ثبت بالإقرار فلم يسقط بالرّجوع كالقصاص وحدّ القذف .
واستدلّ ابن قدامة للجمهور القائلين باعتبار الرّجوع بأنّ « ماعزاً هرب ، فذكر ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : هلاّ تركتموه يتوب فيتوب اللّه عليه ؟ »
ففي هذا أوضح الدّلائل على أنّه يقبل رجوعه . ولأنّ الإقرار إحدى بيّنتي الحدّ ، فيسقط بالرّجوع عنه كالشّهود إذا رجعوا قبل إقامة الحدّ . وإنّما لم يجب ضمان ماعزٍ على الّذين قتلوه بعد هربه ، لأنّه ليس بصريحٍ في الرّجوع . أمّا إن رجع صراحةً بأن قال : كذبت في إقراري أو رجعت عنه أو لم أفعل ما أقررت به وجب تركه ، فإن قتله قاتل بعد ذلك وجب ضمانه ، لأنّه قد زال إقراره بالرّجوع عنه فصار كمن لم يقرّ ، ولا قصاص على القاتل للاختلاف في صحّة الرّجوع فكان شبهةً .
وقيّد الإمام مالك في الرّواية غير المشهورة عنه قبول رجوع المقرّ في حقوق اللّه الّتي تسقط بالشّبهة بأن يكون الرّجوع لوجود شبهةٍ ، أمّا لو رجع عن إقراره بغير شبهةٍ فلا يعتدّ برجوعه ، فقد نصّ أشهب على أنّه لا يعذر إلاّ إذا رجع بشبهةٍ ، وروي ذلك عن مالكٍ ، وبه قال ابن الماجشون .
والشّافعيّة في الأصحّ عندهم لا يعتبرون إلاّ الرّجوع الصّريح . ولا يرون مثل الهروب عند تنفيذ الحدّ رجوعاً ، فلو قال المقرّ : اتركوني أو لا تحدّوني ، أو هرب قبل حدّه أو في أثنائه لا يكون رجوعاً في الأصحّ ، لأنّه لم يصرّح به ، وإن كان يجب تخليته حالاً ، فإن صرّح فذاك وإلاّ أقيم عليه الحدّ ، وإن لم يخلّ لم يضمن ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يوجب عليهم شيئاً في خبر ماعزٍ ».
60 - أمّا من أقرّ بحقٍّ من حقوق العباد أو بحقٍّ للّه تعالى لا يسقط بالشّبهة - كالقصاص وحدّ القذف وكالزّكاة والكفّارات - ثمّ رجع في إقراره فإنّه لا يقبل رجوعه عنها من غير خلافٍ ، لأنّه حقّ ثبت لغيره فلم يملك إسقاطه بغير رضاه ، لأنّ حقّ العبد بعد ما ثبت لا يحتمل السّقوط بالرّجوع ، ولأنّ حقوق العباد مبنيّة على المشاحّة ، وما دام قد ثبت له فلا يمكن إسقاطه بغير رضاه .
وقد وضّح القرافيّ الإقرار الّذي يقبل الرّجوع عنه والّذي لا يقبل الرّجوع عنه ، فقال : الأصل في الإقرار اللّزوم من البرّ والفاجر ، لأنّه على خلاف الطّبع . وضابط ما لا يجوز الرّجوع عنه ، هو ما ليس له فيه عذر عاديّ ، وضابط ما يجوز الرّجوع عنه ، أن يكون له في الرّجوع عنه عذر عاديّ ، فإذا أقرّ الوارث للورثة أنّ ما تركه أبوه ميراث بينهم على ما عهد في الشّريعة ، ثمّ جاء شهود أخبروه أنّ أباه أشهدهم أنّه تصدّق عليه في صغره بهذه الدّار وحازها له ، فإنّه إذا رجع عن إقرارٍ معتذراً بإخبار البيّنة له ، وأنّه لم يكن عالماً بذلك ، فإنّه تسمع دعواه وعذره ، ويقيم بيّنته ، ولا يكون إقراره السّابق مكذّباً للبيّنة وقادحاً فيها ، فيقبل الرّجوع في الإقرار .
وإذا قال : له عليّ مائة درهمٍ إن حلف - أو مع يمينه - فحلف المقرّ له ، فرجع المقرّ وقال : ما ظننت أنّه يحلف ، لا يلزم المقرّ شيء ، لأنّ العادة جرت بأنّ هذا الاشتراط يقضي عدم اعتقاد لزوم ما أقرّ به ، والعادة جرت على أنّ هذا ليس بإقرارٍ . ويقول ابن جزيٍّ : من أقرّ بحقٍّ لمخلوقٍ لم ينفعه الرّجوع ، وإن أقرّ بحقٍّ للّه تعالى كالزّنى وشرب الخمر فإن رجع إلى شبهةٍ قبل منه ، وإن رجع إلى غير شبهةٍ ففيه قولان : قول يقبل منه وفاقاً لأبي حنيفة والشّافعيّ . وقيل : لا يقبل منه وفاقاً للحسن البصريّ .
هل الإقرار يصلح سبباً للملك ؟
61 - نصّ الحنفيّة : على أنّه لو أقرّ لغيره بمالٍ ، والمقرّ له يعلم أنّه كاذب في إقراره ، لا يحلّ له أخذه عن كرهٍ منه فيما بينه وبين اللّه تعالى ، إلاّ أن يسلّمه بطيبٍ من نفسه ، فيكون تمليكاً مبتدأً على سبيل الهبة ، ونقل ابن عابدين عن ابن الفضل : أنّ الإقرار لا يصلح سبباً للتّمليك ، وفي الهداية وشروحها : والمقرّ له إذا صدّقه ثمّ ردّه لا يصحّ ردّه . وحكمه لزوم ما أقرّ به على المقرّ ، وعمله إظهار المخبر به لغيره لا التّمليك به ابتداءً ، ويدلّ عليه مسائل :
أ - أنّ الرّجل إذا أقرّ بعينٍ لا يملكها يصحّ إقراره ، حتّى لو ملكها المقرّ يوماً من الدّهر يؤمر بتسليمها إلى المقرّ له ، ولو كان الإقرار تمليكاً مبتدأً لما صحّ ذلك ، لأنّه لا يصحّ تمليك ما ليس بمملوكٍ له ، وصرّح الشّافعيّة بموافقة الحنفيّة في صحّة الإقرار ، لكن لم نجد في كلامهم أنّ المقرّ إذا ملك العين يؤمر بتسليمها للمقرّ له ، وكذلك لم نجد من المالكيّة والحنابلة ذكراً لهذه المسألة .
ب - الإقرار بالخمر للمسلم يصحّ حتّى يؤمر بالتّسليم إليه ، ولو كان تمليكاً مبتدأً لم يصحّ ، لكن ذهب المالكيّة والحنابلة إلى عدم صحّة الإقرار بالخمر ، وفرّق الشّافعيّة بين الخمر إذا كان محترماً أو غير محترمٍ ، وصحّحوا الإقرار بالخمر المحترم .
ج - المريض مرض الموت الّذي لا دين عليه إذا أقرّ بجميع ماله لأجنبيٍّ صحّ إقراره ، ولا يتوقّف على إجازة الورثة ، ولو كان تمليكاً مبتدأً لم ينفذ إلاّ بقدر الثّلث عند عدم إجازتهم ، وبقولهم مال جمهور العلماء ، وعند الحنابلة قولان آخران ، قيل : لا يصحّ مطلقاً ، وقيل : لا يصحّ إلاّ في الثّلث .
د - العبد المأذون إذا أقرّ لرجلٍ بعينٍ في يده صحّ إقراره ، ولو كان الإقرار سبباً للملك ابتداءً كان تبرّعاً من العبد ، وهو لا يجوز في الكثير . ومثله عند الجمهور إلاّ أنّهم لم يفرّقوا بين القليل والكثير .
الإقرار بالنّسب :
62 - إذا أقرّ أحد الورثة بوارثٍ ثالثٍ مشاركٍ لهما في الميراث لم يثبت النّسب بالإجماع ، لأنّ النّسب لا يتبعّض فلا يمكن إثباته في حقّ المقرّ دون المنكر ، ولا يمكن إثباته في حقّهما ، لأنّ أحدهما منكر ولم توجد شهادة يثبت بها النّسب . ولكنّه يشارك المقرّ في الميراث في قول أكثر أهل العلم ، لأنّه أقرّ بسبب مالٍ لم يحكم ببطلانه فلزمه المال ، كما لو أقرّ ببيعٍ أو بدينٍ فأنكر الآخر . ويجب له فضل ما في يد المقرّ من ميراثه ، وبهذا قال ابن أبي ليلى ، ومالك ، والثّوريّ ، والحسن بن صالحٍ ، وشريك ، ويحيى بن آدم وإسحاق وأبو عبيدٍ وأبو ثورٍ . وتقسم حصّة المقرّ أثلاثاً فلا يستحقّ المقرّ له ممّا في يد المقرّ إلاّ الثّلث ( وهو سدس جميع المال ) كما لو ثبت نسبه ببيّنةٍ ، لأنّه إقرار بحقٍّ يتعلّق بحصّته وحصّة أخيه ، فلا يلزمه أكثر ممّا يخصّه ، كالإقرار بالوصيّة ، وإقرار أحد الشّريكين على مال الشّركة ، وقال أبو حنيفة : إذا كان اثنان فأقرّ أحدهما بأخٍ لزمه دفع نصف ما في يده ، وإن أقرّ بأختٍ لزمه ثلث ما في يده ، لأنّه أخذ ما لا يستحقّ من التّركة ، فصار كالغاصب ، فيكون الباقي بينهما ، ولأنّ الميراث يتعلّق ببعض التّركة كما يتعلّق بجميعها ، فإذا ملك بعضها أو غصب تعلّق الحقّ بباقيها ، والّذي في يد المنكر كالمغصوب فيقتسمان الباقي بالسّويّة ، كما لو غصبه أجنبيّ .
وقال الشّافعيّ : لا يشارك المقرّ في الميراث ( قضاءً ) ، وحكي ذلك عن ابن سيرين ، وقال إبراهيم : ليس بشيءٍ حتّى يقرّوا جميعاً ، لأنّه لم يثبت نسبه فلا يرث ، كما لو أقرّ بنسب معروف النّسب . ولأصحاب الشّافعيّ فيما إذا كان المقرّ صادقاً فيما بينه وبين اللّه تعالى . هل يلزمه أن يدفع إلى المقرّ له نصيبه ؟ على وجهين : أحدهما يلزمه ( ديانةً ) وهو الأصحّ ، وهل يلزمه أن يدفع إلى المقرّ له نصف ما في يده أو ثلثه ؟ على وجهين .
وإن أقرّ جميع الورثة بنسب من يشاركهم في الميراث ثبت نسبه ، سواء أكان الورثة واحداً أم جماعةً ، ذكوراً أم إناثاً ، وبهذا قال الشّافعيّ وأبو يوسف وحكاه عن أبي حنيفة ، لأنّ الوارث يقوم مقام الميّت في ميراثه وديونه … وكذلك في النّسب ، وقد روت السّيّدة عائشة رضي الله عنها أنّ « سعد بن أبي وقّاصٍ رضي الله عنه اختصم هو وعبد بن زمعة في ابن أمة زمعة ، فقال سعد : أوصاني أخي عتبة إذا قدمت مكّة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة وأقبضه فإنّه ابنه ، فقال عبد بن زمعة : هو أخي وابن وليدة أبي ، ولد على فراشه فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : هو لك يا عبد بن زمعة » ولأنّه حقّ يثبت بالإقرار فلم يعتبر فيه العدد ، ولأنّه قول لا تعتبر فيه العدالة فلم يعتبر العدد فيه ، والمشهور عن أبي حنيفة أنّه لا يثبت إلاّ بإقرار رجلين أو رجلٍ وامرأتين ، وقال مالك : لا يثبت إلاّ بإقرار اثنين ، لأنّه يحمل النّسب على غيره فاعتبر فيه العدد كالشّهادة .
شروط الإقرار بالنّسب :
63 - يشترط لصحّة الإقرار بالنّسب على المقرّ نفسه :
- 1 - أن يكون المقرّ به مجهول النّسب .
- 2 - ألاّ ينازعه فيه منازع ، لأنّه إن نازعه فيه غيره تعارضا ، فلم يكن إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر .
- 3 - وأن يمكن صدقه بأن يحتمل أن يولد مثله لمثله .
- 4 - أن يكون ممّن لا قول له كالصّغير والمجنون ، أو يصدّق المقرّ إن كان من أهل التّصديق . فإن كبر الصّغير وعقل المجنون فأنكر لم يسمع إنكاره ، لأنّ نسبه قد ثبت فلا يسقط ، ولأنّ الأب لو عاد فجحد النّسب لم يقبل منه .
64 - وإن كان الإقرار عليه وعلى غيره كإقرارٍ بأخٍ اعتبر فيه الشّروط الأربعة السّابقة ، وشرط خامس ، وهو كون المقرّ جميع الورثة . فإن كان الوارث بنتاً أو أختاً أو أمّاً أو ذا فرضٍ يرث جميع المال بالفرض والرّدّ ، ثبت النّسب بقوله عند الحنفيّة والحنابلة القائلين بالرّدّ ، وعند من لا يرى الرّدّ كالشّافعيّ لا يثبت بقوله النّسب ، لأنّه لا يرى الرّدّ ويجعل الباقي لبيت المال ، ولهم فيما إذا وافقه الإمام في الإقرار وجهان ، يقول الشّيرازيّ : وإن مات وخلّف بنتاً فأقرّت بنسب أخٍ لم يثبت النّسب ، لأنّها لا ترث جميع المال . فإن أقرّ معها الإمام ففيه وجهان :
أحدهما : أن يثبت ، لأنّ الإمام نافذ الإقرار في مال بيت المال .
والثّاني : أنّه لا يثبت لأنّه لا يملك المال بالإرث ، وإنّما يملكه المسلمون وهم لا يتبيّنون ، فلا يثبت النّسب . وينصّ المالكيّة على أنّ من أقرّ بأخٍ وعمٍّ لم يرثه إن وجد وارث ، وإلاّ يكن له وارث أصلاً أو وارث غير حائزٍ فخلاف ، والرّاجح : إرث المقرّ به من المقرّ جميع المال سواء أكان الإقرار في حال الصّحّة أم في حالة المرض ، وفي قولٍ : يحلف المقرّ به أنّ الإقرار حقّ .
65 - وإن كان أحد الوارثين غير مكلّفٍ كالصّبيّ والمجنون فأقرّ المكلّف بأخٍ ثالثٍ لم يثبت النّسب بإقراره ، لأنّه لا يحوز الميراث كلّه ، فإن بلغ الصّبيّ أو أفاق المجنون فأقرّا به أيضاً ثبت نسبه لاتّفاق جميع الورثة عليه ، وإن ماتا قبل أن يصيرا مكلّفين ثبت نسب المقرّ به لأنّه وجد الإقرار من جميع الورثة ، فإنّ المقرّ صار جميع الورثة ، هذا فيما إذا كان المقرّ يحوز جميع الميراث بعد من مات ، فإن كان للميّت وارث سواه أو من يشاركه في الميراث لم يثبت النّسب ، ويقوم وارث الميّت مقامه ، فإذا وافق المقرّ في إقراره ثبت النّسب ، وإن خالفه لم يثبت . وإذا أقرّ الوارث بمن يحجبه كأخٍ أقرّ بابنٍ للميّت ثبت نسب المقرّ به وورث وسقط المقرّ ... وهذا اختيار ابن حامدٍ والقاضي وقول أبي العبّاس بن سريجٍ . لأنّه ابن ثابت النّسب لم يوجد في حقّه أحد موانع الإرث فيرثه ، كما لو ثبت نسبه ببيّنةٍ ، ولأنّ ثبوت النّسب سبب للميراث فلا يجوز قطع حكمه عنه ، ولا يورث محجوب به مع وجوده وسلامته من الموانع . وقال أكثر الشّافعيّة : يثبت نسب المقرّ به ولا يرث ، لأنّ توريثه يفضي إلى إسقاط توريث المقرّ ، فيبطل إقراره ، فأثبتنا النّسب دون الإقرار . يقول الشّيرازيّ : إن كان المقرّ به يحجب المقرّ ، مثل أن يموت الرّجل ويخلّف أخاً فيقرّ الأخ بابنٍ للميّت يثبت له النّسب ولا يرث ، لأنّا لو أثبتنا له الإرث أدّى ذلك إلى إسقاط إرثه ، لأنّ توريثه يخرج المقرّ عن أن يكون وارثاً فيبطل إقراره ، لأنّه إقرار من غير وارثٍ .
66 - وإن أقرّ رجلان عدلان ابنان أو أخوان أو عمّان بثالثٍ ثبت النّسب للمقرّ به ، فإن كانا غير عدلين فللمقرّ به ما نقصه إقرارهما ولا يثبت النّسب . إذ المراد بالإقرار هنا الشّهادة ، لأنّ النّسب لا يثبت بالإقرار ، لأنّه قد يكون بالظّنّ ولا يشترط فيه عدالة . وإن أقرّ عدل بآخر يحلف المقرّ به مع الإقرار ويرث ولا يثبت النّسب بذلك ، وإلاّ يكن المقرّ عدلاً فمذهب المالكيّة أنّ للمقرّ به ما نقصه الإقرار من حصّة المقرّ سواء كان عدلاً أو غير عدلٍ ولا يمين ، والتّفرقة بين العدل وغيره قول ضعيف عند المالكيّة على تفصيلٍ مبيّنٍ عندهم . ويقول ابن قدامة : وإن أقرّ رجلان عدلان بنسبٍ مشاركٍ لهما في الميراث وثمّ وارث غيرهما لم يثبت النّسب إلاّ أن يشهدا به ، وبهذا قال الشّافعيّ ، لأنّه إقرار من بعض الورثة فلم يثبت فيها النّسب كالواحد ، وفارق الشّهادة لأنّه تعتبر فيها العدالة والذّكوريّة ، والإقرار بخلافه .
الرّجوع عن الإقرار بالنّسب :
67 - ينصّ الحنفيّة على أنّه يصحّ رجوع المقرّ عمّا أقرّ فيما سوى الإقرار بالبنوّة والأبوّة والزّوجيّة وولاء العتاقة ، فإنّ من أقرّ في مرضه بأخٍ وصدّقه المقرّ له ثمّ رجع عمّا أقرّ به يصحّ إن صدّقه المقرّ عليه ، لأنّه وصيّة من وجهٍ . وفي شرح السّراجيّة ، أنّه بالتّصديق يثبت النّسب فلا ينفع الرّجوع .
ويقول الشّيرازيّ : وإن أقرّ بالغ عاقل ثمّ رجع عن الإقرار وصدّقه المقرّ له في الرّجوع ففيه وجهان : أحدهما : أنّه يسقط النّسب ، كما لو أقرّ بمالٍ ثمّ رجع في الإقرار وصدّقه المقرّ له في الرّجوع .
والثّاني : وهو قول أبي حامدٍ الإسفرايينيّ أنّه لا يسقط ، لأنّ النّسب إذا ثبت لا يسقط بالاتّفاق على نفيه كالنّسب الثّابت بالفراش .
ويقرب من هذا الاتّجاه الحنابلة ، يقول ابن قدامة : وإذا ثبت النّسب بالإقرار ثمّ أنكر المقرّ لم يقبل إنكاره ، لأنّه نسب ثبت بحجّةٍ شرعيّةٍ فلم يزل بإنكاره ، كما لو ثبت ببيّنةٍ أو بالفراش ، وسواء أكان المقرّ به غير مكلّفٍ أم مكلّفاً فصدّق المقرّ . ويحتمل أن يسقط نسب المكلّف باتّفاقهما على الرّجوع عنه ، لأنّه ثبت باتّفاقهما فزال برجوعهما كالمال .
وقال ابن قدامة : والأوّل أصحّ ، لأنّه نسب ثبت بالإقرار فأشبه نسب الصّغير والمجنون ، وفارق المال ، لأنّ النّسب يحتاط لإثباته .
إقرار الزّوجة بالبنوّة :
68 - عند الحنفيّة لا يقبل إقرار الزّوجة بالولد وإن صدّقها ، لأنّ فيه تحميل النّسب على الغير ، لأنّه ينسب إلى الأب ، إلاّ أن يصدّقها الزّوج أو تقدّم البيّنة ، ويصحّ إقرار المرأة بالولد مطلقاً إن لم تكن زوجةً ولا معتدّةً ، أو كانت زوجةً وادّعت أنّه من غير الزّوج ، ولا يثبت نسبه منه ويتوارثان إن لم يكن لها وارث معروف ، لأنّ ولد الزّنى يرث بجهة الأمّ فقط . وعن ابن رشدٍ عن المدوّنة : وإن نظرت امرأة إلى رجلٍ فقالت : ابني ، ومثله يولد لها وصدّقها لم يثبت نسبه منها ، إذ ليس هنا أب يلحق به ، وإن جاءت امرأة بغلامٍ مفصولٍ فادّعت أنّه ولدها لم يلحق بها في ميراثٍ ، ولا يحدّ من افترى عليها به .
وينصّ الحنابلة على أنّه إن أقرّت المرأة بولدٍ ولم تكن ذات زوجٍ ولا نسبٍ قبل إقرارها ، وإن كانت ذات زوجٍ لا يقبل إقرارها في روايةٍ ، لأنّ فيه حملاً لنسب الولد على زوجها ولم يقرّ به ، أو إلحاقاً للعار به بولادة امرأته من غيره . وفي روايةٍ أخرى : يقبل ، لأنّها شخص أقرّ بولدٍ يحتمل أن يكون منه ، فقبل كالرّجل .
وقال أحمد في رواية ابن منصورٍ في امرأةٍ ادّعت ولداً : فإن كان لها إخوة أو نسب معروف فلا بدّ من أن يثبت أنّه ابنها ، فإن لم يكن لها دافع فمن يحول بينها وبينه ؟ وهذا لأنّها متى كانت ذات أهلٍ فالظّاهر أنّها لا تخفى عليهم ولادتها ، فمتى ادّعت ولداً لا يعرفونه فالظّاهر كذبها . ويحتمل أن تقبل دعواها مطلقاً ، لأنّ النّسب يحتاط له ، فأشبهت الرّجل .
الإقرار بالزّوجيّة تبعاً :
69 - ومن أقرّ بنسب صغيرٍ لم يكن مقرّاً بزوجيّة أمّه ، وبهذا قال الشّافعيّة ، لأنّ الزّوجيّة ليست مقتضى لفظه ولا مضمونه ، فلم يكن مقرّاً بها . وقال أبو حنيفة : إذا كانت مشهورةً بالحرّيّة كان مقرّاً بزوجيّتها ، لأنّ أنساب المسلمين وأصولهم يجب حملها على الصّحّة . والإقرار بالزّوجيّة صحيح بشرط الخلوّ من الموانع .
إقرار المرأة بالوالدين والزّوج :
70 - نصّ الفقهاء على جواز إقرار المرأة بالوالدين والزّوج ، إذ الأنوثة لا تمنع صحّة الإقرار على النّفس . وقد ذكر الإمام العتّابيّ في فرائضه أنّ الإقرار بالأمّ لا يصحّ ، وكذا في ضوء السّراج ، لأنّ النّسب للآباء لا للأمّهات ، وفيه حمل الزّوجيّة على الغير . قال صاحب الدّرّ : لكن الحقّ صحّته بجامع الأصالة فكانت كالأب والأصل : أنّ من أقرّ بنسبٍ يلزمه في نفسه ولا يحمل على غيره فإقراره مقبول ، كما يقبل إقراره على نفسه بسائر الحقوق .
التّصديق بالنّسب بعد الموت :
71 - ويصحّ التّصديق في النّسب بعد موت المقرّ ، لأنّ النّسب يبقى بعد الموت ، وكذا تصديق الزّوجة لأنّ حكم النّكاح باقٍ ، وكذا تصديق الزّوج بعد موتها لأنّ الإرث من أحكامه ، وعند أبي حنيفة لا يصحّ لانقطاع النّكاح بالموت .
ونصّ الشّافعيّة على أنّ المقرّ به إذا كان ميّتاً فإن كان صغيراً أو مجنوناً ثبت نسبه ، لأنّه يقبل إقراره به إذا كان حيّاً فقبل إذا كان ميّتاً . وإن كان بالغاً عاقلاً ففيه وجهان :
أحدهما : لا يثبت لأنّ نسب البالغ لا يثبت إلاّ بتصديقه ، وذلك معدوم بعد الموت .
والثّاني : أنّه يثبت وهو الصّحيح ، لأنّه ليس له قول ، فيثبت نسبه بالإقرار كالصّبيّ والمجنون . وقالوا : إنّ النّسب يثبت لمن أقرّ ببنوّة مجهول النّسب مستوفياً شروطه ثبت نسبه مستنداً لوقت العلوق .
كما نصّ الحنفيّة والمالكيّة على أنّ الإقرار بالجدّ وابن الابن لا يصحّ ، لأنّ فيه تحميل النّسب على الغير ، غير أنّ المالكيّة قالوا : إن قال المقرّ : أبو هذا ابني صدّق ، لأنّ الرّجل إنّما يصدّق في إلحاق ولده بفراشه ، لا بإلحاقه بفراشه غيره .
وفي كتب الشّافعيّة أنّه إذا كان بين المقرّ والمقرّ به واحد ، وهو حيّ لم يثبت النّسب إلاّ بتصديقه ، وإن كان بينهما اثنان أو أكثر لم يثبت النّسب إلاّ بتصديقٍ من بينهما ، لأنّ النّسب يتّصل بالمقرّ من جهتهم فلا يثبت إلاّ بتصديقهم .
إقراض *
انظر : قرض .
إقراع *
انظر : قرعة .
أقط *
التّعريف :
1 - الأقِط ، والِإقْط ، والَأقْط ، والُأقْط : شيء يتّخذ من اللّبن المخيض ، يطبخ ثمّ يترك حتّى يمصل ( أي ينفصل عنه الماء ) ، والقطعة منه أقطة . ويعرّفه الفقهاء بذلك أيضاً .
الحكم الإجماليّ :
تتعلّق بالأقط أحكام منها ما يلي :
أ - زكاة الفطر :
2 - يجوز إخراج زكاة الفطر من الأقط عند جمهور الفقهاء باعتباره من الأقوات ، ولحديث أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه قال : « كنّا نخرج زكاة الفطر - إذ كان فينا النّبيّ صلى الله عليه وسلم - صاعاً من طعامٍ ، أو صاعاً من شعيرٍ ، أو صاعاً من تمرٍ ، أو صاعاً من زبيبٍ ، أو صاعاً من أقطٍ » .
أمّا عند الحنفيّة فتعتبر فيه القيمة ، ولا يجزئ إخراج زكاة الفطر منه إلاّ باعتبار القيمة ، لأنّه غير منصوصٍ عليه من وجهٍ يوثق به ، وجواز ما ليس بمنصوصٍ عليه لا يكون إلاّ باعتبار القيمة ، كسائر الأعيان الّتي لم يقع التّنصيص عليها من النّبيّ صلى الله عليه وسلم وينظر تفصيل ذلك في ( زكاة الفطر ) .
ب - البيع :
3 - يعتبر الأقط من الرّبويّات الّتي يشترط فيها التّماثل والتّقابض في المجلس إن بيعت بمثلها . والفقهاء يختلفون في جواز بيع الأقط بعضه ببعضٍ . فأجازه المالكيّة والحنابلة لإمكان التّماثل والتّساوي ، ومنعه الشّافعيّة لأنّ أجزاءه منعقدة ، ولأنّه يخالطه الملح فلا تتحقّق فيه المماثلة . وفيه تفصيل كثير ينظر في ( بيع ، ورباً ) .
مواطن البحث :
4 - تتعدّد مواطن أحكام الأقط ، فتأتي في زكاة الفطر ، والرّبا ، والسّلم ، وتنظر في مواطنها .
إقطاع *
التّعريف :
1 - من معاني الإقطاع في اللّغة : التّمليك والإرفاق ، يقال استقطع الإمام قطيعةً فأقطعه إيّاها : أي سأله أن يجعلها له إقطاعاً يتملّكه ويستبدّ به وينفرد ، ويقال : أقطع الإمام الجند البلد : إذا جعل لهم غلّتها رزقاً . وهو كذلك شرعاً يطلق على ما يقطعه الإمام ، أي يعطيه من الأراضي رقبةً أو منفعةً لمن ينتفع به .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - إحياء الموات :
2 - هو كما عرّفه الشّافعيّة بأنّه : عمارة الأرض الخربة الّتي لا مالك لها ولا ينتفع بها أحد .
ب - أعطيات السّلطان :
3 - العطاء والعطيّة : اسم لما يعطى ، والجمع عطايا وأعطية ، وجمع الجمع أعطيات . وأعطيات السّلطان : ما يعطيه لأحدٍ من الرّعيّة من بيت المال مع مراعاة المصلحة العامّة . وعلى هذا قد يكون الإقطاع عطاءً ، وقد ينفصل العطاء ، فيكون في الأموال المنقولة غالباً .
ج - الحمى :
4 - المشروع منه : أن يحمي الإمام أرضاً من الموات ، يمنع النّاس رعي ما فيها من الكلأ لتكون خاصّةً لبعض المصالح العامّة كمواشي الصّدقة .
د - الإرصاد :
5 - الإرصاد لغةً : الإعداد ، واصطلاحاً : تخصيص الإمام غلّة بعض أراضي بيت المال لبعض مصارفه . وللتّفصيل ينظر مصطلح ( إرصاد ) .
فالفرق بينه وبين الإقطاع أنّ الإرصاد لا يصير ملكاً للمرصد له ، بحيث يتوارثه أولاده أو يتصرّفون فيه كما شاءوا .
الحكم التّكليفيّ :
6 - الإقطاع جائز بشروطه ، سواء أكان إقطاع تمليكٍ أم إقطاع إرفاقٍ ، ودليل ذلك من السّنّة أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم أقطع الزّبير ركض فرسه من موات النّقيع » ، وكذلك فعل الخلفاء من بعده .
أنواع الإقطاع :
الإقطاع نوعان :
7 - النّوع الأوّل : إقطاع الإرفاق ( أو الإمتاع أو الانتفاع ) .
وهو : إرفاق النّاس بمقاعد الأسواق ، وأفنية الشّوارع ، وحريم الأمصار ، ومنازل المسافرين ، ونحو ذلك .
وهو على ثلاثة أقسامٍ :
القسم الأوّل :
8 - ما يختصّ الإرفاق فيه بالصّحارى والفلوات . حيث منازل المسافرين وحلول المياه وذلك ضربان :
أحدهما : أن يكون لاجتياز السّابلة واستراحة المسافرين فيه . وهذا لا نظر للسّلطان فيه لبعده عنه ، والّذي يخصّ السّلطان من ذلك إصلاح عورته وحفظ مياهه ، والتّخلية بين النّاس وبين نزوله ، ويكون السّابق إلى المنزل أحقّ بحلوله فيه من المسبوق حتّى يرتحل عنه ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « منى مناخ من سبق » . فإن نزلوه سواءً ، عدل بينهم نفياً للتّنازع .
والثّاني: أن يكون نزولهم للاستيطان ، فإن كان . كذلك فللإمام منعهم أو تركهم حسب مصالح المسلمين .
القسم الثّاني :
9 - وهو ما يختصّ بأفنية الدّور والأملاك . ينظر ، فإن كان الارتفاق مضرّاً بهم منع اتّفاقاً ، إلاّ أن يأذنوا بدخول الضّرر عليهم . فإن كان غير مضرٍّ بهم ففي إباحة ارتفاقهم به من غير إذن أربابها اتّجاهان :
الأوّل : أنّ لهم الارتفاق بها وإن لم يأذن أربابها ، لأنّ الحريم ( وهو ما ينتفع به أهل الدّور من أماكن غير مملوكةٍ لأحدٍ ) يعتبر مرفقاً إذا وصل أهله إلى حقّهم منه ساواهم النّاس فيما عداه ، وهو قول للشّافعيّة ، ورواية عن أحمد ، والزّهريّ ، وهو رأي الحنفيّة ، والمالكيّة . الثّاني : لا يجوز الارتفاق بحريمهم إلاّ عن إذنهم ، لأنّه تبع لأملاكهم فكانوا به أحقّ ، وبالتّصرّف فيه أخصّ ، وهو رأي للشّافعيّة والحنابلة .
القسم الثّالث :
10 - هو ما اختصّ بأفنية الشّوارع والطّرقات ، فهو موقوف على نظر السّلطان ، وفي حكم نظره وجهان : أحدهما : أنّ نظره فيه مقصور على كفّهم عن التّعدّي ، ومنعهم من الإضرار ، والإصلاح بينهم عند التّشاجر .
والثّاني : أنّ نظره فيه نظر مجتهدٍ فيما يراه صالحاً ، في إجلاس من يجلس ، ومنع من يمنعه ، وتقديم من يقدّمه .
النّوع الثّاني : إقطاع التّمليك :
11 - هو تمليك من الإمام مجرّد عن شائبة العوضيّة بإحياءٍ أو غيره .
أقسامه وحكم تلك الأقسام :
12 - ينقسم إقطاع التّمليك في الأرض المقطعة إلى ثلاثة أقسامٍ : مواتٍ ، وعامرٍ، ومعادن . إقطاع الموات :
إقطاع الموات ضربان :
13 - الضّرب الأوّل : ما لم يزل مواتاً من قديم الدّهر ، فلم تجر فيه عمارة ولا يثبت عليه ملك ، فهذا يجوز للإمام أن يقطعه من يحييه ومن يعمّره ، وقد « أقطع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الزّبير بن العوّام ركض فرسه من موات النّقيع ، فأجراه ، ثمّ رمى بسوطه رغبةً في الزّيادة ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أعطوه منتهى سوطه » .
ويمتنع به إقدام غير المقطع على إحيائه ، لأنّه ملك رقبته بالإقطاع نفسه ، خلافاً للحنابلة ، فإنّهم ذهبوا إلى أنّ إقطاع الموات مطلقاً لا يفيد تمليكاً ، لكنّه يصير أحقّ به من غيره ، فإن أحياه ملكه بالإحياء لا بالإقطاع ، أمّا إذا كان الإقطاع مطلقاً ، أو مشكوكاً فيه ، فإنّه يحمل على إقطاع الإرفاق ، لأنّه المحقّق .
14 - الضّرب الثّاني من الموات : ما كان عامراً فخرب ، فصار مواتاً عاطلاً ، وذلك نوعان : أحدهما : ما كان عاديّاً - أي قديماً ، جاهليّاً - فهو كالموات الّذي لم يثبت فيه عمارة ويجوز إقطاعه . قال صلى الله عليه وسلم « عاديّ الأرض للّه ولرسوله ، ثمّ هي لكم منّي »
ثانيهما : ما كان إسلاميّاً جرى عليه ملك المسلمين ، ثمّ خرب حتّى صار مواتاً عاطلاً ، ولا يعرف له مالك ولا ورثة مالكٍ . قال الشّافعيّة : إنّه مال ضائع يرجع فيه إلى رأي الإمام مطلقاً . وقال المالكيّة : يملك بالإحياء مطلقاً ، إذا كانت الأرض غير مقطعةٍ ، أمّا إذا كانت مقطعةً فالرّاجح عندهم أنّها لا تملك بالإحياء . وقال الحنفيّة : إن لم يعرف أربابه ملك بالإحياء ، بشرط إقطاع الإمام له ، وهو رأي للحنابلة .
إقطاع العامر
إقطاع العامر ضربان :
15 - الضّرب الأوّل : ما تعيّن مالكه فلا نظر للسّلطان في إقطاعه اتّفاقاً ، إلاّ ما يتعلّق بتلك الأرض من حقوق بيت المال أو المصالح العامّة . وهذا إذا كانت في دار الإسلام ، سواء أكانت لمسلمٍ أم لذمّيٍّ . فإن كانت في دار الحرب الّتي لا يثبت للمسلمين عليها يد ، فأراد الإمام إقطاعها عند الظّفر جاز . وقد : « سأل تميم الدّاريّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يقطعه عيون البلد الّذي كان منه بالشّام قبل فتحه ففعل » .
16 - الضّرب الثّاني من العامر : ما لم يتعيّن مالكوه ولم يتميّز مستحقّوه : فما اصطفاه الإمام لبيت المال ، وكذلك كلّ ما دخل بيت المال من أرض الخراج ، أو ما مات عنه أربابه ، ولم يستحقّه وارث بفرضٍ ولا تعصيبٍ ففي إقطاعه رأيان :
الأوّل : عدم الجواز وهو رأي المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لأنّه لا يجوز إقطاع رقبته لاصطفائه لبيت المال ، فكان بذلك ملكاً لكافّة المسلمين . فجرى على رقبته حكم الوقف المؤبّد .
الثّاني : الجواز وهو رأي الحنفيّة ، لأنّ للإمام أن يجيز من بيت المال من له غناء في الإسلام ، ومن يقوى به على العدوّ ، ويعمل في ذلك بالّذي يرى أنّه خير للمسلمين وأصلح لأمرهم ، والأرض عندهم بمنزلة المال يصحّ تمليك رقبتها ، كما يعطى المال حيث ظهرت المصلحة .
إقطاع المعادن
المعادن هي البقاع الّتي أودعها اللّه جواهر الأرض . وهي ضربان : ظاهرة وباطنة .
17 - أمّا الظّاهرة : فما كان جوهرها المستودع فيها بارزاً . كمعادن الكحل ، والملح ، والنّفط ، فهو كالماء الّذي لا يجوز إقطاعه ، والنّاس فيه سواء ، يأخذه من ورد إليه ، لما ورد أنّ أبيض بن حمّالٍ « استقطع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ملح مأربٍ فأقطعه ، فقال الأقرع بن حابسٍ التّميميّ : يا رسول اللّه إنّي وردت هذا الملح في الجاهليّة ، وهو بأرضٍ ليس فيها غيره ، من ورده أخذه وهو مثل الماء العدّ بالأرض ، فاستقال أبيض قطيعة الملح . فقال : قد أقلتك على أن تجعله منّي صدقةً . فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : هو منك صدقة ، وهو مثل الماء العدّ ، من ورده أخذه »
وهو رأي الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . أمّا المالكيّة فقد أجازوا إقطاع الإمام للمعادن بغير تمييزٍ بين الباطن والظّاهر .
18 - وأمّا المعادن الباطنة : فهي ما كان جوهره مستكنّاً فيها ، لا يوصل إليه إلاّ بالعمل ، كمعادن الذّهب والفضّة والصّفر والحديد . فهذه وما أشبهها معادن باطنة ، سواء احتاج المأخوذ منها إلى سبكٍ وتصفيةٍ وتخليصٍ أو لم يحتج . وقد أجاز إقطاعها الحنفيّة ، وهو رأي للشّافعيّة ، ومنع ذلك المالكيّة والحنابلة ، وهو الرّأي الرّاجح للشّافعيّة .
التّصرّف في الأراضي الأميريّة :
19 - يجوز للإمام أن يدفع الأرض الأميريّة للزّراعة ، إمّا بإقامتهم مقام الملّاك في الزّراعة وإعطاء الخراج ، أوإجارتها للزّرّاع بقدر الخراج ، وعلى هذا اتّفق الأئمّة .
وأمّا إقطاعها أو تمليكها : فمنعه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لأنّه صار ملكاً عامّاً للمسلمين ، وأجازه الحنفيّة اعتماداً على أنّ للإمام أن يجيز من بيت المال من له غناء في الإسلام ، كما أنّ له أن يعمل ما يراه خيراً للمسلمين وأصلح ، والأرض عندهم بمنزلة المال . وعلى هذا فمن يلغي إقطاعها لا يجيز تمليكها ، أو إرثها أو إرث اختصاصها ، وإنّما منافعها هي الّتي تملك فقط . فله إيجارها ، وللإمام إخراجها عنه متى شاء ، غير أنّه جرى الرّسم في الدّولة العثمانيّة ، أنّ من مات عن ابنٍ انتقل الاختصاص للابن مجّاناً ، وإلاّ فلبيت المال ، ولو له بنت أو أخ لأبٍ له أخذها بالإجارة الفاسدة .
وهذا إذا كانت الأراضي الأميريّة عامرةً ، وأمّا إذا كانت مواتاً فإنّها تملك بالإحياء ، وتؤخذ بالإقطاع كما سبق ، وتورث عنه إذا مات ، ويصحّ بيعها ، وعليه وظيفتها من عشرٍ أو خراجٍ وللتّفصيل ينظر - ( أرض الحوز ) .
إقطاع المرافق :
20 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز للإمام إقطاع المرافق العامّة وما لا غنى عنه للمسلمين ، وكذلك أرض الملح والقار ونحوها . وكذلك ما قرب من العامر ، وتعلّقت به مصالح المسلمين ، من طرقٍ وسيل ماءٍ ومطرح قمامةٍ وملقى ترابٍ وآلاتٍ ، فلا يجوز إقطاعه ، بغير خلافٍ ، وكذلك ما تعلّقت به مصالح القرية ، كفنائها ومرعى ماشيتها ومحتطبها وطرقها ومسيل مائها ، لا يجوز إقطاعه .
إجارة الإقطاعات وإعارتها :
21 - ما أقطعه الإمام للنّاس ملكاً ، أو اشتري من بيت المال شراءً مسوّغاً ، فلا خفاء في جواز إجارته وإعارته ، حيث صار ملكاً للأشخاص يتصرّفون فيه تصرّف الملّاك ، ومن أقطعه الإمام أرضاً إقطاع انتفاعٍ في مقابلة خدمةٍ عامّةٍ يؤدّيها ، وبعبارة الفقهاء : في مقابلة استعداده لما أعدّ له ، فإنّ للمقطع إجارتها وإعارتها ، لأنّه ملكها ملك منفعةٍ .
وإذا مات المؤجّر ، أو أخرج الإمام الأرض المقطعة منه انفسخت الإجارة ، لانتقال الملك إلى غير المؤجّر .
استرجاع الإقطاعات :
22 - إذا أقطع الإمام أرضاً مواتاً ، وتمّ إحياؤها ، أو لم تمض المدّة المقرّرة عند الفقهاء للإحياء ، فليس له استرجاع الإقطاع من مقطعه ، وكذلك إذا كان الإقطاع من بيت المال بشراءٍ مسوغٍ أو بمقابلٍ ، لأنّه في الأوّل يكون تمليكاً بالإحياء ، وفي الثّاني يكون تمليكاً بالشّراء فلا يجوز إخراجه منه إلاّ بحقّه .
ترك عمارة الأرض المقطعة :
23 - لا يعارض المقطع إذا أهمل أرضه بغير عمارةٍ قبل طول اندراسها . وقدّر الحنفيّة ذلك بثلاث سنين ، وهو رأي للمالكيّة . وقال الحنفيّة : إن أحياها غيره قبل ذلك كانت ملكاً للمقطع . وقال المالكيّة : إن أحياها عالماً بالإقطاع كانت ملكاً للمقطع ، وإن أحياها غير عالمٍ بالإقطاع ، خيّر المقطع بين أخذها وإعطاء المحيي نفقة عمارته ، وبين تركها للمحيي والرّجوع عليه بقيمة الأرض المحياة . وقال سحنون من المالكيّة : لا تخرج عن ملك محييها ولو طال اندراسها ، وإن أعمرها غيره لم تخرج عن ملك الأوّل .
ولم يشترط الشّافعيّة والحنابلة مدّةً معيّنةً ، واعتبروا القدرة على الإحياء بدلاً منها . فإن مضى زمان يقدر على إحيائها فيه قيل له : إمّا أن تحييها فتقرّ في يدك ، وإمّا أن ترفع يدك عنها لتعود إلى حالها قبل الإقطاع . وقد اعتبر الحنابلة الأعذار المقبولة مسوّغاً لبقائها على ملكه بدون إحياءٍ ، إلى أن يزول العذر .
واستدلّ الحنفيّة بأنّ عمر رضي الله عنه جعل أجل الإقطاع إلى ثلاث سنين .
وقال الشّافعيّة : إنّ التّأجيل لا يلزم ، وتأجيل عمر يجوز أن يكون لسببٍ اقتضاه .
وقف الإقطاعات :
24 - إنّ وقف الإقطاع يدور صحّةً وعدماً على ثبوت الملكيّة وعدمه للواقف ، فمن أثبتها له بوجهٍ من الوجوه حكم بصحّة وقف الإقطاع ، ومن لم يثبتها لم يحكم بصحّته .
على أنّ للإمام أن يقف شيئاً من بيت المال على جهةٍ أو شخصٍ معيّنٍ ، مع أنّه لا يملك ما يقفه ، إذا كان في ذلك مصلحة .
الإقطاع بشرط العوض :
25 - الأصل في إقطاع التّمليك : أن يكون مجرّداً عن العوض ، فإن أقطعه الإمام على أنّ عليه كذا أو كلّ عامٍ كذا جاز وعمل به ، ومحلّ العوض المأخوذ بيت مال المسلمين ، لا يختصّ الإمام به ، لعدم ملكه لما أقطعه ، وهو رأي الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ورأي للشّافعيّة ، حيث إنّ للإمام أن يفعل ما يراه مصلحةً للمسلمين . وهناك رأي للشّافعيّة بخلافه ، وعلّلوه بأنّ الإقطاع عطيّة وهبة وصلة وليس بيعاً ، والأثمان من صفة البيع .
أقطع *
التّعريف :
1 - الأقطع لغةً : مقطوع اليد .
وعند الفقهاء : يستعمل في مقطوع اليد أو الرّجل . وفي العمل النّاقص أو قليل البركة .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - « كلّ أمرٍ لا يبدأ فيه ببسم اللّه الرّحمن الرّحيم فهو أقطع » كما ورد في الحديث .
3 - والمكلّف إن كان مقطوع اليد أو الرّجل يسقط عنه الجهاد إن كان فرض كفايةٍ ، لأنّه إذا سقط عن الأعرج فالأقطع أولى ، ولأنّه يحتاج إلى الرّجلين في المشي ، واليدين ليتّقي بأحدهما ويضرب بالأخرى .
ومن الفقهاء من يجعل بعض الأمراض الّتي تصيب اليد أو الرّجل عذراً يمنع الخروج للقتال كذلك .
4 - ومن قطعت يده أو رجله يسقط عنه فرض غسل العضو المقطوع في الوضوء والغسل ( ر : وضوء ، غسل ) .
5- وقطع اليد والرّجل صفة نقصٍ في إمام الصّلاة ، ولذلك كره بعض الفقهاء إمامته لغيره ، ومنهم من منعها ، وتفصيل ذلك في شروط الإمامة .
6- وإن قطع الأقطع من غيره عضواً مماثلاً للعضو المقطوع أو غير مماثلٍ ففي ذلك تفصيل ينظر في ( قصاص ) . وكذلك إذا سرق ففي إقامة الحدّ عليه تفصيل : ( ر : سرقة ) .
إقعاء *
التّعريف :
1 - الإقعاء عند العرب : إلصاق الأليتين بالأرض ، ونصب السّاقين ووضع اليدين على الأرض ، وقال ابن القطّاع : أقعى الكلب : جلس على أليتيه ونصب فخذيه ، وأقعى الرّجل : جلس تلك الجلسة .
وللفقهاء في الإقعاء تفسيران :
الأوّل : نحو المعنى اللّغويّ ، وهو اختيار الطّحاويّ من الحنفيّة .
والثّاني : أن يضع أليتيه على عقبيه ، ويضع يديه على الأرض ، وهو اختيار الكرخيّ من الحنفيّة .
وجلسة الإقعاء غير التّورّك والافتراش ، فالافتراش أن يجلس على كعب يسراه بحيث يلي ظهرها الأرض وينصب يمناه . ويخرجها من تحته ، ويجعل بطون أصابعها على الأرض معتمداً عليها لتكون أطراف أصابعه إلى القبلة .
والتّورّك إفضاء ألية وورك وساق الرّجل اليسرى للأرض ، ونصب الرّجل اليمنى على اليسرى ، وباطن إبهام اليمنى للأرض ، فتصير رجلاه معاً من الجانب الأيمن .
الحكم الإجماليّ :
2 - الإقعاء بالمعنى الأوّل مكروه في الصّلاة عند أكثر الفقهاء ، لما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « نهى عن الإقعاء في الصّلاة » . وعند المالكيّة : الإقعاء بهذه الصّورة حرام ، ولكن لا تبطل به الصّلاة . وأمّا الإقعاء بالمعنى الثّاني فمكروه أيضاً عند الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة ، إلاّ أنّ الكراهة تنزيهيّة عند الحنفيّة .
استدلّ الحنابلة على هذا الرّأي رواه الحارث عن عليٍّ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا تقع بين السّجدتين » . وعند الشّافعيّة : الإقعاء بهذه الكيفيّة بين السّجدتين سنّة ، ففي مسلمٍ « الإقعاء سنّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم » وفسّره العلماء بهذا ، ونصّ عليه الشّافعيّ في البويطيّ والإملاء في الجلوس بين السّجدتين ، ونقل عن أحمد بن حنبلٍ أنّه قال : لا أفعل ولا أعيب من فعله ، وقال : العبادلة كانوا يفعلونه .
أمّا الإقعاء في الأكل فلا يكره ، روى أنس رضي الله عنه قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جالساً مقعياً يأكل تمراً » .
أقلف *
التّعريف :
1 - الأقلف : هو الّذي لم يختن ، والمرأة قلفاء ، والفقهاء يخصّون أحكام الأقلف بالرّجل دون المرأة . ويقابل الأقلف في المعنى : المختون .
وإزالة القلفة من الأقلف تسمّى ختاناً في الرّجل ، وخفضاً في المرأة .
حكمه التّكليفيّ :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ إزالة القلفة من الأقلف من سنن الفطرة ، لتضافر الأحاديث على ذلك ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : « الفطرة خمس : الختان ، والاستحداد ، وقصّ الشّارب ، وتقليم الأظافر ، ونتف الإبط » . كما سيأتي تفصيل ذلك في ( ختان ) .
وذهب الشّافعيّة وأحمد بن حنبلٍ إلى أنّ الختان فرض . وهو قول ابن عبّاسٍ وعليّ بن أبي طالبٍ والشّعبيّ وربيعة الرّأي والأوزاعيّ ويحيى بن سعيدٍ وغيرهم ، وعلى هذا فإنّ الأقلف تارك فرضٍ ، ومنهم من ذهب إلى أنّه سنّة كأبي حنيفة والمالكيّة ، وهو قول الحسن البصريّ .
3 - يختصّ الأقلف ببعض الأحكام :
أ - ردّ شهادته عند الحنفيّة إن كان تركه الاختتان لغير عذرٍ . وهو ما يفهم من مذهبي الشّافعيّة والحنابلة ، لأنّهم يقولون بوجوب الاختتان ، وترك الواجب فسق ، وشهادة الفاسق مردودة . وذهب المالكيّة إلى كراهة شهادته .
ب - جواز ذبيحة الأقلف وصيده ، لأنّه لا أثر للفسق في الذّبيحة والصّيد ، ولذلك فقد ذهب الجمهور - وهو الصّحيح عند الحنابلة - إلى أنّ ذبيحة الأقلف وصيده يؤكلان ، لأنّ ذبيحة النّصرانيّ تؤكل فهذا أولى . وروي عن ابن عبّاسٍ ، وعكرمة وأحمد بن حنبلٍ أنّ ذبيحة الأقلف لا تؤكل ، وقد بيّن الفقهاء ذلك في كتاب الذّبائح والصّيد .
ج - إذا كان الاختتان - إزالة القلفة - فرضاً ، أو سنّةً ، فلو أزالها إنسان بغير إذن صاحبها فلا ضمان عليه .
د - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا كان هناك حرج في غسل ما تحت القلفة فلا يطلب تطهيرها دفعاً للحرج .
أمّا إذا كان تطهيرها ممكناً من غير حرجٍ فالشّافعيّة والحنابلة يوجبون تطهير ما تحت القلفة في الغسل والاستنجاء ، لأنّها واجبة الإزالة ، وما تحتها له حكم الظّاهر .
وذهب الحنفيّة إلى استحباب غسلها في الغسل والاستنجاء ، ويفهم من عبارة مواهب الجليل أنّ المالكيّة لا يرون وجوب غسل ما تحت القلفة .
هـ – ذهب الشّافعيّة والحنابلة ، وهم من يقولون بوجوب تطهير ما تحت القلفة ، إلى أنّه إذا لم يغسل ما تحتها لا تصحّ طهارته ، وبالتّالي لا تصحّ إمامته .
وأمّا الحنفيّة فتصحّ إمامته عندهم مع الكراهة التّنزيهيّة ، والمالكيّة يرون جواز إمامة الأقلف ، ولكنّهم يرون كراهة تعيينه إماماً راتباً ، ومع هذا لو صلّى النّاس خلفه لم يعيدوا صلاتهم .
أقلّ الجمع *
التّعريف :
1 - الجمع في اللّغة : تأليف المتفرّق ، وضمّ الشّيء بتقريب بعضه من بعض .
وفي اصطلاح النّحاة والصّرفيّين . اسم دلّ على جملة آحادٍ مقصودةٍ بحروف مفرده بتغيّرٍ ما . وفيما يفيده أقلّ الجمع من حيث العدد آراء :
أ - رأي النّحاة والصّرفيّين :
2 - أفاد الرّضيّ في الكافية أنّه لا يجوز إطلاق الجمع على الواحد والاثنين ، فلا يقع رجال على رجلٍ ولا رجلين . ، وصرّح ابن يعيشٍ بأنّ القليل الّذي جعل القلّة له هو الثّلاثة فما فوقها إلى العشرة .
ب - رأي الأصوليّين والفقهاء :
3 - ذكر الأصوليّون الخلاف في أقلّ عددٍ تطلق عليه صيغة الجمع ، فجاء في التّلويح ، ونحوه في مسلّم الثّبوت : أنّ أكثر الصّحابة والفقهاء وأئمّة اللّغة ذهبوا إلى أنّ أقلّ الجمع ثلاثة ، فلا يصحّ الإطلاق على أقلّ منه إلاّ مجازاً ، حتّى لو حلف لا يتزوّج نساءً لا يحنث بتزوّج امرأتين . وذهب بعضهم كحجّة الإسلام الغزاليّ ، وسيبويه من النّحاة ، إلى أنّ أقلّ الجمع اثنان حقيقةً ، حتّى يحنث بتزوّج امرأتين .
وقيل : لا يصحّ للاثنين لا حقيقةً ولا مجازاً . وبعد عرض أدلّة كلّ فريقٍ ، والرّدّ عليها ، يذكر صاحبا التّلويح ومسلّم الثّبوت أنّ النّزاع ليس في لفظ الجمع المؤلّف من ( ج م ع ) وإنّما النّزاع في المسمّى ، أي في الصّيغ المسمّاة به ، كرجالٍ ومسلمين .
وذكر القرطبيّ عند تفسير قوله تعالى : { فإن كان له إخوة فلأمّه السّدس } أنّ أقلّ الجمع اثنان ، لأنّ التّثنية جمع شيءٍ إلى مثله ، واستدلّ برأي سيبويه فيما يرويه عن الخليل . والظّاهر أنّ القرطبيّ أراد بقوله : إنّ أقلّ الجمع اثنان الميراث لأنّه قال بعد ذلك : وممّن قال : إنّ أقلّ الجمع ثلاثة - وإن لم يقل به هنا - ( يقصد الميراث ) ابن مسعودٍ والشّافعيّ وأبو حنيفة وغيرهم . وبالنّظر في أبواب الفقه المختلفة نجد أنّ أقلّ الجمع عند الفقهاء ثلاثة فصاعداً عدا الميراث ، وسيأتي بيان ذلك .
ج - رأي الفرضيّين :
4 - الفرضيّون - عدا ابن عبّاسٍ - يعتبرون أنّ أقلّ الجمع اثنان ، فقد جاء في العذب الفائض عند الكلام على ميراث الأمّ مع الإخوة أنّ أقلّ الجمع اثنان ، قال ابن سراقة وقد ورد ذلك في القرآن الكريم كقوله تعالى : { هذان خصمان اختصموا في ربّهم } . يريد اختصما ، ثمّ قال : ومن أهل اللّغة من يجعل الاثنين جمعاً حقيقةً ، وقد حكي عن الفرّاء أنّه قال : أوّل الجمع التّثنية ، وهو الأصل في اللّغة ، والاثنان من جنس الإخوة يردّان الأمّ إلى السّدس وجاء في السّراجيّة أنّ حكم الاثنين في الميراث حكم الجماعة ، فحكم البنتين والأختين كحكم البنات والأخوات في استحقاق الثّلثين ، فكذا في الحجب .
وهذا الحكم لم يخالف فيه سوى ابن عبّاسٍ .
ما يتفرّع على هذه القاعدة :
أوّلاً - عند الفقهاء :
5 - يبني الفقهاء أحكامهم على اعتبار أنّ أقلّ الجمع ثلاثة ، وهذا فيما يستعمل فيه من المسائل الفقهيّة المتفرّقة عدا مسائل الميراث ، عند جميع الفقهاء ، والوصيّة كذلك عند الحنفيّة ، فتبنى الأحكام فيها باعتبار أنّ أقلّ الجمع اثنان ، وذلك كما جاء في عباراتهم . ويجب أن يلاحظ أنّ المقصود هو الجمع المنكّر كما سنرى في الأمثلة - إذ هو الّذي يتمّ الحكم بانطباقه على ثلاثةٍ من أفراده باعتبارها أقلّ ما ينطبق عليه .
الأمثلة في غير الميراث :
6 - أ - في الوصيّة : من وصّى بكفّارة أيمانٍ فأقلّ ما يجب لتنفيذ هذه الوصيّة أن يكفّر عنه ثلاثة أيمانٍ ، لأنّ الثّلاثة أقلّ الجمع ، وهذا عند الجمهور . أمّا عند الحنفيّة فيجب التّكفير عن يمينين فصاعداً ، اعتباراً لمعنى الجمع ، وأقلّه اثنان في الوصيّة ، والوصيّة أخت الميراث ، وفي الميراث أقلّ الجمع اثنان .
ب - في الوقف : من وقف لجماعةٍ أو لجمعٍ من أقرب النّاس إليه صرف ريع الوقف إلى ثلاثةٍ ، لأنّها أقلّ الجمع ، فإن لم يبلغ أقرب النّاس إليه ثلاثةً يتمّم العدد ممّا بعد الدّرجة الأولى . فمثلاً : إن كان لمن وقف ابنان وأولاد ابنٍ ، فإنّه يخرج من أولاد ابنه واحد منهم بالقرعة . ويضمّ للابنين ويعطون الوقف .
ج - في الإقرار : لو قال : له عندي دراهم ، لزمه ثلاثة دراهم ، لأنّه جمع ، وأقلّ الجمع ثلاثة .
د - في اليمين : من حلف على ترك شيءٍ ، أو على ألاّ يكلّم غيره أيّاماً أو شهوراً أو سنين ، منكّراً لفظ الأيّام والشّهور والسّنين لزمه ثلاثة ، لأنّه أقلّ الجمع .
7- أمّا بالنّسبة للميراث فتبنى الأحكام فيه باعتبار أنّ أقلّ الجمع اثنان . ويتّضح ذلك في ميراث الأمّ مع الإخوة ، فقد أجمع أهل العلم - إلاّ ما روي عن ابن عبّاسٍ - على أنّ الأخوين ( فصاعداً ) ذكوراً كانوا أو إناثاً يحجبان الأمّ عن الثّلث إلى السّدس ، عملاً بظاهر قوله تعالى : { فإن كان له إخوة فلأمّه السّدس } . لأنّ أقلّ الجمع هنا اثنان ، وقد قال الزّمخشريّ : لفظ الإخوة هنا يتناول الأخوين ، لأنّ الجمع من الاجتماع ، وأنّه يتحقّق باجتماع الاثنين . ولأنّ الجمع يذكر بمعنى التّثنية كما في قوله تعالى : { فقد صغت قلوبكما } هذا رأي الجمهور .
وخالف في ذلك ابن عبّاسٍ فجعل الاثنين من الإخوة في حكم الواحد ولا يحجب الأمّ أقلّ من ثلاثٍ ، لظاهر الآية ، وقد وقع الكلام في ذلك بين عثمان وابن عبّاسٍ ، فقال له عثمان : إنّ قومك ( يعني قريشاً ) حجبوها - يعني الأمّ - وهم أهل الفصاحة والبلاغة .
ثانياً - عند الأصوليّين :
8 - ذكر الأصوليّون الخلاف في مسمّى الجمع ، وهل يطلق على الثّلاثة فأكثر ، أو يصحّ أن يطلق على الاثنين على نحو ما سبق بيانه .
وهم يذكرون ذلك في معرض الكلام عن العامّ وتخصيصه ، باعتبار أنّ الجمع من ألفاظ العموم ، وأنّ العامّ إذا كان جمعاً مثل الرّجال جاز تخصيصه إلى الثّلاثة ، تفريعاً على أنّ الثّلاثة أقلّ الجمع ، لأنّ التّخصيص إلى ما دون الثّلاثة يخرج اللّفظ عن الدّلالة على الجمع فيصير نسخاً ، وتفصيل هذا ينظر في الملحق الأصوليّ .
مواطن البحث :
9 - أقلّ الجمع يستعمل في المسائل الّتي يستعمل فيها الجمع المنكّر ، كالنّذر والأيمان والعتق والطّلاق وغير ذلك .
أقلّ ما قيل *
التّعريف :
1 - الأخذ بأقلّ ما قيل عند الأصوليّين أن يختلف الصّحابة في أمرٍ مقدّرٍ على أقاويل ، فيؤخذ بأقلّها ، إذا لم يدلّ على الزّيادة دليل . وذلك مثل اختلافهم في دية اليهوديّ هل هي مساوية لدية المسلم ، أو على النّصف ، أو على الثّلث ؟ فالقول بأقلّها وهو الثّلث – أخذ بأقلّ ما قيل . ويقاربه : الأخذ بأخفّ ما قيل . والفرق بينهما هو من حيث الكمّ والكيف .
ويقابله : الأخذ بأكثر ما قيل .
الحكم الإجماليّ :
2 - اختلف الأصوليّون في الأخذ بأقلّ ما قيل ، هل يعتبر دليلاً يعتمد في إثبات الحكم ؟ فأثبته الإمام الشّافعيّ ، والباقلّانيّ من المالكيّة ، وقال القاضي عبد الوهّاب منهم : وحكى بعض الأصوليّين إجماع أهل النّظر عليه .
ونفاه جماعة ، منهم ابن حزمٍ ، بل حكى قولاً بأنّه يؤخذ بأكثر ما قيل ، ليخرج عن عهدة التّكليف بيقينٍ ، وكما اختلفوا في الأخذ بالأقلّ اختلفوا في الأخذ بالأخفّ ومحلّ تفصيل ذلك الملحق الأصوليّ .
مواطن البحث :
3 - ذكر الأصوليّون الأخذ بأقلّ ما قيل في مبحث الاستدلال . والاستدلال هنا في اصطلاحهم : ما كان من الأدلّة ليس بنصٍّ ولا إجماعٍ ولا قياسٍ . كما ذكروه في الكلام على الإجماع لبيان علاقته به .
اكتحال *
التّعريف :
1 - الاكتحال لغةً : مصدر اكتحل . يقال اكتحل : إذا وضع الكحل في عينه . وهو في الاصطلاح مستعمل بهذا المعنى .
الحكم الإجماليّ :
2 - استحبّ الحنابلة والشّافعيّة الاكتحال وتراً ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « من اكتحل فليوتر » ، وأجازه مالك في أحد قوليه للرّجال ، وكرهه في قوله الآخر للتّشبّه بالنّساء .
أمّا الحنفيّة ، فقالوا بالجواز إذا لم يقصد به الرّجل الزّينة ، وأوضح بعض الحنفيّة أنّ الممنوع هو التّزيّن للتّكبّر ، لا بقصد الجمال والوقار . ولا خلاف في جواز الاكتحال للنّساء ولو بقصد الزّينة ، وكذلك للرّجال بقصد التّداوي . وللتّفصيل ينظر مصطلح ( تزيّن ) .
الاكتحال بالمتنجّس :
3 - ينبغي أن يكون ما يكتحل به طاهراً حلالاً ، أمّا الاكتحال بالنّجس أو المحرّم فهو غير جائزٍ لعموم النّهي عن ذلك . أمّا إذا كان الاكتحال لضرورةٍ فقد أجازه الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ومنعه المالكيّة .
الاكتحال في الإحرام :
4 - أجاز الحنفيّة الاكتحال بالإثمد للمحرم بغير كراهةٍ ما دام بغير طيبٍ ، فإذا كان بطيبٍ وفعله مرّةً أو مرّتين فعليه صدقة ، فإن كان أكثر فعليه دم . ومنعه المالكيّة وإن كان من غير طيبٍ ، إلاّ إذا كان لضرورةٍ ، فإن اكتحل فعليه الفدية . وأجازه الشّافعيّة والحنابلة مع الكراهة ، واشترط الحنابلة عدم قصد الزّينة به . ( ر - إحرام ) .
الاكتحال في الصّوم :
5 - إذا اكتحل الصّائم بما يصل إلى جوفه فعند الحنفيّة والشّافعيّة - وهو اختيار ابن تيميّة - لا يفسد صومه ، وإن وجد طعمه في حلقه ، ولونه في نخامته ، لأنّه لم يصل إلى الجوف من منفذٍ مباشرٍ ، بل بطريق المسامّ . وقال المالكيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة : إنّه يفسد صومه إذا وصل إلى الحلق . وللتّفصيل ينظر ( صوم ) .
الاكتحال للمعتدّة من الوفاة :
6 - إذا كان الاكتحال بما لا يتزيّن به عادةً فلا بأس به عند الفقهاء ليلاً أو نهاراً . أمّا إذا كان ممّا يتزيّن به كالإثمد ، فالأصل عدم جوازه إلاّ لحاجةٍ ، فإن دعت الحاجة إلى ذلك جاز . وصرّح المالكيّة أنّ المراد - في هذه الحال - تكتحل ليلاً وتغسله نهاراً وجوباً .
الاكتحال للمعتدّة من الطّلاق :
7 - اتّفق الفقهاء على إباحة الاكتحال للمعتدّة من طلاقٍ رجعيٍّ . بل صرّح المالكيّة بأنّه يفرض على زوج المعتدّة ثمن الزّينة الّتي تستضرّ بتركها .
واختلفوا في المعتدّة من طلاقٍ بائنٍ . قال الحنفيّة ، وهو رأي للشّافعيّة والحنابلة : يجب عليها ترك الاكتحال والزّينة ، وفي رأيٍ للشّافعيّة والحنابلة : يستحسن لها ذلك .
أمّا المالكيّة فعندهم الإباحة مطلقاً للمطلّقة ( ر - عدّة ) .
الاكتحال في الاعتكاف :
8 - تكلّم الشّافعيّة على الزّينة في الاعتكاف والاكتحال فيه ، وصرّحوا بأنّه لا يضرّ فيه الاكتحال ولا الزّينة . وقواعد المذاهب الأخرى لا تنافيه . ( ر - اعتكاف ) .
الاكتحال في يوم عاشوراء :
9 - تكلّم الحنفيّة على الاكتحال في يوم عاشوراء وعلى استحبابه ، وأبانوا بأنّه لم يرد في ذلك نصّ صحيح ، وقال بعضهم : بأنّه بدعة . ( ر - بدعة ) .
اكتساب *
التّعريف :
1 - الاكتساب : طلب الرّزق وتحصيل المال على العموم . وأضاف الفقهاء إلى ذلك ما يفصح عن الحكم ، فقالوا : الاكتساب هو تحصيل المال بما حلّ من الأسباب .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الكسب :
2 - يفترق الكسب عن الاكتساب بأنّ الاكتساب لا يكون إلاّ ببذل الجهد ، أمّا الكسب فإنّه لا يعني أكثر من الإصابة ، يقال : كسب مالاً : إذا أصاب مالاً ، سواء كان ذلك ببذل جهدٍ ، بأن اكتسبه بعرق جبينه ، أو كسبه من غير جهدٍ ، كما إذا آل إليه بميراثٍ مثلاً .
ب - الاحتراف ، أو العمل :
3 - يفترق الاكتساب عن الاحتراف أو العمل بأنّهما من وسائل الاكتساب ، وليسا باكتسابٍ ، إذ الاكتساب قد يكون باحتراف حرفةٍ ، وقد يكون بغير احتراف حرفةٍ ، كمن يعمل يوماً عند نجّارٍ ، ويوماً عند حدّادٍ ، ويوماً حمّالاً ، دون أن يبرع أو يستقرّ في عملٍ .
الحكم التّكليفيّ :
4 - أ - ذهب الفقهاء إلى أنّ الاكتساب فرض على المحتاج إليه إذا كان قادراً عليه ، لأنّه به يقوم المكلّف بما وجب عليه من التّكاليف الماليّة ، من الإنفاق على النّفس والزّوجة والأولاد الصّغار ، والأبوين المعسرين ، والجهاد في سبيل اللّه وغير ذلك .
ب - ويفصّل ابن مفلحٍ الحنبليّ حكم الاكتساب بحسب أحوال المكتسب ، وخلاصة كلامه : يسنّ التّكسّب مع توفّر الكفاية للمكتسب ، قال المروزيّ : سمعت رجلاً يقول لأبي عبد اللّه أحمد بن حنبلٍ : إنّي في كفايةٍ ، قال الإمام أحمد : الزم السّوق تصل به رحمك ، وتعد به على نفسك .
ويباح التّكسّب لزيادة المال والجاه والتّرفّه والتّنعّم والتّوسعة على العيال ، مع سلامة الدّين والعرض والمروءة وبراءة الذّمّة .
ويجب التّكسّب على من لا قوت له ولمن تلزمه نفقته ، وعلى من عليه دين أو نذر طاعةٍ أو كفّارة . وقد فصّل الفقهاء ذلك في أبواب النّفقة .
ويرى الماورديّ - الشّافعيّ - في كتابه أدب الدّنيا والدّين : أنّ طلب المرء من الكسب قدر كفايته ، والتماسه منه وفق حاجته هو أحمد أحوال الطّالبين ، وأعدل مراتب القاصدين .
من لا يكلّف الاكتساب :
5 - أ - لا تكلّف المرأة الاكتساب للإنفاق على نفسها أو على غيرها ، وتكون نفقتها إن كانت فقيرةً واجبةً على غيرها ، سواء كانت متزوّجةً أم ليست بذات زوجٍ .
ب - ولا يكلّف الصّغير الّذي ليس بأهلٍ للكسب الاكتساب ، ومن جملة هذه الأهليّة القدرة الجسديّة والفكريّة الّتي يفرّق فيها بين الحلال والحرام ، لما روى الإمام مالك في الموطّأ عن عثمان بن عفّان أنّه قال : لا تكلّفوا الصّغير الكسب ، فإنّه إذا لم يجد سرق .
أمّا الكبير فإنّه يكلّف الاكتساب كما تقدّم .
طرق الاكتساب :
6 - إذا كان الاكتساب لا بدّ فيه من بذل الجهد - على خلاف الكسب الّذي قد يكون ببذل الجهد ، وقد يكون بغير بذل جهدٍ - فإنّه لا يكون إلاّ بالعمل ، وعندئذٍ يشترط في العمل أن يكون حلالاً ، فلا يجوز الاكتساب بتقديم الخمر لشاربيه ، سواء احترف ذلك أم لم يحترفه ، كما يكره الاكتساب عن طريق حرفةٍ وضيعةٍ بقيودٍ وشروطٍ ذكرت في ( احتراف ) .
أكدريّة *
التّعريف :
1 - الأكدريّة هي : إحدى المسائل الملقّبات في الفرائض ، وهي زوج ، وأمّ ، وجدّ ، وأخت لأبٍ وأمٍّ ، أو لأبٍ . ولقّبت هذه المسألة بالأكدريّة ، لأنّها واقعة امرأةٍ من بني أكدر ماتت وخلّفت أولئك الورثة المذكورين ، واشتبه على زيدٍ مذهبه فيها فنسبت إليها . وقيل : إنّ شخصاً من هذه القبيلة كان يحسن مذهب زيدٍ في الفرائض ، فسأله عبد الملك بن مروان عن هذه المسألة فأخطأ في جوابها ، فنسبت إلى قبيلته . وقيل : سمّيت بذلك لأنّها كدّرت على زيد بن ثابتٍ أصوله في التّوريث ، وقيل : لأنّ الجدّ كدّر على الأخت نصيبها ، وأهل العراق يسمّونها الغرّاء ، لشهرتها فيما بينهم . وللعلماء في هذه المسألة ثلاثة مذاهب :
2 - أحدها : مذهب زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه ، وبه أخذ الشّافعيّة والحنابلة ، وهو أنّ للزّوج النّصف ، وللأمّ الثّلث ، وللجدّ السّدس وللأخت النّصف ، ثمّ يضمّ نصيب الجدّ إلى نصيب الأخت ، ويقسم مجموع النّصيبين بينهما للذّكر مثل حظّ الأنثيين .
أصل المسألة من ستّةٍ ، وتعول إلى تسعةٍ : للزّوج ثلاثة ، وللأمّ اثنان ، وللجدّ واحد ، وللأخت ثلاثة ، ومجموع النّصيبين أربعة ، فنقسمها على الجدّ والأخت للذّكر مثل حظّ الأنثيين ، وتصحّ من سبعةٍ وعشرين : للزّوج تسعة ، وللأمّ ستّة ، وللجدّ ثمانية ، وللأخت أربعة . فقد جعل زيد هاهنا الأخت ابتداءً صاحبة فرضٍ ، كي لا تحرم الميراث بالمرّة ، وجعلها عصبةً بالآخرة ، كي لا يزيد نصيبها على نصيب الجدّ الّذي هو كالأخ .
المذهب الثّاني : وهو قول أبي بكرٍ وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم ، حاصله : للزّوج النّصف ، وللأمّ الثّلث ، والسّدس الباقي للجدّ ، وتسقط الأخت ، وقد أخذ بهذا أبو حنيفة .
المذهب الثّالث : وهو قول عمر وابن مسعودٍ ، للزّوج النّصف ، وللأخت النّصف ، وللأمّ السّدس ، وللجدّ السّدس ، وأصلها من ستّةٍ وتعول إلى ثمانيةٍ ، للزّوج ثلاثة ، وثلاثة للأخت أيضاً والجدّ يأخذ سدساً عائلاً وهو واحد ، وكذا الأمّ . وإنّما جعلوا للأمّ السّدس كي لا يفضّلوها على الجدّ .
صلة الأكدريّة بغيرها من المسائل الملقّبات :
3 - الأكدريّة إن لم يكن فيها زوج فهي الخرقاء ، وإن لم يكن فيها جدّ كانت المباهلة ، وإن لم يكن فيها أخت كانت إحدى الغرّاوين ، وأحكام هذه المسائل تذكر في ( إرث ) .
إكراه *
التّعريف :
1 - قال في لسان العرب : أكرهته ، حملته على أمرٍ هو له كاره - وفي مفردات الرّاغب نحوه - ومضى صاحب اللّسان يقول : وذكر اللّه عزّ وجلّ الكره والكره في غير موضعٍ من كتابه العزيز ، واختلف القرّاء في فتح الكاف وضمّها . قال أحمد بن يحيى : ولا أعلم بين الأحرف الّتي ضمّها هؤلاء وبين الّتي فتحوها فرقاً في العربيّة ، ولا في سنّةٍ تتبع . وفي المصباح المنير :" الكَرْه ( بالفتح ) : المشقّة ، وبالضّمّ : القهر ، وقيل : ( بالفتح ) : الإكراه ، " وبالضّمّ " المشقّة . وأكرهته على الأمر إكراهاً : حملته عليه قهراً . يقال : فعلته كَرْهاً " بالفتح " أي إكراهاً - وعليه قوله تعالى : { طوعاً أو كرهاً } فجمع بين الضّدّين .
ولخصّ ذلك كلّه فقهاؤنا إذ قالوا : الإكراه لغةً : حمل الإنسان على شيءٍ يكرهه ، يقال : أكرهت فلاناً إكراهاً : حملته على أمرٍ يكرهه . والكَرْه " بالفتح " اسم منه ( أي اسم مصدرٍ ) . أمّا الإكراه في اصطلاح الفقهاء فهو : فعل يفعله المرء بغيره ، فينتفي به رضاه ، أو يفسد به اختياره . وعرّفه البزدويّ بأنّه : حمل الغير على أمرٍ يمتنع عنه بتخويفٍ يقدر الحامل على إيقاعه ويصير الغير خائفاً به .
أو هو : فعل يوجد من المكرِه ( بكسر الرّاء ) فيحدث في المحلّ ( أي المكَره بفتح الرّاء ) معنًى يصير به مدفوعاً إلى الفعل الّذي طلب منه . والمعنى المذكور في هذا التّعريف ، فسّروه بالخوف ، ولو ممّا يفعله الحكّام الظّلمة بالمتّهمين كيداً . فإذا كان الدّافع هو الحياء مثلاً ، أو التّودّد ، فليس بإكراهٍ .
2 - والفعل - في جانب المكِره ( بكسر الرّاء ) ليس على ما يتبادر منه من خلاف القول ، ولو إشارة الأخرس ، أو مجرّد الكتابة ، بل هو أعمّ ، فيشمل التّهديد - لأنّه من عمل اللّسان - ولو مفهوماً بدلالة الحال من مجرّد الأمر : كأمر السّلطان أو الأمير ، وأمر قاطع الطّريق ، وأمر الخانق الّذي يبدو منه الإصرار .
والحنفيّة يقولون : أمر السّلطان ، إكراه - وإن لم يتوعّد - وأمر غيره ليس بإكراهٍ ، إلاّ أن يعلم تضمّنه التّهديد بدلالة الحال .
وغير الحنفيّة يسوّون بين ذوي البطش والسّطوة أيّاً كانوا ، وصاحب المبسوط نفسه من الحنفيّة يقول : إنّ من عادة المتجبّرين التّرفّع عن التّهديد بالقتل ، ولكنّهم لا يعاقبون مخالفيهم إلاّ به .
3 - ثمّ المراد بالفعل المذكور - فعل واقع على المكَره ( بالفتح ) نفسه - ولو كان تهديداً بأخذ أو حبس ماله الّذي له وقع ، لا التّافه الّذي لا يعتدّ به ، أو تهديداً بالفجور بامرأته إن لم يطلّقها . ويستوي التّهديد المقترن بالفعل المهدّد به - كما في حديث : أخذ عمّار بن ياسرٍ ، وغطّه في الماء ليرتدّ . والتّهديد المجرّد ، خلافاً لمن لم يعتدّ بمجرّد التّهديد ، كأبي إسحاق المروزيّ من الشّافعيّة ، واعتمد . الخرقيّ من الحنابلة ، تمسّكاً بحديث عمّارٍ هذا ، واستدلّ الآخرون بالقياس حيث لا فرق ، وإلاّ توصّل المعتدون إلى أغراضهم - بالتّهديد المجرّد - دون تحمّل تبعةٍ ، أو هلك الواقع عليهم هذا التّهديد إذا رفضوا الانصياع له ، فكان إلقاء بالأيدي في التّهلكة ، وكلاهما محذور لا يأتي الشّرع بمثله . بل في الأثر عن عمر - وفيه انقطاع - ما يفيد هذا التّعميم : ذلك أنّ رجلاً في عهده تدلّى يشتار ( يستخرج ) عسلاً ، فوقفت امرأته على الحبل ، وقالت : طلّقني ثلاثاً ، وإلاّ قطعته ، فذكّرها اللّه والإسلام ، فقالت : لتفعلن ، أو لأفعلن ، فطلّقها ثلاثاً . ورفعت القصّة إلى عمر ، فرأى طلاق الرّجل لغواً ، وردّ عليه المرأة ، ولذا اعتمد ابن قدامة عدم الفرق .
ويتفرّع على هذا التّفسير أنّه لو وقع التّهديد بقتل رجلٍ لا يمتّ إلى المهدّد بسببٍ ، إن هو لم يدلّ على مكان شخصٍ بعينه يراد للقتل ، فإنّ هذا لا يكون إكراهاً ، حتّى لو أنّه وقعت الدّلالة ممّن طلبت منه ، ثمّ قتل الشّخص المذكور ، لكان الدّالّ معيناً على هذا القتل عن طواعيةٍ إن علم أنّه المقصود - والمعيّن شريك للقاتل عند أكثر أهل العلم ، بشرائط خاصّةٍ - وذهب أبو الخطّاب الحنبليّ إلى أنّ التّهديد في أجنبيٍّ إكراه في الأيمان ، واستظهره ابن رجبٍ .
4 - والفعل ، في جانب المكرَه ( بفتح الرّاء ) ، هو أيضاً أعمّ من فعل اللّسان وغيره ، إلاّ أنّ أفعال القلوب لا تقبل الإكراه ، فيشمل القول بلا شكٍّ .
وفيما يسمّيه فقهاؤنا بالمصادرة في أبواب البيوع وما إليها ، الفعل الّذي يطلب من المكَره ( بالفتح ) دفع المال وغرامته ، لا سبب الحصول عليه من بيعٍ أو غيره - كاستقراضٍ - فيصحّ السّبب ويلزم وإن علم أنّه لا مخلص له إلاّ بسببٍ معيّنٍ ، إلاّ أنّ المكرِه ( بالكسر ) لم يعيّنه له في إكراهه إيّاه . ولذا قالوا : إنّ الحيلة في جعل السّبب مكرهاً عليه ، أن يقول : المكرَه ( بالفتح ) : من أين أتى بالمال ؟ فإذا عيّن له المكرِه ( بالكسر ) سبباً ، كأن قال له : بع كذا ، أو عند ابن نجيمٍ اقتصر على الأمر بالبيع دون تعيين المبيع ، وقع هذا السّبب المعيّن تحت طائلة الإكراه .
ولم يخالف في هذا إلاّ المالكيّة - باستثناء ابن كنانة ومتابعيه - إذ جعلوا السّبب أيضاً مكرهاً عليه بإطلاقٍ .
ويشمل التّهديد بإيذاء الغير ، ممّن يحبّه من وقع عليه التّهديد - على الشّرط المعتبر فيما يحصل به الإكراه من أسبابه المتعدّدة - بشريطة أن يكون ذلك المحبوب رحماً محرماً ، أو - كما زاد بعضهم - زوجةً .
والمالكيّة ، وبعض الحنابلة يقيّدونه بأن يكون ولداً وإن نزل ، أو والداً وإن علا . والشّافعيّة - وخرّجه صاحب القواعد الأصوليّة من الحنابلة - لا يقيّدونه إلاّ بكونه ممّن يشقّ على المكرَه ( بالفتح ) إيذاؤه مشقّةً شديدةً كالزّوجة ، والصّديق ، والخادم . ومال إليه بعض الحنابلة . حتّى لقد اعتمد بعض الشّافعيّة أنّ من الإكراه ما لو قال الوالد لولده ، أو الولد لوالده ( دون غيرهما ) : طلّق زوجتك ، وإلاّ قتلت نفسي ، بخلاف ما لو قال : وإلاّ كفرت ، لأنّه يكفر في الحال .
وفي التّقييد بالولد أو الوالد نظر لا يخفى .
كما أنّه يصدق على نحو الإلقاء من شاهقٍ أي : الإلجاء بمعناه الحقيقيّ المنافي للقدرة الممكنة من الفعل والتّرك .
والمالكيّة - وجاراهم ابن تيميّة - اكتفوا بظنّ الضّرر من جانب المكرَه ( بالفتح ) إن لم يفعل ، وعبارتهم : يكون ( أي الإكراه ) بخوف مؤلمٍ .
الألفاظ ذات الصّلة :
5 - الرّضى والاختيار :
الرّضى لغةً : الاختيار . يقال : رضيت الشّيء ورضيت به : اخترته . والاختيار لغةً : أخذ ما يراه خيراً .
وأمّا في الاصطلاح ، فإنّ جمهور الفقهاء لم يفرّقوا بين الرّضى والاختيار ، لكن ذهب الحنفيّة إلى التّفرقة بينهما .
فالرّضى عندهم هو : امتلاء الاختيار وبلوغه نهايته ، بحيث يفضي أثره إلى الظّاهر من ظهور البشاشة في الوجه ونحوها .
أو هو : إيثار الشّيء واستحسانه . والاختيار عند الحنفيّة هو : القصد إلى مقدورٍ متردّدٍ بين الوجود والعدم بترجيح أحد جانبيه على الآخر . أو هو : القصد إلى الشّيء وإرادته .
حكم الإكراه :
6 - الإكراه بغير حقٍّ ليس محرّماً فحسب ، بل هو إحدى الكبائر ، لأنّه أيضاً ينبئ بقلّة الاكتراث بالدّين ، ولأنّه من الظّلم . وقد جاء في الحديث القدسيّ : « يا عبادي إنّي حرّمت الظّلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا ... » .
شرائط الإكراه
الشّريطة الأولى :
7 - قدرة المكرِه ( بالكسر ) على إيقاع ما هدّد به ، لكونه متغلّباً ذا سطوةٍ وبطشٍ - وإن لم يكن سلطاناً ولا أميراً - ذلك أنّ تهديد غير القادر لا اعتبار له .
الشّريطة الثّانية :
8 - خوف المكرَه ( بفتح الرّاء ) من إيقاع ما هدّد به ، ولا خلاف بين الفقهاء في تحقّق الإكراه إذا كان المخوف عاجلاً . فإن كان آجلاً ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والأذرعيّ من الشّافعيّة إلى تحقّق الإكراه مع التّأجيل . وذهب جماهير الشّافعيّة إلى أنّ الإكراه لا يتحقّق مع التّأجيل ، ولو إلى الغد . والمقصود بخوف الإيقاع غلبة الظّنّ ، ذلك أنّ غلبة الظّنّ معتبرة عند عدم الأدلّة ، وتعذّر التّوصّل إلى الحقيقة .
الشّريطة الثّالثة :
9 - أن يكون ما هدّد به قتلاً أو إتلاف عضوٍ ، ولو بإذهاب قوّته مع بقائه كإذهاب البصر ، أو القدرة على البطش أو المشي مع بقاء أعضائها ، أو غيرهما ممّا يوجب غمّاً يعدم الرّضا ، ومنه تهديد المرأة بالزّنى ، والرّجل باللّواط .
أمّا التّهديد بالإجاعة ، فيتراوح بين هذا وذاك ، فلا يصير ملجئاً إلاّ إذا بلغ الجوع بالمكره ( بالفتح ) حدّ خوف الهلاك .
ثمّ الّذي يوجب غمّاً يعدم الرّضا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال : فليس الأشراف كالأراذل ، ولا الضّعاف كالأقوياء ، ولا تفويت المال اليسير كتفويت المال الكثير ، والنّظر في ذلك مفوّض إلى الحاكم ، يقدّر لكلّ واقعةٍ قدرها .
الشّريطة الرّابعة :
10 - أن يكون المكره ممتنعاً عن الفعل المكره عليه لولا الإكراه ، إمّا لحقّ نفسه - كما في إكراهه على بيع ماله - وإمّا لحقّ شخصٍ آخر ، وإمّا لحقّ الشّرع - كما في إكراهه ظلماً على إتلاف مال شخصٍ آخر ، أو نفس هذا الشّخص ، أو الدّلالة عليه لذلك أو على ارتكاب موجب حدٍّ في خالص حقّ اللّه ، كالزّنى وشرب الخمر .
الشّريطة الخامسة :
11 - أن يكون محلّ الفعل المكره عليه متعيّناً . وهذا عند الشّافعيّة وبعض الحنابلة على إطلاقه . وفي حكم المتعيّن عند الحنفيّة ، ومن وافقهم من الحنابلة ما لو خيّر بين أمورٍ معيّنةٍ . ويتفرّغ على هذا حكم المصادرة الّتي سلف ذكره في فقرةٍ .
ومنه يستنبط أنّ موقف المالكيّة في حالة الإبهام أدنى إلى مذهب الحنفيّة ، بل أوغل في الاعتداد بالإكراه حينئذٍ ، لأنّهم لم يشترطوا أن يكون مجال الإبهام أموراً معيّنةً .
أمّا الإكراه على طلاق إحدى هاتين المرأتين ، أو قتل أحد هذين الرّجلين ، فمن مسائل الخلاف الّذي صدّرنا به هذه الشّريطة : فعند الحنفيّة والمالكيّة ، ومعهم موافقون من الشّافعيّة والحنابلة ، يتحقّق الإكراه برغم هذا التّخيير .
وعند جماهير الشّافعيّة ، وقلّةٍ من الحنابلة ، لا يتحقّق ، لأنّ له مندوحةً عن طلاق كلٍّ بطلاق الأخرى - وكذا في القتل - نتيجة عدم تعيين المحلّ . والتّفصيل في الفصل الثّاني . الشّريطة السّادسة :
12 - ألاّ يكون للمكره مندوحة عن الفعل المكره عليه ، فإن كانت له مندوحة عنه ، ثمّ فعله لا يكون مكرهاً عليه ، وعلى هذا لو خيّر المكره بين أمرين فإنّ الحكم يختلف تبعاً لتساوي هذين الأمرين أو تفاوتهما من حيث الحرمة والحلّ ، وتفصيل الكلام في ذلك كما يلي :
إنّ الأمرين المخيّر بينهما إمّا أن يكون كلّ واحدٍ منهما محرّماً لا يرخّص فيه ، ولا يباح أصلاً ، كما لو وقع التّخيير بين الزّنى والقتل .
أو يكون كلّ واحدٍ منهما محرّماً يرخّص فيه عند الضّرورة ، كما لو وقع التّخيير بين الكفر وإتلاف مال الغير . أو يكون كلّ واحدٍ منهما محرّماً يباح عند الضّرورة ، كما لو وقع التّخيير بين أكل الميتة وشرب الخمر . أو يكون كلّ واحدٍ منهما مباحاً أصالةً أو للحاجة ، كما لو وقع التّخيير بين طلاق امرأته وبيع شيءٍ من ماله ، أو بين جمع المسافر الصّلاة في الحجّ وفطره في نهار رمضان .
ففي هذه الصّور الأربع الّتي يكون الأمران المخيّر بينهما متساويين في الحرمة أو الحلّ ، يترتّب حكم الإكراه على فعل أيّ واحدٍ من الأمرين المخيّر بينهما ، وهو الحكم الّذي سيجيء تقريره بخلافاته وكلّ ما يتعلّق به ، لأنّ الإكراه في الواقع ليس إلاّ على الأحد الدّائر دون تفاوتٍ ، وهذا لا تعدّد فيه ، ولا يتحقّق إلاّ في معيّنٍ ، وقد خالف في هذا أكثر الشّافعيّة وبعض الحنابلة ، فنفوا حصول الإكراه في هذه الصّور .
وإن تفاوت الأمران المخيّر بينهما ، فإن كان أحدهما محرّماً لا يرخّص فيه ولا يباح بحالٍ كالزّنى والقتل ، فإنّه لا يكون مندوحةً ، ويكون الإكراه واقعاً على المقابل له ، سواء أكان هذا المقابل محرّماً يرخّص فيه عند الضّرورة ، كالكفر وإتلاف مال الغير ، أم محرّماً يباح عند الضّرورة ، كأكل الميتة وشرب الخمر ، أم مباحاً أصالةً أو للحاجة ، كبيعٍ كشيءٍ معيّنٍ من مال المكره ، والإفطار في نهار رمضان ، ويترتّب على هذا الإكراه حكمه الّذي سيجيء تفصيله بخلافاته .
وتكون هذه الأفعال مندوحةً مع المحرّم الّذي لا يرخّص فيه ولا يباح بحالٍ ، أمّا هو فإنّه لا يمكن مندوحةً لواحدٍ منها ، ففي الصّور الثّلاث المذكور آنفاً ، وهي ما لو وقع التّخيير بين الزّنى أو القتل وبين الكفر أو إتلاف مال الغير ، أو وقع التّخيير بين الزّنى أو القتل وبين أكل الميتة أو شرب الخمر ، أو وقع التّخيير بين الزّنى أو القتل وبين بيع شيءٍ معيّنٍ من المال ، فإنّ الزّنى أو القتل لا يكون مكرهاً عليه ، فمن فعل واحداً منهما كان فعله صادرا عن طواعيةٍ لا إكراهٍ ، فيترتّب عليه أثره إذا كان الإكراه ملجئاً حتّى يتحقّق الإذن في فعل المندوحة ، وكان الفاعل عالماً بالإذن له في فعل المندوحة عند الإكراه .
وإن كان أحد الأمرين المخيّر بينهما محرّماً يرخّص فيه عند الضّرورة ، والمقابل له محرّماً يباح عند الضّرورة ، كما لو وقع التّخيير بين الكفر أو إتلاف مال الغير ، وبين أكل الميتة أو شرب الخمر ، فإنّهما يكونان في حكم الأمرين المتساويين في الإباحة ، فلا يكون أحدهما مندوحةً عن فعل الآخر ، ويكون الإكراه واقعاً على فعل كلّ واحدٍ من الأمرين المخيّر بينهما ، متى كان بأمرٍ متلفٍ للنّفس أو لأحد الأعضاء .
وإن كان أحد الأمرين محرّماً يرخّص فيه أو يباح عند الضّرورة ، والمقابل له مباحاً أصالةً أو للحاجة ، كما لو وقع التّخيير بين الكفر أو شرب الخمر ، وبين بيع شيءٍ من مال المكره أو الفطر في نهار رمضان ، فإنّ المباح في هذه الحالة يكون مندوحةً عن الفعل المحرّم الّذي يرخّص فيه أو يباح عند الضّرورة ، وعلى هذا يظلّ على تحريمه ، سواء كان الإكراه بمتلفٍ للنّفس أو العضو أو بغير متلفٍ لأحدهما ، لأنّ الإكراه بغير المتلف لا يزيل الحظر عند الحنفيّة مطلقاً ، والإكراه بمتلفٍ - وإن كان يزيل الحظر - إلاّ أنّ إزالته له بطريق الاضطرار ، ولا اضطرار مع وجود المقابل المباح .
تقسيم الإكراه
ينقسم الإكراه إلى : إكراهٍ بحقٍّ ، وإكراهٍ بغير حقٍّ . والإكراه بغير حقٍّ ينقسم إلى إكراهٍ ملجئٍ ، وإكراهٍ غير ملجئٍ .
أوّلاً : الإكراه بحقٍّ :
تعريفه :
13 - هو الإكراه المشروع ، أي الّذي لا ظلم فيه ولا إثم . وهو ما توافر فيه أمران : الأوّل : أن يحقّ للمكره التّهديد بما هدّد به . الثّاني : أن يكون المكره عليه ممّا يحقّ للمكره الإلزام به . وعلى هذا فإكراه المرتدّ على الإسلام إكراه بحقٍّ ، حيث توافر فيه الأمران ، وكذلك إكراه المدين القادر على وفاء الدّين ، وإكراه المولي على الرّجوع إلى زوجته أو طلاقها إذا مضت مدّة الإيلاء .
أثره :
14 - والعلماء عادةً يقولون : إنّ الإكراه بحقٍّ ، لا ينافي الطّوع الشّرعيّ - وإلاّ لم تكن له فائدة ، ويجعلون من أمثلته إكراه العنّين على الفرقة ، ومن عليه النّفقة على الإنفاق ، والمدين والمحتكر على البيع ، وكذلك من له أرض بجوار المسجد أو المقبرة أو الطّريق يحتاج إليها من أجل التّوسيع ، ومن معه طعام يحتاجه مضطرّ .
ثانياً : الإكراه بغير حقٍّ :
تعريفه :
15 - الإكراه بغير حقٍّ هو الإكراه ظلماً ، أو الإكراه المحرّم ، لتحريم وسيلته ، أو لتحريم المطلوب به . ومنه إكراه المفلس على بيع ما يترك له ..
الإكراه الملجئ والإكراه غير الملجئ :
16 - تقسيم الإكراه إلى ملجئٍ وغير ملجئٍ يتفرّد به الحنفيّة .
فالإكراه الملجئ عندهم هو الّذي يكون بالتّهديد بإتلاف النّفس أو عضوٍ منها ، أو بإتلاف جميع المال ، أو بقتل من يهمّ الإنسان أمره .
وحكم هذا النّوع أنّه يعدم الرّضى ويفسد الاختيار ولا يعدمه . أمّا إعدامه للرّضى ، فلأنّ الرّضا هو الرّغبة في الشّيء والارتياح إليه ، وهذا لا يكون مع أيّ إكراهٍ .
وأمّا إفساده للاختيار دون إعدامه ، فلأنّ الاختيار هو : القصد إلى فعل الشّيء أو تركه بترجيحٍ من الفاعل ، وهذا المعنى لا يزول بالإكراه ، فالمكره يوقع الفعل بقصده إليه ، إلاّ أنّ هذا القصد تارةً يكون صحيحاً سليماً ، إذا كان منبعثاً عن رغبةٍ في العمل ، وتارةً يكون فاسداً ، إذا كان ارتكاباً لأخفّ الضّررين ، وذلك كمن أكره على أحد أمرين كلاهما شرّ ، ففعل أقلّهما ضرراً به ، فإنّ اختياره لما فعله لا يكون اختياراً صحيحاً ، بل اختياراً فاسداً . والإكراه غير الملجئ هو : الّذي يكون بما لا يفوّت النّفس أو بعض الأعضاء ، كالحبس لمدّةٍ قصيرةٍ ، والضّرب الّذي لا يخشى منه القتل أو تلف بعض الأعضاء .
وحكم هذا النّوع أنّه يعدم الرّضا ولكن لا يفسد الاختيار ، وذلك لعدم اضطرار المكره إلى الإتيان بما أكره عليه ، لتمكّنه من الصّبر على تحمّل ما هدّد به بخلاف النّوع الأوّل .
17 - أمّا غير الحنفيّة فلم يقسّموا الإكراه إلى ملجئٍ وغير ملجئٍ كما فعل الحنفيّة ، ولكنّهم تكلّموا عمّا يتحقّق به الإكراه وما لا يتحقّق ، وممّا قرّروه في هذا الموضوع يؤخذ أنّهم جميعاً يقولون بما سمّاه الحنفيّة إكراهاً ملجئاً ، أمّا ما يسمّى بالإكراه غير الملجئ فإنّهم يختلفون فيه ، فعلى إحدى الرّوايتين عن الشّافعيّ وأحمد يعتبر إكراهاً ، وعلى الرّواية الأخرى لا يعتبر إكراهاً .
أمّا عند المالكيّة فإنّه لا يعتبر إكراهاً بالنّسبة لبعض المكره عليه ، ويعتبر إكراهاً بالنّسبة للبعض الآخر ، فمن المكره عليه الّذي لا يعتبر الإكراه غير الملجئ إكراهاً فيه : الكفر بالقول أو الفعل ، والمعصية الّتي تعلّق بها حقّ لمخلوقٍ ، كالقتل أو القطع ، والزّنى بامرأةٍ مكرهةٍ أو لها زوج ، وسبّ نبيٍّ أو ملكٍ أو صحابيٍّ ، أو قذفٍ لمسلمٍ .
ومن المكره عليه الّذي يعتبر الإكراه غير الملجئ إكراهاً فيه : شرب الخمر ، وأكل الميتة ، والطّلاق والأيمان والبيع وسائر العقود والحلول والآثار .
أثر الإكراه :
18 - هذا الأثر موضع خلافٍ ، بين الحنفيّة وغير الحنفيّة ، على النّحو الآتي :
أثر الإكراه عند الحنفيّة :
19 - يختلف أثر الإكراه عند الحنفيّة باختلاف القول أو الفعل الّذي يقع الإكراه عليه ، فإن كان المكره عليه من الإقرارات ، كان أثر الإكراه إبطال الإقرار وإلغاءه ، سواء كان الإكراه ملجئاً أم غير ملجئٍ . فمن أكره على الاعتراف بمالٍ أو زواجٍ أو طلاقٍ كان اعترافه باطلاً ، ولا يعتدّ به شرعاً ، لأنّ الإقرار إنّما جعل حجّةً في حقّ المقرّ باعتبار ترجّح جانب الصّدق فيه على جانب الكذب ، ولا يتحقّق هذا التّرجيح مع الإكراه ، إذ هو قرينة قويّة على أنّ المقرّ لا يقصد بإقراره الصّدق فيما أقرّ به ، وإنّما يقصد دفع الضّرر الّذي هدّد به عن نفسه . وإن كان المكره عليه من العقود والتّصرّفات الشّرعيّة كالبيع والإجارة والرّهن ونحوها كان أثر الإكراه فيها إفسادها لا إبطالها ، فيترتّب عليها ما يترتّب على العقد الفاسد ، حسب ما هو مقرّر في المذهب أنّه ينقلب صحيحاً لازماً بإجازة المكره ، وكذلك لو قبض المكره الثّمن ، أو سلّم المبيع طوعاً ، يترتّب عليه صحّة البيع ولزومه .
وحجّتهم في ذلك أنّ الإكراه عندهم لا يعدم الاختيار الّذي هو ترجيح فعل الشّيء على تركه أو العكس ، وإنّما يعدم الرّضى الّذي هو الارتياح إلى الشّيء والرّغبة فيه ، والرّضى ليس ركناً من أركان هذه التّصرّفات ولا شرطاً من شروط انعقادها ، وإنّما هو شرط من شروط صحّتها ، فإذن فقد ترتّب على فقدانه فساد العقد لا بطلانه . ولكنّهم استثنوا من ذلك بعض التّصرّفات ، فقالوا بصحّتهما مع الإكراه ، ولو كان ملجئاً ، ومن هذه التّصرّفات : الزّواج والطّلاق ومراجعة الزّوجة والنّذر واليمين . وعلّلوا هذا بأنّ الشّارع اعتبر اللّفظ في هذه التّصرّفات - عند القصد إليه - قائماً مقام إرادة معناه ، فإذا وجد اللّفظ ترتّب عليه أثره الشّرعيّ ، وإن لم يكن لقائله قصد إلى معناه ، كما في الهازل ، فإنّ الشّارع اعتبر هذه التّصرّفات صحيحةً إذا صدرت منه ، مع انعدام قصده إليها ، وعدم رضاه بما يترتّب عليها من الآثار . وإن كان المكره عليه من الأفعال ، كالإكراه على قتل من لا يحلّ قتله ، أو إتلاف مالٍ لغيره أو شرب الخمر وما أشبه ذلك ، فالحكم فيها يختلف باختلاف نوع الإكراه والفعل المكره عليه .
20 - فإن كان الإكراه غير ملجئٍ - وهو الّذي يكون بما لا يفوّت النّفس ، أو بعض الأعضاء كالحبس لمدّةٍ قصيرةٍ ، أو أخذ المال اليسير ، ونحو ذلك - فلا يحلّ الإقدام على الفعل . وإذا أقدم المكرَه ( بالفتح ) على الفعل بناءً على هذا الإكراه كانت المسئوليّة عليه وحده ، لا على من أكرهه
21 - وإن كان الإكراه ملجئاً - وهو الّذي يكون بالقتل أو تفويت بعض الأعضاء أو العمل المهين لذي الجاه - فالأفعال بالنّسبة إليه أربعة أنواعٍ :
أ - أفعال أباحها الشّارع أصالةً دون إكراهٍ كالأكل والشّرب ، فإنّه إذا أكره على ارتكابها وجب على المكرَه ( بالفتح ) أن يرتكب أخفّ الضّررين .
ب - أفعال أباح الشّارع إتيانها عند الضّرورة ، كشرب الخمر وأكل لحم الميتة أو الخنزير ، وغير ذلك من كلّ ما حرّم لحقّ اللّه لا لحقّ الآدميّ ، فالعقل - مع الشّرع - يوجبان ارتكاب أخفّ الضّررين .
فهذه يباح للمكره فعلها ، بل يجب عليه الإتيان . بها ، إذا ترتّب على امتناعه قتل نفسه أو تلف عضوٍ من أعضائه ، لأنّ اللّه تعالى أباحها عند الضّرورة بقوله عزّ من قائلٍ : { إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير اللّه ، فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إنّ اللّه غفور رحيم } .
ولا شكّ أنّ الإكراه الملجئ من الضّرورة الّتي رفع اللّه الإثم فيها ، فيباح الفعل عند تحقّقها ، وتناول المباح دفعاً للهلاك عن النّفس أو بعض أجزائها واجب ، فلا يجوز تركه ، ولو شرب الخمر مكرهاً لم يحدّ ، لأنّه لا جناية حينئذٍ ، والحدّ إنّما شرع زجراً عن الجنايات .
ج - أفعال رخّص الشّارع في فعلها عند الضّرورة ، إلاّ أنّه لو صبر المكره على تحمّل الأذى ، ولم يفعلها حتّى مات ، كان مثاباً من اللّه تعالى ، وذلك كالكفر باللّه تعالى أو الاستخفاف بالدّين ، فإذا أكره الإنسان على الإتيان بشيءٍ من ذلك جاز له الفعل متى كان قلبه مطمئنّاً بالإيمان ، لقول اللّه عزّ وجلّ { إلاّ من أكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان } .
ومن السّنّة ما جاء بإسنادٍ صحيحٍ عند الحاكم والبيهقيّ وغيرهما عن محمّد بن عمّارٍ عن أبيه « أخذ المشركون عمّار بن ياسرٍ ، فلم يتركوه حتّى سبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخيرٍ ، فلمّا أتى النّبيّ عليه الصلاة والسلام قال : ما وراءك ؟ قال : شرّ ، يا رسول اللّه ، ما تركت حتّى نلت منك ، وذكرت آلهتهم بخيرٍ ، قال صلى الله عليه وسلم : فكيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئنّاً بالإيمان ، قال صلى الله عليه وسلم : فإن عادوا فعد » .
وقد ألحق علماء المذهب بهذا النّوع الإكراه على إفساد صوم رمضان ، أو ترك الصّلاة المفروضة ، أو إتلاف مال الغير ، فإنّ المكره لو صبر وتحمّل الأذى ، ولم يفعل ما أكره عليه كان مثاباً ، وإن فعل شيئاً منها فلا إثم عليه ، وكان الضّمان في صورة الإتلاف على الحامل عليه لا على الفاعل ، لأنّ فعل الإتلاف يمكن أن ينسب إلى الحامل بجعل الفاعل آلةً له ، فيثبت الضّمان عليه .
د - أفعال لا يحلّ للمكره الإقدام عليها بحالٍ من الأحوال ، كقتل النّفس بغير حقٍّ ، أو قطع عضوٍ من أعضائها ، أو الضّرب الّذي يؤدّي إلى الهلاك ، فهذه الأفعال لا يجوز للمكره الإقدام عليها ، ولو كان في امتناعه عنها ضياع نفسه ، لأنّ نفس الغير معصومة كنفس المكره ، ولا يجوز للإنسان أن يدفع الضّرر عن نفسه بإيقاعه على غيره ، فإن فعل كان آثماً ، ووجب عقاب الحامل له على هذا الفعل باتّفاق علماء المذهب ، والخلاف بينهم إنّما هو في نوع هذا العقاب .
فأبو حنيفة ومحمّد يقولان : إنّه القصاص ، لأنّ القتل يمكن أن ينسب إلى الحامل بجعل الفاعل آلةً له ، والقصاص إنّما يكون على القاتل لا على آلة القتل .
وأبو يوسف يقول : إنّه الدّية ، لأنّ القصاص لا يثبت إلاّ بالجناية الكاملة ، ولم توجد الجناية الكاملة بالنّسبة لكلٍّ من الحامل والمكره .
وهذا القتل يقوم مانعاً من الإرث بالنّسبة للمكرِه ( بالكسر ) إذا كان المكرَه ( بالفتح ) مكلّفاً . أمّا إذا كان غير مكلّفٍ كالصّبيّ أو المجنون فلا يكون مانعاً . وهذا عند أبي حنيفة ومحمّدٍ ، أمّا أبو يوسف فلا يحرم ولو كان المكره مكلّفاً . أمّا بالنّسبة للمكرَه ( بالفتح ) فلا يحرم باتّفاق الحنفيّة . وإنّما يجب القصاص عند أبي حنيفة ومحمّدٍ على المكره إذا كان المطلوب قتله شخصاً ثالثاً غير المكره ولا المكره ، فإن كان المطلوب قتله هو المكرِه كأن قال للّذي قتله : اقتلني وإلاّ قتلتك ، فقتله ، فلا قصاص على القاتل ، وتجب الدّية لوجود الشّبهة ، ولأنّ الدّية تثبت للوارث ابتداءً لا ميراثاً عن المقتول .
وأمّا إن كان المطلوب قتله هو المكرَه ، فإنّه لا يكون ثمّ إكراه ، لأنّ المهدّد به لا يزيد على القتل ، فلا يتحقّق الإكراه ولا شيء من آثاره ، فلا قصاص ولا دية في هذا القتل ، إلاّ إذا كان التّهديد بقتلٍ أشنع كما لو قال له : لتلقينّ نفسك في النّار أو لأقتلنك ، فعند أبي حنيفة يختار ما هو الأهون في ظنّه ، وعند الصّاحبين : يصبر ولا يقتل نفسه ، لأنّ مباشرة الفعل سعي في إهلاك نفسه فيصبر تحامياً عنه . ثمّ إذا ألقى نفسه في النّار فاحترق فعلى المكره القصاص باتّفاقهم ، كما في الزّيلعيّ .
ونقل صاحب مجمع الأنهر أنّ القصاص إنّما هو عند أبي حنيفة خلافاً للصّاحبين .
ومن هذا النّوع أيضاً : الزّنى ، فإنّه لا يرخّص فيه مع الإكراه ، كما لا يرخّص فيه حالة الاختيار ، لأنّ حرمة الزّنى لا ترتفع بحالٍ من الأحوال ، فإذا فعله إنسان تحت تأثير الإكراه كان آثماً ، ولكن لا يجب عليه الحدّ ، لأنّ الإكراه يعتبر شبهةً ، والحدود تدرأ بالشّبهات . وقد أورد البابرتيّ من الحنفيّة ضابطاً لأثر الإكراه نصّه : الإكراه الملجئ معتبر شرعاً سواء ، أكان على القول أم الفعل . والإكراه غير الملجئ إن كان على فعلٍ فليس بمعتبرٍ ، ويجعل كأنّ المكره فعل ذلك الفعل بغير إكراهٍ . وإن كان على قولٍ ، فإن كان قولاً يستوي فيه الجدّ والهزل فكذلك ، وإلاّ فهو معتبر .
أثر الإكراه عند المالكيّة :
22 - يختلف أثر الإكراه عندهم باختلاف المكره عليه :
أ - فإن كان المكره عليه عقداً أو حلّاً أو إقراراً أو يميناً لم يلزم المكره شيء ، ويكون الإكراه في ذلك بالتّخويف بقتلٍ أو ضربٍ مؤلمٍ أو سجنٍ أو قيدٍ أو صفعٍ لذي مروءةٍ على ملأٍ من النّاس . وإن أجاز المكرَه ( بالفتح ) شيئاً ممّا أكره عليه - غير النّكاح - طائعاً بعد زوال الإكراه لزم على الأحسن ، وأمّا النّكاح فلا تصحّ إجازته .
ب - وإن كان الإكراه على الكفر بأيّ صورةٍ من صوره ، أو قذف المسلم بالزّنى ، أو الزّنى بامرأةٍ طائعةٍ خليّةٍ ( غير متزوّجةٍ ) ، فلا يحلّ له الإقدام على شيءٍ من هذه الأشياء إلاّ في حالة التّهديد بالقتل ، لا فيما دونه من قطعٍ أو سجنٍ ونحوه ، فإن فعل ذلك اعتبر مرتدّاً ، ويحدّ في قذف المسلم ، وفي الزّنى .
ج - وإن كان الإكراه على قتل مسلمٍ ، أو قطع عضوٍ منه ، أو على زنًى بمكرهةٍ ، أو بامرأةٍ لها زوج ، فلا يجوز الإقدام على شيءٍ من ذلك ولو أكره بالقتل . فإن قتل يقتصّ منه ، ويعتبر القتل هنا مانعاً للقاتل من ميراث المقتول ، لأنّه شريك في الفعل ، وكذلك المكرِه ( بالكسر ) يقتصّ منه أيضاً ويمنع من الميراث . وإنّما يجب القصاص عندهم على المكره والمكره ، إذا كان المطلوب قتله شخصاً ثالثاً غيرهما .
فإن كان المطلوب قتله هو المكرِه ( بالكسر ) كما لو قال للّذي قتله : اقتلني وإلاّ قتلتك فقتله ، فلا قصاص عندهم وتجب الدّية ، لمكان الشّبهة من ناحيةٍ ، وبناءً على أنّ الدّية تثبت للوارث ابتداءً لا ميراثاً . وأمّا إن كان المطلوب قتله هو المكرَه ( بالفتح ) ، فالأصل أنّه لا يتحقّق الإكراه في هذه الحالة ، ولا قصاص فيه ولا دية ، إلاّ إذا كان التّهديد بقتلٍ أشنع ، كالإحراق بالنّار وبتر الأعضاء حتّى الموت ، فإنّ المكرَه ( بالفتح ) يختار أهون الميتتين ، جزم به اللّقانيّ . وإن زنى يحدّ .
د - وأمّا لو أكره على فعل معصيةٍ - غير الكفر - لا حقّ فيها لمخلوقٍ كشرب خمرٍ وأكله ميتةً ، أو إبطال عبادةٍ كصلاةٍ وصومٍ ، أو على تركها فيتحقّق الإكراه بأيّة وسيلةٍ من قتلٍ أو غيره . ويترتّب عليه في الصّوم القضاء دون الكفّارة . وفي الصّلاة يكون الإكراه بمنزلة المرض المسقط لبعض أركانها ، ولا يسقط وجوبها . وفي شرب الخمر لا يقام الحدّ . وألحق سحنون بهذا النّوع الزّنى بامرأةٍ طائعةٍ لا زوج لها ، خلافاً للمذهب .
ويضيف المالكيّة أنّ القطع في السّرقة يسقط بالإكراه مطلقاً ، ولو كان بضربٍ أو سجنٍ لأنّه شبهة تدرأ الحدّ .
أثر الإكراه عند الشّافعيّة :
23 - يختلف أثر الإكراه عندهم باختلاف المكره عليه .
أ - الإكراه بالقول : إذا كان المكره عليه عقداً أو حلّاً أو أيّ تصرّفٍ قوليٍّ أو فعليٍّ ، فإنّه لا يصحّ عملاً بعموم الحديث الصّحيح : « رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » إذ المقصود ليس رفع ما وقع لمكان الاستحالة ، وإنّما رفع حكمه ، ما لم يدلّ دليل على خلاف ذلك ، فيخصّص هذا العموم في موضع دلالته . وبمقتضى أدلّة التّخصيص يقرّر الشّافعيّة أنّه لا أثر لقول المكرَه ( بالفتح ) إلاّ في الصّلاة فتبطل به وعلى هذا فيباح للمكرَه ( بالفتح ) التّلفّظ بكلمة الكفر ، ولا يجب ، بل الأفضل الامتناع مصابرةً على الدّين واقتداءً بالسّلف .
وفي طلاق زوجة المكرِه ( بالكسر ) أو بيع ماله ونحوهما من كلّ ما يعتبر الإكراه فيه إذناً أبلغ . والإكراه في شهادة الزّور الّتي تفضي إلى القتل أو الزّنى ، وفي الإكراه بالحكم الباطل الّذي يفضي إلى القتل أو الزّنى ، فلا يرتفع الإثم عن شاهد الزّور ، ولا عن الحاكم الباطل ، وحكمهما في هذه الحالة من حيث الضّمان حكم المكرِه ( بالكسر )
ب - الإكراه بالفعل : لا أثر للإكراه بالفعل عند الشّافعيّة إلاّ فيما يأتي :
-1 -الفعل المضمّن كالقتل أو إتلاف المال أو الغصب ، فعلى المكرَه ( بالفتح ) القصاص أو الضّمان ، وقرار الضّمان على المكرِه ( بالكسر ) ، وإن قيل : لا رجوع له على المكرِه ( بالكسر ) بما غرم في إتلاف المال ، لأنّه افتدى بالإتلاف نفسه عن الضّرر . قال القليوبيّ في مسألة القتل : فيقتل هو المكرَه ( بالفتح ) ومن أكرهه .
-2- الزّنى وما إليه : يأثم المكرَه ( بالفتح ) بالزّنى ، ويسقط الحدّ للشّبهة ، ويترتّب على وطء الشّبهة حكمه .
-3 - الرّضاع : فيترتّب عليه التّحريم المؤبّد في المناكحات وما ألحق بها .
-4- كلّ فعلٍ يترتّب عليه بطلان الصّلاة ، كالتّحوّل عن القبلة ، والعمل الكثير ، وترك قيام القادر في الفريضة ، والحدث ، فتبطل الصّلاة بما تقدّم برغم الإكراه عليه .
-5- ذبح الحيوان : تحلّ ذبيحة المكرَه ( بالفتح ) الّذي تحلّ ذبيحته ، كالمسلم والكتابيّ ولو كان المكرِه ( بالكسر ) مجوسيّاً ، أو محرّماً والمذبوح صيد .
قال السّيوطيّ : وقد رأيت الإكراه يساوي النّسيان ، فإنّ المواضع المذكورة ، إمّا من باب ترك المأمور ، فلا يسقط تداركه ، ولا يحصل الثّواب المرتّب عليه ، وإمّا من باب الإتلاف ، فيسقط الحكم المرتّب عليه ، وتسقط العقوبة المتعلّقة به ، إلاّ القتل على الأظهر .
أثر الإكراه عند الحنابلة :
24 - يختلف أثر الإكراه عند الحنابلة باختلاف المكره عليه :
أ - فالتّصرّفات القوليّة تقع باطلةً مع الإكراه إلاّ النّكاح ، فإنّه يكون صحيحاً مع الإكراه ، قياساً للمكره على الهازل . وإنّما لم يقع الطّلاق مع الإكراه للحديث الشّريف
« لا طلاق في إغلاقٍ » ، والإكراه من الإغلاق .
ب - ومن أكره على الكفر لا يعتبر مرتدّاً ، ومتى زال عنه الإكراه أمر بإظهار إسلامه ، والأفضل لمن أكره على الكفر أن يصبر وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذّمّيّ والمستأمن ، فأسلم لم يثبت له حكم الإسلام ، حتّى يوجد منه ما يدلّ على إسلامه طوعاً .
أمّا من يجوز إكراهه على الإسلام كالمرتدّ ، فإنّه إذا أكره فأسلم حكم بإسلامه ظاهراً .
ج - والإكراه يسقط الحدود عن المكره ، لأنّه شبهة ، والحدود تدرأ بالشّبهات .
د - وإذا أكره رجل آخر على قتل شخصٍ فقتله ، وجب القصاص على المكره والمكره جميعاً ، وإن صار الأمر إلى الدّية وجبت عليهما ، وإن أحبّ وليّ المقتول قتل أحدهما ، وأخذ نصف الدّية من الآخر أو العفو فله ذلك . ويعتبر القتل هنا مانعاً من الميراث بالنّسبة للمكره والمكره . والقصاص عندهم لا يجب على المكره والمكره ، إلاّ إذا كان المطلوب قتله شخصاً ثالثاً غيرهما . فإن كان المطلوب قتله هو المكرِه ( بالكسر ) فإنّه يكون هدراً ، ولا قصاص ولا دية في المختار عندهم . وأمّا إن كان المطلوب قتله هو المكرَه ( بالفتح ) ، فلا يتحقّق الإكراه في هذه الحالة ، ولا دية ولا قصاص عند بعضهم . إلاّ إذا كان التّهديد بقتلٍ أشنع فعليه أن يختار أهون الميتتين في إحدى الرّوايتين .
أثر إكراه الصّبيّ على قتل غيره :
25 - إذا كان المكره على القتل صبيّاً ، فإنّه يعتبر آلةً في يد المكره عند الحنفيّة ، فلا قصاص ولا دية ، وإنّما القصاص على المكرِه ( بالكسر ) .
وذهب المالكيّة إلى وجوب القصاص على المكره ( بالكسر ) ونصف الدّية على عاقلة الصّبيّ . وذهب الشّافعيّة إلى التّفرقة بين الصّبيّ المميّز ، وغير المميّز .
فإن كان غير مميّزٍ ، اعتبر آلةً عندهم ، ولا شيء عليه ، ويجب القصاص على المكره . وإن كان مميّزاً ، فيجب نصف الدّية على عاقلته ، والقصاص على المكرِه ( بالكسر ) . وذهب الحنابلة إلى أنّ الصّبيّ غير المميّز إذا أكره على قتل غيره فلا قصاص عليه ، والقصاص على المكرِه ( بالكسر ) . وفي قولٍ : لا يجب القصاص لا عليه وعلى من أكرهه ، لأنّ عمد الصّبيّ خطأ ، والمكرِه ( بالكسر ) شريك المخطئ ، ولا قصاص على شريك مخطئٍ . أمّا إذا كان الصّبيّ مميّزاً فلا يجب القصاص على المكرِه ( بالكسر ) ولا يجب على الصّبيّ المميّز .
إكسال *
التّعريف :
1 - الإكسال لغةً : مصدر أكسل ، وأكسل المجامع : خالط المرأة ولم ينزل ، أو عزل ولم يرد ولداً .
وعند الفقهاء : أن يجامع الرّجل ثمّ يفتر ذكره بعد الإيلاج ، فلا ينزل .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاعتراض :
2 - الاعتراض هو : عدم انتشار الذّكر للجماع . وقد يكون الاعتراض قبل الإيلاج أو بعده . فالاعتراض ليس من الإكسال .
ب - العنّة :
3 - العنّة : عجز الرّجل عن إتيان النّساء ، وقد يكون عنّيناً عن امرأةٍ دون أخرى .
والفرق بين العنّة والإكسال واضح .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
4 - لا يغيّر الإكسال الأحكام المتعلّقة بالجماع ، ولا يختلف الجماع مع الإنزال عنه بدونه ، إلاّ ما حكي عن جماعةٍ من الصّحابة رضي الله عنهم ، كانوا يقولون : لا غسل على من جامع فأكسل يعني لم ينزل . ورووا في ذلك أحاديث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
أمّا بقيّة الفقهاء فإنّه يجب الغسل عندهم وإن أكسل المجامع ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل وإن لم ينزل » والتقاء الختانين كناية عن الإيلاج .
قال سهل بن سعدٍ : حدّثني أبيّ بن كعبٍ أنّ : « الماء من الماء » كان رخصةً أرخص فيها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمّ نهى عنها .
ولم يختلفوا أنّ الزّنا الّذي يجب به الحدّ يكون بمجرّد إيلاج الحشفة ، ولو لم يكن من إنزالٍ . كذلك يثبت الإحصان بالجماع مع الإكسال عند من يقول : إنّ الإحصان لا يحصل إلاّ بتغييب الحشفة .
وتحصل فيئة المولي إن غيّب حشفته ، وإن لم ينزل . وترفع العنّة بالوطء دون إنزالٍ أيضاً . ويحصل التّحليل لمطلّق المرأة ثلاثاً بمجرّد الإيلاج من الزّوج الآخر ، لحديث عائشة رضي الله عنها : « أنّ رفاعة القرظيّ تزوّج امرأةً ثمّ طلّقها فتزوّجت آخر ، فأتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت له : أنّه لا يأتيها وأنّه ليس معه إلاّ مثل هدبةٍ ، فقال : لا . حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » . رواه البخاريّ .
وهذا قول الجمهور ، وقالوا : العسيلة هي : الجماع ، وشذّ الحسن البصريّ فقال : لا يحلّها إلاّ إذا أنزل ، وشذّ سعيد بن المسيّب فقال : يكفي في إحلالها العقد .
وتنظر مسائل أحكام الجماع في مصطلح : ( وطء ) .
أكل *
حكم الطّعام المأكول ذاته :
1 - إنّ بيان ما يحلّ ويحرم من الأطعمة ومعرفتهما من مهمّات الدّين . فقد ورد الوعيد الشّديد على أكل الحرام ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كلّ لحمٍ نبت من حرامٍ فالنّار أولى به » .
وقد حرّم اللّه في القرآن العظيم أشياء كما في قوله تعالى : { حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إلاّ ما ذكّيتم وما ذبح على النّصب وأن تستقسموا بالأزلام } . ونحوها من الآيات .
وحرّمت أشياء بالسّنّة النّبويّة كما في قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كلّ ذي نابٍ من السّباع فأكله حرام » .
وسكت الشّرع عن أشياء . ويرجع إلى إيضاح ذلك كلّه تحت عنوان ( أطعمة ) .
صفة الأكل بالنّسبة للآكل :
2 - إنّ الأكل قد يكون فرضاً ، يثاب الإنسان على فعله ويعاقب على تركه ، وذلك إذا كان للغذاء بقدر ما يدفع عنه الهلاك ، لأنّ الإنسان مأمور بإحياء نفسه وعدم إلقائها إلى التّهلكة . وقد يكون واجباً ، وذلك بقدر ما يستطيع معه أداء الصّلاة المفروضة عليه قائماً ، وأداء الصّوم الواجب ، لأنّه من قبيل ما لا يتمّ الواجب إلاّ به .
ومنه مندوب ، وهو ما يعينه على تحصيل رزقه وتحصيل العلم وتعلّمه وتحصيل النّوافل . وقد يكون الأكل مباحاً يجوز للإنسان أن يتناوله ، وذلك إلى حدّ الشّبع الّذي لا يضرّ معه الامتلاء . وقد يكون حراماً ، وهو ما فوق الشّبع ، وكلّ طعامٍ غلب على ظنّه أنّه يفسد معدته ، لأنّه إسراف منهيّ عنه ، لقوله تعالى : { ولا تسرفوا } إلاّ إذا كانت الزّيادة على الشّبع لا تضرّه ، وقصد بالأكل القوّة على صوم الغد ، أو الزّيادة في الطّاعات ، أو لئلاّ يستحيي الحاضر معه بعد إتمام طعامه . وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ما ملأ آدميّ وعاءً شرّاً من بطنٍ ، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه » .
ومن الأكل ما هو مكروه ، وهو ما زاد على الشّبع قليلاً ، فإنّه يتضرّر به ، وقد قال البعض : إنّ الآكل لا ينبغي له أن يقصد به التّلذّذ والتّنعّم ، فإنّ اللّه تعالى ذمّ الكافرين بأكلهم للتّمتّع والتّنعّم وقال : { والّذين كفروا يتمتّعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ، والنّار مثوًى لهم } . وقال النّبيّ عليه الصلاة والسلام « المسلم يأكل في معًى واحدٍ ، والكافر يأكل في سبعة أمعاءٍ » . هذا ، والتّحقيق أنّه يجوز للإنسان الأكل بقصد التّمتّع والتّلذّذ بما أنعم اللّه علينا به ، لقصد التّقوّي على أعمال الخير لقوله تعالى : { قل من حرّم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده والطّيّبات من الرّزق قل هي للّذين آمنوا في الحياة الدّنيا خالصةً يوم القيامة } وأمّا الآية الّتي احتجّ بها هذا القائل فإنّ اللّه تعالى ينعي عليهم أنّهم يتمتّعون بالأطعمة الّتي رزقهم اللّه من غير أن يفكّروا في المنعم ، وأن يشكروه على نعمه . وأمّا الحديث فليس فيه دلالة على ما احتجّوا عليه ، وإنّما فيه النّعي على من أكثر من الطّعام .
حكم الأكل من الأضحيّة والعقيقة :
3 - يتّفق الفقهاء على أنّه يستحبّ للمضحّي أن يأكل من أضحيّته ، لقوله تعالى : { فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها ... } وهذا وإن كان وارداً في الهدي إلاّ أنّ الهدي والأضحيّة من بابٍ واحدٍ . ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا ضحّى أحدكم فليأكل من أضحيّته ويطعم منها غيره » ولأنّه ضيف اللّه عزّ شأنه في هذه الأيّام ، فله أن يأكل من ضيافة اللّه تعالى . ويتّفقون كذلك على أنّ له أن يطعم غيره منها . وهذا الاتّفاق في الأضحيّة الّتي لم تجب . أمّا إذا وجبت الأضحيّة ففي حكم الأكل منها اختلاف الفقهاء .
ووجوبها يكون بالنّذر أو بالتّعيين ، وهي واجبة عند الحنفيّة من حيث الأصل بشرط الغنى ، ولو اشتراها الفقير من أجل التّضحية وجبت عليه . فعند المالكيّة ، والأصحّ عند الحنابلة ، أنّ له أن يأكل منها ويطعم غيره ، لأنّ النّذر محمول على المعهود ، والمعهود من الأضحيّة الشّرعيّة ذبحها والأكل منها ، والنّذر لا يغيّر من صفة المنذور إلاّ الإيجاب .
وعند بعض الحنابلة ، وهو ظاهر كلام أحمد : أنّه لا يجوز الأكل من الأضحيّة المنذورة ، بناءً على الهدي المنذور ، وهذا هو المذهب عند الشّافعيّة ، وفي قولٍ آخر للشّافعيّة : إن وجبت الأضحيّة بنذرٍ مطلقٍ جاز له الأكل منها . والحكم عند الحنفيّة - كما فصّله ابن عابدين - أنّه يجوز للغنيّ الأكل من الأضحيّة الواجبة عليه ، كما يجوز له الأكل من الأضحيّة الّتي نذرها إن قصد بنذره الإخبار عن الواجب عليه ، فإن كان النّذر ابتداءً فلا يجوز له الأكل منها . وبالنّسبة للفقير إذا وجبت عليه بالشّراء ، ففي أحد القولين : له الأكل منها ، وفي القول الثّاني : لا يجوز له الأكل منها . هذا ما ذكره ابن عابدين توضيحاً لما ذكره الزّيلعيّ من أنّه لا يجوز الأكل من الأضحيّة المنذورة دون تفصيلٍ .
غير أنّ الكاسانيّ ذكر في البدائع أنّه يجوز بالإجماع - أي عند فقهاء الحنفيّة - الأكل من الأضحيّة ، سواء أكانت نفلاً أم واجبةً ، منذورةً كانت أو واجبةً ابتداءً .
4 - ومن وجبت عليه أضحيّة فمضت أيّام النّحر قبل أن يذبحها ، فعند الجمهور يذبحها قضاءً ، ويصنع بها ما يصنع بالمذبوح في وقته ، لأنّ الذّبح أحد مقصودي الأضحيّة فلا يسقط بفوات وقته . وعند الحنفيّة : يجب عليه أن يتصدّق بها حيّةً ، ولا يأكل من لحمها ، لأنّه انتقل الواجب من إراقة الدّم إلى التّصدّق .
وإذا ولدت الأضحيّة قبل التّضحية ، فحكم ولدها في الأكل منه حكم الأمّ ، وهذا عند الجمهور . وعند الحنفيّة : لا يجوز الأكل منه . ومن أوجب أضحيّةً ثمّ مات قام ورثته مقامه ، فيجوز لهم الأكل منها وإطعام غيرهم . وهذا عند المالكيّة والحنابلة .
وعند الشّافعيّة ، وهو المختار عند الحنفيّة : لا يجوز لهم الأكل منها ، بل سبيلها التّصدّق .
5- والعقيقة ( وهي ما يذبح عن المولود ) حكمها في استحباب الأكل منها ، وإطعام الغير منها حكم الأضحيّة ، إلاّ أنّ الحنفيّة لا يرونها واجبةً . وقد ورد في مراسيل أبي داود عن جعفر بن محمّدٍ عن أبيه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في العقيقة الّتي عقّتها فاطمة عن الحسن والحسين :« أن يبعثوا إلى القابلة برجلٍ ، وكلوا وأطعموا ولا تكسروا منها عظماً » .
حكم الأكل من الكفّارات والنّذور :
6 - يتّفق الفقهاء على أنّ من وجب عليه إطعام في كفّارة يمينٍ أو ظهارٍ أو إفطارٍ في نهار رمضان أو فدية الأذى في الحجّ فإنّه لا يجوز له أن يأكل منه ، لأنّ الكفّارة تكفير للذّنب . هذا بالنّسبة للمكفّر .
أمّا المعطى - وهو المستحقّ - فعند الشّافعيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة : أنّه لا يكفي إباحة الإطعام ، وإنّه لا بدّ من تمليك المستحقّ ، لأنّ تدارك الجناية بالإطعام أشبه البدل ، والبدليّة تستدعي تمليك البدل ، ولأنّ المنقول عن الصّحابة إعطاؤهم ، ففي قول زيدٍ وابن عبّاسٍ وابن عمر وأبي هريرة مدّاً لكلّ مسكينٍ وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لكعبٍ في فدية الأذى : « أطعم ثلاثة آصعٍ من تمرٍ بين ستّة مساكين » ولأنّه مال وجب للفقراء شرعاً فوجب تمليكهم إيّاه كالزّكاة . وعلى ذلك فلا يجزئ أن يغدّيهم ويعشّيهم ، لأنّ ذلك يعتبر إباحةً لا تمليكاً .
والأصل عند المالكيّة هو التّمليك ، وخاصّةً في كفّارتي الظّهار وفدية الأذى ، لقول الإمام مالكٍ : لا أحبّ الغداء والعشاء للمساكين ، حتّى حمل أبو الحسن كلام الإمام على الكراهة ، وحمله ابن ناجي على التّحريم . والعلّة في التّمليك هو خشية ألاّ يبلغ ما يأكله الواحد منهم مقدار الواجب إخراجه ، ولذلك قال مالك : لا أظنّه ( الغداء والعشاء ) يبلغ ذلك ( المقدار الواجب إخراجه ) ومن هنا قال الدّردير : فلو تحقّق بلوغه أجزأ .
وفي كفّارة اليمين يجزئ شبعهم مرّتين . وإجزاء الإطعام بغداءٍ وعشاءٍ إن بلغ مقدار الواجب لهم هو رواية عن الإمام أحمد ، لأنّه أطعم المساكين ، فأجزأه كما لو ملّكهم .
ويرى الحنفيّة أنّ التّمليك ليس بشرطٍ لجواز الإطعام بل الشّرط هو التّمكين . وإنّما يجوز التّمليك من حيث هو تمكين ، لا من حيث هو تمليك ، لأنّ النّصّ ورد بلفظ الإطعام { فكفّارته إطعام عشرة مساكين } والإطعام في متعارف اللّغة اسم للتّمكين من المطعم لا التّمليك ، وإنّما يطعمون على سبيل الإباحة دون التّمليك .
وفي النّذر لا يجوز للنّاذر الأكل من نذره ، لأنّه صدقة ، ولا يجوز الأكل من الصّدقة ، وهذا في الجملة ، لأنّ الأضحيّة المنذورة فيها خلاف على ما سبق بيانه . وكذلك النّذر المطلق الّذي لم يعيّن للمساكين - لا بلفظٍ ولا بنيّةٍ - يجوز الأكل منه ، عند المالكيّة وبعض الشّافعيّة .
وبالنّسبة للمنذور له فذلك يكون بحسب كيفيّة النّذر ، فمن نذر إطعام المساكين أطعمهم ، ومن نذر على سبيل التّمليك ملّكه لهم . وينظر تفصيل ذلك في ( كفّارة ) ( ونذر ) .
الأكل من الوليمة والأكل مع الضّيف :
7 - من دعي إلى طعام الوليمة - وهي طعام العرس - فإن كان مفطراً فإنّه يستحبّ له الأكل ، وهذا باتّفاقٍ في الجملة ، لخبر مسلمٍ : « إذا دعي أحدكم إلى طعامٍ فليجب ، فإن كان صائماً فليصلّ . وإن كان مفطراً فليطعم » أي فليدع بالبركة .
ووقع للنّوويّ في شرح مسلمٍ تصحيح وجوب الأكل . وهو قول عند بعض المالكيّة . وإن كان صائماً تطوّعاً ، فعند الشّافعيّة والحنابلة يستحبّ له الأكل ، وإفطاره لجبر خاطر الدّاعي أفضل من إمساكه ولو آخر النّهار ، لما روي أنّه « صنع أبو سعيدٍ الخدريّ طعاماً فدعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال رجل من القوم : إنّي صائم ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صنع لك أخوك وتكلّف لك أخوك أفطر وصم يوماً مكانه » . ولأنّ في الأكل إجابة أخيه المسلم وإدخال السّرور على قلبه .
وعند الحنفيّة والمالكيّة يكتفي الصّائم بالدّعاء لصاحب الوليمة ، ومن أضاف أحداً وقدّم له الطّعام فالمستحبّ أن يأكل صاحب الطّعام مع ضيفه ، وألاّ يقوم عن الطّعام وغيره يأكل ، ما دام يظنّ به حاجة إلى الأكل ، قال الإمام أحمد : يأكل بالسّرور مع الإخوان ، وبالإيثار مع الفقراء ، وبالمروءة مع أبناء الدّنيا .
آداب الأكل :
أ - آداب ما قبل الأكل :
8 - أوّلاً : من آداب الأكل السّؤال عن الطّعام إذا كان ضيفاً على أحدٍ ولا يعرفه ، ولا يطمئنّ إلى ما قد يقدّمه إليه . فقد« كان الرّسول صلى الله عليه وسلم لا يأكل طعاماً حتّى يحدّث أو يسمّى له فيعرف ما هو» ، فقد روى البخاريّ عن « خالد بن الوليد أنّه دخل مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على ميمونة ، وهي خالته وخالة ابن عبّاسٍ فوجد عندها ضبّاً محنوذاً قدمت به أختها حفيدة ابن الحارث من نجدٍ فقدّمت الضّبّ لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكان قلّما يقدّم يده لطعامٍ حتّى يحدّث به ويسمّى له ، وأهوى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يده إلى الضّبّ فقالت امرأة من النّسوة الحضور : أخبرن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أنّ ما قدّمتنّ له هو الضّبّ يا رسول اللّه ، فرفع رسول اللّه يده عن الضّبّ ، قال خالد بن الوليد : أحرام الضّبّ يا رسول اللّه ؟ قال : لا . ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه قال خالد : فاجتررته فأكلته ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينظر إليّ » . وشرحه الزّركشيّ فقال : قال ابن التّين : إنّما كان يسأل ، لأنّ العرب كانت لا تعاف شيئاً من المآكل لقلّتها عندهم ، وكان هو صلى الله عليه وسلم قد يعاف بعض الشّيء ، فلذلك كان يسأل . ويحتمل أنّه كان يسأل لأنّ الشّرع ورد بتحريم بعض الحيوانات وإباحة بعضها ، وكانوا لا يحرّمون منها شيئاً ، وربّما أتوا به مشويّاً أو مطبوخاً فلا يتميّز من غيره إلاّ بالسّؤال عنه .
ثانياً : المبادرة إلى الأكل إذا قدّم إليه الطّعام من مضيفه :
9 - فإنّ من كرامة الضّيف تعجيل التّقديم له ، ومن كرامة صاحب المنزل المبادرة إلى قبول طعامه والأكل منه ، فإنّهم كانوا إذا رأوا الضّيف لا يأكل ظنّوا به شرّاً ، فعلى الضّيف أن يهدّئ خاطر مضيفه بالمبادرة إلى طعامه ، فإنّ في ذلك اطمئناناً لقلبه .
ثالثاً : غسل اليدين قبل الطّعام :
10 - يستحبّ غسل اليدين قبل الطّعام ، ليأكل بها وهما نظيفتان ، لئلاّ يضرّ نفسه بما قد يكون عليهما من الوسخ . وقيل إنّ ذلك لنفي الفقر ، لما في الحديث : « الوضوء قبل الطّعام ينفي الفقر » .
رابعاً : التّسمية قبل الأكل :
11 - يستحبّ التّسمية قبل الأكل ، والمراد بالتّسمية على الطّعام قول " باسم اللّه " في ابتداء الأكل ، فقد روي عن عائشة مرفوعاً : « إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل : باسم اللّه ، فإن نسي في أوّله فليقل : باسم اللّه في أوّله وآخره » ويرى النّوويّ أنّ الأفضل أن يقول المرء : بسم الله الرحمن الرحيم ، فإن قال : باسم اللّه كفاه وحصلت السّنّة ، لما روى عمر بن أبي سلمة قال : « كنت غلاماً في حجر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصّحفة ، فقال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : يا غلام : سمّ اللّه ، وكل بيمينك ، وكلّ ممّا يليك » .
خامساً : آداب الأكل أثناء الطّعام وبعده :
أ - الأكل باليمين :
12 - ينبغي للمسلم أن يأكل بيمينه ولا يأكل بشماله ، فقد روت عائشة رضي الله عنها :« أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التّيمّن في تنعّله وترجّله وطهوره في شأنه كلّه » . وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يأكلن أحد منكم بشماله ، ولا يشربنّ بها ، فإنّ الشّيطان يأكل بشماله ويشرب بها » .
وهذا إن لم يكن عذر ، فإن كان عذر يمنع الأكل أو الشّرب باليمين من مرضٍ أو جراحةٍ أو غير ذلك فلا كراهة في الشّمال .
والحديث يشير إلى أنّ الإنسان ينبغي أن يتجنّب الأفعال الّتي تشبه أفعال الشّيطان .
ب - الأكل ممّا يليه :
13 - يسنّ أن يأكل الإنسان ممّا يليه في الطّعام مباشرةً ، ولا تمتدّ يده إلى ما يلي الآخرين ، ولا إلى وسط الطّعام ، لأنّ أكل المرء من موضع صاحبه سوء عشرةٍ وترك مروءةٍ ، وقد يتقذّره صاحبه لا سيّما في الأمراق وما شابهها ، وذلك لما روى ابن عبّاسٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ البركة تنزل وسط الطّعام ، فكلوا من حافّتيه ولا تأكلوا من وسطه » . وكذلك ما روي عن عمر بن أبي سلمة قال : « كنت غلاماً في حجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصّحفة ، فقال لي : يا غلام سمّ اللّه وكل بيمينك وكل ممّا يليك قال : فما زالت تلك طعمتي بعد » . إلاّ أنّه إن كان الطّعام تمراً أو أجناساً فقد نقلوا إباحة اختلاف الأيدي في الطّبق ونحوه .
ج - غسل اليد بعد الطّعام :
14 - تحصل السّنّة بمجرّد الغسل بالماء ، قال ابن رسلان : والأولى غسل اليد بالأشنان أو الصّابون أو ما في معناهما . فقد أخرج التّرمذيّ عن أنسٍ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ الشّيطان حسّاس لحّاس ، فاحذرواه على أنفسكم ، من بات وفي يده غمر فأصابه شيء فلا يلومنّ إلاّ نفسه » .
هذا والغسل مستحبّ قبل الأكل وبعده ، ولو كان الشّخص على وضوءٍ . وروى سلمان عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « بركة الطّعام الوضوء قبله ، والوضوء بعده » ، قال الطّيبيّ : المراد بالوضوء تنظيف اليد بغسلها ، وليس الوضوء الشّرعيّ .
د - المضمضة بعد الطّعام :
15 - المضمضة بعد الفراغ من الطّعام مستحبّة ، لما روى بشير بن يسارٍ عن سويد بن النّعمان أنّه أخبره « أنّهم كانوا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالصّهباء - وهي على روحةٍ من خيبر - فحضرت الصّلاة ، فدعا بطعامٍ فلم يجده إلاّ سويقاً فلاك منه ، فلكنا معه ثمّ دعا بماءٍ فمضمض ، ثمّ صلّى وصلّينا ولم يتوضّأ » .
هـ – الدّعاء للمضيف :
16- فقد روى أنس أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم جاء إلى سعد بن عبادة فجاء بخبزٍ وزيتٍ فأكل ، ثمّ قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أفطر عندكم الصّائمون ، وأكل طعامكم الأبرار ، وصلّت عليكم الملائكة » . وعن جابرٍ وقال : « صنع أبو الهيثم بن النّبهان للنّبيّ صلى الله عليه وسلم طعاماً فدعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فلمّا فرغوا قال : أثيبوا أخاكم ، قالوا : يا رسول اللّه وما إثابته ؟ قال : إنّ الرّجل إذا دخل بيته فأكل طعامه وشرب شرابه فدعوا له ، فذلك إثابته »
و- الأكل بثلاثة أصابع :
17 - السّنّة الأكل بثلاثة أصابع ، قال عياض : والأكل بأكثر منها من الشّره وسوء الأدب ، ولأنّه غير مضطرٍّ لذلك لجمعه اللّقمة وإمساكها من جهاتها الثّلاث : وإن اضطرّ إلى الأكل بأكثر من ثلاثة أصابع ، لخفّة الطّعام وعدم تلفيقه بالثّلاث يدعمه بالرّابعة أو الخامسة . هذا إن أكل بيده ، ولا بأس باستعمال الملعقة ونحوها كما يأتي .
ز - أكل اللّقمة السّاقطة :
18 - إذا وقعت اللّقمة فليمط الآكل عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشّيطان ، لأنّه لا يدري موضع البركة في طعامه ، وقد يكون في هذه اللّقمة السّاقطة ، فتركها يفوّت على المرء بركة الطّعام ، لما روي عن أنسٍ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « كان إذا طعم طعاماً لعق أصابعه الثّلاث وقال : وإذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى وليأكلها ، ولا يدعها للشّيطان » .
ج - عدم الاتّكاء أثناء الأكل :
19 - وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم « أمّا أنا فلا آكل متّكئاً » قال الخطّابيّ : المتّكئ هنا الجالس معتمداً على وطاءٍ تحته ، كقعود من يريد الإكثار من الطّعام . وسبب الحديث المذكور قصّة الأعرابيّ المذكور في حديث عبد اللّه بن بسرٍ قال : « أهديت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم شاةً ، فجثا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على ركبتيه يأكل ، فقال أعرابيّ : ما هذه الجلسة ؟ فقال : إنّ اللّه جعلني عبداً كريماً ، ولم يجعلني جبّاراً عنيداً … » واختلف في صفة الاتّكاء ، لكن مرادهم أنّ الإكثار من الطّعام مذموم ، ومراده صلى الله عليه وسلم ذمّ فعل من يستكثر الطّعام ، ومدح من لا يأكل إلاّ البلغة من الزّاد ، ولذلك قعد مستوفزاً .
ط - التّسوية بين الحاضرين على الطّعام :
20 - فقد روي عن جابرٍ « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتى بعض حجر نسائه ، فدخل ، ثمّ أذن لي فدخلت الحجاب عليها ، فقال : هل من غداءٍ ؟ فقالوا : نعم . فأتي بثلاثة أقرصةٍ فوضعن على نبيٍّ- مائدةٍ من خوصٍ- فأخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قرصاً فوضعه بين يديه ، وأخذ قرصاً آخر فوضعه بين يديّ ، ثمّ أخذ الثّالث فكسره اثنين ، فحمل نصفه بين يديه ونصفه بين يديّ ، ثمّ قال : هل من أدمٍ ؟ قالوا : لا ، إلاّ شيء من خلٍّ ، قال : هاتوه ، فنعم الأدم هو » . والتّسوية بين الحاضرين على الطّعام مستحبّة ، حتّى لو كان بعض الحاضرين أفضل من بعضٍ .
هذا ومن آداب الأكل أثناء الطّعام إكرام الخبز ، لحديث عائشة مرفوعاً : « أكرموا الخبز » ، وعدم البصاق والمخاط حال الأكل إلاّ لضرورةٍ . ومن آدابه كذلك الأكل مع الجماعة ، والحديث غير المحرّم على الطّعام ، ومؤاكلة صغاره وزوجاته ، وألاّ يخصّ نفسه بطعامٍ إلاّ لعذرٍ كدواءٍ ، بل يؤثرهم على نفسه فاخر الطّعام ، كقطعة لحمٍ وخبزٍ ليّنٍ أو طيّبٍ . وإذا فرغ ضيفه من الطّعام ورفع يده قال صاحب الطّعام : كل ، ويكرّرها عليه ما لم يتحقّق أنّه اكتفى منه ، ولا يزيد على ثلاث مرّاتٍ ، وأن يتخلّل ، ولا يبتلع ما يخرج من أسنانه بالخلال بل يرميه .
آداب الأكل بعد الفراغ منه :
22 - يسنّ أن يقول الآكل ما ورد من حمد اللّه والدّعاء بعد تمام الأكل ، فقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رفع مائدته قال : « الحمد للّه حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه غير مكفيٍّ ولا مودّعٍ ولا مستغنًى عنه ربّنا » وقد كان الرّسول صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاماً غير اللّبن قال : « اللّهمّ بارك لنا فيه ، وأطعمنا خيراً منه » وإذا شرب لبناً قال : « اللّهمّ بارك لنا فيه ، وزدنا منه » . وقد روى ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من أطعمه اللّه طعاماً فليقل : اللّهمّ بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه ، ومن سقاه اللّه لبناً فليقل : اللّهمّ بارك لنا فيه وزدنا منه » .
آداب عامّة في الأكل :
أ - عدم ذمّ الطّعام :
23 - روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : « ما عاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم طعاماً قطّ ، إن اشتهاه أكله ، وإن كرهه تركه » والمراد الطّعام المباح ، أمّا الحرام فكان يعيبه ويذمّه وينهى عنه . وذهب بعضهم إلى أنّه إن كان العيب من جهة الخلقة كره ، وإن كان من جهة الصّنعة لم يكره ، لأنّ صنعة اللّه لا تعاب وصنعة الآدميّين تعاب . والّذي يظهر التّعميم ، فإنّ فيه كسر قلب الصّانع .
قال النّوويّ : من آداب الطّعام المتأكّدة ألاّ يعاب كقوله : مالح ، حامض ، قليل الملح ، غليظ ، رقيق ، غير ناضجٍ ، وغير ذلك - قال ابن بطّالٍ : هذا من حسن الآداب ، لأنّ المرء قد لا يشتهي الشّيء ويشتهيه غيره ، وكلّ مأذونٍ في أكله من قبل الشّرع ليس فيه عيب .
ب - استعمال الملاعق والسّكاكين وأدوات الطّعام :
24 - يجوز استعمال السّكّين وما في معناه ، لخبر الصّحيحين عن « عمرو بن أميّة الضّمريّ أنّه رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يحتزّ من كتف شاةٍ في يده ، فدعي إلى الصّلاة ، فألقاها والسّكّين الّتي يحتزّ بها ، ثمّ قام فصلّى ولم يتوضّأ » .
وأمّا خبر « لا تقطعوا اللّحم بالسّكّين » فقد سئل عنه الإمام أحمد فقال : ليس بصحيحٍ . وقال ابن مفلحٍ : أمّا تقطيع الخبز بالسّكّين فلم أجد فيه كلاماً .
ج - تحرّي الأكل من الحلال :
25 - قال اللّه تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم } . وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يحلبن أحد ماشية امرئٍ بغير إذنه ، أيحبّ أحدكم أن تؤتى مشربته ، فتكسر خزانته ، فينتقل طعامه ، فإنّما تخزّن لهم ضروع ماشيتهم أطعماتهم ، فلا يحلبن أحد ماشية أحدٍ إلاّ بإذنه ».
قال الشّافعيّ رحمه الله : أصل المأكول والمشروب إذا لم يكن لمالكٍ من الآدميّين ، أو أحلّه مالكه ، أنّه حلال إلاّ ما حرّم اللّه عزّ وجلّ في كتابه أو على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم فإنّ ما حرّم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لزم في كتاب اللّه عزّ وجلّ أن يحرّم .
ويحرم ما لم يختلف المسلمون في تحريمه ، وكان في معنى كتابٍ أو سنّةٍ أو إجماعٍ ، فإن قال قائل فما الحجّة في أنّ كلّ ما كان مباح الأصل يحرم بمالكه ، حتّى يأذن فيه مالكه فالحجّة فيه : أنّ اللّه عزّ وجلّ قال : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم } . وقال تبارك وتعالى { وآتوا النّساء صدقاتهنّ نحلةً فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } وقال : { وآتوا اليتامى أموالهم } ، مع آيٍ كثيرةٍ في كتاب اللّه عزّ وجلّ حظر فيها أموال النّاس إلاّ بطيب أنفسهم .
وممّا روي في تحريم مال الغير بغير إذنه ما ورد عن عميرٍ مولى أبي اللّحم قال : « أقبلت مع سادتي نريد الهجرة ، حتّى أن دنونا من المدينة ، قال : فدخلوا المدينة ، وخلّفوني في ظهرهم قال : فأصابني مجاعة شديدة ، قال : فمرّ بي بعض من يخرج من المدينة فقالوا لي : لو دخلت المدينة فأصبت من تمر حوائطها ، فدخلت حائطاً ، فقطعت منه قنوين ، فأتاني صاحب الحائط ، فأتى بي إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأخبره خبري ، وعليّ ثوبان ، فقال لي : أيّهما أفضل ؟ فأشرت له إلى أحدهما ، فقال : خذه ، وأعطى صاحب الحائط الآخر ، وأخلى سبيلي » وفي هذا دليل على أنّ الحاجة لا تبيح الإقدام على مال الغير مع وجود ما يمكن الانتفاع به أو بقيمته ، ولو كان ممّا تدعو حاجة الإنسان إليه ، فإنّه هنا أخذ أحد ثوبيه ، ودفعه إلى صاحب النّخل .
ما يترتّب على قاعدة تحرّي الحلال في الأكل :
أ - حكم المضطرّ :
26 - من غلب على ظنّه هلاك نفسه ، ولم يجد إلاّ ميتةً أو نحوها من المحرّمات أو مال الغير ، لزمه الأكل منه بقدر ما يحيي نفسه ، لقوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة } . وقوله تعالى : { فمن اضطرّ غير باغٍ } أي على مضطرٍّ آخر { ولا عادٍ } أي سدّ الجوعة فأكل { فلا إثم عليه } . قال الزّركشيّ : وينبغي أن يكون خوف حصول الشّين الفاحش في عضوٍ ظاهرٍ ، كخوف طول المرض كما في التّيمّم . واكتفى بالظّنّ ، كما في الإكراه على أكل ذلك ، فلا يشترط فيه التّيقّن ولا الإشراف على الموت .
وللمضطرّ أن يأكل ما يسدّ الرّمق أي ما يحفظ الحياة وهو مذهب أبي حنيفة والشّافعيّ ، وهو الأظهر عند الحنابلة . قال الموّاق : ونصّ الموطّأ : ومن أحسن ما سمعته في الرّجل يضطرّ إلى الميتة أنّه يأكل منها حتّى يشبع ويتزوّد منها ، فإن وجد عنها غنًى طرحها . ويحرم الأكل من الميتة على المضطرّ في سفر المعصية ، كقاطع الطّريق والآبق ، لقوله تعالى : { فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه } قال مجاهد : غير باغٍ على المسلمين ولا عادٍ عليهم . وقال سعيد بن جبيرٍ : إذا خرج يقطع الطّريق فلا رخصة له . فإن تاب وأقلع عن معصيته حلّ له الأكل . وفي ذلك خلاف وتفصيل يرجع إليه تحت عنوان ( اضطرار ) . وإن اضطرّ فلم يجد ميتةً ، ومع رجلٍ شيء كان له أن يكابره ، وعلى الرّجل أن يعطيه ، وإذا كابره أعطاه ثمنه وافياً ، فإن كان إذا أخذ شيئاً خاف مالك المال على نفسه لم يكن له مكابرته . قال القرافيّ في الذّخيرة : وإذا أكل مال مسلمٍ اقتصر على سدّ الرّمق ، إلاّ أن يعلم طول الطّريق فليتزوّد ، لأنّ مواساته تجب إذا جاع .
ب - الأكل من بستان الغير وزرعه دون إذنه :
27 - قال صاحب المغني من الحنابلة : من مرّ ببستان غيره يباح له الأكل منه ، من غير فرقٍ بين أن يكون مضطرّاً إلى الأكل أو لا ، ومحلّ ذلك إذا لم يكن للبستان حائط ، أي جدار يمنع الدّخول إليه لحرزه ، لما في ذلك من الإشعار بعدم الرّضى .
ودليل ذلك ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا أتى أحدكم حائطاً ، فأراد أن يأكل ، فليناد : يا صاحب الحائط ، ثلاثاً ، فإن أجابه وإلاّ فليأكل ، وإذا مرّ أحدكم بإبلٍ فأراد أن يشرب من ألبانها ، فليناد : يا صاحب الإبل أو يا راعي الإبل ، فإن أجابه ، وإلاّ فليشرب » .
وروي عن أحمد أنّه قال : يأكل ممّا تحت الشّجر ، وإذا لم يكن تحت الشّجر فلا يأكل ثمار النّاس وهو غنيّ ، ولا يأكل بضربٍ بحجرٍ ، ولا يرمي ، لأنّ هذا يفسد . غير أنّه يمتنع على الإنسان أن يأخذ خبنةً ، وهي ما تحمله وتخرج به من ثمار الغير ، لأنّ هذا منهيّ عنه بنصّ الحديث الشّريف ، فقد « سئل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الثّمر المعلّق فقال : من أصاب بفيه من ذي حاجةٍ غير متّخذٍ خبنةً فلا شيء عليه ، ومن خرج بشيءٍ منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة » .
وقول المالكيّة كقول الحنابلة ، ولكن قيّدوه بحال الحاجة . أمّا في غير الحاجة فالأصحّ عندهم المنع .
وعند الشّافعيّة قال النّوويّ : من مرّ بثمر غيره أو زرعه لم يجز له أن يأخذ منه ، ولا يأكل بغير إذن صاحبه إلاّ أن يكون مضطرّاً فيأكل ويضمن .
وحكم الثّمار السّاقطة من الأشجار حكم سائر الثّمار إن كانت داخل الجدار ، فإن كانت خارجه فكذلك إن لم تجر عادتهم بإباحتها ، فإن جرت بذلك ، فهل تجري العادة المطّردة مجرى الإباحة ؟ والأصحّ : أنّها تجري مجرى الإباحة .
وأمّا الأكل من الزّرع فعن أحمد فيه روايتان : إحداهما قال : لا يأكل ، إنّما رخّص في الثّمار وليس الزّرع ، وقال : ما سمعنا في الزّرع أن يمسّ منه . ووجهه أنّ الثّمار خلقها اللّه للأكل رطبةً ، والنّفوس تتشوّق إليها ، والزّرع بخلافها .
والرّواية الثّانية : قال يأكل من الفريك ، لأنّ العادة جارية بأكله رطباً ، أشبه الثّمر . وكذلك الحكم في الباقلاء والحمّص وشبهه ممّا يؤكل رطباً ، فأمّا الشّعير وما لم تجر العادة بأكله فلا يجوز الأكل منه ، قال : والأولى في الثّمار وغيرها ألاّ يؤكل منها إلاّ بإذنٍ ، لما فيه من الخلاف والأخبار الدّالّة على التّحريم .
وعنه أيضاً في حلب الماشية روايتان : إحداهما يجوز له أن يحلب ويشرب ولا يحمل . والثّانية : لا يجوز له أن يحلب ولا يشرب ، ولكلٍّ منهما ما يسنده من قول الرّسول صلى الله عليه وسلم . فالإباحة يسندها الحديث المتقدّم .
والحظر يدلّ له حديث الرّسول صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحلبن أحد ماشية امرئٍ بغير إذنه ، أيحبّ أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته فينتقل طعامه ، فإنّما تخزّن لهم ضروع ماشيتهم أطعماتهم ، فلا يحلبن أحد ماشية أحدٍ إلاّ بإذنه » .
حكم أخذ النّثار في العرس وغيره :
28 - النّثار مكروه في العرس وغيره ، روي ذلك عن أبي مسعودٍ البدريّ وعكرمة وابن سيرين وعطاءٍ وعبد اللّه بن يزيد الخطميّ وطلحة وزبيدٍ الياميّ ، وبه قال مالك والشّافعيّ وأحمد لما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن النّهبى والمثلة » . ولأنّ فيه نهباً وتزاحماً وقتالاً ، وربّما أخذه من يكره صاحب النّثار لحرصه وشرهه ودناءة نفسه ، ويحرمه من يحبّ صاحبه لمروءته وصيانة نفسه وعرضه . والغالب هذا ، فإنّ أهل المروءات يصونون أنفسهم عن مزاحمة سفلة النّاس على شيءٍ من الطّعام أو غيره ، ولأنّ في هذا دناءةً ، واللّه يحبّ معالي الأمور ويكره سفسافها .
وروي عن أحمد رواية ثانية : أنّه ليس بمكروهٍ ، اختارها أبو بكرٍ ، وهو قول الحسن وقتادة والنّخعيّ وأبي حنيفة وأبي عبيدٍ وابن المنذر ، لما روى عبد اللّه بن قرطٍ قال : « قرّب إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خمس بدناتٍ أو ستّ ، فطفقن يزدلفن إليه ، بأيّتهنّ يبدأ ، فنحرها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال كلمةً لم أسمعها ، فسألت من قرب منه فقال قال : من شاء اقتطع » وهذا جارٍ مجرى النّثار ، وقد روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دعي إلى وليمة رجلٍ من الأنصار ثمّ أتوا بنهبٍ فأنهب عليه » . قال الرّاوي « ونظرت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يزاحم النّاس أو نحو ذلك ، قلت : يا رسول اللّه أو ما نهيتنا عن النّهبة ؟ قال : نهيتكم عن نهبة العساكر » ولأنّه نوع إباحةٍ فأشبه إباحة الطّعام للضّيفان .
زمان الأكل بالنّسبة للصّائم :
29 - يسنّ للصّائم أن يؤخّر سحوره إلى آخر اللّيل مع تحقّق بقاء اللّيل ، وأن يعجّل فطوره بعد التّيقّن من غروب الشّمس . وتفصيل ذلك ينظر تحت عنوان ( الصّوم ) .
أكولة *
التّعريف :
1 - الأكولة لغةً : صيغة مبالغةٍ ، بمعنى : كثيرة الأكل ، وتكون بمعنى المفعول أيضاً أي المأكولة ، وفي الحديث : « نهي المصدّق عن أخذ الأكولة من الأنعام في الصّدقة » . واختلف في تفسير الأكولة فقيل : هي الشّاة الّتي تعزل للأكل وتسمّن .
وقيل : أكولة غنم الرّجل : الخصيّ والهرمة والعاقر والكبش .
وعند الفقهاء : شاة اللّحم تسمّن لتؤكل ، ذكراً كان أو أنثى ، وكذا توصف به المرأة الكثيرة الأكل .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - الرّبّى : الشّاة الّتي تربّى للّبن ، وهي من كرائم الأموال مثل الشّاة الأكولة .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
3 - يتّفق الفقهاء على أنّه ليس للسّاعي أن يأخذ الأكولة من الغنم ، لأنّها من كرائم الأموال . « لقوله لمعاذٍ حين بعثه إلى اليمن : إيّاك وكرائم أموالهم » رواه الجماعة ، هذا إن كانت الغنم خياراً ولئاماً ، وكذا إن كانت كلّها لئاماً ، لا يأخذ السّاعي الأكولة إلاّ برضى المالك . فإن كانت كلّها خياراً فإنّ من الفقهاء من قال : تجب الأكولة ، ومنهم من قال : تكفي الوسط .
4 - والزّوجة الأكولة لا تختلف عن غيرها في مقدار النّفقة عند من يقدّر للزّوجة بحسب يسار الزّوج أو إعساره ، وكذا لا تختلف عن غيرها عند من يقول بالكفاية ، غير أنّ المالكيّة قالوا : إنّ الزّوجة الأكولة يجب لها كفايتها من الأكل أو يطلّقها ، ولا خيار له في فسخ النّكاح وإمضائه ، وهذا ما لم يشترط كونها غير أكولةٍ ، وإلاّ فله ردّها ما لم ترض بالوسط .
ألبسة *
التّعريف :
1 - الألبسة : جمع لباسٍ ، وهو ما يستر البدن ويدفع الحرّ والبرد ، ومثله الملبس ، واللّبس بالكسر . ولبس الكعبة والهودج : كسوتهما .
ويقال : لبست امرأةً ، أي تمتّعت بها زماناً . ولباس كلّ شيءٍ غشاؤه . واللّبوس بفتح اللّام ما يلبس ، وقوله تعالى : { وعلّمناه صنعة لبوسٍ لكم } يعني الدّرع . قال اللّه تعالى : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ، ولباس التّقوى ذلك خير ، ذلك من آيات اللّه لعلّهم يذّكّرون } ..
الحكم التّكليفيّ :
2 - استعمال اللّباس تعتريه الأحكام الخمسة : فالفرض منه : ما يستر العورة ويدفع الحرّ والبرد ، قال تعالى : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كلّ مسجدٍ } أي ما يستر عورتكم عند الصّلاة .
والمندوب إليه أو المستحبّ : هو ما يحصل به أصل الزّينة وإظهار النّعمة ، قال تعالى : { وأمّا بنعمة ربّك فحدّث } ، وعن أبي الأحوص عن أبيه قال : « دخلت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فرآني سيّئ الهيئة فقال : ألك شيء ؟ قلت : نعم . من كلّ المال قد أتاني اللّه تعالى فقال : إذا كان لك مال فلير عليك » . وعن ابن عمرٍو رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ اللّه يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده » . ومن المندوب : اللّبس للتّزيّن ، ولا سيّما في الجمع والأعياد ومجامع النّاس ، لحديث عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ما على أحدكم إن وجد سعةً أن يتّخذ ثوبين ليوم الجمعة غير ثوبي مهنته » ومحلّه إذا لم يكن للتّكبّر .
والمكروه : هو اللّباس الّذي يكون مظنّةً للتّكبّر والخيلاء ، لحديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « وكلوا واشربوا والبسوا من غير إسرافٍ ولا مخيلةٍ » . وعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال : كل ما شئت ، والبس ما شئت ، ما أخطأتك اثنتان : سرف ومخيلة والمخيلة هي الكبر . وقال : عبد اللّه بن عمرٍو : « قلت يا رسول اللّه : أمن الكبر أن يكون لي الحلّة فألبسها ؟ قال : لا . قلت : أمن الكبر أن تكون لي راحلة فأركبها ؟ قال : لا . قلت : أمن الكبر أن أصنع طعاماً فأدعو أصحابي ؟ قال : لا . الكبر أن تسفّه الحقّ وتغمص النّاس » وسفه الحقّ : جهله . وغمص النّاس : احتقارهم . والحرام : هو اللّبس بقصد الكبر والخيلاء ، لما ورد في الأحاديث السّابقة .
ومن الحرام لبس الحرير والذّهب مثلاً بالنّسبة للرّجال ، ولو بحائلٍ بينه وبين بدنه ، ما لم يدع إلى لبسه ضرورة ، أو مرض كحكّةٍ به ، فيلبس الحرير لذلك ، لما روي عن عليٍّ رضي الله عنه قال : « أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حريراً فجعله في يمينه ، وذهباً فجعله في شماله . فقال : إنّ هذين حرام على ذكور أمّتي » . وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « حرّم لباس الحرير والذّهب على ذكور أمّتي ، وأحلّ لإناثهم » . وعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال : « إنّما نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الثّوب المصمت من الحرير » أي الخالص الّذي لا يخالطه شيء ، وهذا ما عليه عامّة الفقهاء . ولتفصيله ينظر مصطلح ( حرير ) ( وذهب ) .
حكمة مشروعيّة اللّباس :
3 - لمّا كان في إظهار العورة أمام الغير على نحو ما كان في الجاهليّة إخلال بالصّفة الإنسانيّة الكريمة والآداب العامّة ، ولما يسبّبه كشفها من إخلالٍ بالأخلاق وذيوع مفاسد عظيمة الأثر بين أفراد المجتمع ، كان لا بدّ للشّارع تكريماً للإنسان - كما في قوله سبحانه وتعالى : { ولقد كرّمنا بني آدم }
واحتراماً لآدميّته ، وتمييزاً له عن سائر الحيوانات ، من أن يحفظ عليه إنسانيّته ، فأنعم عليه بنعمه الّتي لا تعدّ ولا تحصى ، وكان منها اللّباس شرعةً منه للآدميّين لتستر به عوراتهم ، وليكون لهم بهذا السّتر ما يزيّنهم ويجمّلهم ، بدلاً من قبح العري الّذي كان متفشّياً بينهم وشناعته مظهراً ومخبراً ، وفي هذا يقول اللّه تبارك وتعالى : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ، ولباس التّقوى ذلك خير ، ذلك من آيات اللّه لعلّهم يذّكّرون } وقوله تعالى : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كلّ مسجدٍ ، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ، إنّه لا يحبّ المسرفين } فقد أمر سبحانه بأخذ الزّينة وأهمّها ستر العورة ، وتفصيل ما يتّصل بستر العورة ينظر في ( استتار ، وعورة ، وصلاة ) .
حكم الألبسة تبعاً لذواتها :
4 - الأصل في اللّباس الحلّ مهما كانت المادّة الّتي صنع منها إلاّ ما ورد نصّ بتحريمه كالحرير للذّكور ، وتفصيله في مصطلح ( حرير ) .
وكذلك ما كان من جلود الميتة وما لا يزكّى ، فإذا دبغت طهرت ، وحلّ لبسها ولو في الصّلاة . وتفصيله في ( إهاب ) ( ودباغة ) .
وأمّا الملابس المصنوعة من الصّوف أو الشّعر أو الوبر ، فإن كانت من مأكول اللّحم فهي طاهرة حلال ، سواء أخذت منه في حياته أو بعد تذكيته أو بعد موته ، وإنّما حلّت - ولو جزّت من الميتة - لأنّها لا تحلّها الحياة .
وفيما أخذ من غير مأكول اللّحم أو من نجس العين ، تفصيل وخلاف ينظر في مصطلح ( شعر ) .
لبس جلود السّباع :
5 - جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ) على جواز الانتفاع بجلود السّباع بشرط الدّباغ لقوله عليه السلام : « أيّما إهابٍ دبغ فقد طهر » .
وقال القاضي أبو يعلى الحنبليّ : لا يجوز الانتفاع بها قبل الدّبغ ولا بعده ، لما روى أبو ريحانة قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوب النّمور » أخرجه أبو داود وابن ماجه .
وعن معاوية والمقداد بن معد يكرب « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن لبس جلود السّباع والرّكوب عليها » رواه أبو داود . وروي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن افتراش جلود السّباع »
وأمّا الثّعالب فيبنى حكمها على حلّها ، وفيها للحنابلة روايتان ، كذلك يخرج في جلودها ، فإن قيل بتحريمها فحكم جلودها حكم جلود بقيّة السّباع وكذلك السّنانير البرّيّة ..
لبس الثّياب الجميلة :
6 - من المتّفق عليه أنّه يباح من الألبسة الثّوب الجميل ما لم يكن من محرّمٍ كالحرير للذّكور ، ويستحبّ التّزيّن في الأعياد والجمع ومجامع النّاس ، وذلك بدون صلفٍ ولا خيلاء . ومن ترك ذلك وهو قادر عليه تزمّتاً أو تديّناً فقد أخطأ ، فليس ذلك ممّا يدعو إليه الشّرع ، وانظر القرطبيّ في تفسير قوله تعالى : { قل من حرّم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده والطّيّبات من الرّزق } .
الألبسة من حيث ألوانها وأشكالها وصفاتها ومناسبتها لعادات النّاس :
تختلف الألبسة من حيث ألوانها :
أ - اللّون الأبيض :
7 - اتّفق الفقهاء على استحباب لبس ما كان أبيض اللّون من الثّياب ، وتكفين الموتى به ، لحديث سمرة بن جندبٍ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « البسوا من ثيابكم البياض ، فإنّها أطهر وأطيب ، وكفّنوا فيها موتاكم » قال الشّوكانيّ : أمّا كونه أطيب فظاهر ، وأمّا كونه أطهر فلأنّ أدنى شيءٍ يقع عليه يظهر ، فيغسل إذا كان من جنس النّجاسة ، فيكون نقيّاً . كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في دعائه « ونقّني من الخطايا كما ينقّى الثّوب الأبيض من الدّنس » .
وقد استحبّ عمر رضي الله عنه لبس البياض لقارئ القرآن .
ب - اللّون الأحمر :
8 - ذهب بعض الحنفيّة والحنابلة إلى القول بكراهة لبس ما لونه أحمر متى كان غير مشوبٍ بغيره من الألوان للرّجال دون النّساء ، لقول البراء بن عازبٍ « نهانا النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن المياثر الحمر والقسيّ » ولقول عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما « مرّ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجل عليه ثوبان أحمران ، فسلّم عليه ، فلم يردّ عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم »
واستدلّوا على جواز لبس الثّوب الأحمر إذا خالطه لون آخر بأحاديث منها : حديث هلال بن عامرٍ عن أبيه قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمنًى يخطب على بغلةٍ ، وعليه برد أحمر ، وعليّ أمامه يعبّر عنه » وحديث البراء بن عازبٍ قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مربوعاً ، وقد رأيته في حلّةٍ حمراء ، لم أر شيئاً قطّ أحسن منه صلى الله عليه وسلم » .
وروى البيهقيّ أنّه عليه الصلاة والسلام « كان يلبس يوم العيد بردةً حمراء » .
والمراد بالحلّة الحمراء بردان يمنيّان منسوجان بخطوطٍ حمرٍ مع سودٍ ، أو خضرٍ ، كسائر البرود اليمنيّة ، ووصفت بالحمرة باعتبار ما فيها من الخطوط الحمر ، وإلاّ فالأحمر البحت منهيّ عنه عندهم ومكروه لبسه ، وبهذا حملوا الأحاديث المبيحة على أنّها وردت بشأن البرود اليمنيّة وهي الّتي تشتمل على اللّون الأحمر وغيره وأمّا أحاديث النّهي فهي خاصّة بما كان أحمر خالصاً لا يخالطه شيء . وذهب بعض الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى القول بجواز لبس الثّوب الأحمر الخالص غير المزعفر والمعصفر ، لحديث البراء بن عازبٍ وحديث هلال بن عامرٍ المتقدّمين ، ولقول ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يلبس يوم العيد بردةً حمراء » .
ج - اللّون الأسود :
9 - أجاز الفقهاء لبس الأسود بغير كراهةٍ في ذلك للرّجل والمرأة ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : « خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذات غداةٍ ، وعليه مرط مرحّل من شعرٍ أسود »
وعن جابرٍ قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكّة وعليه عمامة سوداء » وعن عائشة رضي الله عنها قالت : « صنعت لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم بردةً سوداء فلبسها فلمّا عرق فيها وجد ريح الصّوف فقذفها ، وكانت تعجبه الرّيح الطّيّبة » . وعن أمّ خالدٍ قالت : « أتي النّبيّ صلى الله عليه وسلم بثيابٍ فيها خميصة سوداء ؟ قال : من ترون نكسو هذه الخميصة ؟ فأسكت القوم ، فقال : ائتوني بأمّ خالدٍ ، فأتي بي إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فألبسنيها بيده وقال : أبلي وأخلقي مرّتين وجعل ينظر إلى علم الخميصة ويشير بيده إليّ ويقول : يا أمّ خالدٍ هذا سنا ، هذا سنا » . والسّنا بلسان الحبشة : الحسن . وفي هذا الحديث دليل على أنّه يجوز للنّساء لباس الثّياب السّود ، ولا خلاف في ذلك عند العلماء كما قاله الشّوكانيّ .
د - اللّون الأصفر :
10 - اتّفق الفقهاء على جواز لبس الأصفر ما لم يكن معصفراً أو مزعفراً لقول عبد اللّه بن جعفرٍ : « رأيت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثوبين أصفرين » ولقول عمران بن مسلمٍ : رأيت على أنس بن مالكٍ إزاراً أصفر .
هـ- اللّون الأخضر :
11- ذهب بعض الفقهاء إلى استحباب لبسه لأنّه لباس أهل الجنّة ، لما في قوله تعالى : { عاليهم ثياب سندسٍ خضر وإستبرق } . ولحديث أبي رمثة قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعليه بردان أخضران » .
و - المخطّط الألوان :
12 - وذلك يجوز لبسه ، لما روي عن أنسٍ رضي الله عنه قال : « كان أحبّ الثّياب إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يلبسها الحبرة » والحبرة هي الثّوب المخطّط الألوان كما قال الجوهريّ .
ما يحرم أو يكره من الألبسة :
أ - الألبسة الّتي عليها نقوش أو تصاوير أو صلبان أو آيات :
13 - يحرم على الرّجل والمرأة لبس الثّياب الّتي عليها تصاوير الحيوانات على الأصحّ ، لحديث أبي طلحة قال . سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا تصاوير » .
فإن أزيل من الصّورة ما لا تبقى بإزالته الحياة كالرّأس ، أو لم يكن لها رأس فلا بأس به . كما يحرم جعل الصّليب في الثّوب ونحوه كالطّاقيّة وغيرها ممّا يلبس ، لقول عائشة رضي الله عنها إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « كان لا يترك في بيته شيئاً فيه تصليب إلاّ قضبه » أي قطع موضع الصّليب منه دون غيره ، والقضب القطع . وهذا الشّيء يشمل الملبوس والسّتور والبسط والآلات وغير ذلك . كما يحرم تصويرها في نسج الثّياب على الأصحّ ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ أشدّ النّاس عذاباً عند اللّه يوم القيامة المصوّرون » .
والصّلاة في الثّوب الّذي عليه تصاوير الحيوانات أو الصّلبان حرام مع صحّة الصّلاة ، لحديث أنسٍ قال : « كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها ، فقال لها : أميطي عنّا قرامك هذا ، فإنّه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي » والقرام بكسر القاف ، ستر رقيق . وكذلك لبس الثّوب الّذي نقشت فيه آيات تلهي المصلّي عن صلاته ، أو كان من شأن لبسه امتهانها .
ولا بأس بلبس الثّياب المصوّرة بصور غير الحيوانات ، كشجرٍ وقمرٍ وجبالٍ وكلّ ما لا روح فيه ، لما روى البخاريّ عن ابن عبّاسٍ لمّا قال له المصوّر : لا أعرف صنعةً غيرها . قال : إن لم يكن بدّ فصوّر من الأشجار ما لا نفس له . هذا ما جرى عليه جمهور الفقهاء .
أمّا التّصاوير المنقوشة على السّتور والبسط والوسائد والأبواب وافتراشها والجلوس عليها وتعليقها واستخداماته ا المختلفة . فالأحكام فيها تنظر في مصطلح ( تصوير ) .
ب - الألبسة المزعفرة ونحوها :
14 - ذهب الشّافعيّة إلى تحريم لبس الثّياب المزعفرة دون المعصفرة للرّجال وإباحتها للنّساء ، فعن أنسٍ رضي الله عنه قال : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرّجل » ولو صبغ بعض ثوبٍ بزعفرانٍ ، فهل هو كالتّطريف فيحرم ما زاد على الأربع الأصابع ، أو كالمنسوج من الحرير وغيره فيعتبر الأكثر ؟ الأوجه أنّ المرجع في ذلك إلى العرف ، فإن صحّ إطلاق المزعفر عليه عرفاً حرم وإلاّ فلا . ولا يكره لغير المرأة مصبوغ بغير الزّعفران والعصفر والأحمر والأصفر والأخضر وغيرها سواء أصبغ قبل النّسج أم بعده ، لعدم ورود نهيٍ في ذلك .
وقال الحنفيّة والحنابلة بكراهة لبس الثّياب المزعفرة والمعصفرة للرّجال دون النّساء ، لحديث أنسٍ السّابق . ولما روي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : « رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين فقال : أأمّك أمرتك بهذا ؟ قلت : أغسلهما ، قال : بل أحرقهما »
وعن عليٍّ رضي الله عنه قال : « نهاني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن التّختّم بالذّهب ، وعن لباس القسيّ ، وعن القراءة في الرّكوع والسّجود وعن لباس المعصفر »
وأجاز المالكيّة لغير المحرم لبس المعصفر ونحوه كالمزعفر ، ما لم يكن مفدّماً ( أي شديد الحمرة ) والمفدّم : هو القويّ الصّبغ الّذي ردّ في العصفر مرّةً بعد أخرى ، وإلاّ كره لبسه للرّجال في غير الإحرام .
وحرم عند الجميع على المحرم لبس ما كان مزعفراً أو معصفراً ، سواء كان رجلاً أو امرأةً ، إذا كان ريح الطّيب باقياً ، لأنّه طيّب ، ولا بأس بسائر الألوان غير ذلك .
ج - لبس ما يشفّ أو يصف :
15 - لا يجوز لبس الرّقيق من الثّياب إذا كان يشفّ عن العورة ، فيعلم لون الجلد من بياضٍ أو حمرةٍ ، سواء في ذلك الرّجل والمرأة ولو في بيتها ، هذا إن رآها غير زوجها ، لما يأتي من الأدلّة ، وهو بالإضافة إلى ذلك مخلّ بالمروءة ، ولمخالفته لزيّ السّلف ، ولا تصحّ الصّلاة في مثل تلك الثّياب ، ويجوز للمرأة لبسه إذا كان لا يراها إلاّ زوجها . أمّا ما كان رقيقاً يستر العورة ، ولكنّه يصف حجمها حتّى يرى شكل العضو فإنّه مكروه . لقول جرير بن عبد اللّه : " إنّ الرّجل ليلبس وهو عارٍ ، يعني الثّياب الرّقاق "
وعن أسامة بن زيدٍ قال : « كساني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبطيّةً كثيفةً ممّا أهداها له دحية الكلبيّ ، فكسوتها امرأتي ، فقال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مالك لم تلبس القبطيّة ؟ قلت : يا رسول اللّه كسوتها امرأتي ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : مرها فلتجعل تحتها غلالةً ، فإنّي أخاف أن تصف حجم عظامها »
ففيه دليل على النّهي عن لبس اللّباس الّذي يصف ما تحته من البدن ، ولهذا ورد في حديث علقمة عن أمّه قالت : دخلت حفصة بنت عبد الرّحمن على عائشة وعليها خمار رقيق ، فشقّته عائشة ، وكستها خماراً كثيفاً . والخمار بالكسر هو : ما تغطّي به المرأة رأسها . وعن دحية الكلبيّ قال : « أتي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقباطيّ ، فأعطاني منها قبطيّةً . فقال : اصدعها صدعين ، فاقطع أحدهما قميصاً ، وأعط الآخر امرأتك تختمر به فلمّا أدبر قال : وأمر امرأتك أن تجعل تحته ثوباً لا يصفها » ، وقباطيّ جمع : قبطيّةٍ بكسرٍ أو ضمٍّ وسكونٍ ، أي ثوب يصنعه قبط مصر رقيق أبيض .
د - الألبسة المخالفة لعادات النّاس :
16 - لبس الألبسة الّتي تخالف عادات النّاس مكروه لما فيه من شهرةٍ ، أي ما يشتهر به عند النّاس ويشار إليه بالأصابع ، لئلاّ يكون ذلك سبباً إلى حملهم على غيبته ، فيشاركهم في إثم الغيبة . فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الشّهرتين فقيل : يا رسول اللّه وما الشّهرتان ؟ قال : رقّة الثّياب وغلظها ، ولينها وخشونتها ، وطولها وقصرها ، ولكن سداداً بين ذلك واقتصاداً »
وعن ابن عمر مرفوعاً « من لبس ثوب شهرةٍ ألبسه اللّه ثوب مذلّةٍ يوم القيامة » قال في لسان العرب : الشّهرة ظهور الشّيء في شنعةٍ حتّى يشهره النّاس ، ويكره لبس زيٍّ مزرٍ به لأنّه من الشّهرة ، فإن قصد به الاختيال أو إظهار التّواضع حرم لأنّه رياء : « من سمّع سمّع اللّه به ، ومن راءى راءى به » .
ويكره زيّ أهل الشّرك ، لحديث ابن عمر مرفوعاً « من تشبّه بقومٍ فهو منهم » كما كره طول الرّداء مخافة أن يغفل عنه فيجرّه من خلفه ، وقد جاء النّهي عن ذلك لمن فعله بطراً ، والتّوقّي من ذلك على كلّ حالٍ من الأمر الّذي ينبغي ، لقوله صلى الله عليه وسلم « لا ينظر اللّه يوم القيامة إلى من جرّ إزاره بطراً » .
هـ – الألبسة النّجسة :
17- لبس الثّوب النّجس لستر العورة في غير صلاةٍ جائز .
أمّا في الصّلاة ، فلو وجد ساتراً نجساً ولم يجد غيره فإنّه يستتر به ولا يصلّي عاريّاً ، كما هو مذهب الحنابلة ، وأحد قولين لكلٍّ من المالكيّة والشّافعيّة .
أمّا القول الآخر عند المالكيّة ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة فإنّه يصلّي عاريّاً ولا يستتر بالنّجس . أمّا عند الحنفيّة فإذا كان الرّبع من الثّوب طاهراً وجب الاستتار به ولا يصلّي عاريّاً ، وإن كان الطّاهر أقلّ من ربعه يخيّر بين الاستتار به أو الصّلاة عاريّاً ، وإن كان كلّه نجساً فذهب محمّد بن الحسن إلى أنّه يصلّي به ولا يصلّي عرياناً ، لأنّ في الصّلاة به ترك فرضٍ واحدٍ ، وفي الصّلاة عرياناً ترك الفروض من قيامٍ وركوعٍ وسجودٍ ، بل يصلّي قاعداً بالإيماء . وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى التّفريق في ذلك بين النّجس الأصليّ كجلد ميتةٍ لم يدبغ وبين المتنجّس ، فلا يستتر بالأوّل ، ويستتر بالثّاني .
و - الألبسة المغصوبة :
18 - ليس للعاري أخذ الثّوب قهراً ( غصباً ) من مالكه للصّلاة فيه ، وتصحّ بدونه ما لم يجد غيره ، لما في ذلك من حقّ الآدميّ ، فأشبه ما لو لم يجد ماءً يتوضّأ به إلاّ أن يغصبه ، فإنّه يتيمّم ، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة .
حكم اتّخاذ الألبسة الخاصّة بالمناسبات والأشخاص :
أ - ملابس الأعياد ومجامع النّاس :
19 - جعل اللّه تعالى الأعياد أيّام فرحٍ وسرورٍ وزينةٍ للمسلمين ، ولذا فإنّ الفقهاء متّفقون على أنّ التّطيّب والتّزيّن لها مستحبّ ، والتّزيّن بلبس الثّياب الجميلة والجديدة ، وأفضلها البياض ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « البسوا من ثيابكم البياض ، فإنّها من خير ثيابكم » ولما في ذلك من إظهار نعمة اللّه تعالى على عبده الّتي يجب أن يرى أثرها عليه ، ولذا لا ينبغي ترك إظهار الزّينة والتّطيّب في الأعياد مع القدرة عليها تقشّفاً ، فقد ورد « أنّ اللّه تعالى يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده » .
وقد روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يلبس في العيدين بردةً حبرةً » . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوب مهنته » .
وعن جابرٍ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعتمّ ، ويلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة » . وعن جابرٍ قال : « كانت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم جبّة يلبسها في العيدين ويوم الجمعة » .
« وكان صلى الله عليه وسلم يلبس بردين أخضرين ولبس مرّةً برداً أحمر ».
وروي عن عليّ بن الحسن بن عليّ بن أبي طالبٍ أنّه كان يلبس كساء خزٍّ بخمسين ديناراً ، يلبسه في الشّتاء ، فإذا كان الصّيف تصدّق به ، أو باعه فتصدّق بثمنه ، وكان يلبس في الصّيف ثوبين من متاع مصر ممشّقين ( أي مصبوغين بالمشق وهو صبغ أحمر ) ويقرأ قوله تعالى : { قل من حرّم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده والطّيّبات من الرّزق } فقد دلّت على استحباب لباس الرّفيع من الثّياب والتّجمّل بها في الجمع والأعياد وعند لقاء النّاس وزيارة الإخوان . قال أبو العالية : كان المسلمون إذا تزاوروا تجمّلوا . وفي صحيح مسلمٍ من حديث « عمر بن الخطّاب أنّه رأى حلّةً سيراء تباع عند باب المسجد ، فقال : يا رسول لو اشتريتها ليوم الجمعة وللوفود إذا قدموا عليك ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة » فما أنكر ذكر التّجمّل وإنّما أنكر عليه كونها سيراء ، ( والسّيراء نوع من البرود ، فيه خطوط صفر ، أو يخالطه حرير ) .
وقال أبو الفرج : كان السّلف يلبسون الثّياب المتوسّطة لا المترفّعة ولا الدّون ، ويتخيّرون أجودها للجمعة والعيدين وللقاء الإخوان ، ولم يكن تخيّر الأجود عندهم قبيحاً .
وأمّا اللّباس الّذي يزري بصاحبه - أي وهو يجد غيره - فإنّه يتضمّن إظهار الزّهد وإظهار الفقر ، وكأنّه لسان شكوى من اللّه تعالى ، ويوجب احتقار اللّابس ، وكلّ ذلك مكروه منهيّ عنه . فإن قال قائل : تجويد اللّباس هوى النّفس ، وقد أمرنا بمجاهدتها ، وتزيّن للخلق وقد أمرنا أن تكون أفعالنا للّه لا للخلق ؟ فالجواب : أنّه ليس كلّ ما تهواه النّفس يذمّ ، ولا كلّ ما يتزيّن به للنّاس يكره . وإنّما ينهى عن ذلك إذا كان الشّرع قد نهى عنه ، أو على وجه الرّياء في باب الدّين ، فإنّ الإنسان يحبّ أن يرى جميلاً ، وذلك حظّ للنّفس لا يلام عليه ، ولهذا يسرّح شعره ، وينظر في المرآة ، ويسوّي عمامته ، ويلبس بطانة الثّوب الخشنة إلى داخلٍ ، وظهارته الحسنة إلى خارجٍ ، وليس في شيءٍ من هذا ما يكره ولا يذمّ .
وقد روى مكحول عن عائشة رضي الله عنها قالت : « كان نفر من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينتظرونه على الباب ، فخرج يريدهم ، وفي الدّار ركوة فيها ماء ، فجعل ينظر في الماء ، ويسوّي لحيته وشعره ، فقلت يا رسول اللّه : وأنت تفعل هذا ؟ قال : نعم إذا خرج الرّجل إلى إخوانه فليهيّئ من نفسه ، فإنّ اللّه جميل يحبّ الجمال » .
ب - ملابس الإحرام بالحجّ :
20 - يلبس المحرم ملابس خاصّةً ، وبيان ما يراعى في ذلك تقدّم في مصطلح ( إحرام ) ج 2 ص 128 .
ج - ملابس المرأة المحدّة :
21 - الإحداد بمعناه العامّ : ترك الزّينة وما في معناها . واختلف في لبس المحدّة لبعض الثّياب الملوّنة على وجه الزّينة وفي لبس الحليّ ، وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح ( إحداد : ج 2 ص 103 ) .
د - لباس العلماء :
22 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه يندب للعلماء أن يكون لباسهم فاخراً ، كصوفٍ وجوخٍ رفيعٍ وأبرادٍ رقيقةٍ ، وأن تكون ثيابهم واسعةً ، ويحسن لهم لفّ عمامةٍ طويلةٍ تعارفوها ، فإن عرف عرف في بلادٍ أخر أنّها تفعل بغير الطّول يفعل ، لإظهار مقام العلم ، ولأجل أن يعرفوا فيسألوا عن أمور الدّين . فقد كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعتمّون ، ويرخون الذّؤابة بين أكتافهم ، لأنّ إرخاءها من زيّ أهل العلم والفضل والشّرف ، ولذا لا يجوز أن يمكّن الكفّار من التّشبّه بهم ، وأن يلبسوا القلانس إذا انتهوا في عملهم وعندهم عظمت منزلتهم واقتدى النّاس بهم ، فيتميّزون بها للشّرف على من دونهم ، لما رفعهم اللّه بعلمهم على جهلة خلقه ، وكذلك الخطباء على المنابر لعلوّ مقامهم .
وعلى هذا فما صار شعاراً للعلماء يندب لهم لبسه ليعرفوا بذلك ، فيسألوا ، وليطاوعوا فيما عنه زجروا ، وعلّل ذلك ابن عبد السّلام بأنّه سبب لامتثال أمر اللّه تعالى والانتهاء عمّا نهى اللّه عنه .
وكره المالكيّة والحنابلة لهم سعة ثيابهم وطولها ، وطول أكمامهم ، والكبر الخارج عن عادة النّاس لما في ذلك من إضاعةٍ للمال المنهيّ عنها ، « وقد نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن إضاعته »، فقد يفصّل من ذلك الكمّ ثوب غيره وروى مالك رحمه الله تعالى في موطّئه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إزرة المسلم إلى أنصاف ساقيه . لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين . ما أسفل من ذلك ففي النّار . ما أسفل من ذلك ففي النّار . لا ينظر اللّه يوم القيامة إلى من جرّ إزاره بطراً » فهذا نصّ صريح منه عليه الصلاة والسلام أنّه لا يجوز للإنسان أن يجرّ ثوبه بقصد التّكبّر . إذ أنّ ما تحت الكعبين ليس للإنسان به حاجة فمنعه منه . وأباح ذلك للنّساء ، فللمرأة أن تجرّ ثوبها خلفها شبراً أو ذراعاً للحاجة الدّاعية إلى ذلك ، وهي التّستّر والإبلاغ فيه ، إذ أنّ المرأة كلّها عورة إلاّ ما استثني ، وذلك فيها بخلاف الرّجال .
لباس أهل الذّمّة :
23 - اتّفق الفقهاء على وجوب أخذ أهل الذّمّة بما يميّزهم عن المسلمين في لباسهم ، فلا يتشبّهون بهم ، لأنّهم لمّا كانوا مخالطين لأهل الإسلام كان لا بدّ من تمييزهم عنهم ، كي تكون معاملتهم مختلفةً عن معاملة المسلمين من التّوقير والإجلال ، وذلك لا يجوز لهم . وإذا وجب التّمييز وجب أن يكون بما فيه صغارهم لا إعزازهم ، وفي ذلك تفصيل ينظر في مصطلح ( أهل الذّمّة ) .
الألبسة الّتي تجزئ في النّفقة الواجبة :
24 - يجب للزّوجة والأولاد والوالدين ومن تجب لهم النّفقة كسوة مقدّرة على حسب حال من تجب عليه ، على خلافٍ في ذلك ينظر في مصطلح ( نفقة ) .
ما يجزئ من الألبسة في كفّارة اليمين :
25 - في كفّارة الأيمان إن اختار الحانث أن يكفّر بالكسوة كسا عشرة مساكين بما يطلق عليه اسم الكسوة ، وتفصيل ذلك في مصطلح ( كفّارة ) .
شراء الألبسة أو استئجارها للصّلاة فيها :
26 - أجاز الحنفيّة والشّافعيّة شراء الألبسة أو استئجارها للصّلاة . وقال الحنابلة : إن وجد من يبيعه ثوباً بثمن مثله ، أو يؤجّره بأجرة مثله ، أو زيادةٍ يتغابن النّاس بمثلها ، وقدر على ذلك العوض لزمه قبوله . وإن كانت كثيرةً لا يتغابن النّاس بمثلها لم يلزمه ، وقال المالكيّة : إذا كان بثمنٍ معتادٍ لزمه وإلاّ فلا . : ( ر : صلاة ، وإجارة ) .
ما يترك للمفلس من الألبسة :
27 - إذا حجر على المفلس يترك له من اللّباس أقلّ ما يكفيه ، وما لا غنى له عنه : قميص وسراويل وشيء يلبسه على رأسه ، إمّا عمامة أو قلنسوة أو غيرهما ممّا جرت به عادته ولرجله حذاء ، وإن احتاج إلى جبّةٍ أو فروةٍ أو نحوهما ترك له ذلك . وإن كان له ثياب رفيعة لا يلبس مثله مثلها بيعت واشتري له كسوة مثله ، وردّ الفضل على الغرماء . فإن كانت إذا بيعت واشتري له كسوة لا يفضل منها شيء تركت له ، فإنّه لا فائدة في بيعها . وفي قولٍ للحنفيّة : يترك له مثل ما هو لابسه ، لأنّه إذا غسل ثيابه لا بدّ له من ملبسٍ يلبسه . وتزاد المرأة ما لا غنى لها عنه ، كمقنعةٍ وغيرها ممّا يليق بها .
ويترك لعياله من الملابس والثّياب مثل ما يترك له . ( ر : إفلاس ) .
سلب القتيل من الألبسة :
28 - إذا قال الإمام : من قتل قتيلاً فله سلبه ، فسلب القتيل من الألبسة مباح لمن حارب الكفّار دفاعاً عن الإسلام والمسلمين ، وقتل منهم من يجوز قتله ، وذلك اتّفاقاً ، وكذلك إذا لم يقل الإمام ذلك عند الحنابلة . والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم « من قتل قتيلاً له عليه بيّنة فله سلبه » .
وسلب القتيل ما كان لابساً له من ثيابٍ وعمامةٍ وقلنسوةٍ ومنطقةٍ ودرعٍ ومغفرٍ وبيضةٍ وتاجٍ وأسورةٍ ورانٍ وخفٍّ بما فيه من حليةٍ ونحو ذلك .
وفي إعطائه لمن قتله تفصيل يرجع إليه في مصطلح ( غنيمة ) .
سنن اللّبس وآدابه وأدعيته المأثورة :
29 - من السّنّة أن يبدأ المسلم وهو يلبس ثوبه أو نعله أو سراويله وشبهها باليمين ، بإدخال اليد اليمنى في كمّ الثّوب ، والرّجل اليمنى في كلٍّ من النّعل والسّراويل ، وفي الخلع بالأيسر ثمّ الأيمن . فعن عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعجبه التّيمّن في شأنه كلّه ، في طهوره وتنعّله وترجّله » وفي روايةٍ أخرى « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يحبّ التّيامن ما استطاع في طهوره وتنعّله وترجّله وفي شأنه كلّه » . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا لبس قميصاً بدأ بميامنه » وعنه رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : إذا لبستم وإذا توضّأتم فابدءوا بميامنكم » وعن حفصة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه ، ويجعل شماله لما سوى ذلك » رواه أبو داود وأحمد ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين ، وإذا نزع فليبدأ بالشّمال » .
ولهذا اتّفق العلماء على استحباب التّيامن في الأمور الشّريفة ، والتّياسر فيما سوى ذلك . فالتّيامن كلبس الثّوب والخفّ والمداس والسّراويل وغير ذلك ، والتّياسر كخلع الثّوب والسّراويل والخفّ وما أشبه ذلك فيستحبّ التّياسر فيه ، وذلك لكرامة اليمين وشرفها . ويستحبّ لمن لبس ثوبه سواء أكان قميصاً أم إزاراً أم عمامةً أم رداءً أن يقول : بسم اللّه ، وأن يدعو بما ورد . فعن معاذ بن أنسٍ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من لبس ثوباً جديداً فقال : الحمد للّه الّذي كساني هذا ، ورزقنيه من غير حولٍ منّي ولا قوّةٍ ، غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه » . وعن أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا استجدّ ثوباً سمّاه باسمه عمامةً أو قميصاً أو رداءً ثمّ يقول : اللّهمّ لك الحمد أنت كسوتنيه . أسألك خيره وخير ما صنع له ، وأعوذ بك من شرّه وشرّ ما صنع له » .
وعن عمر رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « من لبس ثوباً جديداً فقال : الحمد للّه الّذي كساني ما أداري به عورتي ، وأتجمّل به في حياتي ، ثمّ عمد إلى الثّوب الّذي أخلق فتصدّق به ، كان في حفظ اللّه وفي كنف اللّه عزّ وجلّ وفي سبيل اللّه حيّاً وميّتاً » . ذلك هو سنن اللّبس وآدابه ، وما في ذلك من أدعيةٍ مأثورةٍ .
التباس *
التّعريف :
1 - الالتباس في اللّغة من اللّبس وهو : الخلط . ويأتي بمعنى الاشتباه والإشكال . يقال : التبس عليه الأمر أي : اشتبه وأشكل .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن هذا المعنى اللّغويّ ، حتّى إنّ بعضهم سوّى بين الاشتباه والالتباس ، وعرّف أحدهما بالآخر ، كما جاء في كتب المالكيّة : قال ابن عبد السّلام : الاشتباه الالتباس .
2 - ويظهر من تتبّع عبارات الفقهاء أنّ المالكيّة قد انفردوا باستعمال لفظ ( الالتباس ) ، وغير المالكيّة أكثروا من استعمال لفظي ( اشتباهٍ وشكٍّ ) بدلاً من كلمة التباسٍ ، كما هو الملاحظ في بحث خفاء القبلة ، ونكاح الأجنبيّة الّتي اشتبهت بأخته ، وطهارة الماء والثّياب والأواني الملتبسة وغيرها .
الحكم الإجماليّ :
3 - يختلف حكم الالتباس تبعاً لاختلاف متعلّقه ، فإذا التبس الحلال بالحرام يرجّح جانب الحرمة احتياطاً ، كمن التبست عليه الأجنبيّة بأخته ، بأن شكّ في الأجنبيّة وأخته من الرّضاع حرمتا معاً . وكذا إذا اشتبهت المذكّاة بالميتة .
ومن التبست عليه القبلة سأل واجتهد وتحرّى ، فإذا خفيت تخيّر وصلّى مع تفصيلٍ في ذلك . كذلك لو اشتبه على شخصٍ ماء طاهر بماءٍ نجسٍ ، أو التبست عليه الأواني أو الثّياب ، يجتهد ويتحرّى عند جمهور الفقهاء ، وإن كان الأرجح عند بعض الحنفيّة الطّهارة . ولمعرفة أحكام الالتباس والألفاظ ذات الصّلة به يرجع إلى مصطلح ( اشتباه ) .
التزام *
التّعريف :
1-الالتزام في اللّغة يقال : لزم الشّيء يلزم لزوماً أي : ثبت ودام ، ولزمه المال وجب عليه ، ولزمه الطّلاق : وجب حكمه ، وألزمته المال والعمل فالتزمه ، والالتزام : الاعتناق . والالتزام : إلزام الشّخص نفسه ما لم يكن لازماً له ، أي ما لم يكن واجباً عليه قبل ، وهو بهذا المعنى شامل للبيع والإجارة والنّكاح وسائر العقود .
وهذا المعنى اللّغويّ جرت عليه استعمالات الفقهاء ، حيث تدلّ تعبيراتهم على أنّ الالتزام عامّ في التّصرّفات الاختياريّة ، وهي تشمل جميع العقود ، سواء في ذلك المعاوضات والتّبرّعات . وهو ما اعتبره الحطّاب استعمالاً لغويّاً ، فقد عرّفه بأنّه : إلزام الشّخص نفسه شيئاً من المعروف مطلقاً ، أو معلّقاً على شيءٍ ، فهو بمعنى العطيّة ، فدخل في ذلك الصّدقة والهبة والحبس ( الوقف ) والعاريّة والعمرى والعريّة والمنحة والإرفاق والإخدام والإسكان والنّذر .
قال الحطّاب في كتابه تحرير الكلام في مسائل الالتزام : وقد يطلق في العرف على ما هو أخصّ من ذلك ، وهو التزام المعروف بلفظ الالتزام .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - العقد والعهد :
2 - من معاني العقد لغةً : العهد ، ويقال : عهدت إلى فلانٍ في كذا وكذا ، وتأويله : ألزمته ذلك ، فإذا قلت عاقدته أو عقدت عليه فتأويله : أنّك ألزمته ذلك باستيثاقٍ ، وتعاقد القوم : تعاهدوا . وفي المجلّة العدليّة : العقد : التزام المتعاقدين وتعهّدهما أمراً ، وهو عبارة عن ارتباط الإيجاب بالقبول . وبذلك يكون العقد التزاماً .
3 - أمّا العهد فهو في اللّغة : الوصيّة ، يقال عهد إليه يعهد : إذا أوصاه ، والعهد : الأمان ، والموثق ، والذّمّة .
والعهد : كلّ ما عوهد اللّه عليه ، وكلّ ما بين العباد من المواثيق فهو عهد ، والعهد : اليمين يحلف بها الرّجل . وبذلك يعتبر العهد نوعاً من أنواع الالتزام أيضاً .
ب - التّصرّف :
4 - يقال صرف الشّيء : إذا أعمله في غير وجهٍ كأنّه يصرفه عن وجهٍ إلى وجهٍ ، ومنه التّصرّف في الأمور .
وبهذا المعنى يكون التّصرّف أعمّ من الالتزام ، إذ من التّصرّف ما ليس فيه التزام .
ج - الإلزام :
5 - الإلزام : الإثبات والإدامة ، وألزمته المال والعمل وغيره .
فالإلزام سبب الالتزام ، سواء أكان ذلك بإلزام الشّخص نفسه شيئاً ، أم بإلزام الشّارع له . يقول الرّاغب الأصفهانيّ : الإلزام ضربان : إلزام بالتّسخير من اللّه ، أو من الإنسان . وإلزام بالحكم والأمر ، والإلزام لا يتوقّف على القبول .
د - اللّزوم :
6 - اللّزوم : الثّبوت والدّوام ، ولزمه المال : وجب عليه ، ولزمه الطّلاق : وجب حكمه . فاللّزوم يصدق على ما يترتّب على الالتزام متى توفّرت شروطه ، وعلى ما يقرّره الشّرع إذا توافرت شروط معيّنة . أمّا الالتزام فهو أمر يقرّره الإنسان باختياره ابتداءً .
هـ- الحقّ :
7- الحقّ ضدّ الباطل ، وحقّ الأمر أي ثبت ، قال الأزهريّ : معناه وجب يجب وجوباً ، وهو مصدر حقّ الشّيء إذا وجب وثبت .
والحقّ اصطلاحاً : هو موضوع الالتزام ، أي ما يلتزم به الإنسان تجاه اللّه ، أو تجاه غيره من النّاس .
و - الوعد :
8 - الوعد يدلّ على ترجيةٍ بقولٍ ، والوعد يستعمل في الخير حقيقةً وفي الشّرّ مجازاً . والوعد : العهد .
والعدة ليس فيها إلزام الشّخص نفسه شيئاً الآن ، وإنّما هي كما قال ابن عرفة : إخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل .
والفرق بين ما يدلّ على الالتزام ، وما يدلّ على العدة : هو ما يفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال . والظّاهر من صيغة المضارع : الوعد ، مثل : أنا أفعل ، إلاّ أن تدلّ قرينة على الالتزام كما يفهم من كلام ابن رشدٍ . وذلك مثل ما لو سألك مدين أن تؤخّره إلى أجل كذا ، فقلت : أنا أؤخّرك ، فهو عدة ، ولو قلت : قد أخّرتك ، فهو التزام .
أسباب الالتزام :
9 - من تعريف الالتزام اللّغويّ والشّرعيّ ، ومن استعمالات الفقهاء وعباراتهم ، يتبيّن أنّ سبب الالتزام هو تصرّفات الإنسان الاختياريّة الّتي يوجب بها حقّاً على نفسه ، وسواء أكان هذا الحقّ تجاه شخصٍ ، كالالتزامات الّتي يبرمها ، ومنها العقود والعهود الّتي يتعهّد بها ، والأيمان الّتي يعقدها ، والشّروط الّتي يشترطها . أم كان لحقّ اللّه ، كنذرٍ صلاةٍ أو صومٍ أو اعتكافٍ أو صدقةٍ مثلاً . وهناك أسباب أخرى سيأتي ذكرها فيما بعد . وبيان ذلك فيما يأتي .
التّصرّفات الاختياريّة :
10 - التّصرّفات الّتي يباشرها الإنسان باختياره ويوجب بها حقّاً على نفسه تتناول العقود بالمعنى العامّ الّذي أطلقه الفقهاء ، وهي الّتي تنعقد بإرادتين متقابلتين ( أي بالإيجاب والقبول ) أو الّتي تنعقد بإرادةٍ واحدةٍ ( أي بالإيجاب فقط ) وهذه قد تسمّى عقوداً على سبيل التّوسّع .
والتّصرّف يتمّ بإيجابٍ وقبولٍ إذا كان من شأنه أن يرتّب التزاماً في جانب كلٍّ من الطّرفين ، كالبيع والإجارة والمساقاة والمزارعة . أمّا التّصرّف الّذي يرتّب التزاماً في جانب أحد الطّرفين دون الآخر فيتمّ بإيجاب الطّرف الملتزم وحده ، كالوقف والوصيّة لغير معيّنٍ والجعالة والإبراء من الدّين والضّمان والهبة والعاريّة . وهذا في الجملة مع مراعاة اختلاف الفقهاء في اشتراط القبول في بعضها . ويدخل فيما يتمّ بإرادةٍ منفردةٍ : الأيمان والنّذور ، وما شاكل ذلك . فهذه التّصرّفات كلّها الّتي تتمّ بإرادتين ، أو بإرادةٍ واحدةٍ متى استوفت أركانها وشرائطها على النّحو المشروع ، فإنّه يترتّب عليها الالتزام بأحكامها .
11 - ونصوص الفقهاء صريحة في أنّ الالتزام يشمل كلّ ما ذكر ، ومن هذه النّصوص :
أ - في كتاب البيوع من المجلّة العدليّة . العقد : التزام المتعاقدين وتعهّدهما أمراً ، وهو عبارة عن ارتباط الإيجاب بالقبول .
ب - جاء في المنثور في القواعد للزّركشيّ : العقد الشّرعيّ ينقسم باعتبار الاستقلال به وعدمه إلى ضربين :
الأوّل : عقد ينفرد به العاقد ، مثل عقد النّذر واليمين والوقف ، إذا لم يشترط القبول فيه ، وعدّ بعضهم منه الطّلاق والعتاق إذا كانا بغير عوضٍ ، قال الزّركشيّ : وإنّما هو رفع للعقد . والثّاني : عقد لا بدّ فيه من متعاقدين ، كالبيع والإجارة والسّلم والصّلح والحوالة والمساقاة والهبة . والشّركة والوكالة والمضاربة والوصيّة والعاريّة الوديعة والقرض والجعالة والمكاتبة والنّكاح والرّهن والضّمان والكفالة .
ج - وفي المنثور أيضاً : ما أوجبه اللّه على المكلّفين ينقسم إلى ما يكون سببه جنايةً ويسمّى عقوبةً ، وإلى ما يكون سببه التزاماً ويسمّى ثمناً أو أجرةً أو مهراً أو غيره د - في القواعد للعزّ بن عبد السّلام : المساقاة والمزارعة التّابعة لها هي التزام أعمال الفلاحة بجزءٍ شائعٍ من الغلّة المعمول على تحصيلها . وفيه كذلك : التزام الحقوق من غير قبولٍ أنواع : أحدها : بنذرٍ في الذّمم والأعيان .
الثّاني : التزام الدّيون بالضّمان .
الثّالث : ضمان الدّرك .
الرّابع : ضمان الوجه .
الخامس : ضمان ما يجب إحضاره من الأعيان المضمونات .
هـ-من الأمثلة الّتي ذكرها الحطّاب في الالتزامات :
- 1- إذا قال له : إن بعتني سلعتك بكذا فقد التزمت لك كذا وكذا ، فالشّيء الملتزم به داخل في جملة الثّمن ، فيشترط فيه ما يشترط في الثّمن .
-2- إذا قال له : إن أسكنتني دارك سنةً ، فهذا من باب الإجارة ، فيشترط فيه شروط الإجارة ، بأن تكون المدّة معلومةً والمنفعة معلومةً ، وأن يكون الشّيء الملتزم به ممّا يصحّ أن يكون أجرةً . وأمثال هذه النّصوص كثيرة في كتب الفقه .
ومنها يمكن القول بأنّ الأسباب الحقيقيّة للالتزامات : هي تصرّفات الإنسان الاختياريّة . إلاّ أنّ المشتغلين بالفقه في العصر الحديث زادوا على ذلك ثلاثة مصادر أخرى ليست في الحقيقة التزاماً ، بل هي إلزام أو لزوم ، ولكن يترتّب عليها مثل ما يترتّب بالالتزام باعتبار التّسبّب أو المباشرة . وبيانها كما يلي :
- 1- الفعل الضّارّ أو الفعل غير المشروع :
12 - الفعل الضّارّ الّذي يصيب الجسم أو المال يستوجب العقوبة أو الضّمان .
والأضرار متعدّدة فمنها إتلاف مال الغير ، ومنها الجناية على النّفس أو الأطراف ، ومنها التّعدّي بالغصب ، أو بالسّرقة ، أو بالتّجاوز في الاستعمال المأذون فيه ، كتجاوز المستأجر ، والمستعير ، والحجّام ، والطّبيب ، والمنتفع بالطّريق ، ومنها التّفريط في الأمانات كالودائع والرّهون . ففي كلّ ذلك يصير الفاعل ملزماً بضمان فعله ، وعليه العوض في المثليّ بمثله ، وفي القيميّ بقيمته ، وهذا في الجملة ، إذ من الإتلافات ما لا ضمان فيه ، كمن صال عليه إنسان أو بهيمة ولم يندفع إلاّ بالقتل فقتله ، كما أنّ من الأعمال المباحة ما فيه الضّمان ، كالمضطرّ الّذي يأكل مال غيره ، ففيه الضّمان عند غير المالكيّة .
والضّابط في ذلك ما قال الزّركشيّ : أنّ التّعدّي مضمون أبداً إلاّ ما قام دليله ، وفعل المباح ساقط أبداً إلاّ ما قام دليله . والأصل في منع الضّرر قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » وفي كلّ ما سبق تفصيلات كثيرة ينظر في مصطلحاتها وأبوابها .
- 2- الفعل النّافع أو الإثراء بلا سببٍ :
13 - قد يقوم الإنسان بفعلٍ نافعٍ لغيره ، فيصير دائنا لذلك الغير بما قام به أو بما أدّى عنه . وهذا ما يسمّيه المشتغلون بالفقه في العصر الحديث ( الإثراء بلا سببٍ ) وهم يعنون بذلك : أنّ من أدّى عن غيره ديناً أو أحدث له منفعةً فقد افتقر المؤدّي وأثرى المؤدّى عنه بلا سببٍ ، وبذلك يصبح المثري ملزماً بأداء أو ضمان ما أدّاه عنه غيره أو قام به .
وليست هناك قاعدة يندرج تحتها ذلك ، وإنّما هي مسائل متفرّقة في أبواب الفقه ، كإنفاق المرتهن على الرّهن ، والملتقط على اللّقيط أو اللّقطة ، والنّفقة على الرّقيق والزّوجات والأقارب والبهائم إذا امتنع من يجب عليه الإنفاق ، وإنفاق أحد الشّريكين على المال المشترك مع غيبة الآخر أو امتناعه . ومن ذلك : بناء صاحب العلوّ السّفل بدون إذن صاحبه . أو إذن الحاكم لاضطراره لذلك ، وبناء الحائط المشترك ، ودفع الزّكاة لغير المستحقّ .. وهكذا .
ففي مثل هذه المسائل يكون المنتفع ملزماً بما أدّى عنه ، ويكون لمن أنفق حقّ الرّجوع بما أنفق في بعض الأحوال .
وفي ذلك خلاف وتفصيل في بيان متى يحقّ له الرّجوع ، ومتى لا يحقّ ، إذ القاعدة الفقهيّة ، أنّ من دفع ديناً عن غيره بلا أمره يعتبر متبرّعاً ، ولا يرجع بما دفع .
والقاعدة الخامسة والسّبعون في قواعد ابن رجبٍ هي فيمن يرجع بما أنفق على مال غيره بغير إذنه ، وفيها كثير من هذه المسائل .
وتنظر هذه المسائل في أبواب الفقه ، كالشّركة والرّهن واللّقطة والزّكاة وغيرها ، وفي مجمع الضّمانات كثير من هذه الأمثلة ، وفي الفروق للقرافيّ : كلّ من عمل عملاً أو أوصل نفعاً لغيره من مالٍ أو غيره بأمره أو بغير أمره نفذ ذلك ، فإن كان متبرّعاً لم يرجع به ، أو غير متبرّعٍ وهو منفعة فله أجر مثله ، أو مال فله أخذه ممّن دفعه عنه بشرط أن يكون المنتفع لا بدّ له من عمل ذلك .
- 3- الشّرع :
14 - يعتبر المسلم بإسلامه ملتزماً بأحكام الإسلام وتكاليفه .
جاء في مسلّم الثّبوت : الإسلام : التزام حقيقة ما جاء به النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
وممّا يعتبر المسلم ملتزماً به ما يلزمه به الشّارع نتيجة ارتباطاتٍ وعلاقاتٍ خاصّةٍ . ومن ذلك : إلزامه بالنّفقة على أقاربه الفقراء ، لقوله تعالى : { وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف } . وقوله سبحانه { وعلى الوارث مثل ذلك } وقوله تعالى : { وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه وبالوالدين إحساناً } .
ومن ذلك الولاية الشّرعيّة ، كولاية الأب والجدّ لقوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتّى إذا بلغوا النّكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } .
وذلك لوفور الشّفقة في الوليّ وعدم حسن تصرّف القاصر .
ومن ذلك الالتزام بقبول الميراث ، وغير ذلك ممّا يعتبر المسلم ملتزماً به دون توقّفٍ على قبوله . يقول الكاسانيّ : اللّزوم هنا بإلزام من له ولاية الإلزام ، وهو اللّه تبارك وتعالى ، فلم يتوقّف على القبول ، كسائر الأحكام الّتي تلزم بإلزام الشّرع ابتداءً .
على أنّه يمكن أن يضاف إلى هذه الأسباب : الشّروع ، فمن شرع في عبادةٍ غير واجبةٍ أصبح ملتزماً بإتمامها بالشّروع فيها ، ووجب القضاء بفسادها ، كما يقول المالكيّة والحنفيّة . هذه هي المصادر الثّلاثة ( الفعل الضّارّ - والفعل النّافع - والشّرع ) الّتي عدّها المشتغلون بالفقه الإسلاميّ في العصر الحديث من مصادر الالتزام ، إلاّ أنّها في الحقيقة تعتبر من باب الإلزام ، وليست من باب الالتزام ، كما مرّ في كلام الكاسانيّ .
15 - والفقهاء عبّروا في التّصرّفات النّاشئة عن إرادة الإنسان بأنّها التزام ، أمّا ما كان بغير إرادته فالتّعبير فيها بالإلزام أو اللّزوم . ذلك أنّ الالتزام الحقيقيّ . هو ما أوجبه الإنسان على نفسه والتزم به . ولذلك يقول القرافيّ : إنّ الكافر إذا أسلم يلزمه ثمن البياعات وأجر الإجارات ودفع الدّيون الّتي اقترضها ونحو ذلك ، ولا يلزمه القصاص والغصب والنّهب ، لأنّ ما رضي به حال كفره واطمأنّت نفسه بدفعه لمستحقّه لا يسقط بالإسلام ، وما لم يرض بدفعه لمستحقّه كالقتل والغصب ونحوه فإنّ هذه الأمور إنّما دخل عليها معتمداً على أنّه لا يوفّيها أجلها ، فهذا كلّه يسقط ، لأنّ في إلزامه ما لم يعتقد لزومه تنفيراً له عن الإسلام .
إلاّ إذا اعتبرنا هذه الإلزامات تنشئ التزاماتٍ حكماً وبذلك يمكن ردّ مصادر كلّ الالتزامات إلى الشّرع ، فالشّرع هو الّذي رسم حدوداً لكلّ التّصرّفات ، ما يصحّ منها وما لا يصحّ ، ورتّب عليها أحكامها .
لكن اللّه سبحانه وتعالى جعل لما أوجبه على الإنسان أسباباً مباشرةً ، ومن ذلك أنّه جعل تصرّفات الإنسان الاختياريّة سبب التزاماته .
ويوضّح ذلك الزّركشيّ إذ يقول : ما أوجبه اللّه على المكلّفين ينقسم إلى ما يكون سببه جنايةً ويسمّى عقوبةً ، وإلى ما يكون سببه إتلافاً ويسمّى ضماناً ، وإلى ما يكون سببه التزاماً ويسمّى ثمناً أو أجرةً أو مهراً أو غيره ، ومنه أداء الدّيون والعواريّ والودائع ، واجبة بالالتزام . ويقول : حقوق الآدميّين الماليّة تجب بسبب مباشرته من التزامٍ أو إتلافٍ .
الحكم التّكليفيّ للالتزام :
16 - الالتزام بأحكام الإسلام أمر واجب على كلّ مسلمٍ .
ومن ذلك ما أوجبه عليه من عقوباتٍ وضمان متلفاتٍ والقيام بالنّفقات وأعمال الولاية .
أمّا بالنّسبة لتصرّفات الإنسان الاختياريّة فالأصل فيها الإباحة . إذ لكلّ إنسانٍ الحرّيّة في أن يتصرّف التّصرّف المشروع الّذي يلتزم به أمراً ، ما دام ذلك لم يمسّ حقّاً لغيره . وقد تعرض له الأحكام التّكليفيّة الأخرى .
فيكون واجباً ، كبذل المعونة بيعاً أو قرضاً أو إعارةً للمضطرّ لذلك . وكوجوب قبول الوديعة إذا لم يكن من يصلح لذلك غيره ، وخاف إن لم يقبل أن تهلك .
ويكون مندوباً ، إذا كان من باب التّبرّعات الّتي تعين النّاس على مصالحهم ، لأنّه إرفاق بهم ، يقول اللّه تعالى : { وتعاونوا على البرّ والتّقوى } ، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كلّ معروفٍ صدقة » .
ويكون حراماً إذا كان فيه إعانة على معصيةٍ ، ولذلك لا يصحّ إعارة الجارية لخدمة رجلٍ غير محرمٍ ، ولا الوصيّة بخمرٍ لمسلمٍ ، ولا نذر المعصية .
ويكون مكروهاً ، إذا أعان على مكروهٍ ، كمن يفضّل بعض أولاده في العطيّة .
أركان الالتزام :
17 - ركن الالتزام عند الحنفيّة هو : الصّيغة فقط ويزاد عليها عند غيرهم : الملتزِم ( بكسر الزّاي ) والملتزم له ، والملتزم به ، أي محلّ الالتزام .
أوّلاً : الصّيغة :
18 - تتكوّن الصّيغة من الإيجاب والقبول معاً في الالتزامات الّتي تتوقّف على إرادة الملتزم والملتزم له ، كالنّكاح وكعقود المعاوضات ، مثل البيع والإجارة ، وهذا باتّفاقٍ .
أمّا الالتزامات بالتّبرّعات كالوقف والوصيّة والهبة ففيها اختلاف الفقهاء بالنّسبة للقبول . ومن الالتزامات ما يتمّ بإرادة الملتزم وحده باتّفاقٍ ، كالنّذر والعتق واليمين .
وصيغة الالتزام ( الإيجاب ) تكون باللّفظ أو ما يقوم مقامه من كتابةٍ أو إشارةٍ مفهمةٍ ونحوها ممّا يدلّ على إلزام الشّخص نفسه ما التزمه .
وقد يكون الالتزام بالفعل كالشّروع في الجهاد والحجّ ، وكمن قام إلى الصّلاة فنوى وكبّر فقد عقدها لربّه بالفعل . كذلك يكون الالتزام بمقتضى العادة ، ومن القواعد الفقهيّة ( العادة محكّمة ) ومن ذلك من تزوّجت وهي ساكنة في بيتٍ لها ، فسكن الزّوج معها ، فلا كراء عليه ، إلاّ إن تبيّن أنّها ساكنة بالكراء .
ويلاحظ أنّ أغلب الالتزامات قد ميّزت بأسماءٍ خاصّةٍ ، فالالتزام بتسليم الملك بعوضٍ بيع ، وبدونه هبة أو عطيّة أو صدقة ، والالتزام بالتّمكين من المنفعة بعوضٍ إجارة ، وبدونه إعارة أو وقف أو عمرى ، وسمّي التزام الدّين ضماناً ، ونقله حوالةً ، والتّنازل عنه إبراءً ، والتزام طاعة اللّه بنيّة القربة : نذراً وهكذا .
ولكلّ نوعٍ من هذه الالتزامات صيغ خاصّة سواء أكانت صريحةً ، أم كنايةً تحتاج إلى نيّةٍ أو قرينةٍ ، وتنظر في أبوابها .
وقد ذكر الفقهاء ألفاظاً خاصّةً تعتبر صريحةً في الالتزام وهي : التزمت ، أو ألزمت نفسي . ومنها أيضاً لفظ ( عليّ ) أو ( إليّ ) ، جاء في الهداية في باب الكفالة لو قال : عليّ أو إليّ تصحّ الكفالة ، لأنّها صيغة الالتزام ، وقال مثل ذلك ابن عابدين .
وفي نهاية المحتاج : شرط الصّيغة في الإقرار لفظ أو كتابة من ناطقٍ أو إشارة من أخرس تشعر بالالتزام بحقٍّ ، مثل : لزيدٍ هذا الثّوب " وعليّ " " وفي ذمّتي " للمدين الملتزم " ومعي " " وعندي " للعين .
ثانياً : الملتزم :
19 - الملتزم هو من التزم بأمرٍ من الأمور كتسليم شيءٍ ، أو أداء دينٍ ، أو القيام بعملٍ . والالتزامات متنوّعة على ما هو معروف . فما كان منها من باب المعاوضات فإنّه يشترط فيه في الجملة أهليّة التّصرّف . وما كان من باب التّبرّعات فيشترط فيه أن يكون أهلاً للتّبرّع . وفي ذلك تفصيل من حيث تصرّف الوكيل والوليّ والفضوليّ ، ومن الفقهاء من أجاز وصيّة السّفيه والصّبيّ المميّز كالحنابلة . وينظر ذلك في أبوابه .
ثالثاً : الملتزم له :
20 - الملتزم له الدّائن ، أو صاحب الحقّ : فإن كان الالتزام تعاقديّاً ، وكان الملتزم له طرفاً في العقد ، فإنّه يشترط فيه الأهليّة ، أي أهليّة التّعاقد على ما هو معروف في العقود ، وإلاّ تمّ ذلك بواسطة من ينوب عنه .
وإذا كان الالتزام بالإرادة المنفردة فلا يشترط في الملتزم له ذلك .
والّذي يشترط في الملتزم له في الجملة أن يكون ممّن يصحّ أن يملك ، أو يملك النّاس الانتفاع به كالمساجد والقناطر .
وعلى ذلك فإنّه يصحّ الالتزام للحمل ، ولمن سيوجد ، فتصحّ الصّدقة عليه والهبة له .
وعند المالكيّة تجوز الوصيّة لميّتٍ علم الموصي بموته ، ويصرف الموصى به في قضاء ما عليه من الدّيون ، وإلاّ صرف لورثته وإلاّ بطلت الوصيّة .
كما أنّ كفالة دين الميّت المفلس جائزة ، وقد أقرّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك ، فقد روى البخاريّ عن سلمة بن الأكوع « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتي برجلٍ يصلّي عليه فقال : هل عليه دين ؟ قالوا : نعم ديناران ، قال : هل ترك لهما وفاءً ؟ قالوا : لا ، فتأخّر ، فقيل : لم لا تصلّي عليه ؟ فقال : ما تنفعه صلاتي وذمّته مرهونة إلاّ إن قام أحدكم فضمنه ، فقام أبو قتادة فقال : هما عليّ يا رسول اللّه ، فصلّى عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم » .
كما أنّه يجوز الالتزام للمجهول ، فقد نصّ الفقهاء على صحّة تنفيل الإمام في الجهاد بقوله محرّضاً للمجاهدين : من قتل قتيلاً فله سلبه ، وعندئذٍ من يقتل عدوّاً يستحقّ أسلابه ، ولو لم يكن ممّن سمعوا مقالة الإمام .
ومن ذلك ما لو قال رجل : من يتناول من مالي فهو مباح فتناول رجل من غير أن يعلم . ومن ذلك أيضاً بناء سقايةٍ للمسلمين أو خانٍ لأبناء السّبيل . وينظر تفصيل ذلك في مواضعه رابعاً : محلّ الالتزام ( الملتزم به ) :
21 - الالتزام هو إيجاب الفعل الّذي يقوم به الملتزم كالالتزام بتسليم المبيع للمشتري ، وتسليم الثّمن للبائع ، وكالالتزام بأداء الدّين ، والمحافظة على الوديعة ، وتمكين المستأجر والمستعير من الانتفاع بالعين ، والموهوب له من الهبة ، والمسكين من الصّدقة ، والقيام بالعمل في عقد الاستصناع والمساقاة والمزارعة ، وفعل المنذور ، وإسقاط الحقّ ... وكذا . وهذه الالتزامات ترد على شيءٍ تتعلّق به ، وهو قد يكون عيناً أو ديناً ، أو منفعةً أو عملاً ، أو حقّاً ، وهذا ما يسمّى بمحلّ الالتزام أو موضوعه .
ولكلّ محلٍّ شروط خاصّة حسب طبيعة التّصرّف المرتبط به ، والشّروط قد تختلف من تصرّفٍ إلى آخر ، فما يجوز الالتزام به في تصرّفٍ قد لا يجوز الالتزام به في تصرّفٍ آخر .
إلاّ أنّه يمكن إجمال الشّروط بصفةٍ عامّةٍ مع مراعاة الاختلاف في التّفاصيل .
وبيان ذلك فيما يلي :
أ - انتفاء الغرر والجهالة :
22 - يشترط بصفةٍ عامّةٍ في المحلّ الّذي يتعلّق به الالتزام انتفاء الغرر ، والغرر ينتفي عن الشّيء - كما يقول ابن رشدٍ - بأن يكون معلوم الوجود ، معلوم الصّفة ، معلوم القدر ، ومقدوراً على تسليمه .
وانتفاء الغرر شرط متّفق عليه في الجملة في الالتزامات الّتي تترتّب على المعاوضات المحضة كالبيع والإجارة ، مبيعاً وثمناً ومنفعةً وعملاً وأجرةً .
هذا مع استثناء بعضها بالنّسبة لوجود محلّ الالتزام وقت التّصرّف كالسّلم والإجارة والاستصناع ، فإنّها أجيزت استحساناً مع عدم وجود المسلم فيه والمنفعة والعمل ، وذلك للحاجة . ويراعى كذلك الخلاف في بيع الثّمر قبل بدوّ صلاحه .
وإذا كان شرط انتفاء الغرر متّفقاً عليه في المعاوضات المحضة ، فإنّ الأمر يختلف بالنّسبة لغيرها من تبرّعاتٍ كالهبة بلا عوضٍ والإعارة ، وتوثيقاتٍ كالرّهن والكفالة وغيرها .
فمن الفقهاء من يجيز الالتزام بالمجهول وبالمعدوم وبغير المقدور على تسليمه ، ومنهم من لا يجيز ذلك . وأكثرهم تمسّكاً بذلك الحنفيّة والشّافعيّة .
23 - ومن العسير في هذا المقام تتبّع كلّ التّصرّفات لمعرفة مدى انطباق شرط انتفاء الغرر على كلّ تصرّفٍ . ولذلك سنكتفي ببعض نصوص المذاهب الّتي تلقي ضوءاً على ذلك ، على أن يرجع في التّفصيلات إلى مواضعها :
-1- في الفروق للقرافيّ : الفرق الرّابع والعشرون بين قاعدة : ما تؤثّر فيه الجهالات والغرر ، وقاعدة : ما لا يؤثّر فيه ذلك من التّصرّفات . وردت الأحاديث الصّحيحة في « نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر وعن بيع المجهول » .
واختلف العلماء بعد ذلك ، فمنهم من عمّمه في التّصرّفات ، وهو الشّافعيّ ، فمنع من الجهالة في الهبة والصّدقة والإبراء والخلع والصّلح وغير ذلك .
ومنهم من فصّل ، وهو مالك ، بين قاعدة ما يجتنب فيه الغرر والجهالة ، وهو باب المماكسات والتّصرّفات الموجبة لتنمية الأموال وما يقصد به تحصيلها ، وقاعدة ما لا يجتنب فيه الغرر والجهالة ، وهو ما لا يقصد لذلك ، وانقسمت التّصرّفات عنده ثلاثة أقسامٍ : طرفان وواسطة .
24 - فالطّرفان : أحدهما معاوضة صرفة ، فيجتنب فيها ذلك إلاّ ما دعت الضّرورة إليه عادةً .
وثانيهما ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال ، كالصّدقة والهبة والإبراء ، فإنّ هذه التّصرّفات لا يقصد بها تنمية المال ، بل إن فاتت على من أحسن إليه بها لا ضرر عليه ، فإن لم يبذل شيئاً بخلاف القسم الأوّل إذا فات بالغرر والجهالات ضاع المال المبذول في مقابلته ، فاقتضت حكمة الشّرع منع الجهالات فيه . أمّا الإحسان الصّرف فلا ضرر فيه ، فاقتضت حكمة الشّرع وحثّه على الإحسان التّوسعة فيه بكلّ طريقٍ ، بالمعلوم والمجهول ، فإنّ ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعاً ، وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله ، فإذا وهب له عبده الآبق جاز أن يجده ، فيحصل له ما ينتفع به ولا ضرر عليه إن لم يجده ، لأنّه لم يبذل شيئاً . وهذا فقه جميل . ثمّ إنّ الأحاديث لم يرد فيها ما يعمّ هذه الأقسام حتّى نقول : يلزم منه مخالفة نصوص الشّرع ، بل إنّما وردت في البيع ونحوه .
25 - وأمّا الواسطة بين الطّرفين فهو النّكاح ، فهو من جهة أنّ المال فيه ليس مقصوداً - وإنّما مقصده المودّة والألفة والسّكون - يقتضي أن يجوز فيه الجهالة والغرر مطلقاً ، ومن جهة أنّ صاحب الشّرع اشترط فيه المال بقوله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم } يقتضي امتناع الغرر والجهالة فيه . فلوجود الشّبهين توسّط مالك فجوّز فيه الغرر القليل دون الكثير ، نحو عبدٍ من غير تعيينٍ وشورة بيتٍ ( وهي الجهاز ) ، ولا يجوز على العبد الآبق والبعير الشّارد ، لأنّ الأوّل يرجع فيه إلى الوسط المتعارف ، والثّاني ليس له ضابط فامتنع ، وألحق الخلع بأحد الطّرفين الأوّلين الّذي يجوز فيه الغرر مطلقاً ، لأنّ العصمة وإطلاقها ليس من باب ما يقصد للمعاوضة ، بل شأن الطّلاق أن يكون بغير شيءٍ فهو كالهبة . فهذا هو الفرق ، والفقه مع مالكٍ رحمه الله .
وفي الفروق كذلك : اتّفق مالك وأبو حنيفة على جواز التّعليق في الطّلاق والعتاق قبل النّكاح وقبل الملك ، فيقول للأجنبيّة : إن تزوّجتك فأنت طالق ، وللعبد : إن اشتريتك فأنت حرّ ، فيلزمه الطّلاق والعتاق إذا تزوّج واشترى خلافاً للشّافعيّ ، ووافقنا الشّافعيّ على جواز التّصرّف بالنّذر قبل الملك ، فيقول : إن ملكت ديناراً فهو صدقة .
وجميع ما يمكن أن يتصدّق به المسلم في الذّمّة في باب المعاملات . ودليل ذلك .
أوّلاً : القياس على النّذر في غير المملوك بجامع الالتزام بالمعدوم .
وثانياً : قال اللّه تعالى : { أوفوا بالعقود } والطّلاق والعتاق عقدان عقدهما على نفسه فيجب الوفاء بهما .
وثالثاً : قوله عليه الصلاة والسلام : « المسلمون على شروطهم » ، وهذان شرطان فوجب الوقوف معهما .
26 -/ 2- في المنثور للزّركشيّ : من حكم العقود اللّازمة أن يكون المعقود عليه معلوماً مقدوراً على تسليمه في الحال ، والجائز قد لا يكون كذلك ، كالجعالة تعقد على ردّ الآبق . ثمّ قال : حيث اعتبر العوض في عقدٍ من الطّرفين أو من أحدهما فشرطه أن يكون معلوماً ، كثمن المبيع وعوض الأجرة ، إلاّ في الصّداق وعوض الخلع ، فإنّ الجهالة فيه لا تبطله ، لأنّ له مراداً ( بدلاً ) معلوماً وهو مهر المثل ، وقد يكون العوض في حكم المجهول ، كالعوض في المضاربة والمساقاة .
- 3- في إعلام الموقّعين بعد أن قرّر ابن القيّم أنّ العلّة في بطلان بيع المعدوم هي الغرر قال : وكذلك سائر عقود المعاوضات بخلاف الوصيّة فإنّها تبرّع محض ، فلا غرر في تعلّقها بالموجود والمعدوم ، وما يقدر على تسليمه وما لا يقدر ، وطرده ( مثاله ) : الهبة ، إذ لا محذور في ذلك فيها ، وقد صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم هبة المشاع المجهول في قوله لصاحب كبّة الشّعر حين أخذها من المغنم ، وسأله أن يهبها له فقال : « أمّا ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لك »
27 -/ 4- في القواعد لابن رجبٍ في إضافة الإنشاءات والإخبارات إلى المبهمات قال : أمّا الإنشاءات فمنها العقود ، وهي أنواع :
أحدها : عقود التّمليكات المحضة كالبيع والصّلح بمعناه ( أي على بدلٍ ) ، وعقود التّوثيقات كالرّهن والكفالة ، والتّبرّعات اللّازمة بالعقد أو بالقبض بعدةٍ كالهبة والصّدقة ، فلا يصحّ في مبهمٍ من أعيانٍ متفاوتةٍ ، كعبدٍ من عبيدٍ ، وشاةٍ من قطيعٍ ، وكفالة أحد هذين الرّجلين ، وضمان أحد هذين الدّينين . وفي الكفالة احتمال ، لأنّه تبرّع ، فهو كالإعارة والإباحة ، ويصحّ في مبهمٍ من أعيانٍ متساويةٍ مختلطةٍ ، كقفيزٍ من صبرةٍ ، فإن كانت متميّزةً متفرّقةً ففيه احتمالان ذكرهما في التّلخيص ، وظاهر كلام القاضي الصّحّة .
والثّاني : عقود معاوضاتٍ غير متمحّضةٍ ، كالصّداق وعوض الخلع والصّلح عن دم العمد ، ففي صحّتها على مبهمٍ من أعيانٍ مختلفةٍ وجهان : أصحّهما الصّحّة .
والثّالث : عقد تبرّعٍ معلّق بالموت فيصحّ في المبهم بغير خلافٍ لما دخله من التّوسّع ، ومثله عقود التّبرّعات ، كإعارة أحد هذين الثّوبين وإباحة أحد هذين الرّغيفين ، وكذلك عقود المشاركات والأمانات المحضة ، مثل أن يقول : ضارب بإحدى هاتين المائتين - وهما في كيسين - ودع الأخرى عندك وديعةً . وأمّا الفسوخ فما وضع منها على التّغليب والسّراية صحّ في المبهم كالطّلاق والعتاق .. إلخ .
ب - قابليّة المحلّ لحكم التّصرّف :
28 - يشترط كذلك في المحلّ الّذي يتعلّق به الالتزام : أن يكون قابلاً لحكم التّصرّف ، بمعنى ألاّ يكون التّصرّف فيه مخالفاً للشّرع .
وهذا الشّرط متّفق عليه بصفةٍ عامّةٍ مع الاختلاف في التّفاصيل .
يقول السّيوطيّ : كلّ تصرّفٍ تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل . فلذلك لم يصحّ بيع الحرّ ولا الإجارة على عملٍ محرّمٍ .
ويقول ابن رشدٍ في الإجارة : ممّا اجتمعوا على إبطال إجارته : كلّ منفعةٍ كانت لشيءٍ محرّم العين ، كذلك كلّ منفعةٍ كانت محرّمةً بالشّرع ، مثل أجر النّوائح وأجر المغنّيات ، وكذلك كلّ منفعةٍ كانت فرض عينٍ على الإنسان بالشّرع ، مثل الصّلاة وغيرها .
وفي المهذّب : الوصيّة بما لا قربة فيه ، كالوصيّة للكنيسة والوصيّة بالسّلاح لأهل الحرب باطلة . وبالجملة فإنّه لا يصحّ الالتزام بما هو غير مشروعٍ ، كالالتزام بتسليم الخمر أو الخنزير في بيعٍ أو هبةٍ أو وصيّةٍ أو غير ذلك ، ولا الالتزام بالتّعامل بالرّبا ، أو الزّواج بمن تحرم عليه شرعاً . وهكذا . وينظر تفصيل ذلك في مواضعه .
آثار الالتزام :
آثار الالتزام هي : ما تترتّب عليه ، وهي المقصد الأصليّ للالتزام . وتختلف آثار الالتزام تبعاً لاختلاف التّصرّفات الملزمة واختلاف الملتزم به ، ومن ذلك :
( 1 ) ثبوت الملك :
29 - يثبت ملك العين أو المنفعة أو الانتفاع أو العوض وانتقاله للملتزم له في التّصرّفات الّتي تقتضي ذلك متى استوفت أركانها وشرائطها ، مثل البيع والإجارة والصّلح والقسمة ، ومع ملاحظة القبض فيما يشترط فيه القبض عند من يقول به . وهذا باتّفاقٍ .
( 2 ) حقّ الحبس :
30 - يعتبر الحبس من آثار الالتزام . فالبائع له حقّ حبس المبيع ، حتّى يستوفي الثّمن الّذي التزم به المشتري ، إلاّ أن يكون الثّمن مؤجّلاً .
والمؤجّر له حقّ حبس المنافع إلى أن يستلم الأجرة المعجّلة . وللصّانع حقّ حبس العين بعد الفراغ من العمل إذا كان لعمله أثر في العين ، كالقصّار والصّبّاغ والنّجّار والحدّاد . والمرتهن له حقّ حبس المرهون حتّى يؤدّي الرّاهن ما عليه . يقول ابن رشدٍ : حقّ المرتهن في الرّهن أن يمسكه حتّى يؤدّي الرّاهن ما عليه ، والرّهن عند الجمهور يتعلّق بجملة الحقّ المرهون فيه وببعضه ، أعني أنّه إذا رهنه في عددٍ ما ، فأدّى منه بعضه ، فإنّ الرّهن بأسره يبقى بعد بيد المرتهن حتّى يستوفي حقّه . وقال قوم : بل يبقى من الرّهن بيد المرتهن بقدر ما يبقى من الحقّ ، وحجّة الجمهور أنّه محبوس بحقٍّ ، فوجب أن يكون محبوساً بكلّ جزءٍ منه ، أصله ( أي المقيس عليه ) حبس التّركة على الورثة حتّى يؤدّوا الدّين الّذي على الميّت . وحجّة الفريق الثّاني أنّ جميعه محبوس بجميعه ، فوجب أن يكون أبعاضه محبوسةً بأبعاضه ، أصله الكفالة .
ومن ذلك حبس المدين بما عليه من الدّين ، إذا كان قادراً على أداء دينه وماطل في الأداء ، وطلب صاحب الدّين حبسه من القاضي ، وللغريم كذلك منعه من السّفر ، لأنّ له حقّ المطالبة بحبسه .
( 3 ) التّسليم والرّدّ :
31 - يعتبر التّسليم من آثار الالتزام فيما يلتزم الإنسان بتسليمه .
فالبائع ملتزم بتسليم المبيع للمشتري ، والمؤجّر ملتزم بتسليم العين وما يتبعها للمستأجر بحيث تكون مهيّأةً للانتفاع بها ، والمشتري والمستأجر ملتزمان بتسليم العوض ، وأجير الوحد ( الأجير الخاصّ ) ملتزم بتسليم نفسه ، والكفيل ملتزم بتسليم ما التزم به ، والزّوج ملتزم بتسليم الصّداق ، والزّوجة ملتزمة بتسليم البضع ، والواهب ملتزم بتسليم الموهوب عند من يرى وجوب الهبة ، وربّ المال في السّلم والمضاربة مطالب بتسليم رأس المال . وهكذا كلّ من التزم بتسليم شيءٍ وجب عليه القيام بالتّسليم .
ومثل ذلك ردّ الأمانات والمضمونات ، سواء أكان الرّدّ واجباً ابتداءً أم بعد الطّلب ، وذلك كالمودع والمستعار والمستأجر والقرض والمغصوب والمسروق واللّقطة إذا جاء صاحبها ، وما عند الوكيل والشّريك والمضارب إذا فسخ المالك وهكذا .
مع اعتبار أنّ التّسليم في كلّ شيءٍ بحسبه ، قد يكون بالإقباض ، وقد يكون بالتّخلية والتّمكين من الملتزم به .
( 4 ) ثبوت حقّ التّصرّف :
يثبت للملتزم له حقّ التّصرّف في الملتزم به بامتلاكه ، لكن يختلف نوع التّصرّف باختلاف نوع الملكيّة في الملتزم به ، وذلك كما يأتي :
32 - أ - إذا كان الملتزم به تمليكاً للعين أو للدّين ، فإنّه يثبت للمالك حقّ التّصرّف فيه بكلّ أنواع التّصرّف من بيعٍ وهبةٍ ووصيّةٍ وعتقٍ وأكلٍ ونحو ذلك ، لأنّه أصبح ملكه ، فله ولاية التّصرّف فيه .
وهذا إذا كان بعد القبض بلا خلافٍ ، أمّا قبل القبض فإنّ الفقهاء يختلفون فيما يجوز التّصرّف فيه قبل القبض وما لا يجوز .
وبالجملة فإنّه لا يصحّ عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وفي روايةٍ عن الإمام أحمد التّصرّف في الأعيان المملوكة في عقود المعاوضات قبل قبضها . إلاّ العقار فيجوز بيعه قبل قبضه عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافاً لمحمّدٍ . ودليل منع التّصرّف قبل القبض قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزامٍ : « لا تبع ما لم تقبضه » ولأنّ فيه غرر انفساخ العقد على اعتبار الهلاك .
وعند المالكيّة ، والمذهب عند الحنابلة : أنّه يجوز التّصرّف قبل القبض إلاّ في الطّعام ، فلا يجوز التّصرّف فيه قبل قبضه ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يستوفيه » .
وأمّا الدّيون : فعند الحنفيّة يجوز التّصرّف فيها قبل القبض إلاّ في الصّرف والسّلم :
أمّا الصّرف فلأنّ كلّ واحدٍ من بدلي الصّرف مبيع من وجهٍ وثمن من وجهٍ . فمن حيث هو ثمن يجوز التّصرّف فيه قبل القبض ، ومن حيث هو مبيع لا يجوز ، فغلب جانب الحرمة احتياطاً . وأمّا السّلم فلأنّ المسلم فيه مبيع بالنّصّ ، والاستبدال بالمبيع المنقول قبل القبض لا يجوز . وكذلك يجوز تصرّف المقرض في القرض قبل القبض عندهم ، وذكر الطّحاويّ : أنّه لا يجوز . وعند المالكيّة يجوز التّصرّف في الدّيون قبل القبض فيما سوى الصّرف والسّلم ، فإنّ الإمام مالكاً منع بيع المسلم فيه قبل قبضه في موضعين :
أحدهما : إذا كان المسلم فيه طعاماً ، وذلك بناءً على مذهبه في أنّ الّذي يشترط في صحّة بيعه القبض هو الطّعام ، على ما جاء عليه النّصّ في الحديث .
والثّاني : إذا لم يكن المسلم فيه طعاماً فأخذ عوضه المسلم ( صاحب الثّمن ) ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله ، مثل أن يكون المسلم فيه عرضاً والثّمن عرضاً مخالفاً له ، فيأخذ المسلم من المسلم إليه إذا حان الأجل شيئاً من جنس ذلك العرض الّذي هو الثّمن ، وذلك أنّ هذا يدخله إمّا سلف وزيادة ، إن كان العرض المأخوذ أكثر من رأس مال السّلم ، وإمّا ضمان وسلف إن كان مثله أو أقلّ .
وعند الشّافعيّة إن كان الملك على الدّيون مستقرّاً ، كغرامة المتلف وبدل القرض جاز بيعه ممّن عليه قبل القبض ، لأنّ ملكه مستقرّ عليه ، وهو الأظهر في بيعه من غيره . وإن كان الدّين غير مستقرٍّ فإن كان مسلماً فيه لم يجز ، وإن كان ثمناً في بيعٍ ففيه قولان .
وعند الحنابلة : كلّ عوضٍ ملك بعقدٍ ينفسخ بهلاكه قبل القبض لم يجز التّصرّف فيه قبل قبضه ، كالأجرة وبدل الصّلح إذا كانا من المكيل أو الموزون أو المعدود ، وما لا ينفسخ العقد بهلاكه جاز التّصرّف فيه قبل قبضه ، كعوض الخلع وأرش الجناية وقيمة المتلف .
أمّا ما يثبت فيه الملك من غير عوضٍ ، كالوصيّة والهبة والصّدقة ، فإنّه يجوز في الجملة التّصرّف فيه قبل قبضه عند الجمهور .
33 - ب - وإذا كان الملتزم به تمليكاً للمنفعة ، فإنّه يثبت لمالك المنفعة حقّ التّصرّف في الحدود المأذون فيها ، وتمليك المنفعة لغيره كما في الإجارة والوصيّة بالمنفعة والإعارة وهذا عند المالكيّة وفي الإجارة عند جميع المذاهب ، وفي غيرها اختلافهم ، والقاعدة عند الحنفيّة : أنّ المنافع الّتي تملك ببدلٍ يجوز تمليكها ببدلٍ كالإجارة ، والّتي تملك بغير عوضٍ لا يجوز تمليكها بعوضٍ . فالمستعير يملك الإعارة ولا يملك الإجارة .
34 - ج - وإذا كان الملتزم به حقّ الانتفاع فقط ، فإنّ حقّ التّصرّف يقتصر على انتفاع الملتزم له بنفسه فقط ، كما في العاريّة عند الشّافعيّة ، وفي وجهٍ عند الحنابلة ، وكالإباحة للطّعام في الضّيافات .
35 - د - وإذا كان الملتزم به إذناً في التّصرّف ، فإنّه يثبت للمأذون له حقّ التّصرّف المطلق إذا كان الإذن مطلقاً ، وإلاّ اقتصر التّصرّف على ما أذن به ، وذلك كما في الوكالة والمضاربة . وفي كلّ ذلك تفصيل ينظر في مواضعه .
( 5 ) منع حقّ التّصرّف :
36 - قد ينشأ من بعض الالتزامات منع حقّ التّصرّف ومن أمثلة ذلك : الرّهن ، فلا يصحّ تصرّف الرّاهن في المرهون ببيعٍ أو غيره ، لأنّ المرتهن أخذ العين بحقّه في الرّهن ، وهو التّوثّق باستيفاء دينه وقبض المرهون . فالمرتهن بالنّسبة إلى الرّهن كغرماء المفلس المحجور عليه .
( 6 ) صيانة الأنفس والأموال :
37 - الأصل أنّ المسلم ملتزم بحكم إسلامه بالمحافظة على دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم النّحر : « إنّ دماءكم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا » .
أمّا بالنّسبة لغير المسلمين ، فإنّ ممّا يصون دماءهم وأموالهم التزام المسلمين بذلك بسبب العقود الّتي تتمّ معهم ، كعقد الأمان المؤقّت أو الدّائم . إذ ثمرة الأمان حرمة قتلهم واسترقاقهم وأخذ أموالهم ، ما داموا ملتزمين بموجب عقد الأمان أو عقد الذّمّة .
ومن صيانة الأموال : الالتزام بحفظ الوديعة بجعلها في مكان أمينٍ . وقد يجب الالتزام بذلك حرصاً على الأموال ، ولذلك يقول الفقهاء : إن لم يكن من يصلح لأخذ الوديعة غيره وخاف إن لم يقبل أن تهلك تعيّن عليه قبولها ، لأنّ حرمة المال كحرمة النّفس ، لما روى ابن مسعودٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « حرمة مال المؤمن كحرمة دمه » . ولو خاف على دمه لوجب عليه حفظه ، فكذلك إذا خاف على ماله .
ومن ذلك أخذ اللّقطة واللّقيط ، إذ يجب الأخذ إذا خيف الضّياع ، لأنّ حفظ مال الغير واجب ، قال ابن رشدٍ : يلزم أن يؤخذ اللّقيط ولا يترك ، لأنّه إن ترك ضاع وهلك ، لا خلاف بين أهل العلم في هذا ، وإنّما اختلفوا في لقطة المال ، وهذا الاختلاف إنّما هو إذا كانت بين قومٍ مأمونين والإمام عدل . أمّا إذا كانت بين قومٍ غير مأمونين فأخذها واجب قولاً واحداً .
ومن ذلك الالتزام بالولاية الشّرعيّة لحفظ مال الصّغير واليتيم والسّفيه . وينظر تفصيل ذلك في مواضعه .
( 7 ) الضّمان :
38 - الضّمان أثر من آثار الالتزام ، وهو يكون بإتلاف مال الغير أو الاعتداء عليه بالغصب أو السّرقة أو بالتّعدّي في الاستعمال المأذون فيه في المستعار والمستأجر أو بالتّفريط وترك الحفظ كما في الوديعة . يقول الكاسانيّ : تتغيّر صفة المستأجر من الأمانة إلى الضّمان بأشياء منها : ترك الحفظ ، لأنّ الأجير لمّا قبض المستأجر فقد التزم حفظه ، وترك الحفظ الملتزم سبب لوجوب الضّمان ، كالمودع إذا ترك الحفظ حتّى ضاعت الوديعة . وكذلك يضمن بالإتلاف والإفساد إذا كان الأجير متعدّياً فيه ، إذ الاستعمال المأذون فيه مقيّد بشرط السّلامة . ويقول السّيوطيّ : أسباب الضّمان أربعة :
الأوّل : العقد ، ومن أمثلته ضمان المبيع ، والثّمن المعيّن قبل القبض ، والمسلم فيه ، والمأجور .
والثّاني : اليد ، مؤتمنةً كانت كالوديعة والشّركة والوكالة والمقارضة إذا حصل التّعدّي ، أو غير مؤتمنةٍ كالغصب والسّوم والعاريّة والشّراء فاسداً .
والثّالث : الإتلاف للنّفس أو المال .
والرّابع : الحيلولة .
ويقول ابن رشدٍ : الموجب للضّمان إمّا المباشرة لأخذ المال المغصوب أو لإتلافه ، وإمّا المباشرة للسّبب المتلف ، وإمّا إثبات اليد عليه . وفي القواعد لابن رجبٍ : أسباب الضّمان ثلاثة : عقد ، ويد ، وإتلاف . وفي كلّ ذلك خلاف وتفصيلات وتفريعات تنظر في مواضعها .
حكم الوفاء بالالتزام وما يتعلّق به :
39 - الأصل في الالتزام أنّه يجب الوفاء به امتثالاً لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا أوفوا بالعقود } والمراد بالعقود كما يقول الفقهاء : ما عقده المرء على نفسه من بيعٍ وشراءٍ وإجارةٍ وكراءٍ ومناكحةٍ وطلاقٍ ومزارعةٍ ومصالحةٍ وتمليكٍ وتخييرٍ وعتقٍ وتدبيرٍ ، وكذلك العهود والذّمم الّتي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذّمّة والخوارج ، وما عقده الإنسان على نفسه للّه تعالى من الطّاعات كالحجّ والصّيام والاعتكاف والنّذر واليمين وما أشبه ذلك ، فيلزم الوفاء بها . وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « المسلمون على شروطهم » عامّ في إيجاب الوفاء بجميع ما يشرطه الإنسان على نفسه ، ما لم تقم دلالة تخصّصه .
لكن هذا الحكم ليس عامّاً في كلّ الالتزامات ، وذلك لتنوّع الالتزامات بحسب اللّزوم وعدمه وبيان ذلك فيما يأتي :
( 1 ) الالتزامات الّتي يجب الوفاء بها :
40 - أ - الالتزامات الّتي تنشأ بسبب العقود اللّازمة بين الطّرفين ، كالبيع والإجارة والصّلح وعقود الذّمّة ، فهذه الالتزامات متى تمّت صحيحةً لازمةً وجب الوفاء بها ما لم يحدث ما يقتضي الفسخ ، كالهلاك والاستحقاق والرّدّ بالعيب ، وهذا شامل للأعيان الواجب تسليمها ، وللدّيون الّتي تكون في الذّمم كبدل القرض وثمن المبيع والأجرة في الإجارة أو الّتي تنشأ نتيجة إنفاذ مال الغير على خلافٍ وتفصيلٍ .
ب - الالتزامات الّتي تنشأ نتيجة التّعدّي بالغصب أو السّرقة أو الإتلاف أو التّفريط .
ج - الأمانات الّتي تكون عند الملتزم ، سواء أكانت بموجب عقدٍ كالوديعة ، أم لم تكن كاللّقطة وكمن أطارت الرّيح ثوباً إلى داره .
د - نذر القربات ، وهو ما يلتزم به الإنسان من قرباتٍ بدنيّةٍ أو ماليّةٍ طاعةً وتقرّباً إلى اللّه سبحانه وتعالى .
هـ- الالتزامات التّكليفيّة الشّرعيّة ، ومنها النّفقات الواجبة . فهذه الالتزامات لا خلاف في وجوب الوفاء بها ، منجزةً إن كانت كذلك ، وبعد تحقّق الشّرط المشروع إن كانت معلّقةً ، وعند دخول الوقت إن كانت مضافةً ، وسواء أكان الوفاء لا يجب إلاّ بعد الطّلب أم يجب بدونه . ويتحقّق الوفاء بالأداء والتّسليم أو القيام بالعمل أو الإبراء أو المقاصّة وهكذا . ودليل الوجوب الآية السّابقة ، وكذلك قوله تعالى : { وأوفوا بعهد اللّه إذا عاهدتم } وقوله تعالى : { وليوفوا نذورهم } وقوله تعالى : { فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته } .
والتّخلّف عن الوفاء بغير عذرٍ يستوجب العقوبة الدّنيويّة والأخرويّة ، إذ العقوبة واجبة لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته » فعقوبته حبسه ، وعرضه أن يحلّ القول في عرضه بالإغلاظ . وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « مطل الغنيّ ظلم » .
ولذلك يجبر الممتنع عن الوفاء بالضّرب أو الحبس أو الحجر ومنع التّصرّف في المال ، أو بيع مال الملتزم والوفاء منه . إلاّ إذا كان الملتزم معسراً فيجب إنظاره لقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرة إلى ميسرةٍ } .
41 - وما سبق إنّما هو في الجملة ، إذ للفقهاء في ذلك تفصيلات وتفريعات ، ومن ذلك مثلاً : اختلافهم في الإجبار على الوفاء بالنّذر المشروع عند الامتناع ، فعند المالكيّة يقضى بالنّذر المطلق إذا كان لمعيّنٍ ، وإن كان لغير معيّنٍ يؤمر بالوفاء ولا يقضى به على المشهور ، وقيل يقضى به ، وفيه الخلاف أيضاً عند الشّافعيّة . ومن ذلك أنّ أبا حنيفة لا يجيز الحجر في الدّين ، لأنّ في الحجر إهدار آدميّة المدين ، بل لا يجيز للحاكم التّصرّف في ماله ، وإنّما يجبره على بيعه لوفاء دينه . وهكذا ، وينظر تفصيل ذلك في مواضعه .
(2 )- التزامات يستحبّ الوفاء بها ولا يجب :
42 - أ - الالتزامات الّتي تنشأ من عقود التّبرّعات كالقرض والهبة والعاريّة والوصيّة .
ب - الالتزام النّاشئ بالوعد ، فهذه الالتزامات يستحبّ الوفاء بها ، لأنّها من المعروف الّذي ندب إليه الشّارع ، يقول اللّه تعالى : { وتعاونوا على البرّ والتّقوى } ويقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من نفّس عن مسلمٍ كربةٍ من كرب الدّنيا نفّس اللّه عنه كربةً من كرب يوم القيامة » ويقول : « تهادوا تحابّوا » .
لكن لا يجب الوفاء بها ، ففي الوصيّة يجوز بالاتّفاق الرّجوع فيها ما دام الموصي حيّاً . وفي العاريّة والقرض يجوز الرّجوع بطلب المستعار وبدل القرض في الحال بعد القبض ، وهذا عند غير المالكيّة ، بل قال الجمهور : إنّ المقرض إذا أجّل القرض لا يلزمه التّأجيل ، لأنّه لو لزم فيه الأجل لم يبق تبرّعاً .
أمّا المالكيّة فإنّ العاريّة والقرض إذا كانا مؤجّلين فذلك لازم إلى أن ينقضي الأجل ، وإن كانا مطلقين لزم البقاء فترةً ينتفع بمثله فيها ، واستندوا إلى ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم« أنّه ذكر رجلاً سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينارٍ فدفعها إليه إلى أجلٍ مسمًّى » . وقال ابن عمر وعطاء : إذا أجّله في القرض جاز .
ويجوز الرّجوع في الهبة قبل القبض عند الجمهور ، فإذا تمّ القبض فلا رجوع عند الشّافعيّة والحنابلة إلاّ فيما وهب الوالد لولده ، وعند الحنفيّة يجوز الرّجوع إن كانت لأجنبيٍّ .
أمّا المالكيّة فلا رجوع عندهم في الهبة قبل القبض وبعده في الجملة ، إلاّ فيما يهبه الوالد لولده . وينظر تفصيل ذلك في مواضعه .
43 - والوعد كذلك يستحبّ الوفاء به باتّفاقٍ . يقول القرافيّ : من أدب العبد مع ربّه إذا وعد ربّه بشيءٍ لا يخلفه إيّاه ، لا سيّما إذا التزمه وصمّم عليه ، فأدب العبد مع اللّه سبحانه وتعالى بحسن الوفاء وتلقّي هذه الالتزامات بالقبول .
لكن الوفاء به ليس بواجبٍ في الجملة ، ففي البدائع : الوعد لا شيء فيه وليس بلازمٍ ، وفي منتهى الإرادات : لا يلزم الوفاء بالوعد نصّاً ، وفي نهاية المحتاج : لو قال : أؤدّي المال أو أحضر الشّخص ، فهو وعد لا يلزم الوفاء به ، لأنّ الصّيغة غير مشعرةٍ بالالتزام .
إلاّ أنّه إذا كانت هناك حاجة تستدعي الوفاء بالوعد فإنّه يجب الوفاء به . فقد نقل ابن عابدين عن جامع الفصولين : لو ذكر البيع بلا شرطٍ ، ثمّ ذكر الشّرط على وجه العدة ، جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد ، إذ المواعيد قد تكون لازمةً فيجعل لازماً لحاجة النّاس . والمشهور عند المالكيّة أنّ الوعد يلزم ويقضى به إذا دخل الموعود بسبب الوعد في شيءٍ ، قال سحنونٍ : الّذي يلزم من الوعد إذا قال : اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبني به ، أو اخرج إلى الحجّ أو اشتر سلعةً أو تزوّج وأنا أسلفك ، لأنّك أدخلته بوعدك في ذلك ، أمّا مجرّد الوعد فلا يلزم الوفاء به ، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق .
وقال القليوبيّ : قولهم الوعد لا يجب الوفاء به مشكل ، لمخالفته ظاهر الآيات والسّنّة ، ولأنّ خلفه كذب ، وهو من خصال المنافقين .
( 3 ) التزامات يجوز الوفاء بها ولا يجب :
44 - أ - الالتزامات الّتي تنشأ نتيجة العقود الجائزة بين الطّرفين ، كالوكالة والشّركة والقراض ، فهذه يجوز لكلٍّ من الطّرفين فسخها وعدم الالتزام بمقتضاها ، هذا مع مراعاة ما يشترطه بعض الفقهاء حين الفسخ من نضوض رأس المال في المضاربة ، وكتعلّق حقّ الغير بالوكالة .
ب - نذر المباح : يقول القرطبيّ : نذر المباح لا يلزم بإجماعٍ من الأمّة ، وقال ابن قدامة : نذر المباح ، كلبس الثّوب وركوب الدّابّة وطلاق المرأة على وجهٍ مباحٍ ، فهذا يتخيّر فيه النّاذر بين فعله فيبرّ ، وإن شاء تركه وعليه كفّارة يمينٍ ، ويتخرّج أن لا كفّارة عليه .
( 4) التزامات يحرم الوفاء بها :
45 - الالتزام بما لا يلزم لا يجب فيه الوفاء ، بل قد يكون الوفاء حراماً ، وذلك إذا كان التزاماً بمعصيةٍ . ومن ذلك :
أ - نذر المعصية حرام باتّفاقٍ ، فمن قال : للّه عليّ أن أشرب الخمر ، أو أقتل فلاناً ، فإنّ هذا الالتزام حرام في ذاته ، وأيضاً يحرم الوفاء به ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من نذر أن يعصي اللّه فلا يعصه » وفي وجوب الكفّارة خلاف ( ر : نذر - كفّارة ) .
ب - وكذلك اليمين على فعلٍ محرّمٍ ، فمن حلف على ترك واجبٍ أو فعل حرامٍ ، فقد عصى بيمينه . ولزمه الحنث والكفّارة . ( ر : كفّارة - أيمان ) .
ج - الالتزام المعلّق على فعلٍ محرّمٍ على الملتزم له ، كقوله : إن قتلت فلاناً أو شربت الخمر فلك كذا وكذا ، فإنّه حرام يحرم الوفاء به .
د - ما كان الالتزام فيه بإسقاط حقّ اللّه أو حقّ غير الملتزم ، فلا يجوز الصّلح عن حقّ اللّه كدعوى حدٍّ ، ولا عن حقّ الغير ، فلو أنّ امرأةً طلّقها زوجها وادّعت عليه صبيّاً في يده أنّه ابنه منها وجحد الرّجل ، فصالحت عن النّسب على شيءٍ ، فالصّلح باطل ، لأنّ النّسب حقّ الصّبيّ . ولو باع ذهباً بفضّةٍ مؤجّلاً لم يصحّ ، لأنّ القبض في الصّرف لحقّ اللّه .
هـ- الشّروط الباطلة لا يجوز الالتزام بها ومن ذلك :
46- من خالع زوجته على أن تتحمّل بالولد مدّةً معيّنةً وشرط عليها ألاّ تتزوّج بعد الحولين ( مدّة الرّضاع ) أي أنّه شرط عليها ترك النّكاح بعد الحولين ، فلا اختلاف أنّ ذلك لا يلزمها الوفاء به ، لأنّ هذا الشّرط فيه تحريم ما أحلّ اللّه . والخلع صحيح .
ومن ذلك ما يقوله المالكيّة فيمن باع حائطه ( حديقته ) وشرط في عقد البيع أنّ الجائحة لا توضع عن المشتري ، فالبيع جائز والشّرط باطل ، ولا يلتزم به المشتري .
وفي البدائع للكاسانيّ : لو وهب داراً على أن يبيعها ، أو على أن يبيعها لفلانٍ ، أو على أن يردّها عليه بعد شهرٍ جازت الهبة وبطل الشّرط . وهي شروط تخالف مقتضى العقد ، فتبطل ويبقى العقد على الصّحّة ، بخلاف البيع .
وفي المهذّب : لو شرط في القرض شرطاً فاسداً بطل الشّرط ، وفي القرض وجهان . والأمثلة من هذا النّوع كثيرة . ( ر : بيع - اشتراط ) .
وفي حالة عقد الهدنة يستثنى حالة الضّرورة أو الحاجة . جاء في جواهر الإكليل ، يجوز للإمام مهادنة الحربيّين لمصلحةٍ ، إن خلت المهادنة عن شرطٍ فاسدٍ ، كأن كانت على مالٍ يدفعه لهم فلا يجوز ، لقوله تعالى :{ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } إلاّ لضرورة التّخلّص منهم خوف استيلائهم على المسلمين ، فيجوز دفع المال لهم ، « وقد شاور النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه في مثل ذلك »، فلو لم يكن الإعطاء جائزاً عند الضّرورة ما شاور فيه .
وفي الأشباه لابن نجيمٍ ، ومثله في المنثور للزّركشيّ : ما حرم أخذه حرم إعطاؤه ، كالرّبا ومهر البغيّ وحلوان الكاهن والرّشوة للحاكم إذا بذلها ليحكم له بغير الحقّ ، إلاّ في مسائل في الرّشوة لخوفٍ على نفسه أو ماله أو لفكّ أسيرٍ أو لمن يخاف هجوه . وينبغي أن يكون مثله إعطاء الرّبا للضّرورة فيأثم المقرض دون المقترض .
الأوصاف المغيّرة لآثار الالتزام :
إذا تمّت التّصرّفات الملزمة بأيّ نوعٍ من أنواع الالتزام مستوفيةً أركانها وشرائطها ترتّبت عليها آثارها ووجب تنفيذ الالتزام . لكن قد يتّصل بالتّصرّف بعض الأوصاف الّتي تغيّر من آثار الالتزام ، فتوقفه أو تزيد عليه التزاماً آخر أو تبطله ، وبيان ذلك فيما يأتي :
أوّلاً : الخيارات :
47 - من الخيارات ما يتّصل بالتّصرّف ، فيتوقّف لزومه ويتأخّر تنفيذ الالتزام إلى أن يبتّ فيها ، فيتبيّن ما ينفذ وما لا ينفذ . والخيارات كثيرة ، ولكنّا نكتفي بالخيارات المشهورة عند الحنفيّة . وهي خيار الشّرط والتّعيين والرّؤية والعيب .
يقول ابن عابدين : من الخيارات ما يمنع ابتداء الحكم ، وهما خيار الشّرط والتّعيين ، ومنه ما يمنع تمام الحكم كخيار الرّؤية ، ومنه ما يمنع لزومه كخيار العيب .
ويقول الكاسانيّ : شرائط لزوم البيع بعد انعقاده ونفاذه وصحّته أن يكون خالياً من خياراتٍ أربعةٍ : خيار الشّرط ، والتّعيين والرّؤية ، والعيب . فلا يلزم مع هذه الخيارات إذ لا بدّ للّزوم من الرّضى لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم } .
وفي الموضوع تفصيلات كثيرة بالنّسبة للتّصرّفات الّتي تدخلها الخيارات والتّصرّفات الّتي لا تدخلها ، وبالنّسبة لما هو عند المذاهب الأخرى ، فخيار التّعيين مثلاً لا يأخذ به الشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة لمخالفته للقياس . وكذلك خيار الرّؤية بالنّسبة للشّافعيّة ، ولغيرهم تفصيل فيه . ( ر : خيار )
ثانياً : الشّروط :
48 - الشّرط قد يكون تعليقيّاً ، وقد يكون تقييديّاً : فالشّرط التّعليقيّ : هو ربط وجود الشّيء بوجود غيره ، أي أنّ الملتزم يعلّق تنفيذ التزامه على وجود ما شرطه . وبذلك يكون أثر الشّرط التّعليقيّ في الالتزام هو توقّف تنفيذ الالتزام حتّى يحصل الشّرط ، فعند المالكيّة مثلاً إذا قال لشخصٍ : إن بنيت بيتك ، أو إن تزوّجت فلك كذا فهو لازم ، إذا وقع المعلّق عليه . وهذا طبعاً في التّصرّفات الّتي تقبل التّعليق ، كالإسقاطات والإطلاقات والالتزام بالقرب بالنّذر . أمّا التّصرّفات الّتي لا تقبل التّعليق كالبيع والنّكاح ، فإنّ التّعليق يمنع الانعقاد لعدم صحّة التّصرّفات حينئذٍ . ( ر : شرط - تعليق ) .
وأمّا الشّرط التّقييديّ فهو ما جزم فيه بالأصل وشرط فيه أمراً آخر .
وأمّا أثره في الالتزام ، فإن كان صحيحاً ، فما كان منه ملائماً للتّصرّف ، كمن يبيع ويشترط على المشتري أن يعطيه بالثّمن رهناً أو كفيلاً ... أو كان جرى به التّعامل بين النّاس كمن يشتري جراباً على أن يخرزه له البائع ... فإنّه ينشئ التزاماً زائداً على الالتزام الأصليّ ، كما هو واضح من الأمثلة ويجب الوفاء به . أمّا إن كان مؤكّداً لمقتضى التّصرّف ، كاشتراط التّسليم في البيع مثلاً ، فلا أثر له في الالتزام ، إذ الشّرط هنا تأكيد وبيان لمقتضى الالتزام . وإن كان الشّرط فاسداً ، فإن كان لا يقتضيه التّصرّف وليس ملائماً له ولا جرى به التّعامل بين النّاس وفيه منفعة لها صاحب يطالب بها ، كمن يبيع الدّار على أن يسكنها البائع شهراً ، أو الثّوب على أن يلبسه أسبوعاً ، فإنّ هذا الشّرط فاسد ويفسد معه التّصرّف ، وبالتّالي يفسد الالتزام الأصليّ للتّصرّف حيث قد فسد مصدره .
وهذا عند الحنفيّة ، وهو يجري في عقود المبادلات الماليّة فقط ، خلافاً للتّبرّعات كالهبة حيث يفسد الشّرط ويبقى التّصرّف في الالتزام به كما هو ، ويصبح الشّرط لا أثر له في الالتزام .
وأمّا عند الشّافعيّة فإنّ مثل هذا الشّرط يفسد ، ويفسد معه التّصرّف ، ويجرون هذا في كلّ التّصرّفات .
أمّا المالكيّة ، فإنّ الشّرط الّذي يفسد التّصرّف عندهم ، فهو ما كان منافياً لمقتضى العقد ، أو كان مخلّاً بالثّمن . وقريب من هذا مذهب الحنابلة . إذ هو عندهم : ما كان منافياً لمقتضى العقد ، أو كان العقد يشتمل على شرطه . أمّا ما كان فيه منفعة لأحدٍ ، فإنّه غير فاسدٍ عندهم إذا كانت المنفعة معلومةً . فمن يبيع الدّار ويشترط سكناها شهراً مثلاً فشرطه صحيح ويجب الوفاء به . واستدلّوا بحديث جابرٍ أنّه « باع النّبيّ صلى الله عليه وسلم جملاً ، واشترط ظهره إلى المدينة أي ركوبه » ، وفي لفظٍ قال : « بعته واستثنيت حملانه إلى أهلي » .
على أنّ الجمهور ومعهم أبو حنيفة متّفقون على أنّ من باع عبداً واشترط أن يعتقه المشتري فهو شرط صحيح يجب الوفاء به ، لتشوّف الشّارع للحرّيّة ، بل إنّ من الفقهاء من قال : يجبر المشتري على ذلك .
وأمّا إن كان الشّرط بغير ما ذكر ، فإنّه يفسد هو ويبقى التّصرّف صحيحاً فيجب الوفاء به . وفي الموضوع تفصيلات كثيرة ( ر : اشتراط ، شرط ) .
ثالثاً : الأجل :
49 - الأجل هو المدّة المتّفق عليها المستقبلة المحقّقة الوقوع . والالتزام قد يكون مؤجّلاً إذا كان الأجل أجل توقيتٍ ، فإنّه يجعل تنفيذ الالتزام مستمرّاً طوال المدّة المحدّدة حتّى تنتهي ، فمن أجّر داراً لمدّة شهرٍ أصبح من حقّ المستأجر الانتفاع بالدّار في هذه المدّة ولا يجوز للملتزم - وهو المؤجّر - أن يطالبه بتسليم الدّار قبل انتهاء الأجل المضروب .
وإذا كان أجل إضافةٍ ، فإنّ تنفيذ الالتزام لا يبدأ إلاّ عند حلول الأجل ، فالدّين المؤجّل إلى رمضان يمنع الدّائن من المطالبة قبل دخول رمضان . فإذا حلّ الأجل وجب على الملتزم بالدّين الوفاء ، وصار من حقّ الدّائن المطالبة بدينه .
والتّصرّفات تختلف بالنّسبة للأجل توقيتاً أو إضافةً ، فمنها ما هو مؤقّت أو مضاف بطبيعته ، كالإجارة والمساقاة والوصيّة ، ومنها ما هو منجز ولا يقبل التّأقيت بحالٍ كالصّرف والنّكاح ، وإذا دخلهما التّأقيت بطلا ، ويكون أثر التّأقيت هنا بطلان الأجل .
وأمّا العقد فيبطل في الصّرف إجماعاً . وفي النّكاح عند الأكثرين .
ومنها ما يكون الأصل فيه التّنجيز كالثّمن في البيع لكن يجوز تأجيله إرفاقاً فيتغيّر أثر الالتزام من التّسليم الفوريّ إلى تأخيره إلى الأجل المحدّد .
على أنّ التّصرّفات الّتي تقبل التّأجيل يشترط فيها في الجملة : أن يكون الأجل معلوماً ، إذ في الجهالة غرر يؤدّي إلى النّزاع ، وألاّ يعتاض عن الأجل ، إذ الاعتياض عنه يؤدّي إلى الرّبا . ويكون الأثر حينئذٍ بطلان الشّرط . وهذا في الجملة كما ذكرنا ، إذ من التّصرّفات ما يكون الأجل فيه مجهولاً بطبيعته ، كالجعالة والوصيّة ، ويلحق بهما الوكالة والقراض والإذن في التّجارة إذا لم يحدّد للعمل مدّةً . كذلك التّبرّعات عند المالكيّة تجوز إلى أجلٍ مجهولٍ . وفي كلّ ذلك تفصيلات مطوّلة تنظر في مواضعها وفي ( بحث : أجل ) .
توثيق الالتزام :
50 - توثيق الالتزام - أي إحكامه وإثباته - أمر مشروع لاحتياج النّاس إلى معاملة من لا يعرفونه ، خشية جحد الحقوق أو ضياعها . وقد شرع اللّه سبحانه وتعالى للنّاس ما يضمن لهم حقوقهم بتوثيقها ، وجعل لذلك طرقاً متعدّدةً وهي :
( 1 ) الكتابة والإشهاد :
51 - شرع اللّه سبحانه وتعالى الكتابة والإشهاد صيانةً للحقوق ، وذلك في قوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمًّى فاكتبوه } .. { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } .. { وأشهدوا إذا تبايعتم } وقد أوجب الشّرع توثيق بعض الالتزامات لخطره كالنّكاح ، وقريب منه طلب الشّفعة فلا تثبت عند الإنكار إلاّ بالبيّنة ، ومثله الإشهاد عند دفع مال اليتيم إليه عند البلوغ والرّشد .
ومن الالتزامات ما اختلف في وجوب الإشهاد فيه أو استحبابه ، كالبيع والإجارة والسّلم والقرض والرّجعة .
والشّهادة تعتبر من البيّنات الّتي يثبت بها الحقّ . ولبيان ما يجب فيه الإشهاد وما لا يجب ، وبيان شروط الشّهادة في الحقوق من حيث التّحمّل والأداء والعدد وصفة الشّاهد والمشهود به ينظر : ( إثبات ، إشهاد - شهادة - أداء - تحمّل ) .
( 2 ) الرّهن :
52 - الرّهن شرع كذلك لتوثيق الالتزامات ، لأنّه احتباس العين ليستوفي الحقّ من ثمنها ، أو من ثمن منافعها عند تعذّر أخذه من الغريم . والأصل في مشروعيّته قول اللّه تعالى : { وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة } . وروي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « اشترى طعاماً من يهوديٍّ إلى أجلٍ ورهنه درعاً من حديدٍ » .
والرّهن مشروع بطريق النّدب لا بطريق الوجوب ، بدليل قول اللّه تعالى : { فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته } ، ولأنّه أمر به عند عدم تيسّر الكتابة ، والكتابة غير واجبةٍ فكذلك بدلها .
هذا وللرّهن شروط من حيث كونه مقبوضاً وكونه بدينٍ لازمٍ وغير ذلك ( ر : رهن ) .
( 3 ) الضّمان والكفالة :
53 - الضّمان والكفالة قد يستعملان بمعنًى واحدٍ ، وقد يستعمل الضّمان للدّين ، والكفالة للنّفس . وهما مشروعان أيضاً ليتوثّق بهما الالتزام . والأصل في ذلك قول اللّه تعالى في قصّة يوسف : { ولمن جاء به حمل بعيرٍ وأنا به زعيم } .
وفي كلّ ذلك تفصيلات واختلافات للفقهاء تنظر في موضعها ( ر : كفالة ) .
أمّا بالنّسبة للتّصرّفات الّتي يدخلها التّوثيق والّتي لا يدخلها ، فقد قال السّيوطيّ : الوثائق المتعلّقة بالأعيان ثلاثة : الرّهن والكفالة والشّهادة ، ثمّ قال : من العقود ما تدخله الثّلاثة كالبيع والسّلم والقرض ، ومنها ما تدخله الشّهادة دونهما وهو المساقاة - جزم به الماورديّ - ونجوم الكتابة . ومنها ما تدخله الشّهادة والكفالة دون الرّهن وهو الجعالة .
ومنها ما تدخله الكفالة دونهما وهو ضمان الدّرك . ثمّ قال : ليس لنا عقد يجب فيه الإشهاد من غير تقييدٍ إلاّ النّكاح قطعاً ، والرّجعة على قولٍ ، وعقد الخلافة على وجهٍ ، وممّا قيل بوجوب الإشهاد فيه من غير العقود : اللّقطة على وجهٍ ، واللّقيط على الأصحّ لخوف إرقاقه . وقد زاد الزّركشيّ أروش الجنايات المستقرّة فيما يدخله الثّلاثة .
وقد اعتبر الزّركشيّ أنّ التّوثيق لا ينحصر في هذه الثّلاثة ( الشّهادة والرّهن والكفالة ) وإنّما اعتبر منها : الحبس على الحقوق إلى الوفاء ، ومنها حبس المبيع حتّى يقبض الثّمن ، وكذلك منع المرأة تسليم نفسها حتّى تقبض معجّل المهر ..
انتقال الالتزام :
54 - يجوز انتقال الالتزام بالدّين من ذمّةٍ إلى ذمّةٍ أخرى ، إذ هو نوع من التّوثيق بمنزلة الكفالة ، وهو ما يسمّى بالحوالة ، وهي معاملة صحيحة مستثناة من بيع الدّين بالدّين فجازت للحاجة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « مطل الغنيّ ظلم . وإذا أحيل أحدكم على مليءٍ فليتبع » . وللتّفصيل ومعرفة الخلاف ( ر : حوالة ) .
إثبات الالتزام :
55 - إثبات الالتزام إنّما يحتاج إليه عند إنكار الملتزم . وفي هذه الحالة يكون على الملتزم له ( صاحب الحقّ ) إثبات حقّه ، عملاً بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « البيّنة على من ادّعى ، واليمين على من أنكر » . وللقاضي - إن لم يظهر صاحب الحقّ بيّنته - أن يسأله : ألك بيّنة ؟ لما روي « أنّه جاء رجل من حضرموت ، ورجل من كندة ، إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال الحضرميّ : يا رسول اللّه إنّ هذا قد غلبني على أرضٍ لي كانت لأبي ، فقال الكنديّ : هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حقّ ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم للحضرميّ : ألك بيّنة ؟ قال : لا ، قال : فلك يمينه » . وللإثبات طرق متعدّدة كالإقرار والشّهادة واليمين والنّكول والقسامة وغير ذلك ( ر : إثبات ) .
انقضاء الالتزام :
56 - الأصل أنّ الالتزام ينقضي بوفاء الملتزم وتنفيذه ما التزم به من تسليم عينٍ أو دينٍ ، كتسليم المبيع للمشتري ، والثّمن للبائع ، والمأجور للمستأجر ، والأجرة للمؤجّر والموهوب للمتّهب وبدل القرض للمقرض وهكذا .
وينقضي الالتزام أيضاً بالقيام بالعمل الملتزم به في إجارةٍ أو استصناعٍ أو مساقاةٍ أو وكالةٍ أو مضاربةٍ ، وبانقضاء المدّة في التّصرّف المقيّد بالزّمن كالإجارة المحدّدة .
57 - وقد ينقضي الالتزام بغير هذا ومن أمثلة ذلك :
( 1 ) إبراء الدّائن للمدين .
(2 ) - الفسخ أو العزل في العقود الجائزة كالوكالة والشّركة والقراض الوديعة ، إلاّ إذا اقتضى فسخها ضرراً على الطّرف الآخر .
يقول السّيوطيّ : الشّركة والوكالة والعاريّة الوديعة والقراض كلّها تنفسخ بالعزل من المتعاقدين أو أحدهما .
وفي المنثور للزّركشيّ : العقود الجائزة إذا اقتضى فسخها ضرراً على الطّرف الآخر امتنع وصارت لازمةً . ولهذا قال النّوويّ : للوصيّ عزل نفسه إلاّ أن يتعيّن عليه أو يغلب على ظنّه تلف المال باستيلاء ظالمٍ .
ويجري مثله في الشّريك والمقارض ، وقد قالوا في العامل إذا فسخ القراض : عليه التّقاضي والاستيفاء ، لأنّ الدّين ملك ناقص ، وقد أخذه منه كاملاً ، فليردّه كما أخذه ، وظاهر كلامهم أنّه لا ينعزل حتّى ينضّ المال .
( 3 ) الرّجوع في التّبرّعات قبل القبض كالوصيّة والهبة ، وبعد القبض في العاريّة والقرض عند غير المالكيّة .
( 4 ) المقاصّة في الدّيون .
( 5 ) انعدام الأهليّة في العقود الجائزة كالجنون والموت .
( 6 ) الفلس أو مرض الموت في التّبرّعات قبل القبض .
( 7 ) عدم إمكان التّنفيذ ، كهلاك المبيع قبل القبض .
يقول الكاسانيّ : هلاك المبيع قبل القبض ، إن هلك كلّه قبل القبض بآفةٍ سماويّةٍ انفسخ البيع ، لأنّه لو بقي أوجب مطالبة المشتري بالثّمن ، وإذا طالبه بالثّمن فهو يطالبه بتسليم المبيع ، وأنّه عاجز عن التّسليم فتمتنع المطالبة أصلاً ، فلم يكن في بقاء البيع فائدة فينفسخ ، وكذلك إذا هلك بفعل المبيع بأن كان حيواناً فقتل نفسه ، وكذا إذا هلك بفعل البائع يبطل البيع ويسقط الثّمن عن المشتري عندنا .
وإن هلك بفعل المشتري لا ينفسخ البيع وعليه الثّمن ، لأنّه بالإتلاف صار قابضاً ..
التصاق *
التّعريف :
1 - التصق والتزق بمعنًى واحدٍ ، والتصق بالشّيء : لزق وعلق به ، والالتصاق : اتّصال الشّيء بالشّيء بحيث لا يكون بينهما فجوة بتلزّجٍ أو تماسكٍ أو تماسٍّ .
والفقهاء يستعملونه بالمعنى نفسه .
الحكم الإجماليّ :
2 - الالتصاق من الأمور الّتي قد تحدث تلقائيّاً ، كالتصاق الدّور ، والتصاق أوراق الشّجر بالماء ، وكالتصاق عضوٍ زائدٍ بجسمٍ . وقد يحدث بقصدٍ كلصق جبيرةٍ على جرحٍ .
وسواء حدث الالتصاق بقصدٍ أو بغير قصدٍ فإنّه قد يترتّب عليه بعض الأحكام .
3 - فالتصاق الدّارين مثلاً في سكّةٍ نافذةٍ يعطي أحد الجارين الملاصقين الأولويّة في الشّفعة ، إذا أراد الآخر بيع داره ، وهذا كما يقول الحنفيّة . إذ لا شفعة بالجوار عند غيرهم . والتصاق الجبيرة على الجرح يترتّب عليه جواز المسح على الجبيرة في الطّهارة .
4- على أنّ الالتصاق منه ما هو واجب ، كالتصاق الجبهة بالأرض في السّجود . ومنه ما هو حرام كالتصاق رجلين أو امرأتين في ثوبٍ واحدٍ بدون حائلٍ ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يفضي الرّجل ، إلى الرّجل ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوبٍ واحدٍ » . ويكون مكروهاً إذا كان بحائلٍ وبدون قصد التّلذّذ .
مواطن البحث :
5 - يأتي الالتصاق في مواطن متعدّدةٍ ، ومن ذلك : التصاق الثّوب بالجسم في الصّلاة ، وينظر في ( ستر العورة ) .
وفي التصاق الدّارين ، وإساءة أحد صاحب الدّارين إلى الآخر وينظر في ( جناية - إتلاف ارتفاق - شفعة ) وفي ما انحسر عنه البحر ، وينظر في ( إحياء الموات ) .
وفي التصاق عضوين في الجسم وينظر في ( طهارة ) .
التفات *
التّعريف :
1 - الالتفات : هو لغةً : الانصراف إلى جهة اليمين أو الشّمال .
وعند الفقهاء لا يختلف استعمال اللّفظ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - انحراف :
الانحراف هو : الميل عن الشّيء ، وهو غير الالتفات ، فقد يميل الإنسان وهو في نفس الاتّجاه .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
الالتفات تارةً يطلب شرعاً ، وأحياناً ينهى عنه .
3 - وممّا يطلب فيه الالتفات : الأذان ، فعند الحيعلتين يستحبّ الالتفات عند أغلب الفقهاء ، لفعل بلالٍ رضي الله عنه ، واستثنى بعض الفقهاء من ذلك ما إذا كان يؤذّن لنفسه ، أو لجماعةٍ صغيرةٍ ، أو لمولودٍ . وللالتفات كيفيّات ثلاث يذكرها الفقهاء في ( الأذان ) .
ويسنّ الالتفات كذلك عند تسليم المصلّي ، يلتفت يميناً وشمالاً ، روى النّسائيّ عن عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسلّم عن يمينه : السّلام عليكم ورحمة اللّه ، حتّى يرى بياض خدّه الأيمن ، وعن يساره : السّلام عليكم ورحمة اللّه ، حتّى يرى بياض خدّه الأيسر » . وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في ( التّسليم ) .
4 - أمّا الالتفات المنهيّ عنه ، فمنه : الالتفات في الصّلاة ، وهو إمّا بالوجه أو بغيره ، فعند الأئمّة الأربعة يكره الالتفات بالوجه في الصّلاة ، عن أنسٍ رضي الله عنه قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « يا بنيّ إيّاك والالتفات في الصّلاة ، فإنّ الالتفات في الصّلاة هلكة ، فإن كان لا بدّ ففي التّطوّع لا في الفريضة » .
أمّا الالتفات بالصّدر أو بالبدن كلّه فمن الفقهاء من كره ذلك ، ومنهم من قال : تبطل به الصّلاة إن حوّل قدميه ، وتفصيل ذلك كلّه يذكره الفقهاء في ( استقبال القبلة ) .
وفي الخطبة نصّ الفقهاء على كراهة التفات الخطيب ، ومنهم من ذكر كراهية التفات المستمع ، وتفصيل ذلك بيّنه الفقهاء في ( خطبة الجمعة ) .
التقاء الختانين *
انظر : وطء .
التقاط *
انظر : لقطة .
التماس *
التّعريف :
1 - الالتماس لغةً : الطّلب ، والتّلمّس : التّطلّب مرّةً بعد أخرى .
واصطلاحاً : هو الطّلب مع التّساوي بين الأمر والمأمور .
الحكم الإجماليّ :
2 - قد يكون الالتماس مطلوباً أو ممنوعاً .
3 - فالالتماس المطلوب مثل : التماس رؤية هلال رمضان ، وهو واجب عند الحنفيّة ، ومندوب عند جمهور الفقهاء . والتماس الماء قبل التّيمّم فإنّه واجب عند الفقهاء - ر - ( صيام وتيمّم ) .
والتماس ليلة القدر في قيام اللّيل ، فإنّه مستحبّ . ( ر - صيام - قيام اللّيل ) .
4 - أمّا الالتماس الممنوع ، فهو إذا كان الشّيء الملتمس قد حرّمه الشّرع ، كالتماس الخمر وبقيّة المحظورات الّتي حرّمها الشّارع . ( ر - أشربة ) .
ألثغ *
التّعريف :
1 - الألثغ لغةً : من به لثغة ، واللّثغة : حبسة في اللّسان حتّى تصير الرّاء لاماً أو غيناً ، أو السّين ثاءً ونحو ذلك .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - الأرتّ ، وهو من يدغم الحرف في الحرف ممّا لا يدغم في كلام النّاس .
والتّأتاء ، وهو من يكرّر التّاء .
والفأفاء ، وهو من يكرّر الفاء ..
الحكم الإجماليّ :
3 - اللّثغة صفة نقصٍ في إمام الصّلاة .
فذهب الجمهور : الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة في قولٍ ، والحنابلة سوى القاضي منهم ، إلى إلحاق الألثغ بالأمّيّ في الإمامة ، فيمنع اقتداء السّالم به ، ويجوز له أن يؤمّ مثله ، وذهب المالكيّة في قولٍ آخر ، والقاضي من الحنابلة إلى صحّة إمامته مع الكراهة ، فيأثم المقتدي به إن وجد غيره ممّن يحسن القراءة ، وإلاّ فلا .
غير أنّ الشّافعيّة اشترطوا لصحّة إمامة الألثغ بمثله أن تكون اللّثغة في كلمةٍ واحدةٍ . فإن كان أحدهما يلثغ في كلمةٍ ، والآخر يلثغ في غيرها لم تصحّ إمامة أحدهما للآخر .
قال ابن تيميّة : وأمّا من لا يقيم قراءة الفاتحة ، فلا يصلّي خلفه إلاّ من هو مثله ، فلا يصلّي خلف الألثغ الّذي يبدّل حرفاً بحرفٍ ، إلاّ حرف الضّاد إذا أخرجه من طرف الفم ، كما هو عادة كثيرٍ من النّاس ، فهذا فيه وجهان :
منهم من قال : لا يصلّي خلفه ، ولا تصحّ صلاته في نفسه ، لأنّه أبدل حرفاً بحرفٍ ، لأنّ مخرج الضّاد الشّدق ، ومخرج الظّاء طرف الأسنان . فإذا قال : ( ولا الظّالّين ) كان معناه ظلّ يفعل كذا .
والوجه الثّاني : تصحّ ، وهذا أقرب ، لأنّ الحرفين في السّمع شيء واحد ، وحسّ أحدهما من جنس حسّ الآخر لتشابه المخرجين . والقارئ إنّما يقصد الضّلال المخالف للهدى ، وهو الّذي يفهمه المستمع ، فأمّا المعنى المأخوذ من ظلّ فلا يخطر ببال واحدٍ ، وهذا بخلاف الحرفين المختلفين صوتاً ومخرجاً وسمعاً ، كإبدال الرّاء بالغين ، فإنّ هذا لا يحصل به مقصود القراءة .
وفي الدّماء ، والدّيات : لا فرق بين الجناية على لسان السّليم ، ولسان الألثغ ، صرّح بذلك الشّافعيّة ، وهو ما يفهم من فروع غيرهم .
أمّا في إذهاب الكلام ، فيراعى قسط اللّثغة ، فلو جنى على سليمٍ فأصابته لثغة فإنّ أغلب الفقهاء يوجب دية الحرف المبدل ، على خلافٍ وتفصيلٍ بينهم في عدد الحروف الّتي تقسم عليها الدّية ، وكذا مخارج الحروف .
وعند المالكيّة يقدّر ذلك بالاجتهاد ، ولا يحسب على عدد الحروف ، وهو قول للحنفيّة . فإن منعت الجناية نطق الألثغ ، فإنّ بعض الفقهاء أوجب الدّية كاملةً فيه ، وقال البعض لا يجب إلاّ قسط الحروف الذّاهبة . وبالإضافة إلى ما تقدّم يتكلّم الفقهاء عن اللّثغة في الطّلاق ، كما إذا قال لزوجته : أنت تالق بدل طالق .
إلجاء *
انظر : إكراه .
إلحاد *
التّعريف :
1 - الإلحاد في اللّغة ، واللّحد : الميل والعدول عن الشّيء ، ومنه : لحد القبر وإلحاده أي جعل الشّقّ في جانبه لا في وسطه . وألحدت الميّت ، ولحدته : جعلته في اللّحد ، أو عملت له لحداً .
ويستعمل الإلحاد في الاصطلاح بمعانٍ منها :
الإلحاد في الدّين ، وهو : الطّعن فيه أو الخروج عنه .
ومنها : الإخلال بما يستحقّه المسجد الحرام بفعل المحرّمات فيه ، أو منع عمارته والصّدّ عنه . قال ابن عابدين : الإلحاد في الدّين : هو الميل عن الشّرع القويم إلى جهةٍ من جهات الكفر كالباطنيّة الّذين يدّعون أنّ للقرآن ظاهراً ، وأنّهم يعلمون الباطن ، فأحالوا بذلك الشّريعة ، لأنّهم تأوّلوا بما يخالف العربيّة الّتي نزل بها القرآن .
ومن الإلحاد : الطّعن في الدّين مع ادّعاء الإسلام ، أو التّأويل في ضرورات الدّين لإجراء الأهواء .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الرّدّة :
2 - الرّدّة لغةً : هي الرّجعة مطلقاً .
وشرعاً : هي كفر المسلم البالغ العاقل المختار الّذي ثبت إسلامه ولو ببنوّته لمسلمٍ ، وإن لم ينطق بالشّهادتين . أو كفر من نطق بهما عالماً بأركان الإسلام ملتزماً بها ، ويكون ذلك بالإتيان بصريح الكفر بلفظٍ يقتضيه ، أو فعلٍ يتضمّنه ونحو ذلك . وهذا التّعريف هو أجمع التّعاريف في الرّدّة .
ب - النّفاق :
3 - النّفاق : إظهار الإيمان باللّسان ، وكتمان الكفر بالقلب . ولا يطلق هذا الاسم على من يظهر شيئاً ويخفي غيره ممّا لا يختصّ بالعقيدة .
ج - الزّندقة :
4 - الزّندقة : إبطان الكفر والاعتراف بنبوّة نبيّنا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم ويعرف ذلك من أقوال الزّنديق وأفعاله . وقيل : هو من لا دين له .
ومن الزّندقة : الإباحيّة ، وهي : الاعتقاد بإباحة المحرّمات ، وأنّ الأموال والحرم مشتركة .
د - الدّهريّة :
5 - الدّهريّ : من يقول بقدم الدّهر ، ولا يؤمن بالبعث ، وينكر حشر الأجساد ويقول : { إن هي إلاّ حياتنا الدّنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدّهر } مع إنكار إسناد الحوادث إلى الصّانع المختار سبحانه وتعالى .
الفرق بين كلٍّ من الزّندقة والنّفاق والدّهريّة وبين الإلحاد :
6 - نقل ابن عابدين عن ابن كمالٍ باشا قوله : الزّنديق في لغة العرب يطلق على : من ينفي الباري تعالى ، وعلى من يثبت الشّريك ، وعلى من ينكر حكمته . والفرق بينه وبين المرتدّ العموم الوجهيّ ، لأنّه قد لا يكون مرتدّاً ، كما لو كان زنديقاً أصليّاً غير منتقلٍ عن دين الإسلام . والمرتدّ قد لا يكون زنديقاً ، كما لو تنصّر أو تهوّد . وقد يكون مسلماً فيتزندق . وأمّا في اصطلاح الشّرع فالفرق أظهر ، لاعتبارهم فيه إبطان الكفر والاعتراف بنبوّة نبيّنا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم ، والفرق بين الزّنديق والمنافق والدّهريّ والملحد - مع الاشتراك في إبطان الكفر - أنّ المنافق غير معترفٍ بنبوّة نبيّنا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم والدّهريّ كذلك مع إنكار إسناد الحوادث إلى الصّانع المختار سبحانه وتعالى ، والملحد لا يشترط فيه الاعتراف بنبوّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم ولا بوجود الصّانع تعالى . وبهذا فارق الدّهريّ أيضاً . ولا يعتبر فيه إضمار الكفر ، وبه فارق المنافق . كما لا يعتبر فيه سبق الإسلام وبه فارق المرتدّ . فالملحد أوسع فرق الكفر حدّاً ، وأعمّ في الجملة من الكلّ . أي هو معنى الكافر مطلقاً ، تقدّمه إسلامه أم لا ، أظهر كفره أم أبطنه .
الإلحاد في الحرم :
7 - الإلحاد في الحرم هو الميل بالظّلم فيه . قال اللّه تعالى : { إنّ الّذين كفروا ويصدّون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام الّذي جعلناه للنّاس سواءً العاكف فيه والبّاد ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ نذقه من عذابٍ أليمٍ } وقد اختلف في معنى الإلحاد في الحرم على أقوالٍ منها :
أ - قال ابن مسعودٍ : الإلحاد هو الشّرك ، وقال أيضاً هو استحلال الحرام .
ب - قال الجصّاص : المراد به انتهاك حرمة الحرم بالظّلم فيه .
ج - قال مجاهد : هو العمل السّيّئ .
د - الإلحاد في الحرم هو منع النّاس عن عمارته .
هـ- قال سعيد بن جبيرٍ هو الاحتكار . قال ابن حيّان : الأولى حمل هذه الأقوال في الآية على التّمثيل لا على الحصر ، إذ الكلام يدلّ على العموم .
وقد عظّم اللّه الذّنب في الحرم ، وبيّن أنّ الجنايات تعظم على قدر عظم الزّمان كالأشهر الحرم ، وعلى قدر المكان كالبلد الحرام ، فتكون المعصية معصيتين : إحداهما المخالفة ، والثّانية إسقاط حرمة الشّهر الحرام أو البلد الحرام .
إلحاد الميّت :
8 - إلحاد الميّت في القبر سنّة عند الحنفيّة والحنابلة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « اللّحد لنا والشّقّ لغيرنا » ولما رواه مسلم من حديث سعد بن أبي وقّاصٍ رضي الله عنه « أنّه قال في مرضه الّذي مات فيه الحدوا لي لحداً ، وانصبوا عليّ اللّبن ، كما صنع برسول اللّه صلى الله عليه وسلم » .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه مستحبّ ، لما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال للحافر : « أوسع من قبل رأسه ، وأوسع من قبل رجله » . ولقول الرّسول صلى الله عليه وسلم يوم أحدٍ : « احفروا ، وأوسعوا ، وعمّقوا » ولما روى ابن ماجه عن أنسٍ « لمّا توفّي النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكان بالمدينة رجل يلحد وآخر يضرح ، فقالوا : نستخير ربّنا ونبعث إليهما ، فأيّهما سبق تركناه ، فأرسل إليهما ، فسبق صاحب اللّحد ، فلحدوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم » وهذا عند الجميع إذا كانت الأرض صلبةً ، أمّا إذا كانت رخوةً فإنّه يصار إلى الشّقّ بدون خلافٍ ويكون أفضل ، ويكون اللّحد إلى جهة القبلة بقدر الميّت ..
الإلحاد في الدّين :
9 - الملحد إمّا أن يكون في الأصل على الشّرك ، فحكمه ينظر تحت عنوان ( إشراك ) ، أو يكون ذمّيّاً فيلحد أي يطعن في الدّين جهاراً ، فينتقض بذلك عهده ، وينظر حكمه تحت عنوان ( أهل الذّمّة ) أو يكون مسلماً فيلحد ، فينظر حكمه تحت عنوان ( ارتداد - زندقة ) .
الآثار المترتّبة على الإلحاد :
10 - من ألحد بعد إسلامٍ والعياذ باللّه ، إمّا أن يستتاب على رأي من قال بذلك ، فيأخذ حكم المرتدّ في العبادات في الجملة في حالة رجوعه عن إلحاده ، من نقض وضوئه بالإلحاد وعدمه ، ومن قضائه للعبادات ، وأدائه ما عليه من زكاةٍ ، وقضائه للحجّ قبل الإلحاد وبعده . كما يأخذ حكمه كذلك في غير العبادات ، من سقوط شفعته بالرّدّة ونفاذ عقوده وعدمها ، وبينونة امرأته ، ولزوم المهر ، والنّفقة ، وانفساخ النّكاح . كما يأخذ حكمه في الجنايات والدّيون على الخلاف المذكور بين العلماء . والّذي يرجع إليه في مصطلح ( ردّة ) .
وأمّا إذا لم يستتب فإنّه يأخذ حكم المرتدّ المقتول في الرّدّة ، من حيث زوال ملكه عن أمواله ، وحكم تلك الأموال بعد الموت في الميراث ، ومن حيث سقوط وصيّته أو عدمه ، وقضاء ديونه بعد الموت ، ويراجع في ذلك مصطلح ( ردّة ) .
إلحاق *
التّعريف :
1 - الإلحاق في اللّغة : الاتّباع . يقال : ألحقته به : إذا أتبعته إيّاه حتّى لحقه . واستعمل الفقهاء والأصوليّون إلحاق الفروع بالأصول في القياس . ومن ذلك قول ابن قدامة في روضة النّاظر : إنّ الإلحاق يسمّى قياساً ، إذا بيّنت العلّة الجامعة وأثبت وجودها في الفرع . وجرى على لسان بعض الفقهاء في تعريف القياس بأنّه : إلحاق المسكوت بالمنطوق . وجرى أيضاً على ألسنتهم : إلحاق الولد بمن ادّعاه كما في مسألة اللّقيط ، حتّى إنّ إطلاق لفظ ( الإلحاق ) ينصرف إلى الإلحاق في النّسب .
الألفاظ ذات الصّلة :
القياس :
2 - يظهر من تتبّع أقوال الفقهاء أنّ الإلحاق يأتي بمعنيين :
الأوّل : القياس ، بإلحاق الفرع بالأصل لوجود علّةٍ مشتركةٍ يتعدّى بها الحكم من الأصل إلى الفرع بشروطه ، فهو حمل الشّيء على غيره بإجراء حكمه عليه لعلّةٍ مشتركةٍ .
والثّاني : إلحاق الإنسان المجهول النّسب بمن ادّعاه ، فإنّه يصحّ بشروطه ، كما يعرف في باب النّسب .
3 - والإلحاق له طريقان :
الطّريق الأوّل : إلغاء الفارق المؤثّر في الحكم لكي يشمل المسكوت عنه فلا يحتاج إلى التّعرّض للعلّة الجامعة لكثرة ما فيه من الاجتماع ، وقد اختلف في تسمية هذا قياساً . والطّريق الثّاني : أن يتعرّض للجامع ويبيّن وجوده في الفرع ، وهذا هو المتّفق على تسميته قياساً .
الحكم الإجماليّ :
4 - نظراً لأنّ الإلحاق إتباع الشّيء بالشّيء فيقتضي أن يكون الحكم في الملحق نفس الحكم الّذي في الملحق به . ولتطبيق هذه القاعدة أمثلة كثيرة منها :
أوّلاً : إلحاق جنين المذكّاة بأمّه :
5 - ذهب جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة والصّاحبان من الحنفيّة ) إلى إلحاق جنين المذكّاة بها ، إذا كان كامل الخلقة ، ومات بذبح أمّه ، فهذا إلحاق من حيث اللّغة . وإنّما قالوا ذلك لما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « ذكاة الجنين ذكاة أمّه » . ولأنّ جنين الدّابّة تبع فيباع ببيع الأمّ ، ولذا يأخذ جنين المذكّاة حكم المذكّاة بالتّبع ، وهذا إن كان قد أشعر على رأيٍ ، وقيل : لا يشترط ذلك .
وخالفهم في ذلك أبو حنيفة وزفر فذهبا إلى أنّه لا يحلّ الجنين إلاّ إذا أدرك حيّاً وذبح . كذلك لا يمكن إلحاق الجنين الّذي ظهر من الأمّ حيّاً فمات بعدها بدون الذّبح .
ويرجع لتفصيله إلى مصطلحي ( ذبيحة ) ( وذكاة ) .
ثانياً : إلحاق صغار السّوائم بالكبار في الذّكاة :
6 - لا خلاف بين فقهاء المذاهب في إلحاق صغار السّوائم بالكبار في وجوب الزّكاة فيها ، إذا اجتمعت مع الكبار وتمّ الحول عليها . أمّا إذا كانت كلّها صغاراً فصلاناً أو حملاناً أو عجاجيل ، فلا زكاة فيها عند أبي حنيفة ومحمّدٍ وهو رواية عن أحمد . وقال المالكيّة ، وهي المذهب عند الحنابلة ، وهو قول الشّافعيّ في القديم ، وإليه ذهب زفر من الحنفيّة : يجب في الصّغار ما يجب في الكبار إلحاقاً .
وقال أبو يوسف ، والشّافعيّ في الجديد : يجب فيها واحدة منها ، وصورته إذا كان له نصاب من الكبار ثمّ ماتت الأمّهات ، وتمّ الحول على الأولاد وهي صغار .
وتفصيله في مصطلح ( ذكاة ) .
ثالثاً : إلحاق توابع المبيع به في البيع :
7 - يدخل الجنين في بيع الأمّ تبعاً ، ولا يفرد بالبيع ، لأنّ التّابع تابع . وكذلك حقّ المرور والشّرب يدخلان في بيع الأرض تبعاً . وولد البقرة المشتراة للّبن داخل في بيع الأمّ . ويدخل الغراس في بيع الأرض ، وتدخل الأرض وما يتّصل بها في بيع الدّار . وكذلك كلّ ما يعتبر من توابع المبيع يدخل في البيع إلحاقاً ، ويأخذ حكم المبيع على تفصيلٍ وخلافٍ في ذلك ينظر في موضعه .
مواطن البحث :
8 - تكلّم الفقهاء عن إلحاق الفروع بالأصول في بحث ( القياس ) ، وفي ( البيع ) في إلحاق الثّمر بالشّجر ، وإلحاق الثّمار الّتي لم يبد صلاحها بما بدا صلاحه منها . وإلحاق توابع المبيع بالمبيع ، وإلحاق الولد بخير الأبوين في ( الدّيانة ) إن كانا مختلفين ديناً ، ومسائل أخرى . لكن أكثر ما يتعرّضون فيه للإلحاق هو في بحث ( النّسب ) في إلحاق مجهول النّسب بمن ادّعاه بشروطه ، فليرجع لتفصيله إلى تلك المواضع .
إلزام *
التّعريف :
1 - الإلزام مصدر ألزم المتعدّي بالهمزة ، وهو من لزم ، يقال : لزم يلزم لزوماً : ثبت ودام ، وألزمته : أثبتّه وأدمته ، وألزمته المال والعمل وغيره فالتزمه ، ولزمه المال : وجب عليه ، وألزمه إيّاه فالتزمه .
ويقول الرّاغب : الإلزام ضربان : إلزام بالتّسخير من اللّه تعالى أو من الإنسان ، وإلزام بالحكم والأمر ، نحو قوله تعالى : { أنلزمكموها وأنتم لها كارهون } وقوله { وألزمهم كلمة التّقوى } . فيكون معنى الإلزام : الإيجاب على الغير .
ولا يخرج الفقهاء في استعمالهم عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
الإيجاب :
2 - وجب الشّيء يجب وجوباً أي : لزم ، وأوجبه هو وأوجبه اللّه تعالى . وفي حديث عمر رضي الله عنه أنّه أوجب نجيباً ، أي أهداه في حجٍّ أو عمرةٍ كأنّه ألزم نفسه به ، وأوجبه إيجاباً أي ألزمه .
وقد فرّق أبو هلالٍ العسكريّ بين الإيجاب والإلزام فقال : الإلزام يكون في الحقّ والباطل ، يقال : ألزمته الحقّ والباطل . والإيجاب لا يستعمل إلاّ فيما هو حقّ ، فإن استعمل في غيره فهو مجاز ، والمراد به الإلزام .
الإجبار والإكراه :
3 - الإجبار والإكراه هما الحمل على الشّيء قهراً ، والإلزام قد يكون بالقهر وهو ما يسمّى بالإلزام الحسّيّ ، وقد يكون بدونه .
الالتزام :
4 - الالتزام هو : إلزام الشّخص نفسه شيئاً من المعروف .
فالالتزام يكون من الإنسان على نفسه كالنّذر والوعد ، والإلزام يكون منه على الغير كإنشاء الإلزام من القاضي . والالتزام يكون واقعاً على الشّيء ، يقال : التزمت العمل ، والإلزام يقع على الشّخص ، يقال : ألزمت فلاناً المال .
الحكم الإجماليّ :
5 - الأصل امتناع الإلزام من النّاس بعضهم لبعضٍ لما فيه من التّسلّط ، وإنّما يكون الإلزام من اللّه تعالى لعباده ومخلوقاته ، إمّا بطريق التّسخير ، وإمّا بطريق الحكم والأمر .
وقد يقع الإلزام من النّاس بعضهم لبعضٍ بتسليط اللّه تعالى ، وذلك بطريق الولاية سواء أكانت خاصّةً أم عامّةً ، وحينئذٍ قد يكون الإلزام واجباً ، فإنّ الإمام يجب عليه إلزام النّاس بالأخذ بشريعة الإسلام ، وله سلطة إلزامهم بالقوّة وحملهم على فعل الواجبات وترك المحرّمات . ولقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « والّذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطبٍ فيحطب ، ثمّ آمر بالصّلاة فتقام ، ثمّ آمر رجلاً فيصلّي بالنّاس ، ثمّ أنطلق معي برجالٍ معهم حزم من حطبٍ إلى قومٍ لا يشهدون الصّلاة فأحرّق عليهم بيوتهم بالنّار » .
وقد قاتل أبو بكرٍ رضي الله تعالى عنه مانعي الزّكاة . ومن امتنع من أداء حقوق الآدميّين من ديون وغيرها أخذت منه جبراً إذا أمكن ، ويحبس بها إذا تعذّرت ، إلاّ أن يكون معسراً فينظر إلى ميسرته .
بل إنّ الشّعائر الّتي ليست بفرضٍ ، فإنّ للإمام إلزام النّاس بها كما إذا اجتمع أهل بلدٍ على ترك الأذان ، فإنّ الإمام أو نائبه يقاتلهم ، لأنّه من شعائر الإسلام الظّاهرة . وكذلك القاضي والمحتسب لهم هذا الحقّ فيما وكّل إليهم .
وقد يكون الإلزام حراماً ، وذلك في الأمر بالظّلم ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق » ، وعلى ذلك فمن أمره الوالي بقتل رجلٍ ظلماً أو قطعه أو جلده أو أخذ ماله أو بيع متاعه فلا يفعل شيئاً من ذلك .
وقد يكون الإلزام جائزاً كإلزام الوالي بعض النّاس بالمباحات لمصلحةٍ يراها ، وإلزام الرّجل زوجته بالامتناع عن مباحٍ .
وقد يكون الإلزام مستحبّاً ، وذلك عندما يكون موضوعه مستحبّاً ، كإلزام الإمام رعيّته بالاجتماع على صلاة التّراويح في المساجد .
مواطن البحث
6- تتعدّد مواطن الإلزام بتعدّد أسبابه ، فقد يكون بسبب الإكراه الملجئ على تفصيلٍ فيه . ( ر : إكراه ) .
ومن ذلك العقود الّتي يكون من آثارها الإلزام بعملٍ معيّنٍ كالبيع إذا تمّ ، فإنّه يترتّب عليه إلزام البائع بتسليم المبيع وإلزام المشتري بتسليم الثّمن . وكالإجارة إذا تمّت يترتّب عليها إلزام المستأجر بالقيام بالعمل ( ر : عقد - بيع - إجارة ) .
إلغاء *
التّعريف :
1 - الإلغاء مصدر ألغيت الشّيء أي : أبطلته ، ومنه الأثر عن ابن عبّاسٍ أنّه كان يلغي طلاق المكره ، أي يبطله .
ويعرّفه الأصوليّون بقولهم : وجود الحكم بدون الوصف صورةً ، وحاصله عدم تأثير الوصف أي العلّة .
ويأتي الإلغاء عند الفقهاء بمعنى : الإبطال والإسقاط والفساد والفسخ ، غير أنّه لا بدّ في تحقّق الإلغاء من قيام الحقّ أو الملك الّذي يراد إلغاؤه ، إذ لا يصحّ إلغاء فعلٍ أو شيءٍ لم يوجد .
ويطلقه الأصوليّون في تقسيم المصالح إلى معتبرةٍ ، ومرسلةٍ ، وملغاةٍ ، ويقصدون بهذه الأخيرة ما أبطله الشّرع ، كإلغاء ما في الخمر والميسر والرّبا من مصالح .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإبطال :
2 - الإبطال في اللّغة : إفساد الشّيء وإزالته حقّاً كان ذلك الشّيء أو باطلاً ، قال اللّه تعالى : { ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل } .
وشرعاً : الحكم على الشّيء بالبطلان ، ويأتي على ألسنة الفقهاء بمعنى الفسخ والإسقاط والنّقص والإلغاء .
وهو بهذا يكون بمعنى الإلغاء ، إلاّ أنّ الإبطال قد يقع قبل وجود الشّيء ، ولا يكون الإلغاء إلاّ بعد وجود الشّيء أو فعله .
ب - الإسقاط :
3 - من معاني الإسقاط لغةً : الإزالة ، وهو في اصطلاح الفقهاء : إزالة الملك أو الحقّ لا إلى مالكٍ أو مستحقٍّ ، كالطّلاق فإنّه إزالة ملك النّكاح ، وكالعتق فإنّه إزالة ملك الرّقبة . وعلى هذا يوافق الإلغاء في كونه لا بدّ من قيام الملك والحقّ الّذي يراد إسقاطه أو إلغاؤه حتّى يتحقّق الإسقاط والإلغاء ، فيقال أسقط عنه الرّقّ : ألغاه ، كما أنّهما يكونان بعوضٍ وبغير عوضٍ .
ج - الفسخ :
4 - الفسخ لغةً : النّقض ، يقال فسخ الشّيء يفسخه فسخاً فانفسخ أي : نقضه فانتقض ، وتفاسخت الأقاويل : تناقضت .
ويطلق اصطلاحاً على حلّ ارتباط العقد والتّصرّف وقلب كلّ واحدٍ من العوضين لصاحبه ، وهو بهذا يكون فيه معنى الإلغاء والإبطال .
وقد يعبّر الفقهاء في المسألة الواحدة تارةً بالإلغاء والإبطال ، وتارةً بالفسخ . غير أنّ الفسخ غالباً ما يكون في العقود ، ويقلّ في العبادات ، ومنه : فسخ الحجّ إلى العمرة ، وفسخ نيّة الفرض إلى النّفل ، غير أنّه يكون في العقود قبل تمامها ، وعند تمامها بشروطٍ مثل خيار الشّرط وخيار الرّؤية وخيار العيب والإقالة .
الحكم الإجماليّ :
5 - أجاز العلماء إلغاء التّصرّفات والعقود غير اللّازمة من جانب العاقدين ، أمّا في العقود اللّازمة من جانبٍ واحدٍ فإنّه يصحّ الإلغاء من الجانب الآخر غير الملتزم به كالوصيّة .
وأمّا في العقود والتّصرّفات الملزمة فلا يرد عليها الإلغاء بعد نفاذها إلاّ برضي العاقدين ، كما في الإقالة ، أو بوجود سببٍ مانعٍ من استمرار العقد كظهور الرّضاع بين الزّوج والزّوجة ، وقد يكون هنا الإلغاء بمعنى الفسخ .
الإلغاء في الشّروط :
6 - تنقسم الشّروط بالنّسبة إلى الإلغاء إلى أقسامٍ :
منها شروط يلغى بها العقد مطلقاً ، لمخالفتها نصّاً من كتابٍ أو سنّةٍ ، كما لو أقرض واشترط رباً على القرض .
ومنها شروط لاغية ولا تبطل العقد ، كما إذا باع ثوباً على ألاّ يبيعه المشتري أو لا يهبه ، جاز البيع ويلغى الشّرط كما هو الصّحيح عند الحنفيّة .
وشروط غير لاغيةٍ تصحّ ويصحّ بها العقد ، لأنّها توثيق للعقد ، كما إذا اشترط رهناً أو كفيلاً بالبيع .