تسميتها باسمٍ حسنٍ :
5 - من السّنّة تسمية المولود باسمٍ حسنٍ ، ويستوي في ذلك الذّكر والأنثى ، وكما كان النّبيّ يغيّر أسماء الذّكور من القبيح إلى الحسن ، فإنّه كذلك كان يغيّر أسماء الإناث من القبيح إلى الحسن ، فقد روى البخاريّ ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما « أنّ ابنةً لعمر رضي الله تعالى عنه كان يقال لها عاصية فسمّاها النّبيّ صلى الله عليه وسلم جميلة » . والكنية من الأمور المحمودة ، يقول النّوويّ : من الأدب أن يخاطب أهل الفضل ومن قاربهم بالكنية ، وقد كنّي النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأبي القاسم ، بابنه القاسم .
والكنية كما تكون للذّكر تكون للأنثى . قال النّوويّ : روينا بالأسانيد الصّحيحة في سنن أبي داود وغيره عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت : « يا رسول اللّه كلّ صواحبي لهنّ كنًى ، قال : فاكتنّي بابنك عبد اللّه » قال الرّاوي . يعني عبد اللّه بن الزّبير وهو ابن أختها أسماء بنت أبي بكرٍ ، وكانت عائشة تكنّى أم عبد اللّه .
لها نصيب في الميراث :
6 - جعل اللّه سبحانه وتعالى للأنثى نصيباً في الميراث كما للذّكر نصيب ، وقد كانوا في الجاهليّة لا يورّثون الإناث . قال سعيد بن جبيرٍ وقتادة : كان المشركون يجعلون المال للرّجال الكبار ولا يورّثون النّساء ولا الأطفال شيئاً ، فأنزل اللّه تعالى : { لِلرّجالِ نصيبٌ ممّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأقربونَ وللنّساءِ نصيبٌ ممّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأقربونَ مِمّا قلّ منه أو كَثُرَ نصيباً مفروضاً } أي الجميع فيه سواء في حكم اللّه تعالى يستوون في أصل الوراثة وإن تفاوتوا بحسب ما فرض اللّه لكلٍّ منهم .
وقال الماورديّ في تفسيره : سبب نزول هذه الآية أنّ أهل الجاهليّة كانوا يورّثون الذّكور دون الإناث ، فروى ابن جريجٍ عن عكرمة قال : « نزل قول اللّه تعالى : { للرّجال نصيب } . الآية في أمّ كجّة وبناتها وثعلبة وأوس بن سويدٍ وهم من الأنصار ، وكان أحدهما زوجها والآخر عمّ ولدها ، فقالت : يا رسول اللّه توفّي زوجي وتركني وابنته ولم نُوَرّثْ ، فقال عمّ ولدها يا رسول اللّه : ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلّاً ، ولا يَنْكأ عدوّاً يُكْسب عليها ولا تَكْسِب فنزلت هذه الآية » .
وورد كذلك في سبب نزول قوله تعالى : { يُوصيكم اللّهُ في أولادِكم لِلذّكرِ مثْلُ حَظِّ الأُنثيين } ما روي عن جابرٍ قال : « جاءت امرأة سعد بن الرّبيع إلى رسول اللّه فقالت : يا رسول اللّه هاتان ابنتا سعد بن الرّبيع ، قتل أبوهما معك في يوم أحدٍ شهيداً ، وإنّ عمّهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً ، ولا ينكحان إلاّ ولهما مال فقال : يقضي اللّه في ذلك ، فنزلت آية الميراث ، فأرسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى عمّهما فقال : أعط ابنتي سعدٍ الثّلثين ، وأمّهما الثّمن ، وما بقي فهو لك » .
رعاية طفولتها ، وعدم تفضيل الذّكر عليها :
7 - يعتني الإسلام بالأنثى في كلّ أطوار حياتها فيرعاها وهي طفلة ، ويجعل رعايتها ستراً من النّار وسبيلاً إلى الجنّة . فقد روى مسلم والتّرمذيّ عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من عال جارتين حتّى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو ، وضمّ أصابعه » .
ولا يجوز أن يفضّل الذّكر عليها في التّربية والعناية ، فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم :« من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده ( يعني الذّكور) عليها أدخله اللّه الجنّة » . وعن أنسٍ « أنّ رجلاً كان جالساً مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فجاء ابن له فقبّله وأجلسه في حجره ، ثمّ جاءت بنته فأخذها فأجلسها إلى جنبه فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : فما عَدَلْتَ بينهما » . وفي الفتاوى الهنديّة : لا يجوز تفضيل الذّكر على الأنثى في العطيّة ، وقال المالكيّة : يبطل الوقف إذا وقف على بنيه الذّكور دون بناته ، لأنّه من عمل الجاهليّة . وتشمل العناية بها في طفولتها تأهيلها لحياتها المستقبلة ، فيستثنى ممّا يحرم من الصّور صور لعب البنات فإنّها لا تحرم ، ويجوز استصناعها وصنعها وبيعها وشراؤها لهنّ ، لأنّهنّ يتدرّبن بذلك على رعاية الأطفال ، وقد « كان لعائشة رضي الله تعالى عنها جوارٍ يلاعبنها بصور البنات المصنوعة من نحو خشبٍ ، فإذا رأين الرّسول صلى الله عليه وسلم يستحين منه ويتقمّعن ، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يشتريها لها » . ( ر : تصوير ) .
إكرام الأنثى حين تكون زوجةً :
8 - أمر اللّه تعالى بإحسان معاشرة الزّوجة فقال : { وعاشِرُوهُنَّ بالمعروف } قال ابن كثيرٍ : أي طيّبوا أقوالكم لهنّ ، وحسّنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم ، كما تحبّ ذلك منها فافعل أنت بها مثله ، قال تعالى : { ولهنّ مِثْلُ الّذي عليهنّ بالمعروف } . وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي » ، وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنّه جميل العشرة دائم البشر ، يداعب أهله ويتلطّف بهم ويوسّع عليهم في النّفقة ويضاحك نساءه ، حتّى أنّه كان يسابق عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها يتودّد إليها بذلك ، « قالت : سابقني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسبقته وذلك قبل أن أحمل اللّحم ، ثمّ سابقته بعدما حملت اللّحم فسبقني فقال : هذه بتلك » ، و « كان إذا صلّى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام » .
وينبغي الصّبر على الزّوجة حتّى لو كرهها ، قال اللّه تعالى : { فإنْ كَرِهْتمُوهنّ فعسى أن تَكْرهوا شيئاً ويجعَلَ اللّه فيه خيراً كثيراً } قال ابن كثيرٍ ، أي فعسى أن يكون صبركم في إمساكهنّ مع الكراهة فيه خير كثير لكم في الدّنيا والآخرة ، كما قال ابن عبّاسٍ : هو أن يعطف عليها فيرزق منها ولداً ويكون في ذلك الولد خير كثير ، وفي الحديث الصّحيح : « لا يفرك مؤمن مؤمنةً ، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر » .
هذا ، وحقوق الزّوجة على زوجها مبسوطة في باب النّكاح من كتب الفقه ، ونذكر هنا مثلاً واحداً ممّا ذكره الفقهاء ، يتّصل بإكرام أمومة الأنثى ، فقد أكثر النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الوصاية بالأمّ وقدّمها في الرّعاية على الأب ، روى البخاريّ ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : « جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه مَنْ أحقّ بِحُسْن صحابتي ؟ قال : أمّك ، قال : ثمّ من ؟ قال : أمّك ، قال : ثمّ من ؟ قال : أمّك ، قال : ثمّ من ؟ قال : أبوك » . وجعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم رضاها طريقاً إلى الجنّة ، فقد قال رجل : « يا رسول اللّه أردت الغزو وجئت أستشيرك ، فقال : فهل لك من أمٍّ ؟ قال : نعم ، قال : فالزمها ، فإنّ الجنّة عند رجليها » .
ثانياً : الحقوق الّتي تتساوى فيها مع الرّجل :
تتساوى المرأة والرّجل في كثيرٍ من الحقوق العامّة مع التّقييد في بعض الفروع بما يتلاءم مع طبيعتها . وفيما يأتي بعض هذه الحقوق :
أ - حقّ التّعليم :
9- للمرأة حقّ التّعليم مثل الرّجل : فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « طلب العلم فريضة على كلّ مسلمٍ » . وهو يصدق على المسلمة أيضاً ، فقد قال الحافظ السّخاويّ : قد ألحق بعض المصنّفين بآخر هذا الحديث ( ومسلمةٍ ) وليس لها ذكر في شيءٍ من طرقه وإن كان معناها صحيحاً .
وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من كانت له بنت فأدّبها فأحسن أدبها ، وعلّمها فأحسن تعليمها ، وأسبغ عليها من نعم اللّه الّتي أسبغ عليه كانت له ستراً أو حجاباً من النّار » . وقد كان النّساء في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسعين إلى العلم . روى البخاريّ عن أبي سعيدٍ الخدريّ قال : « قالت النّساء للنّبيّ صلى الله عليه وسلم : غلبنا عليك الرّجال فاجعل لنا يوماً من نفسك ، فواعدهنّ يوماً لقيهنّ فيه فوعظهنّ وأمرهنّ » . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « نعم النّساء نساء الأنصار لم يمنعهنّ الحياء أن يتفقّهن في الدّين » . وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « مروا أولادكم بالصّلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشرٍ ، وفرّقوا بينهم في المضاجع » .
قال النّوويّ : والحديث يتناول بمنطوقه الصّبيّ والصّبيّة ، وأنّه لا فرق بينهما بلا خلافٍ ، ثمّ قال النّوويّ : قال الشّافعيّ والأصحاب رحمهم اللّه تعالى : على الآباء والأمّهات تعليم أولادهم الصّغار الطّهارة والصّلاة والصّوم ونحوها ، وتعليمهم تحريم الزّنى واللّواط والسّرقة ، وشرب المسكر والكذب والغيبة وشبهها ، وأنّهم بالبلوغ يدخلون في التّكليف ، وهذا التّعليم واجب على الصّحيح ، وأجرة التّعليم تكون في مال الصّبيّ ، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته ، وقد جعل الشّافعيّ والأصحاب للأمّ مدخلاً في وجوب التّعليم ، لكونه من التّربية وهي واجبة عليها كالنّفقة .
ومن العلوم غير الشّرعيّة ما يعتبر ضرورةً بالنّسبة للأنثى كطبّ النّساء حتّى لا يطّلع الرّجال على عورات النّساء . جاء في الفتاوى الهنديّة : امرأة أصابتها قرحة في موضعٍ لا يحلّ للرّجل أن ينظر إليه ، لا يحلّ أن ينظر إليها ، لكن يعلّم امرأةً تداويها ، فإن لم يجدوا امرأةً تداويها ولا امرأةً تتعلّم ذلك إذا علّمت ، وخيف عليها البلاء أو الوجع أو الهلاك فإنّه يستر منها كلّ شيءٍ إلاّ موضع تلك القرحة ، ثمّ يداويها الرّجل ، ويغضّ بصره ما استطاع إلاّ عن ذلك الموضع .
10- وإذن ، فلا خلاف في مشروعيّة تعليم الأنثى . لكن في الحدود الّتي لا مخالفة فيها للشّرع وذلك من النّواحي الآتية :
أ - أن تحذر الاختلاط بالشّباب في قاعات الدّرس ، فلا تجلس المرأة بجانب الرّجل ، « فقد جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم للنّساء يوماً غير يوم الرّجال يعظهنّ فيه » ، بل حتّى في العبادة لا يخالطن الرّجال ، بل يكن في ناحيةٍ منهم يستمعن إلى الوعظ ويؤدّين الصّلاة ، ولا يجب استحداث مكان خاصٍّ لصلاتهنّ ، أو إقامة حاجزٍ بين صفوفهنّ وصفوف الرّجال .
ب - أن تكون محتشمةً غير متبرّجةً بزينتها لقول اللّه تعالى : { ولا يُبْدِين زِينَتَهنّ إلاّ ما ظَهَرَ منها } وفي اتّباع ذلك ما يمنع من الفتنة ومن إشاعة الفساد .
ب - أهليّتها للتّكاليف الشّرعيّة :
11 - المرأة أهل للتّكاليف الشّرعيّة مثل الرّجل ، ووليّ أمرها مطالب بأمرها بأداء العبادات ، وتعليمها لها منذ الصّغر ، لما جاء في قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « مروا أولادكم بالصّلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشرٍ ، وفرّقوا بينهم في المضاجع » والحديث يتناول الأنثى بلا خلافٍ كما قال النّوويّ .
وهي بعد البلوغ مكلّفة بالعبادات من صلاةٍ وصومٍ وزكاةٍ وحجٍّ ، وليس لأحدٍ - زوجٍ أو غيره - منعها من أداء الفرائض . فجملة العقائد والعبادات والأخلاق والأحكام الّتي شرعها اللّه للإنسان يستوي في التّكليف بها والجزاء عليها الذّكر والأنثى .
يقول اللّه تعالى : { مَنْ عمل صالحاً مِنْ ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فَلَنُحْيِيَنّهُ حياةً طَيّبةً وَلَنَجزِينّهم أجرَهم بأحسنِ ما كانوا يعملون } . ويؤكّد اللّه سبحانه وتعالى هذا المعنى في قوله : { إنّ المسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ والقانتينَ والقانتاتِ والصّادقينَ والصّادقاتِ والصّابرينَ والصّابراتِ والخاشعينَ والخاشعاتِ والمتصدّقينَ والمتصدّقاتِ والصّائمينَ والصّائماتِ والحافظينَ فروجَهُم والحافظاتِ والذّاكرينَ اللّه كثيراً والذّاكراتِ أعدّ اللّه لهم مغفرةً وأجراً عظيماً } ويروى في سبب نزول هذه الآية أنّ ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال : « قال النّساء للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ما له يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات ، فنزلت » . وعن أمّ سلمة أنّها قالت : « قلت يا رسول اللّه : أيذكر الرّجال في كلّ شيءٍ ولا نذكر ؟! ، فنزلت هذه الآية » .
وفي استجابة اللّه تعالى لسؤال المؤمنين قال : { فاستجابَ لهم ربُّهم أَنّي لا أُضِيعُ عملَ عاملٍ منكم مِنْ ذكرٍ أو أنثى بعضُكم من بعضٍ } . ولقد روي في سبب نزولها ما روي في سبب نزول الآية السّابقة ، ويقول ابن كثيرٍ : { بعضكم من بعضٍ } أي جميعكم في ثوابي سواء . وبيّن اللّه سبحانه وتعالى أنّ الّذي يؤذي المؤمنات هو في الإثم كمن يؤذي المؤمنين ، يقول اللّه تعالى { والّذين يُؤْذُون المؤمنينَ والمؤمناتِ بغيرِ ما اكتسبوا فقد احتَمَلوا بُهتاناً وإثْماً مبيناً } .
وهي مطالبة بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر كالرّجل ، يقول اللّه تعالى : { والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضُهم أولياءُ بعضٍ يأمرونَ بالمعروفِ ويَنْهون عن المنكر ويقيمونَ الصّلاةَ ويُؤْتون الزّكاةَ ويُطيعونَ اللّهَ ورسولَه أولئك سَيَرْحمهم اللّهُ إنّ اللّهَ عزيزٌ حكيمٌ } .
والجهاد كذلك يتعيّن على المرأة إذا هاجم العدوّ البلاد . يقول الفقهاء : إذا غشي العدوّ محلّة قومٍ كان الجهاد فرض عينٍ على الجميع ذكوراً وإناثاً وتخرج المرأة بغير إذن الزّوج ، لأنّ حقّ الزّوج لا يظهر في مقابلة فرض العين .
وقد خفّف اللّه عنها في العبادات في فترات تعبها من الحيض والحمل والنّفاس والرّضاع . وتنظر الأحكام الخاصّة بذلك في ( حيض ، حمل ، نفاس ، رضاع ) .
ج - احترام إرادتها :
12 - للأنثى حرّيّة الإرادة والتّعبير عمّا في نفسها ، وقد منحها اللّه سبحانه وتعالى هذا الحقّ الّذي سلبته منها الجاهليّة وحرمتها منه ، فقد كانت حين يموت زوجها لا تملك من أمر نفسها شيئاً ، وكان يرثها من يرث مال زوجها . روى البخاريّ عن ابن عبّاسٍ في قوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا يَحلّ لكم أن تَرِثُوا النّساءَ كَرْهاً } قال : كانوا إذا مات الرّجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوّجها وإن شاءوا زوّجوها ، وإن شاءوا لم يزوّجوها فهم أحقّ بها من أهلها . فنزلت هذه الآية ، وقال زيد بن أسلم كان أهل يثرب إذا مات الرّجل منهم في الجاهليّة ورث امرأته من يرث ماله ، وكان يعضلها حتّى يرثها أو يزوّجها من أراد ، وكان أهل تهامة يسيء الرّجل صحبة المرأة حتّى يطلّقها ويشترط عليها ألاّ تنكح إلاّ من أراد حتّى تفتدي منه ببعض ما أعطاها ، فنهى اللّه المؤمنين عن ذلك .
وقال ابن جريجٍ : نزلت هذه الآية في كبيشة بنت معن بن عاصم بن الأوس ، توفّي عنها أبو قيس بن الأسلت ، فجنح عليها ابنه ، فجاءت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالت : « يا رسول اللّه لا أنا ورثت زوجي ، ولا أنا تركت فأنكح ، فأنزل اللّه هذه الآية » .
قال ابن كثيرٍ : فالآية تعمّ ما كان يفعله أهل الجاهليّة ، وكلّ ما كان فيه نوع من ذلك .
وإرادتها كذلك معتبرة في نكاحها ، فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاريّ : « لا تنكح الأيّم حتّى تُسْتَأْمر ، ولا تنكح البكر حتّى تُسْتَأذن » .
والاستئمار في حقّ الثّيّب الكبيرة العاقلة واجب باتّفاق الفقهاء ، وإذا زوّجت بغير إذنها فنكاحها موقوف على إجازتها ، على ما هو معلوم في باب النّكاح .
وهو في حقّ البكر البالغة العاقلة مستحبّ عند جمهور الفقهاء .
روي عن عطاءٍ قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستأمر بناته إذا أنكحهنّ » . واستئذانها واجب عند الحنفيّة . بل إنّها يجوز لها تزويج نفسها عند الحنفيّة . جاء في الاختيار : عبارة النّساء معتبرة في النّكاح ، حتّى لو زوّجت الحرّة العاقلة البالغة نفسها جاز ، وكذلك لو زوّجت غيرها بالولاية أو الوكالة ، وكذا إذا وكّلت غيرها في تزويجها ، أو زوّجها غيرها فأجازت ، وهذا قول أبي حنيفة وزفر والحسن وظاهر الرّواية عن أبي يوسف ، ويستدلّون بما في البخاريّ « أنّ خنساء بنت حزامٍ أنكحها أبوها وهي كارهة ، فردّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم » وروي أنّ امرأةً زوّجت بنتها برضاها فجاء الأولياء وخاصموها إلى عليٍّ رضي الله تعالى عنه فأجاز النّكاح . هذا دليل الانعقاد بعبارة النّساء ، وأنّه أجاز النّكاح بغير وليٍّ ، لأنّهم كانوا غائبين ، لأنّها تصرّفت في خالص حقّها ، ولا ضرر فيه لغيرها فينفذ ، كتصرّفها في مالها .
هذا ما انفرد به الحنفيّة ، وتفصيل الخلاف في هذا ينظر في ( نكاحٍ ) .
وللمرأة أيضاً مشاركة زوجها الرّأي بل ومعارضته ، قال عمر بن الخطّاب : « واللّه إن كنّا في الجاهليّة ما نعدّ للنّساء أمراً ، حتّى أنزل اللّه فيهنّ ما أنزل ، وقسم لهنّ ما قسم ، قال : فبينا أنا في أمرٍ أتأمّره إذ قالت امرأتي : لو صنعت كذا وكذا ، قال : فقلت لها : ما لك ولما ها هنا ، فيما تكلُّفك في أمرٍ أريده ؟ فقالت لي : عجباً لك يا ابن الخطّاب ، ما تريد أن تراجع أنت ، وإنّ ابنتك لتراجع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتّى يظلّ يومه غضبان . فقام عمر فأخذ رداءه مكانه حتّى دخل على حفصة ، فقال لها : يا بنيّة إنّك لتراجعين رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتّى يظلّ يومه غضبان ؟ فقالت حفصة : واللّه إنّا لنراجعه . فقلت : تعلمين أنّي أحذّرك عقوبة اللّه ، وغضب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . يا بنيّة لا يغرّنّك هذه الّتي أعجبها حسنها حبّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إيّاها - يريد عائشة - قال : خرجت حتّى دخلت على أمّ سلمة لقرابتي منها فكلّمتها ، فقالت أمّ سلمة : عجباً لك يا ابن الخطّاب ، دخلت في كلّ شيءٍ ، حتّى تبتغي أن تدخل بين رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأزواجه . فأخذتني واللّه أخذاً كسرتني عن بعض ما كنت أجد ، فخرجت من عندها ، وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر ، وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر ، ونحن نتخوّف ملكاً من ملوك غسّان ذكر لنا أنّه يريد أن يسير إلينا ، فقد امتلأت صدورنا منه ، فإذا صاحبي الأنصاريّ يدقّ الباب ، فقال : افتح افتح ، فقلت : جاء الغسّانيّ ؟ فقال : بل أشدّ من ذلك ، اعتزل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أزواجه ، فقلت رغم أنف حفصة وعائشة . فأخذت ثوبي ، فأخرج حتّى جئت ، فإذا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في مشربةٍ له يرقى عليها بعجلةٍ ، وغلام لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم أسود على رأس الدّرجة ، فقلت له : قل هذا عمر بن الخطّاب . فأذن لي . قال عمر : فقصصت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هذا الحديث ، فلمّا بلغت حديث أمّ سلمة تبسّم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وإنّه لعلى حصيرٍ ما بينه وبينه شيء ، وتحت رأسه وسادة من أَدَمٍ حشوها ليف ، وإن عند رجليه قَرَظاً مصبوباً ، وعند رأسه أهب معلّقة ، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت ، فقال : ما يبكيك ؟ فقلت : يا رسول اللّه ، إنّ كسرى وقيصر فيما هما فيه ، وأنت رسول اللّه ، فقال : أمّا ترضى أن تكون لهم الدّنيا ولنا الآخرة ؟ »
واستشارة المرأة فيما يتّصل بشئون النّساء أو فيما لديها خبرة به مطلوبة ، بأصل ندب المشورة في قوله تعالى : { وأَمْرُهم شورى بينهم } ولحديث أمّ سلمة أنّه : « لمّا فرغ النّبيّ صلى الله عليه وسلم من كتاب الصّلح قال لأصحابه : قوموا فانحروا ثمّ احلقوا ، فما قام منهم رجل حتّى قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرّاتٍ ، فلمّا لم يقم منهم أحد دخل على أمّ سلمة فذكر لها ما لقي من النّاس ، قالت له : يا نبيّ اللّه أتحبّ ذلك ؟ اخرج ثمّ لا تكلّم أحداً منهم كلمةً ، حتّى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلم يكلّم أحداً منهم حتّى فعل ذلك ، نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه ، فلمّا رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً » .
وللمرأة أن تعقد الأمان مع الكفّار ، ويسري ذلك على المسلمين ، ففي المغني : إذا أعطت المرأة الأمان للكفّار جاز عقدها ، وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز ، وعن أمّ هانئٍ أنّها قالت : « يا رسول اللّه إنّي أجرت أحمائي وأغلقت عليهم ، وإنّ ابن أمّي أراد قتلهم ، فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : قد أجرنا من أجرت يا أمّ هانئٍ » ، « وأجارت زينب بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زوجها أبا العاص بن الرّبيع قبل أن يسلم فأمضاه رسول اللّه » .
د - ذمّتها الماليّة :
13 - للأنثى ذمّة ماليّة مستقلّة كالرّجل ، وحقّها في التّصرّف في مالها أمر مقرّر في الشّريعة ما دامت رشيدةً ، لقوله تعالى : { فإن آنَسْتم منهم رُشْداً فادفعوا إليهم أموالَهم } . ولها أن تتصرّف في مالها كلّه عن طريق المعاوضة بدون إذنٍ من أحدٍ ، وهذا باتّفاق الفقهاء . أمّا تصرّفها في مالها عن طريق التّبرّع به ، فعند جمهور الفقهاء : يجوز لها التّصرّف في كلّ مالها بالتّبرّع عند الحنفيّة والشّافعيّة وابن المنذر وروايةٍ عن الإمام أحمد ، لما روي أنّ النّبيّ قال : « يا معشر النّساء تصدّقن ولو من حُليّكنّ » وأنّهنّ تصدّقن فقبل صدقتهنّ ، ولم يسأل ولم يستفصل . ولهذا جاز لها التّصرّف بدون إذنٍ لزوجها في مالها ، فلم يملك الحجر عليها في التّصرّف بجميعه .
وعند الإمام مالكٍ ، وفي روايةٍ عن الإمام أحمد : أنّه يجوز لها التّبرّع في حدود الثّلث ، ولا يجوز لها التّبرّع بزيادةٍ على الثّلث إلاّ بإذن زوجها .
ولأنّ للمرأة ذمّةً ماليّةً مستقلّةً فقد أجاز الفقهاء لها أن تضمن غيرها ، جاء في المغني : يصحّ ضمان كلّ جائز التّصرّف في ماله ، سواء كان رجلاً أو امرأةً ، لأنّه عمد يقصد به المال ، فصحّ من المرأة كالبيع .
وهذا عند من يجيز لها التّبرّع بكلّ مالها ، أمّا من لا يجيز لها التّبرّع بأكثر من الثّلث إلاّ بإذن زوجها ، فإنّهم يجيزون لها الضّمان في حدود ثلث مالها أو بزائدٍ يسيرٍ باعتبار أنّ الضّمان من التّبرّعات ، وأمّا ما زاد على الثّلث فإنّه يصحّ ويتوقّف على إجازة الزّوج .
هـ- حقّ العمل :
14 – الأصل أنّ وظيفة المرأة الأولى هي إدارة بيتها ورعاية أسرتها وتربية أبنائها وحسن تبعّلها ، يقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « المرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيّتها » . وهي غير مطالبةٍ بالإنفاق على نفسها ، فنفقتها واجبة على أبيها أو زوجها ، لذلك كان مجال عملها هو البيت ، وعملها في البيت يساوي عمل المجاهدين .
ومع ذلك فالإسلام لا يمنع المرأة من العمل فلها أن تبيع وتشتري ، وأن توكّل غيرها ، ويوكّلها غيرها ، وأن تتاجر بمالها ، وليس لأحدٍ منعها من ذلك ما دامت مراعيةً أحكام الشّرع وآدابه ، ولذلك أبيح لها كشف وجهها وكفّيها ، قال الفقهاء : لأنّ الحاجة تدعو إلى إبراز الوجه للبيع والشّراء ، وإلى إبراز الكفّ للأخذ والإعطاء .
وفي الاختيار : لا ينظر الرّجل إلى الحرّة الأجنبيّة إلاّ إلى الوجه والكفّين .. ، لأنّ في ذلك ضرورةً للأخذ والإعطاء ومعرفة وجهها عند المعاملة مع الأجانب ، لإقامة معاشها ومعادها لعدم من يقوم بأسباب معاشها .
والنّصوص الدّالّة على جواز عمل المرأة كثيرة ، والّذي يمكن استخلاصه منها ، أنّ للمرأة الحقّ في العمل بشرط إذن الزّوج للخروج ، إن استدعى عملها الخروج وكانت ذات زوجٍ ، ويسقط حقّه في الإذن إذا امتنع عن الإنفاق عليها .
جاء في نهاية المحتاج : إذا أعسر الزّوج بالنّفقة وتحقّق الإعسار فالأظهر إمهاله ثلاثة أيّامٍ ، ولها الفسخ صبيحة الرّابع ، وللزّوجة - وإن كانت غنيّةً - الخروج زمن المهلة نهاراً لتحصيل النّفقة بنحو كسبٍ ، وليس له منعها لأنّ المنع في مقابل النّفقة .
وفي منتهى الإرادات : إذا أعسر الزّوج بالنّفقة خيّرت الزّوجة بين الفسخ وبين المقام معه مع منع نفسها ، فإن لم تمنع نفسها منه ومكّنته من الاستمتاع بها فلا يمنعها تكسّباً ، ولا يحبسها مع عسرته إذا لم تفسخ لأنّه إضرار بها وسواء كانت غنيّةً أو فقيرةً ، لأنّه إنّما يملك حبسها إذا كفاها المئونة وأغناها عمّا لا بدّ لها منه .
وكذلك إذا كان العمل من فروض الكفايات . جاء في فتح القدير : إن كانت المرأة قابلةً ، أو كان لها حقّ على آخر ، أو لآخر عليها حقّ تخرج بالإذن وبغير الإذن ، ومثل ذلك في حاشية سعدي جلبي عن مجموع النّوازل . إلاّ أنّ ابن عابدين بعد أن نقل ما في الفتح قال : وفي البحر عن الخانيّة تقييد خروجها بالإذن ، لأنّ حقّه مقدّم على فرض الكفاية .
هذا ، وإذا كان لها مال فلها أن تتاجر به مع غيرها ، كأن تشاركه أو تدفعه مضاربةً دون إذنٍ من أحدٍ . جاء في جواهر الإكليل : قراض الزّوجة أي دفعها مالاً لمن يتّجر فيه ببعض ربحه ، فلا يحجر عليها فيه اتّفاقاً ، لأنّه من التّجارة .
15 - ثمّ إنّها لو عملت مع الزّوج كان كسبها لها . جاء في الفتاوى البزّازيّة : أفتى القاضي الإمام في زوجين سعيا وحصّلا أموالاً أنّها له ، لأنّها معينة له ، إلاّ إذا كان لها كسب على حدةٍ فلها ذلك . وفي الفتاوى : امرأة معلّمة ، يعينها الزّوج أحياناً فالحاصل لها ، وفي التقاط السّنبلة إذا التقطا فهو بينهما أنصافاً .
كما أنّ للأب أن يوجّه ابنته للعمل : جاء في حاشية ابن عابدين : للأب أن يدفع ابنته لامرأةٍ تعلّمها حرفةً كتطريزٍ وخياطةٍ . وإذا عملت المرأة فيجب أن يكون في حدودٍ لا تتنافى مع ما يجب من صيانة العرض والعفاف والشّرف . ويمكن تحديد ذلك بما يأتي :
- 1 - ألاّ يكون العمل معصيةً كالغناء واللّهو ، وألاّ يكون معيباً مزرياً تعيّر به أسرتها . جاء في البدائع والفتاوى الهنديّة : إذا آجرت المرأة نفسها بما يعاب به كان لأهلها أن يخرجوها من تلك الإجارة ، وفي المثل السّائر : تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها ، وعن محمّدٍ رحمه الله تعالى في امرأةٍ نائحةٍ أو صاحب طبلٍ أو مزمارٍ اكتسب مالاً فهو معصية .
- 2 - ألاّ يكون عملها ممّا يكون فيه خلوة بأجنبيٍّ . جاء في البدائع : كره أبو حنيفة استخدام المرأة والاختلاء بها ، لما قد يؤدّي إلى الفتنة ، وهو قول أبي يوسف ومحمّدٍ ، أمّا الخلوة ، فلأنّ الخلوة بالأجنبيّة معصية ، وأمّا الاستخدام ، فلأنّه لا يؤمن معه الاطّلاع عليها والوقوع في المعصية . وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يخلونّ رجل بامرأةٍ إلاّ كان الشّيطان ثالثهما » ولأنّه لا يؤمن مع الخلوة مواقعة المحظور .
- 3 - ألاّ تخرج لعملها متبرّجةً متزيّنةً بما يثير الفتنة ، قال ابن عابدين : وحيث أبحنا لها الخروج فإنّما يباح بشرط عدم الزّينة وتغيير الهيئة إلى ما يكون داعيةً لنظر الرّجال والاستمالة ، قال اللّه تعالى : { ولا تَبرَّجْنَ تبرّجَ الجاهليّةِ الأولى } وقال تعالى : { ولا يُبْدِينَ زينَتَهنّ إلاّ ما ظهرَ منها } ، وفي الحديث : « الرّافلةُ في الزّينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها » .
ثالثاً : الأحكام الّتي تتعلّق بالأنثى :
للأنثى أحكام فقهيّة متنوّعة فمنها ما يختصّ بالعورة وما يتّصل بها ، ومنها الأحكام الّتي تترتّب على ارتباطها بزوجٍ ، ومنها الأحكام الخاصّة بالعبادات أو الولايات أو الجنايات .. وهكذا . وبيان ذلك فيما يأتي :
بول الأنثى الرّضيعة الّتي لم تأكل الطّعام :
16 - يختلف الحكم في إزالة نجاسة بول الأنثى الرّضيعة الّتي لم تأكل الطّعام عن بول الذّكر الرّضيع الّذي لم يأكل الطّعام ، وذلك عند الشّافعيّة والحنابلة . فيجزئ عندهم في التّطهير من بول الغلام نضحه بالماء ( أي أن يرشّه بالماء ) ولا يكفي ذلك في إزالة بول الأنثى ، بل لا بدّ من غسله كغيره من النّجاسات ، وذلك لحديث أمّ قيس بن محصنٍ « أنّها أتت بابنٍ لها صغيرٍ لم يأكل الطّعام إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأجلسه في حجره ، فبال على ثوبه ، فدعا بماءٍ فنضحه ولم يغسله » . متّفق عليه ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّما يُغْسل من بول الأنثى ، وينضح من بول الذّكر » .
أمّا الحنفيّة والمالكيّة فلا يفرّقون بينهما فيغسل ما أصابه بول كلٍّ من الصّبيّ أو الصّيّبة لنجاسته ، لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم : « استنزهوا من البول » .
الأحكام الّتي تتّصل بما تختصّ به من حيضٍ وحملٍ :
17- من الفطرة الّتي خلق اللّه سبحانه وتعالى الإنسان عليها أنّ كلّاً من الذّكور والإناث يميل إلى الآخر ، وجعل الاتّصال الشّرعيّ بينهما وسيلةً لامتداد الجنس البشريّ بالتّناسل والتّوالد . واختصّ الأنثى من ذلك بأنّها هي الّتي تحيض وتحمل وتلد وترضع .
وهذه الأمور يترتّب عليها بعض الأحكام الفقهيّة نوجزها فيما يلي :
- 1 - يعتبر الحيض والحمل من علامات بلوغ الأنثى .
- 2 - التّخفيف عنها في العبادة في هذه الأحوال ، فتسقط عنها الصّلاة أثناء الحيض دون قضاءٍ ، ويجب عليها الإفطار مع القضاء في أيّامٍ أخر ، وجواز الإفطار أثناء الحمل أو الرّضاعة ، إن كان الصّيام يضرّ بها أو بولدها .
- 3 - والاعتبار بالحيض وبالحمل في احتساب العدّة .
- 4 - والامتناع عن قراءة القرآن ، وعن دخول المسجد ، وعن تمكين زوجها منها أثناء الحيض والنّفاس .
- 5 - ووجوب الغسل عند انقطاع دم الحيض والنّفاس .
وهذا في الجملة ، وينظر تفصيل ذلك في ( حيضٍ ، حملٍ ، نفاسٍ ، رضاعٍ ) .
لبن الأنثى :
18 - لا يختلف لبن الأنثى بالنّسبة لطهارته عن لبن الذّكر - لو كان له لبن - فلبن الأنثى طاهر باتّفاقٍ . ولكنّه يختلف عنه في أنّ لبن الأنثى يتعلّق به محرميّة الرّضاع .
أمّا الرّجل فلو كان له لبن فلا يتعلّق به التّحريم . وللتّفصيل ينظر ( الرّضاع ، والنّكاح ) .
خصال الفطرة بالنّسبة للأنثى :
19 - تختصّ المرأة من خصال الفطرة بأنّه يسنّ لها إزالة لحيتها لو نبتت . والسّنّة في عانتها النّتف . ولا يجب ختانها في وجهٍ وإنّما هو مكرمة . وتمنع من حلق رأسها .
عورة الأنثى :
20 - يرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة أنّ بدن الأنثى الحرّة البالغة كلّه عورة بالنّسبة للصّلاة عدا الوجه والكفّين ، وهو الصّحيح من المذهب عند الحنابلة بالنّسبة للوجه ، وفي روايةٍ بالنّسبة للكفّين ، وفي الرّواية الأخرى هما عورة .
واختلف الحنفيّة في ظاهر الكفّين ، ففي ظاهر الرّواية هما عورة ، وفي شرح المنية : الأصحّ أنّهما ليسا بعورةٍ ، واعتمده الشّرنبلاليّ .
وأمّا القدمان فهما عورة عند المالكيّة والشّافعيّة غير المزنيّ ، وهو المذهب عند الحنابلة ، وهو رأي بعض الحنفيّة . والمعتمد عند الحنفيّة أنّهما ليستا بعورةٍ ، وهو رأي المزنيّ من الشّافعيّة ، والشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة من الحنابلة . وتفصيل ذلك في مصطلح ( عورةٍ ) . والدّليل على أنّ بدن المرأة عورة قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « المرأة عورة » وقوله : « لا يَقْبَل اللّه صلاة حائضٍ إلاّ بخمارٍ » والمراد بالحائض البالغة .
انتقاض الوضوء بلمس الأنثى :
21 - يختلف الفقهاء في انتقاض الوضوء بلمس الرّجل للأنثى المشتهاة .
فعند الحنفيّة ، وفي روايةٍ عن الإمام أحمد أنّ الوضوء لا ينتقض باللّمس ، لرواية عائشة رضي الله تعالى عنها : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبّل بعض نسائه ، ثمّ صلّى ولم يتوضّأ » وروي ذلك عن عليٍّ وابن عبّاسٍ وعطاءٍ وطاوسٍ والحسن ومسروقٍ .
وعند المالكيّة ينتقض الوضوء باللّمس إن قصد اللّذّة أو وجدها حين اللّمس ، وهو المشهور من مذهب أحمد رحمه الله ، وهو أنّ لمس النّساء لشهوةٍ ينقض الوضوء ، ولا ينتقض الوضوء إن كان اللّمس بغير شهوةٍ . وهو قول علقمة وأبي عبيدة والنّخعيّ والحكم وحمّادٍ والثّوريّ وإسحاق والشّعبيّ . والقبلة بالفم تنقض مطلقاً عند المالكيّة ، أي دون تقييدٍ بقصد اللّذّة أو وجدانها ، إلاّ إذا كانت لوداعٍ أو رحمةٍ فلا تنقض .
وعند الشّافعيّة ، وفي روايةٍ ثالثةٍ عن الإمام أحمد : أنّ اللّمس ينقض الوضوء بكلّ حالٍ ، لعموم قوله تعالى : { أوْ لامَسْتُم النّساء } .
ولا ينتقض الوضوء بلمس الأنثى الصّغيرة الّتي لا تشتهى ، وذلك عند المالكيّة والشّافعيّة . وعند الحنابلة فيه الأقوال السّابقة . ولا ينتقض الوضوء كذلك بلمس المحرم على الأصحّ عند المالكيّة ، وفي الأظهر عند الشّافعيّة ، وهو على الرّوايات السّابقة عند الحنابلة .
و ينظر تفصيل ذلك في ( وضوءٍ ) .
حكم دخول المرأة الحمّامات العامّة .
22 - ينبني حكم دخول النّساء الحمّامات العامّة على كشف العورة وسترها عند الحنفيّة والمالكيّة ، فإن كانت العورة مستورةً ، ولا ترى واحدة عورة الأخرى فالدّخول جائز ، وإلاّ كان الدّخول مكروهاً تحريماً ، كما يقول الحنفيّة ، وغير جائزٍ كما يقول المالكيّة .
ولم يستحسنه الإمام مالك مطلقاً ، وعند الشّافعيّة قيل : يكره . وقيل : يحرم ولم يجوّزه الحنابلة ، لما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « ستفتح عليكم أرض العجم ، وستجدون فيها حمّاماتٍ ، فامنعوا نساءكم إلاّ حائضاً أو نفساء » .
وعلى ذلك فإنّه يجوز لها دخول الحمّام لعذرٍ من حيضٍ أو نفاسٍ أو مرضٍ .
المحافظة على مظاهر الأنوثة :
23 - يعتني الإسلام بجعل الأنثى تحافظ على مظاهر أنوثتها ، فحرّم عليها التّشبّه بالرّجال في أيّ مظهرٍ من لباسٍ أو حديثٍ أو أيّ تصرّفٍ . وقد لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المتشبّهات من النّساء بالرّجال . وفي الطّبرانيّ « أنّ امرأةً مرّت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم متقلّدةً قوساً ، فقال : لعن اللّه المتشبّهات من النّساء بالرّجال ، والمتشبّهين من الرّجال بالنّساء » . وقد ذكر ابن القيّم أنّ من الكبائر : ترجّل المرأة وتخنّث الرّجل .
وقد أباح لها الإسلام أن تتّخذ من وسائل الزّينة ما يكفل لها المحافظة على أنوثتها ، فيحلّ ثقب أذنها لتعليق القرط فيه . يقول الفقهاء : لا بأس بثقب آذان النّسوان ، ولا بأس بثقب آذان الأطفال من البنات ،« لأنّهم كانوا يفعلون ذلك في زمان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من غير إنكارٍ »، يقول ابن القيّم : الأنثى محتاجة للحلية فثقب الأذن مصلحة في حقّها.
ويباح لها التّزيّن بلبس الحرير والذّهب دون الرّجال ، لأنّه من زينة النّساء ، فقد روى أبو موسى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « حرام لباس الحرير والذّهب على ذكور أمّتي ، وأحلّ لإناثهم » قال ابن قدامة : أبيح التّحلّي في حقّ المرأة لحاجتها إلى التّزيّن للزّوج والتّجمّل عنده . كذلك يجوز لها أن تخضب يديها ، وأن تعلّق الخرز في شعرها ، ونحو ذلك من ضروب الزّينة .
وجوب التّستّر وعدم الاختلاط بالرّجال الأجانب :
24 - إذا خرجت المرأة لحاجتها لا تخرج إلاّ متستّرةً . قال ابن عابدين : وحيث أبحنا لها الخروج فإنّما يباح بشرط عدم الزّينة ، وعدم تغيير الهيئة إلى ما يكون داعيةً لنظر الرّجال والاستمالة ، قال اللّه تعالى : { ولا تَبَرَّجْنَ تبرّجَ الجاهليّةِ الأولى } .
قال مجاهد : كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرّجال ، فذلك تبرّج الجاهليّة .
وقال قتادة : كانت لهنّ مشية تكسّرٍ وتغنّجٍ ، فنهى اللّه سبحانه وتعالى عن ذلك .
ولا يجوز أن تكون الثّياب الّتي تظهر بها أمام النّاس ممّا يظهر معه شيء من جسدها الواجب ستره ، وكذلك إذا كان يشفّ عمّا تحته ، لأنّه إذا استبان جسدها كانت كاسيةً عاريّةً حقيقةً . وقد قال النّبيّ : « سيكون في آخر أمّتي نساءٌ كاسياتٌ عاريّات ، على رءوسهنّ كأسنمة البُخْت ، الْعَنُوهنّ فإنّهنّ ملعونات » .
وفي الفواكه الدّواني : لا يلبس النّساء من الرّقيق ما يصفهنّ إذا خرجن من بيوتهنّ ، والخروج ليس بقيدٍ ، وحاصل المعنى : أنّه يحرم على المرأة لبس ما يرى منه جسدها بحضرة من لا يحلّ له النّظر .
ولا يجوز لها أن تأتي من الأعمال ما يلفت النّظر إليها ويترتّب عليه الافتتان بها ، قال تعالى : { ولا يَضْربن بأرجلهنّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفين من زينتهنّ } قال ابن كثيرٍ : كانت المرأة في الجاهليّة إذا كانت تمشي في الطّريق ، وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوته ، ضربت برجلها الأرض فيسمع الرّجال طنينه ، فنهى اللّه سبحانه وتعالى المؤمنات عن مثل ذلك ، وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستوراً ، فتحرّكت بحركةٍ لتظهر ما هو خفيّ دخل في هذا النّهي لقوله تعالى : { ولا يَضْرِبْنَ بأرجلهنّ } .
ومن ذلك أنّها تنهى عن التّعطّر والتّطيّب عند خروجها من بيتها فيشمّ الرّجال طيبها ، فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم « كلّ عينٍ زانية ، والمرأة إذا استعطرت فمرّت بالمجلس فهي كذا وكذا » يعني زانيةً .
ومن ذلك أيضاً أنّهنّ ينهين عن المشي في وسط الطّريق ، لما روى حمزة بن أبي أسيدٍ الأنصاريّ عن أبيه أنّه « سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد ، وقد اختلط النّساء مع الرّجال في الطّريق ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للنّساء : استأخرن ، فإنّه ليس لكنّ أن تحققن الطّريق ، عليكنّ بحافّات الطّريق » .
ولا تجوز خلوة المرأة بالأجنبيّ ولو في عملٍ ، والمراد بالخلوة المنهيّ عنها أن تكون المرأة مع الرّجل في مكان يأمنان فيه من دخول ثالثٍ . ( ر : خلوة ) .
قال أبو حنيفة : أكره أن يستأجر الرّجل امرأةً حرّةً يستخدمها ويخلو بها ، لأنّ الخلوة بالمرأة الأجنبيّة معصية .
وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يخلونّ رجل بامرأةٍ إلاّ كان الشّيطان ثالثهما » .
ويمنع الاختلاط المريب بين الرّجال والنّساء على ما سبق تفصيله في مصطلح ( اختلاط ) .
الأحكام الّتي تخصّ النّساء بالنّسبة للعبادة :
25 - الأصل أنّه لا فرق بين الرّجل والمرأة في أهليّة العبادة .
إلاّ أنّه نظراً لكونها مأمورةً بالتّستّر وعدم الاختلاط المريب بالرّجال الأجانب فإنّها تختصّ ببعض الأحكام في عباداتها . ومن ذلك :
- أ - الأذان والإقامة : فالأصل أنّها لا تؤذّن ولا تقيم ( ر : أذان . إقامة ) .
- ب - ولا تؤمّ الرّجال ، بل يكره لها عند بعض المذاهب أن تؤمّ النّساء . ( ر : إمامة ) . - ت - ومنها صلاة الجماعة بإمامة إحداهنّ ، فالأصل عند الحنفيّة والمالكيّة أنّ الجماعة غير مشروعةٍ لهنّ في تلك الحال ، خلافاً للشّافعيّة والحنابلة القائلين بندبها لهنّ ، ولو لم يؤمّهنّ رجال . وتفصيل ذلك ينظر في ( صلاة الجماعة ) .
- ث - ومنها حضور المرأة الجمعة والعيدين وصلاة الجماعة مع الرّجال : فيجوز عند جمهور الفقهاء حضور المرأة صلاة الجماعة مع الرّجال في المسجد ، وكذا حضورها الجمعة والعيدين . وانظر للتّفصيل ( صلاة الجماعة . صلاة الجمعة . صلاة العيدين ) .
ج - هيئتها في الصّلاة :
26- الأصل أنّه لا فرق بين الرّجال والنّساء في عمل العبادات ، إلاّ أنّ المرأة تختصّ ببعض الهيئات في الصّلاة ، وذلك كما يأتي :
يستحبّ أن تجمع المرأة نفسها في الرّكوع ، فتضمّ مرفقيها إلى الجنبين ولا تجافيهما ، وتنحني قليلاً في ركوعها ، ولا تعتمد ، ولا تفرّج بين أصابعها ، بل تضمّها ، وتضع يديها على ركبتيها ، وتحني ركبتها ، وتلصق مرفقيها بركبتيها .
وفي سجودها تفترش ذراعيها ، وتنضمّ وتلزق بطنها بفخذيها ، لأنّ ذلك أستر لها ، فلا يسنّ لها التّجافي كالرّجال ، لحديث زيد بن أبي حبيبٍ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ على امرأتين تصلّيان ، فقال : إذا سجدتما فضمّا بعض اللّحم إلى بعضٍ ، فإنّ المرأة ليست في ذلك كالرّجل » .
ولأنّها عورة فالأليق بها الانضمام . كذلك ينبغي لها أن تكثّف جلبابها وتجافيه راكعةً وساجدةً ، لئلاّ تصفها ثيابها ، وأن تخفض صوتها ، وتجلس متربّعةً ، لأنّ ابن عمر كان يأمر النّساء أن يتربّعن في الصّلاة ، أو تسدل رجليها عن يمينها ، وهو أفضل من التّربّع ، لأنّه غالب فعل عائشة رضي الله تعالى عنها وأشبه بجلسة الرّجل ، وهو ما قاله الإمام الشّافعيّ والإمام أحمد .
كما أنّه يستحبّ أن ينصرف النّساء عقب الصّلاة قبل الرّجال ، حتّى لا يختلطن بالرّجال .
فقد روت أمّ سلمة قالت : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا سلّم قام النّساء حين يقضي تسليمه ، وهو يمكث في مكانه يسيراً قبل أن يقوم . قالت : نرى - واللّه أعلم - أنّ ذلك كان لكي ينصرف النّساء قبل أن يدركهنّ الرّجال » .
ح - الحجّ :
27 - ما يتّصل بفرض الحجّ على المرأة أمران :
الأوّل : بالنّسبة للوجوب . وبيان ذلك كما يأتي :
من المقرّر أنّ الاستطاعة - بالزّاد والرّاحلة وغيرهما - من شرائط وجوب الحجّ مطلقاً ، ويزاد على ذلك بالنّسبة للمرأة : أن يكون معها زوج أو محرم ، للأحاديث الّتي وردت في ذلك ، وهذا باتّفاقٍ . لكنّ الفقهاء يختلفون في وجوب الحجّ على المرأة دون زوجٍ أو محرمٍ . فعند الحنفيّة ، والمذهب عند الحنابلة : أنّه لا يجب عليها الحجّ ، لأنّها إذا لم يكن معها زوج ولا محرم لا يؤمن عليها ، إذ النّساء لحم على وضمٍ ، إلاّ ما ذبّ عنه . وفي ذلك خلاف وتفصيل ينظر في ( حجٍّ ) .
وهذا بالنّسبة لحجّ الفريضة ، أمّا النّفل فلا يجوز لها الخروج له دون الزّوج أو المحرم . الثّاني : بالنّسبة لبعض الأعمال فالمرأة كالرّجل في أركان الحجّ والعمرة ، إلاّ أنّها تختلف عنه في بعض الأعمال ومن ذلك :
أ - أنّها تلبس المخيط كالقميص والقباء والسّراويل والخفّين وما هو أستر لها ، لأنّ بدنها عورة ، ولا تنتقب ولا تلبس القفّازين . وفي ذلك خلاف وتفصيل ( ر : إحرام ) .
ب - وليس على المرأة رمل في طوافها ، ولا إسراع بين الميلين الأخضرين في السّعي ، وليس عليها اضطباع أيضاً . والمشروع للمرأة التّقصير دون الحلق . ( ر : حجّ ) .
ج - ولا ترفع المرأة صوتها بالتّلبية إلاّ بمقدار ما تسمع رفيقتها . ( ر : حجّ . تلبية ) .
خ - الخروج من المنزل :
28 - إذا كانت المرأة متزوّجةً فإنّها ترتبط في خروجها من المنزل بإذن زوجها .
وقد روى ابن عمر قال : « رأيت امرأةً أتت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقالت : يا رسول اللّه ما حقّ الزّوج على زوجته ؟ قال : حقّه عليها أن لا تخرج من بيتها إلاّ بإذنه ، فإن فعلت لعنها اللّه وملائكة الرّحمة وملائكة الغضب حتّى تتوب أو ترجع » ، ولأنّ حقّ الزّوج واجب ، فلا يجوز تركه بما ليس بواجبٍ .
وخروج الزّوجة من غير إذن زوجها يجعلها ناشزاً ، ويسقط حقّها في النّفقة في الجملة ، لكن لا ينبغي للزّوج أن يمنع زوجته من زيارة أبويها وعيادتهما ، لأنّ عدم الزّيارة نوع من العقوق وقطيعة الرّحم .
كذلك لا ينبغي أن يمنعها من الصّلاة في المسجد وحضور الجمعة والعيدين ودروس الوعظ ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه » وفي روايةٍ : « إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها » .
لكن هذا مقيّد بما إذا أمن عليها ، وكان لا يخشى الفتنة من خروجها ، فإن كان يخشى الفتنة فله منعها . وكره متأخّرو الحنفيّة خروجها ولو عجوزاً لفساد الزّمان ، لما روي عن السّيّدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت :" لو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النّساء لمنعهنّ المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل ".
د - التّطوّع بالعبادات :
29 - الزّوجة مرتبطة كذلك بإذن الزّوج في التّطوّع بالعبادات ، فلا يجوز لها إذا كان زوجها حاضراً أن تتطوّع بصلاةٍ أو صومٍ أو حجٍّ أو اعتكافٍ بدون إذنه ، إذا كان ذلك يشغلها عن حقّه ، لأنّ حقّ الزّوج فرض ، فلا يجوز تركه بنفلٍ ، ولأنّ له حقّ الاستمتاع بها ، ولا يمكنه ذلك أثناء الصّوم أو الحجّ أو الاعتكاف ، وقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحلّ للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد أي حاضر إلاّ بإذنه » . رواه البخاريّ .
فإن تطوّعت بصومٍ أو حجٍّ أو اعتكافٍ دون إذنه فله أن يفطرها في الصّوم ، ويحلّلها من الحجّ ، ويخرجها من الاعتكاف لما فيه من تفويت حقّ غيرها بغير إذنه ، فكان لربّ الحقّ المنع . وهذا باتّفاقٍ ، واستثنى الشّافعيّة الصّوم الرّاتب كعرفة وعاشوراء ، فلا يمنعها منه لتأكّده ، وكذلك صلاة النّفل المطلق لقصر زمنه .
وإن أذن الزّوج لها أن تتطوّع بصومٍ أو اعتكافٍ أو حجٍّ ، فعند الشّافعيّة والحنابلة : له أن يمنعها من الصّوم أو الاعتكاف ولو كانت شرعت فيه ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة وحفصة وزينب رضي الله تعالى عنهن في الاعتكاف ، ثمّ منعهنّ منه بعد أن دخلن فيه ، فقد أخرج الشّيخان عن عائشة « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، فاستأذنته عائشة فأذن لها ، وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ففعلت ، فلمّا رأت ذلك زينب بنت جحشٍ أمرت ببناءٍ فبني لها . قالت : وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا صلّى انصرف إلى بنائه ، فأبصر الأبنية فقال : ما هذا ؟ قالوا : بناء عائشة وحفصة وزينب . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : آلبرّ أردن بهذا ؟ ما أنا بمعتكفٍ » . وعند الحنفيّة ليس له أن يمنعها ، لأنّه لمّا أذن لها فقد ملّكها منافع الاستمتاع بها ، وهي من أهل الملك فلا يملك الرّجوع عن ذلك .
وعند المالكيّة : له أن يمنعها ما لم تشرع في العبادة ، فإن شرعت فلا يمنعها .
وما أوجبته المرأة على نفسها بنذرٍ ، فإن كان بغير إذنه فله أن يمنعها منه ، وهذا باتّفاقٍ . وإن كان بإذنه ، فإن كان في زمانٍ معيّنٍ فليس له منعها منه . وإن كان في زمانٍ مبهمٍ ، فله المنع عند المالكيّة إلاّ إذا دخلت فيه ، وهو على وجهين عند الشّافعيّة والحنابلة .
ما يتعلّق بالأنثى من أحكام الولايات :
30 - الولايات - كالإمامة والقضاء والوصاية والحضانة وغيرها - مناصب تحتاج إلى استعداداتٍ خاصّةٍ ، بدنيّةٍ ونفسيّةٍ ، كالقوّة والكفاية والخبرة والرّعاية والحنان وحسن التّصرّف . وتختلف الولايات عن بعضها فيما تحتاج إليه من صفاتٍ .
وإذا كان الرّجال مقدّمين في بعض المناصب على النّساء ، فذلك لفارق التّكوين الطّبيعيّ لكلٍّ منهما ، ولما منح اللّه سبحانه وتعالى كلّ جنسٍ من صفاتٍ خاصّةٍ .
وكذلك تقدّم النّساء في بعض الولايات ، لتناسبها مع تكوينهنّ واستعدادهنّ الفطريّ .
قال القرافيّ : اعلم أنّه يجب أن يقدّم في كلّ ولايةٍ من هو أقوم بمصالحها على من هو دونه ، فيقدّم في ولاية الحروب من هو أعرف بمكائد الحروب وسياسة الجيوش ، ويقدّم في القضاء من هو أعرف بالأحكام الشّرعيّة وأشدّ تفطّناً لحجاج الخصوم وخدعهم .
ويقدّم في أمانة اليتيم من هو أعلم بتنمية أموال اليتامى وتقدير أموال النّفقات .
والنّساء مقدّمات في باب الحضانة على الرّجال لأنّهنّ أصبر على الصّبيان وأشدّ شفقةً ورأفةً . فقدّمن لذلك وأخّر الرّجال عنهنّ ، وأخّرن في الإمامة والحروب وغيرهما من المناصب ، لأنّ الرّجال أقوم بمصالح تلك الولايات منهنّ .
والقضاء من الولايات الّتي يقدّم فيها الرّجال عند جمهور الفقهاء .
ويجوز عند الحنفيّة أن تقضي في غير حدٍّ وقودٍ ، إلاّ أنّه يكره توليتها القضاء ، ويأثم من يولّيها ، لما فيه من محادثة الرّجال ، ومبنى أمرهنّ على السّتر ، قال ابن عابدين : ولو قضت في حدٍّ وقودٍ فرفع إلى قاضٍ آخر يرى جوازه ، فأمضاه ليس لغيره إبطاله .
وحكي عن ابن جريرٍ الطّبريّ أنّه لا تشترط الذّكوريّة في القاضي ، لأنّ المرأة يجوز أن تكون مفتيةً ، فيجوز أن تكون قاضيةً .
ومن الولايات الّتي يصحّ أن تسند إلى الأنثى : الشّهادة والوصاية ونظارة الوقف ، قال ابن عابدين : تصلح المرأة ناظرةً لوقفٍ ووصيّةً ليتيمٍ وشاهدةً ، فصحّ تقريرها في النّظر والشّهادة في الأوقاف . قال ابن قدامة : تصحّ الوصيّة إلى المرأة في قول أكثر أهل العلم ، وروي ذلك عن شريحٍ ، وبه قال مالك والثّوريّ والأوزاعيّ وإسحاق والشّافعيّ وأبو ثورٍ وأصحاب الرّأي ، لما روي أنّ عمر رضي الله عنه أوصى إلى حفصة ، ولأنّها من أهل الشّهادة فأشبهت الرّجل . قال الخطيب الشّربينيّ : أمّ الأطفال أولى من غيرها من النّساء عند اجتماع الشّروط ، لوفور شفقتها وخروجها من خلاف الإصطخريّ ، فإنّه يرى أنّها تلي بعد الأب والجدّ ، وكذا هي أولى من الرّجال أيضاً لما ذكر ، إذا كان فيها ما فيهم من الكفاية والاسترباح ونحوهما ، وإلاّ فلا ، قال الأذرعيّ : وكم من محبٍّ مشفقٍ لا يقدر على تحصيل الأرباح والمصالح التّامّة لمن يلي أمره .
هذا ، وشهادتها عند الجمهور تكون في الأموال وتوابعها فقط ، وعند الحنفيّة تكون فيما عدا القود والحدود ، وشهادتها على النّصف من شهادة الرّجل لقوله تعالى : { فإن لم يَكُونا رجلين فَرَجُلٌ وامرأتان } وتقبل شهادتها دون الرّجال فيما لا يطّلع عليه الرّجال .
وينظر تفصيل ذلك في ( شهادةٍ ) .
والولاية على مال الصّغير تكون للذّكور عند جمهور الفقهاء ، لأنّ الولاية ثبتت بالشّرع ، فلم تثبت للأنثى ، لكن يجوز أن يوصي إليها ، فتصير وصيّةً بالإيصاء . وفي رأي الإصطخريّ من الشّافعيّة ، وهو خلاف الأصحّ عندهم ، وقول القاضي أبي يعلى ، وابن تيميّة من الحنابلة : أنّ الأمّ تكون لها الولاية بعد الأب والجدّ ، لأنّها أحد الأبوين ، وأكثر شفقةً على الابن . ولا ولاية للأنثى كذلك في النّكاح عند جمهور الفقهاء ، لأنّ المرأة لا تملك تزويج نفسها ولا غيرها ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تنكح المرأة المرأة ، ولا المرأة نفسها » . وعند أبي حنيفة وزفر والحسن بن زيادٍ ، وهو ظاهر الرّواية عن أبي يوسف : أنّ المرأة يجوز أن تزوّج نفسها ، وأن تزوّج غيرها بالولايات أو الوكالة ، لقوله تعالى : { فلا جُنَاحَ عليكم فيما فَعَلْنَ في أنفسهنّ من معروفٍ } فأضاف النّكاح والفعل إليهنّ ، وذلك يدلّ على صحّة عبارتهنّ ونفاذها ، لأنّه أضافه إليهنّ على سبيل الاستقلال ، إذ لم يذكر معها غيرها ، وقد روي أنّ امرأةً زوّجت بنتها برضاها ، فجاء الأولياء وخاصموها إلى عليٍّ رضي الله تعالى عنه ، فأجاز النّكاح . وهذا دليل الانعقاد بعبارة النّساء ، وأنّه أجاز النّكاح بغير وليٍّ ، لأنّهم كانوا غائبين ، لأنّها تصرّفت في خالص حقّها ، ولا ضرر فيه لغيرها ، فينفذ ، كتصرّفها في مالها ، والولاية في النّكاح أسرع ثبوتاً منها في المال ، ولأنّ النّكاح خالص حقّها ، حتّى يجبر الوليّ عليه عند طلبها ، وهي أهل لاستيفاء حقوقها . وتفصيل ذلك في ( نكاحٍ ) .
ما يتّصل بالمرأة من أحكام الجنايات :
31 - يرى عامّة العلماء أنّه لا فرق بين الرّجل والمرأة في أحكام القصاص في الجملة ، فالأنثى تقتل بالذّكر ، والذّكر يقتل بالأنثى . وأمّا الدّيات ، فبعض الفقهاء ذهب إلى أنّ دية المرأة نصف دية الرّجل . وفي ذلك تفصيل ينظر في ( ديةٍ ) .
أنثى الحيوان
32 - تختصّ أنثى الحيوان بأحكامٍ مجملها فيما يلي :
أ - زكاة الإبل :
الأصل فيما يؤخذ في زكاة الإبل الإناث ، ويجوز عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أخذ ابن اللّبون بدلاً من بنت المخاض عند فقدها ، أو عند وجودها إن كانت معيبةً ، وأمّا عند الحنفيّة فإنّ الذّكور لا تجزئ في زكاة الإبل إلاّ بقيمة الإناث .
هذا بخلاف البقر والغنم ، فإنّ المالك يخيّر . هذا ، والتّفصيل محلّه مصطلح ( زكاةٍ ) .
ب - في الأضحيّة :
ذكر الشّافعيّة كما في الأشباه والنّظائر للسّيوطيّ أنّ التّضحية بالذّكر أولى من التّضحية بالأنثى في المشهور . والتّفصيل محلّه مصطلح ( أضحيّةٍ ) .
ج - الدّية :
الدّية المغلّظة إذا كانت من الإبل فكلّها من الإناث عند جميع الفقهاء ، وكذا الدّية المخفّفة عند الحنفيّة ، ويجوز عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة دخول الذّكور في الدّية المخفّفة . والتّفصيل محلّه مصطلح ( دية ) .
إهاب *
التّعريف :
1 - الإهاب في اللّغة : الجلد من البقر والغنم والوحش ما لم يدبغ .
وظاهر هذا أنّ جلد الإنسان لا يسمّى إهاباً .
ويطلق الفقهاء الإهاب على ما يطلقه عليه أهل اللّغة . قال في فتح القدير : الإهاب : اسم لغير المدبوغ من الجلد . والجلد أعمّ من أن يكون مدبوغاً أو غير مدبوغٍ .
واستعمال الفقهاء الجلد لما هو أعمّ من جلد الحيوان ، فيشمل جلد الإنسان .
الأحكام المتعلّقة بالإهاب :
أ - جلد المذكّى ذكاةً شرعيّةً :
2 - الحيوانات على نوعين : حيوانات مأكولة اللّحم ، وحيوانات غير مأكولة اللّحم . فالحيوانات مأكولة اللّحم إذا ذبحت الذّبح الشّرعيّ كان جلدها طاهراً بالاتّفاق ، وإن لم يدبغ . أمّا الحيوانات غير المأكولة اللّحم فهي على نوعين أيضاً : نجسة في حال الحياة ، وطاهرة . أمّا نجسة العين ، وهي الخنزير بالاتّفاق ، والكلب عند الشّافعيّة والحنابلة ، فإنّ الذّكاة لا تطهّر جلدها .
وأمّا غير نجسة العين ممّا لا يؤكل لحمه ، فقد اختلف الفقهاء في تطهير إهابها بالذّكاة ، فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يطهر بالذّبح ، وحجّة هؤلاء أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « نهى عن افتراش جلود السّباع وركوب النّمور » . وهو عامّ في المذكّى وغيره ، ولأنّه ذبح لا يطهّر اللّحم فلم يطهّر الجلد ، كذبح المجوسيّ أو أيّ ذبحٍ غير مشروعٍ ، فأشبه الأصل ، ثمّ إنّ الدّبغ إنّما يؤثّر في مأكول اللّحم فكذلك ما شبّه به .
وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى طهارة الإهاب بالذّكاة الشّرعيّة ، واستدلّ هؤلاء بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « دباغ الأديم ذكاته » ، ولأنّ الذّكاة تعمل عمل الدّباغ في إزالة الرّطوبات النّجسة ، أمّا النّهي عن افتراش جلود السّباع وركوب النّمور فلأنّ ذلك مراكب أهل الخيلاء ، أو لأنّهم كانوا يستعملونها من غير أن تدبغ .
واستثنى الحنفيّة من ذلك إهاب الحيوان الّذي لا يحتمل الدّباغة ، كإهاب الفأرة ، وإهاب الحيّة الصّغيرة - لا ثوبها - فإنّه لا تطهّره الذّكاة .
ب - إهاب الميتة :
3 - إهاب الميتة نجس بلا خلافٍ ، ولا يجوز الانتفاع به قبل الدّباغ بالاتّفاق ، إلاّ ما روي عن محمّد بن شهابٍ الزّهريّ من جواز الانتفاع بجلود الميتة قبل الدّباغ ، فإذا دبغ فقد اختلف الفقهاء في طهارته بعد الدّباغ على اتّجاهاتٍ .
4 - الاتّجاه الأوّل :
أنّه لا يطهر شيء من الجلود بالدّباغة ، وهو أشهر الرّوايتين عن الإمام أحمد ، وإحدى الرّوايتين عن الإمام مالكٍ ، قال النّوويّ : وروي هذا القول عن عمر بن الخطّاب - وليس بمحرّرٍ عنه كما حقّقناه - وعن عبد اللّه بن عمر ، وعن عائشة أمّ المؤمنين ، واستدلّ هؤلاء بما رواه عبد اللّه بن عكيمٍ من أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال قبل موته بشهرٍ : « لا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عصبٍ » .
5- الاتّجاه الثّاني :
أنّ جلود الميتة كلّها - ومنها الكلب والخنزير - تطهر بالدّباغة ظاهراً وباطناً ، وهذا المذهب مرويّ عن الإمام أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ، ونصره الشّوكانيّ في نيل الأوطار ، واستدلّ هؤلاء بعموم الأحاديث ، إذ أنّ الأحاديث لم تفرّق بين خنزيرٍ وغيره .
6- الاتّجاه الثّالث :
يطهر بالدّباغة جلود جميع الحيوانات الميّتة إلاّ الخنزير ، ويطهر بالدّباغ ظاهر الجلد وباطنه ، ويجوز استعماله في الأشياء اليابسة والمائعة ، ولا فرق في ذلك بين مأكول اللّحم وغيره ، وهو مذهب أبي حنيفة ، واحتجّوا لذلك بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا دبغ الإهاب فقد طهر » ، وأمّا استثناء الخنزير فقد كان بقوله تعالى : { أو لحمَ خِنْزيرٍ فإنّه رجْسٌ } حيث جعلوا الضّمير في ( إنّه ) عائداً إلى المضاف إليه ، وهو كلمة ( خنزيرٍ ) .
7- الاتّجاه الرّابع :
كالثّالث ، إلاّ أنّهم قالوا : إنّ الدّباغة لا تطهّر جلد الخنزير والكلب ، حيث قاسوا الكلب على الخنزير للنّجاسة ، وهو مذهب الشّافعيّ ومحمّد بن الحسن ، وحكاه النّوويّ عن عليّ بن أبي طالبٍ وابن مسعودٍ .
8- الاتّجاه الخامس :
كالثّالث إلاّ أنّهم قالوا : إنّ الدّباغة لا تطهّر جلد الخنزير والكلب والفيل ، وهو قول الإمام محمّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة .
9- الاتّجاه السّادس :
يطهر بالدّباغة جلد مأكول اللّحم ولا يطهر غيره ، وهو مذهب الأوزاعيّ وعبد اللّه بن المبارك وأبي ثورٍ وإسحاق بن راهويه ، واستدلّ هؤلاء بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الأهب : « دباغها ذكاتها » أي كذكاتها ( والذّكاة ) المشبّه بها في الحديث لا يحلّ بها غير المأكول ، فكذلك ( الدّباغ ) المشبّه لا يطهّر جلد غير المأكول .
10 - الاتّجاه السّابع :
يطهر بالدّباغ ظاهر جلد الميتة دون باطنه ، وعلى هذا فإنّه يحلّ الانتفاع به في الأشياء اليابسة دون المائعة ، وهو المشهور من مذهب الإمام مالكٍ رحمه الله تعالى .
وشبيه بهذا الاتّجاه إحدى الرّوايتين عند الحنابلة ، وهي جواز الانتفاع بجلد الميتة المدبوغ في اليابسات .
ذبح الحيوان غير المأكول من أجل إهابه :
11 - اختلف الفقهاء في حلّ ذبح أو صيد غير مأكول اللّحم من أجل الانتفاع بجلده أو شعره أو ريشه .
فذهب الشّافعيّة إلى تحريم ذبح ما لا يؤكل ، كبغلٍ وحمارٍ للانتفاع بجلده ، « للنّهي عن ذبح الحيوان إلاّ لمأكلةٍ » .
وذهب الحنفيّة إلى حلّ اصطياد ما لا يؤكل لحمه ، لمنفعة جلده أو شعره أو ريشه ، لأنّ الانتفاع غاية مشروعة . وهو ما يفهم من مذهب المالكيّة في اعتبار المنفعة مسوّغاً لذكاة ما لا يؤكل . ولم نعثر على مذهب الحنابلة في ذلك .
بيع الحيوان من أجل إهابه :
12- اختلف الفقهاء في جواز بيع الحيوان الّذي لا ينتفع به حيّاً من أجل إهابه ، فقال الشّافعيّة : لا يجوز بيعه ، وفي ذلك يقول القاضي زكريّا الأنصاريّ : بيع غير الجوارح المعلّمة كالأسد والذّئب باطل ، ولا نظر لمنفعة الجلد بعد الموت ، ولا لمنفعة الرّيش .
وقد تقدّم أنّ الشّافعيّة والحنابلة لا يبيحون ذبح الحيوان من أجل جلده .
وقال الحنفيّة والمالكيّة : يجوز بيع الحيوان الّذي لا ينتفع به حيّاً ، كالسّبع غير المعلّم والهرّ ونحوه للجلد ، لأنّهم اعتبروا الانتفاع بالجلد منفعةً مشروعةً مقصودةً ، فصار الحيوان منتفعاً به ، فيجوز بيعه .
سلخ إهاب الذّبيحة :
13 - اتّفق الفقهاء على كراهة سلخ إهاب الذّبيحة قبل زهوق روحها ، لنهي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ففي حديث أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعث بديل بن ورقاء الخزاعيّ على جملٍ أورق ، يصيح في فجاج منًى : « لا تعجّلوا الأنفس أن تزهق » . ولما في ذلك من زيادة ألم الحيوان ، وليس هذا من إحسان الذّبحة الّذي أمر به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقوله : « وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح » .
فإن سلخ إهابها قبل أن تزهق روحها فقد أساء ، وجاز أكلها ، لأنّ زيادة ألمها لا تقتضي تحريم أكلها .
بيع إهاب الأضحيّة وما في معناه :
14 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز أن يدفع الإهاب ولا شيء من الأضحيّة إلى الجزّار أجرةً له على ذبحها . ولكنّهم اختلفوا في جواز بيع جلد الأضحيّة .
فذهب الحسن البصريّ والنّخعيّ وأبو حنيفة ، وروي ذلك عن الأوزاعيّ إلى جواز بيعه مقايضةً بآلة البيت كالغربال والمنخل ونحو ذلك ، ممّا تبقى عينه دون ما يستهلك ، لأنّه ينتفع به هو وغيره ، فجرى مجرى تفريق اللّحم ، فإن باعه بدراهم كره له ذلك وجاز ، إلاّ أن يتصدّق بالثّمن فلا يكره عند محمّدٍ خاصّةً ، وروي عن ابن عمر وإسحاق بن راهويه . وذهب الأئمّة الثّلاثة مالك والشّافعيّ وأحمد إلى أنّه لا يجوز بيع إهاب الأضحيّة مطلقاً لا بآلة البيت ولا بغيرها . أمّا الكلام عن دباغ الإهاب فينظر في ( دباغةٍ ) .
إهانة *
التّعريف :
1 - الإهانة في اللّغة : مصدر أهان ، وأصل الفعل هان بمعنى ذلّ وحقر ، وفيه مهانة أي : ذلّ وضعف ، والإهانة من صور الاستهزاء والاستخفاف .
وقد سبق الكلام عن الاستخفاف في مصطلحه ( ج 3 248 ) .
الحكم الإجماليّ :
2 - الإهانة تعتبر مدلولاً لبعض التّصرّفات القوليّة كالسّبّ والشّتم ، أو الفعليّة كالضّرب وما شابهه ممّا يعتبر إهانةً ، وهي ترد عند الفقهاء باعتبارين مختلفين :
الأوّل : باعتبار أنّ الإهانة مدلول لتصرّفاتٍ تستوجب العقوبة .
3 - وبذلك تكون الإهانة أمراً غير مشروعٍ ، ويكون الحكم بحسب قدر المهان ، وبحسب عظم الإهانة وصغرها .
فالإهانة الّتي تلحق بالعقيدة والشّريعة كالسّجود لصنمٍ ، أو إلقاء مصحفٍ في قاذورةٍ ، أو كتابته بنجسٍ ، أو سبّ الأنبياء والملائكة ، أو تحقير شيءٍ ممّا علم من الدّين بالضّرورة تعتبر كفراً . ( ر : ردّة - استخفاف ) .
والإهانة الّتي تلحق بالنّاس بغير حقٍّ من سبٍّ وشتمٍ وضربٍ ، تعتبر معصيةً . ( ر : قذف ، تعزير ، استخفاف ) . على أنّ من الأفعال ما يكون في ظاهره إهانة ، لكن القصد أو الضّرورة أو القرائن تبعده عن ذلك ، فالبصاق على اللّوح لا يعتبر إهانةً ، إذا قصد به الإعانة على محو الكتابة . ولو أشرفت سفينة على الغرق ، واحتيج إلى إلقاء حملٍ من المصاحف مثلاً جاز ذلك ، لأنّ حفظ الرّوح مقدّم ، والضّرورة تمنع كونه امتهاناً .
الاعتبار الثّاني : بمعنى العقوبة :
4 - فتكون الإهانة عقوبةً مقرّرةً ، سواء أكانت بالقول أم بالفعل . فأخذ الجزية من الكفّار تكون مع الإهانة لهم . لقوله تعالى : { حتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عن يَدٍ وهم صَاغِرون } . وكإهانة من يعتدي على غيره بشتمٍ مثلاً ، جاء في منح الجليل : من شتم رجلاً بقوله له : يا كلب فإن قيل ذلك لذي الفضل والهيئة والشّرف عوقب عقوبةً خفيفةً يهان بها ، ولا يبلغ به السّجن ، وإن كان من غير ذوي الهيئة عوقب بالتّوبيخ ، ولا يبلغ به الإهانة ولا السّجن . وكإهانة الابن والتّلميذ للتّأديب والتّعليم .
وتختلف الإهانة كعقوبةٍ باختلاف مقدار الإهانة كعدوانٍ ، وباختلاف قدر المهان .
وللإهانة كعقوبةٍ مسمّيات مختلفة عند الفقهاء ، فقد تسمّى حدّاً أو تعزيراً أو تأديباً . ( ر : حدّ ، تعزير ، تأديب ) .
مواطن البحث :
5 - الإهانة هي عدوان من جانبٍ ، وتأتي في أبواب الرّدّة والقذف غالباً ، وهي عقوبة من جانبٍ آخر ، وتأتي في التّعزير ، والرّدّة ، والقذف .
وينظر مع ذلك بحث ( استخفافٍ ، وامتهانٍ ) .
إهداء *
انظر : هديّة .
أهل *
انظر : آل .
أهل الأهواء *
التّعريف :
1- الأهواء مفردها : هوًى : وهو محبّة الإنسان الشّيء وغلبته على قلبه .
وهو في الاصطلاح : ميل النّفس إلى خلاف ما يقتضيه الشّرع .
وأهل الأهواء من المسلمين هم : من زاغ عن الطّريقة المثلى من أهل القبلة كالجبريّة ، وهم الّذين يقولون : إنّ الإنسان لا كسب له ولا اختيار ، وكالقدريّة وهم الّذين ينكرون القدر ، ويقولون : إنّ الأمر أنف لم يسبق به علم اللّه ، وقد تسمّى الجبريّة ( قدريّةً ) لأنّهم غلوا في إثبات القدر ، وكالمعطّلة وهم الّذين ينفون صفات الخالق عزّ وجلّ ، وكالمشبّهة وهم الّذين يجعلون صفاته تعالى من جنس صفات المخلوقين ، ونحوهم .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - المبتدعة :
2 - المبتدعة من لهم طريقة في الدّين مخترعة تضاهي الشّرعيّة ، يقصد بالسّلوك عليها ما يقصد بالطّريقة الشّرعيّة .
ب - الملاحدة :
3 - الملاحدة والزّنادقة والدّهريّون - هم الّذين لا يؤمنون باللّه تعالى ولا بمحمّدٍ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وعلى هذا فالفرق بينهم وبين أهل الأهواء كبير ، إذ أنّ أهل الأهواء من جملة المسلمين ، يؤمنون باللّه تعالى وبمحمّدٍ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
مناظرة أهل الأهواء وكفّ شبههم :
4 - ينبغي لعلماء المسلمين أن يأخذوا أهل الأهواء بالحجّة ، ويكشفوا شبههم ، ويبيّنوا لهم فساد مذهبهم ، وصحّة مذهب أهل السّنّة ، ليدينوا بالحقّ الّذي رضي اللّه تعالى لعباده ، أو ليجتنبهم العامّة ، وليس للعامّة أن ينظروا في كتبهم ، بل عليهم هجرهم ، فقد كان السّلف ينهون عن مجالسة أهل البدع والنّظر في كتبهم والاستماع لكلامهم .
هجر أهل الأهواء :
5- الأصل أنه يحرم هجران المسلم فوق ثلاث إلا لوجه شرعي ، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يَحِلُ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فَيُعْرض هذا وَيُعْرض هذا ، وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام » .
وقد اعتبر السلف وجمهور الأئمة الابتداع في العقائد من الأسباب المشروعة للهجر ، وأوجبوا هجر أهل الأهواء من المبتدعة ، الذين يجاهرون ببدعتهم أو يدعون إليها .
توبة أهل الأهواء :
أهل الأهواء على نوعين :
6 - باطنيّة وغير باطنيّةٍ : أمّا الباطنيّة : فهم الّذين يظهرون غير ما يبطنون ، فهم يظهرون الصّوم والصّلاة ، ويبطنون القول بالتّناسخ وحلّ الخمر والزّنى ، والقول في محمّدٍ صلى الله عليه وسلم بما لا يليق .
وقد اختلف العلماء في قبول توبة هؤلاء على قولين :
الأوّل : أنّهم لا تقبل توبتهم ، لأنّ نحلهم تبيح لهم أن يظهروا غير ما يبطنون ، واللّه تعالى يقول : { إلاّ الّذين تابوا وأصلحوا وبَيَّنُوا } وهؤلاء الباطنيّة لا تظهر منهم علامة تبيّن رجوعهم وتوبتهم ، لأنّهم كانوا مظهرين للإسلام مسرّين للكفر ، وإلى هذا ذهب عليّ بن أبي طالبٍ وابن عمر والمالكيّة والحنابلة والحنفيّة والشّافعيّة في المفتى به عندهم ، واللّيث بن سعدٍ وإسحاق بن راهويه وغيرهم .
الثّاني : أنّهم تقبل توبتهم كسائر أهل الأهواء - كما سيأتي - وهو أحد القولين عند الحنفيّة والشّافعيّة ، ولكنّها لا تقبل إن كانت بعد أخذهم ، كما يقول الحنفيّة .
7- وأمّا غير الباطنيّة فهم الّذين يكون سرّهم كعلانيتهم ونحوهم ، وهؤلاء قد اختلف الفقهاء في قبول توبتهم .
فالجمهور على قبول توبتهم ، وإن اشترط البعض كالمرّوذيّ تأجيلهم سنةً حتّى يعلم إخلاصهم في توبتهم ، أخذاً من تصرّف عمر بن الخطّاب مع صبيغ بن عسلٍ التّميميّ حين انتظر به سنةً ، فلمّا علم صدق توبته عفا عنه .
وذهب البعض ومنهم ابن شاقلا الحنبليّ إلى أنّه لا تقبل توبتهم ، واحتجّ لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : « من سنّ سُنّةً سيّئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء » . وما روى أبو حفصٍ العكبريّ بإسناده عن أنسٍ مرفوعاً « أنّ اللّه احتجر التّوبةَ على صاحب بدعةٍ » .
والجدير بالذّكر أنّ هذه التّوبة لا يترتّب عليها من الآثار إلاّ الآثار الدّنيويّة فحسب ، من حيث استحقاقه التّعزير وعدم استحقاقه ، أمّا فيما بينه وبين اللّه تعالى فإنّ أمره موكول إليه . فإن كان صادقاً في توبته تجاوز اللّه عنه إن شاء ، وإن لم يكن صادقاً في توبته ، ردّت وخاب وخسر .
عقوبة أهل الأهواء :
8 - إذا كانت البدعة الّتي ينتحلها أهل الأهواء مكفّرةً فإنّهم يعاملون معاملة المرتدّين ، ويطبّق عليهم حدّ الرّدّة .
أمّا إن لم تكن مكفّرةً فإنّ عقوبتهم التّعزير بالاتّفاق ، ويفرّق بين الدّعاة منهم وبين غير الدّعاة ، فغير الدّعاة يعزّرون بالضّرب أو الحبس ، أو بما يغلب على الظّنّ أنّه نافع بهم ، وكره الإمام أحمد حبسهم ، وقال : إنّ لهم والداتٍ وأخواتٍ .
أمّا الدّعاة منهم والرّؤساء فيجوز أن يبلغ بهم التّعزير إلى القتل سياسةً ، قطعاً لدابر الإفساد في الأرض ، وعلى هذا الحنفيّة ، وطائفة من أصحاب الشّافعيّ ، وأصحاب أحمد ، وكثير من أصحاب الإمام مالكٍ رحمهم اللّه تعالى .
شهادة أهل الأهواء :
9 - اختلف الفقهاء في قبول شهادة أهل الأهواء الّذين لا يحكم بكفرهم ، فذهب مالك وأحمد بن حنبلٍ وشريك وأبو عبيدٍ القاسم بن سلّامٍ - وأبو ثورٍ إلى ردّ شهادتهم لأنّهم فسقة ، ولا يعذرون بالتّأويل .
وذهب الحنفيّة والشّافعيّة ومحمّد بن أبي ليلى وسفيان الثّوريّ إلى قبول شهادة أهل الأهواء ، إلاّ الخطّابيّة ، فإنّهم لا تقبل شهادتهم .
وقد فرّق الشّافعيّة في قبول شهادة أهل الأهواء بين الدّعاة وغيرهم ، فقبلوا شهادة العامّة منهم ، وردّوا شهادة الدّعاة لأنّهم مفسدون في الأرض ، وقد احتجّ هؤلاء في قبول شهادة أهل الأهواء بأنّ الهوى ناشئ عن التّعمّق في الدّين ، وذلك يصدّه عن الكذب .
وإنّما ردّوا شهادة الخطّابيّة منهم لأنّهم يعتقدون أنّ أصحابهم لا يكذبون - أي يعتقدون أنّ كلّ من كان على عقيدتهم لا يكذب - فإذا رأوه في قضيّةٍ شهدوا له بمجرّد التّصديق ، وإن لم يعلموا حقيقة الحال .
رواية أهل الأهواء للحديث :
10 - اختلف العلماء في قبول رواية أهل الأهواء للحديث .
فقد منع الرّواية عنهم ابن سيرين ومالك ، وابن عيينة والحميديّ ويونس بن أبي إسحاق وعليّ بن حربٍ وغيرهم . وحجّة هؤلاء :
أنّ أهل الأهواء : إمّا كفّار أو فسّاق ، ولا تحلّ الرّواية عن هؤلاء ، ولأنّ في ترك الرّواية عنهم إهانةً لهم وهجراً ، ونحن مأمورون بذلك ردعاً لهم عن الهوى ، ولأنّ الهوى لا يؤمن معه الكذب ، لا سيّما إذا كانت الرّواية ممّا يعضّد هوى الرّاوي .
ورخّص أبو حنيفة والشّافعيّ ويحيى بن سعيدٍ وعليّ بن المدينيّ وغيرهم في الرّواية عن أهل الأهواء ، إذا عرفوا بالصّدق ولم يتّهموا بالكذب كالخوارج ، دون من يتّهم من أهل الأهواء بالكذب . وفرّق جماعة بين الدّاعية من أهل الأهواء وغيره ، فمنعوا الرّواية عن الدّاعية منهم دون غيره ، ومن هؤلاء ابن المبارك وعبد الرّحمن بن مهديٍّ ، وأحمد بن حنبلٍ ويحيى بن معينٍ ، حتّى قال في فواتح الرّحموت : وعلى هذا أئمّة الفقه والحديث كلّهم ، ولأنّ المحاجّة والدّعوة إلى الهوى سبب داعٍ إلى التّقوّل ، فلا يؤمن على حديثه .
وفرّق جماعة بين من يغلو في هواه ومن لا يغلو ، وقريب من هذا قول يفرّق بين البدع المغلّظة ، كالتّجهّم والقدر ، والبدع المخفّفة ذات الشّبهة كالإرجاء . قال الإمام أحمد بن حنبلٍ في رواية أبي داود : احتملوا من المرجئة الحديث ، ويكتب عن القدريّ إذا لم يكن داعيةً .
إمامة أهل الأهواء في الصّلاة :
11-اختلف الفقهاء في الاقتداء بأهل الأهواء في الصّلاة .
فذهب الحنابلة في إحدى الرّوايتين عندهم إلى أنّه لا يجوز الاقتداء بأهل الأهواء مطلقاً ، فإن اقتدى بهم فصلاته باطلة .
وفرّقوا في روايةٍ أخرى بين الاقتداء بالمجاهر بهواه وبدعته الدّاعي إليها ، وبين من ليس كذلك ، فأجازوا الاقتداء بالمستسرّ بها ، وأبطلوه بالمجاهر والدّاعي .
وذهب المالكيّة : إلى أنّه إن اقتدى بأحدٍ من أهل الأهواء ، وجبت عليه الإعادة في الوقت ، لأنّه مختلف في كفرهم .
وذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى جواز الاقتداء بأهل الأهواء مع الكراهة التّنزيهيّة .
أهل البيت *
انظر : آل .
أهل الحرب *
التّعريف :
1 - أهل الحرب أو الحربيّون : هم غير المسلمين الّذين لم يدخلوا في عقد الذّمّة ، ولا يتمتّعون بأمان المسلمين ولا عهدهم .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - أهل الذّمّة :
2 - أهل الذّمّة هم الكفّار الّذين أقرّوا في دار الإسلام على كفرهم بالتزام الجزية ونفوذ أحكام الإسلام فيهم .
ب - أهل البغي :
3 - أهل البغي أو البغاة : هم فرقة خرجت على إمام المسلمين لمنع حقٍّ ، أو لخلعه ، وهم أهل مَنَعَةٍ .
والبغي : هو الامتناع من طاعة من ثبتت إمامته في غير معصيةٍ بمغالبةٍ ، ولو تأوّلاً .
ج - أهل العهد :
4 - هم الّذين صالحهم إمام المسلمين على إنهاء الحرب مدّةً معلومةً لمصلحةٍ يراها ، والمعاهد : من العهد : وهو الصّلح المؤقّت ، ويسمّى الهدنة والمهادنة والمعاهدة والمسالمة والموادعة .
د - المستأمنون :
5 - المستأمن في الأصل : الطّالب للأمان ، وهو الكافر يدخل دار الإسلام بأمانٍ ، أو المسلم إذا دخل دار الكفّار بأمانٍ .
انقلاب الذّمّيّ أو المعاهد أو المستأمن حربيّاً :
6 - يصبح الذّمّيّ والمعاهد والمستأمن في حكم الحربيّ باللّحاق باختياره بدار الحرب مقيماً فيها ، أو إذا نقض عهد ذمّته فيحلّ دمه وماله ، ويحاربه الإمام بعد بلوغه مأمنه وجوباً عند الجمهور ، وجوازاً عند الشّافعيّة .
ولا خلاف في محاربته إذا حارب المسلمين أو أعان أهل الحرب ، وللإمام أن يبدئه بالحرب ، قال اللّه تعالى : { وإن نَكَثُوا أيمانَهم من بعد عهدهم ، وطَعَنُوا في دينكم فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفرِ إِنّهم لا أَيْمَانَ لهم لعلّهم ينتهون } ، وحينما نقضت قريش صلح الحديبية ، سار إليهم الرّسول صلى الله عليه وسلم عام الفتح سنة ثمانٍ من الهجرة ، حتّى فتح مكّة .
وعندما « نقض بنو قريظة العهد سنة خمسٍ ، قتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجالهم ، وسبى ذراريّهم ، وأخذ أموالهم ، وكذلك بنو النّضير لمّا نقضوا العهد ، حاصرهم الرّسول صلى الله عليه وسلم سنة أربعٍ ، وأجلاهم » .
وهناك اتّجاهان في أسباب نقض الذّمّة :
الأوّل ، مذهب الحنفيّة : وهو أنّه لا ينتقض عهد الذّمّيّين ، إلاّ أن يكون لهم منعة يحاربون بها المسلمين ، ثمّ يلحقون بدار الحرب ، أو يغلبون على موضعٍ ، فيحاربوننا .
الثّاني ، مذهب الجمهور : تنتقض الذّمّة بمخالفة مقتضى العهد على ما يأتي في مصطلح ( أهل الذّمّة ) .
انقلاب الحربيّ ذمّيّاً :
7 - يصبح الحربيّ ذمّيّاً إمّا بالتّراضي ، أو بالإقامة لمدّة سنةٍ في دار الإسلام ، أو بالزّواج ، أو بالغلبة والفتح ، على خلافٍ وتفصيلٍ يأتي بيانه في مصطلح ( أهل الذّمّة ) .
انقلاب المستأمن إلى حربيٍّ :
8 - المستأمن : هو الحربيّ المقيم إقامةً مؤقّتةً في ديار الإسلام ، فيعود حربيّاً لأصله بانتهاء مدّة إقامته المقرّرة له في بلادنا ، لكن يبلغ مأمنه لقوله تعالى : { إلاّ الّذين عاهدتم من المشركين ، ثمّ لم يَنْقُصُوكم شيئاً ، ولم يُظَاهِروا عليكم أحداً ، فأَتِمُّوا إليهم عَهْدَهم إلى مُدَّتِهم } ، أو بنبذ العهد ، أي نقضه من جانب المسلمين ، لوجود دلالةٍ على الخيانة ، لقوله تعالى : { وإمّا تَخَافَنَّ من قومٍ خيانةً ، فانْبِذْ إليهم على سواءٍ ، إنّ اللّه لا يُحِبُّ الخائنين } ، وهي في أهل الهدنة أو الأمان ، لا في أهل جزيةٍ ، فلا ينبذ عقد الذّمّة ، لأنّه مؤبّد ، وعقد معاوضةٍ فهو آكد من عقد الهدنة .
وقد يصبح المستأمن حربيّاً بنقض الأمان من جانبه هو ، أو بعودته لدار الحرب بنيّة الإقامة ، لا التّجارة أو التّنزّه أو لحاجةٍ يقضيها ، ثمّ يعود إلى دار الإسلام ، فإذا رجع إليهم ولو لغير داره ، انتهى أمانه .
هذا ، وكلّ ما ينتقض به عهد الذّمّيّ ، ينتقض به أمان المستأمن ، على حسب الاتّجاهين السّابقين ، لأنّ عقد الذّمّة أمان مؤبّد ، وآكد من الأمان المؤقّت ، ولأنّ المستأمن كالذّمّيّ يلتزم بتطبيق أحكام الإسلام .
ومن نقض أمانه بنقض العهد ينبذ إليه ويبلغ المأمن عند الجمهور ، ويخيّر الإمام في شأنه كالأسير الحربيّ ، من قتلٍ ومنٍّ وفداءٍ وغيره عند الحنابلة .
انقلاب الحربيّ إلى مستأمنٍ :
9 - يصير الحربيّ مستأمناً بالحصول على أمانٍ من كلّ مسلمٍ بالغٍ عاقلٍ عند الجمهور ، أو حتّى من مميّزٍ عند آخرين .
دخول الحربيّ بلاد المسلمين بغير أمانٍ :
10 - ليس لأهل الحرب دخول دار الإسلام بغير أمانٍ ، لأنّه لا يؤمن أن يدخل جاسوساً ، أو متلصّصاً ، أو لشراء سلاحٍ ، فيضرّ بالمسلمين .
فإن قال : دخلت لسماع كلام اللّه تعالى ، أو دخلت رسولاً ، سواء أكان معه كتاب أم لم يكن ، أو دخلت بأمان مسلمٍ ، صدّق ولا يتعرّض له ، لاحتمال ما يدّعيه ، وقصد ذلك يؤمّنه من غير احتياجٍ إلى تأمينٍ ، لقوله تعالى : { وإِنْ أحدٌ من المشركين استَجَارَك فَأَجِرْهُ حتّى يسمعَ كلامَ اللّهِ ، ثمّ أبلِغْه مَأْمَنَهُ } ، وهذا قول الشّافعيّة .
وقال الحنفيّة : إن ادّعى الأمان لا يصدّق فيه ، بل يطالب ببيّنةٍ ، لإمكانها غالباً ، ولأنّ الثّابت بالبيّنة كالثّابت بالمعاينة .
وقريب من هذا قول الحنابلة : إنّ من دخل من الحربيّين دار الإسلام بغير أمانٍ ، وادّعى أنّه رسول ، أو تاجر ومعه متاع يبيعه ، قبل منه ، ويحقن دمه ، إن صدّقته عادة ، كدخول تجّارهم إلينا ونحوه ، لأنّ ما ادّعاه ممكن ، فيكون شبهةً في درء القتل ، ولأنّه يتعذّر إقامة البيّنة على ذلك ، فلا يتعرّض له ، ولجريان العادة مجرى الشّرط .
فيصدق إن كان معه تجارة يتّجر بها ، لأنّ التّجارة لا تحصل بغير مالٍ ، ويصدّق مدّعي الرّسالة إن كان معه رسالة يؤدّيها . وإن قال : أمّنني مسلم ، ففيه وجهان :
أحدهما : يقبل تغليباً لحقن دمه ، كما يقبل من الرّسول والتّاجر .
والثّاني : لا يقبل ، لأنّ إقامة البيّنة عليه ممكنة . فإن قال مسلم : أنا أمّنته ، قبل قوله ، لأنّه يملك أن يؤمّنه ، فقبل قوله فيه ، كالحاكم إذا قال : حكمت لفلانٍ على فلانٍ بحقٍّ .
وقال المالكيّة : إن أخذ الحربيّ بأرض الحربيّين حال كونه مقبلاً إلينا ، أو قال : جئت أطلب الأمان منكم ، أو أخذ بأرضنا ومعه تجارة ، وقال لنا : إنّما دخلت أرضكم بلا أمانٍ ، لأنّي ظننت أنّكم لا تتعرّضون لتاجرٍ ، أو أخذ على الحدود بين أرضنا وأرضهم ، وقال ما ذكر ، فيردّ لمأمنه في هذه الحالات . فإن وجدت قرينة كذبٍ ، لم يردّ لمأمنه .
أمّا إن دخل الحربيّ بلاد المسلمين بغير أمانٍ ، ولم تتحقّق حالة من الحالات السّابقة ، فعند الجمهور يعتبر كالأسير أو الجاسوس ، فيخيّر فيه الإمام بين القتل والاسترقاق والمنّ والفداء بحسب المصلحة . وفي قول أبي حنيفة يكون فيئاً لجماعة المسلمين .
دماء أهل الحرب وأموالهم :
11 - الحرب - كما هو معروف - حالة عداءٍ وكفاحٍ مسلّحٍ بين فريقين ، تقتضي إباحة الدّماء والأموال ، وهذا يقتضي بحث حالة العدوّ في غير حالة العهد ، وفي حالة العهد :
أ - في غير حالة العهد : الحربيّ غير المعاهد مهدر الدّم والمال ، فيجوز قتل المقاتلين ، لأنّ كلّ من يقاتل فإنّه يجوز قتله ، وتصبح الأموال من عقاراتٍ ومنقولاتٍ غنيمةً للمسلمين ، وتصير بلاد العدوّ بالغلبة أو الفتح ملكاً للمسلمين ، ويكون وليّ الأمر مخيّراً في الأسرى بين أمورٍ : هي القتل ، والاسترقاق ، والمنّ ( إطلاق سراح الأسير بلا مقابلٍ ) ، والفداء ( تبادل الأسرى أو أخذ المال فديةً عنهم ) ، وفرض الجزية على الرّجال القادرين .
فإن قبلوا الجزية وعقد الإمام لهم الذّمّة ، أصبحوا أهل ذمّةٍ ، ويكون لهم ما للمسلمين من الإنصاف ، وعليهم ما عليهم من الانتصاف ، قال عليّ رضي الله عنه : إنّما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا ، وأموالهم كأموالنا . ( ر : أهل الذّمّة ) .
ولا تتحقّق هذه الأحكام إلاّ بمشروعيّة الجهاد ، كما ذكر في الفتاوى الهنديّة ، ففيها : يشترط لإباحة الجهاد شرطان :
أحدهما : امتناع العدوّ عن قبول ما دعي إليه من الدّين الحقّ ، وعدم الأمان والعهد بيننا وبينهم .
والثّاني : أن يرجو الإمام الشّوكة والقوّة لأهل الإسلام ، باجتهاده أو باجتهاد من يعتدّ باجتهاده ورأيه . وإن كان لا يرجو القوّة والشّوكة للمسلمين في القتال ، فإنّه لا يحلّ له القتال ، لما فيه من إلقاء النّفس في التّهلكة .
ب - في حالة العهد : العهد من ذمّةٍ أو هدنةٍ أو أمانٍ يعصم الدّم والمال بالنّسبة للحربيّ ، فإن وجد عهد عصم دمه وماله ، وإن لم يوجد فهو على الأصل مهدر الدّم والمال .
وتبحث هنا أمور :
أوّلاً : قتل المسلم أو الذّمّيّ حربيّاً :
12 - جمهور الفقهاء على أنّه لا يقتصّ من المسلم والذّمّيّ بقتل الحربيّ ، ولو كان مستأمناً ، كما لا دية عليهما بقتل الحربيّ غير المستأمن ، بسبب وجود الشّبهة في إباحة دم الحربيّ ، ولكونه مباح الدّم في الأصل . وشرط القصاص ووجوب الدّية : كون المقتول معصوم الدّم أو محقون الدّم ، أي يحرم الاعتداء على حياته ، بل لا تجب الكفّارة عند القائلين بلزومها في حالة قتل مباح الدّم - كالحربيّ - قتلاً عمداً .
ثانياً : حصول المسلم أو الذّمّيّ على شيءٍ من مال الحربيّ بمعاملةٍ يحرّمها الإسلام :
13 - إذا دخل المسلم أو الذّمّيّ دار الحرب بأمانٍ فعاقد حربيّاً عقداً مثل الرّبا ، أو غيره من العقود الفاسدة في حكم الإسلام ، أو أخذ ماله بالميسر ونحوه ممّا حرّمه الإسلام ، لم يحلّ له ذلك عند الجمهور ، ومنهم أبو يوسف من الحنفيّة .
واستدلّوا بأنّ حرمة الرّبا ثابتة في حقّ المسلم والحربيّ ، أمّا بالنّسبة للمسلم فظاهر ، لأنّ المسلم ملتزم بأحكام الإسلام حيثما يكون ، وأمّا بالنّسبة للحربيّ ، فلأنّه مخاطب بالمحرّمات ، قال اللّه تعالى : { وأَخْذِهُم الرّبا وقد نُهُوا عنه } ، وآيات تحريم الرّبا ، مثل قوله تعالى : { وحرَّمَ الرّبا } ، وسائر الآيات والأخبار الدّالّة على تحريم الرّبا ، وهي عامّة تتناول الرّبا في كلّ مكان وزمانٍ .
وذهب أبو حنيفة ومحمّد إلى جواز ذلك ، مستدلّين بأنّ المسلم يحلّ له أخذ مال الحربيّ من غير خيانةٍ ولا غدرٍ ، لأنّ العصمة منتفية عن ماله ، فإتلافه مباح ، وفي عقد الرّبا ونحوه المتعاقدان راضيان ، فلا غدر فيه ، والرّبا ونحوه كإتلاف المال ، وهو جائز . قال محمّد في السّير الكبير : وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمانٍ ، فلا بأس بأن يأخذ منهم أموالهم بطيب أنفسهم بأيّ وجهٍ كان ، لأنّه إنّما أخذ المباح على وجهٍ عرا عن الغدر ، فيكون ذلك طيّباً منه . وأمّا خيانة المسلم المستأمن عندهم فمحرّمة ، لأنّهم إنّما أعطوا الأمان للمسلم أو الذّمّيّ مشروطاً بتركه خيانتهم ، وإن لم يكن ذلك مذكوراً في اللّفظ ، فهو معلوم في المعنى ، ولذلك من جاءنا منهم بأمانٍ فخاننا ، كان ناقضاً لعهده .
وإذا ثبت هذا لم تحلّ للمسلم خيانة الحربيّين إذا دخل دارهم بأمانٍ ، لأنّه غدر ، ولا يصلح في ديننا الغدر ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « المسلمون عند شروطهم » فإن خانهم ، أو سرق منهم ، أو اقترض شيئاً ، وجب عليه ردّ ما أخذ إلى أربابه ، فإن جاء أربابه إلى دار الإسلام بأمانٍ ، أو إيمانٍ ، ردّه عليهم ، وإلاّ بعث به إليهم ، لأنّه أخذه على وجهٍ حرم عليه أخذه ، فلزمه ردّ ما أخذ ، كما لو أخذه من مال مسلمٍ .
قال الإمام الشّافعيّ في الأمّ : وممّا يوافق التّنزيل والسّنّة ويعقله المسلمون ، ويجتمعون عليه ، أنّ الحلال في دار الإسلام حلال في بلاد الكفر ، والحرام في دار الإسلام حرام في بلاد الكفر ، فمن أصاب حراماً ، فقد حدّه اللّه على ما شاء منه ، ولا تضع عنه بلاد الكفر شيئاً .
ثالثاً : إتلاف ممتلكات أهل الحرب :
أ - في حالة الأمان أو العهد :
14 - العهد يعصم الدّماء والأموال ، ويوجب الكفّ عن أعمال القتال ، قال بعض فقهاء الحنفيّة : إذا دخل المسلم دار الحرب تاجراً ( بأمانٍ ) ، فلا يحلّ له أن يتعرّض لشيءٍ من أموالهم ولا من دمائهم ، لأنّه ضمن ألا يتعرّض لهم بالاستئمان ، فالتّعرّض بعد ذلك يكون غدراً والغدر حرام ، إلاّ إذا غدر به ملكهم ، فأخذ أمواله أو حبسه ، أو فعل ذلك غير الملك بعلم الملك ولم يمنعه ، لأنّهم هم الّذين نقضوا العهد ، بخلاف الأسير ، لأنّه غير مستأمنٍ ، فيباح له التّعرّض للمال والدّم ، وإن أطلقوه طوعاً .
ب - في حالة عدم العهد والأمان :
15 - في حال الحرب يجوز بالاتّفاق إتلاف أشجار العدوّ ، وذبح مواشيهم ، وإتلاف سائر أموالهم إن كان في ذلك مصلحة للمسلمين ، كإتلاف ما يتقوّون به من الآليّات والحصون والسّلاح والخيل ، وإتلاف الشّجر الّذي يستترون به ، أو يعوق العمليّات الحربيّة ، أو يحتاج المسلمون لقطعه لتوسيع طريقٍ ، أو تمكّنٍ من سدّ ثغرةٍ ، أو احتاجوا إليه للأكل ، أو يكون الكفّار يفعلون بنا ذلك ، فنفعل بهم مثله لينتهوا ، فهذا يجوز بغير خلافٍ .
وأمّا إتلاف ذلك لغير مصلحةٍ إلاّ لمغايظة الكفّار والإضرار بهم والإفساد عليهم ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك . فذهب الحنفيّة والمالكيّة وأحمد في روايةٍ في الأشجار والزّروع : إلى أنّ ذلك جائز ، لقول اللّه تعالى : { ما قَطَعْتُم من لِينَةٍ أو تركتموها قائمةً على أصولها فَبِإِذنِ اللّه وَلِيُخْزِيَ الفاسقين } . وقوله تعالى { ولا يَنَالُون من عَدُوٍّ نيلاً إلاّ كُتِبَ لهم به عملٌ صالحٌ } ، لكن قال ابن الهمام : هذا إذا لم يغلب على الظّنّ أنّهم مأخوذون بغير ذلك ، فإن كان الظّاهر أنّهم مغلوبون ، وأنّ الفتح بادٍ ( أي ظاهر قريب ) كره ذلك ، لأنّه إفساد في غير محلّ الحاجة ، وما أبيح إلاّ لها .
وقال الحنابلة في روايةٍ والأوزاعيّ واللّيث وأبو ثورٍ : لا يجوز ذلك لأنّه إتلاف محض .
عمل ما ينفع أهل الحرب ويقوّيهم
أ - الوصيّة لأهل الحرب :
16- هناك اتّجاهان في الوصيّة لأهل الحرب :
الاتّجاه الأوّل : لا تصحّ الوصيّة للحربيّ إذا كان في دار الحرب ، لأنّ في ذلك قوّةً لهم ، فالتّبرّع بتمليكه المال ، يكون إعانةً له على الحرب ، وأنّه لا يجوز ، ولقوله تعالى : { إنّما يَنْهاكم اللّهُ عن الّذين قَاتَلوكم في الدِّين ، وأخرجُوكم من ديارِكم ، وظَاهَروا على إخراجِكم أَنْ تَوَلَّوْهُم ، ومن يتولّهم فأولئك هم الظّالمون } .
فدلّ ذلك على أنّ من قاتلنا لا يحلّ برّه ، وهذا اتّجاه الحنفيّة والمالكيّة .
والاتّجاه الثّاني : للشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة - يجيز الوصيّة لحربيٍّ معيّنٍ ، لا لعامّة الحربيّين ، سواء أكان بدار الحرب أم بدارنا ، لأنّه تصحّ الهبة والصّدقة له ، فصحّت له الوصيّة كالذّمّيّ ، وقد روي : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعطى عمر حلّةً ، فقال : يا رسول اللّه ، أكسوتنيها : وقد قلت في حلّة عطارد ما قلت ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّي لم أكسكها لتلبسها ، فكساها عمر أخاً له مشركاً بمكّة » .
وعن أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما ، قالت : « أتتني أمّي راغبة في عهد قريشٍ ، وهي مشركة ، فسألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أصلها ؟ قال : نعم » . زاد البخاريّ . قال ابن عيينة : فأنزل اللّه فيها : { لا ينهاكم اللّه عن الّذين لم يقاتلوكم في الدّين … } الآية ، ومعنى راغبةٍ : أي طامعة تسألني شيئاً . فهذان فيهما صلة أهل الحرب وبرّهم ، ثمّ قد حصل الإجماع على جواز الهبة ، والوصيّة في معناها .
ومن أدلّة الجواز : قوله تعالى : { وإِنْ جَاهدَاك على أن تُشْرِكَ بي ما ليس لك به علمٌ فلا تُطِعْهُما وصاحِبْهما في الدّنيا مَعْرُوفاً } .
ب - الوقف على أهل الحرب :
17 - اتّفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنّه لا يجوز الوقف على الحربيّين ، والوقف باطل ، لأنّ أموالهم مباحة في الأصل ، ويجوز أخذها منهم بالقهر والغلبة ، فما يتجدّد لهم أولى ، والوقف لا يجوز أن يكون مباح الأخذ ، لأنّه تحبيس الأصل ، ولأنّه يشترط في الوقف أن يكون قربةً في ذاته ، وعند التّصرّف ، والوقف على الحربيّ معصية وليس قربةً .
ج - الصّدقة على أهل الحرب :
18 - اتّفق الأئمّة الأربعة على صحّة الصّدقة أو الهبة للحربيّ ، لأنّه ثبت في السّيرة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أهدى إلى أبي سفيان تمر عجوةٍ ، حين كان بمكّة محارباً ، واستهداه أدماً » . و « بعث بخمسمائة دينارٍ إلى أهل مكّة حين قحطوا لتوزّع بين فقرائهم ومساكينهم » . وفي قوله تعالى : { وَيُطْعِمُون الطّعامَ على حُبِّهِ مِسْكيناً ويتيماً وأسيراً إنّما نطعمكم لوجْهِ اللّه لا نُريدُ منكم جَزَاءً ولا شُكُوراً } . قال الحسن كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يؤتى بالأسير ، فيدفعه إلى بعض المسلمين ، فيقول : « أحسن إليه » فيكون عنده اليومين والثّلاثة ، فيؤثر على نفسه . وعند عامّة العلماء : يجوز الإحسان إلى الكفّار في دار الإسلام ، وعن قتادة : كان أسيرهم يومئذٍ المشرك .
د - توارث الذّمّيّ والحربيّ :
19 - يرى جمهور الفقهاء أنّ اختلاف الدّارين لا يمنع من التّوارث بين الكفّار ، ويرى بعض الفقهاء أنّ اختلاف الدّارين يمنع التّوارث . وفي ذلك تفصيل تقدّم في ( إرثٍ/ ج 3) .
هـ - إرث المسلم الحربيّ ، والحربيّ المسلم :
20 - ذهب الجمهور إلى أنّه لا يرث المسلم كافراً ، والكفّار مسلماً ، وفي ذلك خلاف وتفصيل يرجع إليه في : ( إرثٍ ) .
و - الاتّجار مع أهل الحرب :
21 - تدلّ عبارات الفقهاء على جواز الاتّجار مع الحربيّين ، فللمسلم أو الذّمّيّ دخول دار الحرب بأمانٍ للتّجارة ، وللحربيّ دخول دارنا تاجراً بأمانٍ ، وتؤخذ العشور على التّجارة العابرة عند اجتياز حدود دار الإسلام . ولكن لا يجوز إمداد المحاربين بما يقوّيهم من السّلاح والآلات والموادّ الّتي يصنع منها السّلاح ، كما لا يجوز السّماح بالاتّجار بالمحظورات الشّرعيّة كالخمور والخنازير وسائر المنكرات ، لأنّها مفاسد ممنوعة شرعاً ، ويجب مقاومتها . وليس للحربيّ المستأمن شراء الأسلحة من بلاد الإسلام .
وفيما عدا هذه القيود يجوز أن تظلّ حرّيّة التّجارة قائمةً ، إلاّ أنّ المالكيّة انفردوا بالقول بمنع التّصدير من بلادنا ، ومتاجرة المسلمين في دار الحرب إذا كانت أحكامهم تجري على التّجّار ، لأنّ في تصدير أيّ شيءٍ إليهم تقويةً لهم على المسلمين ، ولأنّ المسلم ممنوع من الإقامة في دار الشّرك ، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أنا بَرِيءٌ من كُلِّ مُسْلمٍ يُقِيْمُ بين أَظْهُرِ المشركين » . كما أنّه لا يجوز تصدير الأطعمة ونحوها إلاّ إذا كانت هناك هدنة مع العدوّ ، أمّا في غير الهدنة فلا يجوز .
والأدلّة على جواز التّصدير من بلادنا منها : حديث ثمامة بن أثالٍ الحنفيّ بعد أن أسلم ، « فإنّه قال لأهل مكّة حين قالوا له : صبوت ؟ فقال : إنّي واللّه ما صبوت ، ولكنّي واللّه أسلمت ، وصدّقت محمّداً صلى الله عليه وسلم وآمنت به ، وايم اللّه الّذي نفس ثمامة بيده ، لا تأتيكم حبّة من اليمامة – وكانت ريف مكّة – حتّى يأذن فيها محمّد صلى الله عليه وسلم وانصرف إلى بلده ، ومنع الحمل إلى مكّة ، حتّى جهدت قريش ، فكتبوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة ، يحمل إليهم الطّعام ، ففعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم » . فهذا يدلّ على جواز تصدير الأطعمة ونحوها إلى الأعداء ، حتّى ولو كانت حالة الحرب قائمةً معهم .
ومن الأدلّة أيضاً الأحاديث السّابقة المذكورة في بحث الصّدقة على أهل الحرب والوصيّة لهم ( قصّة إهداء التّمر لأبي سفيان ، وصلة أسماء أمّها المشركة ، وإطعام المسلمين الأسرى ) . أمّا الدّليل على حظر تصدير الأسلحة ونحوها ، فمنه :
حديث عمران بن حصينٍ رضي الله عنه : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السّلاح في الفتنة » ، والفتنة : الحروب الدّاخليّة ، وفتنة غير المسلمين أشدّ عليهم ، فكان أولى ألاّ يباع لهم . وقال الحسن البصريّ : لا يحلّ لمسلمٍ أن يحمل إلى عدوّ المسلمين سلاحاً يقوّيهم به على المسلمين ، ولا كراعاً ، ولا ما يستعان به على السّلاح والكراع .
هذا وإنّ في بيع السّلاح للأعداء تقويةً لهم على قتال المسلمين ، وباعثاً لهم على شنّ الحروب ، ومواصلة القتال لاستعانتهم به ، وذلك يقتضي المنع .
نكاح المسلم الحربيّة الكتابيّة :
22 - صريح القرآن أنّه يحلّ للمسلم التّزوّج بالمرأة الكتابيّة ، ويدخل في ذلك الذّمّيّات منهنّ ، كما تدخل الحربيّات الكتابيّات لا فرق بين الصّنفين ، وذلك لقوله تعالى : { وطعامُ الّذين أوتوا الكتاب حِلٌّ لكم وطعامُكم حِلٌّ لهم والمحصناتُ من المؤمنات والمحصناتُ من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم } على أنّ في ذلك خلافاً وتفصيلاً يرجع إليه في بحث ( نكاحٍ ) .
النّفقة على الزّوجة والأقارب الحربيّين :
أوّلاً : نفقة الزّوجة الحربيّة :
23 - اتّفق الفقهاء على وجوب النّفقة للزّوجة مطلقاً ، فالكتابيّة كالمسلمة في استحقاق النّفقة وغيرها من حقوق الزّواج ، سواء كانت الزّوجة في أثناء الزّواج فعلاً ، أم في العدّة ، لاشتراكهما ( أي المسلمة وغيرها ) في رابطة الزّوجيّة ، وفي سبب الاستحقاق وشرطه ، فهي محبوسة على الزّوج يمنعها من التّصرّف والاكتساب ، فوجبت نفقتها عليه . واللّه تعالى أثبت للزّوجة حقّ النّفقة على زوجها ، لقوله عزّ وجلّ : { لِيُنفقْ ذو سَعَةٍ من سعته ومن قُدِرَ عليه رِزقُه فلْينفقْ ممّا آتاه اللَّهُ لا يكلّف اللّهُ نفساً إلاّ ما آتاها } ، ولم تفرّق النّصوص بين المسلمة والكتابيّة . ( ر : نفقة ) .
ثانياً : نفقة الأقارب الحربيّين :
24 - يرى المالكيّة على المشهور والشّافعيّة أنّه تجب على الموسر المسلم نفقة أقاربه المعسرين ، ولو كانوا كفّاراً ، أي ولو كان هناك اختلاف في الدّين ، لكن بعض أصحاب هذا الاتّجاه يقصرون إيجاب النّفقة على الوالدين والولد فقط ، فتجب عندهم النّفقة على الولد لأبويه المعسرين فقط ، كما تجب نفقة الولد المعسر على أبيه الموسر ، سواء أكان الولد كافراً والأبوان مسلمين ، أم كان الولد مسلماً والأبوان كافرين .
والشّافعيّة يوجبون نفقة الوالد وإن علا ، ونفقة الولد وإن سفل ، وإن اختلفت ملّتهما . ودليل الفريقين : وجود الموجب للنّفقة ، وهو الجزئيّة والبعضيّة بين الوالد والولد ، كالحكم بردّ الشّهادة بسبب الولادة . ( ر : نفقة ) .
ويرى الحنفيّة والحنابلة : أنّه لا تجب النّفقة بسبب اختلاف الدّين ، فلا تجب على المسلم نفقة أبويه الحربيّين ، ولا يجبر الحربيّ على الإنفاق على أبيه المسلم أو الذّمّيّ ، لأنّ استحقاق النّفقة بطريق الصّلة والبرّ والمواساة ، ولا تستحقّ الصّلة للحربيّ ، للنّهي عن برّهم ، في قوله تعالى : { إنّما يَنهاكم اللّهُ عن الّذين قاتَلوكم في الدّين وأخْرَجوكم من ديارِكم وظَاهَرُوا على إخراجكم أن تَوَلَّوْهُم ومن يتولّهم فأولئك هم الظّالمون } ، ولأنّهما غير متوارثين ، فلم يجب لأحدهما على الآخر نفقته بالقرابة .
وتختلف عن نفقة الزّوجات ، لأنّ نفقة الزّوجات عوض تجب مع الإعسار ، فلم ينافها اختلاف الدّين كالصّداق والأجرة ، ولأنّ نفقة الوالدين صلة ومواساة كما ذكر ، فلا تجب مع اختلاف الدّين ، كأداء زكاته إليه ، وإرثه منه . لكن يقول الحنابلة ، والكاسانيّ من الحنفيّة : تجب النّفقة بين الذّمّيّ والمستأمن ، أو بين المستأمنين في قرابة الأصول والفروع ، لأنّ اختلاف الدّين لا يمنع من الإلزام بالنّفقة في حقّ الولادة .
أهل الحلّ والعقد *
التّعريف :
1 - يطلق لفظ " أهل الحلّ والعقد " على أهل الشّوكة من العلماء والرّؤساء ووجوه النّاس الّذين يحصل بهم مقصود الولاية ، وهو القدرة والتّمكّن ، وهو مأخوذ من حلّ الأمور وعقدها .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - أهل الاختيار :
2 - أهل الاختيار هم الّذين وكّل إليهم اختيار الإمام . وهم جماعة من أهل الحلّ والعقد ، وقد يكونون جميع أهل الحلّ والعقد ، وقد يكونون بعضاً منهم .
ب - أهل الشّورى :
3 - المستقرئ لحوادث التّاريخ يجد أنّ هناك فرقاً بين أهل الشّورى وأهل الحلّ والعقد ، إذ الصّفة البارزة في أهل الشّورى " هي العلم " لكن الصّفة البارزة في أهل الحلّ والعقد هي " الشّوكة " . فقد ورد أنّ أبا بكرٍ رضي الله عنه كان إذا حزبه أمر استدعى عمر بن الخطّاب وعثمان بن عفّان وعبد الرّحمن بن عوفٍ ومعاذ بن جبلٍ وأبيّ بن كعبٍ وزيد بن ثابتٍ ، وكلّ هؤلاء كان يفتي في خلافة أبي بكرٍ ، فاستشارهم في حين كان من بين الّذين تولّوا بيعة أبي بكرٍ من أهل الحلّ والعقد بشير بن سعدٍ ، ولم يكن بشير من أهل الفتوى من الصّحابة ، ولكنّه كان مسموع الكلمة في قومه - الخزرج - ويقال إنّه أوّل من بايع أبا بكرٍ الصّدّيق يوم السّقيفة من الأنصار .
صفات أهل الحلّ والعقد :
4 - لمّا نيط بأهل الحلّ والعقد عمل معيّن - وهو تعيين الخلفاء - كان لا بدّ من أن تتوفّر فيهم الصّفات التّالية :
أ - العدالة الجامعة لشروطها الواجبة في الشّهادات من الإسلام والعقل والبلوغ وعدم الفسق واكتمال المروءة .
ب - العلم الّذي يوصل به إلى معرفة من يستحقّ الإمامة على الشّروط المعتبرة فيها .
ج - الرّأي والحكمة المؤدّيان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح .
د - أن يكون من ذوي الشّوكة الّذين يتّبعهم النّاس ، ويصدرون عن رأيهم ، ليحصل بهم مقصود الولاية .
هـ- الإخلاص والنّصيحة للمسلمين .
تعيين " أهل الاختيار" من أهل الحلّ والعقد :
5 - الأصل أنّ أهل الحلّ والعقد هم كلّ من تتوافر فيه الصّفات السّابقة ، إلاّ أنّ من يباشر الاختيار منهم هم فئة منهم في الغالب يطلق عليها أهل الاختيار .
ويتمّ تعيين أهل الاختيار ( وهم مجموعة من أهل الحلّ والعقد ) بأحد طريقين :
أ - تعيّن الخليفة لهم : كما فعل عمر بن الخطّاب بتعيين ستّةٍ من أهل الحلّ والعقد ليختاروا واحداً منهم خليفةً للمسلمين بعده ، وكان ذلك بمحضرٍ من الصّحابة دون نزاعٍ .
ب - التّعيين بالحضور : إذا لم يعيّن الخليفة جماعةً من أهل الحلّ والعقد فإن من يتيسّر حضوره منهم تنعقد به البيعة ، ويقوم الحضور مقام التّعيين .
أعمال أهل الحلّ والعقد :
6 - من ذلك :
أ - تولية الخليفة : وهذا إجماع لا خلاف فيه لأحدٍ من أهل السّنّة والجماعة .
ب - تجديد البيعة لمن عهد إليه بالإمامة عند وفاة الإمام ، إذا كان حين عهد إليه غير مستجمعٍ لشروط انعقاد الإمامة ، قال الماورديّ : تعتبر شروط الإمامة في المولّى من وقت العهد إليه ، فإن كان صغيراً أو فاسقاً وقت العهد ، ثمّ أصبح بالغاً عدلاً عند موت المولّي لم تصحّ خلافته ، حتّى يستأنف أهل الاختيار بيعته .
ج - استقدام المعهود إليه الغائب عند موت الإمام .
د - تعيين نائبٍ للإمام الّذي ولّي غائباً إلى أن يقدم ، قال الماورديّ : إذا عهد الإمام إلى غائبٍ ، ومات الإمام والمعهود إليه على غيبته ، استقدمه أهل الاختيار ، فإن بعدت غيبته واستضرّ المسلمون بتأخير النّظر في أمورهم استناب أهل الاختيار نائباً عنه ، يبايعونه بالنّيابة دون الخلافة .
هـ - عزل الإمام عند وجود ما يقتضيه وينظر في إمامته .
عدد من تنعقد بهم الإمامة من أهل الحلّ والعقد :
7 - اختلف العلماء في عدد من تنعقد بهم الإمامة من أهل الحلّ والعقد على مذاهب شتّى فقالت طائفة : لا تنعقد إلاّ بأكثريّة أهل الحلّ والعقد من كلّ بلدٍ ، ليكون الرّضى به عامّاً ، والتّسليم لإمامته إجماعاً ، وهو ما ذهب إليه الحنابلة ، قال الإمام أحمد : الإمام الّذي يجتمع عليه ، كلّهم يقول : هذا إمام . وقالت طائفة أخرى : أقلّ من تنعقد به منهم خمسة ، يجتمعون على عقدها ، أو يعقدها أحدهم برضى الأربعة . والّذي عليه الحنفيّة والشّافعيّة أنّ الإمامة تنعقد بتولية جماعةٍ من أهل الحلّ والعقد دون تحديد عددٍ معيّنٍ .
وتفصيل ما أجمل هنا موطنه مصطلح ( الإمامة الكبرى ) .
أهل الدّيوان *
التّعريف :
1 - الدّيوان : لفظ فارسيّ معرّب معناه : مجتمع الصّحف والكتاب ، يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطيّة . والدّيوان : جريدة الحساب ثمّ أطلق على الحساب . ثمّ أطلق على موضع الحساب . ويسمّى مجموع شعر الشّاعر ديواناً ، قال صاحب التّاج : فمعانيه خمسة : الكتبة ، ومحلّهم ، والدّفتر ، وكلّ كتابٍ ، ومجموع الشّعر .
والدّيوان عند الفقهاء : هو الدّفتر الّذي يثبت فيه أسماء العاملين في الدّولة ولهم رزق أو عطاء في بيت المال ، ويراد به أيضاً المكان الّذي فيه الدّفتر المذكور وكتابه .
وأهل الدّيوان : هم هؤلاء الّذين يأخذون رزقاً منه . ووظيفة الدّيوان : حفظ ما يتعلّق بحقوق الدّولة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمّال .
أوّل من وضع الدّيوان ، وسبب وضعه :
2 - أوّل من وضع الدّيوان في الدّولة الإسلاميّة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ، وذلك لمّا قدم عليه أبو هريرة رضي الله عنه بمالٍ من البحرين ، فقال له عمر : ماذا جئت به ؟ فقال : خمسمائة ألف درهمٍ . فاستكثره عمر ، فقال : أتدري ما تقول ؟ قال : نعم ، مائة ألفٍ خمس مرّاتٍ ، فقال عمر : أطيّب هو ؟ فقال : لا أدري ، فصعد عمر المنبر ، فحمد اللّه تعالى وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها النّاس قد جاءنا مال كثير ، فإن شئتم كلنا لكم كيلاً ، وإن شئتم عددنا لكم عدّاً ، فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين قد رأيت الأعاجم يدوّنون ديواناً لهم ، فدوّن أنت لهم ديواناً . وقال آخرون : بل سبب وضعه أنّ عمر بعث بعثاً ، وكان عنده الهرمزان ، فقال لعمر : هذا بعث قد أعطيت أهله الأموال فإن تخلّف منهم رجل وآجل بمكانه ، فمن أين يعلم صاحبك به ، فأثبت لهم ديواناً ، فسأله عن الدّيوان حتّى فسّره له .
أصناف أهل الدّيوان :
3 - سبق أنّ أهل الدّيوان هم من يرزقون منه ، وهم . عدّة أصنافٍ منهم :
أ - أفراد الجيش : لا بدّ لإثباتهم في الدّيوان من شروطٍ أوردها الماورديّ وهي :
- 1 - البلوغ : فإنّ الصّبيّ من جملة الذّراريّ والأتباع ، فكان عطاؤه جارياً في عطاء الذّراريّ .
- 2 - الحرّيّة : لأنّ المملوك تابع لسيّده ، فكان داخلاً في عطائه ، وخالف في هذا الشّرط أبو حنيفة ، وهو رأي أبي بكرٍ الصّدّيق رضي الله عنه .
- 3 - الإسلام : ليدفع عن الملّة باعتقاده ويوثق بنصحه واجتهاده .
- 4 - السّلامة من الآفات المانعة من القتال .
- 5 - أن يكون فيه إقدام على الحرب ومعرفة بالقتال .
- 6 - أن يتجرّد عن كلّ عملٍ . ولا يخفى أنّ هذه الشّروط تنظيميّة قابلة للنّظر فيها بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة بما يحقّق المصلحة .
ب - ذوو الولايات ، كالولاة والقضاء والعلماء والسّعاة على المال جمعاً وحفظاً وقسمةً ونحو ذلك ، وأئمّة الصّلاة والمؤذّنين .
ج - ذوو الحاجات ، لأثر عمر رضي الله عنه ، ليس أحد أحقّ بهذا المال من أحدٍ ، إنّما هو الرّجل وسابقته ، والرّجل وغناؤه ، والرّجل وبلاؤه ، والرّجل وحاجته .
القول الضّابط في المصارف :
4 - قال إمام الحرمين : من يرعاه الإمام بما في يده من المال ثلاثة أصنافٍ :
- 1 - صنف منهم محتاجون ، والإمام يبغي سدّ حاجاتهم ، وهؤلاء معظم مستحقّي الزّكوات ، الّذين ورد ذكرهم في الآية { إنّما الصّدقات للفقراء والمساكين ... } .
- 2 - أقوام يبغي الإمام كفايتهم ، ويدرأ عنهم بالمال الموظّف لهم حاجتهم ، ويتركهم مكفيّين ليكونوا متجرّدين لما هم بصدده من مهمّ الإسلام ، وهؤلاء صنفان :
أ - المرتزقة : وهم نجدة المسلمين وعدّتهم ووزرهم وشوكتهم ، فينبغي أن يصرف إليهم ما يرمّ خلّتهم ويسدّ حاجتهم .
ب - الّذين انتصبوا لإقامة أركان الدّين ، وانقطعوا بسبب اشتغالهم واستقلالهم بها عن التّوصّل إلى ما يقيم أودهم ويسدّ خلّتهم ، ولولا قيامهم بما لابسوه لتعطّلت أركان الإيمان ، فعلى الإمام أن يكفيهم مؤنتهم ، حتّى يسترسلوا فيما تصدّوا له ، وهؤلاء هم القضاة والحكّام والقسّام والمفتون والمتفقّهون ، وكلّ من يقوم بقاعدةٍ من قواعد الدّين يلهيه قيامه عمّا فيه سداده وقوامه .
- 3 - قوم يصرف إليهم طائفة من مال بيت المال على غناهم واستظهارهم ، ولا يتوقّف استحقاقهم على سدّ حاجةٍ ، وهم بنو هاشمٍ وبنو المطّلب ، المسمّون في كتاب اللّه : ( ذوي القربى ) .
التّفاضل في العطاء بين أهل الدّيوان :
5 - اختلف الصّحابة رضي الله عنهم في عطاء أهل الدّيوان :
فقد كان أبو بكرٍ الصّدّيق وعليّ رضي الله عنهما يريان التّسوية بين أهل الدّيوان في العطاء ، ولا يريان التّفضيل بالسّابقة ، وإلى هذا ذهب الشّافعيّ ومالك .
أمّا عمر بن الخطّاب وعثمان رضي الله عنهما فقد كانا يريان التّفضيل بالسّابقة في الإسلام ، وزاد عمر التّفضيل بالقرابة من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مع السّابقة في الإسلام . وأخذ بقولهما من الفقهاء أبو حنيفة وأحمد وفقهاء العراق .
وقد ناظر عمر أبا بكرٍ حين سوّى بين النّاس فقال : " أتسوّي بين من هاجر الهجرتين وصلّى إلى القبلتين ، ومن أسلم عام الفتح خوف السّيف ؟ فقال له أبو بكرٍ : إنّما عملوا للّه وأجورهم على اللّه ، وإنّما الدّنيا دار بلاغٍ ، فقال عمر : لا أجعل من قاتل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه . "
علاقة أهل الدّيوان بالعاقلة :
6 - الأصل في العاقلة هم : من ينتصر بهم القاتل من قرابةٍ وعشيرةٍ ، وعلى هذا جرى الأمر في صدر الإسلام ، ثمّ مع كثرة الموالي وضعف الاهتمام بالانتساب للقبائل ، اعتبر بعض الفقهاء من العاقلة : ( الدّيوان ) وأهل الحرفة ، وأهل السّوق ، وغيرهما ممّا يتناصر به . ولا خلاف أنّ النّساء والذّرّيّة - ممّن له حظّ في الدّيوان - وكذا المجنون لا شيء عليهم من الدّية . واختلف الفقهاء هل على أهل الدّيوان دية أم لا ؟ .
فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الدّية على أهل الدّيوان ، وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا مدخل لأهل الدّيوان في المعاقلة . وينظر التّفصيل والخلاف في مصطلح ( عاقلةٍ ) .
أهل الذّمّة *
التّعريف :
1 - الذّمّة في اللّغة : الأمان والعهد ، فأهل الذّمّة أهل العهد ، والذّمّيّ : هو المعاهد . والمراد بأهل الذّمّة في اصطلاح الفقهاء الذّمّيّون ، والذّمّيّ نسبة إلى الذّمّة ، أي العهد من الإمام - أو ممّن ينوب عنه - بالأمن على نفسه وماله نظير التزامه الجزية ونفوذ أحكام الإسلام . وتحصل الذّمّة لأهل الكتاب ومن في حكمهم بالعقد أو القرائن أو التّبعيّة ، فيقرّون على كفرهم في مقابل الجزية ، كما سيأتي تفصيله .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - أهل الكتاب :
2 - قال الحنفيّة والحنابلة : أهل الكتاب هم : اليهود والنّصارى ومن دان بدينهم ، فيدخل في اليهود السّامرة ، لأنّهم يدينون بالتّوراة ويعملون بشريعة موسى عليه السلام ، ويدخل في النّصارى كلّ من دان بالإنجيل وانتسب إلى عيسى عليه السلام بالادّعاء والعمل بشريعته . وقال الشّافعيّة والمالكيّة : أهل الكتاب هم اليهود والنّصارى .
وأهل الذّمّة قد يكونون من أهل الكتاب ، وقد يكونون من غيرهم كالمجوس ، فالنّسبة بين أهل الذّمّة وأهل الكتاب : أنّ كلّ واحدٍ منهما أعمّ من الآخر من وجهٍ ، وأخصّ منه من وجهٍ آخر ، فيجتمعان في الكتابيّ إذا كان من أهل الذّمّة .
ب - أهل الأمان " المستأمنون " :
3 - المراد بالمستأمن عند الفقهاء : من دخل دار الإسلام على أمانٍ مؤقّتٍ من قبل الإمام أو أحد المسلمين ، على تفصيلٍ يذكر في مصطلحه ، وعلى ذلك فالفرق بينه وبين أهل الذّمّة : أنّ الأمان لأهل الذّمّة مؤبّد ، وللمستأمنين مؤقّت .
ج - أهل الحرب :
4 - المراد بأهل الحرب : الكفّار من أهل الكتاب والمشركين الّذين امتنعوا عن قبول دعوة الإسلام ، ولم يعقد لهم عقد ذمّةٍ ولا أمانٍ ، ويقطنون في دار الحرب الّتي لا تطبّق فيها أحكام الإسلام . فهم أعداء المسلمين الّذين يعلن عليهم الجهاد مرّةً أو مرّتين كلّ عامٍ .
وتفصيله في مصطلحه .
ما يكون به غير المسلم ذمّيّاً :
5 - يصير غير المسلم ذمّيّاً بالعقد ، أو بقرائن معيّنةٍ تدلّ على رضاه بالذّمّة ، أو بالتّبعيّة لغيره ، أو بالغلبة والفتح . وفيما يأتي تفصيل هذه الحالات :
أوّلاً - عقد الذّمّة :
6 - عقد الذّمّة : إقرار بعض الكفّار على كفره بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الإسلام الدّنيويّة ، والغرض منه : أن يترك الذّمّيّ القتال ، مع احتمال دخوله الإسلام عن طريق مخالطته بالمسلمين ، ووقوفه على محاسن الدّين . فكان عقد الذّمّة للدّعوة إلى الإسلام ، لا للرّغبة أو الطّمع فيما يؤخذ منهم من الجزية . وينعقد هذا العقد بإيجابٍ وقبولٍ باللّفظ ، أو ما يقوم مقامه ، ولا تشترط كتابته كما هو الشّأن في سائر العقود ، ومع هذا فكتابة العقد أمر مستحسن لأجل الإثبات ، ودفعاً لمضرّة الإنكار والجحود .
من يتولّى إبرام العقد :
7 - جمهور الفقهاء : المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ عقد الذّمّة مع غير المسلم يتولّى إبرامه الإمام أو نائبه ، فلا يصحّ من غيرهما ، لأنّ ذلك يتعلّق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة ، ولأنّ عقد الذّمّة عقد مؤبّد ، فلم يجز أن يفتات به على الإمام .
وأجاز ذلك الحنفيّة لكلّ مسلمٍ ، لأنّ عقد الذّمّة خلف عن الإسلام ، فهو بمنزلة الدّعوة إليه ، ولأنّه مقابل الجزية ، فتتحقّق فيه المصلحة ، ولأنّه مفروض عند طلبهم له ، وفي انعقاده إسقاط الفرض عن الإمام وعامّة المسلمين ، فيجوز لكلّ مسلمٍ .
من يصحّ له عقد الذّمّة :
8 - اتّفق الفقهاء على جواز عقد الذّمّة لأهل الكتاب والمجوس ، كما اتّفقوا على عدم جوازه للمرتدّ . أمّا فيما عدا ذلك فقد اختلفوا :
فقال الشّافعيّة والحنابلة في المشهور عندهم : لا يجوز عقد الذّمّة لغير أهل الكتاب والمجوس ، بدليل قوله تعالى : { فاقْتُلوا المشركين حيثُ وجَدْتموهم } وهذا عامّ خصّ منه أهل الكتاب بآية الجزية في سورة التّوبة ، وخصّ منهم المجوس بقوله عليه الصلاة والسلام : « سُنُّوا بهم سنّةَ أهل الكتاب ... » فمن عداهم من الكفّار يبقى على بقيّة العموم .
وقال الحنفيّة ، وهو رواية عند المالكيّة ، ورواية عن أحمد : يجوز عقد الذّمّة لجميع الكفّار ، إلاّ عبدة الأوثان من العرب ، لأنّ عقد الذّمّة لرجاء الإسلام عن طريق المخالطة بالمسلمين والوقوف على محاسن الدّين ، وهذا لا يحصل بعقد الذّمّة مع مشركي العرب ، لأنّ القرآن نزل بلغتهم ، وحملوا الرّسالة ، فليس لهم أدنى شبهةٍ في رفضهم الإيمان باللّه ورسوله ، فتعيّن السّيف داعياً لهم إلى الإسلام ، ولهذا لم يقبل رسول اللّه منهم الجزية .
وفي المشهور عند المالكيّة : يجوز عقد الذّمّة لجميع أصناف الكفّار ، لا فرق بين كتابيٍّ وغيره ، ولا فرق بين وثنيٍّ عربيٍّ ، ووثنيٍّ غير عربيٍّ .
شروط عقد الذّمّة :
9 - جمهور الفقهاء على أنّه يشترط في عقد الذّمّة أن يكون مؤبّداً ، لأنّ عقد الذّمّة في إفادة العصمة كالخلف عن عقد الإسلام ، وعقد الإسلام لا يصحّ إلاّ مؤبّداً ، فكذا عقد الذّمّة . وفي قولٍ عند الشّافعيّة يصحّ مؤقّتاً .
وكذلك يشترط في هذا العقد قبول والتزام أحكام الإسلام في غير العبادات ، من حقوق الآدميّين في المعاملات وغرامة المتلفات ، وكذا ما يعتقدون تحريمه كالزّنى والسّرقة ، كما يشترط في حقّ الرّجال منهم قبول بذل الجزية كلّ عامٍ .
10- وذكر بعض الفقهاء شروطاً أخرى لم يذكرها الآخرون .
قال الماورديّ من الشّافعيّة : يشترط عليهم ستّة أشياء :
- 1 - ألاّ يذكروا كتاب اللّه تعالى بطعنٍ ولا تحريفٍ له .
- 2 - وألاّ يذكروا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بتكذيبٍ له ولا ازدراءٍ .
- 3 - وألاّ يذكروا دين الإسلام بذمٍّ له ولا قدحٍ فيه .
- 4 - وألاّ يصيبوا مسلمةً بزنًى ولا باسم نكاحٍ .
- 5 - وألاّ يفتنوا مسلماً عن دينه ولا يتعرّضوا لماله .
- 6 - وألاّ يعينوا أهل الحرب ولا يؤووا للحربيّين عيناً ( جاسوساً ) .
قال الماورديّ : فهذه حقوق ملتزمة ، فتلزمهم بغير شرطٍ ، وإنّما تشترط إشعاراً لهم وتأكيداً لتغليظ العهد عليهم ، ويكون ارتكابها بعد الشّرط نقضاً لعهدهم . ومثله ما ذكره أبو يعلى من الحنابلة . وإنّما لم يذكرها الآخرون لدخولها في شرط التزام أحكام الإسلام .
11 - هذا ، وزاد بعضهم شروطاً أخرى كاستضافة المسلمين ، وعدم إظهار منكرٍ في دار الإسلام وغيرها ، واختلفوا في وجوب أو استحباب اشتراط هذا النّوع من الشّروط ، وجملة ذلك أنّه ينبغي للإمام عند العقد أن يشترط عليهم شروطاً نحو ما شرطه عمر رضي الله عنه ، وقد رويت عن عمر رضي الله عنه في ذلك أخبار ، منها ما رواه الخلّال بإسناده عن إسماعيل بن عيّاشٍ قال : حدّثنا غير واحدٍ من أهل العلم ، قالوا : كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرّحمن بن غنمٍ : أنّا حين قدمنا من بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا وأهل ملّتنا ، على أنّا شرطنا لك على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا كنيسةً ولا فيما حولها ديراً ولا قلايةً ولا صومعة راهبٍ ولا نجدّد ما خرب من كنائسنا ، ولا ما كان منها في خطط المسلمين ، ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في اللّيل والنّهار ، وأن نوسّع أبوابها للمارّة وابن السّبيل ، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً ، وألاّ نكتم أمر من غشّ المسلمين ، وألاّ نضرب نواقيسنا إلاّ ضرباً خفيّاً في جوف كنائسنا ولا نظهر عليها صليباً ، ولا نرفع أصواتنا في الصّلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون ، ولا نخرج صليبنا ولا كتابنا في سوق المسلمين ، وألاّ نخرج باعوثاً ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع أمواتنا ، ولا نظهر النّيران معهم في أسواق المسلمين ، وألاّ نجاورهم بالخنازير ولا ببيع الخمور ، ولا نظهر شركاً ، ولا نرغّب في ديننا ولا ندعو إليه أحداً ، ولا نتّخذ شيئاً من الرّقيق الّذين جرت عليهم سهام المسلمين ، وألاّ نمنع أحداً من أقربائنا إذا أراد الدّخول في الإسلام ، وأن نلزم زيّنا حيثما كنّا ، وألاّ نتشبّه بالمسلمين في لبس قلنسوةٍ ولا عمامةٍ ولا نعلين ولا فرق شعرٍ ولا في مراكبهم ، ولا نتكلّم بكلامهم ، وألاّ نتكنّى بكناهم ، وأن نجزّ مقادم رءوسنا ، ولا نفرّق نواصينا ، ونشدّ الزّنانير على أوساطنا ، ولا ننقش خواتيمنا بالعربيّة ، ولا نركب السّروج ، ولا نتّخذ شيئاً من السّلاح ، ولا نحمله ، ولا نتقلّد السّيوف ، وأن نوقّر المسلمين في مجالسهم ، ونرشد الطّريق ، ونقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا المجالس ، ولا نطّلع عليهم في منازلهم ، ولا نعلّم أولادنا القرآن ، ولا يشارك أحد منّا مسلماً في تجارةٍ إلاّ أن يكون إلى المسلم أمر التّجارة ، وأن نضيّف كلّ مسلمٍ عابر سبيلٍ ثلاثة أيّامٍ ، ونطعمه من أوسط ما نجد ، ضمّنا ذلك على أنفسنا وذراريّنا وأزواجنا ومساكننا ، وإن نحن غيّرنا أو خالفنا عمّا شرطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمّة لنا ، وقد حلّ لك منّا ما يحلّ لأهل المعاندة والشّقاق . فكتب بذلك عبد الرّحمن بن غنمٍ إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ، فكتب لهم عمر : أن أمض لهم ما سألوه .
ولا شكّ أنّ بعض هذه الشّروط واجب ، وينقض بمخالفته عقد الذّمّة كما سيأتي .
ثانياً : حصول الذّمّة بالقرائن :
وهو أنواع :
أ - الإقامة في دار الإسلام :
12 - الأصل أنّ غير المسلم الّذي لم يحصل على الذّمّة لا يمكّن من الإقامة الدّائمة في دار الإسلام ، وإنّما يمكّن من الإقامة اليسيرة بالأمان المؤقّت ، ويسمّى صاحب الأمان ( المستأمن ) ، وجمهور الفقهاء : الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ مدّة الإقامة في دار الإسلام للمستأمن لا تبلغ سنةً ، فإذا أقام فيها سنةً كاملةً أو أكثر تفرض عليه الجزية ويصير بعدها ذمّيّاً . فطول إقامة غير المسلمين قرينة على رضاهم بالإقامة الدّائمة وقبولهم شروط أهل الذّمّة . هذا ، وقد فصّل فقهاء الحنفيّة في هذا الموضوع فقالوا : الأصل أنّ الحربيّ إذا دخل دار الإسلام بأمانٍ ينبغي للإمام أن يتقدّم إليه ، فيضرب له مدّةً معلومةً ، على حسب ما يقتضيه رأيه ، ويقول له : إن جاوزت المدّة جعلتك من أهل الذّمّة ، فإذا جاوزها صار ذمّيّاً ، فإذا أقام سنةً من يوم ما قال له الإمام أخذت منه الجزية .
وإذا لم يضرب له مدّةً قال أكثر الحنفيّة : يصير ذمّيّاً بإقامته سنةً ، وقال بعضهم : إن أقام المستأمن ، فأطال المقام أمر بالخروج ، فإن أقام بعد ذلك حولاً وضعت عليه الجزية ، وعلى هذا فاعتبار السّنة من تاريخ إنذار الإمام له بالخروج ، فلو أقام سنين من غير أن يتقدّم إليه الإمام بالخروج ، فله الرّجوع إلى دار الحرب ، ولا يصير ذمّيّاً .
ولم نجد نصّاً للمالكيّة في تقدير مدّة الأمان للمستأمن وصيرورته ذمّيّاً .
ب - زواج الحربيّة من المسلم أو الذّمّيّ :
13 - صرّح الحنفيّة بأنّ الحربيّة المستأمنة إذا تزوّجت مسلماً أو ذمّيّاً فقد توطّنت وصارت ذمّيّةً ، لأنّ المرأة في المسكن تابعة للزّوج ، ألا ترى أنّها لا تملك الخروج إلاّ بإذنه ، فجعلها نفسها تابعةً لمن هو في دارنا رضًى بالتّوطّن في دارنا على التّأبيد ، ورضاها بذلك دلالة كالرّضى بطريق الإفصاح ، فلهذا صارت ذمّيّةً . بخلاف المستأمن إذا تزوّج ذمّيّةً ، لأنّ الزّوج لا يكون تابعاً لامرأته في المقام ، فزواجه من الذّمّيّة لا يدلّ على رضاه بالبقاء في دار الإسلام ، فلا يصير ذمّيّاً .
وأمّا الحنابلة ، فالظّاهر أنّهم خالفوا الحنفيّة في هذا الحكم ، قال صاحب المغني : إذا دخلت الحربيّة إلينا بأمانٍ ، فتزوّجت ذمّيّاً في دارنا ، ثمّ أرادت الرّجوع لم تمنع إذا رضي زوجها أو فارقها ، وقال أبو حنيفة : تمنع . ولم نعثر في كتب المالكيّة والشّافعيّة على هذا الحكم .
ج - شراء الأراضي الخراجيّة :
14 - قرّر الحنفيّة أنّ المستأمن إذا اشترى أرضاً خراجيّةً في دار الإسلام فزرعها ، يوضع عليه خراج الأرض ويصير ذمّيّاً ، لأنّ وظيفة الخراج تختصّ بالمقام في دار الإسلام ، فإذا قبلها فقد رضي بكونه من أهل دار الإسلام فيصير ذمّيّاً . ولو باعها قبل أن يجبي خراجها لا فيصير ذمّيّاً ، لأنّ دليل قبول الذّمّة وجوب الخراج لا نفس الشّراء ، فما لم يوضع عليه الخراج لا يصير ذمّيّاً . وقال بعضهم : إنّما يصير ذمّيّاً بشرط تنبيهه على أنّه في حالة عدم بيعه الأرض ورجوعه إلى بلاده سيكون ذمّيّاً ، إذ لا يصحّ جعله ذمّيّاً بلا رضًى منه أو قرينةٍ معتبرةٍ تكشف عن رضاه . هذا ، ولم نجد لسائر الفقهاء رأياً في هذه المسألة .
ثالثاً - صيرورته ذمّيّاً بالتّبعيّة :
15 - هناك حالات يصير فيها غير المسلم ذمّيّاً تبعاً لغيره ، لعلاقةٍ بينهما تستوجب هذه التّبعيّة في الذّمّة منها :
أ - الأولاد الصّغار والزّوجة :
16 - صرّح جمهور الفقهاء : الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الأولاد الصّغار يدخلون في الذّمّة تبعاً لآبائهم أو أمّهاتهم إذا دخلوا في الذّمّة ، لأنّ عقد الذّمّة فيه التزام أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات ، والصّغير في مثل هذا يتبع خير الوالدين ، كما علّله الحنفيّة ، وهذا ما يفهم من كلام المالكيّة ، حيث قالوا . لا تعقد الذّمّة إلاّ لكافرٍ حرٍّ بالغٍ ذكرٍ ، فأمّا المرأة والعبد والصّبيّ فهم أتباع .
واذا بلغ صبيان أهل الذّمّة تؤخذ منهم الجزية دون حاجةٍ إلى عقدٍ جديدٍ ، وهذا مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وهو وجه عند الشّافعيّة ، لأنّه لم يأت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من خلفائه تجديد العقد لهؤلاء ولأنّهم تبعوا الأب في الأمان ، فتبعوه في الذّمّة . والأصحّ عند الشّافعيّة أنّه يستأنف له عقد الذّمّة ، لأنّ العقد الأوّل كان للأب دونه ، فعلى هذا جزيته على ما يقع عليه التّراضي . ومثل هذا الحكم أنّ التّبعيّة في الذّمّة يجري على الزّوجة عند الحنفيّة ، فإنّهم قالوا : لو أنّ زوجين مستأمنين دخلا دار الإسلام بالأمان ، أو تزوّج مستأمن مستأمنةً في دارنا ثمّ صار الرّجل ذمّيّاً ، أو دخلت حربيّة دار الإسلام بأمانٍ فتزوّجت ذمّيّاً ، صارت ذمّيّةً تبعاً للزّوج ، لأنّ المرأة في المقام تابعة لزوجها .
ب - اللّقيط :
17 - إذا وجد اللّقيط في مكان أهل الذّمّة ، كقريتهم أو بيعةٍ أو كنيسةٍ يعتبر ذمّيّاً تبعاً لهم ، ولو التقطه مسلم في ظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، وهو المشهور عند المالكيّة .
وقال الشّافعيّة والحنابلة : إذا وجد اللّقيط في دار الإسلام - وفيها أهل ذمّةٍ - أو بدارٍ فتحها المسلمون وأقرّوها بيد الكفّار صلحاً ، أو أقرّوها بيدهم بعد ملكها بجزيةٍ وفيها مسلم - ولو واحداً - حكم بإسلام اللّقيط ، لأنّه يحتمل أن يكون لذلك المسلم تغليباً للإسلام .
وإن لم يكن فيما فتحوها مسلم فاللّقيط كافر .
رابعاً - الذّمّة بالغلبة والفتح :
18 - هذا النّوع من الذّمّة يتحقّق فيما إذا فتح المسلمون بلاداً غير إسلاميّةٍ ، ورأى الإمام ترك أهل هذه البلاد أحراراً بالذّمّة ، وضرب الجزية عليهم ، كما فعل عمر بن الخطّاب في فتح سواد العراق .
حقوق أهل الذّمّة
19 - القاعدة العامّة في حقوق أهل الذّمّة : أنّ لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، وهذه القاعدة جرت على لسان فقهاء الحنفيّة ، وتدلّ عليها عبارات فقهاء المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة . ويؤيّدها بعض الآثار عن السّلف ، فقد روي عن عليّ بن أبي طالبٍ أنّه قال :" إنّما قبلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ، ودماؤهم كدمائنا ".
لكنّ هذه القاعدة غير مطبّقةٍ على إطلاقها ، فالذّمّيّون ليسوا كالمسلمين في جميع الحقوق والواجبات ، وذلك بسبب كفرهم وعدم التزامهم أحكام الإسلام . وفيما يلي نذكر ما يتمتّع به أهل الذّمّة من الحقوق :
أوّلاً - حماية الدّولة لهم :
20 - يعتبر أهل الذّمّة من أهل دار الإسلام ، لأنّ المسلمين حين أعطوهم الذّمّة فقد التزموا دفع الظّلم عنهم والمحافظة عليهم ، وصاروا أهل دار الإسلام ، كما صرّح الفقهاء بذلك . وعلى ذلك فلأهل الذّمّة حقّ الإقامة آمنين مطمئنّين على دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، وعلى الإمام حمايتهم من كلّ من أراد بهم سوءاً من المسلمين أو أهل الحرب أو أهل الذّمّة ، لأنّه التزم بالعهد حفظهم من الاعتداء عليهم ، فيجب عليه الذّبّ عنهم ، ومنع من يقصدهم بالأذى من المسلمين أو الكفّار ، واستنقاذ من أسر منهم ، واسترجاع ما أخذ من أموالهم ، سواء كانوا مع المسلمين أم منفردين عنهم في بلدٍ لهم ، لأنّهم بذلوا الجزية لحفظهم وحفظ أموالهم . ومن مقتضيات عقد الذّمّة أنّ أهل الذّمّة لا يظلمون ولا يؤذون ، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ألا من ظلم معاهداً أو انتَقَصَه حقّه ، أو كلّفَهُ فوق طاقته ، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسٍ منه ، فأنا حجيجه يوم القيامة » .
حتّى إنّ الفقهاء صرّحوا بأنّ أهل الحرب إذا استولوا على أهل الذّمّة ، فسبوهم وأخذوا أموالهم ، ثمّ قدر عليهم ، وجب ردّهم إلى ذمّتهم ، ولم يجز استرقاقهم ، وهذا في قول عامّة أهل العلم ، كما قال صاحب المغني : لأنّ ذمّتهم باقية ، ولم يوجد منهم ما ينقضها ، وحكم أموالهم حكم أموال المسلمين في حرمتها .
ثانياً - حقّ الإقامة والتّنقّل :
21 - لأهل الذّمّة أن يقيموا في دار الإسلام آمنين مطمئنّين على أنفسهم وأموالهم ، ما لم يظهر منهم ما ينتقض به عهدهم ، لأنّهم إنّما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا ، والمسلمون على شروطهم .
لكنّ الفقهاء اتّفقوا على عدم جواز إقامة الذّمّيّ واستيطانه في مكّة والمدينة ، على خلافٍ وتفصيلٍ فيما سواهما ، ينظر في مصطلح ( أرض العرب ) لقوله صلى الله عليه وسلم :
« لا يجتمع في أرض العرب دينان » ولقوله عليه الصلاة والسلام : « لئن عشت - إن شاء اللّه - لأخرجنّ اليهود والنّصارى من جزيرة العرب » .
أمّا في غيرها من المدن والقرى في دار الإسلام فيجوز لأهل الذّمّة أن يسكنوا فيها مع المسلمين أو منفردين ، لكن ليس لهم رفع بنائهم على المسلمين بقصد التّعلّي ، وإذا لزم من سكناهم في المصر بين المسلمين تقليل الجماعة أمروا بالسّكنى في ناحيةٍ - خارج المصر - ليس فيها جماعة المسلمين إذا ظهرت المصلحة في ذلك .
22 - وأمّا حقّ التّنقّل فيتمتّع أهل الذّمّة به في دار الإسلام أينما يشاءون للتّجارة وغيرها ، إلاّ أنّ في دخولهم مكّة والمدينة وأرض الحجاز تفصيل سبق بيانه في مصطلح ( أرض العرب ) .
ثالثاً - عدم التّعرّض لهم في عقيدتهم وعبادتهم :
23 - إنّ من مقتضى عقد الذّمّة ألاّ يتعرّض المسلمون لأهل الذّمّة في عقيدتهم وأداء عبادتهم دون إظهار شعائرهم ، فعقد الذّمّة إقرار الكفّار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملّة ، وإذا كان هناك احتمال دخول الذّمّيّ في الإسلام عن طريق مخالطته للمسلمين ووقوفه على محاسن الدّين ، فهذا يكون عن طريق الدّعوة لا عن طريق الإكراه ، وقد قال اللّه سبحانه وتعالى : { لا إكراه في الدّين } ، وفي كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأهل نجران : « ولنجران وحاشيتها جوار اللّه وذمّة محمّدٍ رسول اللّه على أموالهم وملّتهم وبيعهم وكلّ ما تحت أيديهم ... » وهذا الأصل متّفق عليه بين الفقهاء ، لكن هناك تفصيل وخلاف في بعض الفروع نذكره فيما يلي :
أ - معابد أهل الذّمّة :
24 - قسّم الفقهاء أمصار المسلمين على ثلاثة أقسامٍ :
الأوّل : ما اختطّه المسلمون وأنشئوه كالكوفة والبصرة وبغداد وواسط ، فلا يجوز فيه إحداث كنيسةٍ ولا بيعةٍ ولا مجتمعٍ لصلاتهم ولا صومعةٍ بإجماع أهل العلم ، ولا يمكّنون فيه من شرب الخمر واتّخاذ الخنازير وضرب النّاقوس ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تبنى كنيسة في دار الإسلام ، ولا يجدّد ما خرب منها » ولأنّ هذا البلد ملك للمسلمين فلا يجوز أن يبنوا فيه مجامع للكفر ، ولو عاقدهم الإمام على التّمكّن من ذلك فالعقد باطل .
الثّاني : ما فتحه المسلمون عنوةً ، فلا يجوز فيه إحداث شيءٍ من ذلك بالاتّفاق ، لأنّه صار ملكاً للمسلمين ، وما كان فيه شيء من ذلك هل يجب هدمه ؟ قال المالكيّة : وهو وجه عند الحنابلة : لا يجب هدمه ، لأنّ الصّحابة رضي الله عنهم فتحوا كثيراً من البلاد عنوةً فلم يهدموا شيئاً من الكنائس .
ويشهد لصحّة هذا وجود الكنائس والبيع في البلاد الّتي فتحها المسلمون عنوةً ، وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمّاله :" ألاّ يهدموا بيعةً ولا كنيسةً ولا بيت نارٍ ".
وفي الأصحّ عند الشّافعيّة ، وهو وجه عند الحنابلة : يجب هدمه ، فلا يقرّون على كنيسةٍ كانت فيه ، لأنّها بلاد مملوكة للمسلمين ، فلم يجز أن تكون فيها بيعة ، كالبلاد الّتي اختطّها المسلمون . وذهب الحنفيّة إلى أنّها لا تهدم ، ولكن تبقى بأيديهم مساكن ، ويمنعون من اتّخاذها للعبادة .
الثّالث : ما فتحه المسلمون صلحاً ، فإن صالحهم الإمام على أنّ الأرض لهم والخراج لنا ، فلهم إحداث ما يحتاجون إليه فيها من الكنائس عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ، لأنّ الملك والدّار لهم ، فيتصرّفون فيها كيف شاءوا . وفي مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة : المنع ، لأنّ البلد تحت حكم الإسلام .
وإن صالحهم على أنّ الدّار لنا ، ويؤدّون الجزية ، فالحكم في الكنائس على ما يقع عليه الصّلح ، والأولى ألاّ يصالحهم إلاّ على ما وقع عليه صلح عمر رضي الله عنه من عدم إحداث شيءٍ منها . وإن وقع الصّلح مطلقاً ، لا يجوز الإحداث عند الجمهور : الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ويجوز في بلدٍ ليس فيه أحد من المسلمين عند المالكيّة .
ولا يتعرّض للقديمة عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو المفهوم من كلام المالكيّة ، والأصحّ عند الشّافعيّة المنع من إبقائها كنائس .
ب - إجراء عباداتهم :
25 - الأصل في أهل الذّمّة تركهم وما يدينون ، فيقرّون على الكفر وعقائدهم وأعمالهم الّتي يعتبرونها من أمور دينهم ، كضرب النّاقوس خفيفاً في داخل معابدهم ، وقراءة التّوراة والإنجيل فيما بينهم ، ولا يمنعون من ارتكاب المعاصي الّتي يعتقدون بجوازها ، كشرب الخمر ، واتّخاذ الخنازير وبيعها ، أو الأكل والشّرب في نهار رمضان ، وغير ذلك فيما بينهم ، أو إذا انفردوا بقريةٍ . ويشترط في جميع هذا ألاّ يظهروها ولا يجهروا بها بين المسلمين ، وإلاّ منعوا وعزّروا ، وهذا باتّفاق المذاهب ، فقد جاء في شروط أهل الذّمّة لعبد الرّحمن بن غنمٍ : " ألاّ نضرب ناقوساً إلاّ ضرباً خفيّاً في جوف كنائسنا ، ولا نظهر عليها صليباً ، ولا نرفع أصواتنا في الصّلاة ولا القراءة في كنائسنا ، ولا نظهر صليباً ولا كتاباً في سوق المسلمين " إلخ .
هذا ، وقد فصّل بعض الحنفيّة بين أمصار المسلمين وبين القرى ، فقالوا : لا يمنعون من إظهار شيءٍ من بيع الخمر والخنزير والصّليب وضرب النّاقوس في قريةٍ ، أو موضعٍ ليس من أمصار المسلمين ، ولو كان فيه عدد كثير من أهل الإسلام ، وإنّما يكره ذلك في أمصار المسلمين ، وهي الّتي تقام فيها الجمع والأعياد والحدود ، لأنّ المنع من إظهار هذه الأشياء لكونه إظهار شعائر الكفر في مكان إظهار شعائر الإسلام ، فيختصّ المنع بالمكان المعدّ لإظهار الشّعائر ، وهو المصر الجامع .
وفصّل الشّافعيّة بين القرى العامّة والقرى الّتي ينفرد بها أهل الذّمّة ، فلا يمنعون في الأخيرة من إظهار عباداتهم .
رابعاً - اختيار العمل :
26 - يتمتّع الذّمّيّ باختيار العمل الّذي يراه مناسباً للتّكسّب ، فيشتغل بالتّجارة والصّناعة كما يشاء ، فقد صرّح الفقهاء أنّ الذّمّيّ في المعاملات كالمسلم ، هذا هو الأصل ، وهناك استثناءات في هذا المجال ستأتي في بحث ما يمنع منه الذّمّيّون .
أمّا الأشغال والوظائف العامّة ، فما يشترط فيه الإسلام كالخلافة ، والإمارة على الجهاد ، والوزارة وأمثالها ، فلا يجوز أن يعهد بذلك إلى ذمّيٍّ ، وما لا يشترط فيه الإسلام كتعليم الصّغار الكتابة ، وتنفيذ ما يأمر به الإمام أو الأمير ، يجوز أن يمارسه الذّمّيّون .
وتفصيل هذه الوظائف في مصطلحاتها . وانظر كذلك مصطلح : ( استعانةٍ ) .
المعاملات الماليّة لأهل الذّمّة :
27 - القاعدة العامّة أنّ أهل الذّمّة في المعاملات كالبيوع والإجارة وسائر التّصرّفات الماليّة كالمسلمين - إلاّ ما استثني من المعاملة بالخمر والخنزير ونحوهما كما سيأتي - .
وذلك لأنّ الذّمّيّ ملتزم أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات الماليّة ، فيصحّ منهم البيع والإجارة والمضاربة والمزارعة ونحوها من العقود والتّصرّفات الّتي تصحّ من المسلمين ، ولا تصحّ منهم عقود الرّبا والعقود الفاسدة والمحظورة الّتي لا تصحّ من المسلمين ، كما صرّح به فقهاء المذاهب .
قال الجصّاص من الحنفيّة : إنّ الذّمّيّين في المعاملات والتّجارات كالبيوع وسائر التّصرّفات كالمسلمين ، ومثله ما قاله الإمام السّرخسيّ في المبسوط ، وصرّح به الكاسانيّ في البدائع حيث قال : كلّ ما جاز من بيوع المسلمين جاز من بيوع أهل الذّمّة ، وما يبطل أو يفسد من بيوع المسلمين يبطل ويفسد من بيوعهم ، إلاّ الخمر والخنزير .
بل إنّ الشّافعيّة صرّحوا ببطلان بيع الخمر والخنزير بينهم أيضاً قبل القبض . وكلام المالكيّة والحنابلة أيضاً يدلّ على صحّة هذه القاعدة في الجملة ، لأنّ أهل الذّمّة من أهل دار الإسلام ، وملتزمون أحكام الإسلام في المعاملات . قال الإمام الشّافعيّ في الأمّ : تبطل بينهم البيوع الّتي تبطل بين المسلمين كلّها ، فإذا مضت واستهلكت لم نبطلها وقال : فإن جاء رجلان منهم قد تبايعا خمراً ولم يتقابضاها أبطلنا البيع ، وإن تقابضاها لم نردّه ، لأنّه قد مضى .
إلاّ أنّ هناك ما يستثنى من هذه القاعدة نجمله فيما يلي :
أ - المعاملة بالخمر والخنزير :
28 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا تجوز المعاملة بالخمر والخنزير بين المسلمين مطلقاً ، لأنّهما لا يعتبران مالاً متقوّماً عند المسلمين ، وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « ألا إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والخنزير والميتة والأصنام » ، لكنّهم أقرّوا المعاملة بالخمر والخنزير بين أهل الذّمّة ، بنحو شربٍ أو بيعٍ أو هبةٍ أو مثلها ، بشرط عدم الإظهار ، لأنّ مقتضى عقد الذّمّة : أن يقرّ الذّمّيّ على الكفر مقابل الجزية ، ويترك هو وشأنه فيما يعتقده من الحلّ والحرمة ، والمعاملة بالخمر والخنزير ممّا يعتقد جوازها .
وهذا محلّ اتّفاقٍ بين الفقهاء في الجملة . ويستدلّ الحنفيّة لذلك بقولهم : إنّ الخمر والخنزير مال متقوّم في حقّهم ، كالخلّ والشّاة للمسلمين ، فيجوز بيعه ، وروي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه كتب إلى عُشّاره بالشّام :" أن ولّوهم بيعها ، وخذوا العشر من أثمانها ، ولو لم يجز بيع الخمر منهم لما أمرهم بتوليتهم البيع ".
ب - ضمان الإتلاف :
29 - إذا أتلف الخمر والخنزير لمسلمٍ فلا ضمان اتّفاقاً ، لعدم تقوّمهما في حقّ المسلمين . وكذلك إتلافهما لأهل الذّمّة عند الشّافعيّة والحنابلة ، لأنّ ما لا يكون مضموناً في حقّ المسلم لا يكون مضموناً في حقّ غيره .
لكنّ الحنفيّة صرّحوا بضمان متلفهما لأهل الذّمّة ، لأنّهما مال متقوّم في حقّهم ، وبهذا قال المالكيّة ، إذا لم يظهر الذّمّيّ الخمر والخنزير ، وتفصيله في مصطلح : ( ضمان ) .
ج - استئجار الذّمّيّ مسلماً للخدمة :
30 - تجوز معاملة الإيجار والاستئجار بين المسلمين وأهل الذّمّة في الجملة ، لكنّه إذا استأجر الذّمّيّ مسلماً لإجراء عملٍ ، فإذا كان العمل الّذي يؤاجر المسلم للقيام به ممّا يجوز لنفسه كالخياطة والبناء والحرث فلا بأس به ، أمّا إذا كان لا يجوز له أن يعمله كعصر الخمور ورعي الخنازير ونحو ذلك فلا يجوز .
وقال بعض الفقهاء : لا يجوز استئجار المسلم لخدمة الذّمّيّ الشّخصيّة ، لما فيه من إذلال المسلم لخدمة الكافر . وتفصيله في مصطلح : ( إجارةٍ )
د - وكالة الذّمّيّ في نكاح المسلمة :
31 - لا يصحّ أن يوكّل مسلم كافراً في عقد النّكاح له من مسلمةٍ عند الشّافعيّة والحنابلة ، لأنّ الذّمّيّ لا يملك عقد هذا النّكاح لنفسه فلا يجوز وكالته .
وقال الحنفيّة والمالكيّة : تصحّ هذه الوكالة ، لأنّ الشّرط لصحّة الوكالة : أن يكون الموكّل ممّن يملك فعل ما وكّل به ، وأن يكون الوكيل عاقلاً ، مسلماً كان أو غير مسلمٍ .
هـ – عدم تمكين الذّمّيّ من شراء المصحف وكتب الحديث :
32 - لا يجوز تمكين الذّمّيّ من شراء المصحف أو دفترٍ فيه أحاديث عند جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) لأنّ ذلك قد يؤدّي إلى ابتذاله .
ولم نعثر في كتب الحنفيّة على ما يمنع ذلك ، إلاّ أنّ أبا حنيفة وأبا يوسف يمنعان الذّمّيّ من مسّ المصحف ، وجوّزه محمّد إذا اغتسل لذلك . وتفصيله في مصطلح : ( مصحف ) .
و - شهادة أهل الذّمّة :
33 - لا تقبل شهادة أهل الذّمّة على المسلمين اتّفاقاً ، إلاّ في الوصيّة في السّفر إذا لم يوجد غيرهم عند الحنابلة . ويعلّل الفقهاء عدم قبول الشّهادة منهم بأنّ الشّهادة فيها معنى الولاية ، ولا ولاية للكافر على المسلم .
كذلك لا تقبل شهادة أهل الذّمّة بعضهم على بعضٍ عند جمهور الفقهاء : المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، بدليل قوله تعالى : { وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ منكم } ، والكافر ليس بذي عدلٍ . وأجازها الحنفيّة وإن اختلفت مللهم ، ما داموا عدولاً في دينهم ، لما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة أهل الذّمّة بعضهم على بعضٍ » ولأنّ بعضهم أولياء بعضٍ ، فتقبل شهادة بعضهم على بعضٍ . هذا ، وهناك استثناءات أخرى في مسائل الوصيّة وإثبات الشّفعة والتّملّك بإحياء الموات ونحوها ، تنظر في مصطلحاتها وفي مظانّها من كتب الفقه .
أنكحة أهل الذّمّة وما يتعلّق بها
34 - لا يختلف أحكام نكاح أهل الذّمّة عن غيرهم من أهل الكتاب وسائر الكفّار ، إلاّ أنّه يجوز للمسلم أن يتزوّج كتابيّةً .
ولا يجوز زواج المسلمة من غير المسلم ، ولو كان ذمّيّاً أو كتابيّاً . وذلك باتّفاق الفقهاء لقوله تعالى : { ولا تُنْكِحُوا المشركينَ حتّى يُؤْمنوا } ولقوله تعالى : { فلا تَرْجِعوهنّ إلى الكفّار لا هُنّ حِلٌّ لهم ولا هم يَحِلُّون لهنّ } ولا يجوز زواج مسلمٍ من ذمّيّةٍ غير كتابيّةٍ ، لقوله تعالى : { ولا تَنْكِحوا المشركاتِ حتّى يُؤْمِنّ } ويجوز للمسلم أن يتزوّج ذمّيّةً ، إذا كانت كتابيّةً كاليهوديّة والنّصرانيّة ، لقوله تعالى : { اليوم أُحِلّ لكم الطّيّباتُ } إلى قوله تعالى : { والمحصناتُ من الّذين أُوتوا الكتابَ من قبلكم } وتفصيل ذلك في النّكاح وغيره .
واجبات أهل الذّمّة الماليّة
35 - على أهل الذّمّة واجبات وتكاليف ماليّة يلتزمون بها قبل الدّولة الإسلاميّة مقابل ما يتمتّعون به من الحماية والحقوق ، وهذه الواجبات عبارة عن الجزية والخراج والعشور ، وفيما يلي نجمل أحكامها :
أ - الجزية : وهي المال الّذي تعقد عليه الذّمّة لغير المسلم لأمنه واستقراره ، تحت حكم الإسلام وصونه . وتؤخذ كلّ سنةٍ من العاقل البالغ الذّكر ، ولا تجب على الصّبيان والنّساء والمجانين اتّفاقاً ، كما يشترط في وجوبها : السّلامة من الزّمانة والعمى والكبر عند جمهور الفقهاء . وفي مقدارها ووقت وجوبها وما تسقط به الجزية وغيرها من الأحكام تفصيل وخلاف ينظر في مصطلح : ( جزية ) .
ب - الخراج : وهو ما وضع على رقاب الأرض من حقوقٍ تؤدّى عنها .
وهو إمّا أن يكون خراج الوظيفة الّذي يفرض على الأرض بالنّسبة إلى مساحتها ونوع زراعتها ، وإمّا أن يكون خراج المقاسمة الّذي يفرض على الخارج من الأرض كالخمس أو السّدس أو نحو ذلك ، كما هو مبيّن في مصطلح : ( خراج ) .
ج - العشور : وهي الّتي تفرض على أموال أهل الذّمّة المعدّة للتّجارة ، إذا انتقلوا بها من بلدٍ إلى بلدٍ داخل دار الإسلام ، ومقدارها نصف العشر ، وتؤخذ مرّةً واحدةً في السّنة حين الانتقال عند جمهور الفقهاء ، خلافاً للمالكيّة حيث أوجبوها في كلّ مرّةٍ ينتقلون بها . وتفصيله في مصطلح : ( عشرٍ ) .
ما يمنع منه أهل الذّمّة :
36 - يجب على أهل الذّمّة الامتناع عمّا فيه غضاضة على المسلمين ، وانتقاص دين الإسلام ، مثل ذكر اللّه سبحانه وتعالى أو كتابه أو رسوله أو دينه بسوءٍ لأنّ إظهار هذه الأفعال استخفاف بالمسلمين وازدراء بعقيدتهم .
وعدم التزام الذّمّيّ بما ذكر يؤدّي إلى انتقاض ذمّته عند جمهور الفقهاء ، خلافاً للحنفيّة ، كما سيأتي في بحث ما ينتقض به عهد الذّمّة .
كذلك يمنع أهل الذّمّة من إظهار بيع الخمور والخنازير في أمصار المسلمين ، أو إدخالها فيها على وجه الشّهرة والظّهور . ويمنعون كذلك من إظهار فسقٍ يعتقدون حرمته كالفواحش ونحوها . ويؤخذ أهل الذّمّة بالتّمييز عن المسلمين في زيّهم ومراكبهم وملابسهم ، ولا يصدّرون في مجالس ، وذلك إظهاراً للصّغار عليهم ، وصيانةً لضعفة المسلمين عن الاغترار بهم أو موالاتهم . وتفصيل ما يميّز به أهل الذّمّة عن المسلمين في الزّيّ والملبس والمركب وغيرها من المسائل تنظر في كتب الفقه ، عند الكلام عن الجزية وعقد الذّمّة .
جرائم أهل الذّمّة وعقوباتهم
أوّلاً - ما يختصّ بأهل الذّمّة في الحدود :
37 - إذا ارتكب أحد من أهل الذّمّة جريمةً من جرائم الحدود ، كالزّنى أو القذف أو السّرقة أو قطع الطّريق ، يعاقب بالعقاب المحدّد لهذه الجرائم شأنهم في ذلك شأن المسلمين ، إلاّ شرب الخمر حيث لا يتعرّض لهم فيه ، لما يعتقدون من حلّها ، ومراعاةً لعهد الذّمّة ، إلاّ إن أظهروا شربها ، فيعزّرون ، وهذا عند جمهور الفقهاء في الجملة ، إلاّ أنّ هناك بعض الأحكام يختصّ بها أهل الذّمّة نجملها فيما يأتي :
أ - ذهب الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف إلى المساواة في تطبيق عقوبة الرّجم على الذّمّيّ والمسلم ، ولو كان متزوّجاً من ذمّيّةٍ ، لعموم النّصوص في تطبيق هذه العقوبة ، ولما ورد « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر برجم يهوديّين ».
وصرّح أبو حنيفة ومالك بأنّ الزّاني من أهل الذّمّة إذا كان متزوّجاً لا يرجم ، لاشتراط الإسلام في تطبيق الرّجم عندهما ، وكذلك المسلم المتزوّج بالكتابيّة لا يرجم عند أبي حنيفة ، لأنّه يشترط في الإحصان : الإسلام والزّواج من مسلمةٍ مستدلّاً بما « قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لحذيفة حين أراد أن يتزوّج يهوديّةً : دعها فإنّها لا تحصنك » ،
ب - لا حدّ على من قذف أحداً من أهل الذّمّة ، بل يعزّر ، سواء كان القاذف مسلماً أم من أهل الذّمّة ، لأنّه يشترط في القذف أن يكون المقذوف مسلماً ، وهذا باتّفاق الفقهاء .
ج - يطبّق حدّ السّرقة على السّارق المسلم أو الذّمّيّ ، سواء أكان المسروق منه مسلماً أم من أهل الذّمّة اتّفاقاً ، إلاّ إذا كان المسروق خمراً أو خنزيراً ، لعدم تقوّمهما ، كما هو مبيّن في مصطلح : ( سرقة ) .
د - إذا بغى جماعة من أهل الذّمّة منفردين عن المسلمين انتقض عهدهم عند جمهور الفقهاء ، إلاّ إذا كان بينهم عن ظلمٍ ركبهم عند المالكيّة ، وإذا بغوا مع البغاة المسلمين ففيه تفصيل وخلاف ينظر في مصطلح : ( بغيٍ ) . هذا ، ويعاقب أهل الذّمّة بعقوبة قطع الطّريق ( الحرابة ) إذا توفّرت شروطها كالمسلمين بلا خلافٍ .
ثانياً - ما يختصّ بأهل الذّمّة في القصاص :
38 - أ - إذا ارتكب الذّمّيّ القتل العمد وجب عليه القصاص ، إذا كان القتيل مسلماً أو من أهل الذّمّة بلا خلافٍ ، وكذلك إن كان القتيل مستأمناً عند جمهور الفقهاء ، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال : إنّ عصمة المستأمن مؤقّتة ، فكان في حقن دمه شبهة تسقط القصاص .
أمّا إذا قتل مسلم ذمّيّاً أو ذمّيّةً عمداً ، فقد قال الشّافعيّة والحنابلة : لا قصاص على المسلم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يقتل مسلم بكافرٍ » ، وعند الحنفيّة يقتصّ من المسلم للذّمّيّ ، وهذا قول المالكيّة أيضاً إذا قتله المسلم غيلةً ( خديعةً ) أو لأجل المال ، وتفصيله في مصطلح ( قصاص ) .
ب - لا فرق بين المسلم والذّمّيّ في وجوب الدّية في القتل الخطأ وشبه العمد وشبه الخطأ على عاقلة القاتل ، سواء أكان القتيل مسلماً أم من أهل الذّمّة .
وفي مقدار دية الذّمّيّ المقتول ، ومن يشترك في تحمّلها من عاقلة الذّمّيّ القاتل تفصيل وخلاف ينظر في مصطلح : ( دية ) و ( عاقلة ) .
ولا تجب الكفّارة على الذّمّيّ عند الحنفيّة والمالكيّة ، لما فيها من معنى القربة ، والكافر ليس من أهلها ، ويجب عند الشّافعيّة والحنابلة لأنّها حقّ ماليّ يستوي فيه المسلم والذّمّيّ ، لا إن كانت صياماً . ( ر : كفّارة ) .
ج - لا يقتصّ من المسلم للذّمّيّ في جرائم الاعتداء فيما دون النّفس ، من الجرح وقطع الأعضاء ، إذا وقعت بين المسلمين وأهل الذّمّة عند الشّافعيّة والحنابلة ، ويقتصّ من الذّمّيّ للمسلم ، وقال الحنفيّة بالقصاص بينهم مطلقاً إذا توفّرت الشّروط ، ومنع المالكيّة القصاص فيما دون النّفس بين المسلمين وبين أهل الذّمّة مطلقاً ، بحجّة عدم المماثلة . ولا خلاف في تطبيق القصاص إذا كانت الجروح فيما بين أهل الذّمّة وتوفّرت الشّروط . ( ر : قصاص ) .
ثالثاً - التّعزيرات :
39 - العقوبات التّعزيريّة يقدّرها وليّ الأمر حسب ظروف الجريمة والمجرم ، فتطبّق على المسلمين وأهل الذّمّة ، ويكون التّعزير مناسباً مع الجريمة شدّةً وضعفاً ومع حالة المجرم . وتفصيله في مصطلح : ( تعزيرٍ ) .
خضوع أهل الذّمّة لولاية القضاء العامّة
40 - جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على عدم جواز تقليد الذّمّيّ القضاء على الذّمّيّين ، وإنّما يخضعون إلى جهة القضاء العامّة الّتي يخضع لها المسلمون . وقالوا : وأمّا جريان العادة بنصب حاكمٍ من أهل الذّمّة عليهم ، فإنّما هي رئاسة وزعامة ، لا تقليد حكمٍ وقضاءٍ ، فلا يلزمهم حكمه بإلزامه ، بل بالتزامهم .
وقال الحنفيّة : إن حكم الذّمّيّ بين أهل الذّمّة جاز ، في كلّ ما يمكن التّحكيم فيه ، لأنّه أهل للشّهادة بين أهل الذّمّة ، فجاز تحكيمه بينهم . إلاّ أنّهم اتّفقوا على : أنّه لا يجوز تحكيم أهل الذّمّة فيما هو حقّ خالص للّه تعالى كحدّ الزّنى ، وأمّا تحكيمهم في القصاص ففيه خلاف بين الحنفيّة .
41 - وإذا رفعت الدّعوى إلى القضاء العامّ يحكم القاضي المسلم في خصومات أهل الذّمّة وجوباً ، إذا كان أحد الخصمين مسلماً باتّفاق الفقهاء .
أمّا إذا كان كلّهم من أهل الذّمّة ، فيجب الحكم بينهم أيضاً عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عند الحنابلة ، بدليل قوله تعالى : { وأَنِ احْكُمْ بينهم بما أَنْزلَ اللّهُ } وفي روايةٍ أخرى للحنابلة : القاضي مخيّر بين الأمرين : الحكم أو الإعراض بدليل قوله تعالى : { فإنْ جَاءوك فاحْكُمْ بينهم أو أَعْرِضْ عنهم } .
أمّا المالكيّة فقد اشترطوا التّرافع من قبل الخصمين في جميع الدّعاوى ، وفي هذه الحالة يخيّر القاضي في النّظر في الدّعوى أو عدم النّظر فيها . وتفصيله في مصطلح : ( قضاءٍ ) ( وولايةٍ ) . وفي جميع الأحوال إذا حكم القاضي المسلم بين غير المسلمين لا يحكم إلاّ بالشّريعة الإسلاميّة ، لقوله تعالى : { وأن احْكمْ بينهم بما أنزل اللّه ولا تَتّبعْ أَهْواءهم واحْذرهم أن يَفْتِنُوك عن بعض ما أَنْزَل اللّه إليك } .
ما ينقض به عهد الذّمّة
42 - ينتهي عهد الذّمّة بإسلام الذّمّيّ ، لأنّ عقد الذّمّة عقد وسيلةً للإسلام ، وقد حصل المقصود . وينتقض عهد الذّمّة بلحوق الذّمّيّ دار الحرب ، أو بغلبتهم على موضعٍ يحاربوننا منه ، لأنّهم صاروا حرباً علينا ، فيخلو عقد الذّمّة عن الفائدة ، وهو دفع شرّ الحرب . وهذا باتّفاق المذاهب . وجمهور الفقهاء على أنّ عقد الذّمّة ينتقض أيضاً بالامتناع عن الجزية ، لمخالفته مقتضى العقد . وقال الحنفيّة : لو امتنع الذّمّيّ عن إعطاء الجزية لا ينتقض عهده ، لأنّ الغاية الّتي ينتهي بها القتال التزام الجزية لا أداؤها ، والالتزام باقٍ ، ويحتمل أن يكون الامتناع لعذر العجز الماليّ ، فلا ينقض العهد بالشّكّ .
43 - وهناك أسباب أخرى اعتبرها بعض الفقهاء ناقضةً للعهد مطلقاً ، وبعضهم بشروطٍ : فقد قال المالكيّة : ينقض عهد الذّمّة بالتّمرّد على الأحكام الشّرعيّة ، بإظهار عدم المبالاة بها ، وبإكراه حرّةٍ مسلمةٍ على الزّنى بها إذا زنى بها بالفعل ، وبغرورها وتزوّجها ووطئها ، وبتطلّعه على عورات المسلمين ، وبسبّ نبيٍّ مجمعٍ على نبوّته عندنا بما لم يقرّ على كفره به . فإن سبّ بما أقرّ على كفره به لم ينتقض عهده ، كما إذا قال : عيسى إله مثلاً ، فإنّه لا ينتقض عهده .
وقال الشّافعيّة : لو زنى ذمّيّ بمسلمةٍ ، أو أصابها بنكاحٍ ، أو دلّ أهل الحرب على عورة المسلمين ، أو فتن مسلماً عن دينه ، أو طعن في الإسلام أو القرآن ، أوذكر الرّسول صلى الله عليه وسلم بسوءٍ ، فالأصحّ أنّه إن شرط انتقاض العهد بها انتقض ، وإلاّ فلا ينتقض ، لمخالفته الشّرط في الأوّل دون الثّاني .
وقال الحنابلة في الرّواية المشهورة ، وهو وجه عند الشّافعيّة : إن فعلوا ما ذكر أو شيئاً منه نقض العهد مطلقاً ، ولو لم يشترط عليهم ، لأنّ ذلك هو مقتضى العقد .
أمّا الحنفيّة فقد صرّحوا بأنّ الذّمّيّ لو سبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا ينقض عهده إذا لم يعلن السّبّ ، لأنّ هذا زيادة كفرٍ ، والعقد يبقى مع أصل الكفر ، فكذا مع الزّيادة ، وإذا أعلن قتل ، ولو امرأةً ، ولو قتل مسلماً أو زنى بمسلمةٍ لا ينقض عهده ، بل تطبّق عليه عقوبة القتل والزّنى ، لأنّ هذه معاصٍ ارتكبوها ، وهي دون الكفر في القبح والحرمة ، وبقيت الذّمّة مع الكفر ، فمع المعصية أولى .
حكم من نقض العهد منهم :
44 - إذا نقض الذّمّيّ العهد فهو بمنزلة المرتدّ في جميع أحكامه ، ويحكم بموته باللّحاق بدار الحرب ، لأنّه التحق بالأموات ، وتبين منه زوجته الذّمّيّة الّتي خلّفها في دار الإسلام ، وتقسم تركته ، وإذا تاب ورجع تقبل توبته وتعود ذمّته ، إلاّ أنّه لو غلب عليه المسلمون وأسر يسترقّ ، بخلاف المرتدّ ، وهذا كلّه عند الحنفيّة .
وفصّل المالكيّة والشّافعيّة في حكم ناقض العهد ، حسب اختلاف أسباب النّقض ، فقال المالكيّة : قتل بسبّ نبيٍّ بما لم يكفر به وجوباً ، وبغصب مسلمةٍ على الزّنى ، أو غرورها بإسلامه فتزوّجته ، وهو غير مسلمٍ ، وأبى الإسلام بعد ذلك ، أمّا المطّلع على عورات المسلمين فيرى الإمام فيه رأيه بقتلٍ أو استرقاقٍ . ومن التحق بدار الحرب ثمّ أسره المسلمون جاز استرقاقه ، وإن خرج لظلمٍ لحقه لا يسترقّ ويردّ لجزيته .
وقال الشّافعيّة : من انتقض عهده بقتالٍ يقتل ، وإن انتقض عهده بغيره لم يجب إبلاغه مأمنه في الأظهر ، بل يختار الإمام فيه قتلاً أو رقّاً أو منّاً أو فداءً .
أمّا الحنابلة ، فلم يفرّقوا بين أسباب النّقض في الرّواية المشهورة ، وقالوا : خيّر الإمام فيه بين أربعة أشياء : القتل والاسترقاق والفداء والمنّ ، كالأسير الحربيّ ، لأنّه كافر قدرنا عليه في دارنا بغير عهدٍ ولا عقدٍ ، فأشبه اللّصّ الحربيّ ، ويحرم قتله بسبب نقض العهد إذا أسلم . هذا ، ولا يبطل أمان ذرّيّتهم ونسائهم بنقض عهدهم عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) لأنّ النّقض إنّما وجد من الرّجال البالغين دون الذّرّيّة ، فيجب أن يختصّ حكمه بهم . ويفهم من كلام المالكيّة أنّه تسترقّ ذرّيّتهم .
أهل الشّورى *
انظر : مشورةً .
أهل الكتاب *
التّعريف :
1 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ ( أهل الكتاب ) هم : اليهود والنّصارى بفرقهم المختلفة . وتوسّع الحنفيّة فقالوا : إنّ أهل الكتاب هم : كلّ من يؤمن بنبيٍّ ويقرّ بكتابٍ ، ويشمل اليهود والنّصارى ، ومن آمن بزبور داود ، وصحف إبراهيم وشيثٍ . وذلك لأنّهم يعتقدون ديناً سماويّاً منزّلاً بكتابٍ .
واستدلّ الجمهور بقوله تعالى : { أَنْ تَقولوا إنّما أُنْزِل الكتابُ على طائفتين من قَبْلِنا } قالوا : ولأنّ تلك الصّحف كانت مواعظ وأمثالاً لا أحكام فيها ، فلم يثبت لها حكم الكتب المشتملة على أحكامٍ . والسّامرة من اليهود ، وإن كانوا يخالفونهم في أكثر الأحكام .
واختلف الفقهاء في الصّابئة ، فذهب أبو حنيفة إلى أنّهم من أهل الكتاب من اليهود أو النّصارى . وفي قولٍ لأحمد ، وهو أحد وجهين عند الشّافعيّة : أنّهم جنس من النّصارى . والمذهب عند الشّافعيّ ، وهو ما صحّحه ابن قدامة من الحنابلة : أنّهم إن وافقوا اليهود والنّصارى في أصول دينهم ، من تصديق الرّسل والإيمان بالكتب كانوا منهم ، وإن خالفوهم في أصول دينهم لم يكونوا منهم ، وكان حكمهم حكم عبدة الأوثان .
أمّا المجوس ، فقد اتّفق الفقهاء على أنّهم ليسوا من أهل الكتاب ، وإن كانوا يعاملون معاملتهم في قبول الجزية فقط . ولم يخالف في ذلك إلاّ أبو ثورٍ ، فاعتبرهم من أهل الكتاب في كلّ أحكامهم .
واستدلّ الجمهور بحديث : « سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب ... » فإنّه يدلّ على أنّهم غيرهم ،و لو كانوا من أهل الكتاب لما توقّف عمر في أخذ الجزية منهم حتّى روي له الحديث المذكور .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الكفّار :
2 - الكفّار ثلاثة أقسامٍ : قسم أهل كتابٍ ، وقد سبق بيانهم ، وقسم لهم شبهة كتابٍ ، وهم المجوس ، وقسم لا كتاب لهم ولا شبهة كتابٍ ، وهم من عدا هذين القسمين من عبدة الأوثان وغيرهم . وعلى ذلك فأهل الكتاب من الكفّار .
فالكفّار أعمّ من أهل الكتاب ، لأنّه يشمل أهل الكتاب وغيرهم .
ب - أهل الذّمّة :
3 - أهل الذّمّة هم : المعاهدون من اليهود والنّصارى وغيرهم ممّن يقيم في دار الإسلام . ويقرّون على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الإسلام الدّنيويّة .
فلا تلازم بين أهل الذّمّة وأهل الكتاب ، فقد يكون ذمّيّاً غير كتابيٍّ ، وقد يكون كتابيّاً غير ذمّيٍّ ، وهم من كان في غير دار الإسلام من اليهود والنّصارى .
التّفاوت بين أهل الكتاب :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ أهل الكتاب ( اليهود والنّصارى ) إذا قوبلوا بالمجوس . فالمجوسيّة شرّ ، وأمّا اليهوديّة إذا قوبلت بالنّصرانيّة فاختلفت آراء الفقهاء والمفسّرين على الاتّجاهات التّالية :
الاتّجاه الأوّل : أنّه لا تفاوت بين هاتين الفرقتين . وهذا هو المتبادر من أقوال أصحاب التّفاسير والفقهاء ، الّذين تكلّموا في هذه المسألة ممّن رتّبوا أحكاماً فقهيّةً كثيرةً على اليهود والنّصارى دون أي تفرقةٍ بينهما ، وعلى حدٍّ سواءٍ ، مثل : جواز المناكحة فيما بينهم ، كأهل المذاهب فيما بين المسلمين ، وجواز شهادة بعضهم على بعضٍ ، وجواز أكل ذبيحتهم ، وحلّ نكاح نسائهم للمسلمين ، وغير ذلك من الأحكام الفقهيّة ، لأنّهم أهل ملّةٍ واحدةٍ وإن اختلفت نحلهم ، ولأنّه يجمعهم اعتقاد الشّرك والإنكار لنبوّة سيّدنا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم . الاتّجاه الثّاني : أنّ النّصرانيّة شرّ من اليهوديّة . وهذا ما ذكره بعض فقهاء الحنفيّة ، منهم ابن نجيمٍ وصاحب الدّرر وابن عابدين ، وإليه ذهب بعض المفسّرين ، وفرّعوا على هذا الفرق بقولهم : يلزم على هذا كون الولد المتولّد من يهوديّةٍ ونصرانيٍّ أو عكسه تبعاً لليهوديّ لا النّصرانيّ .
وفائدته خفّة العقوبة في الآخرة ، حيث إنّ في الآخرة يكون النّصرانيّ أشدّ عذاباً ، لأنّ نزاع النّصارى في الإلهيّات ، ونزاع اليهود في النّبوّات .
وكذا في الدّنيا ، لما ذكره الولوالجيّ من كتاب الأضحيّة أنّه : يكره الأكل من طعام المجوسيّ والنّصرانيّ ، لأنّ المجوسيّ يطبخ المنخنقة والموقوذة والمتردّية ، والنّصرانيّ لا ذبيحة له ، وإنّما يأكل ذبيحة المسلم أو يخنقها ، ولا بأس بطعام اليهوديّ ، لأنّه لا يأكل إلاّ من ذبيحة اليهوديّ أو المسلم ، فعلم أنّ النّصرانيّ شرّ من اليهوديّ في أحكام الدّنيا أيضاً .
والاتّجاه الثّالث : ما ذكره في الذّخيرة ، منقولاً عن الخلاصة أيضاً ، وهو قول لبعض المفسّرين : أنّ كفر اليهود أغلظ من كفر النّصارى ، لأنّهم يجحدون نبوّة نبيّنا عليه السلام ونبوّة عيسى عليه السلام ، وكفر النّصارى أخفّ لأنّهم يجحدون نبوّة نبيٍّ واحدٍ ، ولأنّ اليهود أشدّ جميع النّاس عداوةً للمؤمنين ، وأصلبهم في ذلك ، وأمّا النّصارى فهم ألين عريكةً من اليهود ، وأقرب إلى المسلمين منهم .
عقد الذّمّة لأهل الكتاب :
5 - يجوز لإمام المسلمين أو نائبه أن يبرم عقد الذّمّة مع أهل الكتاب ، على الخلاف السّابق في المراد بهم ، واختلف في غيرهم من الكفّار ، ودليل الاتّفاق على جواز عقد الذّمّة لأهل الكتاب قوله تعالى : { قاتِلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليومِ الآخر ولا يُحَرِّمُون ما حَرَّم اللّهُ ورسولُهُ ولا يَدِينُونَ دينَ الحقِّ من الّذين أُوتوا الكتابَ حتّى يُعْطُوا الجِزْيَة عن يَدٍ وهم صَاغِرون } . ويترتّب على العقد أن يلتزموا أحكام الإمام ، والمراد بالتزام الأحكام : قبول ما يحكم به عليهم من أداء حقٍّ أو ترك محرّمٍ ، وأن يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ، والمراد بالإعطاء : التزامه والإجابة إلى بذله ، لا حقيقة الإعطاء ولا جريان الأحكام فعلاً ، وبالعقد تعصم دماؤهم وأموالهم ، لأنّ عقد الذّمّة كالخلف عن الإسلام في إفادة العصمة . وقال المالكيّة والشّافعيّة : إذا طلب أهل الكتاب عقد الذّمّة ، وكان فيه مصلحة للمسلمين ، وجب على الإمام إجابتهم إليه .
ولتفصيل أحكام عقد الذّمّة ، وما ينعقد به ، ومقدار الجزية ، وعلى من تفرض ، وبم تسقط ، وما ينتقض به عقد الذّمّة يرجع إلى مصطلح ( أهل الذّمّة ) ( وجزية ) .
ذبائح أهل الكتاب :
6 - قال ابن قدامة : أجمع أهل العلم على إباحة ذبائح أهل الكتاب ، لقول اللّه تعالى : { وطعامُ الّذين أوتوا الكتاب حِلٌّ لكم } يعني ذبائحهم . قال ابن عبّاسٍ : طعامهم ذبائحهم ، وكذلك قال مجاهد وقتادة ، وروي معناه عن ابن مسعودٍ .
وأكثر أهل العلم يرون إباحة صيدهم أيضاً ، قال ذلك عطاء واللّيث والشّافعيّ وأصحاب الرّأي ، ولا نعلم أحداً ثبت عنه تحريم صيد أهل الكتاب .
ولا فرق بين العدل والفاسق من المسلمين وأهل الكتاب .
ولا فرق بين الحربيّ والذّمّيّ في إباحة ذبيحة الكتابيّ منهم ، وتحريم ذبيحة من سواه . وسئل أحمد عن ذبائح نصارى أهل الحرب فقال : لا بأس بها . وقال ابن المنذر : أجمع على هذا كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم ، منهم مجاهد والثّوريّ والشّافعيّ وأحمد وإسحاق وأبو ثورٍ وأصحاب الرّأي ، ولا فرق بين الكتابيّ العربيّ وغيرهم ، لعموم الآية فيهم .
فإن كان أحد أبوي الكتابيّ ممّن لا تحلّ ذبيحته ، والآخر ممّن تحلّ ذبيحته ، قال الحنابلة : لا يحلّ صيده ولا ذبيحته .
وقال الشّافعيّ : إن كان الأب غير كتابيٍّ لا تحلّ ، وإن كان الأب كتابيّاً ففيه قولان :
أحدهما : تباح ، وهو قول مالكٍ وأبي ثورٍ .
والثّاني : لا تباح ، لأنّه وجد ما يقتضي التّحريم والإباحة ، فغلب ما يقتضي التّحريم .
وقال أبو حنيفة : تباح ذبيحته بكلّ حالٍ لعموم النّصّ ، ولأنّه كتابيّ يقرّ على دينه ، فتحلّ ذبيحته ، كما لو كان ابن كتابيّين . وأمّا إن كان ابن وثنيّين أو مجوسيّين ( وهو من أهل الكتاب ) فمقتضى مذهب الأئمّة الثّلاثة تحريمه ، ومقتضى مذهب أبي حنيفة حلّه ، لأنّ الاعتبار بدين الذّابح لا بدين أبيه ، بدليل أنّ الاعتبار في قبول الجزية بذلك ، ولعموم النّصّ والقياس وأمّا ذبح الكتابيّ لما يملكه المسلم ، فقد اختلف فقهاء المالكيّة في إباحة ذلك أو منعه على قولين ، وجعل ابن عرفة الكراهة قولاً ثالثاً ، والرّاجح من تلك الأقوال القول بالكراهة . أمّا غير المالكيّة فلم نعثر لهم على نصٍّ في ذلك ، وإنّما أطلقوا القول في حلّ ذبيحة الكتابيّ كما سبق . ولم يفصّلوا كما فصّل المالكيّة . والظّاهر من عباراتهم الحلّ .
نكاح نساء أهل الكتاب :
7 - فقهاء المذاهب متّفقون على جواز نكاح المسلم للكتابيّة للآية السّابقة { والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم } وروي عن أحمد تحريم نكاح نساء نصارى بني تغلب . والصّحيح عنه : أنّهم كغيرهم من أهل الكتاب .
وعن ابن عبّاسٍ أنّه خصّ الجواز بنساء أهل العهد دون أهل الحرب . والجمهور على أنّه لا فرق بين الحربيّة وغيرها . وانظر للتّفصيل مصطلح ( نكاحٍ ) .
استعمال آنية أهل الكتاب :
8 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وهو أحد قولين عند الحنابلة : إلى جواز استعمال آنية أهل الكتاب إلاّ إذا تيقّن عدم طهارتها . وصرّح القرافيّ المالكيّ بأنّ جميع ما يصنعه أهل الكتاب من الأطعمة وغيرها محمول على الطّهارة .
ومذهب الشّافعيّة ، والرّواية الأخرى عند الحنابلة : أنّه يكره استعمال أواني أهل الكتاب ، إلاّ أن يتيقّن طهارتها فلا كراهة ، وقد سبق تفصيل الأحكام في مصطلح ( آنيةٍ )
دية أهل الكتاب :
9 - دية الكتابيّ نصف دية المسلم عند مالكٍ وأحمد ، والمرأة منهم على النّصف من ذلك ، وعند الشّافعيّة دية الكتابيّ ثلث دية المسلم ، ودية المرأة نصف ذلك ، وعند الحنفيّة ديته كدية المسلم ، وراجع مصطلح : ( ديةٍ ) .
مجاهدة أهل الكتاب :
10 - قال اللّه تعالى : { قاتِلوا الّذينَ لا يؤمنون باللّه ولا باليومِ الآخِر ولا يُحَرِّمُونَ ما حرَّم اللّه ورسولُهُ ولا يَدِينون دينَ الحَقِّ مِنَ الّذين أُوتوا الكتابَ حتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عن يَدٍ وهم صاغرون } .
أمر اللّه تعالى بمقاتلة جميع الكفّار لإجماعهم على الكفر ، وخصّ أهل الكتاب بالذّكر لتعاظم مسئوليّتهم ، لما أوتوا من كتبٍ سماويّةٍ ، ولكونهم عالمين بالتّوحيد والرّسل والشّرائع والملل ، وخصوصاً ذكر محمّدٍ صلى الله عليه وسلم وملّته وأمّته ، فلمّا أنكروه تأكّدت عليهم الحجّة ، وعظمت منهم الجريمة ، فنبّه على محلّهم ، ثمّ جعل للقتال غايةً ، وهي إعطاء الجزية بدلاً من القتل .
ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ الجزية تؤخذ من اليهود والنّصارى إذا طلبوا الكفّ عن القتال ، لكنّ الخلاف في غيرهم على تفصيلٍ ينظر في ( أهل الحرب ، وأهل الذّمّة ، وجزيةٍ ) .
وقال الحنابلة : إنّ قتال أهل الكتاب أفضل من قتال غيرهم ، وكان ابن المبارك يأتي من مرو لغزو الرّوم ، فقيل له في ذلك ، فقال : هؤلاء يقاتلون على دينٍ .
وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال لأمّ خلّادٍ : « إنّ ابنك له أجر شهيدين ، قالت : ولم ذلك يا رسول اللّه ؟ قال : لأنّه قتله أهل الكتاب » .
الاستعانة بأهل الكتاب في القتال :
11 - ذهب الحنفيّة ، والحنابلة في الصّحيح من المذهب ، والشّافعيّة ما عدا ابن المنذر ، وابن حبيبٍ من المالكيّة ، وهو رواية عن الإمام مالكٍ إلى : جواز الاستعانة بأهل الكتاب في القتال عند الحاجة . لما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : استعان في غزوة حنينٍ سنة ثمانٍ بصفوان بن أميّة وهو مشرك » .
وصرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّه يشترط أن يعرف الإمام حسن رأيهم في المسلمين ويأمن خيانتهم ، فإن كانوا غير مأمونين لم تجز الاستعانة بهم ، لأنّنا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل المخذل والمرجف ، فالكافر أولى .
كما شرط الإمام البغويّ وآخرون شرطاً آخر ، وهو : أن يكثر المسلمون ، بحيث لو خان المستعان بهم ، وانضمّوا إلى الّذين يغزونهم ، أمكنهم مقاومتهم جميعاً .
وشرط الماورديّ : أن يخالفوا معتقد العدوّ ، كاليهود والنّصارى .
ويرى المالكيّة ما عدا ابن حبيبٍ ، وجماعةً من أهل العلم ، منهم ابن المنذر والجوزجانيّ : أنّه لا يجوز الاستعانة بمشركٍ ، لقوله عليه الصلاة والسلام « فارجع فلن أستعين بمشركٍ » . ولا بأس أن يكونوا في غير المقاتلة ، بل في خدمات الجيش .ولتفصيل ذلك ( ر : جهاد ).
ترك أهل الكتاب وما يدينون :
12 - إن كان أهل الكتاب أهل ذمّةٍ في دار الإسلام ، فتجري عليهم أحكام المسلمين في حقوق الآدميّين في العقود والمعاملات وغرامات المتلفات ، ويتركون وما يدينون فيما يتعلّق بعقائدهم وعباداتهم بشروطٍ . وتفصيل ذلك في مصطلح ( أهل الذّمّة ) .
الأحكام المشتركة بين أهل الكتاب والمشركين :
13 - يشترك أهل الكتاب والمشركون في أحكامٍ منها :
أ - أنّه يمنع المشركون وأهل الكتاب من دخول الحرم ، ولو دخل المشرك الحرم متستّراً ومات ، نبش قبره ، وأخرجت عظامه ، فليس لهم الاستيطان ولا الاجتياز .
فإذا جاء رسول منهم خرج الإمام إلى الحلّ ليسمع ما يقول .
وأمّا جزيرة العرب ، فقال مالك والشّافعيّ : يخرج من هذه المواضع من كان على غير دين الإسلام ، ولا يمنعون من التّردّد مسافرين ، ويضرب لهم أجل للخروج خلال ثلاثة أيّامٍ ، كما ضرب عمر رضي الله عنه حين أجلاهم . وفيما يعتبر من جزيرة العرب وما لا يعتبر ، وأحكام دخول الكفّار إليها ينظر ( أرض العرب ) .
ب - ومنها أن يمنع أهل الكتاب والمشركون من دخول المساجد كلّها ، وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمّاله مستدلّاً بالآية { إنَّما المشرِكونَ نَجَسٌ } ويؤيّد ذلك قوله تعالى : { في بيوتٍ أَذِنَ اللّه أنْ تُرْفَعَ } إلخ ، ودخول الكفّار فيها يناقض رفعهما .
وعند الإمام الشّافعيّ أنّ الآية عامّة في جميع المشركين ، خاصّةً بالمسجد الحرام ، فلا يمنعون من غير المسجد الحرام . وعند الحنفيّة في دخول المشركين وأهل الكتاب المسجد الحرام روايتان : إحداهما في السّير الكبير بالمنع . والثّانية في الجامع الصّغير بعدم المنع . وعند الحنابلة أنّهم يمنعون من الحرم بكلّ حالٍ .
فإذا امتنع أهل الكتاب من دفع الجزية يقاتلون كما يقاتل المشركون ، لأنّهم إنّما يعصمون دماءهم بدفع الجزية . فإذا منعوها ساووا المشركين في إهدار دمهم .
ج - ومن الأمور المشتركة ألا يحدثوا معبداً في دار الإسلام ، وألاّ يدفن أحد منهم في مقابر المسلمين .
ولاية أهل الكتاب على المسلمين :
14 - لا ولاية لكافرٍ على مسلمٍ ، لا ولايةً عامّةً ولا خاصّةً ، فلا يكون الكافر إماماً على المسلمين ، ولا قاضياً عليهم ، ولا شاهداً ، ولا ولاية له في زواج مسلمةٍ ، ولا حضانة له لمسلمٍ ، ولا يكون وليّاً عليه ولا وصيّاً .
والأصل في ذلك قول اللّه تعالى : { لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعدوَّكم أولياءَ تُلْقُون إليهم بالمودَّةِ } . والتّولية شقيقة التّولّي ، فكانت توليتهم نوعاً من تولّيهم ، وقد حكم اللّه تعالى بأنّ من تولّاهم فإنّه منهم ، ولا يتمّ الإيمان إلاّ بالبراءة منهم ، والولاية تنافي البراءة ، فلا تجتمع البراءة والولاية أبداً . والولاية إعزاز ، فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبداً .
والولاية صلة ، فلا تجامع معاداة الكفّار .
والتّفصيلات يرجع إليها في أبواب النّكاح والشّهادة والقضاء ، وفي مصطلح ( كفرٍ ) .
بطلان زواج أهل الكتاب بالمسلمات :
15- والأصل في هذا قول اللّه تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا جاءكم المؤمناتُ مهاجراتٍ فامتَحِنُوهنّ اللّهُ أعلمُ بإيمانِهِنّ فإنْ عَلِمْتُموهُنَّ مؤمناتٍ فلا تَرْجِعُوهنّ إلى الكفّار لا هنّ حلٌّ لهم ولا هم يحلِّون لهنّ } ، قال المفسّرون في تفسير الآية قوله { فلا ترجعوهنّ إلى الكفّار} الآية : أي لم يحلّ اللّه مؤمنةً لكافرٍ ، ولا نكاح مؤمنٍ لمشركةٍ .
العدل بين الزّوجات المسلمات والكتابيّات :
16 - العدل بين الزّوجات - ولو مختلفاتٍ في الدّين - واجب .
قال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ القسم بين المسلمة والذّمّيّة سواء ، وذلك لأنّ القسم من حقوق الزّوجيّة ، فاستوت فيه المسلمة والكتابيّة ، كالنّفقة والسّكنى ، وهذا عند جميع الفقهاء .
حكم التّعامل مع أهل الكتاب :
17 - التّعامل مع أهل الكتاب جائز ، فقد ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أنّه اشترى من يهوديٍّ سلعةً إلى الميسرة » وثبت عنه صلى الله عليه وسلم « أنّه اشترى من يهوديٍّ طعاماً إلى أجلٍ ورهنه درعه » ففيه دليل على جواز معاملتهم ، وثبت عنه أنّه " زارعهم وساقاهم " وثبت عنه أنّه " أكل من طعامهم " وهناك وقائع كثيرة غير ما ذكر ، وهناك تفصيلات في مشاركتهم يرجع إليها في مواضعها .
أهل المحلّة *
التّعريف :
1 - أهل المحلّة في اللّغة : القوم ينزلون بموضع ما يعمرونه بالإقامة به ، ويجمع أهل على أهلين ، وربّما قيل : أهالي المحلّة .
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - العاقلة :
2- العاقلة هم : قبيلة الشّخص وعشيرته وإن بعدوا .
وفي المصباح : دافع الدّية عاقل ، والجمع عاقلة ، وسمّيت الدّية عقلاً تسميةً بالمصدر ، لأنّ الإبل كانت تعقل بفناء وليّ القتيل ، ثمّ كثر الاستعمال حتّى أطلق العقل على الدّية ، إبلاً كانت أو نقوداً . وأهل المحلّة قد تكون بينهم قرابة وقد لا تكون .
ب - القبيلة :
القبيلة : من القبيل الّذي يطلق على الجماعة ، ثلاثةً فصاعداً من قومٍ شتّى ،
والقبيلة لغةً يراد بها : بنو أبٍ واحدٍ . وأهل المحلّة قد لا يكونون من أبٍ واحدٍ .
ج - أهل الخطّة :
يراد بالخطّة موضع ما خطّه الإمام ووضّحه ليسكنه القوم .
د - أهل السّكّة :
السّكّة والشّارع : ما يكون بين البيوت من فراغٍ تمرّ به المشاة والدّوابّ وغيرها .
أحكام أهل المحلّة :
3 - لأهل المحلّة أحكام تختلف تبعاً لما يضاف إليها .
فإمام أهل المحلّة يكون أولى من غيره إذا كان ممّن تصحّ إمامته ، وإن كان غيره أفضل منه قراءةً أو علماً عند جمهور الفقهاء . وذلك لما روي أنّ ابن عمر رضي الله عنهما أتى أرضاً له عندها مسجد يصلّي فيه مولًى له ، فصلّى ابن عمر رضي الله عنهما معهم ، فسألوه أن يؤمّهم فأبى ، وقال : صاحب المسجد أحقّ .
وأذان أهل المحلّة في مسجدهم يغني المصلّين عن الأذان ، إذا كان بحيث يسمعهم عند جمهور الفقهاء ، وهو قديم مذهب الشّافعيّ .
وفي جديد المذهب : يندب الأذان للمصلّي وإن سمع أذان أهل المحلّة .
وفي مسألة اشتراك أهل المحلّة بالقسامة والدّية إذا وجد فيها قتيل لا يعرف قاتله - وهناك لوث - جمهور الفقهاء على أنّ الّذي يقسم هو المدّعي خمسين يميناً ، بأنّ أهل المحلّة أو بعضهم قَتَلَه ولا بَيّنة له ، لقوله صلى الله عليه وسلم « أتحلفون خمسين يميناً منكم » . فإن لم يحلفوا حلف المدّعي عليهم ( أهل المحلّة ) خمسين يميناً ، لقوله صلى الله عليه وسلم في قصّة عبد اللّه بن سهلٍ : « أتحلفون خمسين يميناً فتستحقّون صاحبكم ، قالوا . كيف نأخذ أقوال قومٍ كفّارٍ ؟ قال : فعقله النّبيّ صلى الله عليه وسلم من عنده » .
ويرى الحنفيّة أنّ أهل المحلّة الّتي وجد القتيل فيها هم الّذين يشتركون أوّلاً بالقسامة ، ثمّ يغرمون الدّية ، وذلك لحديث عبد اللّه بن سهلٍ قال : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « تبرئكم يهود بخمسين .. » الحديث .
وذكر الزّهريّ عن سعيد بن المسيّب : أنّ القسامة كانت من أحكام الجاهليّة ، « فقرّرها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في قتيلٍ من الأنصار وجد في حيٍّ ليهودٍ ، فألزم الرّسول صلى الله عليه وسلم اليهود الدّية والقسامة » . ( ر : قسامة - دية ) .
أهل النّسب *
التّعريف :
1 - الأهل : أهل البيت ، والأصل فيه القرابة ، وقد أطلق على الأتباع .
وأهل الرّجل : أخصّ النّاس به ، وأهل الرّجل : عشيرته وذوو قرباه .
وأهل المذهب : من يدين به . والنّسب : القرابة ، وهو الاشتراك من جهة أحد الأبوين ، وقيل هو في الآباء خاصّةً ، أي : الاشتراك من جهة الأب فقط .
وعلى ذلك فأهل النّسب لغةً : هم الأقارب من جهة الأبوين ، وقيل من جهة الأب فقط . والفقهاء يعتبرون النّسب ما كان من جهة الأب فقط .
الحكم الإجماليّ :
2 - يتّفق الفقهاء على أنّ النّسب هو ما كان من جهة الأب فقط ، ولذلك لا يختلف الحكم عندهم ، إلاّ أنّ التّعبير بلفظ ( أهل النّسب ) لم يرد إلاّ عند الحنفيّة ، فقد قالوا : من أوصى لأهل نسبه فالوصيّة لمن ينتسب إليه من جهة الأب ، لأنّ النّسب إلى الآباء .
وعند الشّافعيّة والحنابلة لو قال : وقفت على من ينتسب إليّ ، أو قال : وقفت على أولادي المنتسبين إليّ ، فإنّ الوقف يكون على من ينتسب إليه من جهة الأب ، ولا يدخل في ذلك أولاد البنات ، لأنّهم لا ينسبون إليه بل إلى آبائهم ، لقوله تعالى : { ادْعوهم لآبائهم } .
ويذكر الشّافعيّة : أنّ الواقف لو كان امرأةً دخل أولاد بناتها ، لأنّ ذكر الانتساب في حقّها لبيان الواقع لا للإخراج ، فالعبرة فيها بالنّسبة اللّغويّة لا الشّرعيّة ، ويكون كلام الفقهاء محمولاً على وقف الرّجل .
ويظهر أنّ الحكم عند المالكيّة كبقيّة المذاهب ، فقد قالوا : إنّ نسب الولد إنّما هو لأبيه لا لأمّه . ولم يصرّحوا في أغلب كتبهم بتعبيرٍ مماثلٍ لما ورد عند بقيّة الفقهاء ، إلاّ أنّه ورد في الرّهونيّ : من قال : حبس على ولدي وأنسابهم ، ففي دخول ولد البنات في تحبيس جدّهم للأمّ في المذهب قولان ، قيل : إنّهم لا يدخلون إلاّ أن يخصّوا بلفظ الدّخول ، وقيل : إنّهم يدخلون .
مواطن البحث :
3 - جاء ذكر أهل النّسب عند الحنفيّة في باب الوصيّة ، وشبيهه عند الفقهاء في بابي الوصيّة والوقف ( ر : وصيّة - وقف ) .
إهلال *
التّعريف :
1 - أصل الإهلال : رفع الصّوت عند رؤية الهلال ، ثمّ كثر استعماله حتّى قيل لكلّ رافعٍ صوته : مهلّ ومستهلّ ، ومن معانيه النّظر إلى الهلال ، وظهور الهلال ، ورفع الصّوت بالتّلبية . ويستعمله الفقهاء بالمعاني السّابقة ، وبمعنى : ذكر اسمٍ معظّمٍ عند الذّبح .
صلته بالاستهلال :
2 - كثيراً ما يأتي الاستهلال بمعنى الإهلال أي : رفع الصّوت ، غير أنّ من الفقهاء من أطلق استهلال الصّبيّ على : كلّ ما يدلّ على حياة المولود ، سواء كان رفع صوتٍ أو حركة عضوٍ بعد الولادة .
الحكم الإجماليّ :
3 - طلب رؤية هلال رمضان ليلة الثّلاثين من شعبان محلّ خلافٍ بين الفقهاء ، بعضهم يقول : يستحبّ للنّاس ترائي الهلال ليلة الثّلاثين من شعبان وتطلّبه ، ليحتاطوا بذلك لصيامهم ، وليسلموا من الاختلاف ، وقد روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أحصوا هلال شعبان لرمضان » .
والبعض يرى أنّ التماس هلال رمضان يجب على الكفاية ، لأنّه يتوصّل به إلى الفرض .
ولا يثبت هلال سائر الشّهور غير هلال رمضان إلاّ بشهادة رجلين ، بهذا قال العلماء كافّةً إلاّ أبا ثورٍ ، فحكي عنه أنّه يقبل في هلال شوّالٍ عدل واحد كهلال رمضان .
أمّا هلال رمضان ففيه خلاف : فبعض الفقهاء يشترط عدلين ، والبعض يكتفي بواحدٍ .
وأكثر الفقهاء على أنّ من رأى هلال رمضان وحده لزمه الصّوم ، وتجب عليه الكفّارة لو جامع فيه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته » .
وقال أبو حنيفة : يلزمه الصّوم ، ولكن إن جامع فيه فلا كفّارة وقال عطاء والحسن وابن سيرين وأبو ثورٍ وإسحاق بن راهويه : لا يلزمه الصّوم .
ومن رأى هلال شوّالٍ وحده لزمه الفطر كذلك عند أغلب الفقهاء ، للحديث السّابق ، وقال مالك واللّيث وأحمد : لا يجوز له الأكل فيه .
وظهور الهلال في النّهار يعتدّ به عند بعض الفقهاء للّيلة التّالية ، ويفرّق آخرون بين ظهوره قبل الزّوال فيكون للّيلة الماضية ، وبعده فيكون للّيلة التّالية .
وظهور الهلال في بلدٍ يوجب الصّيام على أهلها ، أمّا غير أهل بلد الرّؤية ففي وجوب الصّوم عليهم خلاف بين الفقهاء . ولهم في ذلك تفصيلات موطنها مصطلح : ( الصّوم ) .
4 - والإهلال بالنّسك بمعنى الإحرام ، وهو إمّا أن يكون بحجٍّ أو عمرةٍ أو بهما ، ويفصّل الفقهاء أحكامه في الحجّ عند الكلام عن التّمتّع ، والإفراد ، والقران ، وفي الإحرام من الميقات بالحجّ أو العمرة أو بهما . كما يكون الإهلال بمعنى التّلبية ، ورفع الصّوت بها . وينظر مصطلح ( إحرامٍ ) ( ج 2 ص 128 ) .
5 - والإهلال بالذّبح يجب أن يكون باسم اللّه . فإن أهلّ بالذّبح لغير اللّه ، وذلك بأن يذكر عليه اسم غير اللّه سبحانه ، كأن يقول : باسم المسيح أو العذراء مثلاً ، فلا يحلّ أكل المذبوح . وهذا في الجملة ، ولهذه المسألة تفصيلات يذكرها الفقهاء في الصّيد والذّبائح والأضحيّة ، وقد أفرد ابن نجيمٍ رسالةً لهذه المسألة .
مواطن البحث :
6 - بالإضافة إلى المواطن السّابقة ، يتكلّم الفقهاء عن إهلال المولود في الصّلاة عليه ، وفي التّسمية ، وفي الإرث ، والجناية عليه . وتفصيل ذلك كلّه ذكر في مبحث ( استهلالٍ ) .
أهليّة *
التّعريف :
1 - الأهليّة مصدر صناعيّ لكلمة ( أهلٍ ) ومعناها لغةً - كما في أصول البزدويّ - : الصّلاحيّة .
ويتّضح تعريف الأهليّة في الاصطلاح من خلال تعريف نوعيها : أهليّة الوجوب ، وأهليّة الأداء . فأهليّة الوجوب هي : صلاحيّة الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه . وأهليّة الأداء هي : صلاحيّة الإنسان لصدور الفعل منه على وجهٍ يعتدّ به شرعاً .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّكليف :
2 - التّكليف معناه في اللّغة : إلزام ما فيه كلفة ومشقّة .
وهو في الاصطلاح كذلك ، حيث قالوا التّكليف إلزام المخاطب بما فيه كلفة ومشقّة من فعلٍ أو تركٍ . فالأهليّة وصف للمكلّف .
ب - الذّمّة :
3 - الذّمّة معناها في اللّغة : العهد والضّمان والأمان .
وأمّا في الاصطلاح فإنّها : وصف يصيّر الشّخص به أهلاً للإلزام والالتزام .
فالفرق بين الأهليّة والذّمّة : أنّ الأهليّة أثر لوجود الذّمّة .
مناط الأهليّة ومحلّها :
4 - الأهليّة بمعناها المتقدّم مناطها أي محلّها الإنسان ، من حيث الأطوار الّتي يمرّ بها ، فإنّه في البداية يكون جنيناً في بطن أمّه ، فتثبت له أحكام الأهليّة الخاصّة بالجنين ، وبعد الولادة إلى سنّ التّمييز يكون طفلاً ، فتثبت له أحكام الأهليّة الخاصّة بالطّفل ، وبعد التّمييز تثبت له أحكام الأهليّة الخاصّة بالمميّز إلى أن يصل به الأمر إلى سنّ البلوغ ، فتثبت له الأهليّة الكاملة ، ما لم يمنع من ذلك مانع ، كطروء عارضٍ يمنع ثبوت تلك الأهليّة الكاملة له ، وسيأتي بيان ذلك عند الكلام على أقسام الأهليّة وعوارضها .
أقسام الأهليّة وأنواعها :
5 - الأهليّة قسمان : أهليّة وجوبٍ ، وأهليّة أداءً . وأهليّة الوجوب قد تكون كاملةً ، وقد تكون ناقصةً . وكذا أهليّة الأداء ، وبيان ذلك فيما يلي :
أوّلاً : أهليّة الوجوب :
6 - سبق أنّ معنى أهليّة الوجوب : صلاحيّة الشّخص لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه معاً ، أو له ، أو عليه .
وأهليّة الوجوب تنقسم فروعها وتتعدّد بحسب انقسام الأحكام ، فالصّبيّ أهل لبعض الأحكام ، وليس بأهلٍ لبعضها أصلاً ، وهو أهل لبعضها بواسطة رأي الوليّ ، فكانت هذه الأهليّة منقسمةً نظراً إلى أفراد الأحكام ، وأصلها واحد ، وهو الصّلاح للحكم ، فمن كان أهلاً لحكم الوجوب بوجهٍ كان هو أهلاً للوجوب ، ومن لا فلا .
ومبنى أهليّة الوجوب هذه على الذّمّة ، أي أنّ هذه الأهليّة لا تثبت إلاّ بعد وجود ذمّةٍ صالحةٍ ، لأنّ الذّمّة هي محلّ الوجوب ، ولهذا يضاف إليها ولا يضاف إلى غيرها بحالٍ ، ولهذا اختصّ الإنسان بالوجوب دون سائر الحيوانات الّتي ليست لها ذمّة .
وقد أجمع الفقهاء على ثبوت هذه الذّمّة للإنسان منذ ولادته ، حتّى يكون صالحاً لوجوب الحقوق له وعليه ، فيثبت له ملك النّكاح بتزويج الوليّ إيّاه ، ويجب عليه المهر بعقد الوليّ. أنواع أهليّة الوجوب :
7 - أهليّة الوجوب نوعان :
أ - أهليّة الوجوب النّاقصة ، وتتمثّل في الجنين في بطن أمّه ، باعتباره نفساً مستقلّةً عن أمّه ذا حياةٍ خاصّةٍ ، فإنّه صالح لوجوب الحقوق له من وجهٍ كما سيأتي ، لا عليه ، لأنّ ذمّته لم تكتمل ما دام في بطن أمّه .
ب - أهليّة الوجوب الكاملة ، وهي تثبت للإنسان منذ ولادته ، فإنّه تثبت له أهليّة الوجوب الكاملة ، لكمال ذمّته حينئذٍ من كلّ وجهٍ ، فيكون بهذا صالحاً لوجوب الحقوق له وعليه .
ثانياً : أهليّة الأداء :
8 - سبق أنّ أهليّة الأداء هي : صلاحيّة الإنسان لصدور الفعل منه على وجهٍ يعتد به شرعاً . وأهليّة الأداء هذه لا توجد عند الشّخص إلاّ إذا بلغ سنّ التّمييز ، لقدرته حينئذٍ على فهم الخطاب ولو على سبيل الإجمال ، ولقدرته على القيام ببعض الأعباء ، فتثبت له أهليّة الأداء القاصرة ، وهي الّتي تناسبه ما دام نموّه لم يكتمل جسماً وعقلاً ، فإذا اكتمل ببلوغه ورشده ثبتت له أهليّة الأداء الكاملة ، فيكون حينئذٍ أهلاً للتّحمّل والأداء ، بخلاف غير المميّز ، فإنّه لا تثبت له هذه الأهليّة لانتفاء القدرتين عنه .
أنواع أهليّة الأداء :
9 - أهليّة الأداء نوعان :
أ - أهليّة أداءً قاصرة ، وهي الّتي تثبت بقدرةٍ قاصرةٍ .
ب - أهليّة أداءً كاملة ، وهي الّتي تثبت بقدرةٍ كاملةٍ .
والمراد بالقدرة هنا : قدرة الجسم أو العقل ، أو هما معاً ، لأنّ الأداء - كما قال البزدويّ - يتعلّق بقدرتين : قدرة فهم الخطاب وذلك بالعقل ، وقدرة العمل به وهي بالبدن ، والإنسان في أوّل أحواله عديم القدرتين ، لكن فيه استعداد وصلاحيّة لأن توجد فيه كلّ واحدةٍ من القدرتين شيئاً فشيئاً بخلق اللّه تعالى ، إلى أن تبلغ كلّ واحدةٍ منهما درجة الكمال ، فقبل بلوغ درجة الكمال كانت كلّ واحدةٍ منهما قاصرةً ، كما هو الحال في الصّبيّ المميّز قبل البلوغ ، وقد تكون إحداهما قاصرةً ، كما في المعتوه بعد البلوغ ، فإنّه قاصر العقل مثل الصّبيّ ، وإن كان قويّ البدن ، ولهذا ألحق بالصّبيّ في الأحكام .
فالأهليّة الكاملة : عبارة عن بلوغ القدرتين أوّل درجات الكمال ، وهو المراد بالاعتدال في لسان الشّرع . والقاصرة : عبارة عن القدرتين قبل بلوغهما أو بلوغ إحداهما درجة الكمال . ثمّ الشّرع بنى على الأهليّة القاصرة صحّة الأداء ، وعلى الكاملة وجوب الأداء وتوجّه الخطاب ، لأنّه لا يجوز إلزام الإنسان الأداء في أوّل أحواله ، إذ لا قدرة له أصلاً ، وإلزام ما لا قدرة له عليه منتفٍ شرعاً وعقلاً ، وبعد وجود أصل العقل وأصل قدرة البدن قبل الكمال ، ففي إلزام الأداء حرج ، لأنّه يحرج الفهم بأدنى عقله ، ويثقل عليه الأداء بأدنى قدرة البدن ، والحرج منتفٍ أيضاً بقوله تعالى : { وما جَعَلَ عليكم في الدِّينِ من حَرَجٍ } فلم يخاطب شرعاً لأوّل أمره حكمةً ، ولأوّل ما يعقل ويقدر رحمةً ، إلى أن يعتدل عقله وقدرة بدنه ، فيتيسّر عليه الفهم والعمل به .
ثمّ وقت الاعتدال يتفاوت في جنس البشر على وجهٍ يتعذّر الوقوف عليه ، ولا يمكن إدراكه إلاّ بعد تجربةٍ وتكلّفٍ عظيمٍ ، فأقام الشّرع البلوغ الّذي تعتدل لديه العقول في الأغلب مقام اعتدال العقل حقيقةً ، تيسيراً على العباد ، وصار توهّم وصف الكمال قبل هذا الحدّ ، وتوهّم بقاء القصور بعد هذا الحدّ ساقطي الاعتبار ، لأنّ السّبب الظّاهر متى أقيم مقام المعنى الباطن دار الحكم معه وجوداً وعدماً ، وأيّد هذا كلّه قوله عليه السلام : « رفع القلم عن ثلاثٍ : عن الصّبيّ حتّى يحتلم والمجنون حتّى يفيق ، والنّائم حتّى يستيقظ » .
والمراد بالقلم : الحساب ، والحساب إنّما يكون بعد لزوم الأداء ، فدلّ على أنّ ذلك لا يثبت إلاّ بالأهليّة الكاملة ، وهي اعتدال الحال بالبلوغ عن عقلٍ .
أثر الأهليّة في التّصرّفات :
10 - التّصرّفات الّتي تحكمها الأهليّة - سواء أكانت من حقوق اللّه أم من حقوق الآدميّين - تختلف وتتعدّد أحكامها تبعاً لاختلاف نوع الأهليّة ، وتبعاً لاختلاف مراحل النّموّ الّتي يمرّ بها الإنسان الّذي هو مناط تلك الأهليّة ، فالأهليّة - كما سبق - إمّا أهليّة وجوبٍ وإمّا أهليّة أداءً ، وكلّ واحدةٍ منهما قد تكون ناقصةً وقد تكون كاملةً ، ولكلٍّ حكمه .
هذا ، وللوقوف على تلك الأحكام ، لا بدّ أن نتناول تلك المراحل الّتي يمرّ بها الإنسان ، وبيان الأحكام الخاصّة به في كلّ مرحلةٍ من تلك المراحل .
المراحل الّتي يمرّ بها الإنسان :
11 - يمرّ الإنسان من حين نشأته بخمس مراحل أساسيّةٍ ، وهذه المراحل هي :
- 1 - مرحلة ما قبل الولادة ، أي حين يكون جنيناً في بطن أمّه .
- 2 - مرحلة الطّفولة والصّغر ، أي بعد انفصاله عن أمّه ، وقبل بلوغه سنّ التّمييز .
- 3 - مرحلة التّمييز ، أي من حين بلوغه سنّ التّمييز إلى البلوغ .
- 4 - مرحلة البلوغ ، أي بعد انتقاله من سنّ الصّغر إلى سنّ الكبر .
- 5 - مرحلة الرّشد ، أي اكتمال العقل . هذا ، ولكلّ مرحلةٍ من هذه المراحل أحكام خاصّة نذكرها فيما يلي :
المرحلة الأولى - الجنين :
12 - الجنين في اللّغة : مأخوذ من الاجتنان ، وهو الخفاء ، وهو وصف للولد ما دام في بطن أمّه ، والفقهاء في تعريفهم للجنين لا يخرجون عن هذا المعنى ، إذ معناه عندهم : وصف للولد ما دام في البطن .
والجنين إذا نظر إليه من جهة كونه كالجزء من أمّه يتغذّى بغذائها يحكم بعدم استقلاله ، فلا تثبت له ذمّة ، وبالتّالي فلا يجب له ولا عليه شيء .
وإذا نظر إليه من جهة كونه نفساً مستقلّةً بحياةٍ خاصّةٍ يحكم بثبوت الذّمّة له ، وبذلك يكون أهلاً لوجوب الحقوق له وعليه . ولمّا لم يمكن ترجيح إحدى الجهتين على الأخرى من كلّ وجهٍ ، فإنّ الشّرع عامله من جهة كونه جزءاً من أمّه بعدم أهليّته للوجوب عليه ، وعامله من جهة كونه نفساً مستقلّةً بحياةٍ خاصّةٍ بكونه أهلاً للوجوب له ، وبهذا لا يكون للجنين أهليّة وجوبٍ كاملةً ، بل أهليّة وجوبٍ ناقصةً .
13 - وقد اتّفق الفقهاء على إثبات بعض الحقوق للجنين ، كحقّه في النّسب ، وحقّه في الإرث ، وحقّه في الوصيّة ، وحقّه في الوقف .
فأمّا حقّه في النّسب من أبيه : فإنّه لو تزوّج رجل وأتت امرأته بولدٍ ثبت نسبه منه ، إذا توافرت شروط ثبوت النّسب المبيّنة في موضعها . ر : ( نسب ) .
وأمّا حقّه في الإرث : فهو ثابت بإجماع الصّحابة كما جاء في الفتاوى الهنديّة وقد اتّفق الفقهاء على استحقاق الحمل للإرث متى قام به سبب استحقاقه وتوافرت فيه شروطه . وكذلك اتّفق الفقهاء على صحّة الوصيّة له . وأمّا حقّه في الوقف : فقد أجاز الحنفيّة والمالكيّة الوقف عليه ، قياساً على الوصيّة ، ويستحقّه إن استهلّ .
ولم يجوّز الشّافعيّة الوقف عليه ، لأنّ الوقف تسليط في الحال بخلاف الوصيّة .
وأمّا الحنابلة فلا يصحّ عندهم الوقف على حملٍ أصالةً ، كأن يقف داره على ما في بطن هذه المرأة ، لأنّه تمليك ، والحمل لا يصحّ تمليكه بغير الإرث والوصيّة ، أمّا إذا وقف على الحمل تبعاً لمن يصحّ الوقف عليه ، كأن يقف على أولاده ، أو على أولاد فلانٍ وفيهم حمل ، فإنّ الوقف يشمله عندهم .
المرحلة الثّانية - الطّفولة :
14 - تبدأ هذه المرحلة من حين انفصال الجنين عن أمّه حيّاً ، وتمتدّ إلى سنّ التّمييز ، ففي هذه المرحلة تثبت للمولود الذّمّة الكاملة ، فيصير أهلاً للوجوب له وعليه ، أمّا أهليّته للوجوب له فهي ثابتة حتّى قبل الولادة - كما سبق - فتثبت له بعدها بطريق الأولى ، بل صرّح الشّافعيّة : بأنّ له يداً واختصاصاً كالبالغ .
وأمّا أهليّته للوجوب عليه ففيها تفصيل يأتي . ووجوب الحقوق الثّابتة على الطّفل في هذه المرحلة ، المراد منه : حكمه ، وهو الأداء عنه ، فكلّ ما يمكن أداؤه عنه يجب عليه ، وما لا فلا . وإنّما قيّد الأداء بالممكن ، لأنّ الطّفل في هذه المرحلة ، وإن كان يجب عليه كافّة الحقوق كالبالغ ، إلاّ أنّه يعامل بما يناسبه في هذه المرحلة ، لضعف بنيته ، ولعدم قدرته على مباشرة الأداء بنفسه ، فيؤدّي عنه وليّه ما أمكن أداؤه عنه ، ولهذا فإنّ العلماء ذكروا تفصيلاً في الحقوق الواجبة عليه ، الّتي تؤدّى عنه ، سواء أكانت من حقوق اللّه أم حقوق العباد ، كما ذكروا أيضاً حكم أقواله وأفعاله . وبيان ذلك فيما يلي :
أوّلاً : حقوق العباد :
15 - حقوق العباد أنواع : منها ما يجب أداؤه عن الطّفل لوجوبه عليه ، ومنها ما لا يجب عليه ولا يؤدّى عنه . فحقوق العباد الواجبة والّتي تؤدّى عنه هي :
أ - ما كان المقصود منه المال ويحتمل النّيابة ، فإنّه يؤدّي عنه ، لوجوبه عليه كالغرم والعوض .
ب - ما كان صلةً شبيهةً بالمؤن كنفقة القريب ، أو كان صلةً شبيهةً بالأعواض كنفقة الزّوجة ، فإنّه يؤدّى عنه .
وأمّا حقوق العباد الّتي لا تجب عليه لا تجب عليه ولا تؤدّى عنه فهي :
أ - الصّلة الشّبيهة بالأجزية كتحمّل الدّية مع العاقلة ، فلا تجب عليه .
ب - العقوبات كالقصاص ، أو الأجزية الشّبيهة بها كالحرمان من الميراث ، فلا تجب عليه .
ثانياً : حقوق اللّه تعالى :
16 - هذه الحقوق أيضاً منها ما يجب على الطّفل ، ومنها ما لا يجب .
فالحقوق الّتي هي مئونة محضة كالعشر والخراج تجب عليه ، وتؤدّى عنه ، لأنّ المقصود منها المال ، فتثبت في ذمّته ، ويمكن أداؤه عنه .
وأمّا العبادات فلا تجب عليه ، سواء أكانت بدنيّةً أم ماليّةً .
أمّا البدنيّة كالصّلاة والصّوم والحجّ والجهاد وغيرها ، فإنّها لا تجب عليه لعجزه عن الفهم وضعف بدنه .
وأمّا الماليّة ، فإن كانت زكاة فطرٍ ، فإنّها تجب في ماله عند أبي حنيفة وأبي يوسف والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ولا تجب عليه عند محمّدٍ وزفر من الحنفيّة .
وإن كانت زكاة مالٍ ، فإنّها تجب في ماله عند جمهور الفقهاء ، لأنّها ليست عبادةً خالصةً بل فيها معنى المئونة ، أوجبها اللّه تعالى على الأغنياء حقّاً للمحتاجين ، فتصحّ فيها النّيابة كما في زكاة الفطر ، ولا تجب عليه عند فقهاء الحنفيّة ، لأنّها عندهم عبادة خالصة ، وتحتاج إلى النّيّة ، ولا تصحّ فيها النّيابة .
وأمّا إن كانت حقوق اللّه عقوباتٍ كالحدود ، فإنّها لا تلزمه ولا تجب عليه ، كما لم تلزمه العقوبات الّتي هي حقوق العباد كالقصاص ، لأنّ العقوبة إنّما وضعت جزاءً للتّقصير ، وهو لا يوصف به .
ثالثاً : أقواله وأفعاله :
17 - أقوال الصّبيّ وأفعاله غير معتبرةٍ ، ولا يترتّب عليها حكم ، لأنّه ما دام لم يميّز فلا اعتداد بأقواله وأفعاله .
المرحلة الثّالثة : التّمييز :
18 - التّمييز في اللّغة مأخوذ من : مزته ميزاً ، من باب باع ، وهو : عزل الشّيء وفصله من غيره . ويكون في المشتبهات والمختلطات ، ومعنى تميّز الشّيء : انفصاله عن غيره ، ومن هنا فإنّ الفقهاء يقولون : سنّ التّمييز ، ومرادهم بذلك : تلك السّنّ الّتي إذا انتهى إليها عرف مضارّه ومنافعه ، وكأنّه مأخوذ من ميّزت الأشياء : إذا فرّقتها بعد المعرفة بها ، وبعض النّاس يقولون : التّمييز قوّة في الدّماغ يستنبط بها المعاني .
وهذه المرحلة تبدأ ببلوغ الصّبيّ سبع سنين ، وهو سنّ التّمييز كما حدّده جمهور الفقهاء ، وتنتهي بالبلوغ ، فتشمل المراهق وهو الّذي قارب البلوغ .
ففي هذه المرحلة يصبح عند الصّبيّ مقدار من الإدراك والوعي يسمح له بمباشرة بعض التّصرّفات ، فتثبت له أهليّة الأداء القاصرة ، لأنّ نموّه البدنيّ والعقليّ لم يكتملا بعد ، وبعد اكتمالهما تثبت له أهليّة الأداء الكاملة ، لأنّ أهليّة الأداء الكاملة لا تثبت إلاّ باكتمال النّموّ البدنيّ والنّموّ العقليّ ، فمن لم يكتمل نموّه البدنيّ والعقليّ معاً ، أو لم يكتمل فيه نموّ أحدهما فأهليّة الأداء فيه تكون قاصرةً .
فالمعتوه كالصّبيّ ، لعدم اكتمال العقل فيه ، وإن كان كاملاً من النّاحية البدنيّة ، بخلاف أهليّة الوجوب ، فإنّها تثبت كاملةً منذ الولادة ، فالطّفل أهل للوجوب له وعليه ، كما سبق . وللتّمييز أثره في التّصرّفات ، فالصّبيّ المميّز يجوز له بأهليّته القاصرة مباشرة بعض التّصرّفات وتصحّ منه ، لأنّ الثّابت مع الأهليّة القاصرة صحّة الأداء ، ويمنع من مباشرة بعض التّصرّفات الأخرى ، وخاصّةً تلك الّتي يعود ضررها عليه ، فلا تصحّ منه .
ومن التّصرّفات أيضاً ما يمتنع على الصّبيّ المميّز أن يباشرها بنفسه ، بل لا بدّ فيها من إذن الوليّ .
وفيما يلي ما قاله الفقهاء في ذلك على سبيل الإجمال ، أمّا التّفصيل ففي مصطلح ( تمييزٍ ) .
تصرّفات الصّبيّ المميّز :
19 - التّصرّفات الّتي يباشرها الصّبيّ المميّز ، إمّا أن تكون في حقوق اللّه تعالى ، وفي هذه الحالة إمّا : أن تكون تلك الحقوق عباداتٍ وعقائد ، أو حقوقاً ماليّةً ، أو عقوباتٍ ، وإمّا : أن تكون تلك التّصرّفات في حقوق العباد ، وهي إمّا : ماليّة أو غير ماليّةٍ .
أ - حقوق اللّه تعالى :
20 - أمّا العبادات البدنيّة كالصّلاة ، فلا خلاف بين العلماء في عدم وجوبها عليه إلاّ أنّه يؤمر بأدائها في سنّ السّابعة ، ويضرب على تركها في سنّ العاشرة ، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه : « مروا صبيانكم بالصّلاة لسبع سنين ، واضربوهم عليها لعشر سنين ، وفرّقوا بينهم في المضاجع » .
وأمّا العقائد كالإيمان ، فقد ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه يصحّ من الصّبيّ ، فيعتبر إيمانه ، لأنّه خير محض ، وخالف في ذلك الشّافعيّة فقالوا : إنّ إسلامه لا يصحّ حتّى يبلغ ، لحديث : « رفع القلم عن ثلاثٍ ومنها عن الصّبيّ حتّى يبلغ ... »
وأمّا ردّته ، فقد ذهب الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى عدم صحّة ردّته ، لأنّها ضرر محض .
وذهب أبو حنيفة ومحمّد والمالكيّة إلى الحكم بصحّة ردّته ، وتجري عليه أحكام المرتدّين ما عدا القتل . ونقل في التّتارخانيّة والمنتقى رجوع أبي حنيفة إلى قول أبي يوسف .
وأمّا حقوق اللّه سبحانه وتعالى الماليّة كالزّكاة ، فإنّها تجب في ماله عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ولا تجب في ماله عند الحنفيّة . وأمّا العقوبات المتعلّقة بحقوق اللّه سبحانه وتعالى كحدّ السّرقة وغيره ، فإنّها لا تقام على الصّبيّ ، وهذا محلّ اتّفاقٍ عند الفقهاء .
ب - حقوق العباد :
21 - أمّا الماليّة منها كضمان المتلفات وأجرة الأجير ونفقة الزّوجة والأقارب ونحو ذلك فإنّها تجب في ماله ، لأنّ المقصود منها هو المال ، وأداؤه يحتمل النّيابة ، فيصحّ للصّبيّ المميّز أداؤه ، فإن لم يؤدّه أدّاه وليّه .
وأمّا ما كان منها عقوبة القصاص ، فإنّه لا يجب عليه عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، لأنّ فعل الصّبيّ لا يوصف بالتّقصير ، فلا يصلح سبباً للعقوبة لقصور معنى الجناية في فعله ، ولكن تجب في فعله الدّية ، لأنّها وجبت لعصمة المحلّ ، والصّبا لا ينفي عصمة المحلّ ، ولأنّ المقصود من وجوبها المال ، وأداؤه قابل للنّيابة ، ووجوب الدّية في ماله عند الحنفيّة ، وعلى عاقلته عند المالكيّة والحنابلة .
وخالف الشّافعيّة في ذلك على الأصحّ عندهم ، حيث قالوا : إنّ عمد الصّبيّ في الجنايات عمد ، فتغلظ عليه الدّية ، ويحرم إرث من قتله .
22 - أمّا تصرّفاته الماليّة ، ففيها تفصيل على النّحو الآتي :
- 1 - تصرّفات نافعة له نفعاً محضاً ، وهي الّتي يترتّب عليها دخول شيءٍ في ملكه من غير مقابلٍ ، مثل قبول الهبة والصّدقة والوصيّة والوقف ، وهذه تصحّ منه ، دون توقّفٍ على إجازة الوليّ أو الوصيّ ، لأنّها خير على كلّ حالٍ .
- 2 - تصرّفات ضارّة بالصّغير ضرراً محضاً ، وهي الّتي يترتّب عليها خروج شيءٍ من ملكه من غير مقابلٍ ، كالهبة والصّدقة والوقف وسائر التّبرّعات والطّلاق والكفالة بالدّين ، وهذه لا تصحّ منه ، بل تقع باطلةً ، ولا تنعقد ، حتّى ولو أجازها الوليّ أو الوصيّ ، لأنّهما لا يملكان مباشرتها في حقّ الصّغير فلا يملكان إجازتها .
- 3 - تصرّفات دائرة بين النّفع والضّرر بحسب أصل وضعها ، كالبيع والإجارة وسائر المعاوضات الماليّة ، وهذه يختلف الفقهاء فيها :
فعند الحنفيّة يصحّ صدورها منه ، باعتبار ما له من أصل الأهليّة ، ولاحتمال أنّ فيها نفعاً له ، إلاّ أنّها تكون موقوفةً على إجازة الوليّ أو الوصيّ لنقص أهليّته ، فإذا أجازها نفذت ، وإن لم يجزها بطلت .
وعند المالكيّة تقع صحيحةً لكنّها لا تكون لازمةً ، ويتوقّف لزومها على إجازة الوليّ أو الوصيّ . وعند الشّافعيّة والحنابلة لا يصحّ صدورها من الصّبيّ ، فإذا وقعت كانت باطلةً لا يترتّب عليها أيّ أثرٍ .
المرحلة الرّابعة - البلوغ :
23 - البلوغ عند الفقهاء : قوّة تحدث للشّخص ، تنقله من حال الطّفولة إلى حال الرّجولة . وهو يحصل بظهور علامةٍ من علاماته الطّبيعيّة كالاحتلام ، وكالحبل والحيض في الأنثى ، فإن لم يوجد شيء من هذه العلامات كان البلوغ بالسّنّ .
وقد اختلف الفقهاء في تقديره ، فقدّره أبو حنيفة بثماني عشرة سنةً للفتى ، وسبع عشرة سنةً للفتاة ، وقدّره الصّاحبان والشّافعيّ وأحمد بخمس عشرة سنةً ، والمشهور عند المالكيّة تقديره بثماني عشرة سنةً لكلٍّ من الذّكر والأنثى .
وفي هذه المرحلة ، وهي مرحلة البلوغ ، يكتمل فيها للإنسان نموّه البدنيّ والعقليّ ، فتثبت له أهليّة الأداء الكاملة ، فيصير أهلاً لأداء الواجبات وتحمّل التّبعات ، ويطالب بأداء كافّة الحقوق الماليّة ، وغير الماليّة ، سواء أكانت من حقوق اللّه أم من حقوق العباد .
وهذا كلّه إذا اكتمل نموّه العقليّ مع اكتمال نموّه البدنيّ ، أمّا إذا وصل إلى سنّ البلوغ ولم يكتمل نموّه العقليّ ، بأن بلغ معتوهاً أو سفيهاً ، فإنّه تجري عليه أحكام الصّبيّ المميّز ، ويستمرّ ثبوت الولاية عليه ، خلافاً لأبي حنيفة في السّفيه .
المرحلة الخامسة – الرشد :
24- الرشد في اللغة : الصلاح وإصابة الصواب .
والرشد عند الفقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة : حسن التصرف في المال ، والقدرة على استثماره واستغلاله استغلالاً حسناً . وعند الشافعية : صلاح الدين والصلاح في المال .
وهذا الرشد قد يأتي مع البلوغ ، وقد يتاخر عنه قليلاً أو كثيراً ، تبعاً لتربية الشخص واستعداده وتعقد الحياة الاجتماعية وبساطتها ، فإذا بلغ الشخص رشيداً كملت أهليته ، و ارتفعت الولاية عنه وسلمت إليه أمواله باتفاق الفقهاء ، لقوله الله تعالى : { وابْتَلُوا اليتامى حتى إذا بَلَغُوا النكاحَ ، فإنْ آنَسْتُم منهم رُشْداً فادْفَعُوا إليهم أموالَهم } .
وإذا بلغ غير الرشيد ، وكان عاقلاً كملت أهليته ، وارتفعت الولاية عند أبي حنيفة ، إلا أنه لا تسلم إليه أمواله ، بل تبقى في يد وليه أو وصيه حتى يثنت رشده بالفعل ، أو يبلغ خمساً وعشرين سنة ، فإذا بلغ هذا السن سلمت إليه أمواله ، ولو كان مبذراً لا يحسن التصرف ، لأن منع المال عنه على سبيل الاحتياط والتأديب ، وليس على سبيل الحجر عليه ، لأن أبا حنيفة لا يرى الحجر على السفيه ، والإنسان بعد بلوغه هذه السن وصلاحيته لأن يكون جداً لا يكون أهلاً للتأديب .
وقال المالكية والشافعية والحنابلة ، وهو قول عند أبي يوسف ومحمد من الحنفية : إن الشخص إذا بلغ غير رشيد كملت أهليته ، ولكن لا ترتفع الولاية عنه ، وتبقى أمواله تحت يد وليه أو وصيه حتى يثبت رشده ، لقول الله تعالى : { ولا تُؤْتُوا السفهاءَ أموالَكم التي جَعَلَ اللهُ لكم قِياماً ، وارْزُقُوهم فيها واكْسُوهم ، وقولُوا لهم قولاً معروفاً ، وابْتَلُوا اليتامى حتى إذا بَلَغُوا النكاحَ ، فإنْ آنَسْتُم منهم رُشْداً فادْفَعُوا إليهم أَمْوالَهم } فإنه منع الأولياء والأوصياء من دفع المال إليهم إلى السفهاء ، وناط دفع المال إليهم بتوافر أمرين : البلوغ والرشد ، فلا يجوز أن يدفع المال إليهم بالبلوغ مع عدم الرشد .
أما إذا بلغ الشخص رشيداً ، ثم طرأ السفه عليه بعد ذلك ، فسيأتي الكلام عنه في هذا البحث ، بين عوارض الأهلية .
عوارض الأهليّة :
25 - العوارض : جمع عارضٍ أو عارضةٍ ، والعارض في اللّغة معناه : السّحاب ، ومنه قوله تعالى : { فلمّا رَأوْهُ عارضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالوا هَذا عارضٌ مُمْطِرنا } .
وأمّا العوارض في الاصطلاح فمعناها : أحوال تطرأ على الإنسان بعد كمال أهليّة الأداء ، فتؤثّر فيها بإزالتها أو نقصانها ، أو تغيّر بعض الأحكام بالنّسبة لمن عرضت له من غير تأثيرٍ في أهليّته .
أنواع عوارض الأهليّة :
26 - عوارض الأهليّة نوعان : سماويّة ومكتسبة :
فالعوارض السّماويّة : هي تلك الأمور الّتي ليس للعبد فيها اختيار ، ولهذا تنسب إلى السّماء ، لنزولها بالإنسان من غير اختياره وإرادته ، وهي : الجنون ، والعته ، والنّسيان ، والنّوم ، والإغماء ، والمرض ، والرّقّ ، والحيض ، والنّفاس ، والموت .
والمكتسبة : هي تلك الأمور الّتي كسبها العبد أو ترك إزالتها ، وهي إمّا أن تكون منه أو من غيره ، فالّتي تكون منه : الجهل ، والسّكر ، والهزل ، والسّفه ، والإفلاس ، والسّفر ، والخطأ ، والّذي يكون من غيره الإكراه .
وفيما يلي ما يتعلّق بهذه العوارض إجمالاً ، مع إحالة التّفصيل إلى العناوين الخاصّة بها .
العوارض السّماويّة :
أوّلاً : الجنون :
27 - الجنون في اللّغة مأخوذ من : أجنّه اللّه فجنّ ، فهو مجنون ، بالبناء للمفعول .
وأمّا عند الأصوليّين فإنّه : اختلال للعقل يمنع من جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل . والجنون يؤثّر في أهليّة الأداء ، فهو مسقط للعبادات كالصّلاة والصّوم والحجّ .
وفي زكاة مال المجنون خلاف ، مع مراعاة الفرق بين الجنون المطبق وغيره .
وأمّا المعاملات ، فحكمه فيها حكم الصّبيّ غير المميّز ، فلا يعتدّ بأقواله لانتفاء تعقّله للمعاني .
وأمّا أهليّة الوجوب ، فلا يؤثّر فيها الجنون ، فإنّ المجنون يرث ويملك لبقاء ذمّته ، والمتلفات بسبب أفعاله مضمونة في ماله كالصّبيّ الّذي لم يصل إلى سنّ التّمييز .
وتفصيل الأحكام الخاصّة بالجنون تنظر في مصطلح : ( جنونٍ ) .
ثانياً : العته :
28 - العته في اللّغة : نقصان العقل من غير جنونٍ أو دهشٍ .
وفي الاصطلاح : آفة توجب خللاً في العقل ، فيصير صاحبها مختلط الكلام ، فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء ، وبعضه كلام المجانين .
والمعتوه في تصرّفاته كالصّبيّ المميّز ، فتثبت له أهليّة الأداء القاصرة ، إذ لا فرق بينه وبين الصّبيّ كما جاء في التّلويح ، إلاّ في مسألةٍ واحدةٍ وهي : أنّ امرأة المعتوه إذا أسلمت لا يؤخّر عرض الإسلام عليه ، كما لا يؤخّر عرضه على وليّ المجنون بخلاف الصّبيّ ، والفرق بينهما واضح ، فإنّ الصّبا مقدّر بخلاف العته والجنون .
والتّفصيل في مصطلح : ( عتهٍ ) .
ثالثاً : النّسيان :
29 - النّسيان في اللّغة مشترك بين معنيين :
أحدهما : ترك الشّيء على ذهولٍ وغفلةٍ ، وهو خلاف التّذكّر .
وثانيهما : التّرك عن تعمّدٍ ، ومنه قوله تعالى : { ولا تَنْسَوُا الفضلَ بينكم } .
وفي الاصطلاح : عدم استحضار صورة الشّيء في الذّهن وقت الحاجة إليه .
والنّسيان لا يؤثّر في أهليّة الوجوب ، ولا يؤثّر أيضاً في أهليّة الأداء لكمال العقل ، ومع ذلك فإنّ النّسيان عذر في حقوق اللّه تعالى في حقّ الإثم وعدمه ، لقوله صلى الله عليه وسلم :
« وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان ... » وللنّسيان أحكام تفصيلها في مصطلح : ( نسيانٍ ) .
رابعاً : النّوم :
30 - النّوم : غشية ثقيلة تهجم على القلب فتقطعه عن المعرفة بالأشياء .
وفي الاصطلاح : فتور يعرض مع قيام العقل يوجب العجز عن إدراك المحسوسات والأفعال الاختياريّة واستعمال العقل . والنّوم لا ينافي أهليّة الوجوب لعدم إخلاله بالذّمّة ، إلاّ أنّه يوجب تأخير توجّه الخطاب بالأداء إلى حال اليقظة ، لأنّه في حال النّوم عاجز عن الفهم فلا يناسب أن يتوجّه إليه الخطاب حينئذٍ ، فإذا انتبه من النّوم أمكنه الفهم ، ولهذا فإنّ النّائم مطالب بقضاء ما فاته من الصّلوات في أثناء نومه ، وأمّا عبارات النّائم من الأقارير وغيرها فهي باطلة ، ولا يعتدّ بها . وتفصيل ذلك كلّه محلّه مصطلح : ( نومٍ ) .
خامساً : الإغماء :
31 - الإغماء في اللّغة : الخفاء ، وفي الاصطلاح : آفة في القلب أو الدّماغ تعطّل القوى المدركة والحركة عن أفعالها مع بقاء العقل مغلوباً .
وهو ضرب من المرض ، ولذا لم يعصم منه النّبيّ عليه الصلاة والسلام .
وتأثير الإغماء على المغمى عليه أشدّ من تأثير النّوم على النّائم ، ولذا اعتبر فوق النّوم ، لأنّ النّوم حالة طبيعيّة كثيرة الوقوع ، وسببه شيء لطيف سريع الزّوال ، والإغماء على خلافه في ذلك كلّه ، ألا ترى أنّ التّنبيه والانتباه من النّوم في غاية السّرعة ، وأمّا التّنبيه من الإغماء فغير ممكنٍ .
وحكم الإغماء في كونه عارضاً من عوارض الأهليّة حكم النّوم ، فلزمه ما لزم النّوم ، ولكونه يزيد عنه جعله ناقضاً للوضوء في جميع الأحوال حتّى في الصّلاة .
وتفصيل ذلك كلّه محلّه مصطلح : ( إغماءٍ ) .
سادساً : الرّقّ :
32 - الرّقّ في اللّغة بكسر الرّاء : العبوديّة .
وأمّا في الشّرع فهو : حجز حكميّ عن الولاية والشّهادة والقضاء وملكيّة المال والتّزوّج وغيرها . هذا والأحكام الخاصّة بالرّقيق يرجع إليها في مصطلح : ( رقٍّ ) .
سابعاً : المرض :
33 - المرض في اللّغة : حالة خارجة عن الطّبع ضارّة بالفعل .
وفي الاصطلاح : ما يعرض للبدن فيخرجه عن الاعتدال الخاصّ .
وهو لا ينافي أهليّة التّصرّفات ، أي ثبوته ووجوبه على الإطلاق ، سواء أكان من حقوق اللّه تعالى أم من حقوق العباد ، لأنّه لا يخلّ بالعقل ولا يمنعه من استعماله ، فيصحّ ما تعلّق بعبارته من العقود وغيرها ، ولكنّه لمّا كان سبب الموت بترادف الآلام ، وأنّه أي الموت عجز خالص ، كان المرض من أسباب العجز ، فشرعت العبادات معه بقدر المكنة ، لئلاّ يلزم تكليف ما ليس في الوسع ، فيصلّي قاعداً إن لم يقدر على القيام ، ومضطجعاً إن عجز عنه ، ويعتبر المرض سبباً للحجر على المريض مرض الموت حفظاً لحقّ الوارث وحقّ الغريم إذا اتّصل به الموت ، وذلك لأنّ المرض المميت هو سبب الحجر لا نفس المرض .
هذا ، وتفصيل الأحكام الخاصّة بالمرض يرجع إليها في مصطلح ( مرضٍ )
ثامناً : الحيض والنّفاس :
34 - الحيض معناه في اللّغة : السّيلان ، ومنه الحوض .
وفي الاصطلاح : الدّم الخارج من الرّحم لا لولادةٍ ولا لعلّةٍ .
وأمّا النّفاس فمعناه في اللّغة : الولادة .
وفي الاصطلاح : الدّم الخارج عقب فراغ الرّحم من الحمل .
والحيض والنّفاس لا يؤثّران في أهليّة الوجوب ، ولا في أهليّة الأداء ، إلاّ أنّهما اعتبرا من العوارض لأنّ الطّهارة منهما شرط لصحّة كلّ عبادةٍ يشترط فيها الطّهارة كالصّلاة مثلاً . وتفصيل الأحكام الخاصّة بالحيض والنّفاس محلّه ( حيض ، ونفاس ) .
تاسعاً : الموت :
35 - الأحكام المتعلّقة بالموت تتلخّص في أنّ تلك الأحكام إمّا دنيويّة أو أخرويّة ، والدّنيويّة من حيث التّكليف حكمها السّقوط إلاّ في حقّ المأتم ، أو ما شرع لحاجة نفسه أو لحاجة غيره . والأخرويّة حكمها البقاء ، سواء أكانت واجبةً له على الغير ، أم للغير عليه ، من الحقوق الماليّة والمظالم ، أوما يستحقّه من ثوابٍ بواسطة الطّاعات ، أو عقابٍ بواسطة المعاصي . هذا ، ومحلّ تفصيل هذه الأحكام مصطلح ( موتٍ )
العوارض المكتسبة :
36 - العوارض المكتسبة إمّا من الإنسان ، وإمّا من غيره كما تقدّم .
أوّلاً : العوارض المكتسبة الّتي من الإنسان هي :
أ - الجهل :
37 - معنى الجهل في اللّغة : خلاف العلم . وفي الاصطلاح : عدم العلم ممّن شأنه العلم . والجهل لا يؤثّر في الأهليّة مطلقاً ، وله أقسام بعضها يصلح عذراً ، وبعضها لا يصلح عذراً . وتفصيل ذلك في مصطلح ( جهلٍ )
ب - السّكر :
38 - من معاني السّكر : زوال العقل ، وهو مأخوذ من أسكره الشّراب : أي أزال عقله . وفي الاصطلاح : حالة تعرض للإنسان من تناول المسكر ، يتعطّل معها عقله ، فلا يميّز بين الأمور الحسنة والقبيحة .
والسّكر حرام باتّفاق الفقهاء ، وخاصّةً إن كان طريقه محرّماً ، كأن يتناول المسكر مختاراً عالماً بأنّ ما يشربه يغيّب العقل .
وخلاصة ما قاله الفقهاء في السّكر هو : أنّهم لم يجعلوا المسكر مسقطاً للتّكليف ولا مضيّعاً للحقوق ، ولا مخفّفاً لمقدار الجنايات الّتي تصدر من السّكران ،لأنّه جناية ، والجناية لا يصحّ أن يستفيد منها صاحبها . وتفصيل الأحكام الخاصّة بالسّكر محلّها مصطلح : ( سكرٍ ) .
ج - الهزل :
39 - الهزل : ضدّ الجدّ ، أو هو اللّعب ، وهو في اللّغة : مأخوذ من هزل في كلامه هزلاً : إذا مزح .
وفي الاصطلاح : ألاّ يراد باللّفظ المعنى الحقيقيّ ولا المجازيّ ، بل يراد به غيرهما .
والهزل لا ينافي الأهليّة ، إلاّ أنّه يؤثّر في بعض الأحكام بالنّسبة للهازل .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( هزلٍ ) .
د - السّفه :
40 - السّفه معناه في اللّغة : نقص في العقل ، وأصله الخفّة .
وفي الاصطلاح : خفّة تعتري الإنسان فتبعثه على التّصرّف في ماله بخلاف مقتضى العقل ، مع عدم الاختلال في العقل . وإنّما كان السّفه من العوارض المكتسبة ، ولم يكن من العوارض السّماويّة ، لأنّ السّفيه باختياره يعمل على خلاف مقتضى العقل مع بقاء العقل . والفرق بين السّفه والعته ظاهر ، فإنّ المعتوه يشابه المجنون في بعض أفعاله وأقواله ، بخلاف السّفيه فإنّه لا يشابه المجنون لكن تعتريه خفّة ، فيتابع مقتضاها في الأمور الماليّة من غير نظرٍ ورويّةٍ في عواقبها ، ليقف على أنّ عواقبها محمودة أو مذمومة .
والسّفه لا يؤثّر في الأهليّة بقسميها ، ولا ينافي شيئاً من الأحكام الشّرعيّة ، فالسّفيه يتوجّه إليه الخطاب بحقوق اللّه وحقوق العباد ، إلاّ أنّ الشّريعة راعت ما فيه المصلحة ، فقرّرت أن يمنع السّفيه من حرّيّة التّصرّف في ماله صيانةً له ،
وفي ذلك تفصيل محلّه مصطلح : ( سفهٍ ) .
هـ- السّفر :
41 -السّفر - بفتحتين - معناه في اللّغة : قطع المسافة ، ويقال ذلك إذا خرج للارتحال أو لقصد موضعٍ فوق مسافة العدوى ، لأنّ العرب لا يسمّون مسافة العدوى سفراً .
وفي الشّرع : الخروج بقصد المسير من محلّ الإقامة إلى موضعٍ بينه وبين ذلك الموضع مسيرة ثلاثة أيّامٍ فما فوقها بسير الإبل ومشي الأقدام . على خلافٍ بين الفقهاء في ذلك . والسّفر لا يؤثّر في الأهليّة بقسميها ، إلاّ أنّهم جعلوه من العوارض ، لأنّ الشّارع جعله سبباً للتّخفيف في العبادات ، كقصر الصّلاة الرّباعيّة والفطر في الصّوم للمسافر .
وفي ذلك تفصيل محلّه مصطلح : ( سفرٍ ) .
و-الخطأ :
42 - الخطأ في اللّغة يطلق ويراد به : ما قابل الصّواب ، ويطلق ويراد به : ما قابل العمد ، وهذا المعنى هو المراد به في عوارض الأهليّة .
وفي الاصطلاح : فعل يصدر من الإنسان بلا قصدٍ إليه عند مباشرة أمرٍ مقصودٍ سواه . والخطأ لا ينافي الأهليّة بنوعيها ، لأنّ العقل موجود معه ، والجناية فيه من جهة عدم التّثبّت ، ولذا يؤاخذ به من هذه الجهة ، فلا تقدّر العقوبة فيه بقدر الجناية نفسها ، وإنّما بقدر عدم التّثبّت الّذي أدّى إلى حصولها .
والخطأ يعذر به في حقوق اللّه سبحانه وتعالى إذا اجتهد ، كما في مسألة جهة القبلة في الصّلاة ، واعتبره الشّارع شبهةً تدرأ العقوبة عن المخطئ ، وأمّا حقوق العباد فلا يعتبر الخطأ عذراً فيها ، ولذا فإنّ المخطئ يضمن ما ترتّب على خطئه من ضررٍ أو تلفٍ .
وفي ذلك تفصيل محلّه مصطلح : ( خطأ ) .
ثانياً : العوارض المكتسبة الّتي من غير الإنسان نفسه :
43 - وهي عارض واحد فقط وهو الإكراه : ومعناه في اللّغة : الحمل على الأمر قهراً . وفي الاصطلاح : حمل الغير على ما لا يرضاه من قولٍ أو فعلٍ ، ولا يختار مباشرته لو ترك ونفسه . وهو معدم للرّضى لا للاختيار ، لأنّ الفعل يصدر عن المكره باختياره ، لكنّه قد يفسد الاختيار بأن يجعله مستنداً إلى اختيارٍ آخر ، وقد لا يفسده بأن يبقى الفاعل مستقلّاً في قصده . هذا ، والإكراه سواء أكان ملجئاً أم غير ملجئٍ كما قال الحنفيّة - أو إكراهاً بحقٍّ أو بغير حقٍّ - كما قال الشّافعيّة - لا يؤثّر في أهليّة الوجوب لبقاء الذّمّة ، ولا يؤثّر في أهليّة الأداء لبقاء العقل والبلوغ ، إلاّ أنّهم عدّوه من العوارض ، لأنّه يفسد الاختيار ، ويجعل المكره - بفتح الرّاء - في بعض صوره آلةً للمكره - بكسر الرّاء -
وتفصيل ذلك كلّه محلّه مصطلح : ( إكراهٍ ) .
إهمال *
التّعريف :
1 - الإهمال لغةً : التّرك ، وأهمل أمره : لم يحكّمه ، وأهملت الأمر : تركته عن عمدٍ أو نسيانٍ ، وأهمله إهمالاً : خلّى بينه وبين نفسه ، أو تركه ولم يستعمله .
ومنه : الكلام المهمل ، وهو خلاف المستعمل .
ولا يخرج معنى الإهمال في اصطلاح الفقهاء عمّا ورد من معانيه في اللّغة حسبما ذكر .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - الإهمال في الأمانات إذا أدّى إلى هلاكها أو ضياعها يوجب الضّمان ، سواء أكان أمانةً بقصد الاستحفاظ كالوديعة ، أم كان أمانةً ضمن عقدٍ كالمأجور ، أم كان بطريق الأمانة بدون عقدٍ ولا قصدٍ ، كما لو ألقت الرّيح في دار أحدٍ ثوب جاره .
فالعين المودعة - مثلاً - الأصل فيها أن تكون أمانةً في يد الوديع ، فإن تلفت من غير تعدٍّ منه ولا إهمالٍ لم يضمن ، لأنّ الأمين لا يضمن إلاّ بالتّعدّي أو الإهمال ، لقوله صلى الله عليه وسلم « ليس على المستعير غير المغلّ ضمان ، ولا على المستودع غير المغلّ ضمان » . وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( إعارةٍ ، الوديعةٍ ) .
وإهمال الأجير الخاصّ يستوجب الضّمان ، أمّا الأجير المشترك فإنّه ضامن مطلقاً عند جمهور الفقهاء على خلافٍ وتفصيلٍ يرجع إليه في مصطلح : ( إجارةٍ ، وضمانٍ ) . ومستأجر الطّاحون ونحوها ، إن أهملها حتّى سرق بعض أدواتها عليه ضمانه . وإهمال الحاذق من طبيبٍ أو ختانٍ أو معلّمٍ يوجب ضمان ما يحدث بسبب إهماله .
فلو سلّم الوليّ الصّبيّ إلى سبّاحٍ ليعلمه السّباحة ، فتسلّمه فغرق ، وجبت عليه ديته . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( ديةٍ ) .
وإهمال القاطع الحاذق في القصاص وقطع يد السّارق بتجاوزه ما أمر به ، أو القطع في غير محلّ القطع يوجب الضّمان ، لأنّه إتلاف نتج عن إهماله ولا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ . وقال ابن قدامة : لا نعلم فيه خلافاً .
والحسم بعد القطع في حدّ السّرقة مستحبّ للمقطوع على الأصحّ ، لأنّ الغرض منه المعالجة ودفع الهلاك عنه بنزف الدّم ، وهذا عند بعض الفقهاء ، ومفاده أنّه غير واجبٍ على الإمام . وقيل : إنّ الحسم من توابع الحدّ ، وهو واجب عند الحنفيّة ، فيلزم الإمام فعله ، وليس له إهماله وتركه ، ومستحبّ للإمام عند الشّافعيّة .
إعمال الكلام أولى من إهماله :
3 - من القواعد الفقهيّة قاعدة : إعمال الكلام أولى من إهماله ، وهذا لأنّ المهمل لغو ، وكلام العاقل يصان عنه ، فيجب حمله ما أمكن على أقرب وجهٍ يجعله معمولاً به من حقيقةٍ ممكنةٍ ، وإلاّ فمجاز ، وذلك لأنّ الأصل في الكلام الحقيقة ، والمجاز فرع عنه وخلف له . واتّفق الأصوليّون على أنّ الحقيقة إذا تعذّرت ، أو هجرت يصار إلى المجاز ، وتعذّر الحقيقة : إمّا بعدم إمكانها أصلاً ، لعدم وجود فردٍ لها من الخارج ، كما لو وقف على أولاده ، وليس له إلاّ أحفاد ، فيصار إلى المجاز - وهو الصّرف إلى الأحفاد - لتعذّر الحقيقة .
أو بعدم إمكانها شرعاً : كالوكالة بالخصومة ، فإنّ حملها على الحقيقة - وهي التّنازع - محظور شرعاً ، قال تعالى : { ولا تَنَازَعُوا } ، ولذا تحمل على المجاز ، وهو رفع الدّعوى والإقرار والإنكار . وبمثابة التّعذّر ما لو حلف لا يأكل من هذا القدر ، أو من هذه الشّجرة ، أو هذا البرّ ، فإنّ الحقيقة ، وهي الأكل من عينها ممكنة لكن بمشقّةٍ ، فيصار في الأمثلة الثّلاثة إلى المجاز ، وهو الأكل ممّا في القدر ، أو من ثمر الشّجرة إن كان ، وإلاّ فمن ثمنها ، أو ممّا يتّخذ من البرّ في الثّالث . ولو أكل عين الشّجرة مثلاً لم يحنث .
ومثل تعذّر الحقيقة هجرها ، إذ المهجور شرعاً أو عرفاً كالمتعذّر ، كما لو حلف لا يضع قدمه في هذه الدّار ، فإنّ الحقيقة فيه ممكنة ، لكنّها مهجورة ، والمراد من ذلك في العرف الدّخول ، فلو وضع قدمه فيها بدون دخولٍ لا يحنث ، ولو دخلها راكباً حنث .
وإن تعذّرت الحقيقة والمجاز أهمل الكلام لعدم الإمكان .
فإذا تعذّر إعمال الكلام ، بأن كان لا يمكن حمله على معنًى حقيقيٍّ له ممكنٍ ، لتعذّر الحقيقة بوجهٍ من الوجوه المتقدّمة ، أو لتزاحم المتنافيين من الحقائق تحتها ، ولا مرجّح ، ولا على معنًى مجازيٍّ مستعملٍ ، أو كان يكذّبه الظّاهر من حسٍّ ، أو ما في حكمه من نحو العادة ، فإنّه يهمل حينئذٍ ، أي يلغى ولا يعمل به .
أمّا تزاحم المتنافيين : فكما لو كفل ولم يعلم أنّها كفالة نفسٍ أو مالٍ ، فإنّها لا تصحّ .
وأمّا تعذّر الحقيقة ، وعدم إمكان الحمل على المعنى المجازيّ لكونه غير مستعملٍ ، فكما لو قال لمعروف النّسب : هذا ابني ، فإنّه كما لا يصحّ إرادة الحقيقة منه ، لثبوت نسبه من الغير ، لا يصحّ أيضاً إرادة المجاز ، وهو الإيصاء له بإحلاله محلّ الابن في أخذ مثل نصيبه من التّركة ، لأنّ ذلك المجاز غير مستعملٍ ، والحقيقة إذا لم تكن مستعملةً لا يصار إليها ، فالمجاز أولى . وكذا لو قال لامرأته المعروفة لأبيها : هذه بنتي ، لم تحرم بذلك أبداً .
وأمّا تكذيب الحسّ : فكدعوى قتل المورث وهو حيّ ، أو قطع العضو وهو قائم ، وكدعوى الدّخول بالزّوجة وهو مجبوب .
وأمّا ما في حكم الحسّ : فكدعوى البلوغ ممّن لا يحتمله سنّه أو جسمه ، وكدعوى صرف المتولّي أو الوصيّ على الوقف أو الصّغير مبلغاً لا يحتمله الظّاهر ، فإنّ كلّ ذلك يلغى ، ولا يعتبر ولا يعمل به ، وإن أقيمت عليه بيّنة . ويرجع فيما ذكر إلى مصطلحات ( ترجيحٍ ، ووكالةٍ ، وكفالةٍ ، ووصايةٍ ، ووصيّةٍ ، ووقفٍ ) .
أوزان *
انظر : مقادير .
أوسق *
انظر : مقادير .
أوصاف *
انظر : صفةً .
أوقات الصّلاة *
التّعريف :
1 - الوقت : مقدار من الزّمان مقدّر لأمرٍ ما ، وكلّ شيءٍ قدّرت له حيناً فقد وقّته توقيتاً . وأوقات الصّلاة هي : الأزمنة الّتي حدّدها الشّارع لفعل الصّلاة أداءً ، فالوقت سبب وجوب الصّلاة ، فلا تصحّ قبل دخوله ، وتكون ( قضاءً ) بعد خروجه .
أقسام الصّلوات الّتي لها وقت معيّن :
2 - تنقسم الصّلوات الّتي لها وقت معيّن إلى ثلاثة أقسامٍ عند الحنفيّة :
القسم الأوّل : صلوات مفروضة ، وهي الصّلوات الخمس .
القسم الثّاني : صلوات واجبة ، وهي الوتر والعيدان .
القسم الثّالث : صلوات مسنونة ، كالسّنن القبليّة والبعديّة للصّلوات الخمس .
والجمهور لا يفرّقون بين الفرض والواجب ، والوتر عندهم سنّة ، وكذلك العيدان عند المالكيّة والشّافعيّة ، وهي فرض كفايةٍ عند الحنابلة .
أوقات الصّلوات المفروضة :
أصل مشروعيّة هذه الأوقات :
3 - أصل مشروعيّة هذه الأوقات عرف بالكتاب ، قال تعالى : { فَسُبْحَانَ اللّهِ حينَ تُمْسُونَ وحين تُصْبِحُون وله الحمدُ في السّمواتِ والأرضِ وَعَشِيّاً وحين تُظْهرون }
قال بعض المفسّرين : إنّ المراد بالتّسبيح الصّلاة ، أي : صلّوا حين تمسون ، أي حين تدخلون في وقت المساء ، والمراد به المغرب والعشاء . و { حين تصبحون } المراد به صلاة الصّبح . والمراد بقوله تعالى : { وعشيّاً } صلاة العصر ، وبقوله تعالى : { وحين تظهرون } صلاة الظّهر .
وكذلك قوله تعالى : { أَقِمِ الصّلاةَ لِدُلوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللّيل وَقُرْآنَ الفجرِ إنّ قُرْآنَ الفجرِ كان مَشْهوداً } .
وقد بيّنت السّنّة الشّريفة أوقات الصّلاة كحديث إمامة جبريل للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ونصّه : « أَمَّني جبريلُ عند البيت مرّتين ، فصلّى الظّهرَ في الأولى منهما حين كان الفيءُ مثلُ الشّراك ، ثمّ صلّى العصرَ حين كان كلّ شيءٍ مثل ظلّه ، ثمّ صلّى المغرب حين وجبت الشّمس وأفطر الصّائم ، ثمّ صلّى العشاء حين غابَ الشّفقُ ، ثمّ صلّى الفجر حين بَرَقَ الفجرُ وحَرُمَ الطّعامُ على الصّائم ، وصلّى المرّةَ الثّانيةَ الظّهرَ حين كان ظلّ كلّ شيءٍ مثله لوقت العصرَ بالأمس ، ثمّ صلّى العصر حين كان ظلّ كلّ شيءٍ مِثْلَيه ، ثمّ صلّى المغرب لوقته الأوّل ، ثمّ صلّى العشاءَ الآخرةَ حين ذهبَ ثلثُ اللّيل ، ثمّ صلّى الصّبح حين سَفَرَت الأرض ، ثمّ التفت إليّ جبريل وقال : يا محمّدُ هذا وقتُ الأنبياءِ من قبلك ، والوقتُ فيما بين هذين الوقتين »
عدد أوقات الصّلوات المفروضة :
4 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ عدد أوقات الصّلوات المفروضة خمسٌ بقَدْرِ عدد الصّلوات ، وما روي عن أبي حنيفة من أنّ الوتر فرض فيكون عدد الأوقات ستّاً ليس صحيحاً ، بل إنّه يقول : إنّ الوتر واجب ، وهو أقلّ رتبةً من الفرض .
مبدأ كلّ وقتٍ ونهايته
مبدأ وقت الصّبح ونهايته :
5 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ مبدأ وقت الصّبح طلوع الفجر الصّادق ويسمّى الفجر الثّاني ، وسمّي صادقاً ، لأنّه بيّن وجه الصّبح ووضّحه ، وعلامته بياض ينتشر في الأفق عرضاً . أمّا الفجر الكاذب ، ويسمّى الفجر الأوّل ، فلا يتعلّق به حكم ، ولا يدخل به وقت الصّبح ، وعلامته بياض يظهر طولاً يطلع وسط السّماء ثمّ ينمحي بعد ذلك .
والفرق بين الفجرين مقدّر بثلاث درجاتٍ .
والدّليل على ذلك حديث إمامة جبريل للنّبيّ صلى الله عليه وسلم . حيث قال : « ثمّ صلّى الفجر حين برق الفجر وحرم الطّعام على الصّائم ، وصلّى المرّة الثّانية الصّبح حين أسفرت الأرض ، ثمّ التفت إليّ فقال : يا محمّد هذا وقت الأنبياء من قبلك ، والوقت فيما بين هذه الوقتين »
6 - أمّا نهاية وقت الصّبح ، فعند أبي حنيفة وأصحابه : قبيل طلوع الشّمس ، وذهب مالك في أحد الأقوال عنه إلى أنّ الوقت الاختياريّ للصّبح إلى الإسفار ، وبعد الإسفار إلى طلوع الشّمس وقت ضرورةٍ لأصحاب الأعذار ، كالحائض تطهر بعد الإسفار ، ومثل ذلك النّفساء ، والنّائم يستيقظ ، والمريض يبرأ من مرضه ، جاز لهؤلاء الصّلاة في هذا الوقت من غير كراهيةٍ ، وفي قولٍ آخر عن مالكٍ أنّ الصّبح كلّ وقته اختياريّ .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الصّبح له أربعة أوقاتٍ : وقت فضيلةٍ وهو أوّله ، ووقت اختيارٍ إلى الإسفار ، وجوازٍ بلا كراهةٍ إلى الحمرة ، وكراهة بعد الحمرة ، والمراد بوقت الفضيلة ما فيه ثواب أكثر من وقت الاختيار ، والمراد بوقت الجواز بلا كراهةٍ ما لا ثواب فيه .
وذهب أحمد بن حنبلٍ إلى أنّ آخر وقتها الاختياريّ الإسفار . وبعد الإسفار وقت عذرٍ وضرورةٍ حتّى تطلع الشّمس ، فمن نام عن صلاة الصّبح ولم يستيقظ إلاّ بعد الإسفار ، جاز له أن يصلّي الصّبح بلا كراهةٍ .
وظاهره أنّه إذا استيقظ عند طلوع الفجر ، وأخّر صلاة الصّبح إلى ما بعد الإسفار بدون عذرٍ ، كانت صلاته مكروهةً .
7- ممّا تقدّم يعرف أنّ جمهور الفقهاء على أنّ آخر وقت الصّبح طلوع الشّمس ، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّ للصّلاة أوّلاً وآخراً ، وإنّ أوّل وقت الفجر حين يطلع الفجرُ ، وآخره حين تطلعُ الشّمسُ »
مبدأ وقت الظّهر ونهايته :
8 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ مبدأه من زوال الشّمس عن وسط السّماء تجاه الغرب ، ولا يصحّ أداؤها قبل الزّوال .
ويعرف الزّوال بأن تغرز خشبةً مستويةً في أرضٍ مستويةٍ ، والشّمس لا زالت في المشرق ، فما دام ظلّ الخشبة ينتقص ، فالشّمس قبل الزّوال ، فإذا لم يكن للخشبة ظلّ ، أو تمّ نقص الظّلّ ، بأن كان الظّلّ أقلّ ما يكون ، فالشّمس في وسط السّماء ، وهو الوقت الّذي تحظر فيه الصّلاة ، فإذا انتقل الظّلّ من المغرب إلى المشرق ، وبدأ في الزّيادة ، فقد زالت الشّمس من وسط السّماء ودخل وقت الظّهر .
والدّليل على أنّ أوّل وقت الظّهر الزّوال ، حديث إمامة جبريل المتقدّم .
وأمّا نهاية وقت الظّهر فجمهور الفقهاء ، ومعهم الصّاحبان ، إلى أنّ آخر وقت الظّهر بلوغ ظلّ الشّيء مثله سوى فيء الزّوال ، لحديث إمامة جبريل المتقدّم وفيه : « أنّه صلّى به الظّهر في اليوم الثّاني حين صار ظلّ كلّ شيءٍ مثله » .
وأمّا عند أبي حنيفة : حين يبلغ ظلّ الشّيء مثليه سوى فيء الزّوال : والمراد بفيء الزّوال : الظّلّ الحاصل للأشياء حين تزول الشّمس عن وسط السّماء ، وسمّي فيئاً ، لأنّ الظّلّ رجع إلى المشرق بعد أن كان في المغرب ، ويختلف ظلّ الزّوال طولاً وقصراً وانعداماً باختلاف الأزمنة والأمكنة . وكلّما بعد المكان من خطّ الاستواء كلّما كان فيء الزّوال أطول ، وهو في الشّتاء أطول منه في الصّيف .
واستدلّ أبو حنيفة على أنّ آخر وقت الظّهر بلوغ ظلّ الشّيء مثليه سوى فيء الزّوال ، بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّما بَقَاؤكم فيما سَلَفَ قَبْلَكُم من الأمم كان بين صلاةِ العصرِ إلى غروبِ الشّمسِ ، أوتِيَ أهلُ التّوراة التّوراةَ فعملوا حتّى انتصفَ النّهارَ عَجَزوا ، فأُعْطُوا قيراطاً قيراطاً . ثمّ أُوتيَ أهلُ الإنجيل الإنجيلَ فعَمِلُوا إلى صلاةِ العصرِ ثمّ عَجَزُوا فأعطُوا قِيراطاً قِيراطاً ، ثمّ أُوتينا القرآنَ ، فعملْنا إلى غُروب الشّمس ، فأُعْطِينا قِيراطين قيراطين ، فقال أهل الكتابين : أَيْ ربّنَا أعطيتَ هؤلاءِ قيراطين قيراطين ، وأُعطَيتنا قيراطاً قيراطاً ، ونحن كنّا أكثر عملاً ، قال : قال اللّه عزّ وجلّ : هل ظَلَمْتُكم من أجْرِكم من شيءٍ ، قالوا : لا . قال : فهو فضلي أوتيه من أشاء » دلّ الحديث على أنّ مدّة العصر أقلّ من مدّة الظّهر ولا يكون ذلك إلاّ إذا كان آخر وقت الظّهر المثلين .
واستدلّ لأبي حنيفة كذلك بحديث أبي سعيدٍ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أبردوا بالظّهر ، فإنّ شدّة الحرّ من فيح جهنّم » والإبراد لا يحصل إلاّ إذا كان ظلّ كلّ شيءٍ مثليه ، لا سيّما في البلاد الحارّة كالحجاز .
والمشهور في مذهب الشّافعيّ أنّ الظّهر له وقت فضيلةٍ وهو أوّله ، ووقت اختيارٍ إلى آخره ، ووقت عذرٍ لمن يجمع بين الظّهر والعصر جمع تأخيرٍ ، فيصلّي الظّهر في وقت العصر عند الجمع . وذهب مالك إلى أنّ الوقت الاختياريّ للظّهر إلى بلوغ ظلّ كلّ شيءٍ مثله ، ووقته الضّروريّ حين الجمع بين الظّهر والعصر جمع تأخيرٍ ، فيصلّي الظّهر بعد بلوغ الظّلّ مثله ، إلى ما قبل غروب الشّمس بوقتٍ لا يسع إلاّ صلاة العصر .
مبدأ وقت العصر ونهايته :
9 - أمّا مبدأ وقت العصر فهو عند الصّاحبين وجمهور الفقهاء من حين الزّيادة على المثل ، وعند أبي حنيفة من حين الزّيادة على المثلين وذهب أكثر المالكيّة إلى تداخل وقتي الظّهر والعصر ، فلو أنّ شخصاً صلّى الظّهر عند صيرورة ظلّ كلّ شيءٍ مثله ، وآخر صلّى العصر في هذا الوقت كانت صلاتهما أداءً ، وخالف في هذا ابن حبيبٍ وابن العربيّ .
استدلّ أبو حنيفة بمفهوم الحديث الّذي تقدّم ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم « إنّ مَثَلَكم ومثل من قبلكم من الأمم ... » ، وقال أبو حنيفة : إذا كان مفهوم الحديث أنّ مدّة العصر أقلّ من مدّة الظّهر ، فواجب أن يكون أوّل وقت العصر بعد الزّيادة على المثلين .
واستدلّ الجمهور بحديث إمامة جبريل المتقدّم ، وفيه « أنّه صلّى بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم العصر حين صار ظلّ كلّ شيءٍ مثله » ، أي بعد الزّيادة على المثل ، وإنّما قالوا ذلك دفعاً للتّعارض في الحديث ، لأنّ ظاهر الحديث يدلّ على أنّه صلّى به العصر حين صار ظلّ كلّ شيءٍ مثله في اليوم الأوّل ، وهو يتعارض مع صلاته الظّهر في اليوم الثّاني حين صار ظلّ كلّ شيءٍ مثله ، الأمر الّذي يدلّ على تداخل وقتي الظّهر والعصر ، فدفعاً لهذا التّعارض قالوا : إنّه صلّى به العصر حين صار ظلّ كلّ شيءٍ مثله ، أي بعد الزّيادة على المثل . واستدلّ المالكيّة بظاهر حديث إمامة جبريل ، وفيه : « أنّه صلّى به العصر في اليوم الأوّل في الوقت الّذي صلّى به الظّهر في اليوم الثّاني » ، الأمر الّذي يدلّ على تداخل الوقتين .
10 - أمّا نهاية وقت العصر عند أبي حنيفة فما لم تغب الشّمس ، وهو مذهب الحنابلة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشّمس فقد أدرك العصر » ويضيف الحنابلة : أنّ وقت الاختيار ينتهي بمبدأ اصفرار الشّمس ، وفي روايةٍ : حين يصير ظلّ كلّ شيءٍ مثليه .
وذهب المالكيّة في إحدى الرّوايات عنهم إلى أنّ آخر وقتها ما لم تصفرّ الشّمس ، لحديث :
« إذا صلّيتم العصر فإنّه وقتٌ إلى أن تَصْفَرَّ الشّمس » .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ العصر له سبعة أوقاتٍ ، فضيلة : أوّله ، ووقت اختيارٍ : إلى المثلين ، ووقت عذرٍ - لمن يجمع بين الظّهر والعصر جمع تأخيرٍ - فيجوز له أن يصلّي الظّهر والعصر في وقت العصر ، ووقت ضرورةٍ كالحائض والنّفساء تطهران في آخر الوقت ، والمريض يبرأ في آخر الوقت أيضاً ، ووقت جوازٍ بلا كراهةٍ وهو بعد المثلين ، ووقت كراهةٍ حرمةٍ ، وهو ما قبل آخر الوقت بوقتٍ لا يسع جميعها .
مبدأ وقت المغرب ونهايته :
11 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ مبدأ وقت المغرب من غروب الشّمس ، لحديث إمامة جبريل المتقدّم ، وفيه : « أنّه صلّى به المغرب حين غربت الشّمس في اليومين جميعهما » . أمّا آخر وقتها فعند الحنفيّة حين يغيب الشّفق ، وهو مذهب الحنابلة والشّافعيّ في القديم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « وقت صلاة المغرب ما لم يغب الشّفق » .
والقول المشهور عند المالكيّة أنّه لا امتداد له ، بل يقدّر بقدر ثلاث ركعاتٍ بعد تحصيل شروطها من مكاره حدثٍ وخبثٍ وستر عورةٍ . ولحديث إمامة جبريل المتقدّم ، وفيه : « أنّه صلّى المغرب بعد غروب الشّمس في اليومين جميعاً » .
ومذهب الشّافعيّ في الجديد : ينقضي وقتها بمضيّ قدر وضوءٍ وستر عورةٍ وأذانٍ وإقامةٍ وخمس ركعاتٍ ، وهي ثلاث ركعاتٍ المغرب وركعتان سنّة بعدها .
مبدأ وقت العشاء ونهايته :
12 - يبدأ وقت العشاء حين يغيب الشّفق بلا خلافٍ بين أبي حنيفة وصاحبيه ، إلاّ أنّهم اختلفوا في معنى الشّفق ، فذهب أبو حنيفة إلى أنّ الشّفق هو البياض الّذي يظهر في جوّ السّماء بعد ذهاب الحمرة الّتي تعقب غروب الشّمس ، وذهب الصّاحبان إلى أنّ الشّفق هو الحمرة ، وهو مذهب جمهور الفقهاء ، والفرق بين الشّفقين يقدّر بثلاث درجاتٍ ، وهي تعدل اثنتي عشرة دقيقةً . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ للعشاء سبعة أوقاتٍ : وقت فضيلةٍ وهو أوّله ، واختيار إلى آخر ثلث اللّيل الأوّل ، وقيل إلى نصف اللّيل لحديث : « لولا أن أَشُقّ على أمّتي لأَخّرتُ صلاةَ العشاء إلى نِصْفِ اللّيل » وجواز بلا كراهةٍ للفجر الأوّل ، وبكراهةٍ إلى الفجر الثّاني ، ووقت حرمةٍ وضرورةٍ وعذرٍ .
استدلّ أبو حنيفة على أنّ الشّفق هو البياض ، بما روي عن أبي هريرة في حديث : « إنّ آخر وقت المغرب حين يسودّ الأفق » وإنّما يسودّ إذا خفيت الشّمس في الظّلام ، وهو وقت مغيب الشّفق الأبيض .
واستدلّ الجمهور على أنّ الشّفق هو الحمرة بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّه كان يصلّي العشاء عند مغيب القمر في اللّيلة الثّالثة » وهو وقت مغيب الشّفق الأحمر .
13 - أمّا نهاية وقت العشاء ، فحين يطلع الفجر الصّادق بلا خلافٍ بين أبي حنيفة وأصحابه ، وهو مذهب الشّافعيّة ، وغير المشهور عند المالكيّة ، لما روي عن أبي هريرة
« أوّل وقت العشاء حين يغيب الشّفق ، وآخره حين يطلع الفجر » والمشهور في مذهب المالكيّة أنّ آخر وقتها ثلث اللّيل ، لحديث إمامة جبريل المتقدّم ، وفيه : « أنّه صلّاهما في اليوم الثّاني في ثلث اللّيل » .
وذهب الحنابلة إلى أنّ آخر وقتها الاختياريّ ثلث اللّيل ، وبعده إلى طلوع الفجر وقت ضرورةٍ ، بأن يكون مريضاً شفي من مرضه ، أو حائضاً أو نفساء طهرتا .
انقسام الوقت إلى موسّعٍ ومضيّقٍ
وبيان وقت الوجوب ووجوب الأداء :
14 - الوقت الموسّع عند الحنفيّة لكلٍّ من الفرائض هو : من أوّل الوقت إلى ألاّ يبقى من الوقت أكثر ممّا يسع تكبيرة الإحرام للصّلاة ، فإذا لم يبق من الوقت إلاّ ما يسع تكبيرة الإحرام للصّلاة فهو وقت مضيّق ، يحرم التّأخير عنه .
وعند زفر : يتضيّق الوقت إذا لم يبق إلاّ ما يتّسع لركعات الصّلاة .
أمّا وقت الوجوب فهو من أوّل الوقت إلى ما قبل خروجه بزمنٍ يسع تكبيرة الإحرام أو ثلاث ركعات المغرب مثلاً .
وأمّا وقت وجوب الأداء فهو الوقت الباقي الّذي يسع تكبيرة الإحرام أو ثلاث ركعات المغرب . هذا الّذي ذكرناه هو مذهب الحنفيّة ، ومنه يتبيّن أنّ وجوب الأداء يتعلّق بآخر الوقت ، وقبل آخر الوقت يكون المكلّف مخيّراً بين أداء الصّلاة في أيّ جزءٍ من أجزاء الوقت وبين عدم أدائها . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ وجوب الأداء يتعلّق بأيّ جزءٍ من أجزاء الوقت ولا يتعلّق بآخر الوقت .
ويظهر أثر الخلاف في مقيمٍ سافر في آخر وقت الظّهر ، فعند الحنفيّة حين يقضي الظّهر يقضيه ركعتين ، لأنّ وجوب الأداء يتعلّق بآخر الوقت ، وهو في آخر الوقت كان مسافراً ، فيقضي صلاة المسافرين . وعند غير الحنفيّة يقضي الظّهر أربعاً ، لأنّ وجوب الأداء يتعلّق بالجزء الأوّل من الوقت وما بعده ، وهو في الجزء الأوّل من الوقت كان مقيماً فوجب عليه قضاء صلاة المقيمين .
ومثل ذلك عند الحنفيّة إذا حاضت المرأة أو نفست في آخر الوقت أو جنّ العاقل أو أغمي عليه في آخر الوقت لا يجب عليهم قضاء هذا الفرض إذا زال المانع ، لأنّ وجوب الأداء يتعلّق بآخر الوقت ، وهؤلاء جميعاً ليسوا أهلاً للخطاب في آخر الوقت ، وحيث لم يجب عليهم الأداء لم يجب عليهم القضاء .
الأوقات المستحبّة للصّلوات المفروضة :
وقت الصّبح المستحبّ :
15 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه يستحبّ الإسفار بالفجر أي تأخيره إلى أن ينتشر الضّوء ويتمكّن كلّ من يريد الصّلاة بجماعةٍ في المسجد من أن يسير في الطّريق بدون أن يلحقه ضرر ، كأن تزلّ قدمه ، أو يقع في حفرةٍ ، أو غير ذلك من الأضرار الّتي تنشأ من السّير في الظّلام ، والدّليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « أسفروا بالفجر فإنّه أعظم للأجر » .
ولأنّ في الإسفار تكثيراً للجماعة ، وفي التّغليس أي السّير في الظّلمة تقليلها ، فكان أفضل ، هذا في حقّ الرّجال ، أمّا النّساء فإنّهنّ يصلّين في بيوتهنّ أوّل الوقت ، ويستوي في ذلك الشّابّات والعجائز ، لا سيّما في هذا الزّمان الّذي ظهر فيه الفساد في البرّ والبحر .
وكذلك الحاجّ في مزدلفة فجر يوم النّحر ، يصلّي الفجر بغلسٍ في أوّل الوقت ، ليتفرّغ لواجب الوقوف الّذي يبدأ بطلوع الفجر الثّاني يوم النّحر وآخره طلوع الشّمس منه ، لأنّ الوقوف واجب من واجبات الحجّ .
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ التّغليس - أي السّير في الظّلام - أفضل ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : « كُنَّ نساءُ المؤمناتِ يَشْهَدن مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلاةَ الفجرِ مُتَلَفِّعاتٍ بمروِطِهِنّ ، ثمّ يَنْقَلِبْنَ إلى بيوتِهنَّ حين يَقْضِينَ الصّلاةَ لا يَعْرِفهنّ أحدٌ من الغَلَسِ » .
16 - أمّا وقت الظّهر المستحبّ ، فقد ذهب الحنفيّة ، وهو مذهب الحنابلة إلى الإبراد بظهر الصّيف ، والتّعجيل بظهر الشّتاء ، إلاّ في يوم غيمٍ فيؤخّر .
ومعنى الإبراد بالظّهر تأخيره إلى أن تخفّ حدّة الحرّ ، ويتمكّن الذّاهبون إلى المسجد من السّير في ظلال الجدران ، وإنّما كان التّأخير أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم « أَبْرِدُوا بالظّهرِ فإنّ شدّة الحرِّ من فيحِ جهنّم » ولأنّ في التّأخير تكثير الجماعة ، وفي التّعجيل تقليلها فكان أفضل .
أمّا ظهر الشّتاء فيستحبّ تعجيله ، لأنّ الصّلاة في أوّل وقتها رضوان اللّه ، ولا مانع من التّعجيل ، لأنّ المانع من التّعجيل في ظهر الصّيف لحوق الضّرر بالمصلّين ، الأمر الّذي يؤدّي إلى تقليل الجماعة ، وهذا المانع غير موجودٍ في ظهر الشّتاء ، فكان التّعجيل أفضل . أمّا في يوم الغيم فيؤخّر ، مخافة أن يصلّي الظّهر قبل دخول وقته .
وذهبت المالكيّة إلى أنّ التّعجيل أفضل صيفاً وشتاءً إلاّ لمن ينتظر جماعةً ، فيندب التّأخير بربع القامة ، أمّا في شدّة الحرّ فيندب التّأخير حتّى يبلغ الظّلّ نصف قامةٍ .
والمراد بربع القامة أو نصفها - اللّذين يندب التّأخير إليها عند المالكيّة - ربع المثل أو نصفه . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إن كان يصلّي وحده يعجّل ، وإن كان يصلّي بجماعةٍ يؤخّر حتّى يكون للحيطان ظلّ يمشي فيه طالب الجماعة ، بشرط أن يكون في بلدٍ حارٍّ كالحجاز .
17 - أمّا وقت العصر المستحبّ : فعند الحنفيّة يستحبّ تأخيرها ما لم تتغيّر الشّمس ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يؤخّر العصر ما دامت الشّمس بيضاء نقيّةً وليتمكّن من التّنفّل قبلها ، لأنّ التّنفّل بعدها مكروه .
وذهب جمهور الفقهاء إلى استحباب تعجيلها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « الوقتُ الأوّلُ من الصّلاةِ رضوان اللّه ، والوقتُ الآخرُ عَفْو اللّه »
18 - أمّا وقت المغرب المستحبّ : فلا نعلم خلافاً بين الفقهاء في استحباب تعجيلها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تزال أمّتي بخيرٍ - أو قال على الفطرة - ما لم يؤخّروا المغرب إلى أن تشتبك النّجوم » ويستحبّ تأخيرها في يوم الغيم مخافة أن تصلّى قبل دخول وقتها .
19 - أمّا وقت العشاء المستحبّ : فعند الحنفيّة يستحبّ تأخير العشاء إلى ما قبل ثلث اللّيل ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لولا أن أشقّ على أمّتي لأخّرت العشاء إلى ثلث اللّيل أو نصفه » ، والتّأخير إلى النّصف مباح ، وبعد النّصف مكروه كراهةً تحريميّةً .
والمكروه تحريماً عند الحنفيّة ما يعاقب على فعله عقاباً أقلّ من عقاب تارك الفرض ، أعني أنّه يكون بترك واجبٍ عمداً .
ويستحبّ تعجيلها في يوم الغيم مظنّة المطر أو البرد ، لأنّهما يؤدّيان إلى تقليل الجماعة . وذهب الحنابلة إلى أنّه يستحبّ تأخيرها إلى آخر الوقت إن لم يشقّ على المصلّين ، لحديث : « لولا أن أشقّ على أمّتي ... » الّذي تقدّم ذكره قريباً .
أمّا أوقات الاستحباب عند المالكيّة والشّافعيّة فقد تقدّمت .
أوقات الصّلوات الواجبة والمسنونة
20 - الصّلوات الواجبة - غير الفرض - الّتي لها وقت معيّن ، هي : الوتر عند أبي حنيفة والعيدان .
أ - أمّا الوتر : فقد ذهب أبو حنيفة إلى أنّ مبدأ وقت الوتر هو بعينه مبدأ وقت العشاء ، وهو مغيب الشّفق الأبيض ، إلاّ أنّه لا يصلّى الوتر قبل العشاء للتّرتيب اللّازم بينهما .
وذهب الصّاحبان إلى أنّ مبدأ وقته بعد صلاة العشاء ، وهو مذهب جمهور الفقهاء .
استدلّ أبو حنيفة بدليلٍ معقولٍ ، وهو أنّه لو لم يصلّ العشاء حتّى طلوع الفجر ، لزمه قضاء الوتر والعشاء باتّفاقٍ ، ولو كان وقته بعد صلاة العشاء لم يلزمه قضاء الوتر لأن لم يتحقّق وقته ، لأنّ وقته بعد صلاة العشاء ، وهو لم يصلّها ، ويستحيل أن تنشغل ذمّته بصلاة الوتر بدون فعل العشاء ، فدلّ ذلك على أنّ وقته هو وقت العشاء .
واستدلّ الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه زادكم صلاةً ، فصلّوها فيما بين العشاء إلى صلاة الصّبح : الوتر ، الوتر » وكلمة ( بين ) في الحديث تدلّ على أنّ الوتر بعد العشاء .
والخلاف بين الجمهور وبين أبي حنيفة حقيقيّ ، يظهر أثره في حال ما إذا صلّى العشاء بغير وضوءٍ ناسياً ، ثمّ توضّأ وصلّى الوتر ، ثمّ تذكّر أنّه صلّى العشاء بغير وضوءٍ ، فعند أبي حنيفة يعيد العشاء دون الوتر ، لأنّه صلّى العشاء بغير وضوءٍ ، أمّا الوتر فلا يعيده ، لأنّه صلّاه في وقته بوضوءٍ ، وعند الجمهور يعيد الوتر والعشاء . أمّا الوتر فلأنّه صلّاه في غير وقته ، وأمّا العشاء فلأنّه صلّاها بغير وضوءٍ . أمّا نهاية وقت الوتر فهو طلوع الفجر الصّادق لا نعلم خلافاً في ذلك ، لحديث : « إنّ اللّه زادكم صلاةً ... » الّذي تقدّم ذكره .
ب - أمّا العيدان فوقتهما بعد طلوع الشّمس وارتفاعها قدر رمحٍ أو رمحين ، ويختلف وقتهما باختلاف الأمكنة .
وأمّا نهاية وقتهما فزوال الشّمس من وسط السّماء ، وهذا ممّا لا نعلم فيه خلافاً .
21 - أمّا السّنن الّتي لها وقت معيّن وتسمّى السّنن الرّاتبة المؤكّدة الّتي تطلب كلّ يومٍ ، فعند أبي حنيفة وأصحابه : اثنتا عشرة ركعةً في اليوم واللّيلة ، وهي ركعتان قبل الفجر ، وأربع قبل الظّهر ، وركعتان بعده ، وركعتان بعد المغرب ، وركعتان بعد العشاء ، وفي يوم الجمعة يصلّي أربع ركعاتٍ قبل الجمعة ، وأربعاً بعدها ، فتكون الرّكعات المطلوبة في يوم الجمعة أربع عشرة ركعةً ، بخلاف سائر الأيّام ، فإنّ المطلوب فيها في كلّ يومٍ اثنتا عشرة ركعةً . والأصل في هذه السّنن ما روي عن عائشة رضي الله عنها من قوله صلى الله عليه وسلم : « من ثابر على اثنتي عشرة ركعةً في اليوم واللّيلة بنى اللّه له بيتاً في الجنّة : ركعتين قبل الفجر ، وأربعٍ قبل الظّهر ، وركعتين بعده ، وركعتين بعد المغرب ، وركعتين بعد العشاء » وأمّا الأربع الّتي بعد الجمعة فدليلها قوله صلى الله عليه وسلم : « من كان منكم مُصَلِّياً بعد الجمعةِ فَلْيُصَلِّ أربعاً » .
وذهب مالك إلى أنّ المطلوب أن تصلّى ركعتا الفجر . قال : وتأكّد النّفل قبل الظّهر وبعدها ، وقبل العصر ، وبعد المغرب والعشاء فلا حدّ في الجميع ، ويكفي في تحصيل النّدب ركعتان . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ المسنون من الصّلوات عشر ركعاتٍ : ركعتان قبل الصّبح ، وركعتان قبل الظّهر ، وركعتان بعده ، وركعتان بعد كلٍّ من المغرب والعشاء . لحديث ابن عمر رضي الله عنهما : « حفظت عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عشرَ ركعاتٍ : ركعتين قبل الظّهر ، وركعتين بعده ، وركعتين بعد المغرب في بيته ، وركعتين قبل العشاء في بيته ، وركعتين قبل صلاة الصّبح » .
22 - أمّا المندوب عند الحنفيّة فأربع قبل العصر وقبل العشاء وبعده ، وستّ بعد المغرب . وذهبت الشّافعيّة إلى أنّ غير المؤكّد أن يزيد ركعتين قبل الظّهر وبعدها ، ويندب أربع قبل العصر ، واثنتان قبل العشاء . ولتفصيله ورأي بقيّة المذاهب ارجع إلى المندوب من الصّلوات في ( باب النّوافل ) .
أوقات الكراهة
أوّلاً - أوقات الكراهة لأمرٍ في نفس الوقت
عدد أوقات الكراهة :
23 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ عددها ثلاثة : عند طلوع الشّمس إلى أن ترتفع بمقدار رمحٍ أو رمحين ، وعند استوائها في وسط السّماء حتّى تزول ، وعند اصفرارها بحيث لا تتعب العين في رؤيتها إلى أن تغرب . واستثنى الشّافعيّة الصّلاة بمكّة ويوم الجمعة كما يأتي .
وإنّما كانت هذه الأوقات أوقات كراهةٍ ، لأنّ الشّمس تطلع وتستوي وتصفرّ بين قرني الشّيطان فتكون الصّلاة في هذه الأوقات تشبّهاً بمن يعبدون الشّمس ، لأنّهم يعبدونها في هذه الأوقات . يدلّ على ذلك ما أخرجه مالك في الموطّأ والنّسائيّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ الشّمس تطلع ومعها قرن الشّيطان ، فإذا ارتفعت فارَقَها ، ثمّ إذا استوت قارنها ، فإذا زالت فارقها ، فإذا دنت للغروب قارنها ، فإذا غربت فارقها ، ونهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الصّلاة في تلك السّاعات » .
وذهب المالكيّة إلى أنّ عدد أوقات الكراهة اثنان : عند الطّلوع وعند الاصفرار ، أمّا وقت الاستواء فلا تكره الصّلاة فيه عندهم ، وحجّتهم في ذلك عمل أهل المدينة ، فإنّهم كانوا يصلّون في وقت الاستواء ، وعمل أهل المدينة حجّة عند مالكٍ ، لأنّ المدينة موطن الرّسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، والوحي كان ينزل بين ظهرانيهم ، فلو صحّ حديث عقبة بن نافعٍ الّذي سنذكره فيما بعد ، والّذي يدلّ على النّهي في وقت الاستواء ، لعملوا به .
وذهبت الشّافعيّة إلى أنّ الأوقات الثّلاثة مكروهة إلاّ في مكّة ، وإلاّ يوم الجمعة عند الاستواء . أمّا في مكّة فلقوله صلى الله عليه وسلم « يا بَني عبد منافٍ لا تَمْنَعُوا أحداً طافَ بهذا البيتِ وصلَّى أيّةَ ساعةٍ شاءَ من ليلٍ أو نهارٍ » .
وأمّا يوم الجمعة عند الاستواء فلأنّ المسلمين كانوا يصلّون في خلافة عمر في وقت الاستواء حتّى يخرج إليهم عمر ليخطب فيهم ، ولم ينكر عليهم ذلك .
24 - ولا يعلم خلاف بين الفقهاء في كراهة التّطوّع المطلق في هذه الأوقات .
أمّا السّنن ، فقد ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى كراهتها لحديث عقبة بن عامرٍ :
« ثلاث ساعاتٍ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلّي فيهنّ ، أو أن نقبر فيهنّ موتانا : حين تطلع الشّمس بازغةً حتّى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظّهيرة حتّى تميل الشّمس ، وحين تضيّف الشّمس للغروب - أي حين تميل - حتّى تغرب » .
والمراد بقبر الموتى في الحديث صلاة الجنازة ، لا الدّفن ، فإنّ الدّفن في هذه الأوقات غير مكروهٍ . وعن مالكٍ روايتان : إحداهما إباحة السّنن في هذه الأوقات ، إلاّ تحيّة المسجد فإنّها مكروهة عنده ، والثّانية : كراهة السّنن مطلقاً في هذه الأوقات .
وحجّته على الرّواية الأوّل : أنّه ورد في هذا الموضوع دليلان متعارضان يمكن الجمع بينهما أحدهما : حديث عقبة المارّ ذكره ، والّذي يدلّ على كراهة الصّلاة أيّ صلاةٍ كانت في هذه الأوقات .
ثانيهما : قوله صلى الله عليه وسلم « إذا رقد أحدكم عن الصّلاة أو غفل فليصلّها إذا ذكرها » ، فإنّ هذا الحديث يدلّ على جواز الصّلاة في كلّ وقتٍ عند التّذكّر .
وأشار ابن رشدٍ إلى أنّه يمكن الجمع بين الحديثين ، بأن نستثني من الصّلوات المنهيّ عنها في حديث عقبة السّنن ، ويكون النّهي منصّباً على الفرائض ، أمّا السّنن فليست منهيّاً عنها.
وحجّة مالكٍ على الرّواية الثّانية ، وهي كراهة السّنن في هذه الأوقات : حديث عقبة الّذي يدلّ على كراهة الصّلاة مطلقاً فيها .
وأجاز الشّافعيّة صلاة الكسوف وتحيّة المسجد إذا دخل المسجد لا لغرض أن يصلّيها ، بأن دخل المسجد لقضاء حاجةٍ ، ثمّ صلّى تحيّة المسجد . وأجاز الحنابلة ركعتي الطّواف .
25 - وأمّا حكم صلاة الفرض والواجب في هذه الأوقات ، فقد ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز قضاء ما فاته في هذه الأوقات ، لحديث عقبة المارّ ذكره ، والّذي يدلّ على النّهي عن الصّلاة فيها مطلقاً . ولا تجوز صلاة الجنازة إذا حضرت في غير الوقت المكروه ، ثمّ أخّرت الصّلاة عليها بدون عذرٍ إلى الوقت المكروه . ولا تجوز سجدة تلاوةٍ تليت آيتها أو سمعت في غير الوقت المكروه ، ثمّ سجد لها التّالي أو السّامع في الوقت المكروه . أمّا إذا حضرت الجنازة في الوقت المكروه ، ثمّ صلّى عليها في هذا الوقت ، فهي صحيحة مع الكراهة . ومثل ذلك سجدة التّلاوة إذا تليت آيتها في الوقت المكروه ، ثمّ سجد لها التّالي أو السّامع في هذا الوقت ، فإنّها تصحّ مع الكراهة .
ودليل الحنفيّة على عدم صحّة صلاة الجنازة ، إذا حضرت الجنازة في الوقت غير المكروه ، ثمّ أخّرت الصّلاة عليها إلى الوقت المكروه : حديث عقبة المارّ ذكره . ودليلهم على صحّة صلاة الجنازة وسجدة التّلاوة مع الكراهة : أن ما وجب في وقتٍ ناقصٍ يؤدّي في النّاقص مع الكراهة ، وما وجب في كاملٍ لا يؤدّى في النّاقص ، ومن أجل ذلك صحّ عصر اليوم مع الكراهة ، إذا أدّي في وقت الاصفرار ، لأنّه وجب في ناقصٍ فيؤدّى كما وجب ، ولم يصحّ عصر أمس إذا أدّاه في وقت الاصفرار ، اليوم ، لأنّه وجب في كاملٍ فلا يؤدّى في النّاقص . وذهب جمهور الفقهاء إلى جواز قضاء الفائتة في هذه الأوقات الثّلاثة ، لحديث : « إذا رقد أحدكم عن الصّلاة أو غفل عنها فليصلّها إذا ذكرها » ، دلّ الحديث على جواز قضاء الفائتة في كلّ وقتٍ عند التّذكّر .
ثانياً : أوقات الكراهة لأمرٍ في غير الوقت
26 - وهي عشرة أوقاتٍ ، كما ذكرها الشّرنبلاليّ : وأوصلها ابن عابدين إلى نيّفٍ وثلاثين موضعاً ، أهمّها :
الوقت الأوّل : قبل صلاة الصّبح .
27 - ذهب جمهور الفقهاء إلى كراهية التّنفّل قبل صلاة الصّبح إلاّ بسنّة الفجر .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يجوز أن يصلّي الوتر إذا كان من عادته أن يصلّيه باللّيل ، فلم يصلّه حتّى طلع الفجر . واستدلّ الجمهور على كراهة التّنفّل قبل صلاة الصّبح بقوله صلى الله عليه وسلم « لِيبلّغْ شاهدُكم غائِبَكُمْ ، ولا تصلّوا بعد الفجر إلاّ سَجْدتين » .
أي لا صلاة بعد طلوع الفجر إلاّ ركعتي الفجر .
الوقت الثّاني : بعد صلاة الصّبح :
28 - اتّفق الفقهاء على كراهة التّنفّل المطلق ( وهو ما لا سبب له ) بعد صلاة الصّبح ، لما رواه الشّيخان أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا صلاةَ بعد صلاة العصر حتّى تغربَ الشّمسُ ، ولا صلاةَ بعد صلاةِ الصّبحِ حتّى تطلع الشّمس » .
وذهب الشّافعيّة إلى جواز أداء كلّ صلاةٍ لها سبب ، كالكسوف والاستسقاء والطّواف ، وسواء أكانت فائتةً فرضاً أم نفلاً ، « لأنّه صلى الله عليه وسلم صلّى بعد العصر ركعتين وقال : هما اللّتان بعد الظّهر » .
وذهب الحنابلة إلى جواز الإتيان بسنّة الفجر بعد صلاة الصّبح ، إذا نسيها ولم يتذكّرها إلاّ بعد صلاة الصّبح ، لما روي عن قيس بن فهدٍ قال : « خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأقيمت الصّلاة ، فصلّيت معه الصّبح ، فوجدني أصلّي ، فقال : مهلاً يا قيس أصلاتان معاً ؟ قلت : يا رسول اللّه إنّي لم أكن ركعت ركعتي الفجر . قال : فلا إذن » ظنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ الرّجل يصلّي الصّبح بعد أن صلّاه معه ، فأنكر عليه ، فلمّا علم أنّه يصلّي سنّة الفجر لم ينكر عليه . ولأنّه صلى الله عليه وسلم قضى سنّة الظّهر بعد العصر ، وسنّة الفجر في معناها .
الوقت الثّالث : بعد صلاة العصر :
29 - ذهبت الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى كراهة التّنفّل المطلق بعد صلاة العصر ، لحديث الشّيخين الّذي تقدّم : « لا صلاة بعد صلاة العصر » .
وذهب الحنابلة إلى جواز قضاء سنّة الظّهر بعد صلاة العصر ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى نافلة الظّهر بعد صلاة العصر .
الوقت الرّابع : قبل صلاة المغرب :
30 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى كراهة التّنفّل قبل صلاة المغرب ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « بين كلّ أذانين صلاة إلاّ المغرب » . والمراد بالأذانين : الأذان والإقامة ، فبين أذان الصّبح وإقامته سنّة الفجر ، وبين أذان الظّهر وإقامته سنّة الظّهر القبليّة ، وبين أذان العصر وإقامته أربع ركعاتٍ مندوبةً عند الحنفيّة ، وبين أذان العشاء وإقامته أربع ركعاتٍ مندوبةً عند الحنفيّة إلاّ المغرب لقصر وقته .
وقال الشّافعيّة : صلاة ركعتين قبل المغرب سنّة على الصّحيح كما قال النّوويّ ، للأمر بهما في حديث أبي داود « صلّوا قبل صلاة المغرب ركعتين » ، وقال الحنابلة : هما جائزتان ، وليستا بسنّةٍ . كما استدلّوا أيضاً بما رواه مسلم عن أنس بن مالكٍ : « كنّا بالمدينة فإذا أذّن المؤذّن لصلاة المغرب ابتدروا السّواري ، فيركعون ركعتين ركعتين حتّى إنّ الرّجل الغريب ليدخل المسجد ، فيحسب أنّ الصّلاة قد صلّيت من كثرة من يصلّيهما » .
الوقت الخامس : عند خروج الخطيب حتّى يفرغ من صلاته :
31 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى كراهة التّنفّل عند خروج الخطيب إلى المنبر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا قلت لصاحبك أنصت - والإمام يخطب - فقد لغوت » . دلّ الحديث على أنّ من يأمر غيره بالإنصات ، كان أمره لغواً من الكلام منهيّاً عنه ، فإذا كان الأمر بالإنصات - وهو أمر بمعروفٍ - لغواً من الكلام منهيّاً عنه ، كان التّنفّل لغواً من الأعمال منهيّاً عنه ، أضف إلى ذلك أنّ التّنفّل يفوّت الاستماع إلى الخطيب الّذي هو واجب ، فلا يترك الواجب من أجل النّفل .
واستثنى الشّافعيّة والحنابلة تحيّة المسجد لمن دخل والإمام يخطب ، فأجازوا التّنفّل بركعتين . لحديث جابرٍ قال : « جاء سليك الغطفانيّ في يوم الجمعة ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس ، فقال له : يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوّز فيهما » .
الوقت السّادس : عند الإقامة :
32 - ذهبت الحنفيّة إلى كراهة التّنفّل عند الإقامة للصّلاة المفروضة ، إلاّ سنّة الفجر إذا لم يخف فوت الجماعة ، أمّا إذا خاف فوتها تركها ، وإنّما كره التّنفّل لقوله صلى الله عليه وسلم « إذا أقيمت الصّلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة » . واستثنى من الحديث سنّة الفجر لكونها آكد السّنن . وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا دخل المسجد فوجد الإمام يصلّي الصّبح ، فليدخل معه في صلاته ، ويترك سنّة الفجر . وإن كان خارج المسجد : فإن خاف أن يفوته الإمام بركعةٍ ترك سنّة الفجر وقضاها بعد طلوع الشّمس ، وإن لم يخف أن يفوته الإمام بركعةٍ أتى بالسّنّة خارج المسجد .
والفرق بين كونه خارج المسجد وكونه داخله : أنّه إذا كان داخل المسجد وصلّى سنّة الفجر ، والإمام يصلّي الصّبح ، كانتا صلاتين معاً في موضعٍ واحدٍ ، ويكون مختلفاً مع الإمام ، فهو يصلّي نفلاً ، والإمام يصلّي فرضاً ، وهو منهيّ عنه ، لما روي عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن قال : « سمع قوم الإقامة ، فقاموا يصلّون ، فخرج عليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : أصلاتان معاً ؟ أصلاتان معاً ؟ » وذلك في صلاة الصّبح في الرّكعتين اللّتين قبل الصّبح . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا أقيمت الصّلاة فلا يشرع في صلاةٍ نافلةٍ ولو راتبةً ، ولو شرع فيها لا تنعقد ، ويستوي في ذلك سنّة الفجر وغيرها من السّنن ، للحديث السّابق .
الوقت السّابع : قبل صلاة العيد وبعدها :
33 - ذهبت الحنفيّة إلى كراهة التّنفّل قبل صلاة العيد في المنزل والمسجد ، وبعد الصّلاة يكره التّنفّل في المسجد ، ولا يكره في المنزل ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يصلّي قبل العيد شيئاً ، فإذا رجع إلى المنزل صلّى ركعتين » .
وذهب الحنابلة إلى كراهة التّنفّل قبل صلاة العيد وبعدها .
وذهب المالكيّة إلى كراهة التّنفّل قبلها وبعدها في المصلّى في المسجد .
ومذهب الشّافعيّة أنّه لا يكره التّنفّل قبلها ولا بعدها بعد ارتفاع الشّمس لغير الإمام .
الوقت الثّامن : بين الصّلاتين المجموعتين في كلٍّ من عرفة ومزدلفة :
34 - ذهب الفقهاء إلى كراهة التّنفّل بين الصّلاتين المجموعتين جمع تقديمٍ في عرفة ، والمجموعتين جمع تأخيرٍ في مزدلفة ، فإذا جمع الإمام بين الظّهر والعصر بعرفة ، يصلّي الظّهر والعصر في وقت الظّهر ، ويترك سنّة الظّهر البعديّة ، ومثل ذلك المغرب والعشاء . فيصلّي المغرب والعشاء في وقت العشاء ، ويترك سنّة المغرب البعديّة ، لأنّه صلى الله عليه وسلم لم يتطوّع بينهما .
قال القرطبيّ : فأمّا الفصل بين الصّلاتين بعملٍ غير الصّلاة ، فقد ثبت عن أسامة بن زيدٍ
« أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا جاء المزدلفة نزل فتوضّأ ، فأسبغ الوضوء ، ثمّ أقيمت الصّلاة فصلّى المغرب ، ثمّ أناخ كلّ إنسانٍ بعيره في منزله ، ثمّ أقيمت العشاء فصلّى ، ولم يصلّ بينهما » . وقال ابن المنذر : لا أعلم خلافاً في أنّ السّنّة ألاّ يتطوّع بين الصّلاتين . الوقت التّاسع : عند ضيق وقت المكتوبة :
35 - لا يعلم خلاف بين الفقهاء في أنّه يحرم التّنفّل عند ضيق وقت المكتوبة ، فإذا ضاق وقت الظّهر مثلاً ، ولم يبق منه إلاّ ما يسع صلاته ، حرم التّنفّل لما في التّنفّل من ترك أداء الصّلاة المفروضة والاشتغال بالنّفل ، وصرّح المالكيّة والحنابلة بأنّه لم تنعقد نافلةً - ولو راتبةً - مع ضيق الوقت .
حكم الصّلاة في غير وقتها
تأخير الصّلاة بلا عذرٍ :
36 - لا يعلم خلاف بين الفقهاء في أنّ تأخير الصّلاة عن وقتها بدون عذرٍ ذنب عظيم ، لا يرفع إلاّ بالتّوبة والنّدم على ما فرّط من العبد ، وقد سمّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك بأنّه مفرّط أي مقصّر ، حيث قال : « ليس التّفريط في النّوم ، إنّما التّفريط في اليقظة ». 37 - أمّا تأخيرها بعذر النّسيان ، فلا نعلم خلافاً بين الفقهاء أيضاً في أنّ العبد غير مؤاخذٍ على هذا التّأخير لقوله صلى الله عليه وسلم : « رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » .
38 - وأمّا تأخيرها بعذر النّوم ، فالّذي يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم : « ليس في النّوم تفريط ، إنّما التّفريط في اليقظة ، فإذا نسي أحدكم صلاةً أو نام عنها فليصلّها إذا ذكرها » .
إنّ النّوم الّذي يترتّب عليه تأخير الصّلاة عن وقتها لا يؤاخذ عليه العبد ، ولا يعتبر مفرّطاً ، وقد نام النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصّبح في حديث التّعريس عن أبي قتادة قال
: « سرنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ليلةً ، فقال بعضُ القوم : لو عَرَّسْتَ بنا يا رسول اللّه ، قال : أخافُ أن تناموا عن الصّلاةِ ، قال بلالٌ : أنا أوقظكم ، فاضطجعوا ، وأسندَ بلالٌ ظهره إلى راحلته ، فغلبته عيناه فنامَ ، فاستيقظ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشّمسِ فقال : يا بلال أينَ ما قلتَ ؟ فقال : ما أُلقيتْ عليّ نومة مثلها قطّ ، قال : إنّ اللّه قبضَ أرواحَكم حين شاء ، وردَّها عليكم حين شاء ، يا بلال قم فأذّن النّاس بالصّلاة ، فتوضّأ ، فلمّا ارتفعت الشّمسُ ، وابياضّت ، قام فصلّى بالنّاس » غير أنّه يفهم من هذا الحديث أنّه إذا غلب على ظنّه أنّه لو نام تفوته الصّلاة يكلّف أحداً بإيقاظه ، وهو ما يفهم من مذهب الحنفيّة والمالكيّة .
وقد قال الحنفيّة : إنّه يكره النّوم قبل صلاة العشاء ، وهو مذهب مالكٍ والشّافعيّة وأحمد ، لحديث « أنّه صلى الله عليه وسلم كان يكره النّوم قبلها والحديث بعدها » .
وفي قولٍ للشّافعيّة يكره النّوم قبل الصّلاة في جميع الأوقات ، والظّاهر عندهم كراهة النّوم بعد دخول الوقت ، أمّا قبل دخوله فجائز عندهم .
39 - أمّا تأخير الصّلاة عن وقتها ، أو تقديمها بعذر السّفر أو المطر ، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز الجمع بعذر السّفر أو المطر لما رواه الشّيخان عن ابن عمر قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا عجّل به السّير في السّفر يؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء » . وروى الشّيخان عن أنس بن مالكٍ قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس - أي قبل أن تزول الشّمس عن وسط السّماء - أَخّر الظّهرَ إلى وقتِ العصرِ ، ثمّ نزل ، فجمع بينهما ، فإن زاغت الشّمسُ قبل أن يَرْتَحل صلّى الظّهر ثمّ ركب » . دلّ الحديث الأوّل على أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا كان مسافراً ، وأسرع في السّير ، ليصل إلى غرضه في الوقت المناسب ، أخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء . ودلّ الحديث الثّاني على أنّه صلى الله عليه وسلم إذا ابتدأ السّفر قبل دخول وقت الظّهر ، أخّر الظّهر وجمع بينها وبين العصر ، وإذا ابتدأ السّفر قبل دخول وقت الظّهر ، صلّاها ثمّ سافر ، ولم يجمع بينها وبين العصر ، ويستدلّ للجمهور أيضاً بالأحاديث الواردة في الجمع بين الصّلاتين للسّفر وغيره .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز ذلك إلاّ في عرفة ومزدلفة ، في اليوم التّاسع من ذي الحجّة ، فيجمع الإمام بين الظّهر والعصر جمع تقديمٍ ، بأن يصلّي الظّهر والعصر في وقت الظّهر بعرفاتٍ ، ويجمع بين المغرب والعشاء جمع تأخيرٍ بمزدلفة فيصلّي المغرب والعشاء في وقت العشاء . واشترط أبو حنيفة لجواز هذا الجمع : أن يكون محرماً بحجٍّ لا عمرةٍ ، وأن تكون هذه الصّلاة بجماعةٍ ، وأن يكون الإمام في جمع عرفة هو السّلطان أو نائبه .
ولم يشترط أبو يوسف ومحمّد - صاحبا أبي حنيفة - أن تكون الصّلاة بجماعةٍ ، وأجازوا للمحرم بحجٍّ أن يصلّي صلاة الجمع ولو كان منفرداً ، أمّا الجمع في مزدلفة فلا يشترط فيه غير الإحرام والمكان ، وهو مزدلفة .
40 - وقد تضمّن مذهب أبي حنيفة وأصحابه في هذه المسألة أمرين :
الأوّل : أنّه يجوز الجمع في عرفة ومزدلفة بالشّروط السّابقة .
الثّاني : لا يجوز الجمع في غير ذلك بعذر سفرٍ أو مطرٍ .
أمّا الأمر الأوّل فدليله : أنّ الّذين رَوَوْا نسك النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّه ، اتّفقوا على أنّه كان يجمع هذا الجمع المذكور .
وأمّا الأمر الثّاني - وهو أنّه لا يجوز الجمع في غير عرفة ومزدلفة بعذر سفرٍ أو مطرٍ - فدليله : أنّ الصّلوات المفروضة عرفت مؤقّتةً بأوقاتها بالدّلائل المقطوع بها من الكتاب والسّنّة المتواترة والإجماع ، فلا يجوز تغييرها عن أوقاتها بنوعٍ من الاستدلال وخبر الواحد ، والسّفر أو المطر لا أثر لهما في تأخير الصّلاة عن وقتها أو تقديمها عن وقتها .
من لم يجد بعض الأوقات الخمسة
41 - اختلف علماء الحنفيّة فيمن لم يجد بعض الأوقات الخمسة ، كسكّان المناطق القطبيّة ، فإنّ هذه المناطق تستمرّ في نهارٍ دائمٍ ستّة أشهرٍ ، وفي ليلٍ دائمٍ ستّة أشهرٍ أخرى ، كما يقول الجغرافيّون ، فهل يجب على سكّان هذه المناطق - إن كانوا مسلمين - أن يصلّوا الصّلوات الّتي لم يجدوا وقتاً لها ، بأن يقدّروا لكلّ صلاةٍ وقتاً أو تسقط عنهم هذه الصّلوات ؟ . وكذلك في بعض البلاد القريبة من المناطق القطبيّة ، تأتي فيها فترات لا يوجد وقت العشاء ، أو يطلع الفجر بعد مغيب الشّفق مباشرةً .
وفي بعض المناطق لا تغيب الشّمس مطلقاً . ذهب بعض علماء الحنفيّة إلى عدم سقوط هذه الصّلوات عنهم ، ويقدّرون لكلّ صلاةٍ وقتاً ، ففي السّتّة الأشهر الّتي تستمرّ في نهارٍ دائمٍ يقدّرون للمغرب والعشاء والوتر والفجر وقتاً ، مثل ذلك السّتّة الأشهر الأخرى يقدّرون للصّبح والظّهر والعصر وقتاً ، باعتبار أقرب البلاد الّتي لا تتوارى فيها الأوقات الخمسة . وقد استدلّوا على ذلك بالقياس على أيّام الدّجّال ، الّذي هو من علامات السّاعة الكبرى ، فقد أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالتّقدير فيها ، في الحديث الّذي رواه مسلم قال : « ذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم الدّجّال ولبثه في الأرض أربعين يوماً : يوم كسنةٍ ، ويوم كشهرٍ ، ويوم كجمعةٍ ، وسائر أيّامه كأيّامكم . قال الرّاوي قلنا : يا رسول اللّه : أرأيت اليوم الّذي كالسّنة ، أتكفينا فيه صلاة يومٍ ؟ قال : لا ، ولكن اقدروا له » . أي صلّوا صلاة سنةٍ في اليوم الّذي هو كسنةٍ ، وقدّروا لكلّ صلاةٍ وقتاً .
وذهب بعض فقهاء الحنفيّة إلى سقوط الصّلوات الّتي لم يجدوا وقتاً لها ، لأنّ الوقت سبب للوجوب ، فإذا عدم السّبب - وهو الوقت - عدم المسبّب وهو الوجوب .
وهذا ينطبق على البلاد الّتي يقصر فيها اللّيل أربعين يوماً في الصّيف ، فقبل أن يغيب الشّفق الأحمر ، يظهر الفجر الصّادق فلا يوجد وقت للعشاء والوتر ، لأنّ أوّل وقت العشاء مغيب الشّفق الأحمر ، وقد ظهر الفجر الصّادق قبل أن يغيب الشّفق .
فذهب بعض علماء الحنفيّة والمالكيّة إلى عدم سقوط الوتر والعشاء عن أهل هذه البلاد ، بل يقدّرون للعشاء والوتر وقتاً باعتبار أقرب البلاد إليهم . وذهب بعض آخر من علماء الحنفيّة إلى سقوط الوتر والعشاء ، وهو الّذي مشى عليه صاحب نور الإيضاح وعبارته : ومن لم يجد وقتها لم تجب عليه . لكنّه خلاف المذهب وما عليه المتون .
وذهب بعض المالكيّة ، وهو مذهب الشّافعيّة إلى تقدير مغيب شفق أقرب البلاد إليهم ، فإذا كان أقرب البلاد إليهم يغيب فيها الشّفق بعد ساعةٍ من غروب الشّمس ، ومدّة اللّيل في هذه البلاد ثماني ساعاتٍ ، فيكون أوّل العشاء عندهم بعد ساعةٍ من غروب الشّمس ، وإذا كانت مدّة اللّيل في البلاد الّتي ليس فيها عشاء اثنتي عشرة ساعةً ، فيقدّر مغيب الشّفق عندهم بساعةٍ ونصفٍ من غروب الشّمس ، لأنّ مدّة بقاء الشّفق في أقرب البلاد إليهم ساعة ، وهي تعادل الثّمن من اللّيل ، لأنّ اللّيل عندهم ثماني ساعاتٍ ، والبلاد الّتي ليس فيها عشاء وليلها اثنتا عشرة ساعةً ، يقدّر لغياب الشّفق ثمن هذه المدّة ، وهي ساعة ونصف .
وذهب الشّافعيّة إلى وجوب قضاء العشاء على أهل هذه البلاد ، ولا يسقط عنهم .
قال ابن عابدين : هذه المسألة نقلوا فيها الخلاف بين ثلاثةٍ من مشايخنا وهم : البقّاليّ والحلوانيّ والبرهانيّ الكبير ، وأفتى البقّاليّ : بعدم الوجوب ، وكان الحلوانيّ يفتي بالقضاء ، ثمّ وافق البقّاليّ حينما أرسل إليه من يسأله عمّن أسقط صلاةً من الصّلوات الخمس : أيكفر ؟ فأجاب البقّاليّ السّائل : من قطعت يداه أو رجلاه كم فروض وضوئه ؟ قال : ثلاث . قال : فكذلك الصّلاة ، فاستحسن الحلوانيّ ، ورجع إلى قول البقّاليّ بعدم الوجوب . أمّا الكمال ابن الهمام فقد رجّح القول بالوجوب ، ومنع ما أفتى به البقّاليّ من القول بعدم الوجوب لعدم السّبب وهو الوقت ، كما يسقط غسل اليدين عن مقطوعهما .
وقال : لا يرتاب متأمّل في ثبوت الفرق بين عدم محلّ الفرض ، وبين عدم السّبب وهو الوقت . إلى أن قال : وانتفاء الدّليل على الشّيء لا يلزم فيه انتفاء هذا الشّيء ، لجواز دليلٍ آخر . وقد وجد وهو ما تواطأت عليه أخبار الإسراء ، من فرض اللّه تعالى الصّلوات الخمس ، وجعلها شرعاً عامّاً لأهل الآفاق ، لا تفضيل بين قطرٍ وقطرٍ .
قال ابن عابدين : وقد ورد في هذه المسألة قولان مصحّحان في المذهب ، والأرجح القول بالوجوب ، لا سيّما إذا قال به إمام من الأئمّة ، وهو الشّافعيّ رضي الله عنه ، وهل ينوي القضاء أو لا ينويه ؟ ذكر في الظّهيريّة أنّه لا ينوي القضاء لفقد وقت الأداء ، واعترضه الزّيلعيّ بأنّه إذا لم ينو القضاء يكون أداءً ، ضرورةً لا واسطة بينهما ، وهي ليست أداءً ، لأنّ الوقت الّذي صلّيت فيه ليس وقتاً لصلاة العشاء ، بل وقت لصلاة الصّبح .
ومعنى التّقدير عند الحنفيّة : افتراض أنّ الوقت موجود ، وإن كان الوقت وقتاً لصلاة الصّبح ، وهذا بخلاف معنى التّقدير عند الشّافعيّة وبعض المالكيّة ، على ما بيّنّاه سابقاً من مذهبهم . أمّا البلاد الّتي يقصر فيها وقت الظّهر ، فيبلغ ظلّ الشّيء مثله بعد زوال الشّمس عن وسط السّماء بوقتٍ قصيرٍ لا يتمكّن فيه المصلّي من صلاة الظّهر ، فلم نجد في كتب الفقهاء نصّاً على حكم هذه المسألة .
أوقاص *
التّعريف :
1- الأوقاص : جمع وقصٍ بفتحتين ، وقد تسكن القاف ، والوقص من معانيه في اللّغة : قصر العنق ، كأنّما ردّ في جوف الصّدر . والكسر : يقال : وقصت عنقه أي : كسرت ودقّت . وقد استعمل في الشّرع : لما بين الفريضتين في أنصبة زكاة الإبل والبقر والغنم ، أو هو : ما بين الفريضتين في الغنم والبقر ، أو في البقر خاصّةً ، وهو واحد الأوقاص .
فمثلاً إذا بلغت الغنم أربعين ، ففيها شاة إلى أن تبلغ مائةً وعشرين ، فإذا بلغت مائةً وإحدى وعشرين ، ففيها شاتان . فالثّمانون الّتي بين الأربعين وبين المائة وإحدى وعشرين وقصٍ . الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الأشناق :
2 - الأشناق : جمع شنقٍ ، هذا وجاء في المصباح وغيره من كتب اللّغة أنّ الشّنق بفتحتين : ما بين الفريضتين ، وبعضهم يقول : هو الوقص ، وبعض الفقهاء يخصّ الشّنق بالإبل ، والوقص بالبقر والغنم . وفسّر مالك الشّنق بما يزكّى من الإبل بالغنم . كالخمس من الإبل ففيها شاة ، والعشر فيها شاتان ، والخمس عشرة فيها ثلاث شياهٍ ، والعشرين فيها أربع .
ب - العفو :
3 - يقال لما بين الفريضتين أيضاً : العفو ، وهو في اللّغة مصدر عفا ، ومن معانيه : المحو والإسقاط . وأمّا عند الفقهاء فإنّه كالوقص ، بمعنى أنّه الّذي يفصل بين الواجبين في زكاة النّعم ، أو في كلّ الأموال ، وسمّي عفواً لأنّه معفوّ عنه ، أي لا زكاة فيه .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
أوقاص الإبل :
4 - يبحث عن الأحكام الخاصّة بالأوقاص في مصطلح ( زكاة ) أي فيما يتعلّق منها بزكاة النّعم ، وهي الإبل والبقر والغنم ، إذ الأوقاص كما سبق : ما بين الفريضتين من كلّ الأنعام ، والمراد بالفريضتين النّصابان . فما بين كلّ نصابين يعتبر وقصاً .
هذا ، والأوقاص في الإبل على خمس مراتب :
الأولى : الأربعة الّتي تفصل بين ما تجب فيه الشّاة وهي الخمس من الإبل ، والشّاتان وهي العشر ، والثّلاث شياهٍ وهي الخمس عشرة ، والأربع شياه وهي العشرون ، وبنت المخاض وهي الخمس والعشرون .
الثّانية : العشرة ، وهي الّتي تفصل بين ما تجب فيه بنت المخاض ، وهي الخمس والعشرون ، وما تجب فيه بنت اللّبون وهي السّتّ والثّلاثون .
الثّالثة : التّسعة ، وهي الّتي تفصل بين ما تجب فيه بنت اللّبون وهي السّتّ والثّلاثون ، وما تجب فيه الحقّة ، وهي السّتّ والأربعون .
الرّابعة : الأربع عشرة ، وهي الّتي تفصل بين ما تجب فيه الحقّة وهي السّتّ والأربعون ، وما تجب فيه الجذعة وهي الإحدى والسّتّون . وهي الّتي تفصل أيضاً بين ما تجب فيه الجذعة وهي الإحدى والسّتّون ، وما تجب فيه بنتا اللّبون وهي السّتّ والسّبعون ، والّتي تفصل أيضاً بين هذه وبين ما تجب فيه الحقّتان وهي الإحدى والتّسعون .
الخامسة : التّسع والعشرون ، وهي الّتي تفصل بين ما تجب فيه الحقّتان وهي الإحدى والتّسعون ، وما تجب فيه ثلاث بنات لبونٍ وهي الإحدى والعشرون بعد المائة عند ابن القاسم من المالكيّة وعند الشّافعيّة والحنابلة ، إذ زيادة الواحدة على المائة والعشرين تؤثّر عندهم في تغيير الواجب .
وأمّا الحنفيّة فقد ذكروا أنّ زيادة الواحدة على المائة والعشرين لا تؤثّر في تغيير الواجب ، وإنّما يتغيّر الواجب عندهم بزيادة خمسٍ ، فيستمرّ أخذ الحقّتين عندهم إلى أربعٍ وعشرين بعد المائة . فالمرتبة الخامسة من مراتب الوقص على هذا القول تكون ثلاثاً وثلاثين .
والّذي ارتضاه الإمام مالك أنّ الواجب بعد المائة والعشرين يتغيّر بزيادة عشرةٍ ، فإن كان الزّائد أقلّ من ذلك ، فإنّ السّاعي مخيّر بين أخذ الحقّتين أو ثلاث بنات لبونٍ .
والتّفصيل مع الأدلّة وما قيل فيها محلّه مصطلح : ( زكاةٍ ) .
أوقاص البقر :
5 - الأوقاص في البقر لا تخرج عن عددين :
أحدهما : التّسعة ، وهي الّتي تفصل بين ما يجب فيه التّبيع أو التّبيعة ، وهو الثّلاثون ، وما يجب فيه المسنّة أو المسنّ وهو الأربعون ، وهو الّتي تقع أيضاً بعد العدد الّذي يتغيّر فيه الواجب بزيادة عشرةٍ اتّفاقاً وهو السّتّون ، وما فوقها كالتّسعة الّتي بين السّتّين والسّبعين . والسّبعين والثّمانين . وهكذا .
الثّاني : التّسعة عشر ، وهي الّتي تفصل بين العدد الّذي تجب فيه المسنّة أو المسنّ على خلافٍ في ذلك وهو الأربعون ، والعدد الّذي يتغيّر بعده الواجب بزيادة عشرةٍ وهو السّتّون ، فإنّها وقص لا زكاة فيه عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة . هذا وتذكر كتب الحنفيّة ثلاث رواياتٍ عن أبي حنيفة في البقر إذا زاد عددها على الأربعين . سيأتي ذكرها .
أوقاص الغنم :
6 - الأوقاص في الغنم تكون على النّحو التّالي :
أوّلاً : الثّمانون ، وهي الّتي تفصل بين ما تجب فيه الشّاة الواحدة وهي الأربعون ، وما تجب فيه الشّاتان وهي الإحدى والعشرون بعد المائة .
ثانياً : التّسع والسّبعون ، وهي الّتي تفصل بين ما تجب فيه الشّاتان وهي الإحدى والعشرون بعد المائة ، وما تجب فيه الثّلاث الشّياه وهي الواحدة بعد المائتين .
ثالثاً : التّسع والتّسعون ، وهي الّتي تقع بعد العدد الّذي تجب فيه الثّلاث الشّياه وهو الواحد بعد المائتين وقبل العدد الّذي يتغيّر بعده الواجب بزيادة مائةٍ وهو الثّلاثمائة ، فيستمرّ بعد ذلك الوقص على تسعٍ وتسعين .
زكاة أوقاص الإبل :
7 - ذكر الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في زكاة أوقاص الإبل قولين :
أحدهما : أنّها لا زكاة فيها ، لأنّ الزّكاة إنّما تتعلّق بالنّصاب فقط ، ولأنّ الوقص عفو بعد النّصاب كما هو عفو أيضاً قبل النّصاب ، فالأربعة الواقعة بعد الخمسة وقبل العشرة عفو ، إذ هي كالأربعة الواقعة قبل الخمس . وهذا القول هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ، وهو أيضاً أحد قولين في مذهب المالكيّة ، وقول الشّافعيّة أيضاً في القديم والجديد .
الثّاني : أنّها تزكّى ، وهو قول محمّدٍ وزفر من الحنفيّة ، وهو أيضاً القول الّذي رجع إليه الإمام مالك ، وهو أيضاً قول الشّافعيّ في رواية البويطيّ ، ودليل هذا القول حديث أنسٍ :
« في أربعٍ وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كلّ خمسٍ شاة ، فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمسٍ وثلاثين ففيها بنت مخاضٍ أنثى » ، فجعل الفرض في النّصاب وما زاد . ولأنّه زيادة على نصابٍ فلم يكن عفواً ، كالزّيادة على نصاب القطع في السّرقة .
ويظهر أثر الخلاف - كما جاء في حاشية ابن عابدين - فيمن ملك تسعاً من الإبل ، فهلك بعد الحول منها أربعة لم يسقط شيء على الأوّل ، ويسقط على الثّاني أربعة أتساع شاةٍ . هذا وأمّا الحنابلة فقد ذكروا أنّ الأوقاص لا زكاة فيها قولاً واحداً ، لأنّ الزّكاة إنّما تتعلّق بالنّصاب فقط ، فلو كان له تسع إبلٍ مغصوبةٍ حولاً ، فخلص منها بعيراً ، لزمه خمس شاةٍ .
زكاة أوقاص البقر :
8 - اختلف الفقهاء في زكاة ما زاد على الأربعين إلى السّتّين من البقر على ثلاثة أقوالٍ : أحدها : أنّ هذه الزّيادة وقص لا زكاة فيها ، وهو ما ذهب إليه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو رواية عن أبي حنيفة وصاحبيه ، ودليل هذا القول « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمّا بعث معاذاً إلى اليمن أمره أن يأخذ من كلّ ثلاثين من البقر تبيعاً أو تبيعةً ، ومن كلّ أربعين مسنّاً أو مسنّةً ، فقالوا : الأوقاص ، فقال : ما أمرني فيها بشيءٍ ، وسأسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا قدمت عليه ، فلمّا قدم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سأله عن الأوقاص فقال : ليس فيها شيء » .
وفسّروها بما بين أربعين إلى ستّين ، ولأنّ الأصل في الزّكاة أن يكون بين كلّ واجبين وقص ، لأنّ توالي الواجبات غير مشروعٍ فيها ، لا سيّما فيما يؤدّي إلى التّشقيص في المواشي .
الثّاني : وهو قول أبي حنيفة في رواية الأصل عنه - وهي الرّواية الثّانية - أنّ ما زاد على الأربعين يجب فيه بحسابه إلى السّتّين ، ففي الواحدة الزّائدة ربع عشر مسنّةٍ ، أو ثلث عشر التّبيع ، وفي الثّنتين نصف عشر مسنّةٍ أو ثلثا عشر تبيعٍ وهكذا . ودليل هذا القول هو أنّ المال سبب الوجوب ، ونصب النّصاب بالرّأي لا يجوز ، وكذا إخلاؤه عن الواجب بعد تحقّق سببه ، وأمّا حديث معاذٍ فهو غير ثابتٍ ، لأنّه لم يجتمع برسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد ما بعثه إلى اليمن في الصّحيح .
الثّالث : وهو قول أبي حنيفة في رواية الحسن عنه - وهي الرّواية الثّالثة - أنّه لا شيء في الزّيادة حتّى تبلغ خمسين ، فإذا بلغتها ففيها مسنّة وربع مسنّةٍ أو ثلث تبيعٍ . ودليل هذا القول هو أنّ الأوقاص من البقر تسع تسع ، كما قبل الأربعين وبعد السّتّين ، فكذا هنا . زكاة أوقاص الغنم :
9 - ولا زكاة في أوقاص الغنم بالاتّفاق
أوقاف *
انظر وقف .
أوقيّة *
انظر مقادير .
أولويّة *
التّعريف :
1 - الأولويّة لغةً : مصدر صناعيّ للأوّل ، أي كون الشّيء أولى من غيره . ويقال : هو أولى بكذا : أي أحرى به وأجدر وأقرب وأحقّ ، مشتقّ من الوليّ : وهو القرب .
وقد استعمل الأصوليّون والفقهاء الأولى بمعنى : الأحرى والأفضل ، إلاّ أنّ أفعل التّفضيل هنا على غير بابه ، بدليل أنّ مقابل الأولى - وهو المسمّى عندهم بخلاف الأولى - لا فضل فيه ، بل فيه نوع كراهةٍ خفيفةٍ . كما استعمل الفقهاء الأولى أيضاً بمعنى الأحقّ ، على غير باب أفعل التّفضيل أيضاً ، بمعنى أنّه المستحقّ للشّيء دون غيره .
الحكم الإجماليّ :
أوّلاً :
2 - يعبّر الأصوليّون والفقهاء أحياناً عن النّدب الخفيف بالأولى ، وقد يقولون : إنّ الأمر على سبيل الأولويّة .
ثانياً :
3 - الأمر بالشّيء يفيد النّهي عن ضدّه في الجملة ، فالأمر بفعل المندوبات يستفاد منه النّهي عن تركها ، لكن لمّا كان ترك المندوب لا يستوجب إثماً ، عبّر عن ذلك التّرك بأنّه خلاف الأولى . وعند الحنفيّة أنّ من ارتكب خلاف الأولى فقد أساء . والإساءة عندهم دون الكراهة ، أو أفحش ، أو أنّها وسط بين كراهة التّنزيه والتّحريم .
ثالثاً : الدّلالة والفحوى :
4 - من أنواع الدّلالة اللّفظيّة " الدّلالة والفحوى " وهي : ثبوت حكم المنطوق للمسكوت لفهم مناط الحكم باللّغة ، كقوله تعالى { فلا تَقُلْ لهما أفٍّ } ويفهم منه تحريم الضّرب ، لأجل أنّ مناط النّهي عنه هو الإيذاء ، وهذا مفهوم لغةً ، من غير حاجةٍ إلى نظرٍ واستدلالٍ ، فكان منهيّاً عنه ، ومن جزئيّاته الضّرب فيكون منهيّاً عنه أيضاً ، ولا يجب في الدّلالة أولويّة المسكوت في تحقّق المناط فيه .
وقيل : إنّه تنبيه بالأدنى على الأعلى فتشترط الأولويّة على هذا ، ويخرج ما فيه مساواة ، ويسمّى الأوّل عندئذٍ فحوى الخطاب ، كما يطلق عليه ( المفهوم الأوّل ) ويسمّى الثّاني ( لحن الخطاب ) . والمشهور أنّ فحوى الخطاب ولحن الخطاب مترادفان .
رابعاً : قياس الأولى :
5 - من أنواع القياس : القياس الجليّ ، وهو : ما قطع فيه بنفي الفارق ، أو كان تأثير الفارق فيه احتمالاً ضعيفاً . فالأوّل كقياس الأمة على العبد في تقويم حصّة الشّريك على شريكه المعتق الموسر وعتقها عليه . ومثال ما كان فيه تأثير الفارق احتمالاً ضعيفاً : قياس العمياء على العوراء في المنع من التّضحية ، حيث إنّ العمياء ترشد للمرعى الحسن ، بخلاف العوراء ، فإنّها توكل إلى بصرها - وهو ناقص - فلا تسمن ، فيكون العور مظنّة الهزال . وجوابه أنّ المنظور إليه في عدم الإجزاء نقص الجمال بسبب نقص تمام الخلقة ، لا نقص السّمن . وقيل : الجليّ : القياس الأوّل ، كقياس الضّرب على التّأفيف في التّحريم ، وعلى التّعريف الأوّل يصدق بالأولى كالمساوي .
وهناك خلاف في كون قياس الأوّل من القياس الأصوليّ أو اللّغويّ ، ينظر في محلّه . وتمام الكلام على ما سبق محلّه الملحق الأصوليّ .
خامساً :
6 - من الألفاظ الدّالّة على الأولويّة عند الحنفيّة أحياناً كلمة ( لا بأس ) ، لكن الغالب استعمالها فيما تركه أولى ، وإن كانت قد تستعمل في المندوب أحياناً ، فإن قالوا : لا بأس بكذا دلّ على أنّ المستحبّ غيره غالباً .
من مواطن البحث :
7 - يذكر الأصوليّون مباحث الأولويّة والأولى في مباحث الحكم وأنواعه ، وفي مباحث الدّلالة وأنواع القياس كما تقدّم . كما يذكرها الفقهاء بمناسبة الكلام على صيغة " لا بأس " وفي مواضع متفرّقةٍ بحسب المناسبات كالأولى بالإمامة وبالصّلاة على الميّت والدّفن والذّبح في الحجّ وبالحضانة وتربية اللّقيط ونحو ذلك .
أولياء *
انظر : ولاية .
إياس *
التّعريف :
1- الإياس من الشّيء ، واليأس منه : انقطاع الرّجاء والطّمع والأمل فيه ( واليأس ) مصدر يئس ييأس فهو يائس . وقد ورد في كلام العرب كثيراً : أيس ييأس فهو آيس .
هذا ، ويقال للرّجل يائس وآيس ، وللمرأة يائسة وآيسة ، لكن إن أريد يأسها من الحيض خاصّةً قيل : هي آيس ، بدون تاءٍ ، وهو الأحرى على قواعد اللّغة ، ويرد فيها أيضاً في كلام الفقهاء كثيراً : آيسة .
هذا ، ويرد اليأس والإياس في كلام الفقهاء بمعنيين :
الأوّل ، وهو اصطلاح لهم : أن يكون بمعنى انقطاع الحيض عن المرأة بسبب الكبر والطّعن في السّنّ .
والثّاني : هو المعنى اللّغويّ المتقدّم ، ومنه قولهم : اليأس من رحمة اللّه ، وقولهم : توبة اليائس أي توبة من يئس من الحياة . وفيما يلي بيان أحكام هذين المعنيين .
أوّلاً :
الإياس بمعنى انقطاع الحيض بسبب الكبر :
2 - الإياس دور من حياة المرأة ، ينقطع فيه الحيض والحمل ، بسبب تغيّراتٍ تطرأ على جسمها . ويرافق هذا الانقطاع اضطراب في وظائف الأعضاء ، واضطرابات نفسيّة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - القعود :
3 - قعود المرأة بمعنى إياسها . فقد فسّره أهل اللّغة بانقطاع الحيض والولد عنها . قال ابن السّكّيت : امرأة قاعد إذا قعدت عن المحيض . فإذا أردت القعود قلت : هي قاعدة . وجمعها قواعد . وقد فسّر قوله تعالى : { والقواعدُ من النّساءِ } بمن انقطع عنهنّ الحيض .
وقال الزّجّاج : هنّ اللّاتي قعدن عن الأزواج .
ب - العقر والعقم :
4 - المرأة العاقر : هي الّتي لا تلد . ويقال للرّجل أيضاً : عاقر ، إن كان لا يولد له . والعقم أيضاً في المرأة والرّجل ، يقال : قد عقمت المرأة بمعنى : أعقمها اللّه . فهي عقيم ومعقومة . ويقال للرّجل أيضاً : عقيم ، إن كان لا يولد له .
ويظهر أنّ المرأة يقال لها : عاقر وعقيم ، إذا كانت لا تحمل ولو كانت ذات حيضٍ ، وبهذا تخالف الآيسة ، فإنّ المرأة لا تكون آيسةً إلاّ إذا امتنع عنها الحيض بسبب السّنّ ، ثمّ إن امتنع الحيض بسبب ذلك امتنع الحمل عادةً ولا بدّ . فكلّ آيسةٍ عقيم ، ولا عكس .
ج - امتداد الطّهر :
5 - قد يمتنع الحيض عن المرأة قبل سنّ الإياس لعارضٍ من هزالٍ أو مرضٍ أو رضاعٍ ، فلا يسمّى ذلك يأساً . وقد يكون امتناعه لسببٍ غير معلومٍ ، فيقال لها في كلّ تلك الأحوال ( ممتدّة الطّهر ) أو ( منقطعة الحيض ) . وفرّق في ( الدّرّ المنتقى ) بين هذين الاصطلاحين فقال : منقطعة الحيض : هي الّتي بلغت بالسّنّ ولم تحض قطّ . ومرتفعة الحيض : هي من حاضت ولو مرّةً ، ثمّ ارتفع حيضها وامتدّ طهرها ، ولذا تسمّى ممتدّة الطّهر .
سنّ الإياس :
6 - يقرّر الأطبّاء أنّ وظيفة الحمل لدى المرأة تستمرّ لديها بعد البلوغ خمس وثلاثون عاماً ، تتعطّل لديها بعدها وظيفة الحمل والإنجاب . وقد اختلف الفقهاء في تحديد سنّ الإياس على أقوالٍ : - 1 - فقال بعضهم : لا حدّ لأكثره . وعليه فأيّ سنٍّ رأت فيها الدّم فهو حيض . ولو كان ذلك بعد السّتّين . وهذا قول بعض الحنفيّة . قالوا : لا يحدّ الإياس بمدّةٍ ، بل إياسها أن تبلغ من السّنّ ما لا يحيض مثلها فيه . فإذا بلغته ، وانقطع دمها ، حكم بإياسها . فما رأته بعد الانقطاع حيض ، فيبطل به الاعتداد بالأشهر ، وتفسد الأنكحة أي يظهر فساد نكاحها إن كانت اعتدّت بالأشهر وتزوّجت ، ثمّ رأت الدّم .
- 2 - وقيل : يحدّ بخمسٍ وخمسين سنةً . وهو قول عند الحنفيّة ، هو رواية الحسن عن أبي حنيفة ، قيل فيه إنّ عليه الاعتماد ، وإنّ عليه أكثر المشايخ ، فما رأته من الدّم بعدها فليس بحيضٍ في ظاهر المذهب ، إلاّ إذا كان دماً خالصاً فحيض ، حتّى يبطل به الاعتداد بالأشهر ، إن جاءها قبل تمام الأشهر لا بعدها ، حتّى لا تفسد الأنكحة ، قالوا : وهو المختار للفتوى ، وعليه فالنّكاح إن وقع بعد انقضاء الأشهر ثمّ رأت الدّم جائز .
- 3 - وقيل يحدّ بخمسين سنةً ، وهو قول للحنفيّة ، قال صاحب الدّرّ : عليه المعوّل والفتوى في زماننا . وهو رواية عن أحمد . واحتجّ أصحاب هذا القول بقول عائشة رضي الله عنها :" لن ترى المرأة في بطنها ولداً بعد الخمسين ".
- 4 - وقيل يحدّ سنّ اليأس بالنّسبة إلى كلّ امرأةٍ بيأس نساء عشيرتها من الأبوين ، لتقاربهنّ في الطّبع . فإذا بلغت السّنّ الّذي ينقطع فيه حيضهنّ فقد بلغت سنّ اليأس ، وهذا أحد قولي الشّافعيّ .
- 5 - والقول الجديد للشّافعيّ : المعتبر سنّ اليأس لجميع النّساء بحسب ما يبلغ الخبر عنهنّ . وأقصاه فيما علم اثنتان وستّون سنةً . وقيل : ستّون . وقيل خمسون .
- 6 - وقيل بالتّفريق بين بعض الأجناس وبعضٍ ، فهو للعربيّات ستّون عاماً ، وللعجميّات خمسون . وهو رواية عن أحمد . قال ابن قدامة : لأنّ العربيّة أقوى طبيعةً .
- 7 - وذهب المالكيّة ، والحنابلة فيما نقله الخرقيّ عن أحمد إلى أنّ الإياس له حدّان : أعلى وأدنى . فأقلّه عندهم جميعاً خمسون سنةً . وأعلاه عند المالكيّة سبعون . قالوا : فمن بلغت سبعين فدمها غير حيضٍ قطعاً . ومن لم تبلغ خمسين فدمها حيض قطعاً . ولا يسأل النّساء - أي ذوات الخبرة - فيهما . وما بين ذلك يرجع فيه للنّساء ، لأنّه مشكوك فيه . وأعلاه عند أحمد على هذه الرّواية ستّون سنةً ، تيأس بعدها يقيناً . وما بين الخمسين والسّتّين من الدّم مشكوك فيه ، لا تترك له الصّوم والصّلاة . وتقضي الصّوم المفروض احتياطاً . قال ابن قدامة : الصّحيح إن شاء اللّه أنّه متى بلغت المرأة خمسين فانقطع حيضها عن عادتها عدّة مرّاتٍ لغير سببٍ فقد صارت آيسةً ، لأنّ وجود الحيض في حقّ هذه نادر ، بدليل قلّة وجوده ، وقول عائشة :" لن ترى المرأة في بطنها ولداً بعد الخمسين "فإذا انضمّ إلى هذا انقطاعه عن العادة مرّاتٍ حصل اليأس من وجوده ، فلها حينئذٍ أن تعتدّ بالأشهر ، وإن انقطع قبل ذلك فحكمها حكم من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه - أي فتتربّص تسعة أشهرٍ لاستبراء الرّحم ، وثلاثة أشهرٍ للعدّة - وإن رأت الدّم بعد الخمسين على العادة الّتي كانت تراه فيها فهو حيض في الصّحيح ، لأنّ دليل الحيض الوجود في زمن الإمكان ، وهذا يمكن وجود الحيض فيه ، وإن كان نادراً .
وإن رأته بعد السّتّين فقد تيقّن أنّه ليس بحيضٍ لأنّه لم يوجد ذلك .
اشتراط انقطاع الدّم مدّةً قبل الحكم بالإياس :
7 - ذكر هذا الشّرط الحنفيّة في سياق القول بأنّ سنّ الإياس خمسون أو خمس وخمسون عاماً ، قالوا : يشترط للحكم بالإياس في هذه المدّة أن ينقطع الدّم عنها مدّةً طويلةً ، وهي ستّة أشهرٍ في الأصحّ . قالوا : والأصحّ ألاّ يشترط أن يكون انقطاع ستّة أشهرٍ بعد مدّة الإياس . بل لو كان منقطعاً قبل مدّة الإياس ، ثمّ تمّت مدّة الإياس ، وطلّقها زوجها يحكم بإياسها وتعتدّ بثلاثة أشهرٍ . ولم يتعرّض لهذا الشّرط غير الحنفيّة فيما اطّلعنا عليه .
إياس من لم تحض :
8 - لم يعرض لهذه المسألة بالنّصّ عليها فيما اطّلعنا عليه غير الحنفيّة . فقد قالوا : إنّ المرأة إذا بلغت بالسّنّ ، واستمرّ امتناع الحيض ، فإنّها يحكم بإياسها متى بلغت ثلاثين عاماً . نقله في البحر عن الجامع .
ومقتضى إطلاق غيرهم أنّه لا يحكم بإياسها إلاّ متى بلغت سنّ الإياس المعتبر ، كغيرها .
السّنّة والبدعة في تطليق الآيسة :
9 - السّنّة في طلاق المرأة أن يكون في طهرٍ لم يأتها فيه زوجها ، أو أثناء الحمل .
أمّا طلاقها أثناء الحيض ، أو في طهرٍ أصابها فيه ، فإنّه طلاق بدعيّ .
وأمّا الآيسة من الحيض فقد قيل : لا سنّة لطلاقها ولا بدعة ، وقال الحنفيّة : السّنّة في طلاقها أن تطلق على رأس كلّ شهرٍ طلقةً .
وقيل : طلاقها طلاق سنّيّ ولو بعد الوطء . وينظر تفصيل ذلك في ( طلاقٍ ) .
عدّة طلاق الآيسة :
10 - تعتدّ ذات الأقراء من الطّلاق بثلاثة أقراءٍ .
والحامل عدّتها إلى وضع حملها ، أمّا الّتي أيست من الحيض ، إن كانت حرّةً فعدّتها من الطّلاق ثلاثة أشهرٍ من حين الطّلاق . وهذا متّفق عليه . لقول اللّه تعالى : { واللّائي يَئِسْنَ من المحيضِ من نسائِكم إنِ ارْتَبْتُم فعِدَّتُهُنَّ ثَلاثةُ أشْهُرٍ } . والتّفصيل في ( عدّةٍ ) .
من تأخذ حكم الآيسة من النّساء :
11 - إنّ المطلّقة إذا ارتفع حيضها ، وعرفت ما رفعه من رضاعٍ أو مرضٍ أو نفاسٍ ، فإنّها تنتظر زوال العارض وعود الدّم وإن طال ، إلاّ أن تصير في سنّ اليأس ، فعند ذلك تعتدّ عدّة الأيسات .
أمّا إن كان ارتفاع حيضها لسببٍ لا تعلمه ، وكانت حرّةً ، فقد قيل : تتربّص سنةً : تسعة أشهرٍ للحمل ، ثمّ تعتدّ بثلاثة أشهرٍ كالآيسة . وقيل في مدّة تربّصها غير ذلك ( ر : عدّة ) .
أحكام اللّباس والنّظر ونحوهما بالنّسبة للآيسة :
12 - إنّ المرأة إذا اجتمع لها مع الإياس انقطاع رجائها في النّكاح ثبت لها نوع من الرّخصة في كمال الاستتار . قال اللّه تعالى : { والقواعدُ من النّساءِ اللّاتي لا يَرْجُون نِكاحاً فليسَ عليهنّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهنّ غيرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزينَةٍ } ، قال القرطبيّ في تفسيرها : هنّ العجّز اللّواتي قعدن عن التّصرّف من السّنّ ، وقعدن عن الولد والمحيض . هذا قول أكثر العلماء . وقال أبو عبيدة : هنّ اللّاتي قعدن عن الولد ، وليس ذلك بمستقيمٍ ، لأنّ المرأة تقعد عن الولد ، وفيها مستمتع . وإنّما خصّ القواعد بهذا الحكم - وهو جواز وضع الجلباب أو الرّداء عنهنّ ، إذا كان ما تحته من الثّياب ساتراً لما يجب ستره - لانصراف الأنفس عنهنّ ، وقيل : لا بأس بالنّظر منها إلى ما يظهر غالباً وهو مذهب الحنابلة ، إذ لا مذهب للرّجال فيهنّ ، فأبيح لهنّ ما لم يبح لغيرهنّ ، وأزيل عنهنّ كلفة التّحفّظ المتعبة لهنّ .
ثانياً :
الإياس بمعنى انقطاع الرّجاء
13 - الإياس من حصول بعض الأشياء جائز ولا بأس به . بل استحضار الإياس من بعض الأشياء البعيدة الحصول قد يكون راحةً للنّفس من تطلّبها . وفي الحديث « أجمع الإياس ممّا في أيدي النّاس » . ولكن لا يجوز للمؤمن اليأس من روح اللّه ورحمته .
ومن أمثلة الإياس من رحمة اللّه الإياس من الرّزق أو نحوه كالولد ، أو وجود المفقود ، أو يأس المريض من العافية ، أو يأس المذنب من المغفرة .
والإياس من رحمة اللّه تعالى منهيّ عنه . وقد عدّه العلماء من الكبائر . قال ابن حجرٍ المكّيّ : عدّ ذلك كبيرةً هو ما أطبقوا عليه ، لما ورد فيه من الوعيد الشّديد . كقوله تعالى : { إنّه لا يَيْأسُ من رَوْحِ اللّه إلاّ القومُ الكافرون } ، وقوله تعالى : { وَمَنْ يقنطُ من رحمةِ ربّه إلاّ الضّالّون } . وروى ابن أبي حاتمٍ والبزّار عن ابن عبّاسٍ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل : ما الكبائر ؟ فقال : الشّرك باللّه ، والإياس من روح اللّه ، والأمن من مكر اللّه ، وهذا أكبر الكبائر » قيل : والأشبه أن يكون الحديث موقوفاً ، وبكونه أكبر الكبائر صرّح ابن مسعودٍ كما رواه عبد الرّزّاق والطّبرانيّ . ثمّ قال ابن حجرٍ : وإنّما كان اليأس من رحمة اللّه من الكبائر لأنّه يستلزم تكذيب النّصوص القطعيّة . ثمّ هذا اليأس قد ينضمّ إليه حالة هي أشدّ منه ، وهي التّصميم على عدم وقوع الرّحمة له ، وهذا هو القنوط ، بحسب ما دلّ عليه سياق الآية : { وإنْ مَسَّهُ الشّرُّ فيئوس قنوط } وتارةً ينضمّ إليه أنّه مع اعتقاده عدم وقوع الرّحمة له يرى أنّه سيشدّد عذابه كالكفّار . وهذا هو المراد بسوء الظّنّ باللّه تعالى .
وقد ورد النّهي عن اليأس من الرّزق في مثل قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لحبّةٍ وسواءٍ ابني خالد « لا تيأسا من الرّزق ما تهزهزت رءوسكما » .
وورد النّهي عن القنوط بسبب الفقر والحاجة أو حلول المصيبة في مثل قوله تعالى : { وإذا أَذَقْنَا النّاسَ رحمةً فَرِحُوا بها وإنْ تُصِبْهم سيّئةٌ بما قَدَّمَتْ أَيْدِيْهم إذا هم يَقْنطون أوَلم يَرَوْا أنَّ اللّه يَبْسُطُ الرّزقَ لمن يشاءُ وَيَقْدِرُ إنّ في ذلك لآياتٍ لِقَومٍ يؤمنون } .
وورد النّهي عن اليأس من مغفرة الذّنوب في قوله تعالى : { قلْ يا عبادِيَ الّذين أسْرَفُوا على أنفسِهم لا تَقْنَطُوا من رحمةِ اللّه إنَّ اللّه يَغْفِرُ الذّنوبَ جميعاً إنّه هو الغفورُ الرّحيمُ } .
فإنّ اللّه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، فرحمته وسعت كلّ شيءٍ . ومن أجل ذلك فالإنابة إلى اللّه تعالى مطلوبة ، وباب التّوبة إليه من الذّنوب جميعاً مفتوح للعبد ما لم يغرغر ، أي حين ييأس من الحياة .
فتوبة اليائس - وهي توبة من يئس من الحياة كالمحتضر - المشهور أنّها غير مقبولةٍ ، كإيمان اليائس . وهو قول الجمهور . وفرّق بعض الحنفيّة بين توبة اليائس وإيمان اليائس ، فقالوا بقبول الأوّل دون الثّاني ( ر : احتضار . توبة ) .
أمّا من مات على كفره فإنّه هو اليائس حقّاً من مغفرة اللّه ورحمته ، لقوله تعالى : { والّذين كفروا بآياتِ اللّه وَلِقَائِه أولئك يَئِسُوا من رحمتي وأولئك لهم عذابٌ أليم } ، بخلاف من مات على الإيمان فإنّ الرّحمة ترجى له .
أيامى *
انظر نكاح .
إيتار *
انظر وتر .
إيتمان *
انظر أمانة .
إيجاب *
التّعريف :
1 - الإيجاب : لغةً مصدر أوجب . يقال أوجب الأمر على النّاس إيجاباً : أي ألزمهم به إلزاماً ، ويقال : وجب البيع يجب وجوباً أي : لزم وثبت ، وأوجبه إيجاباً : ألزمه إلزاماً . واصطلاحاً : يطلق على عدّة معانٍ ، منها : طلب الشّارع الفعل على سبيل الإلزام ، وهو بهذا يخالف الاختيار . ومنها : التّلفّظ الّذي يصدر عن أحد العاقدين .
وقد اختلف الفقهاء في تعريفه بهذا المعنى ، فقال الحنفيّة : الإيجاب : هو ما صدر أوّلاً من أحد العاقدين بصيغةٍ صالحةٍ لإفادة العقد ، والقبول : ما صدر ثانياً من أيّ جانبٍ كان .
ويرى غير الحنفيّة أنّ الإيجاب : ما صدر من البائع ، والمؤجّر ، والزّوجة ، أو وليّها ، على اختلافٍ بين المذاهب ، سواء صدر أوّلاً أو آخراً ، لأنّهم هم الّذين سيملّكون : المشتري السّلعة المبيعة ، والمستأجر منفعة العين ، والزّوج العصمة ، وهكذا .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الفرض :
2 - يأتي الفرض لغةً واصطلاحاً بمعنى : الإيجاب .
يقال : فرض اللّه الأحكام فرضاً أي أوجبها ، ولا فرق عند غير الحنفيّة بين الفرض والإيجاب . أمّا عند الحنفيّة فالفرض : ما ثبت بدليلٍ قطعيٍّ لا شبهة فيه ، ويكفر جاحده إذا كان ممّا علم من الدّين بالضّرورة . والواجب ما ثبت بدليلٍ فيه شبهة كالقياس .
ب - الوجوب :
وهو أثر الإيجاب ، فالإيجاب من الحاكم به ، والوجوب صفة الفعل المحكوم فيه ، فما أوجبه اللّه صار بإيجابه واجباً .
ج - النّدب :
وهو طلب الشّارع الفعل لا على وجه الإلزام به ، كصلاة النّافلة .
مصدر الإيجاب الشّرعيّ :
3 - الإيجاب الشّرعيّ حكم شرعيّ لا يكون إلاّ من اللّه تعالى ، لأنّه خطاب الشّرع للمكلّفين بما يوجبه عليهم . وقد يوجب الإنسان على نفسه فعل طاعةٍ بالنّذر فيجب عليه أداؤه شرعاً ، لإيجاب اللّه الوفاء بالنّذر ، كأن ينذر شخص صوم أيّامٍ ، أو حجّ البيت ، أو صدقةً معيّنةً . وينظر لتفاصيل أحكام الواجب الملحق الأصوليّ .
الإيجاب في المعاملات :
4 - يكون الإيجاب باللّفظ ، وهو الأكثر . ويكون بالإشارة المفهمة من الأبكم ونحوه في غير النّكاح . وقد يكون بالفعل كما في بيع المعاطاة . وقد يكون بالكتابة . ويكون الإيجاب بالرّسالة أو الرّسول ، إذ يعتبر مجلس تبليغ الرّسالة أو الرّسول ، وعلمه بما فيها ، هو مجلس الإيجاب . وينظر تفصيل ذلك ، والخلاف فيه ، في أبواب المعاملات المختلفة وخاصّةً البيوع ، وانظر أيضاً مصطلح ( إرسالٍ . إشارةٍ . عقدٍ ) .
شروط صحّة الإيجاب في العقود :
5 - يشترط لصحّة الإيجاب في العقود شروط أهمّها : أهليّة الموجب ، وتفصيل ذلك في مصطلح ( صيغة ، وعقد ) .
خيار الإيجاب :
6 - يرى بعض الفقهاء - مثل الحنفيّة - أنّ للموجب حقّ الرّجوع قبل القبول ، وقال المالكيّة : إنّ الموجب لو رجع عمّا أوجبه لصاحبه قبل أن يجيبه الآخر ، لا يفيده رجوعه إذا أجابه صاحبه بالقبول ، ولا يملك أن يرجع وإن كان في المجلس .
أمّا الشّافعيّة والحنابلة فإنّهم يرون خيار المجلس ، وهو يقتضي جواز رجوع الموجب عن إيجابه حتّى بعد قبول العاقد الآخر ، فمن باب أولى يصحّ رجوعه قبل اتّصال القبول به .
إيجار *
التّعريف :
1 - الإيجار : مصدر آجر ، وفعله الثّلاثيّ أجر . يقال : آجر الشّيء يؤجّره إيجاراً . ويقال : آجر فلان فلاناً داره أي : عاقده عليها .
والمؤاجرة : الإثابة وإعطاء الأجر .
وآجرت الدّار أوجرها إيجاراً ، فهي مؤجّرة .
والاسم : الإجارة . وللتّفصيل ( ر : إجارة ج 1 252 )
والإيجار ( أيضاً ) مصدر للفعل أوجر ، وفعله الثّلاثيّ ( وجر ) ، يقال : أوجره : إذا ألقى الوجور في حلقه . هذا في اللّغة ، ولم يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك ، فإنّهم يستعملون الإيجار بمعنى : صبّ اللّبن أو الدّواء أو غيرهما في الحلق .
واشتهر عندهم التّعبير بلفظ الإجارة بمعنى : بيع المنفعة .
الحكم الإجماليّ :
2 - جمهور الفقهاء على أنّ إيجار لبن امرأةٍ في حلق طفلٍ رضيعٍ فيما بين الحولين يثبت به التّحريم ، كارتضاعه من ثديها ، لأنّ المؤثّر في التّحريم هو حصول الغذاء باللّبن وإنبات اللّحم وإنشاز العظم ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا رضاع إلاّ ما أنشز العظم وأنبت اللّحم » وذلك يحصل بالإيجار ، لأنّه يصل إلى الجوف ، وبذلك يساوي الارتضاع من الثّدي في التّحريم . وفي هذا خلاف لبعض الفقهاء ، مع اختلافهم أيضاً في عدد الرّضعات الّتي تنشر الحرمة . وللتّفصيل ( ر : رضاع ) .
ويختلف الفقهاء في وصول شيءٍ لجوف الصّائم بالإيجار مكرهاً ، هل يصير به مفطراً أم لا ؟ يقول الحنفيّة والمالكيّة : لو أوجر الصّائم مكرهاً ، أو كان نائماً وصبّ في حلقه شيء ، كان مفطراً بذلك ، ويجب عليه القضاء .
وعند الشّافعيّة والحنابلة : من أوجر مكرهاً لم يكن مفطراً بذلك ، لانتفاء الفعل والقصد منه ، ولعموم قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » .
مواطن البحث :
3 - يأتي تفصيل الإيجار بمعنى صبّ شيءٍ في الحلق في الرّضاع والصّوم ، كما يأتي في باب الجنايات ، وذلك بإيجار سمٍّ في فم إنسانٍ .
إيداع *
انظر وديعةً .
إيصاء *
التّعريف :
1 - الإيصاء في اللّغة : مصدر أوصى ، يقال : أوصى فلان بكذا يوصي إيصاءً ، والاسم الوصاية ( بفتح الواو وكسرها ) وهو : أن يعهد إلى غيره في القيام بأمرٍ من الأمور ، سواء أكان القيام بذلك الأمر في حال حياة الطّالب أم كان بعد وفاته .
وفي المغرب : أوصى زيد لعمر بكذا إيصاءً ، وقد وصّى به توصيةً ، والوصيّة والوصاة اسمان في معنى المصدر ، ومنه { مِنْ بعد وَصِيّةٍ تُوصُونَ بها } والوصاية بالكسر مصدر الوصيّ . وقيل الإيصاء : طلب الشّيء من غيره ليفعله على غيبٍ منه حال حياته أو بعد وفاته .
أمّا في اصطلاح الفقهاء ، فالإيصاء بمعنى الوصيّة ، وعند بعضهم هو أخصّ من ذلك ، فهو إقامة الإنسان غيره مقامه بعد وفاته في تصرّفٍ من التّصرّفات ، أو في تدبير شئون أولاده الصّغار ورعايتهم ، وذلك الشّخص المقام يسمّى الوصيّ .
أمّا إقامة غيره مقامه في القيام بأمرٍ في حال حياته ، فلا يقال له في الاصطلاح إيصاء عندهم ، وإنّما يقال له وكالة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الوصيّة :
2 - يرى الحنفيّة والشّافعيّة : أنّ الوصيّة أعمّ من الإيصاء ، فهي عندهم ، تصدق على التّمليك المضاف إلى ما بعد الموت بطريق التّبرّع ، وتصدق على الإيصاء ، وهو طلب شيءٍ من غيره ليفعله بعد وفاته ، كقضاء ديونه وتزويج بناته .
ويرى المالكيّة وبعض الحنابلة : أنّ الوصيّة والإيصاء بمعنًى واحدٍ . فقد عرّفها المالكيّة بأنّها : عقد يوجب حقّاً في ثلث مال العاقد يلزم بموته ، أو يوجب نيابةً عنه بعد موته وعرّفها بعض الحنابلة : بأنّها الأمر بالتّصرّف بعد الموت ، أو التّبرّع بالمال بعده .
فكلّ من هذين التّعريفين يفيد أنّ الوصيّة قد تكون بالتّبرّع بالمال بعد الموت ، وقد تكون بإقامةٍ الموصي غيره مقام نفسه في أمرٍ من الأمور بعد وفاته ، فهي شاملة لكلٍّ منهما على السّواء ، فكلاهما يطلق عليه اسم الوصيّة .
ب - الولاية :
3 - الولاية هي : القدرة على إنشاء العقود والتّصرّفات النّافذة من غير توقّفٍ على إجازة أحدٍ . فإن كانت هذه العقود والتّصرّفات متعلّقةً بمن قام بها سمّيت الولاية ولايةً قاصرةً ، وإن كانت متعلّقةً بغيره سمّيت الولاية ولايةً متعدّيةً ، وهذه الولاية المتعدّية أعمّ من الوصاية ، لأنّ كلّاً منهما يملّك صاحبه التّصرّف بطريق النّيابة عن غيره ، إلاّ أنّ الولاية قد يكون مصدرها الشّرع ، كولاية الأب على ابنه ، وقد يكون مصدرها العقد كما في الوكالة والإيصاء ، فإنّه يكون بتولية صاحب الشّأن في التّصرّف ، فهو الّذي يعهد إلى غيره بالنّيابة عنه في بعض الأمور بعد وفاته .
ج - الوكالة :
4 - الوكالة : إقامة الشّخص غيره مقام نفسه في تصرّف مملوكٍ قابلٍ للنّيابة ، ليفعله في حال حياته . فهي تشبه الإيصاء من حيث إنّ كلّاً منهما فيه تفويض للغير في القيام ببعض الأمور نيابةً عمّن فوّضه ، إلاّ أنّ بينهما فرقاً من ناحية أنّ التّفويض للغير في الإيصاء يكون بعد الموت ، أمّا في الوكالة فإنّ التّفويض يكون في حال الحياة .
هذا وسوف يقتصر الكلام في هذا البحث على الإيصاء بمعنى إقامة الوصيّ ، أمّا ما يتعلّق بسائر أحكام الوصيّة فينظر في مصطلح : ( وصيّةٍ ) .
ما يتحقّق به عقد الإيصاء :
5 - يتحقّق عقد الإيصاء بإيجابٍ من الموصي ، وقبولٍ من الموصى إليه ، ولا يشترط في الإيجاب أن يكون بألفاظٍ مخصوصةٍ ، بل يصحّ بكلّ لفظٍ يدلّ على تفويض الأمر إلى الموصى إليه بعد موت الموصي ، مثل : جعلت فلاناً وصيّاً ، أو عهدت إليه بمال أولادي بعد وفاتي ، وما أشبه ذلك . وكذلك القبول ، فإنّه يصحّ بكلّ ما يدلّ على الموافقة والرّضى بما صدر من الموصي ، سواء أكان بالقول كقبلت أو رضيت ، أو أجزت ، ونحو ذلك ، أم بالفعل الدّالّ على الرّضى ، كبيع شيءٍ من التّركة بعد موت الموصي ، أو شرائه شيئاً يصلح للورثة ، أو قضائه لدينٍ أو اقتضائه له .
ولا يشترط في القبول أن يكون في مجلس الإيجاب ، بل يمتدّ زمنه إلى ما بعد موت الموصي ، لأنّ أثر عقد الإيصاء لا يظهر إلاّ بعد موت الموصي ، فكان القبول ممتدّاً إلى ما بعده . وصحّ قبول الإيصاء في حال حياة الموصي عند الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة ، والشّافعيّة في مقابل الأصحّ عندهم ، لأنّ تصرّف الموصى إليه يقع لمنفعة الموصي . فلو وقف القبول والرّدّ على موته لم يؤمن أن يموت الموصي ، ولم يسند وصيّته إلى أحدٍ ، فيكون في ذلك إضرار به ، وهذا بخلاف قبول الوصيّة بجزءٍ من المال فإنّ قبول الموصى له لا يكون معتبراً إلاّ بعد موت الموصي ، لأنّ الاستحقاق فيها إنّما هو لحقّ الموصى له ، فلم يكن ثمّ ما يدعو إلى تقديم القبول على الموت . وفي القول الأصحّ عند الشّافعيّة : لا يصحّ القبول في الإيصاء إلاّ بعد موت الموصي ، لأنّ الإيصاء مضاف إلى الموت ، فقبل الموت لم يدخل وقته ، فلا يصحّ القبول أو الرّدّ قبله ، كما في الوصيّة بالمال .
حكم الإيصاء من حيث هو :
6 - الأصل في الإيصاء إلى الغير أنّه لا يصحّ ، وذلك لأنّ صحّة التّصرّف تتوقّف على الولاية عليه ممّن صدر عنه ، والموصي تنتهي ولايته بالموت ، إلاّ أنّ الشّرع أجازه استثناءً من هذا الأصل ، وذلك لما روي أنّ الصّحابة رضي الله تعالى عنهم كان يوصي بعضهم إلى بعضٍ ، من غير إنكارٍ على أحدٍ منهم في ذلك ، فاعتبر هذا إجماعاً منهم على الجواز . روى سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة قال : أوصى إلى الزّبير سبعة من الصّحابة ، منهم عثمان ، والمقداد ، وعبد الرّحمن بن عوفٍ ، ومطيع بن الأسود . وروي عن أبي عبيدة أنّه لمّا عبر الفرات أوصى إلى عمر .
وروي أنّ ابن مسعودٍ قد أوصى فكتب : إن حدث بي حادث الموت من مرضي هذا ، فمرجع وصيّتي إلى اللّه سبحانه ، ثمّ إلى الزّبير بن العوّام وابنه عبد اللّه . ولأنّ الإيصاء وكالة وأمانة فأشبه الوديعة ، والوكالة في الحياة ، وكلاهما جائز ، فكذلك الإيصاء .
حكم الإيصاء بالنّسبة للموصي :
7 - الإيصاء بالنّسبة للموصي يكون واجباً عليه إذا كان بردّ المظالم ، وقضاء الدّيون المجهولة ، أو الّتي يعجز عنها في الحال ، لأنّ أداءها واجب ، والإيصاء هو الوسيلة لأدائه ، فيكون واجباً مثله . وكذلك الإيصاء على الأولاد الصّغار ومن في حكمهم إذا خيف عليهم الضّياع ، لأنّ في هذا الإيصاء صيانةً لهم من الضّياع ، وصيانة الصّغار من الضّياع واجبة بلا خلافٍ ، لحديث : « كفى بالمرء إثماً أن يُضَيِّعَ من يَعُول » .
أمّا الإيصاء بقضاء الدّين المعلوم ، وردّ المظالم المعلومة ، وتنفيذ الوصايا إن كانت ، والنّظر في أمر الأولاد الصّغار ومن في حكمهم الّذين لا يخشى عليهم الضّياع ، فهو سنّة أو مستحبّ باتّفاق الفقهاء ، تأسّياً بالسّلف الصّالح في ذلك ، حيث كان يوصي بعضهم إلى بعضٍ ، كما تقدّم . هذا هو حكم الإيصاء بالنّسبة للموصي .
أمّا بالنّسبة للوصيّ ، فإنّه إذا أوصى إليه أحد جاز له قبول الوصيّة ، إذا كانت له قدرة على القيام بما أوصي إليه فيه ، ووثق من نفسه أداءه على الوجه المطلوب ، لأنّ الصّحابة رضي الله تعالى عنهم كان بعضهم يوصي إلى بعضٍ ، فيقبلون الوصيّة ، فقد روي أنّ عبد اللّه بن عمر كان وصيّاً لرجلٍ ، وكان الزّبير بن العوّام وصيّاً لسبعةٍ من الصّحابة .
وقياس مذهب أحمد أنّ ترك الدّخول في الوصيّة أولى ، لما فيه من الخطر ، وهو لا يعدل بالسّلامة شيئاً ، ولذلك كان يرى ترك الالتقاط ، وترك الإحرام من قبل الميقات أفضل ، تحرّياً للسّلامة واجتناباً للخطر ، ويدلّ على ذلك ، ما رواه مسلم أنّ النّبيّ قال لأبي ذرٍّ : « إنّي أراك ضعيفاً ، وإنّي أحبّ لك ما أحبّ لنفسي ، فلا تأَمَّرَنّ على اثنين ، ولا تَوَلَّينّ مالَ يتيمٍ » .
وفي ردّ المحتار : أنّه لا ينبغي للوصيّ أن يقبل الوصاية ، لأنّها على خطرٍ ، وعن أبي يوسف : الدّخول فيها أوّل مرّةٍ غلط ، والثّانية خيانة ، والثّالثة سرقة .
وعن الحسن : لا يقدر الوصيّ أن يعدل ولو كان عمر بن الخطّاب .
وقال أبو مطيعٍ : ما رأيت في مدّة قضائي عشرين سنةً من يعدل في مال ابن أخيه .
لزوم عقد الإيصاء وعدم لزومه :
8 - الإيصاء ليس تصرّفاً لازماً في حقّ الموصي باتّفاق الفقهاء ، فله الرّجوع عنه متى شاء ، أمّا في حقّ الوصيّ ، فإنّ عقد الإيصاء لا يكون لازماً في حياة الموصي باتّفاق الفقهاء ، فله الرّجوع عنه متى شاء ، فإذا رجع كان رجوعه عزلاً لنفسه عن الإيصاء .
إلاّ أنّ الحنفيّة قيّدوا صحّة هذا الرّجوع بعلم الموصي ، ليتمكّن من الإيصاء إلى غيره إذا شاء ، فإن رجع عن الوصيّة بغير علم الموصي فلا يصحّ رجوعه حتّى لا يصير مغروراً من جهته .
وقيّد الشّافعيّة جواز رجوع الوصيّ عن الوصاية إذا كان الإيصاء واجباً على الموصي بألاّ يتعيّن الوصيّ ، أو يغلب على ظنّه تلف المال الموصى برعايته ، باستيلاء ظالمٍ عليه من قاصدٍ وغيره ، فإن تعيّن الوصيّ ، أو غلب على ظنّه تلف المال فليس له الرّجوع عن الوصيّة . أمّا بعد موت الموصي ، فليس للوصيّ عزل نفسه عند الحنفيّة والمالكيّة ، وهو رواية عن أحمد ، ذكرها ابن موسى في الإرشاد ، لأنّ الوصيّ لمّا قبل الوصيّة في حياة الموصي فقد جعله يعتمد عليه فيما أوصى به إليه ، فإذا رجع عن الوصيّة بعد موته كان تغريراً به ، وهو لا يجوز .
وقال الشّافعيّة والحنابلة : للوصيّ عزل نفسه بعد موت الموصي ، لأنّ الوصاية كالوكالة من حيث إنّ كلّاً منهما تصرّف بالإذن ، والوكيل له عزل نفسه متى شاء ، فكذلك الوصيّ .
وقد استثنى الشّافعيّة من ذلك ما إذا وجب الإيصاء وتعيّن القبول على الوصيّ ، فلا يجوز له الرّجوع عن الوصيّة .
من يكون له تولية الوصيّ :
9 - تولية الوصيّ تختلف تبعاً لاختلاف ما يتعلّق الإيصاء به ، فإن كان الإيصاء بتصرّفٍ معيّنٍ ، كقضاء الدّيون واقتضائها ، وردّ الودائع واستردادها ، وتنفيذ الوصايا ونحو ذلك ، فالّذي يكون له تولية الوصيّ هو صاحب الشّأن في ذلك التّصرّف ، لأنّ من له ولاية على تصرّفٍ من التّصرّفات ، كان له أن ينيب عنه غيره فيه للقيام به في حال حياته بطريق الوكالة ، وبعد وفاته بطريق الوصيّة ، أمّا إن كان الإيصاء برعاية الأولاد الصّغار ومن في حكمهم ، كالمجانين والمعتوهين ، والنّظر في أموالهم بحفظها والتّصرّف فيها بما ينفعهم ، فلا خلاف بين الفقهاء في أنّ تولية الوصيّ تكون للأب ، لأنّ للأب - عندهم جميعاً - الولاية على أولاده الصّغار ومن في حكمهم في حال حياته ، فيكون له الحقّ في إقامة خليفةٍ عنه في الولاية عليهم بعد وفاته .
ومثل الأب في هذا الحكم الجدّ عند الحنفيّة والشّافعيّة ، فله حقّ تولية الوصيّ ، لأنّ الجدّ له عندهم الولاية على أولاد أولاده وإن نزلوا ، فيكون له حقّ الإيصاء عليهم لمن شاء بعد موته كالأب . وقال المالكيّة والحنابلة : ليس للجدّ حقّ تولية وصيٍّ عنه على أولاد أولاده ، لأنّ الجدّ لا ولاية له عندهم على أموال هؤلاء الأولاد ، لأنّه لا يدلي إليهم بنفسه ، وإنّما يدلي إليهم بالأب ، فكان كالأخ والعمّ ، ولا ولاية لأحدهما على مال أولاد أخيه ، فكذلك الجدّ لا ولاية له على مال أولاد أولاده .
ولوصيّ الأب حقّ الإيصاء بعده لمن شاء عند الحنفيّة ، لأنّ الأب أقامه مقام نفسه ، فكان له الإيصاء كالأب ، ويوافق الحنفيّة في ذلك المالكيّة ، إلاّ أنّهم قيّدوا حقّ الوصيّ في الإيصاء لغيره بما إذا لم يمنعه الأب من الإيصاء إلى غيره ، فإن منعه من الإيصاء إلى غيره ، كأن قال له : أوصيتك على أولادي ، وليس لك أن توصي عليهم ، فلا يجوز له الإيصاء .
وقال الحنابلة والشّافعيّة في الأظهر : ليس للوصيّ حقّ الإيصاء إلى غيره ، إلاّ إذا جعل له الإيصاء إلى غيره ، لأنّ الوصيّ يتصرّف بطريق النّيابة عن الموصي ، فلم يكن له التّفويض إلى غيره ، إلاّ إذا أذن له في ذلك ، كالوكيل ، فإنّه لا يجوز له توكيل غيره فيما وكّل فيه ، إلاّ إذا أذن له الموكّل ، فكذلك الوصيّ .
وللقاضي إذا لم يوص الأب والجدّ أو وصيّهما لأحدٍ أن يعيّن وصيّاً من قبله باتّفاق الفقهاء ، لأنّه وليّ من لا وليّ له ، كما جاء في الحديث الصّحيح « السّلطان وليّ من لا وليّ له » . والقاضي لا يلي أمور القاصرين بنفسه ، ولكنّه يكل أمورهم إلى من يعيّنهم من الأوصياء . أمّا الأمّ فليس لها تولية الوصيّ على أولادها عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة لأنّه لا ولاية لها على أولادها في حال حياتها ، فلا يكون لها حقّ إقامة خليفةٍ عنها في حال وفاتها .
وقال المالكيّة : للأمّ الحقّ في الإيصاء على أولادها ، إذا توافرت هذه الشّروط الثّلاثة :
- 1 - أن يكون مال الأولاد موروثاً عن الأمّ ، فإن كان غير موروثٍ عنها ، فليس لها الإيصاء فيه .
- 2 - أن يكون المال الموروث عنها قليلاً ، فإن كان كثيراً فلا يكون لها الإيصاء عليه ، والمعوّل عليه في اعتبار المال قليلاً أو كثيراً هو العرف ، فما اعتبر في عرف النّاس كثيراً كان كثيراً ، وما اعتبر في عرفهم قليلاً كان قليلاً .
- 3 - ألاّ يكون للأولاد أب ، أو وصيّ من الأب أو القاضي ، فإن وجد واحد من هؤلاء فليس للأمّ حقّ الإيصاء عليهم .
من تكون عليه الوصاية :
10 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الوصاية تكون على الصّغار ومن في حكمهم ، وهم المجانين والمعتوهون من الجنسين ، لأنّهم يحتاجون إلى من يرعى شؤونهم في التّعليم والتّأديب والتّزويج إن احتاجوا إليه ، وإذا كان لهم مال احتاجوا إلى من يقوم بحفظه وصيانته واستثماره .
شروط الوصيّ :
11 - اشترط الفقهاء في الموصى إليه شروطاً لا يصحّ الإيصاء إلاّ بتوافرها ، وهذه الشّروط بعضها اتّفق الفقهاء على اشتراطها ، وبعضها اختلفوا في اشتراطه .
أمّا الشّروط الّتي اتّفقوا على اشتراطها فهي :
- 1 - العقل والتّمييز ، وعلى هذا لا يصحّ الإيصاء إلى المجنون والمعتوه والصّبيّ غير المميّز ، لأنّه لا ولاية لأحدٍ من هؤلاء على نفسه وماله ، فلا يكون له التّصرّف في شئون غيره بالطّريق الأولى .
- 2 - الإسلام ، إذا كان الموصى عليه مسلماً ، لأنّ الوصاية ولاية ، ولا ولاية لغير المسلم على المسلم ، لقول اللّه تبارك وتعالى : { ولنْ يجعلَ اللّهُ للكافرين على المؤمنين سبيلاً } وقوله سبحانه { والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضُهم أولياءُ بعضٍ } ولأنّ الاتّفاق في الدّين باعث على العناية وشدّة الرّعاية بالموافق فيه ، كما أنّ الاختلاف في الدّين باعث في الغالب على ترك العناية بمصالح المخالف فيه .
- 3 - قدرة الموصى إليه على القيام بما أوصي إليه فيه ، وحسن التّصرّف فيه ، فإن كان عاجزاً عن القيام بذلك ، لمرضٍ أو كبر سنٍّ أو نحو ذلك ، فلا يصحّ الإيصاء إليه ، لأنّه لا مصلحة ترجى من الإيصاء إلى من كان هذا حاله .
وأمّا الشّروط الّتي اختلفوا فيها فهي :
- 1 - البلوغ ، فهو شرط في الموصى إليه عند المالكيّة والشّافعيّة وهو الصّحيح عند الحنابلة ، فلا يصحّ الإيصاء إلى الصّبيّ المميّز ، لأنّ غير البالغ لا ولاية له على نفسه ولا على ماله ، فلا تكون له الولاية على غيره وماله ، كالصّبيّ غير المميّز والمجنون .
وقال الحنفيّة : بلوغ الموصى إليه ليس شرطاً في صحّة الإيصاء إليه ، بل الشّرط عندهم هو التّمييز ، وعلى هذا : لو أوصى الأب أو الجدّ إلى الصّبيّ العاقل كان الإيصاء صحيحاً عندهم ، وللقاضي أن يخرجه من الوصاية ، ويعيّن وصيّاً آخر بدلاً منه ، لأنّ الصّبيّ لا يهتدي إلى التّصرّف ، ولو تصرّف قبل الإخراج ، قيل ينفذ تصرّفه ، وقيل لا ينفذ تصرّفه ، وهو الصّحيح ، لأنّه لا يمكن إلزامه بالعهدة فيه .
وخرّج القاضي وجهاً في مذهب أحمد بصحّة الوصيّة إلى الصّبيّ العاقل ، لأنّ أحمد قد نصّ على صحّة وكالته ، وعلى هذا يعتبر أن يكون قد جاوز العشر .
- 2 - العدالة ، والمراد بها : الاستقامة في الدّين ، وتتحقّق بأداء الواجبات الدّينيّة ، وعدم ارتكاب كبيرةٍ من الكبائر ، كالزّنى وشرب الخمر وما أشبه ذلك ، فقد ذهب الشّافعيّة ، وهو رواية عن الإمام أحمد إلى أنّ الوصيّة إلى غير العدل - وهو الفاسق - لا تصحّ ، لأنّ الوصاية ولاية وائتمان ، ولا ولاية ولا ائتمان لفاسقٍ .
وقال الحنفيّة : العدالة ليست بشرطٍ في الموصى إليه ، فيصحّ عندهم الإيصاء للفاسق متى كان يحسن التّصرّف ، ولا يخشى منه الخيانة . ويوافق الحنفيّة في ذلك المالكيّة ، حيث إنّهم قالوا : المراد بالعدالة الّتي هي شرط في الوصيّ : الأمانة والرّضى فيما يشرع فيه ويفعله ، بأن يكون حسن التّصرّف ، حافظاً لمال الصّبيّ ، ويتصرّف فيه بالمصلحة . وقد روي عن أحمد ما يدلّ على أنّ الوصيّة إلى الفاسق صحيحة ، فإنّه قال في رواية ابن منصورٍ : إذا كان ( يعني الوصيّ ) متّهماً لم تخرج من يده . وهذا يدلّ على صحّة الوصيّة إليه ، ويضمّ الحاكم إليه أميناً . أمّا الذّكورة فإنّها ليست بشرطٍ في الوصيّ ، فيصحّ الإيصاء إلى المرأة باتّفاق الفقهاء ، وقد روي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه أوصى إلى ابنته حفصة ، ولأنّ المرأة من أهل الشّهادة كالرّجل ، فتكون أهلاً للوصاية مثله .
الوقت المعتبر لتوافر الشّروط في الموصى إليه :
12 - اختلف الفقهاء في الوقت المعتبر لتوافر الشّروط المطلوبة في الموصى إليه ، فذهب الشّافعيّة في الأصحّ عندهم ، وهو أحد وجهين عند الحنابلة إلى أنّ الوقت المعتبر لتحقّق الشّروط في الموصى إليه أو عدم تحقّقها هو وقت وفاة الموصي ، لأنّ هذا الوقت هو وقت اعتبار القبول وتنفيذ الإيصاء ، فيكون هو المعتبر دون غيره ، وعلى هذا لو انتفت الشّروط كلّها أو بعضها عند الإيصاء ، ثمّ وجدت عند الموت ، صحّ الإيصاء ، ولو تحقّقت الشّروط كلّها عند الإيصاء ، ثمّ انتفت أو انتفى بعضها عند الموت ، فلا يصحّ الإيصاء .
وهذا الرّأي أيضاً هو رأي الحنفيّة والمالكيّة ، وإن لم نجده منصوصاً عليه في كتبهم الّتي رجعنا إليها ، وذلك بناءً على ما قالوه في اشتراط ألاّ يكون الموصى له بالمال وارثاً للموصي ، فإنّهم نصّوا على أنّ الوقت المعتبر لتحقّق هذا الشّرط أو عدم تحقّقه هو وقت وفاة الموصي ، لا وقت الوصيّة ، وهذا يدلّ دلالةً واضحةً على أنّ وقت الموت هو أيضاً المعتبر عندهم في الشّروط الواجب توافرها في الوصيّ إليه لصحّة الإيصاء .
وفي الوجه الثّاني عند الحنابلة ، ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة ، الوقت المعتبر لتحقّق هذه الشّروط أو عدم تحقّقها هو وقت الإيصاء ووقت وفاة الموصي جميعاً ، أمّا وجه اعتبار وجودها عند الإيصاء فلأنّها شروط لصحّة عقد الإيصاء ، فاعتبر وجودها حال وجوده ، كسائر العقود . وأمّا وجه اعتبار وجودها عند الموت ، فلأنّ الموصى إليه إنّما يتصرّف بعد موت الموصي ، فاعتبر وجودها عنده ، كالإيصاء له بشيءٍ من المال .
سلطة الوصيّ :
13 - سلطة الوصيّ إنّما تكون على حسب الإيصاء عموماً وخصوصاً ، فإن كان الإيصاء خاصّاً بشيءٍ ، كقضاء الدّيون أو اقتضائها ، أو ردّ الودائع أو استردادها ، أو النّظر في أمر الأطفال ومن في حكمهم ، كانت سلطة الوصيّ مقصورةً على ما أوصي إليه فيه ، لا تتعدّاه إلى غيره . وإن كان الإيصاء عامّاً ، كأن قال الموصي : أوصيت إلى فلانٍ في كلّ أموري ، كانت سلطة الوصيّ شاملةً لجميع التّصرّفات ، كقضاء الدّيون واقتضائها ، وردّ الودائع واستردادها ، وحفظ أموال الصّغار والتّصرّف فيها ، وتزويج من احتاج إلى الزّواج من أولاده . وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة ، لأنّ الوصيّ يتصرّف بالإذن من الموصي كالوكيل . فإن كان الإذن خاصّاً كانت سلطته مقصورةً على ما أذن فيه ، وإن كان الإذن عامّاً كانت سلطته عامّةً ، وقد استثنى الشّافعيّة من ذلك تزويج الصّغير والصّغيرة ، فقالوا : لا يصحّ الإيصاء بتزويجهما ، لأنّ الصّغير والصّغيرة لا يزوّجهما إلاّ الأب أو الجدّ ، ولأنّ الوصيّ لا يتعيّر بدخول الدّنيّ في نسبهم .
وقال أبو حنيفة ، وهو المفتى به في المذهب : إنّ الإيصاء الصّادر من الأب يكون عامّاً ، ولا يقبل التّخصيص بنوعٍ أو مكان أو زمانٍ ، لأنّ الوصيّ قائم مقام الأب ، وولاية الأب عامّة ، فكذلك من يقوم مقامه ، ولأنّه لولا ذلك لاحتجنا إلى تعيين وصيٍّ آخر ، والموصي قد اختار هذا وصيّاً في بعض أموره ، فجعله وصيّاً في الكلّ أولى من غيره ، لأنّه رضي بتصرّف هذا في البعض ، ولم يرض بتصرّف غيره في شيءٍ أصلاً ، وعلى هذا : لو أوصى الأب إلى رجلٍ بتفريق ثلث ماله في وجوه الخير مثلاً ، صار وصيّاً عامّاً على أولاده وتركته ، ولو أوصى إلى رجلٍ بقضاء دينه ، وإلى آخر بتنفيذ وصيّتة ، كانا وصيّين في كلّ شيءٍ عند أبي حنيفة .
حكم عقود الوصيّ وتصرّفاته :
14 - القاعدة العامّة في عقود الوصيّ وتصرّفاته : أنّ الوصيّ مقيّد في تصرّفه بالنّظر والمصلحة لمن في وصايته ، وعلى هذا لا يكون للوصيّ سلطة مباشرة التّصرّفات الضّارّة ضرراً محضاً كالهبة ، أو التّصدّق ، أو البيع والشّراء بغبنٍ فاحشٍ ، فإذا باشر الوصيّ تصرّفاً من هذه التّصرّفات كان تصرّفه باطلاً ، لا يقبل الإجازة من أحدٍ ، ويكون له سلطة مباشرة التّصرّفات النّافعة نفعاً محضاً ، كقبول الهبة والصّدقة والوصيّة والوقف ، والكفالة للمال . ومثل هذا : التّصرّفات الدّائرة بين النّفع والضّرر كالبيع والشّراء والإجارة والاستئجار والقسمة والشّركة ، فإنّ للوصيّ أن يباشرها ، إلاّ إذا ترتّب عليها ضرر ظاهر ، فإنّها لا تكون صحيحةً .
هذا مجمل القول في عقود الوصيّ وتصرّفاته ، أمّا تفصيل القول فيها فهو كما يأتي :
أ - يجوز للوصيّ أن يبيع من أموال من في وصايته ، وأن يشتري لهم ، ما دام البيع أو الشّراء بمثل القيمة أو بغبنٍ يسيرٍ ، وهو ما يتغابن فيه النّاس عادةً ، لأنّ الغبن اليسير لا بدّ من حصوله في المعاملات الماليّة ، فإذا لم يتسامح فيه أدّى ذلك إلى سدّ باب التّصرّفات . أمّا إذا كان البيع أو الشّراء بغبنٍ فاحشٍ ، وهو ما لا يتغابن فيه النّاس عادةً ، فإنّ العقد لا يكون صحيحاً . وهذا إذا كان المبيع منقولاً ، أمّا إن كان عقاراً فلا يجوز للوصيّ أن يبيعه ، إلاّ إذا كان هناك مسوّغ شرعيّ ، لأنّ العقار محفوظ بنفسه ، فلا حاجة إلى بيعه إلاّ إذا وجد مسوّغ شرعيّ ، كأن يكون بيع العقار خيراً من بقائه ، وذلك في الحالات الآتية :
- 1 - أن يرغب شخص في شراء العقار بضعف قيمته أو أكثر ، فإنّ الوصيّ في هذه الحالة ، يستطيع أن يشتري بالثّمن عقاراً أنفع من الّذي باعه .
- 2 - أن تكون ضريبة العقار وما يصرف عليه للصّيانة أو الزّراعة تزيد على غلّاته .
- 3 - أن يكون الصّغار ومن في حكمهم في حاجةٍ إلى النّفقة ، ولا سبيل إلى تدبير ذلك إلاّ ببيع العقار المملوك لهم ، فيسوغ للوصيّ أن يبيع منه قدر ما يكفي للإنفاق عليهم .
ومثل ذلك بيع وصيّ الأب أو الجدّ مال نفسه للموصى عليهم ، أو شراء مال نفسه لهم ، فإنّه لا يجوز إلاّ إذا كان في البيع والشّراء منفعة ظاهرة للموصى عليهم ، كأن يبيع العقار لهم بنصف القيمة ، ويشتريه منهم بضعف قيمته ، وفي غير العقار : أن يبيع لهم ما يساوي خمسة عشر بعشرةٍ ، ويشتري ما يساوي عشرةً بخمسة عشر ، وهذا على القول المفتى به في مذهب الحنفيّة ، وهو رأي الإمام أبي حنيفة . وقال الأئمّة الثّلاثة ، ومحمّد ، وأبو يوسف في أظهر الرّوايتين عنه : لا يجوز للوصيّ أن يبيع أو يشتري شيئاً من مال الموصى عليهم مطلقاً ، وذلك لعدم وفور شفقته ، ممّا يجعله يؤثر مصلحة نفسه على مصلحة من في وصايته ، ولأنّه متّهم في هذا التّصرّف . ونصّ المالكيّة على أنّ الوصيّ إذا اشترى لنفسه شيئاً من مال الموصى عليهم ، نظر الحاكم فيه ، فإن وجد في شرائه مصلحةً ، بأن اشترى المبيع بقيمته أمضاه ، وإن لم يجد فيه مصلحةً ردّه . وللوصيّ اقتضاء الدّين ممّن هو عليه ، وله تأخير اقتضاء الدّين الحالّ إن كان في تأخيره مصلحة .
ب - وله أن يدفع مال من في وصايته لمن يستثمره استثماراً شرعيّاً ، كالمضاربة والمشاركة وغيرهما من كلّ ما لهم فيه خير ومنفعة .
كما أنّ له أن يقوم بالاتّجار فيه بنفسه ، في نظير جزءٍ من الرّبح عند الحنفيّة .
وقال المالكيّة : يكره للوصيّ استثمار مال من في وصايته بجزءٍ من الرّبح ، لئلاّ يحابي نفسه ، فإن استثمره مجّاناً فلا يكره ، بل هو من المعروف الّذي يقصد به وجه اللّه .
وقال الحنابلة : متى اتّجر الوصيّ في المال بنفسه ، فالرّبح كلّه لليتيم على الصّحيح . واستثمار مال الصّغار ومن في حكمهم واجب على الوصيّ عند الشّافعيّة ، لقول عمر رضي الله تعالى عنه :" ابتغوا في أموال اليتامى ، لا تأكلها الصّدقة "
ومندوب أو مستحبّ عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، لأنّ فيه خيراً ونفعاً لأصحاب المال ، والشّرع يحثّ على فعل ما فيه الخير للنّاس ، ولم يوجد ما يدلّ على الوجوب ، والأمر بالاتّجار في قول عمر محمول على النّدب ، كما قال ابن رشدٍ .
ج - وللوصيّ الإنفاق على الصّغار ومن في حكمهم بحسب قلّة المال وكثرته بالمعروف ، فلا يضيق على صاحب المال الكثير دون نفقة مثله ، ولا يوسّع على صاحب المال القليل بأكثر من نفقة مثله . وله أن يدفع ما يحتاجون إليه من النّفقة إليهم أو إلى من يكونون في حضانته لمدّة شهرٍ ، إذا علم أنّهم لا يتلفونه ، فإن خاف إتلافه دفع إليهم ما يحتاجونه يوماً فيوماً . ونصّ الحنفيّة على أنّ الوصيّ لا يضمن ما أنفقه في المصاهرات بين اليتيم واليتيمة وغيرهما في خلع الخاطب أو الخطيبة ، وفي الضّيافات المعتادة ، والهدايا المعهودة ، وفي الأعياد - وإن كان له منه بدّ - وفي اتّخاذ ضيافةٍ لختنه للأقارب والجيران ، ما لم يسرف فيه ، وكذا لمؤدّبه ، ومن عنده من الصّبيان ، فإن أسرف كان ضامناً لما أسرف فيه .
كما نصّوا على أنّ للوصيّ أن ينفق على اليتيم ما يحتاج إليه في تعليم القرآن والأدب ، إن كان أهلاً لذلك ، وصار الوصيّ مأجوراً على تصرّفه ، فإن لم يكن أهلاً لهذا التّعلّم فعليه أن يتكلّف في تعليمه قدر ما يقرأ في صلاته . وفي المغني : يجوز للوصيّ أن يلحق الصّبيّ بالمكتب ليتعلّم القراءة والكتابة ، ولا يحتاج إلى إذن حاكمٍ ، وكذلك يجوز له أن يسلّمه في صناعةٍ ، إذا كانت مصلحته في ذلك .
د - وللوصيّ أن يحتال بدين من في وصايته إذا كان المحال عليه أملأ من المدين الأصليّ ، فإن كان أعسر منه لم يجز ، لأنّ ولايته مقيّدة بالنّظر ، وليس من النّظر قبول الحوالة على الأعسر .
هـ - ولا يجوز للوصيّ باتّفاق الفقهاء أن يهب شيئاً من مال الصّغير ومن في حكمه ، ولا أن يتصدّق ، ولا أن يوصي بشيءٍ منه ، لأنّها من التّصرّفات الضّارّة ضرراً محضاً ، فلا يملكها الوصيّ ، ولا الوليّ ولو كان أباً .
و - وكذلك لا يجوز له أن يقرض مال الصّغير ونحوه لغيره ، ولا أن يقترضه لنفسه ، لما في إقراضه من تعطيل المال عن الاستثمار ، والوصيّ مأمور بتنميته بقدر الإمكان .
وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة . وقال الشّافعيّة : لا يجوز الإقراض بلا ضرورةٍ إلاّ بإذن القاضي . وقيّد الحنابلة عدم جواز الإقراض بما إذا لم يكن فيه حظّ لليتيم ، فمتى أمكن الوصيّ التّجارة به أو تحصيل عقارٍ له فيه الحظّ لم يقرضه ، وإن لم يمكن ذلك وكان في إقراضه حظّ لليتيم جاز ، كأن يكون لليتيم مال مثلاً يريد نقله إلى بلدٍ آخر ، فيقرضه لرجلٍ ليقضيه بدله في البلد الآخر ، يقصد حفظه من الغرر في نقله ، أو يخاف عليه الهلاك من نهبٍ أو غرقٍ أو نحوهما ، أو يكون ممّا يتلف بتطاول مدّته ، أو يكون حديثه خيراً من قديمه كالحنطة . فإن لم يكن فيه حظّ ، وإنّما قصد إرفاق المقترض وقضاء حاجته ، فهذا غير جائزٍ .
النّاظر على الوصيّ ، ومهمّته :
15 - النّاظر على الوصيّ هو الشّخص الّذي يعيّنه الموصي أو القاضي لمراقبة أعمال الوصيّ وتصرّفاته المتعلّقة بالوصاية ، دون أن يشترك معه في إجرائها ، وذلك لضمان قيام الوصيّ بعمله على الوجه الأكمل . وتسميته بهذا الاسم اصطلاح الحنفيّة والمالكيّة ، ويسمّيه المالكيّة أيضاً والشّافعيّة : مشرفاً ، أمّا الحنابلة فيسمّونه : أميناً .
ومهمّة المشرف أن يراقب الوصيّ في إدارة مال الصّغار ومن في حكمهم ، وتصرّفاته فيه . وعلى الوصيّ أن يجيب المشرف إلى كلّ ما يطلبه من إيضاحٍ عن إدارته وتصرّفاته ، كي يتمكّن من القيام بمهمّته الّتي عيّن من أجلها ، وليس للمشرف حقّ الاشتراك في الإدارة ولا الانفراد بالتّصرّف ، وإذا خلا مكان الوصيّ كان عليه أن يرعى مال الصّغير ويحفظه إلى أن يعيّن وصيّ جديد .
تعدّد الأوصياء :
16 - الإيصاء قد يكون لواحدٍ ، وقد يكون لأكثر من واحدٍ . فإذا كان الإيصاء لأكثر من واحدٍ وصدر الإيصاء في عقدٍ واحدٍ ، بأن قال الموصي : أوصيت إلى فلانٍ وفلانٍ ، وقبل كلّ منهما الوصاية صار وصيّاً ، وكذلك إذا حصل الإيصاء إلى كلٍّ منهما بعقدٍ على حدةٍ ، بأن أوصى إلى رجلٍ ، ثمّ أوصى إلى رجلٍ آخر ، فإنّهما يكونان وصيّين ، إلاّ إذا قال الموصي : أخرجت الأوّل أو عزلته ، أمّا إذا وجدت الوصيّة إليهما بعقدين من غير عزل واحدٍ منهما ، فإنّهما يكونان وصيّين ، كما لو أوصى إليهما دفعةً واحدةً .
فإذا تعدّد الأوصياء ، وحدّد الموصي لكلّ واحدٍ اختصاصه ، بأن عهد إلى أحد الأوصياء القيام بشئون الأراضي ، وإلى آخر بشئون المتجر ، أو المصنع ، وإلى ثالثٍ بالنّظر في أمر أطفاله ، وفي هذه الحالة يكون لكلٍّ منهم ما جعل إليه دون غيره .
وكذلك لو أوصى إلى وصيّين في شيءٍ واحدٍ ، وجعل لكلّ واحدٍ منهما التّصرّف منفرداً ، بأن يقول : أوصيت إلى كلّ واحدٍ منكما بالنّظر في أمر أطفالي ، ولكلٍّ منكما أن ينفرد بالتّصرّف ، كان لكلّ وصيٍّ أن ينفرد بالتّصرّف ، لأنّ الموصي جعل كلّ واحدٍ منهما وصيّاً منفرداً ، وهذا يقتضي صحّة تصرّفه على الانفراد .
أمّا لو أوصى إلى وصيّين ليتصرّفا مجتمعين ، فليس لواحدٍ منهما الانفراد بالتّصرّف ، فلو تصرّف أحدهما بدون الآخر أو توكيلٍ منه كان له ردّ تصرّفه ، لأنّ الموصي لم يجعل ذلك إليه ، ولم يرض بنظره وحده ، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء إلاّ في الصّورة الأولى ، وهي ما إذا خصّص لكلّ وصيٍّ عملاً ، فإنّ أبا حنيفة يقول : إنّ الوصاية لا تتخصّص بالتّخصيص من الموصي ، بل يكون الوصيّ وصيّاً فيما يملكه الموصي ، كما تقدّم في الكلام على سلطة الوصيّ . وإذا تعدد الأوصياء ، وكان الإيصاء مطلقاً عن التّخصيص أو التّقييد بالانفراد أو الاجتماع ، بأن قال : أوصيت إليكما بالنّظر في شئون أطفالي مثلاً ، فللفقهاء في ذلك ثلاثة آراءٍ . فأبو حنيفة ومحمّد يقولان : ليس لأحد الوصيّين الانفراد بالتّصرّف ، إلاّ أنّهما استثنيا من ذلك بعض التّصرّفات ، فأجازا لكلّ واحدٍ الانفراد بها للضّرورة ، لأنّها تصرّفات عاجلة لا تحتمل التّأخير ، أو لأنّها لازمة لحفظ المال ، أو لأنّ اجتماع الرّأي فيها متعذّر ، كتجهيز الميّت وقضاء دينه ، وردّ المغصوب المعيّن ، وردّ الوديعة وتنفيذ الوصيّة المعينتين ، وشراء ما لا بدّ للصّغير منه كالطّعام والكسوة ، وقبول الهبة له ، والخصومة عن الميّت فيما يدعى له أو عليه ، ونحو ذلك ممّا يشقّ الاجتماع عليه ، أو يضرّ تأخيره .
ومذهب الشّافعيّة قريب ممّا ذهب إليه أبو حنيفة ومحمّد ، فإنّهم قالوا : إذا أوصى إلى اثنين ولم يجعل لكلٍّ منهما الانفراد بالتّصرّف لم ينفرد أحدهما بالتّصرّف ، بل لا بدّ من اجتماعهما فيه ، وهذا في أمر الأطفال وأموالهم ، وتفرقة الوصايا غير المعيّنة ، وقضاء دينٍ ليس في التّركة جنسه . وأمّا ردّ الأعيان المستحقّة كالمغصوب والودائع والأعيان الموصى بها وقضاء دينٍ في التّركة جنسه ، فلأحدهما الاستقلال به .
وحجّة أصحاب هذا الرّأي أنّ الوصاية إنّما تثبت بالتّفويض من الموصي ، فيراعى وصف هذا التّفويض ، وهو الاجتماع ، لأنّه وصف مفيد ، إذ رأي الواحد لا يكون كرأي الاثنين ، والموصي ما رضي إلاّ برأيهما ، بدليل اختياره لأكثر من واحدٍ ، فإنّه يدلّ دلالةً ظاهرةً على أنّ الغرض من ذلك اجتماع رأيهما واشتراكهما في التّصرّفات ، حتّى تكون أصلح وأنفع من التّصرّفات الّتي ينفرد بها وصيّ واحد ، وإنّما جاز انفراد أحدهما في التّصرّفات المستثناة لأنّها ضروريّات ، والضّروريّات مستثناة دائماً .
ويرى المالكيّة والحنابلة : أنّه ليس لأحدٍ الوصيّين الانفراد بالتّصرّف ، وهذا في جميع الأشياء ، فإن تعذّر اجتماعهما فالحاكم - كما نصّ على ذلك الحنابلة - يقيم أميناً مقام الغائب . وحجّتهم في ذلك : أنّ الموصي قد شرّك بين الوصيّين في النّظر ، فلم يكن لأحدهما الانفراد في التّصرّف ، كالوكيلين ، فإنّه ليس لأحدهما أن يتصرّف بدون الآخر ، فكذلك الوصيّان . وقال أبو يوسف : لكلٍّ من الوصيّين أن ينفرد بالتّصرّف في جميع الأشياء ، وحجّته في ذلك : أنّ الوصاية من قبيل الولاية ، وهي وصف شرعيّ لا يتجزّأ ، فتثبت لكلٍّ من الوصيّين على وجه الكمال ، كولاية الإنكاح إلى الأخوين ، فإنّها تثبت لكلٍّ منهما على وجه الكمال ، فكذلك الوصاية تثبت لكلٍّ من الوصيّين على وجه الكمال ، لأنّ كلّاً منهما ولاية . ولو مات أحد الوصيّين اللّذين لم يجعل لكلٍّ منهما التّصرّف منفرداً جعل القاضي مكانه آخراً ، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لأنّ الوصيّ لمّا أوصى إلى الاثنين لم يرض بنظر الباقي منهما وحده .
وقال المالكيّة : لو مات أحد الوصيّين ، ولم يوص قبل موته إلى صاحبه أو إلى غيره ، كان للحاكم أن ينظر فيما فيه الأصلح ، فإن رأى الأصلح في إبقاء الحيّ منهما وصيّاً وحده لم يجعل معه وصيّاً آخر ، وإن رأى الأصلح في جعل غيره وصيّاً معه جعل معه غيره .
الأجر على الوصاية :
17 - يجوز للوصيّ أن يأخذ أجراً على نظره وعمله ، لأنّ الوصيّ كالوكيل ، والوكيل يجوز له أخذ الأجر على عمله ، فكذلك الوصيّ ، بهذا قال الحنابلة ، وبه أيضاً قال المالكيّة ، فإنّهم نصّوا على أنّ الوصيّ إذا طلب أجرةً على نظره في مال اليتيم ، فعلى القاضي أن يفرض له أجرةً على نظره بقدر شغله في مال اليتيم وشراء نفقته . فإن تورّع عن ذلك فهو خير له . كما نصّوا على أنّ للقاضي أن يفرض للوصيّ أجرةً على نظره إذا كان ذلك سداداً للأيتام . وقال الشّافعيّة : إذا كان النّاظر في أمر الطّفل أجنبيّاً ، فله أن يأخذ من مال الطّفل قدر أجرة عمله ، فإن أخذ أكثر من ذلك ضمن ما أخذه ، ولو لكفايته ، وإن كان أباً أو جدّاً ، أو أمّاً - بحكم الوصيّة لها - فلا يأخذ من ماله شيئاً إن كان غنيّاً ، فإن كان فقيراً فنفقته على الطّفل ، وله أن ينفق على نفسه من ماله بالمعروف ، ولا يحتاج إلى إذن حاكمٍ .
أمّا الحنفيّة فالصّحيح عندهم أنّ الوصيّ إن كان وصيّ الميّت فليس له أجر على وصيّته ، وإن كان وصيّ القاضي ، فللقاضي أن يجعل له أجر المثل على وصيّته .
ومع هذا فقد أجازوا للوصيّ أن يأكل من مال اليتيم إذا كان محتاجاً ، ويركب دابّته إذا ذهب في حاجته ، لقول اللّه تعالى : { ومن كانَ فقيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } ، ولما روي أنّ رجلاً جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : « إنّ عندي يتيماً عنده مال ، وليس لي مال ، آكل من ماله ؟ قال : كُلْ بالمعروف غيرَ مُسْرِفٍ » .
انتهاء الوصاية :
18 - تنتهي الوصاية بأحد الأمور الآتية :
- 1 - موت الوصيّ ، أو فقده لشرطٍ من الشّروط المعتبرة فيه ، فإن مات الوصيّ ، أو فقد شرطاً من الشّروط الواجب توافرها لصحّة الإيصاء ، كالإسلام والعقل وغيرهما انتهت وصايته باتّفاق الفقهاء ، لأنّ هذه الشّروط كما تعتبر في الابتداء تعتبر في الدّوام والبقاء .
- 2 - انتهاء مدّة الوصاية ، فإذا أقّتت الوصاية بمدّةٍ ، كأن قال الموصي : أوصيت إلى فلانٍ لمدّة سنةٍ ، أو قال : أوصيت إلى فلانٍ مدّة غياب ولدي فلانٍ ، أو إلى أن يصير رشيداً ، فإذا حضر أو رشد فهو وصيّي ، فإنّ الإيصاء ينتهي إذا حضر ولده ، أو صار رشيداً ، لأنّ الإيصاء كالإمارة ، والإمارة يصحّ توقيتها وتعليقها على الشّرط ، فكذلك الإيصاء ، ولأنّ الإيصاء مؤقّت شرعاً ببلوغ الأيتام أو إيناس الرّشد ، فجاز أن يكون مؤقّتاً بالشّرط ، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء أيضاً .
-3- عزل الوصيّ نفسه ، فلو عزل الوصيّ نفسه بعد موت الموصي وقبول الإيصاء ، انتهت وصايته ، وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة . أمّا عند الحنفيّة والمالكيّة ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، فإنّ الوصيّ ليس له عزل نفسه عن الإيصاء بعد موت الموصي وقبوله إيّاه إلاّ لعذرٍ ، وقد تقدّم الكلام عن ذلك في حكم الإيصاء .
- 4 - انتهاء العمل الّذي عهد إلى الوصيّ القيام به ، فإن كان هذا العمل هو قضاء الدّيون الّتي على الميّت ، أو اقتضاء ديونه الّتي له على غيره ، أو توزيع وصاياه على الموصى لهم بها ، انتهت الوصاية بدفع الدّيون إلى أصحابها ، أو بأخذها ممّن كانت عليهم ، أو بإعطاء الوصايا لمن أوصى لهم بها .
وإن كان هذا العمل هو النّظر في شئون الأولاد الصّغار وأموالهم ، انتهت هذه الوصاية ببلوغ الصّغير عاقلاً رشيداً ، بحيث يؤتمن في إدارة أمواله ، والتّصرّف فيها ، ولم يحدّد جمهور الفقهاء لهذا الرّشد سنّاً معيّنةً يحكم بزوال الوصاية عن القاصر متى بلغها ، بل هو موكول إلى ظهوره بالفعل ، وذلك عن طريق الاختبار والتّجربة ، فإذا دلّت التّجربة على تحقّق الرّشد حكم برشده ، وسلّمت إليه أمواله باتّفاق الفقهاء لقول اللّه تعالى : { وابْتَلُوا اليتامى حتّى إذا بَلَغُوا النّكاحَ فإنْ آنَسْتُم منهم رُشْداً فادْفَعُوا إليهم أموالَهم } .
وإذا بلغ غير رشيدٍ وكان عاقلاً لا تكمل أهليّته ، ولا ترتفع الولاية أو الوصاية عنه في ماله ، بل تبقى أمواله تحت يد وليّه أو وصيّه حتّى يثبت رشده ، وذلك لقول اللّه تعالى : { ولا تُؤْتُوا السّفهاءَ أموالَكم الّتي جَعَلَ اللّهُ لكم قياماً وارْزُقوهم فيها واكْسُوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً وابْتَلوا اليتامى حتّى إذا بَلَغُوا النّكاحَ فإِن آنستم منهم رُشْداً فادفعوا إليهم أموالَهم } ، فإنّه منع الأولياء والأوصياء من دفع المال إلى السّفهاء ، وأناط دفع المال إليهم بحصول أمرين : البلوغ والرّشد . فلا يجوز أن يدفع إليهم بالبلوغ ، مع عدم الرّشد ، وليس في هذا النّصّ ولا في غيره تحديد للرّشد بسنٍّ معيّنةٍ ، بل هو موكول إلى ظهوره بالفعل ، وذلك عن طريق الاختبار والتّجربة ، فإن دلّت على تحقّق الرّشد كملت أهليّته ، وسلّمت إليه أمواله ، وإلاّ بقيت الولاية عليه ، وبقيت أمواله تحت يد وليّه أو وصيّه ، كما كانت قبل البلوغ مهما طال الزّمن . وقال أبو حنيفة : إذا بلغ الصّغير غير رشيدٍ - وكان عاقلاً - كملت أهليّته ، وارتفعت الولاية أو الوصاية عنه ، إلاّ أنّه لا تسلّم إليه أمواله ، بل تبقى في يد وليّه أو وصيّه حتّى يثبت رشده بالفعل ، أو يبلغ خمساً وعشرين سنةً ، فإذا بلغ هذه السّنّ سلّمت إليه أمواله ، ولو كان مبذّراً لا يحسن التّصرّف ، لأنّ منع المال عنه كان على سبيل الاحتياط والتّأديب ، وليس على سبيل الحجر عليه ، والإنسان بعد بلوغ هذه السّنّ ، وصلاحيّته لأن يكون جدّاً ، لا يكون أهلاً للتّأديب .
إيفاء *
انظر : وفاء .
إيقاظ *
التّعريف :
1 - الإيقاظ في اللّغة مصدر أيقظه : إذا نبّهه من نومه ولا يختلف معناه في الفقه عنه في اللّغة .
الحكم الإجماليّ :
2 - ترد على الإيقاظ الأحكام الشّرعيّة التّالية :
- فيكون فرضاً ، إذا ترتّب على نومه ترك فرضٍ . أو كان في تركه تعريض حياته لخطرٍ محقّقٍ .
- وقد يكون واجباً ، إذا كان يغلب على الظّنّ أنّ تركه نائماً قد يعرّضه لخطرٍ ، أو يغلب على الظّنّ أنّ تركه يفوّت فرضاً عليه إن نام بعد دخول الوقت .
- وقد يكون سنةً ، كإيقاظ من نام بعد صلاة العصر أو بعد صلاة الفجر ، لورود أخبارٍ بالنّهي عن النّوم في هذين الوقتين .
- وكذلك يندب الإيقاظ لغسل يديه أو ثوبه من بقايا الطّعام - لا سيّما اللّحم - لورود النّهي عن النّوم على تلك الحال . قال صلى الله عليه وسلم : « من بات ، وفي يده غمر ، فأصابه شيء فلا يلومنّ إلاّ نفسه » .
- وكذلك إيقاظ من نام في المحراب أو في قبلة المصلّين في الصّفّ الأوّل .
- وقد يكون حراماً ، كما لو كان في إيقاظه ضرر محقّق ، كالمريض إذا نهى الطّبيب عن إيقاظه . هذا ولا بدّ من مراعاة القاعدة الشّرعيّة في دفع الضّرر الأكبر بارتكاب ما هو أخفّ منه ، لأنّه يرتكب أهون الضّررين . على أنّه إذا انتفى سبب ممّا سبق ، فإنّ الأصل كراهة إيقاظ النّائم لما فيه من الإيذاء ، ولما ورد من أخبارٍ تراعى فيها حال النّائم ، كمنع السّلام على النّائم ، وخفض الصّوت لمن يصلّي جهراً بحضرة نائمٍ .
من مواطن البحث :
3 - يذكر الفقهاء حكم الإيقاظ في كتاب الصّلاة ، حين الكلام على أوقاتها ، بمناسبة التّعرّض لكراهة النّوم قبل الصّلاة خوف تضييعها بخروج الوقت .
إيقاف *
انظر : وقف .
إيلاء *
التّعريف :
1-الإيلاء في اللّغة معناه : الحلف مطلقاً ، سواء أكان على ترك قربان الزّوجة أم على شيءٍ آخر ، مأخوذ من آلى على كذا يولي إيلاءً وأليةً : إذا حلف على فعل شيءٍ أو تركه . كان الرّجل في الجاهليّة إذا غضب من زوجته حلف ألاّ يطأها السّنة والسّنتين ، أو ألاّ يطأها أبداً ، ويمضي في يمينه من غير لومٍ أو حرجٍ ، وقد تقضي المرأة عمرها كالمعلّقة ، فلا هي زوجة تتمتّع بحقوق الزّوجة ، ولا هي مطلّقة تستطيع أن تتزوّج برجلٍ آخر ، فيغنيها اللّه من سعته . فلمّا جاء الإسلام أنصف المرأة ، ووضع للإيلاء أحكاماً خفّفت من أضراره ، وحدّد للمولي أربعة أشهرٍ ، وألزمه إمّا بالرّجوع إلى معاشرة زوجته ، وإمّا بالطّلاق عليه .
قال اللّه تعالى : { للّذين يُؤْلُون من نسائِهم تَرَبُّصُ أربعةِ أشهرٍ فإنْ فاءوا فإنّ اللّه غفور رحيم وإنْ عَزَمُوا الطّلاقَ فإنّ اللّه سميعٌ عليمٌ } .
والإيلاء في الاصطلاح - يعرّفه الحنفيّة - أن يحلف الزّوج باللّه تعالى ، أو بصفةٍ من صفاته الّتي يحلف بها ، ألاّ يقرب زوجته أربعة أشهرٍ أو أكثر ، أو أن يعلّق على قربانها أمراً فيه مشقّة على نفسه ، وذلك كأن يقول الرّجل لزوجته : واللّه لا أقربك أربعة أشهرٍ ، أو ستّةً ، أو يقول : واللّه لا أقربك أبداً ، أو مدّة حياتي ، أو واللّه لا أقربك ولا يذكر مدّةً ، وهذه صورة الحلف باللّه تعالى ، أمّا صورة التّعليق ، فهو أن يقول : إن قربتك فللّه عليّ صيام شهرٍ ، أو حجّ ، أو إطعام عشرين مسكيناً ، ونحو ذلك ممّا يكون فيه مشقّة على النّفس ، فإذا قال الزّوج شيئاً من هذا اعتبر قوله إيلاءً . أمّا إذا امتنع الرّجل من قربان زوجته بدون يمينٍ ، فإنّه لا يكون إيلاءً ، ولو طالت مدّة الامتناع حتّى بلغت أربعة أشهرٍ أو أكثر ، بل يعتبر سوء معاشرةٍ يتيح لزوجته طلب الفرقة عند بعض الفقهاء ، إذا لم يكن هناك عذر يمنع من قربانها . وكذلك لو حلف الزّوج بغير اللّه تعالى كالنّبيّ والوليّ ألاّ يقرب زوجته ، فإنّه لا يكون إيلاءً ، لأنّ الإيلاء يمين ، والحلف بغير اللّه تعالى ليس يميناً شرعاً ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من كان حالفاً فليحلف باللّه أو ليصمت » .
ومثل هذا لو علّق الرّجل على قربان زوجته أمراً ليس فيه مشقّة على النّفس ، كصلاة ركعتين أو إطعام مسكينٍ ، لا يكون إيلاءً .
وكذلك لو كانت المدّة الّتي حلف على ترك قربان الزّوجة فيها أقلّ من أربعة أشهرٍ لا يعتبر إيلاءً ، وذلك لقول اللّه تعالى : { للّذين يُؤْلون من نسائهم تَرَبُّصُ أربعةِ أشهرٍ } فإنّه سبحانه ذكر للإيلاء في حكم الطّلاق مدّةً مقدّرةً هي أربعة أشهرٍ ، فلا يكون الحلف على ما دونها إيلاءً في حقّ هذا الحكم . وقد وافق الحنفيّة - في أنّ الإيلاء يكون بالحلف باللّه تعالى وبالتّعليق - المالكيّة ، والشّافعيّ في الجديد ، وأحمد بن حنبلٍ في روايةٍ .
وخالف في ذلك الحنابلة في الرّواية المشهورة ، فقالوا : الإيلاء لا يكون إلاّ بالحلف باللّه تعالى ، أمّا تعليق الطّلاق أو العتق أو المشي إلى بيت اللّه تعالى على قربان الزّوجة فإنّه لا يكون إيلاءً ، لأنّ الإيلاء قسم ، والتّعليق لا يسمّى قسماً شرعاً ولا لغةً ، ولهذا لا يؤتى فيه بحرف القسم ، ولا يجاب بجوابه ، ولا يذكره أهل العربيّة في باب القسم ، وعلى هذا لا يكون إيلاءً . وحجّة الحنفيّة ومن وافقهم : أنّ تعليق ما يشقّ على النّفس يمنع من قربان الزّوجة خوفاً من وجوبه ، فيكون إيلاءً كالحلف باللّه تعالى ، والتّعليق - وإن كان لا يسمّى قسماً شرعاً ولغةً - ولكنّه يسمّى حلفاً عرفاً .
ومذهب الحنفيّة أنّ الإيلاء يكون بالحلف على ترك قربان الزّوجة أربعة أشهرٍ أو أكثر . وذهب الجمهور المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الإيلاء لا يكون إلاّ بالحلف على ترك قربان الزّوجة أكثر من أربعة أشهرٍ ، وسيأتي ذكر هذه الآراء وأدلّتها في الكلام عن مدّة الإيلاء .
2 - والحكمة في موقف الشّريعة الإسلاميّة من الإيلاء هذا الموقف : أنّ هجر الزّوجة قد يكون من وسائل تأديبها ، كما إذا أهملت في شأن بيتها أو معاملة زوجها ، أو غير ذلك من الأمور الّتي تستدعي هجرها ، علّها تثوب إلى رشدها ويستقيم حالها ، فيحتاج الرّجل في مثل هذه الحالات إلى الإيلاء ، يقوّي به عزمه على ترك قربان زوجته تأديباً لها ورغبةً في إصلاحها ، أو لغير ذلك من الأغراض المشروعة . فلهذا لم تبطل الشّريعة الإسلاميّة الإيلاء جملةً ، بل أبقته مشروعاً في أصله ، ليمكن الالتجاء إليه عند الحاجة .
ركن الإيلاء :
3 - ركن الإيلاء الّذي يتوقّف تحقّق الإيلاء على وجوده هو : اللّفظ ، أو ما يقوم مقام اللّفظ على التّفصيل والخلاف المتقدّم .
والّذي يقوم مقام اللّفظ : الكتابة المستبينة ، وهي الكتابة الظّاهرة الّتي يبقى أثرها ، كالكتابة على الورق ونحوه . أمّا الكتابة غير المستبينة ، وهي الّتي لا يبقى أثرها ، كالكتابة على الهواء ، أو على الماء فلا تقوم مقام اللّفظ في ذلك ، ولا يصحّ بها الإيلاء .
ومثل الكتابة في ذلك الإشارة عند العجز عن النّطق بالعبارة ، كالأخرس ومن في حكمه . فإذا كان للأخرس إشارة مفهمة ، يعرف المتّصلون به أنّ المراد بها الحلف على الامتناع من قربان الزّوجة أربعة أشهرٍ أو أكثر ، صحّ الإيلاء بها ، كما يصحّ طلاقه وسائر تصرّفاته.
شرائط الإيلاء :
4 - شرائط الإيلاء كثيرة ومتنوّعة ، منها ما يشترط في ركن الإيلاء ، ومنها ما يشترط في الرّجل والمرأة معاً ، ومنها ما يشترط في الرّجل المولي ، ومنها ما يشترط في المدّة المحلوف عليها . وفيما يلي بيان كلّ نوعٍ منها :
أ - شرائط الرّكن :
يشترط في ركن الإيلاء ، وهو صيغته ، ثلاث شرائط :
الشّريطة الأولى :
5 - أن يكون اللّفظ صالحاً للدّلالة على معنى الإيلاء ، وذلك بأن تكون مادّة اللّفظ دالّةً على منع الزّوج من قربان زوجته دلالةً واضحةً عرفاً ، مثل قول الرّجل لزوجته : واللّه لا أواقعك ، أو لا أجامعك ، وما أشبه ذلك .
وينقسم اللّفظ الصّالح للدّلالة على الإيلاء ثلاثة أقسامٍ على ما هو مذهب الحنفيّة والحنابلة : الأوّل : صريح ، وهو ما دلّ على الوطء لغةً وعرفاً .
وحكم هذا النّوع أنّه يعتبر إيلاءً متى صدر عن قصدٍ إلى التّلفّظ به بدون توقّفٍ على النّيّة ، ولو قال الزّوج : إنّه لم يرد الإيلاء لا يعتبر قوله لا ديانةً ولا قضاءً ، لأنّ اللّفظ لا يحتمل غير الإيلاء ، فإرادة معنًى آخر خلافه تكون إرادةً محضةً بدون لفظٍ يدلّ عليها ، فلا تعتبر . الثّاني : ما يجري مجرى الصّريح ، وهو ما يستعمل في الجماع عرفاً ، كلفظ القربان والاغتسال ، وذلك كأن يحلف الرّجل ألاّ يقرب زوجته ، وبه ورد القرآن الكريم قال تعالى :
{ ولا تَقْرَبُوهنّ حتّى يَطْهُرْن } .
وكذلك لو حلف ألاّ يغتسل منها ، لأنّ الاغتسال منها لا يكون إلاّ عن الجماع عادةً .
وحكم هذا النّوع أنّه يعتبر إيلاءً في القضاء من غير توقّفٍ على النّيّة ، وعلى هذا لو قال الزّوج لزوجته : واللّه لا أقربك ، ثمّ ادّعى أنّه لم يقصد بهذا اللّفظ الجماع ، لا يقبل منه هذا الادّعاء في القضاء ، ويقبل منه ديانةً ، أي فيما بينه وبين اللّه تعالى ، لأنّ اللّفظ الّذي ورد في عبارته يحتمل المعنى الّذي ادّعاه ، وإن كان خلاف الظّاهر ، فإذا نواه فقد نوى معنًى يحتمله اللّفظ ، فتكون إرادته صحيحةً ، إلاّ أنّه لمّا كان المعنى الّذي أراده يخالف المعنى الظّاهر من ذلك اللّفظ لم يقبل منه ما ادّعاه قضاءً ، وقبل منه ديانةً .
الثّالث : الكناية ، وهو ما يحتمل الجماع وغيره ، ولم يغلب استعماله في الجماع عرفاً ، كما إذا حلف الرّجل : ألاّ يمسّ جلده جلد زوجته ، أو ألاّ يقرب فراشها ، أو ألاّ يجمع رأسه ورأسها وسادة .
وحكم هذا النّوع : أنّه لا يعتبر إيلاءً إلاّ بالنّيّة ، فإذا قال الزّوج : أردت ترك الجماع كان مولياً ، وإن قال : لم أرد ترك الجماع لم يكن مولياً ، لأنّ هذه الألفاظ تستعمل في الجماع وفي غيره استعمالاً واحداً فلا يتعيّن الجماع إلاّ بالنّيّة . ومذهب الشّافعيّة ، وهو ظاهر ما قاله المالكيّة : أنّ الألفاظ في ذلك تنقسم إلى صريحةٍ وكنايةٍ فقط .
الشّريطة الثّانية :
6 - أن تكون الصّيغة دالّةً على الإرادة الجازمة للحال ، ويتحقّق هذا الشّرط بخلوّ الصّيغة من كلّ كلمةٍ تدلّ على التّردّد أو الشّكّ . وألاّ تكون مشتملةً على أداةٍ من الأدوات الدّالّة على التّأخير والتّسويف ، كحرف السّين أو سوف ، لأنّ التّردّد كالرّفض من حيث الحكم ، والتّأخير وعد بإنشاء التّصرّف في المستقبل ، وليس إنشاءً له في الحال ، فالإرادة في التّصرّف غير موجودةٍ في الحال ، ولا يوجد التّصرّف إلاّ بإرادة إنشائه في الحال .
فمن يقول لزوجته : واللّه سأمنع نفسي من مواقعتك ، أو سوف أمنع نفسي من معاشرتك ، لا يكون مولياً لأنّ هذه الصّيغة لا تدلّ على إرادة منع نفسه من المواقعة في الحال ، وإنّما تدلّ على أنّه سيفعل ذلك في المستقبل .
هذا ، وممّا ينبغي التّنبيه له هنا أنّ اشتراط الجزم في الإرادة للحال لا ينافي جواز أن تكون الصّيغة معلّقةً على حصول أمرٍ في المستقبل ، أو مضافةً إلى زمنٍ مستقبلٍ ، وذلك لأنّ الإرادة في الإيلاء المعلّق والمضاف مقطوع بها ، لا تردّد فيها ، غاية الأمر أنّ الإيلاء المعلّق لم يحصل الجزم به من قبل المولي في الحال ، بل عند وجود المعلّق عليه ، والإيلاء المضاف مجزوم به في الحال ، غير أنّ ابتداء حكمه مؤخّر إلى الوقت الّذي أضيف إليه ، وأنّ التّعليق والإضافة قد صدرا بإرادةٍ جازمةٍ في الحال .
الشّريطة الثّالثة : صدور التّعبير عن قصدٍ :
7 - يتحقّق هذا الشّرط بإرادة الزّوج النّطق بالعبارة الدّالّة على الإيلاء أو ما يقوم مقامها ، فإذا اجتمع مع هذه الإرادة رغبة في الإيلاء وارتياح إليه كان الإيلاء صادراً عن رضًى واختيارٍ صحيحٍ ، وإن وجدت الإرادة فقط ، وانتفت الرّغبة في الإيلاء والارتياح إليه لم يتحقّق الرّضى ، وذلك كأن يكون الزّوج مكرهاً على الإيلاء من زوجته بتهديده بالقتل أو الضّرب الشّديد أو الحبس المديد ، فيصدر عنه الإيلاء خوفاً من وقوع ما هدّد به لو امتنع ، فإنّ صدور الصّيغة من الزّوج في هذه الحال يكون عن قصدٍ وإرادةٍ ، لكن ليس عن رضًى واختيارٍ صحيحٍ . والإيلاء في هذه الحال - حال الإكراه - غير صحيحٍ عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، مستندين في ذلك إلى ما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » ، وإلى حديث عائشة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا طلاق ولا عتاق في إغلاقٍ » والإغلاق : الإكراه ، لأنّ المكره يغلق عليه أمره ، ويقفل عليه رأيه وقصده ، وإلى أنّ المكره يحمل على النّطق بالعبارة بغير حقٍّ فلا يترتّب عليها حكم ، كنطقه بكلمة الكفر إذا أكره عليها .
أمّا عند الحنفيّة فإيلاء المكره معتبر ، وتترتّب عليه آثاره الّتي سيأتي بيانها ، لأنّ الإيلاء عندهم من التّصرّفات الّتي تصحّ مع الإكراه ، نصّوا على ذلك في باب الأيمان والطّلاق ، وأنّ الإيلاء يمين في أوّل الأمر ، وطلاق باعتبار المال ، فينطبق عليه ما يقرّر في بابي الأيمان والطّلاق . وقد استندوا في ذلك إلى قياس المكره على الهازل ، لأنّ كلّاً منهما تصدر عنه صيغة التّصرّف عن قصدٍ واختيارٍ ، لكنّه لا يريد حكمها ، وطلاق الهازل ويمينه معتبران ، فكذلك المكره .
8 - ولو صدرت صيغة الإيلاء من الزّوج ، لكنّه لم يرد موجبها ، بل أراد اللّهو واللّعب - وهذا هو الهازل - فإنّ الإيلاء يكون معتبراً عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وغيرهم من أهل العلم ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ثلاث جدّهنّ جدّ ، وهزلهنّ جدّ : النّكاح والطّلاق والرّجعة » ولأنّ الهازل قاصد للسّبب ، وهو الصّيغة غير ملتزمٍ لحكمه ، وأنّ ترتّب الأحكام على أسبابها موكول إلى الشّارع لا إلى المتصرّف .
9 - ولو أراد الزّوج أن يتكلّم بغير الإيلاء ، فجرى على لسانه الإيلاء من غير قصدٍ أصلاً - وهو المخطئ - فمذهب الشّافعيّة والحنابلة عدم اعتبار إيلاء المخطئ ، لأنّ التّصرّف إنّما يعتبر إذا قصد اللّفظ الّذي يدلّ عليه وأريد حكمه الّذي يترتّب عليه ، أو قصد اللّفظ وإن لم يرد حكمه ، والمخطئ . لم يقصد اللّفظ الدّالّ على الإيلاء ولا حكمه ، فلا يكون الإيلاء الصّادر منه معتبراً .
وذهب الحنفيّة في المخطئ إلى أنّ إيلاءه لا يعتبر ديانةً ، ويعتبر قضاءً . ومعنى اعتباره في القضاء دون الدّيانة : أنّه إذا لم يعلم بالإيلاء إلاّ الزّوج ، كان له أن يعاشر زوجته من غير حرجٍ ولا كفّارة عليه في ذلك ، وإذا مضت مدّة الإيلاء لا يقع الطّلاق ، وإذا سأل فقيهاً عمّا صدر منه جاز له أن يفتيه بأن لا شيء عليه ، متى علم صدقه فيما يقول . فإذا تنازع الزّوجان ورفع الأمر إلى القاضي حكم بلزوم الكفّارة بالحنث إذا اتّصل بزوجته قبل مضيّ المدّة ، وبوقوع الطّلاق إذا مضت المدّة بدون معاشرةٍ ، كما هو مذهب الحنفيّة ، لأنّ القاضي يبني أحكامه على الظّاهر ، واللّه يتولّى السّرائر . ولو قبل في القضاء دعوى أنّ ما جرى على لسانه لم يكن مقصوداً ، وإنّما المقصود شيء آخر لا نفتح الباب أمام المحتالين الّذين يقصدون النّطق بالصّيغة الدّالّة على الإيلاء ، ثمّ يدّعون أنّه سبق لسانٍ .
ويرى المالكيّة - كما يؤخذ من كلامهم في الطّلاق - أنّه إذا ثبت أنّ الزّوج لم يقصد النّطق بصيغة الإيلاء ، بل قصد أن يتكلّم بغير الإيلاء ، فزلّ لسانه ، وتكلّم بالصّيغة الدّالّة على الإيلاء لا يكون إيلاءً في القضاء ، كما لا يكون إيلاءً في الدّيانة والفتوى .
ويتّضح ممّا تقدّم الفرق بين الخطأ : والهزل والإكراه ، وهو أنّه في الخطأ لا تكون العبارة الّتي نطق بها الزّوج مقصودةً أصلاً ، بل المقصود عبارة أخرى ، وصدرت هذه بدلاً عنها . وفي الهزل : تكون العبارة مقصودةً ، لأنّها برضى الزّوج واختياره ، ولكن حكمها لا يكون مقصوداً ، لأنّ الزّوج لا يريد هذا الحكم ، بل يريد شيئاً آخر هو اللّهو واللّعب . وفي الإكراه : تكون العبارة صادرةً عن قصدٍ واختيارٍ ، ولكنّه اختيار غير سليمٍ ، لوجود الإكراه ، وهو يؤثّر في الإرادة ، ويجعلها لا تختار ما ترغب فيه وترتاح إليه ، بل تختار ما يدفع الأذى والضّرر .
أحوال صيغة الإيلاء :
10 - الصّيغة الّتي ينشئ الزّوج الإيلاء بها تارةً تصدر خاليةً من التّعليق على حصول أمرٍ في المستقبل ، ومن الإضافة إلى زمنٍ مستقبلٍ ، وتارةً تصدر مشتملةً على التّعليق على حصول أمرٍ في المستقبل ، أو الإضافة إلى زمنٍ مستقبلٍ .
فإذا صدرت الصّيغة ، وكانت خاليةً من التّعليق والإضافة ، كان الإيلاء منجّزاً .
وإن صدرت ، وكانت مشتملةً على التّعليق على حصول أمرٍ في المستقبل ، كان الإيلاء معلّقاً . وإن صدرت وكانت مضافةً إلى زمنٍ مستقبلٍ ، كان الإيلاء مضافاً . وعلى هذا فالإيلاء المنجّز هو : ما كانت صيغته مطلقةً غير مضافةٍ إلى زمنٍ مستقبلٍ ، ولا معلّقةً على حصول أمرٍ في المستقبل ، ومن أمثلة التّنجيز أن يقول الرّجل لزوجته : واللّه لا أقربك خمسة أشهرٍ ، وهذا يعتبر إيلاءً في الحال ، وتترتّب عليه آثاره بمجرّد صدوره .
والإيلاء المعلّق هو : ما رتّب فيه الامتناع عن قربان الزّوجة على حصول أمرٍ في المستقبل بأداةٍ من أدوات الشّرط ، مثل ( إن ) ( وإذا ) ( ولو ) ( ومتى ) ونحوها ، وذلك كأن يقول الرّجل لزوجته : إن أهملت شئون البيت ، أو يقول لها : لو كلّمت فلاناً فواللّه لا أقربك . وفي هذه الحال ، لا يعتبر ما صدر عن الرّجل إيلاءً قبل وجود الشّرط المعلّق عليه ، لأنّ التّعليق يجعل وجود التّصرّف المعلّق مرتبطاً بوجود الشّرط المعلّق عليه ، ففي المثال المتقدّم لا يكون الزّوج مولياً قبل أن تهمل المرأة في شئون البيت ، أو تكلّم ذلك الشّخص ، فإذا أهملت شئون البيت أو كلّمته صار مولياً ، واحتسبت مدّة الإيلاء من وقت الإهمال أو التّكليم فقط ، لا من وقت قول الزّوج .
والإيلاء المضاف هو : ما كانت صيغته مقرونةً بوقتٍ مستقبلٍ يقصد الزّوج منع نفسه من قربان زوجته عند حلول هذا الوقت ، ومثاله : أن يقول الرّجل لزوجته : واللّه لا أقربك من أوّل الشّهر الآتي ، أو يقول لها : واللّه لا أقربك من غدٍ .
وفي هذه الحال ، يعتبر ما صدر عن الرّجال إيلاءً من وقت صدور اليمين ، ولكنّ الحكم لا يترتّب عليه إلاّ عند وجود الوقت الّذي أضيف إليه الإيلاء ، لأنّ الإضافة لا تمنع انعقاد اليمين سبباً لحكمه ، ولكنّها تؤخّر حكمه إلى الوقت الّذي أضيف إليه ، ففي قول الرّجل لزوجته : واللّه لا أقربك من أوّل الشّهر القادم يعتبر الزّوج مولياً من زوجته من الوقت الّذي صدرت فيه هذه الصّيغة ، ولهذا لو كان الرّجل قد حلف باللّه تعالى ألاّ يولّي من زوجته حكم بحنثه في هذه ، وإن لم يحن الوقت الّذي أضيفت إليه اليمين ، ووجب عليه كفّارة يمينٍ بمجرّد صدور الصّيغة المضافة ، لكن لو اتّصل بزوجته قبل مجيء الشّهر الّذي أضاف الإيلاء إليه لا يحكم بحنثه ووجوب كفّارة اليمين عليه ، كما أنّ مدّة الإيلاء لا تحتسب إلاّ من أوّل الشّهر الّذي أضاف الإيلاء إليه .
وإنّما صحّ تعليق الإيلاء وإضافته لأنّه يمين ، واليمين من التّصرّفات الّتي تقبل الإضافة والتّعليق . ولم نعثر على كلامٍ للمالكيّة والشّافعيّة في قبول الإيلاء للإضافة .
أمّا الحنابلة فقد أوردوا من تطبيقات الإيلاء ما يدلّ على قبول الإيلاء للإضافة .
ب - ما يشترط في الرّجل والمرأة معاً :
11 - يشترط لصحّة الإيلاء في الرّجل والمرأة معاً قيام النّكاح بينهما حقيقةً أو حكماً عند حصول الإيلاء أو إضافته إلى النّكاح . أمّا قيام النّكاح حقيقةً ، فيتحقّق بعقد الزّواج الصّحيح ، وقبل حصول الفرقة بين الرّجل وزوجته ، سواء أدخل الرّجل بزوجته أم لم يدخل .
وأمّا قيامه حكماً ، فيتحقّق بوجود العدّة من الطّلاق الرّجعيّ ، لأنّ المرأة بعد الطّلاق الرّجعيّ تكون زوجةً من كلّ وجهٍ ما دامت العدّة ، فتكون محلّاً للإيلاء ، كما تكون محلّاً للطّلاق ، فإذا أقسم الزّوج ألاّ يقرب زوجته الّتي طلّقها طلاقاً رجعيّاً مدّةً تستغرق أربعة أشهرٍ فأكثر كان مولياً ، فإن مضت أربعة أشهرٍ والمرأة لا تزال في العدّة ، بأن كانت حاملاً ، أو كانت غير حاملٍ وكان طهرها بين الحيضتين يمتدّ طويلاً ، فعند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة يؤمر الرّجل بالفيء ، فإن لم يفء طلّق عليه القاضي إن امتنع عن الطّلاق ، على ما سيأتي في الكلام عن أثر الإيلاء بعد انعقاده . وعند الحنفيّة تقع عليها طلقة أخرى .
أمّا إذا كانت العدّة من طلاقٍ بائنٍ ، فإنّ المرأة في أثنائها لا تكون محلّاً للإيلاء ، سواء أكان بائناً بينونةً صغرى ، أم بائناً بينونةً كبرى ، لأنّ الطّلاق البائن بنوعيه يزيل رابطة الزّوجيّة ، ولا يبقي من آثار الزّواج شيئاً سوى العدّة وما يتعلّق بها من أحكامٍ ، فيحرم على المطلّق قربان المطلّقة طلاقاً بائناً ولو كانت العدّة قائمةً ، فإذا حلف الرّجل ألاّ يقرب زوجته الّتي طلّقها طلاقاً بائناً كانت يمينه لغواً في حكم البرّ ، حتّى لو مضت أربعة أشهرٍ فأكثر ولم يقربها لم يقع عليها طلاق ثانٍ .
أمّا في حكم الحنث فإنّها معتبرة ، ولهذا لو عقد عليها ، ثمّ وطئها حنث في يمينه ، ووجبت عليه كفّارة الحنث في اليمين ، لعدم الوفاء بموجبها ، وهو عدم قربانها ، أي أنّ حلفه لم ينعقد إيلاءً ، ولكنّه انعقد يميناً .
ومثل هذا لو قال لامرأةٍ أجنبيّةٍ : واللّه لا أقربك ، وأطلق في يمينه ، أو قال : أبداً ، ثمّ تزوّجها فإنّه لا يعتبر مولياً في حكم البرّ ، لعدم قيام النّكاح حقيقةً ولا حكماً عند الحلف ، حتّى لو مضت أربعة أشهرٍ بعد الزّواج ، ولم يقربها لا يقع عليها شيء ، لأنّ النّكاح لم يكن قائماً عند حصول اليمين ، لكن لو قربها بعد الزّواج أو قبله لزمته الكفّارة ، لانعقاد اليمين في حقّ الحنث ، لأنّه لا يشترط في انعقاده في حقّ الحنث قيام النّكاح ، بخلاف انعقاده في حقّ البرّ ، فإنّه يشترط فيه قيام النّكاح .
وأمّا إضافة الإيلاء إلى النّكاح ، فصورته أن يقول الرّجل لامرأةٍ أجنبيّةٍ : إن تزوّجتك فواللّه لا أقربك ، ثمّ يتزوّجها فإنّه يصير مولياً ، وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة الّذين أجازوا إضافة الطّلاق أو تعليقه على النّكاح ، وحجّتهم في ذلك : أنّ المعلّق بالشّرط كالمنجّز عند وجود الشّرط ، والمرأة عند وجود الشّرط زوجة ، فتكون محلّاً للإيلاء المضاف إلى النّكاح ، كما تكون محلّاً للطّلاق .
وقال الشّافعيّة والحنابلة : لا يصحّ الإيلاء المضاف إلى النّكاح ، لقول اللّه تعالى : { لِلَّذين يُؤْلون من نسائهم تَرَبُّصُ أربعةِ أشهرٍ } فإنّه سبحانه جعل الإيلاء من الزّوجة ، والمرأة الّتي يضاف الإيلاء منها إلى نكاحها ليست زوجةً عند حصول الإيلاء ، فلا يكون الإيلاء منها صحيحاً ، ولأنّ الإيلاء حكم من أحكام النّكاح ، وحكم الشّيء لا يتقدّمه ، كالطّلاق والقسم ، ولأنّ المدّة تضرب للمولي لقصده الإضرار بيمينه ، وإذا كانت اليمين قبل النّكاح لم يتحقّق هذا القصد ، فأشبه الممتنع بغير يمينٍ .
12 - والخلاف بين الفقهاء في صحّة تعليق الطّلاق والإيلاء بالنّكاح وعدم صحّته مبنيّ على اختلافهم في التّعليق وأثره في التّصرّف المعلّق .
فعند الحنفيّة : التّعليق يؤخّر انعقاد التّصرّف المعلّق سبباً لحكمه حتّى يوجد المعلّق عليه . فالتّصرّف المعلّق لا وجود له عند التّكلّم بالصّيغة ، وإنّما يوجد عند وجود المعلّق عليه . وعند الشّافعيّة ومن وافقهم : التّعليق لا يؤخّر انعقاد التّصرّف سبباً لحكمه ، وإنّما يمنع ترتّب الحكم عليه حتّى يوجد الشّرط المعلّق عليه . فعندهم التّصرّف المعلّق على شرطٍ موجود عند التّكلّم بالصّيغة ، غير أنّ حكمه لا يترتّب عليه إلاّ عند وجود الشّرط المعلّق عليه . وبناءً على هذا : من قال لامرأةٍ أجنبيّةٍ : إن تزوّجتك فأنت طالق ، ثمّ تزوّجها وقع الطّلاق عند الحنفيّة ومن معهم ، لأنّ الشّرط لصحّة الطّلاق أن تكون المرأة محلّاً للطّلاق عند وجوده ، والطّلاق المعلّق لا يوجد في رأيهم إلاّ عند تحقّق الشّرط ، وعند تحقيق الشّرط تكون المرأة محلّاً للطّلاق ، إذ هي في ذلك الوقت زوجة ، فيقع عليها الطّلاق .
وعند الشّافعيّة ومن وافقهم : لا يقع الطّلاق ، لأنّ الطّلاق المعلّق ينعقد سبباً لحكمه عند التّكلّم به ، والمرأة في ذلك الوقت لم تكن زوجةً ، فلم تتحقّق المحلّيّة الّتي هي شرط وقوع الطّلاق ، فلا يقع الطّلاق . وأنّ الإيلاء كالطّلاق في هذا الحكم .
ج - ما يشترط في المولي :
13 - يشترط في الرّجل لكي يكون إيلاؤه صحيحاً ما يأتي :
أوّلاً : البلوغ ، بظهور العلامات الطّبيعيّة أو بالسّنّ ، فإيلاء الصّبيّ لا ينعقد ( ر : مصطلح : بلوغٍ ) .
ثانياً : العقل ، فلا يصحّ الإيلاء من المجنون والصّبيّ الّذي لا يعقل ، ولا من المعتوه ، لأنّ المعتوه قد لا يكون عنده إدراك ولا تمييز فيكون كالمجنون ، وقد يكون عنده إدراك وتمييز ولكنّه لا يصل إلى درجة الإدراك عند الرّاشدين العاديّين كالصّبيّ المميّز ، والصّبيّ المميّز لا يصحّ منه الإيلاء ، فكذلك المعتوه .
ومثل المجنون في الحكم الأشخاص التّالي ذكرهم :
- 1 - المدهوش ، وهو الّذي اعترته حالة انفعالٍ لا يدري فيها ما يقول أو يفعل ، أو يصل به الانفعال إلى درجةٍ يغلب معها الخلل في أقواله وأفعاله .
فإذا صدر الإيلاء من الزّوج ، وهو في هذه الحال لا يعتبر ، وإن كان يعلمه ويريده ، لأنّ هذا العلم وهذه الإرادة غير معتبرين ، لعدم حصولهما عن إدراكٍ صحيحٍ ، كما لا يعتبر ذلك من الصّبيّ المميّز .
- 2 - المغمى عليه والنّائم ، فالمغمى عليه في حكم المجنون ، ومثله النّائم ، لأنّه لا إدراك عنده ولا وعي ، فلا يعتدّ بالإيلاء الّذي يصدر عنه كما لا يعتدّ بطلاقه .
- 3 - السّكران ، وهو الّذي صار عقله مغلوباً من تأثير المسكر ، حتّى صار يهذي ويخلط في كلامه ، ولا يعي بعد إفاقته ما كان منه في حال سكره ، وقد اتّفق الفقهاء على أنّ إيلاء السّكران لا يعتبر إذا كان سكره من طريقٍ غير محرّمٍ ، كما لو شرب المسكر للضّرورة ، أو تحت ضغط الإكراه ، لأنّ السّكران لا وعي عنده ولا إدراك كالمجنون والنّائم ، بل أشدّ حالاً من النّائم ، إذ النّائم ينتبه بالتّنبيه ، أمّا السّكران فلا ينتبه إلاّ بعد الإفاقة من السّكر ، فإذا لم يعتبر الإيلاء الصّادر من النّائم ، فلا يعتبر الإيلاء الصّادر من السّكران بالطّريق الأولى . واختلفوا فيما إذا كان السّكر بطريقٍ محرّمٍ ، وذلك بأن يشرب المسكر باختياره ، وهو يعلم أنّه مسكر ، من غير ضرورةٍ حتّى يسكر ، فقال بعضهم : يعتبر إيلاؤه ، وهو قول جمهور الحنفيّة ومالكٍ والشّافعيّ وأحمد في روايةٍ عنه ، لأنّه لمّا تناول المحرّم باختياره يكون قد تسبّب في زوال عقله ، فيجعل موجوداً عقوبةً له وزجراً عن ارتكاب المعصية .
وقال بعضهم : لا يعتبر إيلاؤه ، وهو قول زفر من الحنفيّة واختاره الطّحاويّ والكرخيّ ، وهو أيضاً قول أحمد في روايةٍ أخرى عنه ، وهو منقول عن عثمان بن عفّان وعمر بن عبد العزيز . وحجّتهم في ذلك : أنّ صحّة التّصرّف تعتمد على القصد والإرادة الصّحيحة ، والسّكران قد غلب السّكر على عقله ، فلا يكون عنده قصد ولا إرادة صحيحة ، فلا يعتدّ بالعبارة الصّادرة منه ، كما لا يعتدّ بالعبارة الصّادرة من المجنون والمعتوه والنّائم والمغمى عليه . والشّارع لم يترك السّكران بدون عقوبةٍ على سكره ، حتّى نحتاج إلى عقوبةٍ أخرى ننزلها به ، خصوصاً إذا كانت هذه العقوبة الأخرى لا تقتصر على الجاني ، بل تتعدّاه إلى غيره من الزّوجة والأولاد .
وأساس هذا الاختلاف هو الاختلاف في اعتبار طلاقه وعدم اعتباره : فمن قال باعتبار طلاقه قال باعتبار إيلائه ، ومن قال بعدم اعتبار طلاقه قال بعدم اعتبار إيلائه ، لأنّ الإيلاء كطلاقٍ معلّقٍ عند بعضهم ، وسبب للطّلاق عند آخرين ، فيكون له حكمه .
د - ما يشترط في المدّة المحلوف عليها :
14 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الإيلاء لا بدّ له من مدّةٍ يحلف الزّوج على ترك قربان زوجته فيها . لكنّهم اختلفوا في مقدار هذه المدّة . فقال الحنفيّة : إنّ مدّة الإيلاء أربعة أشهرٍ أو أكثر ، وهو قول عطاءٍ والثّوريّ ورواية عن أحمد .
فلو حلف الرّجل على ترك قربان زوجته أقلّ من أربعة أشهرٍ لا يكون إيلاءً ، بل يكون يميناً . فإذا حنث بالوطء قبل مضيّ أربعة أشهرٍ لزمته كفّارة يمينٍ .
وعلى هذا لو حلف الزّوج : ألاّ يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهرٍ كان إيلاءً باتّفاق الفقهاء ، وكذلك لو حلف : ألاّ يقرب زوجته ، ولم يذكر مدّةً ، أو قال : أبداً ، فإنّه يكون إيلاءً بالاتّفاق أيضاً . أمّا لو حلف ألاّ يقرب زوجته أربعة أشهرٍ فإنّه يكون إيلاءً عند الحنفيّة ، ولا يكون إيلاءً عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . ولو حلف : ألاّ يقرب زوجته أقلّ من أربعة أشهرٍ فإنّه لا يكون إيلاءً عند الجميع .
وقد احتجّ الحنفيّة ومن وافقهم بأنّ الإيلاء له حكمان : أحدهما : الحنث إذا وطئ الرّجل زوجته قبل مضيّ أربعة أشهرٍ ، وثانيهما : وقوع الطّلاق إن لم يطأ زوجته قبل مضيّ هذه المدّة . وهذا يفيد أنّ الأربعة الأشهر هي المدّة المعتبرة في الإيلاء ، فلا يكون الحلف على ما دونها إيلاءً ، كما لا يتوقّف الإيلاء على الحلف على أكثر منها ، وبأنّ الإيلاء هو اليمين الّتي تمنع قربان الزّوجة خوفاً من لزوم الحنث ، فلو كان الحلف على ترك قربان الزّوجة أقلّ من أربعة أشهرٍ ، لأمكن الزّوج بعد مضيّ هذه المدّة أن يجامع زوجته من غير أن يلزمه الحنث في يمينه ، فلا يكون هذا إيلاءً .
واحتجّ المالكيّة ومن معهم بأنّ المولي يوقف بعد مضيّ أربعة أشهرٍ ، يخيّر بين الفيء ( وهو الرّجوع عن اليمين بالفعل أو القول ) والتّطليق ، فلا بدّ أن تكون المدّة على ترك قربان الزّوجة فيها أكثر من أربعة أشهرٍ ، ولو كانت أربعة أشهرٍ أو أقلّ منها لانقضى الإيلاء بانقضائها ، ولا تصحّ المطالبة من غير الإيلاء .
15 - إذا فقد الإيلاء شرطاً من الشّرائط الّتي تقدّم بيانها ، فهل يكون لليمين مفعولها الّذي وضعت لإفادته شرعاً ؟ ذلك يتوقّف على الشّرط الّذي لم يتحقّق ، فإن كان من شرائط الصّيغة ترتّب على فقده عدم اعتبار اليمين أصلاً ، بحيث لا يترتّب على مخالفة موجبها الحنث ووجوب الكفّارة أو لزوم ما رتّبه عليها .
وكذلك لو كان الشّرط الّذي لم يتحقّق من الشّرائط الّتي تعود إلى الرّجل كالبلوغ أو العقل ، لأنّه لا اعتبار لما يصدر عن الصّبيّ قبل البلوغ ، ولا لما يصدر عن المجنون ومن في حكمه . أمّا لو كان من الشّرائط الّتي تعود إلى الرّجل والمرأة معاً ، وهو قيام النّكاح حين الإيلاء ، فإنّ فقده لا يعطّل مفعول اليمين ، بل تبقى في حقّ الحنث ، فلو قال رجل لامرأةٍ أجنبيّةٍ : واللّه لا أطأك مدّة أربعة أشهرٍ ، ثمّ وطئها قبل مضيّ أربعة أشهرٍ ، وجبت عليه كفّارة اليمين المبيّنة في كتب الفقه ، حتّى لو كان الوطء بعد العقد عليها .
أمّا في حقّ الطّلاق ، فإنّ فقد الشّرط يبطل اليمين بالنّسبة له ، ولهذا لا يقع الطّلاق بمضيّ أربعة أشهرٍ ، لعدم انعقاد الإيلاء في حقّ الطّلاق لانعدام المحلّيّة .
ومثل هذا يقال في حال عدم توافر شرائط المدّة المحلوف عليها ، فإنّ مفعول اليمين يبقى . ولو نقصت المدّة الّتي حلف الرّجل على ترك قربان الزّوجة فيها عن أربعة أشهرٍ - عند من يرى أنّها لا تكون أقلّ من ذلك - وحتّى لو وطئ زوجته في أثناء المدّة الّتي حلف على ترك قربانها فيها ، وجبت عليه الكفّارة .
أثر الإيلاء بعد انعقاده :
16 - إذا تحقّق ركن الإيلاء وتوافرت شرائطه ترتّب عليه أحد أثرين :
أوّلهما : يترتّب عليه في حالة إصرار الزّوج على عدم قربان زوجته الّتي آلى منها ، حتّى تمضي أربعة أشهرٍ من تاريخ الإيلاء .
وثانيهما : يترتّب عليه في حالة حنثه في اليمين الّتي حلفها .
أ - حالة الإصرار :
17 - إذا أصرّ المولي على ترك قربان زوجته الّتي حلف ألاّ يقربها كان إصراره هذا داعياً إلى الفرقة بينه وبين زوجته ، لأنّ في هذا الامتناع إضراراً بالزّوجة ، فحمايةً لها من هذا الضّرر ، يكون لها الحقّ في مطالبته بالعودة إلى معاشرتها .
فإن لم يعد إلى معاشرتها حتّى مضت أربعة أشهرٍ فهل يقع الطّلاق بمجرّد مضيّها ؟
يرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : أنّ الطّلاق لا يقع بمضيّ أربعة أشهرٍ ، بل للزّوجة أن ترفع الأمر إلى القاضي ، فيأمر الزّوج بالفيء ، أي الرّجوع عن موجب يمينه ، فإن أبى الفيء أمره بتطليقها ، فإن لم يطلّق طلّقها عليه القاضي .
ويرى فقهاء الحنفيّة أنّ الطّلاق يقع بمجرّد مضيّ أربعة أشهرٍ ، ولا يتوقّف على رفع الأمر إلى القاضي ، ولا حكمٍ منه بتطليقها . وذلك جزاءً للزّوج على الإضرار بزوجته وإيذائها بمنع حقّها المشروع .
والحكمة الشّرعيّة في إمهاله هذه المدّة المحافظة على علاقة الزّوجيّة ومعالجة بقائها بما هو غالب على طبائع النّاس ، فإنّ البعد عن الزّوجة مثل هذا الزّمن فيه تشويق للزّوج إليها ، فيحمله ذلك على وزن حاله معها وزناً صحيحاً ، فإذا لم تتأثّر نفسه بالبعد عنها ، ولم يبال بها سهل عليه فراقها ، وإلاّ عاد إلى معاشرتها نادماً على إساءته مصرّاً على حسن معاشرتها . وكذلك المرأة فإنّ هجرها من وسائل تأديبها ، فقد تكون سبباً في انصراف الزّوج عنها بإهمالها في شأن زينتها ، أو بمعاملتها إيّاه معاملةً توجب النّفرة منها ، فإذا هجرها هذه المدّة كان هذا زاجراً لها عمّا فرّط منها .
وسبب الخلاف بين الجمهور وبين الحنفيّة يرجع إلى اختلافهم في المراد من التّرتيب الّذي تدلّ عليه " الفاء " في قول اللّه تعالى : { للّذين يؤلون من نسائهم تربّص أربعة أشهرٍ فإن فاءوا فإنّ اللّه غفور رحيم } أهو التّرتيب الحقيقيّ وهو التّرتيب الزّمانيّ . أي أنّ زمن المطالبة بالفيء أو الطّلاق عقب مضيّ الأجل المضروب ، وهو الأربعة الأشهر أو هو التّرتيب الذّكريّ لا الزّمنيّ ، فتفيد ترتيب المفصّل على المجمل ، وعليه يكون الفيء بعد الإيلاء خلال الأجل المضروب لا بعده ، فإذا انقضى الأجل بدون فيءٍ فيه وقع الطّلاق بمضيّه ؟ فبالأوّل قال الجمهور ، وبالثّاني قال الحنفيّة .
فمعنى الآية على رأي الحنفيّة : أنّ للأزواج الّذين يحلفون على ترك وطء زوجاتهم انتظار أربعة أشهرٍ ، فإن فاءوا قبل مضيّ هذه المدّة ، وعادوا إلى وطئهنّ ، فإنّ ذلك يكون توبةً منهم عن ذلك الذّنب الّذي ارتكبوه ، والّذي يترتّب عليه الإضرار بزوجاتهم وإيقاع الأذى بهنّ ، واللّه يغفره لهم بالكفّارة عنه ، وإن أصرّوا على تنفيذ يمينهم وهجر زوجاتهم ، فلم يقربوهنّ حتّى انقضت المدّة المذكورة ، وهي أربعة أشهرٍ ، فإنّ ذلك يكون إصراراً منهم على الطّلاق ، فيكون إيلاؤهم طلاقاً ، فتطلق منهم زوجاتهم بمجرّد انقضاء هذه المدّة من غير حاجةٍ إلى تطليقٍ منهم أو من القاضي ، جزاءً لهم على ضرر زوجاتهم .
ومعنى الآية على رأي الجمهور : أنّ الأزواج الّذين يحلفون على ترك قربان زوجاتهم يمهلون أربعة أشهرٍ ، فإن فاءوا ورجعوا عمّا منعوا أنفسهم منه بعد مضيّ هذه المدّة فإنّ اللّه غفور رحيم لما حدث منهم من اليمين والعزم على ذلك الضّرر ، وإن عزموا على الطّلاق بعد انقضاء المدّة فإنّ اللّه سميع لما يقع منهم من الطّلاق ، عليم بما يصدر عنهم من خيرٍ أو شرٍّ ، فيجازيهم عليه .
وممّا استدلّ به لمذهب الجمهور ما رواه الدّارقطنيّ في سننه عن سهيل بن أبي صالحٍ عن أبيه قال : « سألت اثني عشر رجلاً من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن رجلٍ يولي من امرأته قالوا : ليس عليه شيء حتّى تمضي أربعة أشهرٍ ، فيوقف ، فإن فاء وإلاّ طلّق ».
نوع الطّلاق الّذي يقع نتيجةً للإيلاء :
18 - إذا وقع الطّلاق نتيجةً للإيلاء ، سواء أكان وقوعه بمضيّ المدّة عند من يقول بذلك من الفقهاء ، أم كان وقوعه بإيقاع الزّوج ، بناءً على أمر القاضي له بالطّلاق ، أو بإيقاع القاضي عند امتناع الزّوج من الطّلاق عند من لا يقول بوقوع الطّلاق بمضيّ المدّة من الفقهاء ، فإنّه يكون طلاقاً بائناً عند الحنفيّة ، وهو المنصوص عن أحمد في فرقة الحاكم . لأنّه طلاق لدفع الضّرر عن الزّوجة ، ولا يندفع الضّرر عنها إلاّ بالطّلاق البائن ، إذ لو كان رجعيّاً لاستطاع الزّوج إعادتها فلا تتخلّص من الضّرر ، ولأنّ القول بوقوع الطّلاق رجعيّاً يؤدّي إلى العبث ، لأنّ الزّوج إذا امتنع عن الفيء والتّطليق يقدّم إلى القاضي ليطلّق عليه ، ثمّ إذا طلّق عليه القاضي يراجعها ثانياً ، فيكون ما فعله القاضي عبثاً ، والعبث لا يجوز . وقال مالك والشّافعيّ وأحمد في روايةٍ أخرى : إنّ الطّلاق الواقع بالإيلاء طلاق رجعيّ ما دامت المرأة قد دخل بها الزّوج قبل ذلك ، لأنّه طلاق لامرأةٍ مدخولٍ بها من غير عوضٍ ولا استيفاء عددٍ ، فيكون رجعيّاً كالطّلاق في غير الإيلاء .
ولم يشترط الشّافعيّة والحنابلة شيئاً لصحّة الرّجعة من المولي ، إلاّ أنّهم قالوا : إنّه إذا ارتجعها - وقد بقيت مدّة الإيلاء - ضربت له مدّة أخرى ، فإن لم يفء طلّق عليه القاضي لرفع الضّرر عن المرأة . واشترط المالكيّة لصحّة الرّجعة انحلال اليمين عنه في العدّة بالوطء فيها ، أو بتكفير ما يكفّر ، أو بتعجيل الحنث في العدّة ، فإذا لم ينحلّ الإيلاء بوجهٍ من هذه الوجوه فإنّ الرّجعة تكون باطلةً لا أثر لها .
ب - حالة الحنث أو الفيء :
19 - المقصود بالحنث عدم الوفاء بموجب اليمين ، وهو ذلك الوفاء المكروه الّذي يتحقّق بامتناع الزّوج من وطء زوجته الّتي آلى منها قبل أن تمضي المدّة الّتي حلف ألاّ يقربها فيها ، فإذا كانت المدّة الّتي حلف ألاّ يقرب زوجته فيها أكثر من أربعة أشهرٍ ، كخمسة أشهرٍ ( مثلاً ) ثمّ قربها قبل أن تمضي هذه المدّة ، كان حانثاً في يمينه ، حيث إنّه لم يعمل بمقتضاها ، وهو الامتناع من قربان الزّوجة مدّة خمسة أشهرٍ . والحنث في اليمين وإن كان غير مرغوبٍ فيه شرعاً ، لكنّه في الإيلاء مستحبّ ، لأنّ فيه رجوعاً عن إيذاء الزّوجة والإضرار بها ، فهو ما ينطبق عليه قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من حلف على يمينٍ فرأى غيرها خيراً منها فليأت الّذي هو خير ، وليكفّر عن يمينه » .
أمّا الفيء فمعناه في الأصل : الرّجوع ، ولذلك يسمّى الظّلّ الّذي يكون بعد الزّوال فيئاً ، لأنّه رجع من المغرب إلى المشرق . والمراد منه هنا : رجوع الزّوج إلى جماع زوجته الّذي منع نفسه منه باليمين عند القدرة عليه ، أو الوعد به عند العجز عنه .
ووجود الفيء لا يترتّب عليه الحنث في اليمين إلاّ إذا كان بالجماع ، لأنّه هو المحلوف على تركه ، أمّا لو كان الفيء بالقول - كما سيأتي - فلا يترتّب عليه الحنث ، بل تبقى اليمين قائمةً منعقدةً حتّى يوجد الجماع ، فإن حصل منه قبل مضيّ المدّة الّتي حلف الزّوج على ترك وطء زوجته فيها حنث وانحلّت اليمين ، ومن هذا يبيّن أنّ الفيء يكون وجوده سبباً في انحلال الإيلاء وارتفاعه ، وإنّه إن كان بالفعل انحلّ الإيلاء وارتفع في حقّ الطّلاق والحنث جميعاً ، وإن كان بالقول انحلّ الإيلاء في حقّ الطّلاق ، وبقي في حقّ الحنث ، حتّى لو وجد الجماع في الزّمن المحلوف على تركه فيه وجبت الكفّارة وانحلّ الإيلاء بالنّسبة للحنث أيضاً.
انحلال الإيلاء
لانحلال الإيلاء سببان : الفيء ، والطّلاق .
حالة الفيء :
20 - الفيء - كما تقدّم - هو أن يرجع الزّوج إلى معاشرة الزّوجة الّتي آلى منها ، بحيث تعود الحياة الزّوجيّة بينهما إلى ما كانت عليه قبل الإيلاء .
وللفيء طريقان : إحداهما أصليّة ، والأخرى استثنائيّة .
أمّا الأصليّة : فهي الفيء بالفعل .
وأمّا الاستثنائيّة : فهي الفيء بالقول .
أ - الطّريق الأصليّة في الفيء : الفيء بالفعل :
21 - المراد بالفعل الّذي يكون فيئاً وينحلّ به الإيلاء : إنّما هو الجماع ، ولا خلاف في هذا لأحدٍ من الفقهاء . قال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ الفيء الجماع ، ولا يكون ما دون الجماع فيئاً . وينبني على الفيء بالفعل انحلال الإيلاء ، ولزوم مقتضى اليمين ، لأنّه بالجماع يتحقّق الحنث ، واليمين لا يبقى بعد الحنث ، إذ الحنث يقتضي نقض اليمين ، والشّيء لا يبقى مع وجود ما ينقضه .
22 - فإن كانت اليمين قسماً باللّه تعالى أو بصفةٍ من صفاته الّتي يحلف بها ، كعزّة اللّه وعظمته وجلاله وكبريائه ، لزمته كفّارة يمينٍ في قول أكثر أهل العلم ، وعند بعض العلماء لا تجب عليه الكفّارة . وإن كانت اليمين بتعليق شيءٍ على قربان الزّوجة لزمه ما التزمه من ذلك ، فإن كان المعلّق على القربان طلاقاً أو عتقاً وقع الطّلاق والعتق وقت حصول الفيء ، لأنّ الطّلاق والعتق متى علّق حصوله على حصول أمرٍ في المستقبل ، ووجد المعلّق عليه ، وقع الطّلاق وثبت العتق بمجرّد وجوده ، كما هو مذهب الفقهاء .
وإن كان المعلّق على القربان صلاةً أو صياماً أو حجّاً أو صدقةً ، فإمّا أن يعيّن لأدائه وقتاً أو لا يعيّن . فإن عيّن للأداء وقتاً كأن يقول : إن قربت زوجتي مدّة خمسة أشهرٍ فعليّ صلاة مائة ركعةٍ في يوم كذا ( مثلاً ) لزمته الصّلاة في الوقت الّذي عيّنه . وإن لم يعيّن للأداء وقتاً وجب عليه فعل ما التزمه في أيّ وقتٍ أراد ، ولا إثم عليه في التّأخير ، وإن كان الأفضل الأداء في أوّل وقتٍ يمكنه الأداء فيه خوفاً من انتهاء الأجل قبل أن يؤدّي ما وجب عليه .
ب - الطّريق الاستثنائيّة في الفيء : الفيء بالقول :
23 - إذا آلى الرّجل من زوجته كان الواجب شرعاً عليه أن يفيء إليها بالفعل ، فإن لم يقدر على الفيء بالفعل لزمه الفيء بالقول . كأن يقول : فئت إلى زوجتي فلانة ، أو رجعت عمّا قلت ، أو متى قدرت جامعتها ، وما أشبه ذلك من كلّ ما يدلّ على رجوعه عمّا منع نفسه منه باليمين .
والحكمة في تشريع الفيء بالقول : أنّ الزّوج لمّا آذى زوجته بالامتناع عن قربانها ، وعجز عن الرّجوع ، وكان في إعلانه الوعد به إرضاءً لها لزمه هذا الوعد ، ولأنّ المقصود بالفيئة ترك الإضرار الّذي قصده الزّوج بالإيلاء ، وهذا يتحقّق بظهور عزمه على العود إلى معاشرتها عند القدرة .
شرائط صحّة الفيء بالقول :
24 - لا يصحّ الفيء بالقول إلاّ إذا توافرت فيه الشّرائط الآتية :
الشّريطة الأولى :
العجز عن الجماع ، فإن كان الزّوج قادراً على الجماع لا يصحّ منه الفيء بالقول ، لأنّ الفيء بالجماع هو الأصل ، إذ به يندفع الظّلم عن الزّوجة حقيقةً ، والفيء بالقول خلف عنه ، ولا عبرة بالخلف مع القدرة على الأصل ، كالتّيمّم مع الوضوء .
والعجز نوعان : عجز حقيقيّ وعجز حكميّ .
والعجز الحقيقيّ ، مثل أن يكون أحد الزّوجين مريضاً مرضاً يتعذّر معه الجماع ، أو تكون المرأة صغيرةً لا يجامع مثلها ، أو تكون رتقاء : وهي الّتي يكون بها انسداد موضع الجماع من الفرج ، بحيث لا يستطاع جماعها ، أو يكون الزّوج مجبوباً : وهو الّذي استؤصل منه عضو التّناسل ، أو يكون عنّيناً : وهو من لا يقدر على الجماع مع وجود عضو التّناسل لضعفٍ أو كبر سنٍّ أو مرضٍ ، أو يكون أحد الزّوجين محبوساً حبساً يحول دون الوصول إلى الجماع ، أو يكون بينهما مسافة لا يقدر على قطعها في مدّة الإيلاء .
والعجز الحكميّ ، هو عندما يكون المانع عن الجماع شرعيّاً ، كأن تكون المرأة حائضاً عند انقضاء مدّة التّربّص ( هذا عند الفقهاء الّذين يقولون بالفيء بعد انقضاء مدّة الإيلاء ) أو يكون الزّوج محرماً بالحجّ وقت الإيلاء من زوجته ، وبينه وبين التّحلّل من الإحرام أربعة أشهرٍ ( وهذا عند الفقهاء الّذين يقولون : الفيء لا يكون إلاّ في مدّة الإيلاء ) .
فإن كان العجز حقيقيّاً انتقل الفيء من الفعل إلى القول بالاتّفاق ، وإن كان العجز حكميّاً انتقل الفيء من الفعل إلى القول أيضاً عند المالكيّة والحنابلة وفي قولٍ مرجوحٍ للشّافعيّة .
ولا ينتقل عند أبي حنيفة وصاحبيه والشّافعيّ . وصرّح الشّافعيّة بأنّه يطالب بالطّلاق . وحجّة القائلين بالانتقال : أنّ العجز الحكميّ كالعجز الحقيقيّ في أصول الشّريعة ، كما في الخلوة بالزّوجة ، فإنّه يستوي فيها المانع الحقيقيّ والمانع الشّرعيّ في المنع من صحّة الخلوة ، فكذلك الفيء في الإيلاء يقوم فيه العجز الحكميّ مقام العجز الحقيقيّ في صحّة الفيء بالقول بدلاً من الفيء بالفعل .
وحجّة القائلين بعدم الانتقال : أنّ الزّوج قادر على الجماع حقيقةً ، والامتناع عنه إنّما جاء بسببٍ منه ، فلا يسقط حقّاً واجباً عليه . وأيضاً : فإنّ الزّوج هو المتسبّب باختياره فيما لزمه بطريقٍ محظورٍ فلا يستحقّ التّخفيف .
الشّريطة الثّانية :
دوام العجز عن الجماع إلى أن تمضي مدّة الإيلاء ، فلو كان الزّوج عاجزاً عن الجماع في مبدأ الأمر ، ثمّ قدر عليه في المدّة بطل الفيء بالقول ، وانتقل إلى الفيء بالجماع ، حتّى لو ترك الزّوجة ولم يقربها إلى أن مضت أربعة أشهرٍ بانت منه عند الحنفيّة . وذلك لما سبق من أنّ الفيء باللّسان بدل عن الفيء بالجماع ، ومن قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل بطل حكم البدل ، كالمتيمّم إذا قدر على الماء قبل أداء الصّلاة .
وإذا آلى الرّجل من زوجته وهو صحيح ، ثمّ مرض ، فإن مضت عليه مدّة وهو صحيح يمكنه الجماع فيها ، فلا يصحّ فيئه بالقول ، لأنّه كان قادراً على الجماع مدّة الصّحّة ، فإذا لم يجامع مع القدرة عليه يكون قد فرّط في إيفاء حقّ زوجته ، فلا يعذر بالمرض الحادث .
أمّا إذا لم تكن مضت عليه مدّة - وهو صحيح يمكنه الجماع فيها - فإنّ فيئه بالقول يكون صحيحاً ، لأنّه إذا لم يقدر على الجماع في مدّة الصّحّة لقصرها ، لم يكن مفرّطاً في ترك الجماع ، فكان معذوراً .
هذا ما صرّح به الحنفيّة ، وهو ما يفهم من عبارات المذاهب الأخرى .
الشّريطة الثّالثة :
قيام النّكاح وقت الفيء بالقول ، وذلك بأن يكون الفيء حال قيام الزّوجيّة ، وقبل حصول الطّلاق البائن من الزّوج . أمّا لو آلى الرّجل من زوجته ، ثمّ أوقع عليها طلاقاً بائناً ، وفاءً بالقول لم يكن ذلك فيئاً ، وبقي الإيلاء ، لأنّ الفيء بالقول حال قيام النّكاح إنّما يرفع الإيلاء في حقّ حكم الطّلاق ، لإيفاء حقّ الزّوجة بهذا الفيء ، والمطلّقة بائناً ليس لها الحقّ في الجماع ، حتّى يكون الرّجل مضرّاً بها بالامتناع عن جماعها ، ووقوع الطّلاق بالإيلاء كان لهذا السّبب ، ولم يوجد ، فلا يقع عليها طلاق بمضيّ المدّة ، لكن يبقى الإيلاء ، لأنّه لم يوجد ما يرفعه وهو الحنث ، ولهذا لو تزوّجها ومضت مدّة الإيلاء بعد الزّواج من غير فيءٍ وقع عليها الطّلاق عند الحنفيّة ، وأمر بالفيء إليها أو طلاقها عند الجمهور ، وهذا بخلاف الفيء بالفعل ، فإنّه يصحّ بعد زوال النّكاح وثبوت البينونة بسببٍ آخر ، كالخلع أو الطّلاق على مالٍ ، فإنّه بالفيء بالفعل - وإن كان محرماً - يبطل الإيلاء ، لأنّه إذا وطئها حنث في يمينه ، وبالحنث تنحلّ اليمين ويبطل الإيلاء ، ولكن لا ترجع المرأة إلى عصمته ، ويعتبر آثماً بالوطء في عدّة البينونة .
وقت الفيء :
25 - تقدّم أنّ المولي يلزمه شرعاً أن يرفع الضّرر عن الزّوجة الّتي آلى منها ، وطريق رفع الضّرر عنها يكون بالفيء ، والفيء له طريقان : إحداهما أصليّة وهي : الفعل ، وثانيتهما استثنائيّة وهي : القول .
وسواء أكان الفيء بالفعل أم بالقول فإنّ له وقتاً تختلف آراء الفقهاء فيه على الوجه الآتي : يرى الحنفيّة أنّ الفيء يكون في مدّة الإيلاء ، وهي الأربعة الأشهر . فإن حصل الفيء فيها ، وكان الفيء بالفعل ، حنث الزّوج في يمينه ، وانحلّ الإيلاء بالنّسبة للطّلاق ، حتّى لو مضت أربعة أشهرٍ لا تبين الزّوجة .
وإن حصل الفيء بالقول انحلّ الإيلاء في حقّ الطّلاق ، وبقي في حقّ الحنث ، حتّى لو فاء الزّوج بالقول في المدّة ، ثمّ قدر على الجماع بعد المدّة وجامعها ، لزمته الكفّارة ، لأنّ وجوب الكفّارة معلّق بالحنث ، والحنث هو فعل المحلوف عليه ، والمحلوف عليه هو الجماع ، فلا يحصل الحنث بدونه .
وإن لم يحصل الفيء في مدّة الإيلاء بالفعل ولا بالقول ، وقع الطّلاق بمضيّها عند الحنفيّة كما تقدّم . ويرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : أنّ الفيء يكون قبل مضيّ الأربعة الأشهر ، ويكون بعدها ، إلاّ أنّه إن حصل الفيء قبل مضيّ هذه المدّة فالحكم كما سبق في الكلام على مذهب الحنفيّة ، وإن حصل الفيء بعد مضيّها ارتفع الإيلاء في حقّ الطّلاق وفي حقّ الحنث جميعاً . وكذا إن حدّد مدّةً في يمينه ففاء بعد مضيّها .
أمّا إن كان الفيء قبل مضيّها ، فإنّ الزّوج يحنث في يمينه ، وتلزمه كفّارة اليمين إن كان اليمين قسماً ، ويلزمه ما التزمه إن لم يكن اليمين قسماً ، عند من يرى صحّة الإيلاء في حالتي القسم والتّعليق . ومنشأ الاختلاف بين الفقهاء في ذلك يرجع إلى اختلافهم في فهم قول اللّه تعالى : { لِلّذين يُؤْلُون من نسائهم تَرَبُّصُ أربعةِ أشهرٍ فإنْ فاءوا فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ } ، هل الفيئة مطلوبة خارج الأربعة الأشهر أو فيها ؟ وقد بيّنّا ذلك فيما تقدّم .
حالة الطّلاق :
أوّلاً : الطّلاق الثّلاث :
26 - إذا آلى الرّجل من زوجته ، وكان الإيلاء مطلقاً عن التّقييد بمدّةٍ ، أو كان مؤبّداً ، ولم يجامعها ، بل طلّقها في مدّة الإيلاء ثلاثاً بكلمةٍ واحدةٍ ، أو طلّقها طلقةً واحدةً - وكانت المكمّلة للثّلاث - ارتفع الإيلاء في حقّ الطّلاق عند أبي حنيفة وصاحبيه ، ومالكٍ ، وهو أظهر أقوالٍ ثلاثةٍ للإمام الشّافعيّ .
وقال أحمد وزفر من الحنفيّة ، والشّافعيّ في قولٍ ثانٍ من أقواله الثّلاثة : لا يرتفع الإيلاء بالطّلاق الثّلاث . وعلى هذا لو تزوّجت المرأة رجلاً آخر ، ثمّ عادت إلى الزّوج الأوّل المولي منها ، ومضت أربعة أشهرٍ من وقت زواجها به ولم يجامعها ، لا يقع عليها شيء عند أبي حنيفة وصاحبيه ، ولا يطالب بالفيء أو الطّلاق إن لم يفئ عند مالكٍ والشّافعيّ في قوله الموافق لأبي حنيفة وصاحبيه .
أمّا عند أحمد والشّافعيّ ( في أحد أقواله ) فللزّوجة أن ترفع الأمر إلى القاضي ، والقاضي يقف الزّوج ، فإمّا أن يفيء أو يطلّق ، فإن لم يفعل طلّق عليه القاضي .
وعند زفر من الحنفيّة : يقع عليها طلاق بائن بمضيّ أربعة أشهرٍ من وقت زواجها به من غير وقاعٍ .
وحجّة الأوّلين : أنّ الحلّ الثّابت بالزّواج الأوّل قد زال بالكلّيّة بالطّلاق الثّلاث ، والحلّ الحاصل بالزّواج الثّاني حلّ جديد ، ولهذا يملك فيه الزّوج ثلاث طلقاتٍ ، فصار إيلاؤه في الزّواج الأوّل كإيلائه من امرأةٍ أجنبيّةٍ .
وحجّة الآخرين : أنّ اليمين صدرت مطلّقةً غير مقيّدةٍ بالحلّ الّذي كان قائماً وقت صدورها ، وعلى هذا توجد اليمين عندما يتحقّق حلّ المرأة للرّجل ، بلا فرقٍ بين الحلّ الّذي كان موجوداً عند صدورها ، وبين الحلّ الّذي وجد بعد زوال الحلّ الأوّل . فإذا عادت المرأة إلى الزّوج الّذي آلى منها صدق عليه أنّه ممتنع من جماع امرأته بناءً على يمينه ، فيثبت له حكم الإيلاء كما لو لم يطلّق .
أمّا الإيلاء في حقّ الحنث ، فإنّه باقٍ بعد الطّلاق الثّلاث عند هؤلاء الفقهاء جميعاً .
وعلى هذا لو آلى الرّجل من زوجته إيلاءً مطلقاً عن التّقييد بمدّةٍ ، أو مؤبّداً ، ولم يجامعها ، ثمّ طلّقها ثلاثاً ، وعادت إليه بعد أن تزوّجت رجلاً آخر ، ثمّ جامعها حنث في يمينه ، ولزمته كفّارة اليمين إن كانت اليمين قسماً ، ولزمه ما علّقه على جماعها إن لم تكن اليمين قسماً ، لأنّ اليمين إذا كانت لها مدّة فإنّها تبقى ما بقيت هذه المدّة ، ولا تبطل إلاّ بالحنث ، وهو فعل المحلوف عليه قبل مضيّ مدّة اليمين ، أو بمضيّ هذه المدّة بدون حنثٍ . وإن كانت اليمين مطلقةً لم تقيّد بمدّةٍ ، أو ذكرت فيها كلمة الأبد ، فإنّها لا تبطل إلاّ بالحنث ، وهو فعل الشّيء المحلوف على تركه ( وهو في الإيلاء الجماع ) فإذا لم يوجد الحنث فاليمين باقية .
ثانياً : بقاء الإيلاء بعد البينونة بما دون الثّلاث :
27 - إذا آلى الرّجل من زوجته ، وكان الإيلاء مؤبّداً أو مطلقاً عن التّوقيت ، بأن قال : واللّه لا أقرب زوجتي أبداً ، أو قال : واللّه لا أقرب زوجتي ولم يذكر وقتاً ، ثمّ أبانها بما دون الثّلاث ، وتزوّجها بعد ذلك ، كان الإيلاء باقياً عند الفقهاء جميعاً ، ما عدا الشّافعيّ في أحد أقواله الثّلاثة ، فإنّ الإيلاء ينتهي عنده بالطّلاق البائن بما دون الثّلاث ، كما ينتهي بالطّلاق الثّلاث . وبناءً على رأي الجمهور من الفقهاء في بقاء الإيلاء بعد البينونة بما دون الثّلاث ، لو مضت أربعة أشهرٍ من وقت الزّواج ولم يجامعها ، وقعت طلقةً بائنةً عند الحنفيّة . وعند المالكيّة والحنابلة ومن وافقهم : يؤمر بالفيء ، فإن أبى ولم يطلّق ، طلّق عليه القاضي . وكذلك لو تزوّجها بعدما وقع عليها الطّلاق الثّاني ، ومضت أربعة أشهرٍ لم يقربها فيها منذ تزوّجها : وقعت عليها طلقة ثالثة عند أئمّة الحنفيّة . أمّا عند غيرهم فيؤمر بالفيء أو الطّلاق ، فإن لم يفء أو يطلّق طلّق عليه القاضي ، وبهذا تصير المرأة بائنةً بينونةً كبرى ، ويبقى الإيلاء في حقّ الحنث باتّفاق الفقهاء ، وكذلك في حقّ الطّلاق عند أحمد وزفر من الحنفيّة ، وينحلّ الإيلاء في حقّ الطّلاق عند أبي حنيفة وصاحبيه ومالكٍ على ما تقدّم . ولو أبان الزّوج زوجته الّتي آلى منها إيلاءً مطلقاً أو مؤبّداً بما دون الثّلاث ، وتزوّجت برجلٍ آخر ، ودخل بها ، ثمّ عادت إلى الأوّل عاد حكم الإيلاء من غير خلافٍ بين الجمهور من الفقهاء كما تقدّم . إنّما الاختلاف بينهم فيما تعود به إلى الزّوج الأوّل : فعند أبي حنيفة وأبي يوسف تعود بثلاث تطليقاتٍ ، وعند مالكٍ والشّافعيّ وأحمد في إحدى الرّوايتين عنه تعود إليه بما بقي ، وهو قول محمّد بن الحسن من الحنفيّة .
وهذا الخلاف مبنيّ على أنّ الزّواج الثّاني هل يهدم الطّلقة والطّلقتين كما يهدم الثّلاث ، أو لا يهدم إلاّ الثّلاث ؟ فعند الأوّلين يهدم الطّلقة والطّلقتين كما يهدم الثّلاث ، وعند الآخرين لا يهدم إلاّ الثّلاث .
وحجّة الفريق الأوّل : أنّ الزّواج الثّاني إذا هدم الطّلاق الثّلاث ، وأنشأ حلّاً كاملاً ، فأولى أن يهدم ما دون الثّلاث ، ويكمل الحلّ النّاقص .
وحجّة الفريق الثّاني : أنّ الحلّ الأوّل لا يزول إلاّ بالطّلاق الثّلاث ، فإذا طلّق الرّجل زوجته واحدةً أو اثنتين لم تحرم عليه ، وحلّ له التّزوّج بها ، فلو تزوّجت بغيره ودخل بها ثمّ عادت إليه بعد ذلك ، عادت إليه بالحلّ الأوّل ، فلا يملك عليها إلاّ ما بقي من الطّلاق الّذي كان ثابتاً له في ذلك الحلّ .
إيلاج *
انظر : وطء .
إيلاد *
انظر : استيلاد ، أمّ الولد .
إيلام *
التّعريف :
1 - الإيلام هو : الإيجاع ، والألم : الوجع .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - العذاب :
2 - العذاب : هو الألم المستمرّ ، والألم قد يكون مستمرّاً ، وقد يكون غير مستمرٍّ .
وعلى هذا فالعذاب أخصّ من الألم ، فكلّ عذابٍ ألم ، وليس كلّ ألمٍ عذاباً .
ب - الوجع :
3 - الألم : ما يلحقه بك غيرك . والوجع : ما تلحقه أنت بنفسك ، أو يلحقه بك غيرك من الألم . وعلى هذا فالوجع أعمّ من الألم .
أنواع الإيلام :
4 - أ - ينقسم الإيلام باعتبار محلّه إلى قسمين : إيلام جسديّ : وهو الواقع على جزءٍ من أجزاء البدن ، كالإيلام الحاصل من الضّرب ، أو من قطع اليد في الحدّ ونحو ذلك .
وإيلام نفسيّ : وهو الواقع على النّفس لا على البدن ، كالإخافة والقلق والتّوبيخ ونحو ذلك . وكلّ من الألمين له اعتباره في الشّريعة كما سيأتي .
ب - وينقسم الإيلام أيضاً باعتبار مصدره إلى قسمين :
إيلام صادر عن اللّه تعالى كالأمراض ، ونحوها .
وإيلام صادر عن العبد عمداً أو خطأً . ولكلٍّ من الألمين أحكامه في الشّريعة كما سيأتي . الآثار المترتّبة على الإيلام :
أ - الإيلام الصّادر عن اللّه تعالى :
5 - قد يبتلي اللّه تعالى بعض عباده بالآلام الجسديّة كالأمراض والأسقام ، أو بالآلام النّفسيّة كالأحزان والهموم ، وما على الإنسان إذا نزل به شيء من ذلك إلاّ الصّبر ، عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام « عجباً لأمر المؤمن ، إنّ أمره كلّه له خير ، وليس ذلك لأحدٍ إلاّ للمؤمن ، إن أصابته سرّاء شكر ، فكان خيراً له ، وإن أصابته ضرّاء صبر ، فكان خيراً له » . لأنّ في هذا الصّبر على الابتلاء تكفيراً لسيّئاته ، وإعلاءً لدرجاته ، قال عليه الصلاة والسلام ، فيما رواه أبو سعيدٍ الخدريّ وأبو هريرة : أنّهما سمعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « ما يصيب المؤمن من وصبٍ ولا نصبٍ ولا سقمٍ ولا حزنٍ ، حتّى الهمّ يهمّه ، إلاّ كفّر اللّه به سيّئاته » ولا ينافي هذا الأخذ بالأسباب الّتي وضعها اللّه تعالى لدفع هذا البلاء أو رفعه ، كالدّواء والدّعاء والوقاية .
ب - الإيلام الصّادر عن العباد :
6 - إذا كان الإيلام صادراً عن العباد ، فإنّه إذا كان نتيجة اعتداءٍ يقصد منه الإضرار نفسيّاً أم جسديّاً فإنّ في هذا الإيلام إثماً ، فيجب اجتنابه لقوله تعالى : { ولا تَعْتَدُوا إنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ المعتدينَ } ولقوله صلى الله عليه وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » ، كما يجب القصاص أو التّعويض الماليّ أو التّعزير ، بحسب الحال ، وتفصيله في الجنايات والتّعزير .
7- وقد يكون موجب الإيلام الضّمان وحده ، أو مع التّعزير كما في حالات الجناية خطأً على النّفس وما دونها ، على ما فصّله الفقهاء في كتاب الجنايات . وقد ضمّن عمر إفزاع رجلٍ بأربعين درهماً . فقد روي « أنّ رجلاً كان يقصّ شارب عمر بن الخطّاب ، فأفزعه عمر . فضرط الرّجل ، فقال عمر : إنّا لم نرد هذا ، ولكنّا سنعقلها لك . فأعطاه أربعين درهماً ». قال الرّاوي وأحسبه قال : وشاة أو عناقاً .
8- الإيلام الّذي يجعل وسيلةً للإصلاح عندما يجب بإيجاب اللّه تعالى ، كالحدود ، أو عندما يترجّح لدى وليّ الأمر جدواه في الإصلاح ، كالتّعزير والتّأديب ، لا يجوز تخفيف هذا النّوع من الإيلام ، وقد نصّ الفقهاء على وجوب نزع الحشو والفرو عن المجلود في الحدّ والتّعزير ، ليصل الألم إلى جلده .
إيماء *
التّعريف :
1 - الإيماء لغةً : الإشارة باليد أو بالرّأس أو بالعين أو بالحاجب .
وقال الشّربينيّ : الإيماء لغةً : هو الإشارة الخفيّة . وسواء أكانت الإشارة حسّيّةً أم معنويّةً . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك .
2 - والإيماء في اصطلاح الأصوليّين : دلالة النّصّ على التّعليل بالقرينة ،لا بصراحة اللّفظ.
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإشارة :
3 - الإشارة لغةً أعمّ من الإيماء ، عند من يرى أنّ الإيماء إشارة خفيّة .
أمّا من يرى أنّه مطلق الإشارة فهما مترادفان .
وفي الاصطلاح عند الأصوليّين : الإشارة دلالة اللّفظ على معنى لم يسق الكلام لأجله . نحو دلالة قوله تعالى : { وعلى المولودِ له رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهنّ } على أنّ النّسب يثبت للأب ، وأنّ الأب لا يشاركه أحد في النّفقة على الولد ، فالإيماء عندهم أخصّ من الإيماء عند غيرهم من الفقهاء واللّغويّين ، سواء أخذ في مفهوم الإيماء الإشارة مطلقاً أو الخفيّة .
وأجاز الغزاليّ تسمية الإيماء إشارةً .
ب - الدّلالة :
4 - الدّلالة أن يكون الشّيء بحالةٍ يلزم من العلم به العلم بشيءٍ آخر ، وقيل : كون الشّيء بحيث يفهم منه شيء آخر ، والأوّل يسمّى الدّالّ ، والثّاني يسمّى المدلول .
والدّلالة اللّفظيّة إمّا على تمام ما وضع له اللّفظ ، أو على جزئه ، أو على خارجٍ عنه لازمٍ له ، كدلالة لفظ " السّقف " على الحائط أو التّحيّز أو الظّلّ ، ومن هذه الدّلالة الالتزاميّة الإيماء ، لأنّه دلالة اللّفظ غير الموضوع للتّعليل على التّعليل .
الحكم الإجماليّ :
أوّلاً : عند الفقهاء :
5 - المصلّي العاجز عن الرّكوع أو السّجود لمرضٍ أو خوفٍ أو نحوهما ، يصلّي بالإيماء ، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه . ويذكر الفقهاء أحكام ذلك في أبواب صلاة المريض ، وأبواب صلاة الخوف . وفي اعتبار الإيماء بالرّأس ونحوه في العقود والتّصرّفات من النّاطق والأخرس والمعتقل لسانه تفصيل ( ر : إشارة . وعقد ، وطلاق ) .
وفي مفسدات الصّلاة في بعض الأحوال عند بعض الأئمّة ( ر : مفسدات الصّلاة ) .
ثانياً : عند الأصوليّين :
6 - الإيماء عند أكثر الأصوليّين نوع من أنواع المنطوق . لكنّه غير صريحٍ . ويذكرونه في الدّلالات من مباحث الألفاظ ، ومسالك العلّة من مباحث القياس .
أنواع الإيماء :
7 - أنواع الإيماء كثيرة ، حتّى قال الغزاليّ : وجوه التّنبيه لا تنضبط إلاّ أنّهم ذكروا الأنواع التّالية :
أ - أن يقع الحكم في جواب سؤالٍ . ومثاله « قول الرّجل الأنصاريّ للنّبيّ صلى الله عليه وسلم : واقعت أهلي في نهار رمضان . فقال : أعتق رقبةً » فإنّه يدلّ على أنّ الوقاع في نهار رمضان علّة للإعتاق . ووجه فهم التّعليل هنا : أنّ غرض الأنصاريّ معرفة حكم ما فعل ، وما ذكره النّبيّ صلى الله عليه وسلم جواب له ليحصل غرضه ، فصار الجواب مقدّراً فيه السّؤال ، كأنّه قال : كفّر لأنّك واقعت . وهو لو صرّح بحرف التّعليل بقوله : كفّر لأنّك واقعت ، لم يكن مومئاً للعلّيّة ، بل يكون مصرّحاً بها .
وقد يجتمع التّصريح بالعلّة والإيماء بها ، ومثاله « قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن بيع الرّطب بالتّمر ، فقال : أينقص الرّطب إذا يبس ؟ قال : نعم . قال : فلا ، إذن » فإنّ " إذن " صريح في التّعليل . ولو لم يذكر " إذن " لفهم التّعليل من القرينة ، فاجتمعا .
ب - أن يقترن الوصف المناسب بالحكم في كلام المتكلّم : ومثاله « قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الهرّة : إنّها ليست بنجسٍ ، إنّها من الطّوّافين عليكم » ، فأفهم أنّ علّة طهارتها الطّواف ، إذ لو لم يكن هذا الوصف علّةً لكان لغواً ، أو - على تعبير بعض الأصوليّين - لكان بعيداً جدّاً ، فيحمل الوصف على التّعليل ، صيانةً لكلام الشّارع عن اللّغو والعبث .
ج - ومنه أن يفرّق بين حكمين بوصفين ، فيعلم أنّ أحدهما علّة لأحد الحكمين ، والآخر علّة للآخر . والتّفريق يكون بطرقٍ :
- 1 - إمّا بصيغة صفةٍ . مثل حديث « للفارس سهمان وللرّاجل سهم » ومثل « القاتل لا يرث » وقد ثبت من الدّين بالضّرورة توريث العصبات وغيرهم من أصحاب الفروض .
- 2 - وإمّا بصيغة الغاية ، نحو { ولا تَقْرَبُوهنّ حتّى يَطْهُرنَ } .
- 3 - وإمّا بصيغة الشّرط ، نحو « فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيدٍ » ناط الجواز باختلاف الجنس .
- 4 - أو بصيغة استدراكٍ . نحو { لا يؤاخذُكم اللّهُ باللّغوِ في أيمانِكم ولكن يُؤاخِذُكم بما عَقَّدْتُم الأيمانَ } فدلّ على أنّ الانعقاد علّة الكفّارة .
- 5 - أو بصيغة استثناءٍ نحو قوله تعالى : { فنصفُ ما فرضْتُم إلاّ أن يَعْفُون } يفيد علّيّة العفو لسقوط المطالبة بالمهر .
الإيماء بذكر النّظير :
8 - قد يكون الإيماء إلى العلّة بذكر نظيرٍ لمحلّ السّؤال .
ومثاله « قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لامرأةٍ من جهينة ، وقد سألته : إنّ أمّي نذرت أن تحجّ فلم تحجّ حتّى ماتت ، أفأحجّ عنها ؟ قال : نعم حجّي عنها ، أرأيت لو كان على أمّك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا اللّه فاللّه أحقّ بالوفاء » .
سألته عن دين اللّه فذكر نظيره ، وهو دين الآدميّ . فنبّه على التّعليل به ، وإلاّ لزم العبث . ففهم منه أنّ نظيره - وهو دين اللّه - كذلك علّة لمثل ذلك الحكم ، وهو وجوب القضاء .
مراتب الإيماء :
9 - أ - قد يذكر الحكم والوصف كلّ منهما صريحاً ، نحو قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » فهذا إيماء إلى أنّ الغضب علّة عدم جواز الحكم ، ومثل : أكرم العلماء وأهن الجهّال فهو إيماء إلى أنّ علّة الإكرام العلم ، وعلّة الإهانة الجهل .
فهذا النّوع إيماء بالاتّفاق .
ب - وقد يذكر الوصف صريحاً والحكم مستنبط . نحو { وأحلّ اللّه البيع } فالوصف إحلال البيع ، والحكم الصّحّة ، أو يذكر الحكم والوصف مستنبط ، نحو : حرّمت الخمر ، ولا تذكر الشّدّة المطربة ، وهي الوصف . فقد اختلف في هذين النّوعين فقيل : هما من الإيماء ، وقيل : لا لعدم الاقتران بين الحكم والوصف لفظاً .
أيمان *
التّعريف :
1 - الأيمان : جمع يمينٍ ، وهي مؤنّثة وتذكّر . وتجمع أيضاً على ( أيمنٍ ) ومن معاني اليمين لغةً : القوّة والقسم ، والبركة ، واليد اليمنى ، والجهة اليمنى . ويقابلها : اليسار ، بمعنى : اليد اليسرى ، والجهة اليسرى .
أمّا في الشّرع ، فقد عرّفها صاحب غاية المنتهى من الحنابلة بأنّها : توكيد حكمٍ بذكر معظّمٍ على وجهٍ مخصوصٍ . ومقتضى هذا التّعريف تخصيص اليمين بالقسم ، لكن يستفاد من كلام الحنابلة في مواضع كثيرةٍ من كتبهم تسمية التّعليقات السّتّة أيماناً ، وهي تعليق الكفر والطّلاق والظّهار والحرام والعتق والتزام القربة ، وقرّر ذلك ابن تيميّة في مجموع الفتاوى. حكمة التّشريع :
2 - من أساليب التّأكيد المتعارفة في جميع العصور أسلوب التّأكيد باليمين ، إمّا لحمل المخاطب على الثّقة بكلام الحالف ، وأنّه لم يكذب فيه إن كان خبراً ، ولا يخلفه إن كان وعداً أو وعيداً أو نحوهما ، وإمّا لتقوية عزم الحالف نفسه على فعل شيءٍ يخشى إحجامها عنه ، أو ترك شيءٍ يخشى إقدامها عليه ، وإمّا لتقوية الطّلب من المخاطب أو غيره وحثّه على فعل شيءٍ أو منعه عنه . فالغاية العامّة لليمين قصد توكيد الخبر ثبوتاً أو نفياً .
تقسيمات اليمين :
أوّلاً :
تقسيم اليمين بحسب غايتها العامّة
تنقسم اليمين بحسب غايتها العامّة إلى قسمين :
3 - القسم الأوّل : اليمين المؤكّدة للخبر ، سواء أكان ماضياً أم حاضراً أم مستقبلاً ، وسواء أكان إثباتاً أم نفياً ، وسواء أكان مطابقاً للواقع أم مخالفاً . واليمين على ما طابق الواقع تسمّى ( اليمين الصّادقة ) كقوله تبارك وتعالى : { زَعَمَ الّذين كفروا أَنْ لنْ يُبْعَثُوا قل بلى وربِّي لَتُبْعَثُنَّ ثمّ لَتُنَبَّؤُنَّ بما عَمِلْتم } فهذا أمر للنّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يحلف بربّه عزّ وجلّ على أنّهم سيبعثون يوم القيامة ، ثمّ يحاسبون على أعمالهم .
واليمين على ما خالف الواقع إن كان الحالف بها كاذباً عمداً تسمّى ( اليمين الغموس ) لأنّها تغمس صاحبها في الإثم .
ومن أمثلتها ما حكاه اللّه عزّ وجلّ عن المنافقين في آياتٍ كثيرةٍ منها :
قوله تعالى : { وَيَحْلِفُون باللّه إنّهم لَمِنكم وما هم منكم ولكنّهم قومٌ يَفْرَقُون } .
فهذا من المنافقين حلف على أنّهم من المؤمنين ، وهم كاذبون فيه ، وما حملهم على الكذب إلاّ أنّهم يخافون غضب المؤمنين عليهم . وإن كان الحالف بها متعمّداً صدّقها ، غير أنّه أخطأ في اعتقاده ، لم تكن غموساً ولا صادقةً ، وإنّما تكون ( لغواً ) على بعض الأقوال . ومن أمثلتها أن يقول إنسان : واللّه إنّ الشّمس طلعت ، بناءً على إشارة السّاعة والتّقويم ، ثمّ يتبيّن أنّه لم لم تكن طلعت ، وأنّه أخطأ النّظر ، أو كان بالسّاعة خلل ، أو بالتّقويم خطأ .
4 - القسم الثّاني : اليمين المؤكّدة للإنشاء . والإنشاء إمّا حثّ أو منع ، والمقصود بالحثّ : حمل الحالف نفسه أو غيره على فعل شيءٍ في المستقبل .
والمقصود بالمنع : حمل الحالف نفسه أو غيره على ترك شيءٍ في المستقبل .
مثال الحثّ : واللّه لأفعلنّ كذا ، أو لتفعلنّ كذا ، أو ليفعلنّ فلان كذا .
ومثال المنع : واللّه لا أفعل كذا ، أو لا تفعل كذا ، أو لا يفعل فلان كذا .
وهذه اليمين تسمّى ( منعقدةً ) أو ( معقودةً ) متى تمّت شرائطها ، وسيأتي بيانها .
وممّا هو جدير بالملاحظة أنّ قول القائل : لأفعلنّ ، أو لا أفعل يدلّ على حثّ نفسه على الفعل أو التّرك حقيقةً إن كان يتحدّث في خلوةٍ ، نحو : واللّه لأصومنّ غداً ، أو لا أشرب الخمر ، أو لأقتلنّ فلاناً ، أو لا أفعل ما أمرني به .
وأمّا إن كان يتحدّث في مواجهة غيره ، فإنّه يدلّ على حثّ نفسه ظاهراً ، وقد يكون هذا الظّاهر موافقاً للحقيقة ، بأن يكون عازماً على الوفاء ، وقد يكون مخالفاً لها ، بأن يكون عازماً على عدم الوفاء .
وقول القائل : لتفعلنّ أو لا تفعل يدلّ على حثّ المخاطب على الفعل أو التّرك ، ويكون بمثابة الأمر إن كان من أعلى لأدنى ، والدّعاء إن كان من أدنى لأعلى ، والالتماس إن كان بين متماثلين . ثمّ إنّه قد يكون حقيقيّاً ، وقد يكون ظاهريّاً فقط بقصد المجاملة أو غيرها .
5- هذا ، وتنقسم اليمين على المستقبل إلى : يمين برٍّ ، ويمين حنثٍ .
فيمين البرّ : هي ما كانت على النّفي ، نحو : واللّه لا فعلت كذا ، بمعنى : لا أفعل كذا ، وسمّيت يمين برٍّ لأنّ الحالف بارّ حين حلفه ، ومستمرّ على البرّ ما لم يفعل .
ويمين الحنث : ما كانت على الإثبات ، نحو : واللّه لأفعلنّ كذا ، وإنّما سمّيت يمين حنثٍ لأنّ الحالف لو استمرّ على حالته حتّى مضى الوقت أو حصل اليأس حنث .
ثانياً : تقسيم اليمين بحسب صيغتها العامّة
6 - القسم الأوّل : القسم المنجّز بالصّيغة الأصليّة لليمين ، وتكون بذكر اسم اللّه تعالى ، مثل ( واللّه ) ( والرّحمن ) أو صفةٍ له مثل ( وعزّة اللّه ) ( وجلاله ) .
وكان النّاس في الجاهليّة يحلفون باللّه وبمعبوداتهم كاللّاتي والعزّى ، وبما يعظّمونه من المخلوقات ممّا لا يعبدون كالآباء والأمّهات والكعبة ، وبما يحمدونه من الأخلاق كالأمانة . وفي صدر الإسلام بطل تعظيمهم للأصنام ونحوها ممّا كانوا يعبدونه من دون اللّه ، فبطل حلفهم بها إلاّ ما كان سبق لسانٍ ، واستمرّ حلفهم بما يحبّونه ويعظّمونه من المخلوقات ، فنهاهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمرهم بالاقتصار على الحلف باللّه تعالى ، وسيأتي بيان ذلك كلّه تفصيلاً .
7- القسم الثّاني : التّعليق ، ويمكن تحصيل الغاية العامّة من اليمين - وهي تأكيد الخبر أو الحثّ أو المنع - بطريقٍ آخر ، وهو ترتيب المتكلّم جزاءً مكروهاً له في حالة مخالفة الواقع أو تخلّف المقصود .
ولهذا الجزاء أنواع كثيرة بحسب العادة ، لكن لم يعتبر الفقهاء منها إلاّ ستّة أنواعٍ وهي : الكفر ، والطّلاق ، والظّهار ، والحرام ، والعتق ، والتزام القربة .
وأمثلتها : إن فعلت كذا ، أو : إن لم أفعل كذا ، أو : إن لم يكن الأمر كما قلت فهو بريء من الإسلام . أو : فامرأته طالق ، أو : فامرأته عليه كظهر أمّه ، أو : فحلال اللّه عليه حرام ، أو : فعبده حرّ ، أو فعليه حجّة .
وقد يكون الطّريق المحصّل للغاية ترتيب جزاءٍ محبوبٍ للمخاطب على فعل أمرٍ محبوبٍ للمتكلّم ، كما لو قال إنسان لعبده : إن بشّرتني فأنت حرّ ، فهذا الجزاء محبوب للمخاطب من حيث كونه تخلّصاً من الرّقّ ، وإن كان شاقّاً على المتكلّم من حيث كونه إزالةً للملك ، غير أنّه يستسهله لما فيه من مكافأةٍ على فعل ما يحبّه وشكرٍ للّه عزّ وجلّ على ذلك .
والجزاء المحبوب لا يتصوّر كونه ظهاراً ولا كفراً ، فهو منحصر في العتق والتزام القربة والطّلاق والحرام ، كتطليق ضرّة المخاطبة وتحريمها . وسيأتي تفصيل ذلك كلّه .
التّعليق بصورة القسم :
8 - قد يعدل الحالف عن أداء الشّرط والجملة الشّرطيّة ، ويأتي بالجزاء بدون الفاء ، ويذكر بعده جملةً شبيهةً بجواب القسم ، فيقول : هو يهوديّ ليفعلنّ كذا ، أو لا يفعل كذا ، أو امرأته طالق لا يفعل كذا ، أو ليفعلنّ كذا ، فالجملة الّتي بدئ الكلام بها جزاء لشرطٍ محذوفٍ ، تدلّ عليه الجملة المذكورة بعد ، وسيأتي بيان ذلك .
الجواب الإنشائيّ يتضمّن الخبر :
9 - القسم حينما يكون إنشائيّاً للحثّ أو المنع ، فالحلف عليه لا يمكن أن يكون حلفاً على الإنشاء المحض ، فإنّ هذا الإنشاء يحصل معناه بمجرّد النّطق به ، فلا يحتاج إلى حلفٍ . فإنّ الّذي يحتاج إلى الحلف ، هو الأمر الّذي يخشى تخلّفه ، وهو الوفاء بمضمون الجملة الإنشائيّة . فمن حلف فقال : واللّه لأقضينّك حقّك غداً ، وقد حثّ نفسه على القضاء ، وهذا الحثّ قد حصل بمجرّد النّطق ، فهو غير محتاجٍ إلى القسم من حيث ذاته ، فالقسم إذن إنّما هو على الحثّ المستتبع لأثره ، وهو حصول القضاء بالفعل في غدٍ ، وهذا المعنى خبريّ ، ولهذا لو لم يقضه حقّه لكان حانثاً . فمن قال : لأقضينّك حقّك . أثبت معنيين :
أحدهما : إنشائيّ ، وهو حثّ نفسه على القضاء ، وهذا هو المعنى الصّريح .
وثانيهما : خبريّ ، وهو الإخبار بأنّ هذا القضاء سيحصل في الغد ، وهذا المعنى ضمنيّ ، واليمين إنّما أتي بها من أجل هذا المعنى الضّمنيّ . ولهذا لا يصحّ في اللّغة العربيّة أن يجاب القسم بفعل الأمر ، ولا بفعل النّهي ، فلا يقال : واللّه قم ، أو لا تقم .
مرادفات اليمين :
10 - قال الكمال : أسماء هذا المعنى التّوكيديّ ستّة : الحلف والقسم والعهد والميثاق والإيلاء واليمين . فاليمين مرادفة للألفاظ الخمسة الّتي ذكرت معها .
وهناك ألفاظ أخرى ، فقد أفاد صاحب البدائع أنّه لو قال إنسان : أشهد أو أعزم أو شهدت أو عزمت باللّه لأفعلنّ كذا . كان يميناً ، لأنّ العزم معناه الإيجاب ، ولأنّ الشّهادة وردت في قوله تعالى : { إذا جاءك المنافقون قالوا نَشْهدُ إِنّك لَرسولُ اللّهِ واللّهُ يَعْلَمُ إنّك لَرسولُه واللّهُ يَشْهَدُ إنّ المنافقين لكاذبون اتَّخَذوا أيمانَهم جُنَّةً فَصَدّوا عن سبيل اللّه إنّهم سَاءَ ما كانوا يَعْمَلون } فالآية الثّانية أفادت أنّ شهادتهم يمين .
ويؤخذ من هذا أنّ الشّهادة والعزم من مرادفات اليمين عرفاً ، وأفاد أيضاً أنّ الذّمّة كالعهد والميثاق ، فمن قال : عليّ ذمّة اللّه لأفعلنّ كان يميناً .
11 - وأفاد ابن عابدين أنّه لو نذر الإنسان صوماً ، كأن قال : للّه عليّ أن أصوم ، فإن لم ينو شيئاً ، أو نوى النّذر ولم يخطر اليمين بباله ، أو نوى النّذر ونفى اليمين كان نذراً فقط . وإن نوى اليمين ونفى النّذر كان يميناً فقط . وعليه الكفّارة إن أفطر . وإن نواهما معاً ، أو نوى اليمين ولم يخطر بباله النّذر كان نذراً ويميناً ، حتّى لو أفطر قضى وكفّر عن يمينه . ويؤخذ من هذا أنّ صيغة النّذر تكون يميناً بالنّيّة عند الحنفيّة ، فتكون من قبيل الكناية ، بخلاف الألفاظ السّابقة ، فظاهر كلامهم أنّها صريحة عندهم ، وإن كان بعضها كنايةً عند غيرهم كما سيأتي . وسيأتي الخلاف في النّذر المبهم مثل عليّ نذر . وسيأتي أيضاً أنّ الكفالة والأمانة المضافين للّه كالعهد عند الشّافعيّة ، فقد قالوا : من قال : عليّ عهد اللّه ، أو ميثاقه ، أو ذمّته ، أو كفالته ، أو أمانته لأفعلنّ كذا ، أو لا أفعل كذا ، كان قوله ذلك يميناً بالنّيّة .
12 - هذا ما في كتب الفقه ، وقد يجد الباحث في كتب اللّغة ألفاظاً أخرى كالنّفل . ففي القاموس المحيط : نفل : حلف . وهو من باب نصر . ويؤخذ من لسان العرب أنّ ( نفل ) ( وانتفل ) و ( أنفل ) معناها حلف ، ويقال : نفّلته بتشديد الفاء أي : حلّفته .
أيمان خاصّة
أ - الإيلاء :
13 - هو أن يحلف الزّوج على الامتناع من وطء زوجته مطلقاً أو مدّة أربعة أشهرٍ ، سواء أكان الحلف باللّه تعالى أم بتعليق الطّلاق أو العتق أو نحوهما . ولهذا الإيلاء أحكام خاصّة مأخوذة من قوله تعالى : { لِلّذين يُؤْلون من نسائهم تَرَبُّصُ أربعةِ أشهرٍ فإن فَاءُوا فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ وإن عَزَمُوا الطّلاقَ فإنّ اللّهَ سميعٌ عليمٌ } ولتفصيلها ( ر : إيلاء ) .
ب - اللّعان :
14 - اللّعان في اللّغة : مصدر لاعن ، بمعنى شاتم ، فإذا تشاتم اثنان ، فشتم كلّ منهما الآخر بالدّعاء عليه ، بأن يلعنه اللّه ، قيل لهما : تلاعنا ، ولاعن كلّ منهما صاحبه .
واللّعان في الشّرع لا يكون إلاّ أمام القاضي ، وهو : قول الزّوج لامرأته مشيراً إليها : أشهد باللّه إنّي لمن الصّادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزّنى .
وإذا كانت حاملاً أو ولدت ولداً واعتقد أنّه ليس منه زاد : وأنّ هذا الحمل أو الولد ليس منّي . ويكرّر ذلك كلّه أربع مرّاتٍ ، ويزيد بعد الرّابعة : وعليه لعنة اللّه إن كان من الكاذبين . ولعان المرأة زوجها إذا لم تصدّقه أن تقول بعد لعانه إيّاها : أشهد باللّه إنّ زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزّنى ، وتزيد لإثبات نسبة الحمل أو الولد : وأنّ هذا الولد منه . وتكرّر ذلك كلّه أربع مرّاتٍ ، وتزيد بعد الرّابعة : وعليها غضب اللّه إن كان من الصّادقين . ولعان الحاكم بين الزّوجين هو : أن يحضرهما ، ويأمر الزّوج بملاعنة زوجته إن كان مصرّاً على قذفها ، وليس معه أربعة شهودٍ عدولٍ ، ولم تعترف الزّوجة بما قاله ، ثمّ يأمر الزّوجة - بعد انتهاء الزّوج من الملاعنة - أن تلاعنه ، فإذا لَاعَنته فرّق بينهما .
ومعلوم أنّ قول كلٍّ من الزّوج والزّوجة : أشهد باللّه معناه أقسم باللّه ، فعلى هذا يكون اللّعان يميناً خاصّةً لها أحكام تخصّها ، ولتفصيلها ( ر : لعان ) .
ج - القسامة :
15 - القسامة في اللّغة لها معانٍ : منها اليمين .
وفي الشّرع : أن يقسم خمسون من أولياء القتيل على استحقاقهم دية قتيلهم ، إذا وجدوه قتيلاً بين قومٍ ، ولم يعرف قاتله . فإن لم يكونوا خمسين رجلاً أقسم الموجودون خمسين يميناً . فإن امتنعوا وطلبوا اليمين من المتّهمين ردّها القاضي عليهم ، فأقسموا بها على نفي القتل عنهم . فإن حلف المدّعون استحقّوا الدّية . وإن حلف المتّهمون لم تلزمهم الدّية . على خلافٍ وتفصيلٍ ينظر في ( قسامةٍ ) .
د - اليمين المغلّظة :
16 - هي اليمين الّتي غلّظت بالزّمان ، والمكان ، وزيادة الأسماء والصّفات ، وبحضور جمعٍ ، وبالتّكرار . فالتّغليظ بالزّمان هو : أن يكون الحلف بعد العصر ، وعصر الجمعة أولى من غيره . والتّغليظ بالمكان : أن يكون الحلف عند منبر المسجد الجامع من جهة المحراب ، وكونه على المنبر أولى . أمّا التّغليظ في مكّة ، فهو أن يكون بين الرّكن الأسود والمقام . والتّغليظ بالزّمان والمكان يكون في اللّعان والقسامة وبعض الدّعاوى .
والتّغليظ بزيادة الأسماء والصّفات نحو : واللّه الطّالب الغالب المدرك المهلك الّذي يعلم السّرّ وأخفى ، ونحو : واللّه الّذي لا إله إلاّ هو عالم الغيب والشّهادة الرّحمن الرّحيم الّذي يعلم من السّرّ ما يعلم من العلانية . وهذا التّغليظ يكون في بعض الدّعاوى .
والتّغليظ بحضور جمعٍ هو : أن يحضر الحلف جماعة من أعيان البلدة وصلحائها ، أقلّهم أربعة . وهذا التّغليظ يكون في اللّعان . والتّغليظ بالتّكرار هو : تكرار اليمين خمسين مرّةً . وهذا يكون في القسامة . ولتفصيل ذلك كلّه ( ر : لعان وقسامة ودعوى ) .
هـ – أيمان البيعة :
17- ممّا أحدثه الحجّاج بن يوسف الثّقفيّ ، أن حلّف النّاس على بيعتهم لعبد الملك بن مروان بالطّلاق والعتاق واليمين باللّه وصدقة المال . فكانت هذه الأيمان الأربعة أيمان البيعة القديمة المبتدعة . ثمّ أحدث المستحلفون من الأمراء عن الخلفاء والملوك وغيرهم أيماناً كثيرةً ، تختلف فيها عاداتهم ، ومن أحدث ذلك فعليه إثم ما ترتّب على هذه الأيمان من الشّرّ . فإذا حلف إنسان بأيمان البيعة ، بأن قال : عليّ أيمان البيعة ، أو أيمان البيعة تلزمني إن فعلت كذا أو إن لم أفعل كذا مثلاً :
فالمالكيّة اختلفوا ، فقال أبو بكر بن العربيّ : أجمع المتأخّرون على أنّه يحنث فيها بالطّلاق لجميع نسائه ، والعتق لجميع عبيده ، وإن لم يكن له رقيق فعليه عتق رقبةٍ واحدةٍ ، والمشي إلى مكّة ، والحجّ ولو من أقصى المغرب ، والتّصدّق بثلث جميع أمواله ، وصيام شهرين متتابعين . ثمّ قال : جلّ الأندلسيّين قالوا : إنّ كلّ امرأةٍ له تطلق ثلاثاً ثلاثاً ، وقال القرويّون : إنّما تطلق واحدةً واحدةً . وألزمه بعضهم صوم سنةٍ إذا كان معتاداً للحلف بذلك . وقال الشّافعيّ وأصحابه : إن لم يذكر في لفظه طلاقها أو عتاقها أو حجّها أو صدقتها لم يلزمه شيء ، سواء أنواه أم لم ينوه ، إلاّ أن ينوي طلاقها أو عتاقها ، فاختلف أصحابه ، فقال العراقيّون : يلزمه الطّلاق والعتاق ، فإنّ اليمين بهما تنعقد بالكناية مع النّيّة ، وقال صاحب التّتمّة : لا يلزمه ذلك وإن نواه ما لم يتلفّظ به ، لأنّ الصّريح لم يوجد ، والكناية إنّما يترتّب عليها الحكم فيما يتضمّن الإيقاع ، فأمّا الالتزام فلا .
والحنابلة اختلفوا ، فقال أبو القاسم الخرقيّ : إن نواها لزمته ، سواء أعرفها أم لم يعرفها . وقال أكثر الأصحاب ومنهم صاحب المغني : إن لم يعرفها لم تنعقد يمينه بشيءٍ ممّا فيها ، وفي غاية المنتهى : يلزم بأيمان البيعة - وهي يمين رتّبها الحجّاج تتضمّن اليمين باللّه تعالى والطّلاق والعتاق وصدقة المال - ما فيها إن عرفها ونواها ، وإلاّ فلغو .
و- أيمان المسلمين :
18 - جاء في كتب المالكيّة : أنّ هذه العبارة تشمل ستّة أشياء ، وهي : اليمين باللّه تعالى ، والطّلاق الباتّ لجميع الزّوجات ، وعتق من يملك من العبيد والإماء ، والتّصدّق بثلث المال ، والمشي بحجٍّ ، وصوم عامٍ . وهذا الشّمول للسّتّة إنّما يكون عند تعارف الحلف بها ، فإن تعورف الحلف ببعضها لم تشمل ما سواه .
وذهب الشّافعيّة إلى تحريم تحليف القاضي بالطّلاق أو العتاق أو النّذر . قال الشّافعيّ : ومتى بلغ الإمام أنّ قاضياً يستحلف النّاس بطلاقٍ أو عتقٍ أو نذرٍ عزله عن الحكم ، لأنّه جاهل . وقال الحنابلة : يلزم بالحلف بأيمان المسلمين ظهارٍ وطلاقٍ وعتاقٍ ونذرٍ ويمينٍ باللّه تعالى مع النّيّة . كما لو حلف بكلٍّ منها على انفرادٍ .
ولو حلف بأيمان المسلمين على نيّة بعض ما ذكر تقيّد حلفه به ، ولو حلف بها وأطلق بأن لم ينو كلّها ولا بعضها لم يلزمه شيء ، لأنّه لم ينو بلفظه ما يحتمله فلم تكن يميناً .
ي - أيمان الإثبات والإنكار :
19 - يذكر الفقهاء في مبحث الدّعوى أيماناً للإثبات والإنكار .
منها : اليمين المنضمّة ، ويصحّ تسميتها باليمين المتمّمة ، وهي الّتي تضمّ إلى شهادة شاهدٍ واحدٍ ، أو شهادة امرأتين لإثبات الحقوق الماليّة .
ومنها : يمين المنكر بكسر الكاف ، أو يمين المدّعى عليه ، وصورتها : أن يدّعي إنسان على غيره بشيءٍ ، ولا يجد بيّنةً ، فيبيّن له القاضي أنّ له الحقّ في طلب اليمين من المدّعى عليه ما دام منكراً ، فيأمره القاضي أن يحلف ، فإذا حلف سقطت الدّعوى .
ومنها : يمين الرّدّ ، وصورتها : أن يمتنع المدّعى عليه في الحالة السّابق ذكرها عن اليمين ، فيردّها القاضي على المدّعي ، فيحلف على دعواه ، ويستحقّ ما ادّعاه .
ومنها : يمين الاستظهار ، وصورتها : أن يترك الميّت أموالاً في أيدي الورثة ، فيدّعي إنسان حقّاً على هذا الميّت ، فعند بعض الفقهاء لا تثبت الدّعوى في مواجهة الورثة بالبيّنة فقط ، بل لا بدّ من ضمّ اليمين من المدّعي ، وقد تجب يمين الاستظهار في مسائل أخرى . ولبيان كلّ ما سبق تفصيلاً ( ر : إثبات ودعوى ) .
إنشاء اليمين وشرائطها
20 - تقدّم أنّ اليمين تنقسم من حيث صيغتها إلى قسمٍ وتعليقٍ ، ومن هنا حسن تقسيم الكلام إلى قسمين .
إنشاء القسم وشرائطه
21 - معلوم أنّ الإنسان إذا قال : أقسم باللّه لأفعلنّ كذا، فهذه الصّيغة تحتوي على جملتين ، أولاهما : الجملة المكوّنة من فعل القسم وفاعله الضّمير ، وحرف القسم وهو الباء ، والمقسم به وهو مدخول الباء .
وثانيتهما : الجملة المقسم عليها . وتفصيل الكلام على الوجه الآتي .
أ - فعل القسم :
22 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ فعل القسم إذا ذكر بصيغة المضارع أو الماضي ، كأقسمت أو حلفت ، أو حذف وذكر مكانه المصدر نحو : قسماً أو حلفاً باللّه ، أو لم يذكر نحو : اللّه أو باللّه كان ذلك كلّه يميناً عند الإطلاق .
وعند المالكيّة إذا قال : أحلف أو أقسم أو أشهد أو أعزم ، وقال بعد كلّ واحدٍ منها : باللّه ، فهي يمين . وقول القائل : عزمت عليك باللّه ليس بيمينٍ ، بخلاف : عزمت باللّه ، أو : أعزم باللّه كما تقدّم .
والفرق هو أنّ التّصريح بكلمة ( عليك ) جعله غير يمينٍ بخلاف ( أقسم ) فإنّها إذا زيد بعدها كلمة عليك لم تخرجها عن كونها يميناً ، لأنّ ( أقسم ) صريح في اليمين .
وقول الشّخص : يعلم اللّه ، ليس بيمينٍ ، فإن كان كاذباً فعليه إثم الكذب ، ولا يكون كافراً بذلك ، ولا بقوله : أشهد اللّه ، إلاّ إن قصد أنّه عزّ وجلّ يخفى عليه الواقع ، ولا يكون القسم أيضاً بقوله : اللّه راعٍ ، أو حفيظ ، أو حاشا للّه ، أو معاذ اللّه .
وقال الشّافعيّة : من قال لغيره : آليت ، أو أقسمت ، أو أقسم عليك باللّه ، أو أسألك باللّه لتفعلنّ كذا ، أو لا تفعل كذا ، أو قال : باللّه لتفعلنّ كذا ، أو لا تفعل كذا ، فإمّا أن يريد يمين نفسه أولاً : فإن أراد يمين نفسه فيمين ، لصلاحيّة اللّفظ لها مع اشتهاره على ألسنة حملة الشّرع .
وإن لم يرد يمين نفسه ، بل أراد الشّفاعة ، أو يمين المخاطب ، أو أطلق لم تكن يميناً .
فإن قال : واللّه ، أو حلفت عليك باللّه كان يميناً عند الإطلاق ، لعدم اشتهاره في الشّفاعة أو يمين المخاطب . وإن قال : آليت ، أو أقسمت ، أو أقسم باللّه ، ولم يقل : عليك كان يميناً عند الإطلاق أيضاً .
وقال الحنابلة : إذا قال أقسمت ، أو أقسم ، أو شهدت ، أو أشهد ، أو حلفت ، أو أحلف ، أو عزمت ، أو أعزم ، أو آليت ، أو أولي ، أو قسماً ، أو حلفاً ، أو أليةً ، أو شهادةً ، أو يميناً ، أو عزيمةً ، وأتبع كلّاً من هذه الألفاظ بقوله ( باللّه ) مثلاً كانت يميناً ، سواء أنوى بها إنشاء اليمين أم أطلق ، فإن نوى بالفعل الماضي إخباراً عن يمينٍ مضت ، أو بالمضارع وعداً بيمينٍ مستقبلةٍ ، أو نوى بقوله : عزمت وأعزم وعزيمةً : قصدت أو أقصد أو قصداً ، لم يكن يميناً يقبل منه ذلك .
23 - وليس من اليمين قوله : أستعين باللّه ، وأعتصم باللّه ، وأتوكّل على اللّه ، وعلم اللّه ، وعزّ اللّه ، وتبارك اللّه ، والحمد للّه ، وسبحان اللّه ، ونحو ذلك ولو نوى اليمين ، لأنّها لا تحتمل اليمين شرعاً ولا لغةً ولا عرفاً .
ولو قال : أسألك باللّه لتفعلنّ لم تكن الصّيغة يميناً إنّ أطلق أو قصد السّؤال أو الإكرام أو التّودّد ، بخلاف ما لو قصد اليمين فإنّها تكون يميناً .
ب - حروف القسم :
24 - هي : الباء والواو والتّاء . أمّا الباء فهي الأصل ، ولهذا يجوز أن يذكر قبلها فعل القسم ، وأن يحذف ، ويجوز أن تدخل على الظّاهر والمضمر ، نحو : أقسم بك يا ربّ لأفعلنّ كذا . وتليها الواو ، وهي تدخل على الظّاهر فقط ، ويحذف معها فعل القسم وجوباً . وتليها التّاء ، ولا تدخل إلاّ على لفظ الجلالة ، كما في قوله تعالى حكايةٍ عن نبيّه إبراهيم عليه السلام { وتَاللّهِ لَأَكيدنّ أصنامَكم } وربّما دخلت على ( ربّ ) نحو : تربّي ، وتربّ الكعبة ، ويجب معها حذف فعل القسم أيضاً .
وإذا وجب حذف الفعل وجب حذف المصادر أيضاً ، نحو قسماً .
ويقوم مقام باء القسم حروف أخرى ، وهي الهاء والهمزة واللّام .
أمّا الهاء فمثالها : ها اللّه ، بفتح الهاء ممدودةً ومقصورةً مع قطع همزة لفظ الجلالة ووصلها ، وإذا وصلت حذفت .
وأمّا الهمزة فمثالها : آللّه ، ممدودةً ومقصورةً مع وصل همزة لفظ الجلالة ، وذلك بأن تحذف . وأمّا اللّام ، فقد أفاد صاحب البدائع : أنّ من قال ( للّه ) فاللّام الجرّ بدل الباء كانت صيغته يميناً . ولا تستعمل اللّام إلاّ في قسمٍ متضمّنٍ معنى التّعجّب ، كقول ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما : دخل آدم الجنّة فللّه ما غربت الشّمس حتّى خرج .
وفي مغني اللّبيب والقاموس وشرحه ما يفيد أنّ اللّام تستعمل للقسم والتّعجّب معاً ، وتختصّ بلفظ الجلالة . هذا ما قاله الحنفيّة ونحوه بقيّة المذاهب .
حذف حرف القسم :
25 - إن لم يذكر الحالف شيئاً من أحرف القسم ، بل قال : اللّه لأفعلنّ كذا مثلاً ، كان يميناً بغير حاجةٍ إلى النّيّة سواء أكسر الهاء على سبيل الجرّ بالحرف المحذوف ، أم فتحها على سبيل نزع الخافض ، أم ضمّها على سبيل الرّفع بالابتداء ، ويكون الخبر محذوفاً وتقديره : قسمي أو أقسم به ، أم سكّنها إجراءً للوصل مجرى الوقف .
وبقاء الجرّ عند حذف الحرف خاصّ بلفظ الجلالة ، فلا يجوز في العربيّة أن يقال : الرّحمن لأفعلنّ كذا بكسر النّون . كذا قيل . لكن الرّاجح أنّه يجوز وإن كان قليلاً ، وأيّاً ما كان فاللّحن لا يمنع انعقاد اليمين . هذا مذهب الحنفيّة والمالكيّة .
وقال الشّافعيّة : لو قال : اللّه ، بحذف حرف القسم . لم يكن يميناً إلاّ بالنّيّة ، سواء جرّ الاسم أم نصبه أم رفعه أم سكنّه .
وقال الحنابلة : يصحّ قسم بغير حروفه ، نحو : اللّه لأفعلنّ ، جرّاً ونصباً .
فإن رفع فيمين أيضاً إلاّ إذا كان الرّافع يعرف العربيّة ولم ينو اليمين ، فلا يكون يميناً لأنّه إمّا مبتدأ أو معطوف بخلاف من لا يعرف العربيّة ، فلو رفع كان يميناً لأنّ اللّحن لا يضرّ .
ج - اللّفظ الدّالّ على المقسم به :
26 - اللّفظ الدّالّ على المقسم به : هو ما دخل عليه حرف القسم ، بشرط أن يكون اسماً للّه تعالى أو صفةً له .
والمقصود بالاسم : ما دلّ على الذّات المتّصفة بجميع صفات الكمال ، وهو لفظ الجلالة ( اللّه ) وكذلك ترجمته بجميع اللّغات ، أو على الذّات المتّصفة بصفةٍ من صفاته تعالى ، سواء أكان مختصّاً به كالرّحمن ، وربّ العالمين ، وخالق السّموات والأرض ، والأوّل بلا بدايةٍ ، والآخر بلا نهايةٍ ، والّذي نفسي بيده ، والّذي بعث الأنبياء بالحقّ ، ومالك يوم الدّين . أم كان مشتركاً بينه وبين غيره كالرّحيم والعظيم والقادر والرّبّ والمولى والرّازق والخالق والقويّ والسّيّد ، فهذه الأسماء قد تطلق على غيره تعالى ، قال تعالى في وصف الرّسول صلى الله عليه وسلم { بالمؤمنين رَءوفٌ رحيمٌ } وقال عزّ وجلّ في حكاية ما قاله الهدهد لسليمان عليه السلام وصفاً لملكة سبأٍ { ولها عرْشٌ عظيم } . وقال سبحانه في وصف أهل الحديقة الّذين عزموا على البخل بثمرها { وَغَدَوْا على حَرْدٍ قادرين } ومعنى الحرد : المنع ، والمراد منع المساكين ، وقال تعالى حكايةً عن قول يوسف عليه السلام لأحد صاحبيه في السّجن : { اذكرني عند ربّك } وقال عزّ وجلّ مخاطباً لزوجين من أزواج الرّسول صلى الله عليه وسلم { وإنْ تَظَاهرا عليه فإنّ اللّهَ هو مولاه وجبريلُ وصالحُ المؤمنين } وقال جلّ شأنه مخاطباً لمن يقسمون الميراث { وإذا حَضَر القِسْمة أولو القربى واليتامى والمساكينُ فارزقوهم منه } وقال سبحانه مخاطباً لعيسى عليه السلام { وإذْ تَخْلُقُ من الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيرِ بإِذني } ، وقال تعالى حكايةً عن قول إحدى المرأتين لأبيها عن موسى عليه السلام { إنّ خيرَ من استأجرتَ القويُّ الأمينُ } وقال سبحانه وتعالى : { وأَلْفَيَا سيِّدَها لَدَى الباب } 27 - والمقصود بالصّفة : اللّفظ الدّالّ على معنًى تصحّ نسبته إلى اللّه تعالى ، سواء كان صفة ذاتٍ أم صفة فعلٍ .
وصفة الذّات هي : الّتي يتّصف سبحانه وتعالى بها لا بضدّها كوجوده .
وصفة الفعل هي : الّتي يتّصف اللّه عزّ وجلّ بها وبضدّها باعتبار ما تتعلّق به ، كرحمته وعذابه .
28 - ولا تنعقد اليمين بكلّ اسمٍ له تعالى أو صفةٍ له على الإطلاق ، بل ذلك مقيّد بشرائط مفصّلةٍ تختلف فيها المذاهب .
فالحنفيّة لهم في ذلك أقوال ، أرجحها : أنّ الاسم يجوز الإقسام به ، سواء أكان مختصّاً أم مشتركاً ، وسواء أكان الحلف به متعارفاً أم لا ، وسواء أنوى به اللّه تعالى أم لا .
لكن لو نوى بالاسم المشترك غير اللّه لم يكن يميناً ، وإذا كان الاسم غير واردٍ في الكتاب أو السّنّة لم يكن يميناً إلاّ إذا تعورف الحلف به ، أو نوى به اللّه تعالى . وأمّا الصّفة فلا يصحّ الإقسام بها إلاّ إذا كانت مختصّةً بصفته تعالى ، سواء أكان الحلف بها متعارفاً أم لا ، أو كانت مشتركةً بين صفته تعالى وغيرها وتعورف الحلف بها ، وسواء في الصّفة كونها صفة ذاتٍ وكونها صفة فعلٍ .
وقال المالكيّة : تنعقد اليمين باسم اللّه تعالى وصفته الذّاتيّة المختصّة . وأمّا المشتركة فإنّ اليمين تنعقد بها ما لم يرد بها غير صفته تعالى . وأمّا صفة الفعل ففي الانعقاد بها خلاف . وقال الشّافعيّة والحنابلة : تنعقد اليمين باسم اللّه تعالى المختصّ به إن أراد اللّه تعالى أو أطلق ، فإن أراد غيره لم يقبل ظاهراً ولا باطناً عندهم .
وتنعقد أيضاً باسمه الّذي يغلب إطلاقه عليه ، ولا يطلق على غيره إلاّ مقيّداً كالرّبّ ، وهذا إن أراد اللّه تعالى أو أطلق ، فإن أراد غيره قبل ظاهراً وباطناً عندهم جميعاً .
وتنعقد أيضاً بالاسم المشترك الّذي لا يغلب إطلاقه على اللّه تعالى كالحيّ والسّميع ، وكذا باللّفظ الّذي يشمله وإن لم يكن اسماً له تعالى كالشّيء ، لكن يشترط في انعقادها بهذا النّوع أن يريد الحالف اللّه تعالى ، فإن أراد غيره أو أطلق لم تنعقد يمينه .
ولم يفصّل الحنابلة في ذلك ، بل قالوا : إنّ الصّفة المضافة تنعقد اليمين بها ، أمّا غير المضافة - كأن يقال : والعزّة - فلا تنعقد بها إلاّ بإرادة صفته تعالى .
29 - وأمّا الاسم الّذي لا يعدّ من أسمائه ، ولا يصحّ إطلاقه عليه فلا تنعقد به اليمين ، ولو أريد به اللّه تعالى ، ومثّل له الشّافعيّة بقول بعض العوّام ( والجناب الرّفيع ) فالجناب للإنسان فناء داره ، وهو مستحيل في حقّ اللّه تعالى ، والنّيّة لا تؤثّر مع الاستحالة . أمّا صفة الفعل ، فقد صرّح الشّافعيّة بعدم انعقاد اليمين بها ، وسكت الحنابلة عنها ، وأطلقوا انعقاد اليمين بصفته تعالى المضافة إليه ، وظاهر ذلك أنّها تنعقد عندهم بصفته الفعليّة .
الحلف بالقرآن والحقّ
أ - الحلف بالقرآن أو المصحف :
30 - المعتمد في مذهب الحنفيّة : أنّ الحلف بالقرآن يمين ، لأنّ القرآن كلام اللّه تعالى الّذي هو صفته الذّاتيّة ، وقد تعارف النّاس الحلف به ، والأيمان تبنى على العرف .
أمّا الحلف بالمصحف ، فإن قال الحالف : أقسم بما في هذا المصحف فإنّه يكون يميناً .
أمّا لو قال : أقسم بالمصحف ، فإنّه لا يكون يميناً ، لأنّ المصحف ليس صفةً للّه تعالى ، إذ هو الورق والجلد ، فإن أراد ما فيه كان يميناً للعرف .
وقال المالكيّة : ينعقد القسم بالقرآن وبالمصحف ، وبسورة البقرة أو غيرها ، وبآية الكرسيّ أو غيرها ، وبالتّوراة وبالإنجيل وبالزّبور ، لأنّ كلّ ذلك يرجع إلى كلامه تعالى الّذي هو صفة ذاتيّة ، لكن لو أراد بالمصحف النّقوش والورق لم يكن يميناً .
وقال الشّافعيّة : تنعقد اليمين بكتاب اللّه والتّوراة والإنجيل ما لم يرد الألفاظ ، وبالقرآن وبالمصحف ما لم يرد به ورقه وجلده ، لأنّه عند الإطلاق لا ينصرف عرفاً إلاّ لما فيه من القرآن . وقال الحنابلة : الحلف بكلام اللّه تعالى والمصحف والقرآن والتّوراة والإنجيل والزّبور يمين ، وكذا الحلف بسورةٍ أو آيةٍ .
ب - الحلف بالحقّ ، أو حقّ اللّه :
31 - لا شكّ أنّ الحقّ من أسمائه تعالى الواردة في الكتاب الكريم والسّنّة المطهّرة ، غير أنّه ليس من الأسماء المختصّة به ، وقد مثّل به الشّافعيّة للأسماء الّتي تنصرف عند الإطلاق إلى اللّه تعالى ، ولا تنصرف إلى غيره إلاّ بالتّقييد ، فعلى هذا من قال : والحقّ لأفعلنّ كذا ، إن أراد اللّه تعالى أو أطلق كان يميناً بلا خلافٍ ، وإن أراد العدل أو أراد شيئاً ما من الحقوق الّتي تكون للإنسان على الإنسان قُبِلَ منه ذلك ظاهراً وباطناً .
32 - وأمّا ( حقّ ) المضاف إلى اللّه تعالى ، أو إلى اسمٍ أو صفةٍ من الأسماء والصّفات الّتي تنعقد اليمين بها ففيه خلاف .
فالحنفيّة نقلوا عن أبي حنيفة ومحمّدٍ وإحدى الرّوايتين عن أبي يوسف أنّ من قال : ( وحقّ اللّه ) يكن يميناً . ووجّهه صاحب البدائع بأنّ حقّه تعالى هو الطّاعات والعبادات ، فليس اسماً ولا صفةً للّه عزّ وجلّ . وعن أبي يوسف في روايةٍ أخرى أنّه يمين ، لأنّ الحقّ من صفاته تعالى ، وهو حقيقة ، فكأنّ الحالف قال : واللّه الحقّ ، والحلف به متعارف . واختار صاحب الاختيار هذه الرّواية ، وتبعه ابن نجيمٍ في البحر الرّائق .
وقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : ينعقد القسم بحقّ اللّه ، ومرجعه إلى العظمة والألوهيّة ، فإن قصد الحالف به الحقّ الّذي على العباد من التّكاليف والعبادة فليس بيمينٍ .
حذف المقسم به
33 - إذا لم يذكر الحالف المقسم به بل قال : أقسم ، أو أحلف ، أو أشهد ، أو أعزم لأفعلنّ كذا ، أو آليت لا أفعل كذا كان يميناً عند أبي حنيفة وصاحبيه .
وقال المالكيّة : لو حذف الحالف قوله ( باللّه ) بعد قوله أحلف أو أقسم أو أشهد كان يميناً إن نواه - أي نوى الحلف باللّه - بخلاف ما لو حذفه بعد قوله أعزم فإنّه لا يكون يميناً وإن نواه .
والفرق بين هذا الفعل والأفعال الثّلاثة السّابقة ، أنّ العزم معناه الأصليّ القصد والاهتمام ، فلا يكون بمعنى القسم إلاّ إذا ذكر بعده المقسم به ، بأن يقول ( باللّه ) ، مثلاً ، بخلاف الأفعال الثّلاثة السّابقة ، فإنّها موضوعة للقسم فيكفي فيها أن ينوي المقسم به عند حذفه . وقال الشّافعيّة : لو حذف المتكلّم المحلوف به لم تكن الصّيغة يميناً ولو نوى اليمين باللّه ، سواء ذكر فعل القسم أم حذفه .
وقال الحنابلة : لو حذف الحالف قوله ( باللّه ) مثلاً بعد نطقه بالفعل أو الاسم الدّالّ على القسم ، نحو : قسماً ، لم تكن الصّيغة يميناً ، إلاّ إذا نوى الحلف باللّه .
اللّفظ الدّالّ على المقسم عليه
34 - اللّفظ الدّالّ على المقسم عليه هو الجملة الّتي يريد الحالف تحقيق مضمونها من إثباتٍ أو نفيٍ ، وتسمّى جواب القسم . ويجب في العربيّة تأكيد الإثبات باللّام مع نون التّوكيد إن كان الفعل مضارعاً ، وباللّام مع قد إن كان ماضياً . يقال : واللّه لأفعلنّ كذا ، أو لقد فعلت كذا . وأمّا النّفي فلا يؤكّد فيه الفعل ، بل يقال : واللّه لا أفعل كذا ، أو ما فعلت كذا . فإذا ورد فعل مضارع مثبت ليس فيه لام ولا نون توكيدٍ اعتبر منفيّاً بحرفٍ محذوفٍ ، كما في قوله تعالى : { تاللّه تَفْتَأُ تَذْكُرُ يوسفَ } أي : لا تفتأ .
وعلى هذا لو قال إنسان : واللّه أكلّم فلاناً اليوم ، كان حالفاً على نفي تكليمه ، فيحنث إذا كلّمه ، لأنّ الفعل لمّا لم يكن فيه لام ولا نون توكيدٍ قدّرت قبله ( لا ) النّافية .
هذا إذا لم يتعارف النّاس خلافه ، فإن تعارفوا أنّ مثل ذلك يكون إثباتاً ، كان حالفاً على الإثبات وإن كان خطأً في اللّغة العربيّة . هكذا يؤخذ من كتب الحنفيّة والحنابلة ، ولا نظنّ أنّه محلّ خلافٍ ، فإنّه من الوضوح بمكانٍ .
الصّيغ الخالية من أداة القسم والمقسم به
35 - قد يأتي الحالف بصيغٍ خاليةٍ من أداة القسم ومن اسم اللّه تعالى وصفته ، أو خاليةٍ من الأداة وحدها ، وتعتبر عند بعض الفقهاء أيماناً كاليمين باللّه تعالى .
أ - لَعَمْرُ اللّه :
36 - إذا قيل : لعمر اللّه لأفعلنّ كذا ، كان هذا قسماً مكوّناً من مبتدأٍ مذكورٍ وخبرٍ مقدّرٍ ، والتّقدير : لعمر اللّه قسمي ، أو يميني ، أو أحلف به . وهي في قوّة قولك : وعمر اللّه ، أي بقائه ، هذا مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة .
وقال الشّافعيّة : إنّ هذه الصّيغة كناية ، لأنّ العمر يطلق على الحياة والبقاء ، ويطلق أيضاً على الدّين وهو العبادات ، فيحتمل أن يكون معناه : وحياة اللّه وبقائه ، أو دينه ، فيكون يميناً على الاحتمالين الأوّلين دون الثّالث ، فلا بدّ من النّيّة .
ب - وأَيْمُن اللّه :
37 - جاء هذا الاسم في كتب الحنفيّة والمالكيّة وغيرهم مسبوقاً بالواو ، وظاهره أنّ الواو للقسم ، ويكون إقساماً ببركته تعالى أو قوّته ، وجاء في كتب الحنابلة مسبوقاً بالواو أيضاً مع تصريح بعضهم بأنّ نونه مضمومة وأنّه مبتدأ . ومعلوم أنّ الجملة قسم فقط ، فلا يترتّب عليها حكم إلاّ إذا جيء بعدها بجملة الجواب ، مثل لأفعلنّ كذا .
ج - عليَّ نذر ، أو نذر للّه :
38 - قال الحنفيّة : إذا قال قائل : عليّ نذر ، أو نذر اللّه لأفعلنّ كذا ، أو لا أفعل كذا ، كان ذلك يميناً ، فإذا لم يوفّ بما ذكره كان عليه كفّارة يمينٍ .
ولو قال : عليّ نذر ، أو نذر للّه ، ولم يزد على ذلك ، فإن نوى بالنّذر قربةً من حجٍّ أو عمرةٍ أو غيرهما لزمته ، وإن لم ينو شيئاً كان نذراً لكفّارة اليمين ، كأنّه قال : عليّ نذر للّه أن أؤدّي كفّارة يمينٍ ، فيكون حكمه حكم اليمين الّتي حنث فيها صاحبها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « النّذر يمين ، وكفّارته كفّارة اليمين » هذا مذهب الحنفيّة .
وقال المالكيّة : تلزم كفّارة في النّذر المبهم . وله أربع صورٍ : الأولى : عليّ نذر ، الثّانية : للّه عليّ نذر ، الثّالثة : إن فعلت كذا أو إن شفى اللّه مريضي فعليّ نذر ، الرّابعة : إن فعلت كذا أو إن شفى اللّه مريضي فللّه عليّ نذر ، ففي الصّورتين الأوليين تلزم الكفّارة بمجرّد النّطق ، وفي الصّورتين الأخريين تلزم الكفّارة بحصول المعلّق عليه سواء أكان القصد الامتناع أم الشّكر .
وقال الشّافعيّة : من قال : عليّ نذر ، أو إن شفى اللّه مريضي فعليّ نذر ، لزمته قربة غير معيّنةٍ ، وله أن يختار ما شاء من القرب ، كتسبيحٍ وتكبيرٍ وصلاةٍ وصومٍ .
ومن قال : إن كلّمت زيداً فعليّ نذر أو فللّه عليّ نذر ، يخيّر بين القربة وبين كفّارة يمينٍ ، فإن اختار القربة فله اختيار ما شاء من القرب ، وإن اختار كفّارة اليمين كفّر بما يجب في اليمين الّتي حنث صاحبها فيها . ومن قال : إن كلّمت زيداً فعليّ كفّارة نذرٍ ، كان عليه عند الحنث كفّارة يمينٍ ، والصّيغة في جميع هذه الأمثلة صيغة نذرٍ وليست صيغة يمينٍ ، إلاّ الصّيغة الّتي فيها ( إن كلّمت زيداً ... إلخ ) فيجوز تسميتها يميناً ، لأنّها من نذر اللّجاج والغضب . وقال الحنابلة : من قال : عليّ نذر إن فعلت كذا ، وفعله ، فعليه كفّارة يمينٍ في الأرجح ، وقيل : لا كفّارة عليه ، وقيل : إن نوى اليمين فعليه الكفّارة وإلاّ فلا ، ولو قال : للّه عليّ نذر ولم يعلّقه بشيءٍ ، فعليه كفّارة يمينٍ أيضاً في الأرجح .
د - عليّ يمين ، أو يمين اللّه :
39 - قال الحنفيّة : إذا قال : عليّ يمين ، أو يمين اللّه لأفعلنّ كذا ، أو لا أفعل كذا ، فهاتان الصّيغتان من الأيمان عند أبي حنيفة والصّاحبين ، وقال زفر : لو قال : عليّ يمين ولم يضفه للّه تعالى ، لم يكن يميناً عند الإطلاق .
ووجهه : أنّ اليمين يحتمل أن يكون بغير اللّه ، فلا تعتبر الصّيغة يميناً باللّه إلاّ بالنّيّة . ويستدلّ لأبي حنيفة والصّاحبين بأنّ إطلاق اليمين ينصرف إلى اليمين باللّه تعالى ، إذ هي الجائزة شرعاً ، هذا إذا ذكر المحلوف عليه .
فإن لم يذكر ، بل قال الحالف : عليّ يمين ، أو يمين اللّه ، ولم يزد على ذلك ، وأراد إنشاء الالتزام لا الإخبار بالتزامٍ سابقٍ ، فعليه كفّارة يمينٍ ، لأنّ هذه الصّيغة تعتبر من صيغ النّذر ، وقد سبق أنّ النّذر المطلق الّذي لم يذكر فيه المنذور يعتبر نذراً للكفّارة ، فيكون حكمه حكم اليمين . وقال المالكيّة : إنّ التزام اليمين له أربع صيغٍ كالنّذر المبهم ، وأمثلتها : عليّ يمين ، وللّه عليّ يمين ، وإن شفى اللّه مريضي أو كلّمت زيداً فعليّ يمين ، إن شفى اللّه مريضي أو إن كلّمت زيداً فللّه عليّ يمين .
ولا يخفى أنّ المقصود موجب اليمين ، فالكلام على حذف مضافٍ كما يقول الحنفيّة .
وقال الشّافعيّة : إنّ قول القائل : عليّ يمين ، لا يعتبر يميناً سواء أكان مطلقاً أو معلّقاً ، لأنّه التزام لليمين أي الحلف ، وليس ذلك قربةً كالصّلاة والصّيام فهو لغو .
وقال الحنابلة : من قال : عليّ يمين إن فعلت كذا ، ففيه ثلاثة أقوالٍ :
أحدها : أنّه لغو ، كما يقول الشّافعيّة .
والثّاني : أنّه كناية فلا يكون يميناً إلاّ بالنّيّة .
والثّالث : وهو الأرجح : أنّه يمين بغير حاجةٍ إلى النّيّة .
هـ – عليَّ عهد اللّه ، أو ميثاقه ، أو ذمّته :
40 - قال الحنفيّة : إذا قيل : عليّ عهد اللّه أو ذمّة اللّه أو ميثاق اللّه لا أفعل كذا مثلاً ، فهذه الصّيغ من الأيمان ، لأنّ اليمين باللّه تعالى هي عهد اللّه على تحقيق الشّيء أو نفيه ، قال تعالى : { وأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّه إذا عَاهَدْتم ولا تَنْقُضُوا الأَيمانَ بعدَ تَوْكِيدِها } فجعل العهد يميناً ، والذّمّة هي العهد ، ومن ذلك تسمية الّذين تؤخذ منهم الجزية من الكفّار : بأهل الذّمّة ، أي أهل العهد ، والعهد والميثاق من الأسماء المترادفة ، وإذن فالكلام على حذف مضافٍ ، والتّقدير : عليّ موجب عهد اللّه وميثاقه وذمّته .
فإن لم يذكر اسم اللّه تعالى ، أو لم يذكر المحلوف عليه فالحكم كما سبق في " عليّ يمين » . وقال المالكيّة والحنابلة : من صيغ اليمين الصّريحة : عليّ عهد اللّه لا أفعل ، أو لأفعلنّ كذا مثلاً فتجب بالحنث كفّارة إذا نوى اليمين ، أو أطلق ، فإن لم ينو اليمين بل أريد بالعهد التّكاليف الّتي عهد بها اللّه تعالى إلى العباد لم تكن يميناً .
وزاد المالكيّة : أنّ قول القائل : أعاهد اللّه ، ليس بيمينٍ على الأصحّ ، لأنّ المعاهدة من صفات الإنسان لا من صفات اللّه ، وكذا قوله : لك عليّ عهد ، أو أعطيك عهداً .
وقال الشّافعيّة : من كنايات اليمين : عليّ عهد اللّه أو ميثاقه أو ذمّته أو أمانته أو كفالته لأفعلنّ كذا أو لا أفعل كذا ، فلا تكون يميناً إلاّ بالنّيّة ، لأنّها تحتمل غير اليمين احتمالاً ظاهراً.
و - عليَّ كفّارة يمينٍ :
41 - قال الحنفيّة : إنّ القائل : عليّ يمين ، مقصوده : عليّ موجب يمينٍ وهو الكفّارة . فلو قال : عليّ كفّارة يمينٍ ، يكون حكمه حكم من قال : عليّ يمين ، وقد سبق ( ر : ف 39 ) .
وقال المالكيّة : قول القائل : عليّ كفّارة ، كقوله : عليّ نذر ، وله صيغ أربع كصيغ النّذر . ويؤخذ من هذا أنّ من قال : عليّ كفّارة يمينٍ ، حكمه هو هذا الحكم بعينه ( ر : ف 39 ) . وقال الشّافعيّة : من قال : عليّ كفّارة يمينٍ فعليه الكفّارة من حين النّطق عند عدم التّعليق ، فإن علّق بالشّفاء ونحوه ممّا يحبّه ، أو بتكليم زيدٍ ونحوه ممّا يكرهه ، فعليه كفّارة اليمين بحصول المعلّق عليه . وقال الحنابلة : من قال : عليّ يمين إن فعلت كذا ، ثمّ فعله فعليه كفّارة يمينٍ على الرّاجح كما سبق . ويؤخذ من ذلك أنّ من قال : عليّ كفّارة يمينٍ إن فعلت كذا ، ثمّ فعله ، وجبت عليه كفّارة اليمين على الأرجح عندهم .
ز - عليَّ كفّارة نذرٍ :
42 - سبق حكم القائل : عليّ نذر .
ويؤخذ منه أنّ من قال : عليّ كفّارة نذرٍ تجب عليه كفّارة يمينٍ عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وقد صرّح الشّافعيّة بمقتضى ذلك ، فقالوا : من قال : عليّ كفّارة نذرٍ ، وجبت عليه كفّارة يمينٍ منجّزة في الصّيغة المنجّزة ، ومعلّقة في الصّيغة المعلّقة .
ح - عليَّ كفّارة :
43 - سبق أنّ المالكيّة يوجبون كفّارة يمينٍ على من قال : عليّ كفّارة من غير أن يضيف الكفّارة إلى اليمين أو النّذر أو غيرهما . ولم نجد في المذاهب الأخرى حكم هذه الصّيغة عند الإطلاق ، ولا شكّ أنّ حكمها عند النّيّة هو وجوب ما نوى ممّا يصدق عليه اسم الكفّارة .
ط - تحريم العين أو الفعل :
44 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ تحريم الإنسان العين أو الفعل على نفسه يقوم مقام الحلف باللّه تعالى ، وذلك كأن يقول : هذا الثّوب عليّ حرام ، أو لبسي لهذا الثّوب عليّ حرام ، سواء أكانت العين الّتي نسب التّحريم إليها أو إلى الفعل المضاف لها مملوكة له أم لا ، كأن قال متحدّثاً عن طعام غيره : هذا الطّعام عليّ حرام ، أو أكل هذا الطّعام عليّ حرام ، وسواء أكانت العين المذكورة من المباحات أم لا ، كأن قال : هذه الخمر عليّ حرام ، أو شرب هذه الخمر عليّ حرام .
فكلّ صيغةٍ من هذه الصّيغ تعتبر يميناً ، لكن إذا كانت العين محرّمةً من قبل ، أو مملوكةً لغيره لم تكن الصّيغة يميناً إلاّ بالنّيّة ، بأن ينوي إنشاء التّحريم . فإن نوى الإخبار بأنّ الخمر حرام عليه شرعاً ، أو بأنّ ثوب فلانٍ حرم عليه شرعاً ، لم تكن الصّيغة يميناً ، وكذا إن أطلق ، لأنّ المتبادر من العبارة هو الإخبار . ثمّ إنّ تحريم العين لا معنى له إلاّ تحريم الفعل المقصود منها ، كما في تحريم الشّرع لها في نحو قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عليكم أُمّهاتُكم } وقوله { حُرِّمَتْ عليكم الميتةُ والدّمُ ولحمُ الخِنزير } .
وقوله صلى الله عليه وسلم : « كلّ مسكرٍ حرام » فتحريم الأمّهات ونحوهنّ ينصرف إلى الزّواج . وتحريم الميتة ونحوها والمسكر ينصرف كلّه إلى التّناول بأكلٍ أو شربٍ .
45 - وفيما يلي أمثلة لصيغ التّحريم الّتي تعتبر أيماناً ، مع بيان ما يقع به حنث في كلٍّ منها :
- 1 - لو قال : هذا الطّعام أو المال أو الثّوب أو الدّار عليّ حرام ، حنث بأكل الطّعام ، وإنفاق المال ، ولبس الثّوب ، وسكنى الدّار ، وعليه الكفّارة ، ولا يحنث بهبة شيءٍ من ذلك ، ولا بالتّصدّق به .
- 2 - لو قالت امرأة لزوجها : أنت عليّ حرام ، أو حرّمتك على نفسي ، حنثت بمطاوعته في الجماع ، وحنثت أيضاً بإكراهه إيّاها عليه بناءً على أنّ الحنث لا يشترط فيه الاختيار .
- 3 - لو قال لقومٍ : كلامكم عليّ حرام ، حنث بتكليمه لواحدٍ منهم ، ولا يتوقّف الحنث على تكليم جميعهم ، ومثل ذلك ما لو قال : كلام ، الفقراء ، أو كلام أهل هذه القرية ، أو أكل هذا الرّغيف عليّ حرام ، فإنّه يحنث بكلام واحدٍ ، وأكل لقمةٍ ، بخلاف ما لو قال : واللّه لا أكلّمكم ، أو لا أكلّم الفقراء ، أو أهل هذه القرية ، أو لا آكل هذا الرّغيف ، فإنّه لا يحنث إلاّ بتكليم الجميع وأكل جميع الرّغيف .
- 4 - لو قال : هذه الدّنانير عليّ حرام حنث إن اشترى بها شيئاً ، لأنّ العرف يقتضي تحريم الاستمتاع بها لنفسه ، بأن يشتري ما يأكله أو يلبسه مثلاً ، ولا يحنث بهبتها ولا بالتّصدّق بها . واستظهر ابن عابدين : أنّه لا يحنث لو قضى بها دينه ، ثمّ قال : فتأمّل .
- 5 - لو قال : كلّ حلٍّ عليّ حرام ، أو حلال اللّه أو حلال المسلمين عليّ حرام ، كان يميناً على ترك الطّعام والشّراب إلاّ أن ينوي غير ذلك ، وهذا استحسان .
وقال المالكيّة : تحريم الحلال في غير الزّوجة لغو لا يقتضي شيئاً ، إلاّ إذا حرّم الأمة ناوياً عتقها ، فإنّها تعتق ، فمن قال : الخادم أو اللّحم أو القمح عليّ حرام إن فعلت كذا ، ففعله ، فلا شيء عليه ، ومن قال : إن فعلت كذا فزوجتي عليّ حرام ، أو فعليّ الحرام ، يلزمه بتّ طلاق المدخول بها - ثلاثاً - ما لم ينو أقلّ من الثّلاث فيلزمه ما نوى ، أمّا غير المدخول بها فيلزمه طلقة واحدة ما لم ينو أكثر . هذا هو مشهور المذهب ، وقيل : يلزمه في المدخول بها واحدة بائنة كغير المدخول بها ما لم ينو أكثر ، وقيل : يلزمه في غير المدخول بها ثلاث كالمدخول بها ما لم ينو أقلّ . ولو قال : كلّ حلالٍ عليّ حرام ، فإن استثنى الزّوجة لم يلزمه شيء ، وإلاّ لزمه فيها ما ذكر .
وقال الشّافعيّة : لو قال إنسان لزوجته : أنت عليّ حرام ، أو حرّمتك ، ونوى طلاقاً واحداً أو متعدّداً أو ظهاراً وقع ، ولو نوى تحريم عينها أو وطئها أو فرجها أو رأسها أو لم ينو شيئاً أصلاً - وأطلق ذلك ، أو أقّته كره ، ولم تحرم الزّوجة عليه ، ولزمه كفّارة يمينٍ ، وليس ذلك يميناً ، لأنّه ليس إقساماً باللّه تعالى ولا تعليقاً للطّلاق أو نحوه .
ويشترط في لزوم الكفّارة ألاّ تكون زوجته محرّمةً بحجٍّ أو عمرةٍ ، وألاّ تكون معتدّةً من وطء شبهةٍ ، فإن كانت كذلك لم تجب الكفّارة على المعتمد . ولو حرم غير الزّوجة كالثّوب والطّعام والصّديق والأخ لم تلزمه كفّارة .
وقال الحنابلة : من حرّم حلالاً سوى الزّوجة لم يحرم عليه شرعاً ، ثمّ إذا فعله ففي وجوب الكفّارة قولان ، أرجحهما : الوجوب ، ويستوي في التّحريم تنجيزه وتعليقه بشرطٍ ، ومثال المنجّز : ما أحلّ اللّه عليّ حرام ، ولا زوجة لي ، وكسبي عليّ حرام ، وهذا الطّعام عليّ كالميتة أو كالدّم أو كلحم الخنزير . ومثال المعلّق : إن أكلت من هذا الطّعام فهو عليّ حرام . وإنّما لم يحرم عليه ما حرّمه على نفسه لأنّ اللّه عزّ وجلّ سمّى التّحريم يميناً حيث قال : { يا أيّها النّبيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللّهُ لكَ تَبْتَغي مرضاةَ أزْواجِكَ واللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قد فَرَضَ اللّهُ لكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكم } .
واليمين لا تحرّم الحلال ، وإنّما توجب الكفّارة بالحنث ، وهذه الآية أيضاً دليل على وجوب الكفّارة . وأمّا تحريم الزّوجة فهو ظهار ، سواء أنوى به الظّهار أو الطّلاق أو اليمين أم لم ينو شيئاً على الرّاجح . ولو قال : ما أحلّ اللّه عليّ من أهلٍ ومالٍ فهو حرام - وكان له زوجة - كان ذلك ظهاراً وتحريماً للمال ، وتجزئه كفّارة الظّهار عنهما .
قيام التّصديق بكلمة نعم مقام اليمين
46 - الصّحيح من مذهب الحنفيّة أنّ من عرض عليه اليمين فقال : نعم كان حالفاً ، ولو قال رجل لآخر عليك : عهد اللّه إن فعلت كذا فقال : نعم . فالحالف المجيب ، ولا يمين على المبتدئ ولو نواه ، لأنّ قوله : عليك صريح في التزام اليمين على المخاطب ، فلا يمكن أن يكون يميناً على المبتدئ ، بخلاف ما إذا قال : واللّه لتفعلنّ ، وقال الآخر : نعم ، فإنّه إذا نوى المبتدئ التّحليف والمجيب الحلف ، كان الحالف هو المجيب وحده ، وإذا نوى كلّ منهما الحلف يصير كلّ منها حالفاً .
وقال الشّافعيّة : لو قيل لرجلٍ : طلّقت زوجتك ، أو أطلّقت زوجتك ؟ استخباراً – فقال : نعم ، كان إقراراً ، وإن كان الالتماس الإنشاء كان تطليقاً صريحاً ، وإن جهل الحال حمل على الاستخبار . هذا ما قالوه في الطّلاق ، ويقاس عليه ما لو قال إنسان لآخر : حلفت ، أو أحلفت باللّه لا تكلّم زيداً ؟ فقال : نعم . ففي ذلك تفصيل : فإن كان للاستخبار كان إقراراً محتملاً للصّدق والكذب ، فيحنث بالتّكليم إن كان صادقاً ، ولا يحنث به إن كان كاذباً .
وإن كان الالتماس الإنشاء كان حلفاً صريحاً . وإن جهل حال السّؤال حمل على الاستخبار ، فيكون الجواب إقراراً واللّه أعلم ، ولم يعثر للمذاهب الأخرى على نصٍّ في هذا .
الحلف بغير اللّه تعالى بحرف القسم وما يقوم مقامه :
47 - علم ممّا تقدّم أنّ صيغة اليمين بحرف القسم وما يقوم مقامه تنحصر شرعاً في اليمين باللّه تعالى . فالحلف بغيره بحرف القسم وما يقوم مقامه لا يعتبر يميناً شرعيّةً ، ولا يجب بالحنث فيه كفّارة .
ومن أمثلته : أن يحلف الإنسان بأبيه أو بابنه أو بالأنبياء أو بالملائكة عليهم السلام أو بالعبادات : كالصّوم والصّلاة ، أو بالكعبة أو بالحرم أو بزمزم أو بالقبر والمنبر أو غير ذلك من المخلوقات . سواء أتى الحالف بهذه الألفاظ عقب حرف القسم أم أضاف إليها كلمة : " حقٍّ " أو " حرمةٍ " أو " حياةٍ " أو نحو ذلك . وسواء أكان الحلف بحرفٍ من حروف القسم أم بصيغةٍ ملحقةٍ بما فيه هذه الحروف ، مثل لعمرك ولعمري وعمرك اللّه وعليّ عهد رسول اللّه لأفعلنّ كذا .
48 - وقد ورد النّهي عنه في عدّة أحاديث
منها : قوله صلى الله عليه وسلم : « من كان حالفاً فلا يحلف إلاّ باللّه » .
ومنها : قوله عليه الصلاة والسلام : « من حلف بغير اللّه فقد أشرك » . وفي روايةٍ « فقد كفر » ، ومنها : قوله صلوات الله وسلامه عليه « من حلف بالأمانة فليس منّا » .
ومنها : ما أخرجه النّسائيّ عن سعد بن أبي وقّاصٍ رضي الله عنه قال : « حلفت باللّاتي والعزّى ، فأتيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فقال : قل لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كلّ شيءٍ قدير ، وانفث عن شمالك ثلاثاً ، وتعوّذ باللّه من الشّيطان الرّجيم ، ثمّ لا تعدّ » . وفي روايةٍ أخرى رواها النّسائيّ عنه أيضاً قال : « حلفت باللّاتي والعزّى ، فقال لي أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : بئسما قلت ، ائت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فإنّا لا نراك إلاّ قد كفرت ، فلقيته فأخبرته فقال لي : قل لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ثلاث مرّاتٍ ، وتعوّذ باللّه من الشّيطان الرّجيم ثلاث مرّاتٍ ، وانفث عن شمالك ثلاث مرّاتٍ ، ولا تعد له » .
ومنها : ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من حلف منكم فقال في حلفه : باللّاتي ، فليقل : لا إله إلاّ اللّه ، ومن قال لصاحبه : تعال أقامرك فليتصدّق » .
49 - وورد عن الصّحابة رضي الله عنهم استنكار الحلف بغير اللّه تعالى .
فمن ذلك ما رواه الحجّاج بن المنهال بسنده عن عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه أنّه قال : لأن أحلف باللّه كاذباً أحبّ إليّ من أن أحلف بغير اللّه صادقاً وما رواه عبد الرّزّاق بسنده عن وبرة قال : قال ابن مسعودٍ أو ابن عمر : « لأن أحلف باللّه كاذباً أحبّ إليّ من أن أحلف بغيره صادقاً » ، وما رواه عبد الرّزّاق بسنده عن ابن الزّبير رضي الله عنه : أنّ عمر قال له - وقد سمعه يحلف بالكعبة - : لو أعلم أنّك فكّرت فيها قبل أن تحلف لعاقبتك ، احلف باللّه فأثم أو ابرر .
أثر الحلف بغير اللّه :
50 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الحلف بغير اللّه تعالى لا تجب بالحنث فيه كفّارة ، إلاّ ما روي عن أكثر الحنابلة من وجوب الكفّارة على من حنث في الحلف برسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، لأنّه أحد شطري الشّهادتين اللّتين يصير بهما الكافر مسلماً ، وعن بعضهم : أنّ الحلف بسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تجب بالحنث فيه الكفّارة أيضاً ، لكن الأشهر في مذهبهم أنّه لا كفّارة بالحنث في الحلف بنبيّنا وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
ولا خلاف بين الفقهاء أيضاً في أنّ الحلف بغير اللّه منهيّ عنه ، لكن في مرتبة هذا النّهي اختلاف ، والحنابلة قالوا : إنّه حرام إلاّ الحلف بالأمانة ، فإنّ بعضهم قال بالكراهة ، والحنفيّة قالوا مكروه تحريماً ، والمعتمد عند المالكيّة والشّافعيّة أنّه تنزيهاً .
وصرّح الشّافعيّة أنّه إن كان بسبق اللّسان من غير قصدٍ فلا كراهة ، وعليه يحمل حديث الصّحيحين في قصّة الأعرابيّ - الّذي قال لا أزيد على هذا ولا أنقص - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « أفلح وأبيه إن صدق » .
شرائط القسم :
يشترط في انعقاد القسم وبقائه شرائط ، وهي ثلاثة أنواعٍ :
أوّلاً :
الشّرائط الّتي ترجع إلى الحالف
يشترط في انعقاد اليمين وبقائها شرائط في الحالف .
51 - الأولى : البلوغ . والثّانية : العقل .
وهاتان شريطتان في أصل الانعقاد ، فلا تنعقد يمين الصّبيّ - ولو مميّزاً - ولا المجنون والمعتوه والسّكران - غير المتعدّي بسكره - والنّائم والمغمى عليه ، لأنّها تصرّف إيجابٍ ، وهؤلاء ليسوا من أهل الإيجاب . ولا خلاف في هاتين الشّريطتين إجمالاً .
وإنّما الخلاف في السّكران المتعدّي بسكره والصّبيّ إذا حنث بعد بلوغه .
أمّا السّكران المتعدّي ، فالجمهور يرون صحّة يمينه إن كانت صريحةً تغليظاً عليه .
وأبو ثورٍ والمزنيّ وزفر والطّحاويّ والكرخيّ ومحمّد بن سلمة وغيرهم يرون عدم انعقاد يمينه كالسّكران غير المتعدّي ، وتفصيل ذلك في ( الحجر ) .
وأمّا الصّبيّ فالجمهور يرون أنّ يمينه لا تنعقد ، وأنّه لو حنث - ولو بعد البلوغ - لم تلزمه كفّارة ، وعن طاوسٍ أنّ يمينه معلّقة ، فإن حنث بعد بلوغه لزمته الكفّارة .
وحجّة الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاثةٍ : عن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن المجنون حتّى يفيق ، وعن الصّبيّ حتّى يبلغ » .
52 - الشّريطة الثّالثة : الإسلام ، وإلى هذا ذهب الحنفيّة والمالكيّة .
فلا تنعقد اليمين باللّه تعالى من الكافر ولو ذمّيّاً ، وإذا انعقدت يمين المسلم بطلت بالكفر ، سواء أكان الكفر قبل الحنث أم بعده ، ولا ترجع بالإسلام بعد ذلك .
وقال الشّافعيّة والحنابلة : لا يشترط الإسلام في انعقاد اليمين ولا بقائها ، فالكافر الملتزم للأحكام - وهو الذّمّيّ والمرتدّ - لو حلف باللّه تعالى على أمرٍ ، ثمّ حنث وهو كافر ، تلزمه الكفّارة عند الشّافعيّة والحنابلة ، لكن إذا عجز عن الكفّارة الماليّة لم يكفر بالصّوم إلاّ إن أسلم . وهذا الحكم إنّما هو في الذّمّيّ ، وأمّا المرتدّ فلا يكفر في حال ردّته ، لا بالمال ولا بالصّوم ، بل ينتظر ، فإذا أسلم كفّر ، لأنّ ماله في حال الرّدّة موقوف ، فلا يمكن من التّصرّف فيه . ومن حلف حال كفره ثمّ أسلم وحنث ، فلا كفّارة عليه عند الحنفيّة والمالكيّة . وعليه الكفّارة عند الشّافعيّة والحنابلة إن كان حين الحلف ملتزماً للأحكام .
53 - الشّريطة الرّابعة : التّلفّظ باليمين ، فلا يكفي كلام النّفس عند الجمهور خلافاً لبعض المالكيّة . ولا بدّ من إظهار الصّوت بحيث يسمع نفسه إن كان صحيح السّمع ، ولم يكن هناك مانع من السّماع كلغطٍ وسدّ أذنٍ .
واشتراط الإسماع ولو تقديراً هو رأي الجمهور ، الّذي يرون أنّ قراءة الفاتحة في الصّلاة يشترط في صحّتها ذلك .
وقال المالكيّة والكرخيّ من الحنفيّة : لا يشترط الإسماع ، وإنّما يشترط أن يأتي بالحروف مع تحريك اللّسان ولو لم يسمعها هو ولا من يضع أذنه بقرب فمه مع اعتدال السّمع وعدم الموانع . هذا وإنّ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة قد صرّحوا بأنّ إشارة الأخرس باليمين تقوم مقام النّطق .
وقال الشّافعيّة : إنّ الكتابة لو كانت بالصّريح تعتبر كنايةً ، لأنّها تحتمل النّسخ ، وتجربة القلم والمداد وغيرها ، وبأنّ إشارة الأخرس إن اختصّ بفهمها الفطن فهي كناية تحتاج إلى النّيّة ، وإن فهمها كلّ إنسانٍ فهي صريحة .
الطّواعية والعمد في الحالف :
54 - لا تشترط عند الحنفيّة الطّواعية - أي الاختيار - في الحالف ، ولا العمد - أي القصد - فتصحّ عندهم يمين المكره والمخطئ ، وهو من أراد غير الحلف فسبق لسانه إلى الحلف ، كأن أراد أن يقول : اسقني الماء ، فقال : واللّه لا أشرب الماء ، لأنّها من التّصرّفات الّتي لا تحتمل الفسخ فلا يؤثّر فيها الإكراه والخطأ ، كالطّلاق والعتاق والنّذر وسائر التّصرّفات الّتي لا تحتمل الفسخ .
وقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : تشترط الطّواعية والعمد ، فلا تنعقد يمين المكره ولا المخطئ ، غير أنّ الشّافعيّة يقولون في المكره على اليمين : إذا نوى الحلف صحّت يمينه . لأنّ الإكراه لا يلغي اللّفظ ، وإنّما يصير به الصّريح كنايةً ، وهذا الّذي قالوه لا يستبعد أن يكون متّفقاً عليه ، فإنّ إلغاء كلام المكره لا وجه له ، إلاّ أنّه إنّما قصد دفع الأذى عن نفسه ، ولم يقصد استعمال اللّفظ في معناه ، فإذا قصد استعماله في معناه كان هذا أمراً زائداً لا تدعو إليه الضّرورة .
وقال الشّافعيّة أيضاً : لا يلزم المكره التّورية وإن قدر عليها .
والتّورية هي : أن يطلق الإنسان لفظاً هو ظاهر في معنًى ويريد به معنًى آخر يتناوله ذلك اللّفظ ، ولكنّه خلاف ظاهره .
عدم اشتراط الجدّ في الحالف :
55 - الجدّ - بكسر الجيم - في التّصرّفات القوليّة معناه : أن ينطق الإنسان باللّفظ راضياً بأثره ، سواء أكان مستحضراً لهذا الرّضى أم غافلاً عنه ، فمن نطق باللّفظ الصّريح ناوياً معناه ، أو غافلاً عن هذه النّيّة ، مريداً أثره أو غافلاً عن هذه الإرادة يقال له جادّ ، فإن أراد تجريد اللّفظ عن أثره من غير تأويلٍ ولا إكراهٍ ، فنطق به لعباً أو مزاحاً كان هازلاً ، والهزل لا أثر له في التّصرّفات القوليّة الصّريحة الّتي لا تحتمل الفسخ ، فمن حلف بصيغةٍ صريحةٍ لاعباً أو مازحاً انعقدت يمينه لقوله صلى الله عليه وسلم : « ثلاث جدّهنّ جدّ ، وهزلهنّ جدّ : النّكاح والطّلاق والرّجعة » .
ويقاس على ما في الحديث سائر التّصرّفات الصّريحة الّتي لا تحتمل الفسخ ، ومنها صيغة اليمين الصّريحة ، وأمّا الكناية فمعلوم أنّه يشترط فيها النّيّة ، ومعلوم أنّ الهازل لا نيّة له .
قصد المعنى والعلم به :
56 - صرّح الشّافعيّة بأنّ الألفاظ الصّريحة يشترط فيها : العلم بالمعنى ، والكناية يشترط فيها : قصد المعنى ، ذكروا هذا في الطّلاق وليس خاصّاً به كما هو ظاهر ، فيؤخذ منه أنّه يشترط في اليمين إذا كانت بلفظٍ صريحٍ : أن يعلم المتكلّم بمعناها ، فلو حلف أعجميّ بلفظٍ عربيٍّ صريحٍ كواللّه لأصومنّ غداً ، بناءً على تلقين إنسانٍ له ، من غير أن يعلم معناه لم ينعقد . ولو قال إنسان : أشهد باللّه لأفعلنّ كذا لم ينعقد إلاّ إذا قصد معنى اليمين ، لأنّه كناية عند الشّافعيّة كما سبق .
واشتراط النّيّة في الكناية لا يختلف فيه أحد . وأمّا العلم بالمعنى فقد صرّح الحنفيّة بعدم اشتراطه في الطّلاق بالنّسبة للقضاء ، ومقتضاه أنّهم يشترطونه في اليمين الصّريحة ديانةً ، لأنّه مصدّق فيما بينه وبين اللّه تعالى .
أثر التّأويل في اليمين :
57 - صرّح المالكيّة والشّافعيّة بأنّ التّأويل الّذي تنقطع به جملة اليمين عن جملة المحلوف عليه يقبل ، وعبارة المالكيّة : لو قال أردت بقولي : ( باللّه ) وثقت أو اعتصمت باللّه ، ثمّ ابتدأت قولي : لأفعلنّ ، ولم أقصد اليمين صدّق ديانةً بلا يمينٍ .
وعبارة الشّافعيّة : إذا قال : واللّه لأفعلنّ كذا ، ثمّ قال : أردت واللّه المستعان ، أو قال : باللّه وقال : أردت وثقت أو استعنت باللّه ، ثمّ استأنفت فقلت : لأفعلنّ كذا من غير قسمٍ يقبل ظاهراً وباطناً . وإذا تأوّل نحو هذا التّأويل في الطّلاق والإيلاء لا يقبل ظاهراً لتعلّق حقّ الغير به . وممّا ينبغي التّنبّه له أنّ التّأويل لا يختصّ بهذه المذاهب ، فالمتصفّح لكتب المذاهب الأخرى يجد تأويلاتٍ مقبولةً عندهم ، ولا شكّ أنّ التّأويل إنّما يقبل إذا لم يكن هناك مستحلف ذو حقٍّ ، وكان التّأويل غير خارجٍ عمّا يحتمله اللّفظ .
ثانياً :
الشّرائط الّتي ترجع إلى المحلوف عليه
يشترط في انعقاد اليمين باللّه وبقائها منعقدةً أربع شرائط ترجع إلى المحلوف عليه ، وهو مضمون الجملة الثّانية الّتي تسمّى جواب القسم .
58 - الشّريطة الأولى : أن يكون المحلوف عليه أمراً مستقبلاً .
وهذه شريطة لانعقاد اليمين باللّه تعالى عند الحنفيّة والحنابلة ، خلافاً للشّافعيّة الّذين يقولون بانعقاد اليمين الغموس على ماضٍ وحاضرٍ ، كقوله : واللّه لا أموت ، ومستقبلٍ كقوله : واللّه لأصعدنّ السّماء . وللمالكيّة الّذين يقولون بانعقاد الغموس على حاضرٍ ومستقبلٍ . وممّا ينبغي التّنبّه له أنّ الحنابلة يشترطون الاستقبال في كلّ ما فيه كفّارة ، كالحلف بتعليق الكفر أو القربة أو الظّهار بخلاف الطّلاق والعتاق .
59 - الشّريطة الثّانية : أن يكون المحلوف عليه متصوّر الوجود حقيقةً عند الحلف - أي ليس مستحيلاً عقلاً - وهذه شريطة لانعقاد اليمين باللّه عند أبي حنيفة ومحمّدٍ وزفر . ووجه اشتراطها : أنّ اليمين إنّما تنعقد لتحقيق البرّ ، فإنّ من أخبر بخبرٍ أو وعد بوعدٍ يؤكّده باليمين لتحقيق الصّدق ، فكان المقصود هو البرّ ، ثمّ تجب الكفّارة ونحوها خلفاً عنه ، فإذا لم يتصوّر الأصل - وهو البرّ - لم يوجد الخلف - وهو الكفّارة - فلا تنعقد اليمين . ولم يشترط أبو يوسف هذه الشّريطة لأنّه لا يلزم من استحالة الأصل عقلاً عدم الخلف . ومفهوم هذه الشّريطة : أنّ المحلوف عليه إذا كان يستحيل وجوده عقلاً عند الحلف ، لم تنعقد اليمين عند أبي حنيفة ومحمّدٍ وزفر .
لكنّ هذا المفهوم ليس على إطلاقه ، بل فيه تفصيل يعلم من الكلام على المثال الآتي :
إذا قال إنسان : واللّه لأشربنّ ماء هذا الكوز ، أو قال : واللّه لأشربنّ ماء هذا الكوز اليوم ، وكان الكوز خالياً من الماء عند الحلف ، فالشّرب الّذي هو المحلوف عليه مستحيل وجوده عند الحلف عقلاً ، فلا تنعقد اليمين عند أبي حنيفة ومحمّدٍ وزفر إن كان الحالف عند حلفه لا يعلم خلوّ الكوز من الماء ، وأمّا إن كان يعلم ذلك فاليمين منعقدة عند أبي حنيفة ومحمّدٍ وأبي يوسف وغير منعقدةٍ عند زفر ، وهي رواية عن أبي حنيفة .
هذا ما أفاده صاحب البدائع . وقال الحنابلة في هذه المسألة : تنعقد وعليه الكفّارة في الحال. 60 - الشّريطة الثّالثة : أن يكون المحلوف عليه متصوّر الوجود حقيقةً بعد الحلف ، إن كانت اليمين مقيّدةً بوقتٍ مخصوصٍ .
وهذه الشّريطة إنّما تشترط لبقاء اليمين باللّه منعقدةً عند أبي حنيفة ومحمّدٍ وزفر ، فلو لم توجد هذه الشّريطة بطلت اليمين بعد انعقادها ، وخالف أبو يوسف في هذه الشّريطة أيضاً . وتوجيه الاشتراط وعدمه كما في الشّريطة الثّانية ، ومفهوم هذه الشّريطة يتّضح بالمثال الآتي : إذا قال إنسان واللّه لأشربنّ ماء هذا الكوز اليوم أو قال واللّه لأشربنّ ماء هذا الكوز ، ولم يقيّده بوقتٍ ، وكان في الكوز ماء وقت الحلف ، فصبّه الحالف أو صبّه غيره أو انصبّ بنفسه في النّهار . ففي صورة التّقييد باليوم تبطل بعد انعقادها ، لأنّ الشّرب المحلوف عليه صار مستحيلاً بعد الحلف في الوقت الّذي قيّد به ، وفي صورة الإطلاق تبقى منعقدةً ، فيحنث بالصّبّ أو الانصباب ، وتجب عليه الكفّارة .
61 - الشّريطة الرّابعة : أن يكون المحلوف عليه متصوّر الوجود عادةً عند الحلف - أي ليس مستحيلاً عادةً - وهذه شريطة لانعقاد اليمين باللّه عند زفر ، خلافاً لأبي حنيفة ومحمّدٍ وأبي يوسف . فلو قال واللّه لأصعدنّ السّماء ، أو : واللّه لأمسّنّ السّماء ، أو : واللّه لأحوّلنّ هذا الحجر ذهباً ، لم تنعقد اليمين عند زفر ، سواء أقيّدها بوقتٍ مخصوصٍ كأن قال : اليوم أو غداً ، أو لم يقيّدها ، وقال أبو حنيفة ومحمّد : إنّها تنعقد ، لأنّ المحلوف عليه جائز عقلاً ، وقال أبو يوسف : إنّها تنعقد أيضاً ، لأنّ المحلوف عليه أمر مستقبل .
وتوجيه قول زفر : أنّ المستحيل عادةً يلحق بالمستحيل حقيقةً ، فإذا لم تنعقد اليمين في الثّاني لم تنعقد في الأوّل .
وتوجيه قول أبي حنيفة ومحمّدٍ : أنّ الحكم بالانعقاد في هذه الصّورة فيه اعتبار الحقيقة ، والحكم بعدم الانعقاد فيه اعتبار العادة ، ولا شكّ أنّ اعتبار الحقيقة أولى .
وتوجيه قول أبي يوسف : أنّ الحالف جعل الفعل شرطاً للبرّ ، فيكون عدمه موجباً للحنث ، سواء أكان ذلك الفعل ممكناً عقلاً وعادةً ، كقوله : واللّه لأقرأنّ هذا الكتاب ، أم مستحيلاً عقلاً وعادةً كقوله : واللّه لأشربنّ ماء هذا الكوز ، ولا ماء فيه أم مستحيلاً عادةً لا عقلاً كقوله : واللّه لأحوّلنّ هذا الحجر ذهباً .
الحلف على فعل غير الحالف :
62 - المذهب عند الحنابلة أنّ من حلف على غيره وهو غائب : واللّه ليفعلنّ كذا ، أو على حاضرٍ : واللّه لتفعلنّ كذا ، فلم يطعه ، حنث الحالف والكفّارة عليه ، لا على من أحنثه .
وقد فصّل شيخ الإسلام ابن تيميّة بين الحلف على من يظنّ أنّه يطيعه ، والحلف على من لا يظنّه كذلك . فقال : من حلف على غيره يظنّ أنّه يطيعه فلم يفعل ، فلا كفّارة لأنّه لغو ، بخلاف من حلف على غيره في غير هذه الحالة ، فإنّه إذا لم يطعه حنث الحالف ووجبت الكفّارة عليه .
ثالثاً :
شرائط ترجع إلى الصّيغة
63 - يشترط لانعقاد اليمين باللّه تعالى شريطتان ترجعان إلى صيغتها .
الأولى : عدم الفصل بين المحلوف به والمحلوف عليه بسكوتٍ ونحوه ، فلو أخذه الوالي وقال : قل : باللّه ، فقال مثله ، ثمّ قال : لآتينّ يوم الجمعة فقال الرّجل مثله ، لا يحنث بعدم إتيانه ، للفصل بانتظار ما يقول ، ولو قال : عليّ عهد اللّه ورسوله لا أفعل كذا ، لا يصحّ ، للفصل بما ليس يميناً ، وهو قوله : وعهد رسوله .
الثّانية : خلوّها عن الاستثناء ، والمقصود به التّعليق بمشيئة اللّه أو استثناؤها ، أو نحو ذلك ممّا لا يتصوّر معه الحنث ، نحو أن يقول الحالف : إن شاء اللّه تعالى ، أو إلاّ أن يشاء اللّه ، أو ما شاء اللّه ، أو إلاّ أن يبدو لي غير هذا ، إلى غير ذلك من الأمثلة الّتي سيأتي بيانها ، فإن أتى بشيءٍ من ذلك بشرائطه لم تنعقد اليمين .
صيغة اليمين التّعليقيّة :
64 - التّعليق في اللّغة : مصدر علّق الشّيء بالشّيء وعليه : أنشبه فيه ووضعه عليه وجعله مستمسكاً .
وفي الاصطلاح : ربط حصول مضمون جملةٍ بحصول مضمون جملةٍ أخرى ، والجملة الّتي ربط مضمونها هي جملة الجزاء ، والّتي ربط هذا المضمون بمضمونها هي جملة الشّرط . ففي مثل : إن دخلت الدّار فأنت طالق ، ربط المتكلّم حصول مضمون الجزاء - وهو الطّلاق - بحصول مضمون الشّرط - وهو دخولها الدّار - ووقفه عليه ، فلا يقع إلاّ بوقوعه . وليس كلّ تعليقٍ يميناً ، وإنّما اليمين حقيقةً أو مجازاً تعليقات مخصوصة تذكر فيما يأتي .
أ - أجزاء الصّيغة :
65 - معلوم أنّه لو قال إنسان : إن فعلت كذا فامرأتي طالق مثلاً ، فهذه صيغة تعليقٍ تحتوي على : أداة شرطٍ ، فجملةٍ شرطيّةٍ ، فجملةٍ جزائيّةٍ .
والحديث عن هذه الثّلاثة كما يلي :
أداة الشّرط :
66 - ذكر أهل النّحو واللّغة أدواتٍ كثيرةً للشّرط منها " إن " - بكسر الهمزة - وقد تزاد بعدها : ما ، كما في قوله تعالى : { فَإمّا نُريَنَّكَ بعضَ الّذي نَعِدُهم أو نَتَوَفَّيَنَّكَ فإلينا يُرْجعون } ومنها " إذا " وقد تزاد بعدها : ما ، ومنها " من " " وما " " ومهما " " وحيثما " " وكيفما " . " ومتى " وقد تزاد بعدها : ما ، وأين وقد تزاد بعدها : ما أيضاً .
67 - وقد يقوم مقام هذه الأدوات أدوات أخرى وإن لم تعدّ في اللّغة من أدوات التّعليق ، ومنها : كلّ وكلّما وباء الجرّ .
جملة الشّرط :
68 - جملة الشّرط هي الّتي تدخل عليها أداة الشّرط ، وهي جملة فعليّة ماضويّة أو مضارعيّة ، وهي للاستقبال في الحالتين ، فإن أراد المتكلّم التّعليق على أمرٍ مضى أدخل على الفعل جملة الكون . وإيضاح ذلك أنّ قول القائل : إن خرجت ، أو : إن تخرجي يفيد التّعليق على خروجٍ في المستقبل . فإذا اختلف الرّجل مع امرأته ، فادّعى أنّها خرجت بالأمس ، فقالت : لم أخرج ، فأراد تعليق طلاقها على هذا الخروج الماضي ، فإنّه يأتي بفعل الكون فيقول : إن كنت خرجت بالأمس فأنت طالق .
جملة الجزاء :
69 - هي الجملة الّتي يأتي بها المتكلّم عقب جملة الشّرط ، جاعلاً مضمونها متوقّفاً على مضمون جملة الشّرط ، وقد يأتي الجزاء قبل جملة الشّرط والأداة ، وفي هذه الحالة تكون جزاءً مقدّماً عند بعض النّحاة ، ودليل الجزاء عند بعضهم ، والجزاء عند هؤلاء يكون مقدّراً بعد الشّرط .
ب - أقسام اليمين التّعليقيّة :
70 - قسّم صاحب البدائع اليمين إلى يمينٍ باللّه ويمينٍ بغيره . وفي أثناء كلامه على اليمين باللّه ألحق بها تعليق الكفر ، ثمّ قسّم اليمين بغير اللّه إلى ما كانت بحرف القسم كالحلف بالأنبياء وغيرهم ، وما كان بالتّعليق ، وحصر التّعليق في الطّلاق والعتاق والتزام القربة . وبهذا تبيّن أنّ التّعليقات الّتي تعتبر أيماناً عند الحنفيّة محصورة في أربعةٍ ، وهي : تعليق الطّلاق ، وتعليق العتاق ، وتعليق التزام القربة ، وتعليق الكفر ، وإنّما أفرد تعليق الكفر . عن التّعليقات الثّلاثة لمخالفته إيّاها في الحكم ، فإنّ حكمها عند الحنفيّة تحقّق الجزاء ، إن كانت طلاقاً أو عتقاً ، والتّخيير بين الجزاء وكفّارة اليمين إن كان الجزاء التزام قربةٍ ، بخلاف تعليق الكفر ، فليس حكمه تحقّق الجزاء وهو الكفر عند تحقّق الشّرط ، بل حكمه عندهم هو الكفّارة كاليمين باللّه تعالى . وفي مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميّة وإعلام الموقّعين لابن القيّم ما يفيد : أنّ تعليق الظّهار وتعليق الحرام كلاهما يمين .
وبهذا تكون التّعليقات الّتي تسمّى عند بعض الفقهاء أيماناً منحصرة في هذه السّتّة .
تعليق الطّلاق :
71 - قال الحنفيّة : تعليق الطّلاق يعتبر يميناً ، سواء أكان المقصود به الحثّ ، نحو : إن لم تدخلي الدّار فأنت طالق ، أو المنع نحو : إن دخلت الدّار فأنت طالق ، أو تحقيق الخبر نحو : إن لم يكن الأمر كما قلته ففلانة طالق : أو غير ذلك نحو : إذا جاء الغد فأنت طالق . وهذه الصّورة الأخيرة محلّ نزاعٍ بين هؤلاء وبين من يوافقهم في تسمية تعليق الطّلاق يميناً كالمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، فهم لا يسمّونه يميناً ، لأنّه لا يقصد به ما يقصد باليمين من تأكيد الحثّ والمنع والخبر ، فإنّ مجيء الغد ليس داخلاً في مقدوره ، ولا مقدورها فهما لا يستطيعان منعه .
72 - وقد اختلف الفقهاء في تعليق الطّلاق عند تحقّق شرائط الطّلاق الشّرعيّة من ناحيتين أولاهما : أنّه يقع عند وقوع ما علّق عليه أو لا يقع .
ثانيتهما : أنّه يسمّى يميناً أو لا يسمّى .
أمّا النّاحية الأولى فخلاصتها أنّ للفقهاء في وقوع الطّلاق المعلّق وعدم وقوعه قولين : القول الأوّل : أنّه يقع إذا تحقّق ما علّق عليه ، سواء أكان جارياً مجرى اليمين أم لا ، وإلى هذا ذهب الجمهور من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
القول الثّاني : التّفرقة بين ما جرى مجرى اليمين وما لم يجر مجراه .
فالأوّل لا يقع وإن وقع ما علّق عليه ، والثّاني يقع عند وقوع ما علّق عليه ، وهذا رأي ابن تيميّة وابن القيّم جمعاً بين ما روي عن الصّحابة من الوقوع وعدمه .
وهل تجب كفّارة اليمين فيما جرى مجرى اليمين أو لا تجب ؟
اختار ابن تيميّة وابن القيّم وجوب الكفّارة ، لأنّها يمين منعقدة يشملها قوله تعالى : { ولكنْ يؤاخذُكم بما عَقَّدْتُم الأيمانَ } ولتفصيل ذلك ( ر : طلاق ) .
وأمّا النّاحية الثّانية فخلاصتها : أنّ من قال بالوقوع - وهم الجمهور - اختلفوا في تسميته يميناً ، فالحنفيّة يجعلونه يميناً متى كان تعليقاً محضاً ، وإن لم يقصد به ما يقصد باليمين كما تقدّم ، وكذا يقولون في تعليق العتق والتزام القربة .
والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة يقولون جميعاً : إنّ تعليق الطّلاق يسمّى يميناً على الرّاجح عند أكثرهم ، ومن لم يسمّه يميناً منهم لا يخالف من يسمّيه يميناً إلاّ في التّسمية ، ولهذا لو حلف إنسان ألاّ يحلف ، ثمّ علّق طلاقاً على وجه اليمين ، حنث عند من يسمّي هذا التّعليق يميناً ، ولم يحنث عند من لا يسمّيه يميناً .
تعليق التزام القربة :
73 - قال الحنفيّة : تعليق التزام القربة يسمّى يميناً ، سواء أقصد به ما يقصد بالأيمان أم لا . فلو قال : إن كلّمت فلاناً ، أو : إن لم أكلّم فلاناً ، أو : إن لم يكن الأمر كما قلته فعليّ حجّة أو عمرة أو صيام أو صلاة ، فهذا كلّه يسمّى نذراً ، ويسمّى أيضاً يميناً ، وهو جارٍ مجرى اليمين ، فإنّه في المثال الأوّل : يؤكّد منع نفسه من تكليم فلانٍ .
وفي المثال الثّاني : يؤكّد حثّ نفسه على تكليمه .
وفي المثال الثّالث : يؤكّد الخبر الّذي يناقض مضمون الشّرط المعلّق عليه .
ولو قال : إذا جاء رمضان فعليّ عمرة فهو نذر أيضاً ، ويسمّى يميناً عند الحنفيّة .
74 - وقد اختلف الفقهاء في تعليق التزام القربة من ناحيتين :
أمّا النّاحية الأولى : فخلاصتها أنّ النّذر إمّا أن يكون جارياً مجرى اليمين أو لا .
فإن كان جارياً مجرى اليمين - ويسمّى نذر اللّجاج والغضب - ففيه ثلاثة أقوالٍ للفقهاء :
الأوّل : أنّ القائل يخيّر عند وقوع الشّرط بين الإتيان بما التزمه وبين كفّارة اليمين ، وهذا القول هو آخر القولين عند الإمام أبي حنيفة ، وهو الرّاجح عند الحنفيّة .
وهو أيضاً أرجح الأقوال عند الشّافعيّ . وبه قال أحمد .
وهو قول أكثر أهل العلم من أهل مكّة والمدينة والبصرة والكوفة وفقهاء الحديث .
الثّاني : أنّ القائل يلزمه عند وقوع الشّرط ما التزمه ، وهو قول مالكٍ وأحد أقوال الشّافعيّ. الثّالث : أنّ القائل يلزمه عند وقوع الشّرط كفّارة يمينٍ ، ويلغي ما التزمه ، وهذا أحد الأقوال للشّافعيّ . وإن لم يكن جارياً مجرى اليمين لزم الوفاء به بشرائط مخصوصةٍ فيها خلاف الفقهاء . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( نذر ) .
75 - أمّا النّاحية الثّانية : فخلاصتها أنّ النّذر المعلّق الّذي لا يجري مجرى اليمين يسمّيه الحنفيّة يميناً ، كما سمّوا الطّلاق المعلّق يميناً وإن لم يقصد به ما قصد بالأيمان ، وأمّا غير الحنفيّة فلم نعثر على أنّ أحداً منهم سمّى ما لم يجر مجرى الأيمان يميناً ، وما جرى مجرى الأيمان - وهو اللّجاج يسمّى - يميناً عند من قال بوجوب الكفّارة أو بالتّخيير بين ما التزمه وبين ، الكفّارة . والقائلون بوجوب ما التزمه مختلفون : فمنهم من يسمّيه يميناً كابن عرفة من المالكيّة ، ومنهم من لا يسمّيه يميناً .
تعليق الكفر :
76 - قال الحنفيّة : إنّ تعليق الكفر على ما لا يريده الإنسان بقصد تأكيد المنع منه أو الحثّ على نقيضه أو الإخبار بنقيضه يعتبر يميناً شرعيّةً ملحقةً باليمين باللّه تعالى .
وهذا الّذي قاله الحنفيّة يروى عن عطاءٍ وطاوسٍ والحسن والشّعبيّ والثّوريّ والأوزاعيّ وإسحاق ، ويروى أيضاً عن زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه . حكى ذلك كلّه ابن قدامة في المغني ، وحكاه ابن تيميّة في فتاويه عن أكثر أهل العلم ، وهو إحدى روايتين عن أحمد ، وهي الرّواية الرّاجحة عند أكثر الحنابلة .
وقال المالكيّة والشّافعيّة : إنّه ليس بيمينٍ . ووافقهم أحمد في إحدى الرّوايتين .
وهو أيضاً قول اللّيث وأبي ثورٍ وابن المنذر ، وحكاه ابن المنذر عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما وأبي هريرة رضي الله عنه وعطاءٍ وقتادة وجمهور فقهاء الأمصار .
وهذه الحكاية تخالف حكاية صاحب المغني عن عطاءٍ فلعلّ له قولين ، وكذا حكايته عن جمهور فقهاء الأمصار تختلف عن حكاية ابن تيميّة القول الأوّل عن أكثر أهل العلم .
أمثلة الكفر المعلّق على الشّرط :
77 - منها : أن يخبر الإنسان عن نفسه أنّه إن فعل كذا ، أو إن لم يفعل كذا أو إن حصل كذا ، أو إن لم يحصل كذا ، أو إن لم يكن الأمر كذا ، فهو يهوديّ أو نصرانيّ أو مجوسيّ ، أو كافر أو شريك الكفّار أو مرتدّ ، أو بريء من اللّه أو من رسول اللّه أو من القرآن أو كلام اللّه أو الكعبة أو القبلة ، أو بريء ممّا في المصحف ، أو بريء ممّا في هذا الدّفتر إذا كان في الدّفتر شيء من القرآن ولو البسملة ، أو بريء من المؤمنين أو من الصّلاة أو الصّيام أو الحجّ .
ومنها : أن يخبر عن نفسه أنّه يعبد الصّليب ، أو يستحلّ الخمر أو الزّنى إن لم يفعل كذا . ويستدلّ لمن قال : إنّه ليس يميناً بأنّه ليس حلفاً باسم اللّه تعالى ولا صفته ، فلا يكون يميناً ، كما لو قال : عصيت اللّه تعالى فيما أمرني إن فعلت كذا أو إن لم أفعل كذا ، وكما لو حلف بالكعبة أو بأبيه .
78 - ويستدلّ لمن قال إنّه يمين بما يأتي :
أ - روي عن الزّهريّ عن خارجة بن زيدٍ عن أبيه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه « سئل عن الرّجل يقول : هو يهوديّ أو نصرانيّ أو مجوسيّ أو بريء من الإسلام في اليمين يحلف بها فيحنث في هذه الأشياء ؟ فقال : عليه كفّارة يمينٍ » .
ب - إنّ الحالف بذلك لمّا ربط مالاً يريده بالكفر كان رابطاً لنقيضه بالإيمان باللّه ، فكان مثل الحالف باللّه ، لأنّه يربط الشّيء المحلوف عليه بإيمانه باللّه تعالى .
تعليق الظّهار :
79 - الظّهار - كقول الرّجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمّي - يشبه القسم من حيث إنّه قول يستوجب الامتناع عن شيءٍ ، ويقتضي الكفّارة غير أنّها أعظم من كفّارة القسم .
ومن هنا سمّى بعض العلماء الظّهار يميناً ، وقد نقل ابن تيميّة عن أصحاب الحنابلة كالقاضي أبي يعلى وغيره أنّ من قال : أيمان المسلمين تلزمني إن فعلت كذا لزمه ما يفعله في اليمين باللّه والنّذر والطّلاق والعتاق والظّهار .
تعليق الحرام :
80 - سبق الكلام على تحريم العين أو الفعل ، وأنّه يعدّ يميناً عند بعض الفقهاء وإن كان منجّزاً . كما سبق أنّ قول الرّجل : الحرام يلزمني لأفعلنّ كذا ، يعدّ طلاقاً أو ظهاراً أو عتاقاً أو يميناً . وأيّاً ما كان ، فتعليق الحرام يقال فيه ما قيل في تعليق الطّلاق والظّهار ، فلا حاجة للإطالة به . ومن أمثلته أن يقول : إن فعلت كذا أو إن لم أفعل كذا أو إن كان الأمر كذا أو إن لم يكن الأمر كذا فزوجتي عليّ حرام . هذه أمثلة للتّعليق الصّريح .
وأمّا التّعليق المقدّر فمن أمثلته : عليّ الحرام ، أو الحرام يلزمني ، أو زوجتي عليّ حرام لأفعلنّ كذا أو لا أفعل كذا ، أو لقد كان كذا أو لم يكن كذا .
وقد نقل ابن القيّم في قول القائل أنت عليّ حرام وقوله : ما أحلّ اللّه عليّ حرام . وقوله : أنت عليّ كالميتة والدّم ولحم الخنزير خمسة عشر مذهباً ، ويكفي هنا الإشارة إليها .
وقد سبق بيان المذاهب فيها . ثمّ نقل عن شيخ الإسلام ابن تيميّة اختيار مذهبٍ فوق الخمسة عشرة ، وهو أنّه إن أوقع التّحريم كان ظهاراً ولو نوى به الطّلاق ، وإن حلف به كان يميناً مكفّرةً ، فإنّه إذا أوقعه كان قد أتى منكراً من القول وزوراً ، وكان أولى بكفّارة الظّهار ممّن شبّه امرأته بالمحرّمة ، وإذا حلف كان يميناً من الأيمان ، كما لو حلف بالتزام العتق والحجّ والصّدقة وأسهب في الاستدلال على ذلك .
شرائط اليمين التّعليقيّة :
81 - يشترط في اليمين التّعليقيّة شرائط بعضها يرجع إلى منشئ التّعليق ، وبعضها يرجع إلى جملة الشّرط ، وبعضها إلى جملة الجزاء .
شرائط منشئ التّعليق " وهو الحالف ":
82 - يشترط فيه شرائط مفصّلة في الحالف باللّه تعالى .
ما يشترط في جملة الشّرط :
83 - يشترط لصحّة التّعليق شرائط تتعلّق بالجملة الشّرطيّة ، وهي مفصّلة في المواضع الّتي يعتبر تعليقها يميناً ، ونشير هنا إليها إجمالاً وهي :
الشّريطة الأولى : أن يكون مدلول فعلها معدوماً ممكن الوجود . فالمحقّق نحو : إن كانت السّماء فوقنا فامرأتي طالق ، يعتبر تنجيزاً لا تعليقاً ، والمستحيل نحو : إن دخل الجمل في سمّ الخياط فزوجتي كذا ، يعتبر لغواً لعدم تصوّر الحنث .
84 - الشّريطة الثّانية : الإتيان بجملة الشّرط ، فلو أتى بأداة الشّرط ولم يأت بالجملة - ولا دليل عليها - كان الكلام لغواً ، ومثاله أن يقول : أنت طالق إن ، أو يقول بعد جملة الطّلاق " إن كان " أو " إن لم يكن " أو " إلاّ " أو " لولا " ففي كلّ هذه الأمثلة يكون الكلام لغواً عند أبي يوسف ، وهو المفتى به عند الحنفيّة كما في الدّرّ المختار ، وقال محمّد : تطلق للحال .
85 - الشّريطة الثّالثة : وصلها بجملة الجزاء ، فلو قال : إن دخلت الدّار ، ثمّ سكت ، ولو بقدر التّنفّس بلا تنفّسٍ وبلا ضرورةٍ ، أو تكلّم كلاماً أجنبيّاً ثمّ قال : فأنت طالق ، لم يصحّ التّعليق ، بل يكون طلاقاً منجّزاً .
86 - الشّريطة الرّابعة : ألاّ يقصد المتكلّم بالإتيان بها المجازاة ، فإن قصدها كانت جملة الجزاء تنجيزاً لا تعليقاً . مثال ذلك أن تنسب امرأة إلى زوجها أنّه فاسق ، فيقول لها : إن كنت كما قلت فأنت كذا ، فيتنجّز الطّلاق ، سواء أكان كما قالت أم لا ، لأنّه في الغالب لا يريد إلاّ إيذاءها بالطّلاق المنجّز عقوبةً لها على شتمه . فإن قال : قصدت التّعليق ، لم يقبل قضاءً ، بل يدين على ما أفتى به أهل بخارى من الحنفيّة .
87 - الشّريطة الخامسة : أن يكون مستقبلاً إثباتاً أو نفياً ، وهذه الشّريطة إنّما تشترط في تعليق الكفر لا في تعليق الطّلاق ونحوه .
ثمّ إنّ الّذين يشترطونها في تعليق الكفر إنّما هم الّذين يشترطونها في اليمين باللّه تعالى . والخلاصة أنّ تعليق الطّلاق ونحوه يصحّ في الماضي كما يصحّ في المستقبل ، لأنّه لا يعتبر غموساً عند مخالفة الواقع ، بخلاف تعليق الكفر ، فمن قال : إن كان الأمر على خلاف ما قلته ، أو : إن لم يكن الأمر كما قلته ، أو : إن كان الأمر على ما قال فلان فامرأتي كذا ، أو : فعليّ صوم شهرٍ ، أو : فهو يهوديّ ، فإن كان ما أثبته منفيّاً في الواقع ، أو ما نفاه ثابتاً في الواقع طلقت امرأته في الصّورة الأولى ، وتخيّر بين ما التزمه من الصّيام وبين كفّارة اليمين في الصّورة الثّانية ، وإلى يلزمه في الصّورة الأخيرة كفّارة يمينٍ عند من يقول بعدم كفّارة اليمين الغموس وسيأتي ذلك .
ما يشترط في جملة الجزاء :
88 - ليس كلّ تعليقٍ يصلح أن يكون يميناً شرعاً ، وإنّما الّذي يصلح ما كان جزاؤه واحداً من ستّةٍ ، وهي : الطّلاق والعتاق والتزام القربة والكفر والظّهار والحرام .
فيشترط في جملة الجزاء : أن يكون مضمونها واحداً في هذه السّتّة ، وقد صرّح الحنفيّة بالأربعة الأول فقط ، ولم يذكروا تعليق الظّهار ، ولا تعليق الحرام ، لكنّهم جعلوا تحريم الحلال في حكم اليمين باللّه تعالى ، وهو يشمل المنجّز والمعلّق ، فلم يبق خارجاً عن كلامهم سوى تعليق الظّهار .
ويشترط في جملة الجزاء شريطة ثانية وهي : ألاّ يذكر فيها استثناءً بنحو إن شاء اللّه ، أو إلاّ أن يشاء اللّه ، فمن قال : إن فعلت كذا فأنت طالق إن شاء اللّه ، أو قال أنت طالق إن شاء اللّه إنّ فعلت كذا ، أو قال أنت طالق إن فعلت كذا إن شاء اللّه بطل تعليقه .
وإلى هذا ذهب الحنفيّة والشّافعيّة .
وخالف المالكيّة والحنابلة ، فقالوا : لا يصحّ التّعليق بالمشيئة فيما لا كفّارة فيه ، ومثّل له المالكيّة بالطّلاق والعتاق والتزام القربة ، ومثّل له الحنابلة بالطّلاق والعتاق فقط ، لأنّ التزام القربة بقصد اليمين يلزم فيه ما التزمه عند المالكيّة ، ويخيّر فيه عند الحنابلة بين ما التزمه وبين كفّارة اليمين ، فعلى هذا يصحّ الاستثناء عند المالكيّة في : الحلف باللّه تعالى ، وبالظّهار ، وقول القائل : عليّ نذر أو عليّ يمين أو عليّ كفّارة .
وعند الحنابلة في : الحلف باللّه ، والظّهار ، وفي تعليق النّذر بقصد الحلف ، وتعليق الكفر . وهذا المنقول عن المالكيّة والحنابلة هو أشهر القولين عن مالكٍ وإحدى الرّوايتين عن أحمد . وقد رجّح ابن تيميّة الرّواية الأخرى الموافقة لقول الجمهور ، فقال : هذا القول هو الصّواب المأثور عن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وجمهور التّابعين كسعيد بن المسيّب والحسن . لكن جرى صاحب المنتهى وغيره على اختصاص المشيئة بما يكفّر عنه فتكون الرّواية الأولى هي الرّاجحة عند متأخّري الحنابلة .
التّعليق الّذي لا يعدّ يميناً شرعاً :
89 - لمّا كانت التّعليقات السّتّة السّابقة إنّما تعدّ أيماناً في بعض الصّور ، وما عداها من التّعليقات لا يعدّ يميناً أصلاً كان التّعليق الّذي لا يعدّ يميناً نوعين .
أحدهما : ما لم يقصد به الحثّ ولا المنع ولا تحقيق الخبر ، وقد خالف الحنفيّة في ذلك فعدّوه يميناً ، واشترطوا أن يكون تعليقه تعليقاً محضاً .
وثانيهما : كلّ تعليقٍ من السّتّة اختلّت فيه شريطة من شرائط صحّة التّعليق .
تعليق غير السّتّة :
90 - كلّ تعليقٍ لغير السّتّة لا يعدّ يميناً شرعاً وإن كان القائل يقصد به تأكيد الحمل على شيءٍ أو المنع عنه أو الخبر .
ومن أمثلة ذلك أن يقول : إن فعلت كذا فأنا بريء من الشّفاعة ، لأنّ إنكار الشّفاعة بدعة ، وليس كفراً ، أو يقول : فصلاتي وصيامي لهذا الكافر قاصداً أنّ ثوابهما ينتقل إلى هذا الكافر ، فهذا القول ليس كفراً ، فإن قصد به أنّ صلاته وصيامه عبادة لهذا الكافر ، أي : أنّه يعبده كانت يميناً لأنّ هذا كفر .
ومن الأمثلة : إن فعل كذا فعليه غضب اللّه أو سخطه أو لعنته ، أو فهو زانٍ أو سارق أو شارب خمرٍ أو آكل رباً ، فليس شيء من ذلك يميناً شرعاً . هذا متّفق عليه بين الفقهاء . معنى الاستثناء :
91 - المراد بالاستثناء هنا هو التّعليق بمشيئة اللّه تعالى أو نحوه ممّا يبطل الحكم ، كما لو قال قائل : سأفعل كذا إن شاء اللّه .
وإنّما سمّي هذا التّعليق استثناءً لشبهه بالاستثناء المتّصل في صرف اللّفظ السّابق عن ظاهره . وبعضهم يسمّي هذا التّعليق ( استثناء تعطيلٍ ) لأنّه يعطّل العقد أو الوعد أو غيرهما . والفقهاء يذكرون هذا الاستثناء في الأيمان حينما يقولون : إنّ من شرائط صحّة اليمين عدم الاستثناء فإنّهم لا يريدون إلاّ الاستثناء ، بمعنى التّعليق بمشيئة اللّه تعالى ونحوه ، فإنّه هو الّذي لو وجد لبطل حكم اليمين .
والضّابط الّذي يجمع صور الاستثناء بالمشيئة : كلّ لفظٍ لا يتصوّر معه الحنث في اليمين ، كما لو قال الحالف عقب حلفه : إن شاء اللّه ، أو إلاّ أن يشاء اللّه ، أو ما شاء اللّه ، أو إلاّ أن يبدو لي غير هذا ، أو إن أعانني اللّه ، أو يسّر اللّه ، أو قال : بعون اللّه أو بمعونة اللّه أو بتيسيره .
التّعليق بالاستطاعة :
92 - لو قال الحالف : واللّه لأفعلنّ كذا إن استطعت أو : لأفعلنّ كذا إلاّ ألاّ أستطيع ، فإن أراد بها الاستطاعة الخاصّة بالفعل المحلوف عليه لم يحنث أبداً لأنّها مقارنة للفعل ، فلا توجد ما لم يوجد الفعل . وإن أراد الاستطاعة العامّة ، وهي سلامة الآلات والأسباب والجوارح والأعضاء ، فإن كانت له هذه الاستطاعة فلم يفعل حنث ، وإلاّ لم يحنث .
وهذا لأنّ لفظ الاستطاعة يحتمل كلّاً من المعنيين . قال اللّه تعالى في شأن المشركين : { أولئك لم يكونوا مُعْجِزينَ في الأرض وما كانَ لهم من دونِ اللّه من أولياءَ يُضَاعَفُ لهم العذابُ ما كانوا يَسْتَطيعون السّمعَ وما كانوا يُبْصِرون } وقال عزّ وجلّ حاكياً خطاب الخضر لموسى عليهما السلام { قال إنّك لن تَسْتطيع معي صبراً } والمراد في الآيتين الاستطاعة المقارنة للفعل ، وقال سبحانه وتعالى : { وَللّهِ على النّاسِ حجُّ البيتِ مَنْ استطاعَ إليه سبيلاً } وقال جلّ شأنه { والّذين يُظاهِرون من نسائِهم ثمّ يَعُودون لِمَا قالوا فَتَحْرِيرُ رَقبةٍ من قَبْل أنْ يتماسّا ذلكم تُوعظون به واللّه بما تعملون خبيرٌ فمنْ لَمْ يجدْ فصيامُ شهرين مُتَتَابعين مِن قَبْل أنْ يتماسّا فمن لم يَسْتطِع فإطعامُ ستّين مسكيناً ذلك لِتُؤْمِنُوا باللّه ورسولِه وتلك حدودُ اللّه ولِلْكافرين عذابٌ أليمٌ } والمراد بالاستطاعة في الموضعين سلامة الأسباب والآلات .
فإن لم يكن له نيّة وجب أن يحمل على المعنى الثّاني - وهو سلامة الأسباب - لأنّ هذا هو الّذي يراد في العرف والعادة ، فينصرف إليه اللّفظ عند الإطلاق .
أثر الاستثناء وما يؤثّر فيه :
93 - والاستثناء المتّصل " بإلاّ " ونحوها متى وجدت شرائطه أفاد التّخصيص في اليمين القسميّة والتّعليقيّة ، وفي غير اليمين أيضاً ، ومن أمثلة ذلك : واللّه لا آكل سمناً إلاّ في الشّتاء ، وإن أكلته في غير الشّتاء فنسائي طوالق إلاّ فلانة ، أو فعبيدي أحرار إلاّ فلاناً ، وإن كلّمت زيداً فعليّ المشي إلى مكّة إلاّ أن يكلّمني ابتداءً .
ومن أمثلتها أيضاً قول القائل : لفلانٍ عليّ عشرة دنانير إلاّ ثلاثةً ، وأنت طالق ثلاثاً إلاّ اثنتين كما سبق .
والاستثناء بمعنى تعليق المشيئة ونحوه يفيد إبطال الكلام الّذي قبله ، سواء أكان يميناً قسميّة أم يميناً تعليقيّةً أم غيرهما ، وإلى هذا ذهب الجمهور .
وذهب مالك في أشهر القولين ، وأحمد في إحدى الرّوايتين - وهي أرجحهما - إلى أنّه لا يفيد الإبطال ، إلاّ في اليمين باللّه تعالى وما في معناها ممّا فيه كفّارة ، فالطّلاق والعتاق لا يبطلان بتعليق المشيئة ، سواء أكانا منجّزين أم معلّقين ، فمن قال : أنت طالق إن شاء اللّه ، أو إذا طلعت الشّمس فأنت طالق إن شاء اللّه ، أو إن خرجت من الدّار فأنت طالق إن شاء اللّه ، يقع طلاقه منجّزاً في المثال الأوّل ، ويقع عند طلوع الشّمس في المثال الثّاني ، وعند خروجها من الدّار في المثال الثّالث ، وأمّا تعليق التزام القربة بقصد اليمين فعند المالكيّة : يلزمه فيه ما التزمه ، فلا يصحّ تعليقه بالمشيئة فلا تبطل اليمين به ، وعند الحنابلة تجب فيه الكفّارة فيصحّ عندهم تعليقه بالمشيئة . وهناك قول ثالث ذهب إليه ابن تيميّة في فتاواه ، وهو : أنّ المشيئة تفيد الإبطال في كلّ ما كان حلفاً سواء أكان قسماً باللّه أم تعليقاً للطّلاق وغيره ، ولا تفيد الإبطال فيما ليس حلفاً كتنجيز الطّلاق والعتاق والتزام القربة وتعليقها بغير قصد الحلف كتعليقها على طلوع الشّمس .
94 - هذا ويمكن الاستدلال على ما ذهب إليه الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم : « من حلف على يمينٍ فقال : إن شاء اللّه فلا حنث عليه » فقوله صلى الله عليه وسلم : « من حلف » يشمل الحالف بالصّيغة القسميّة وبالصّيغة التّعليقيّة ، ويقاس عليه كلّ عقدٍ وكلّ حلٍّ.
شرائط صحّة الاستثناء :
95 - يشترط لصحّة الاستثناء شرائط :
الشّريطة الأولى : الدّلالة عليه باللّفظ أو ما يقوم مقامه من كتابةٍ أو إشارة أخرس - كما تقدّم في شرائط الحالف - ثمّ إن كانت باللّفظ وجب الإسماع ولو بالقوّة عند الجمهور ، خلافاً للمالكيّة والكرخيّ من الحنفيّة .
ثمّ اشتراط الدّلالة باللّفظ وما يقوم مقامه يخرج به ما لو نوى الاستثناء من غير أن يدلّ عليه ، فلا تكفي النّيّة في الاستثناء ، لكن قال المالكيّة : إنّ النّيّة تكفي في الاستثناء بإلاّ وأخواتها قبل انتهاء النّطق باليمين ، وكالاستثناء بإلاّ سائر التّخصيصات كالشّرط ، والصّفة ، والغاية ، ومثال الشّرط : واللّه لا أكلّم زيداً إن لم يأتني ، ومثال الصّفة : لا أكلّمه وهو راكب ، لأنّ المراد بالصّفة ما يشمل الحال ، ومثال الغاية : لا أكلّمه حتّى تغرب الشّمس .
وتفصيله في ( استثناءٍ وطلاقٍ ) .
96 - وقال الحنابلة : يشترط نطق غير المظلوم الخائف ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً « من حلف على يمينٍ فقال : إن شاء اللّه فلا حنث عليه » ومعلوم أنّ قوله صلى الله عليه وسلم فقال ... " يدلّ على اشتراط النّطق باللّسان ، لأنّ القول هو اللّفظ ، وأمّا المظلوم الخائف فتكفيه نيّته ، لأنّ يمينه غير منعقدةٍ ، أو لأنّه بمنزلة المتأوّل .
97 - الشّريطة الثّانية : أن يصل المتكلّم الاستثناء بالكلام السّابق ، فلو فصل عنه بسكوتٍ كثيرٍ بغير عذرٍ ، أو بكلامٍ أجنبيٍّ لم يصحّ الاستثناء ، فلا يخصّص ما قبله إن كان استثناءً بنحو إلاّ ، ولا يلغيه إن كان بنحو المشيئة .
ومن الأعذار : التّنفّس والسّعال والجشاء والعطاس وثقل اللّسان وإمساك إنسانٍ فم المتكلّم ، فالفصل بالسّكوت لهذه الأعذار كلّها لا يضرّ .
والمراد بالسّكوت الكثير ما كان بقدر التّنفّس بغير تنفّسٍ ، على ما أفاده الكمال بن الهمام . والمراد بالكلام الأجنبيّ ما لم يفد معنًى جديداً ، كما لو قال : أنت طالق ثلاثاً وثلاثاً إلاّ واحدةً إن شاء اللّه ، فهذا العطف لغو ، لأنّ الثّلاث هي أكثر الطّلاق فلا يصحّ الاستثناء .
98 - وهذه الشّريطة إجمالاً ( وهي عدم الفصل بلا عذرٍ ) متّفق عليها بين عامّة أهل العلم ، وإنّما الخلاف في الفاصل من سكوتٍ أو كلامٍ ، متى يعدّ مانعاً من الاستثناء ومتى لا يعدّ ؟ والتّفاصيل الّتي سبق ذكرها هي الّتي نصّ عليها الحنفيّة ، وفي كتب المذاهب الأخرى تفاصيل يطول الكلام عليها ، فلتراجع في مواضعها من كتب الفقه .
وقد روي عن بعض الصّحابة والتّابعين عدم اشتراط هذه الشّريطة ، فقد أخرج ابن جريرٍ والطّبرانيّ وابن المنذر وغيرهم عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه كان يرى الاستثناء ولو بعد سنةٍ ويقرأ قوله تعالى : { ولا تَقولَنَّ لشيءٍ إنّي فاعلٌ ذلك غداً إلاّ أن يشاءَ اللّهُ واذكر ربَّك إذا نَسِيتَ } وهو رواية عن الإمام أحمد ، وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبيرٍ في رجلٍ حلف ونسي أن يستثني ، قال : له ثنيّاه إلى شهرٍ ، وأخرج ابن أبي حاتمٍ من طريق عمرو بن دينارٍ عن عطاءٍ أنّه قال : من حلف على يمينٍ فله الثّنيّا حلب ناقةٍ قال : وكان طاوسٍ يقول : ما دام في مجلسه ، وأخرج ابن أبي حاتمٍ أيضاً عن إبراهيم النّخعيّ قال : يستثني ما دام في كلامه .
وممّا يؤيّد اشتراط عدم الفصل أنّه لو صحّ جواز الفصل وعدم تأثيره في الأحكام ، ولا سيّما إلى الغاية المرويّة عن ابن عبّاسٍ ، لما تقرّر إقرار ولا طلاق ولا عتاق ، ولم يعلم صدق ولا كذب . وأيضاً لو صحّ هذا لأقرّ اللّه نبيّه أيّوب عليه السلام بالاستثناء رفعاً للحنث ، فإنّه أقلّ مؤنةً ممّا أرشده سبحانه إليه بقوله تعالى : { وخُذْ بيدِك ضِغْثاً فاضْرِبْ به ولا تَحْنَثْ } .
99 - الشّريطة الثّالثة : القصد : وهذه الشّريطة ذكرها المالكيّة وعنوا بها : قصد اللّفظ مع قصد معناه ، وخرج بذلك أمران .
أحدهما : أن يجري اللّفظ على لسان الحالف من غير قصدٍ ، فلا يعتبر الاستثناء بإلاّ مخصّصاً ، ولا الاستثناء بالمشيئة مبطلاً .
ثانيهما : ما لو قصد التّبرّك بذكر المشيئة ، أو قصد الإخبار بأنّ هذا الأمر يحصل بمشيئة اللّه تعالى ، ففي هذه الحال لا تبطل اليمين ، بل تبقى منعقدةً ، وكذا لو لم يقصد شيئاً ، بأن قصد مجرّد النّطق بلفظ الاستثناء بنوعيه من غير أن ينوي تخصيص اليمين وحلّها .
وقد اتّفق المالكيّة على أنّ قصد الاستثناء إن كان مع اليمين من أوّلها أو في أثنائها صحّ الاستثناء ، فإن كان بعد الفراغ من النّطق باليمين صحّ على المشهور ، فعليه لو حلف ، فذكّره إنسان قائلاً : قل إن شاء اللّه أو إلاّ أن يشاء اللّه أو نحو ذلك ، فقاله بغير فصلٍ ، ولم يكن في نيّته من قبل فإنّه يصحّ ، ولم يذكر الحنفيّة هذه الشّريطة .
والشّافعيّة والحنابلة شرطوا القصد مع العلم بالمعنى ، وشرطوا كون القصد قبل الفراغ من اليمين ، وقالوا : لو لم يقصد الاستثناء إلاّ بعد الفراغ من اليمين لم يصحّ ، لأنّه يلزم عليه رفع اليمين بعد انعقادها ، وقالوا أيضاً : يصحّ تقديم الاستثناء وتوسيطه .
100 - الشّريطة الرّابعة : أن يكون حلفه في غير توثّقٍ بحقٍّ .
وهذه الشّريطة نصّ عليها المالكيّة . وإيضاحها : أنّه يشترط في صحّة الاستثناء أن يكون الحلف الّذي ذكر معه الاستثناء في غير توثّقٍ بحقٍّ ، كما لو شرط عليه في عقد نكاحٍ ألاّ يضرّ زوجته في عشرةٍ ، أو لا يخرجها من بلدها ، وكأن يشرط عليه في بيعٍ أن يأتي بالثّمن في وقت كذا ، وطلب منه يمين على ذلك ، فحلف واستثنى سرّاً لم يفده الاستثناء عند سحنونٍ وأصبغ وابن الموّاز ، لأنّ اليمين على نيّة المستحلف عند هؤلاء ، وهذا هو المشهور عند المالكيّة ، خلافاً لما قاله ابن القاسم في العتبيّة من أنّه ينفع الاستثناء فيما ذكر ، فلا تلزمه الكفّارة ، لكن يحرم عليه بمنعه حقّ الغير .
والّذي يتصفّح كتب المذاهب الأخرى يجد أنّه ما من مذهبٍ إلاّ يرى أصحابه ، أنّ اليمين تكون على نيّة المستحلف في بعض الصّور ، وسيأتي ذلك ، فيمكن التّعبير عن هذه الشّريطة بأن يقال : يشترط في صحّة الاستثناء ألاّ يكون على خلاف نيّة المستحلف ، في الصّور الّتي يجب فيها مراعاة نيّته .
أحكام اليمين
101 - تقدّم أنّ اليمين إمّا أن تكون قسميّةً ، وإمّا أن تكون تعليقيّةً . ولكلٍّ منهما أحكام .
أحكام اليمين القسميّة :
أحكام اليمين القسميّة تختلف باختلاف أنواعها ، وفيما يلي بيان هذه الأنواع ثمّ بيان أحكامها . أنواع اليمين القسميّة : قسّم الحنفيّة اليمين باللّه تعالى وما ألحق بها كتعليق الكفر - من حيث الكذب وعدمه - إلى ثلاثة أنواعٍ ، وهي : اليمين الغموس ، واليمين اللّغو ، واليمين المعقودة .
102 - فاليمين الغموس : هي الكاذبة عمداً في الماضي أو الحال أو الاستقبال ، سواء أكانت على النّفي أم على الإثبات كأن يقول : واللّه ما فعلت كذا ، وهو يعلم أنّه فعله ، أو واللّه لقد فعلت كذا ، وهو يعلم أنّه لم يفعله ، أو : واللّه مالك عليّ دين ، وهو يعلم أنّ للمخاطب ديناً عليه ، أو : واللّه لا أموت أبداً .
وكأن يقول : إن كنت فعلت كذا ، أو إن لم أكن فعلته ، أو إن كان لك عليّ دين ، أو إن متّ فأنا يهوديّ أو نصرانيّ . هذا تعريفها عند الحنفيّة .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الغموس هي الحلف باللّه مع شكٍّ من الحالف في المحلوف عليه ، أو مع ظنٍّ غير قويٍّ ، أو مع تعمّد الكذب ، سواء أكان على ماضٍ نحو : واللّه ما فعلت كذا ، أو لم يفعل زيد كذا ، مع شكّه في عدم الفعل ، أو ظنّه عدمه ظنّاً غير قويٍّ ، أو جزمه بأنّه قد فعل ، أم كان على حاضرٍ نحو : واللّه إنّ زيداً لمنطلق أو مريض ، وهو جازم بعدم ذلك ، أو متردّد في وجوده على سبيل الشّكّ أو الظّنّ غير القويّ ، أم كان على مستقبلٍ نحو : واللّه لآتينّك غداً ، أو لأقضينّك حقّك غداً وهو جازم بعدم ذلك ، أو متردّد في حصوله على سبيل الشّكّ أو الظّنّ غير القويّ .
وقال الشّافعيّة والحنابلة إنّ الغموس هي المحلوفة على ماضٍ مع كذب صاحبها وعلمه بالحال . والحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة لا يوافقون المالكيّة على التّوسّع في تفسير الغموس .
103 - واليمين اللّغو : اختلفوا في تفسيرها أيضاً ، فقال الحنفيّة : هي اليمين الكاذبة خطأً أو غلطاً في الماضي أو في الحال ، وهي : أن يخبر إنسان عن الماضي أو عن الحال على الظّنّ أنّ المخبر به كما أخبر ، وهو بخلافه ، سواء أكان ذلك في النّفي أم في الإثبات ، وسواء أكانت إقساماً باللّه تعالى أم تعليقاً للكفر ، كقوله : واللّه ما كلّمت زيداً ، وفي ظنّه أنّه لم يكلّمه ، والواقع أنّه كلّمه .
هكذا روي عن محمّدٍ ، وهو الّذي اقتصر عليه أصحاب المتون من الحنفيّة .
وروى محمّد عن أبي حنيفة أنّ اللّغو : ما يجري بين النّاس من قولهم لا واللّه وبلى واللّه ، أي من غير قصد اليمين .
والتّحقيق أنّه يعتبر عند الحنفيّة نوعاً آخر من اللّغو ، فيكون اللّغو عندهم نوعين وكلاهما في الماضي والحاضر دون المستقبل .
وقال المالكيّة : إنّ اللّغو هو الحلف باللّه على شيءٍ يعتقده على سبيل الجزم أو الظّنّ القويّ فيظهر خلافه سواء أكان المحلوف عليه إثباتاً أم نفياً ، وسواء أكان ماضياً أم حاضراً أم مستقبلاً . ويلاحظ أنّهم مثّلوا بالمستقبل بما لو قال " واللّه لأفعلنّ كذا " مع الجزم أو الظّنّ القويّ بفعله ثمّ لم يفعله .
وقال الشّافعيّة : اليمين اللّغو هي الّتي يسبق اللّسان إلى لفظها بلا قصدٍ لمعناها ، كقولهم " لا واللّه " " وبلى واللّه " في نحو صلة كلامٍ أو غضبٍ سواء أكان ذلك في الماضي أم الحال أم المستقبل . وهم يخالفون الحنفيّة في هذا الأخير ، وهو ما كان في المستقبل .
وذهب الحنابلة إلى أنّ لغو اليمين كما يقول الشّافعيّة ، ووافقوهم أيضاً في أنّ من حلف على ماضٍ كاذباً جاهلاً صدّق نفسه ، أو ظانّاً صدق نفسه ، فتبيّن خلافه لا تنعقد يمينه ، ويؤخذ من هذا أنّ ما يسمّيه الحنفيّة وغيرهم لغواً يوافقهم الشّافعيّة على حكمه ، وإن لم يسمّوه لغواً . ونقل صاحب غاية المنتهى عن الشّيخ تقيّ الدّين أنّ من حلف على مستقبلٍ ظانّاً صدق نفسه فتبيّن بخلافه لا تنعقد يمينه ، وكذا من حلف على غيره ظانّاً أنّه يطيعه فلم يفعل فلا كفّارة فيه أيضاً ، لأنّه لغو ، ثمّ قال : والمذهب خلافه .
ثمّ من هؤلاء من يوجب الكفّارة ، لقوله تعالى في هذه الآية { فَكَفّارتُه إطعامُ عَشَرَةِ مساكينَ من أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكم أو كِسْوَتُهم أو تحريرُ رقبةٍ فمن لم يَجِدْ فصيامُ ثلاثةِ أيّامٍ ذلك كفّارةُ أَيْمانِكم إذا حَلَفْتُم } أي حلفتم وحنثتم .
ومنهم من لا يوجب الكفّارة لما يأتي في بيان حكم اليمين باللّه تعالى .
104 - ووجه قول الشّافعيّة ومن وافقهم : ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت :
« أنزلت هذه الآية - { لا يؤاخذكم اللّه باللّغو في أيمانكم } - في قول الرّجل : لا واللّه وبلى واللّه » ومعلوم أنّ السّيّدة عائشة رضي الله عنها شهدت التّنزيل وقد جزمت بأنّ الآية نزلت في هذا المعنى ، قال الشّوكانيّ في نيل الأوطار : إنّ القرآن الكريم قد دلّ على عدم المؤاخذة في يمين اللّغو ، وذلك يعمّ الإثم والكفّارة ، فلا يجبان ، والمتوجّه الرّجوع في معرفة معنى اللّغو إلى اللّغة العربيّة ، وأهل عصره صلى الله عليه وسلم أعرف النّاس بمعاني كتاب اللّه تعالى ، لأنّهم مع كونهم من أهل اللّغة قد كانوا من أهل الشّرع ومن المشاهدين للرّسول صلى الله عليه وسلم والحاضرين في أيّام النّزول ، فإذا صحّ عن أحدهم تفسير لم يعارضه ما يرجّح عليه أو يساويه وجب الرّجوع إليه ، وإن لم يوافق ما نقله أئمّة اللّغة في معنى ذلك اللّفظ ، لأنّه يمكن أن يكون المعنى الّذي نقله إليه شرعيّاً لا لغويّاً ، والشّرعيّ مقدّم على اللّغويّ كما تقرّر في الأصول ، فكان الحقّ فيما نحن بصدده ، هو أنّ اللّغو ما قالته عائشة رضي الله عنها .
فثبت أنّ اليمين اللّغو هي الّتي لا يقصدها الحالف ، وإن كانت على مستقبلٍ .
وأيضاً أنّ اللّه تعالى قابل اليمين اللّغو باليمين المكسوبة بالقلب بقوله عزّ وجلّ : { لا يؤاخِذُكم اللّه باللّغوِ في أيمانِكم ولكنْ يؤاخِذُكم بما كسبتْ قلوبُكم } .
والمكسوبة هي المقصودة ، فكانت غير المقصودة داخلةً في قسم اللّغو بلا فصلٍ بين ماضيه وحاله ومستقبله تحقيقاً للمقابلة .
ووجه قول الحنفيّة ومن وافقهم : أنّ اللّه عزّ وجلّ قابل اللّغو بالمعقودة ، وفرّق بينهما بالمؤاخذة ونفيها ، فوجب أن تكون اللّغو غير المعقودة تحقيقاً للمقابلة ، واليمين على المستقبل معقودة سواء أكانت مقصودةً أم لا ، فلا تكون لغواً .
105 - وأيضاً اللّغو في اللّغة : اسم للشّيء الّذي لا حقيقة له ، قال اللّه تعالى : { لا يَسْمَعُونَ فيها لَغْواً } أي باطلاً ، وقال عزّ وجلّ خبراً عن الكفرة { وقال الّذين كفروا لا تَسْمعوا لهذا القرآنِ والْغَوْا فيه } وذلك يتحقّق في الحلف على ظنٍّ من الحالف أنّ الأمر كما حلف عليه ، والحقيقة بخلافه ، وكذا ما يجري على اللّسان من غير قصدٍ لكن في الماضي أو الحال . فهو ما لا حقيقة له .
وقد روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه قال : اللّغو أن يحلف الرّجل على الشّيء يراه حقّاً وليس بحقٍّ . وبه تبيّن أنّ المراد من قول عائشة رضي الله عنها : أنّ اللّغو في الأيمان قول الرّجل لا واللّه وبلى واللّه ، إنّما أرادت به التّمثيل لا الحصر ، وأيضاً إنّه خاصّ بالماضي والحاضر ليكون النّوعان متماثلين .
106 - واليمين المعقودة : وهي اليمين على أمرٍ في المستقبل غير مستحيلٍ عقلاً ، سواء أكان نفياً أم إثباتاً ، نحو : واللّه لا أفعل كذا أو واللّه لأفعلنّ كذا . هذا قول الحنفيّة .
وأفاد المالكيّة أنّ اليمين المنعقدة هي : ما لم تكن غموساً ولا لغواً .
ومن تأمّل في معنى الغموس واللّغو عندهم لم يجد ما يسمّى منعقدةً سوى الحلف باللّه على ما طابق الواقع من ماضٍ أو حاضرٍ ، أو ما يطابقه من مستقبلٍ ، لأنّ ما عدا ذلك إمّا غموس وإمّا لغو ، لكن يلحق بالمنعقدة الغموس واللّغو في المستقبل ، وكذا الغموس في الحاضر كما سيأتي في الأحكام .
وأفاد الشّافعيّة أنّ كلّ يمينٍ لا تعدّ لغواً عندهم فهي منعقدة ، فيدخل فيها الغموس ، كما يدخل فيها الحلف على المستقبل الممكن . وبيان ذلك أنّ اليمين إن كان التّلفّظ بها غير مقصودٍ كانت لغواً ، سواء أكانت في الماضي أم في الحال أم في المستقبل ، وإن كان التّلفّظ بها مقصوداً ، وكانت إخباراً مبنيّاً على اليقين أو الظّنّ أو الجهل ، وتبيّن خلافها كانت لغواً أيضاً ، ما لم يجزم الحالف بأنّ الّذي حلف عليه هو الواقع ، فحينئذٍ تكون منعقدةً ويحنث فيها . وإن كانت إخباراً مبنيّاً على اعتقاد مخالفة الواقع يقيناً أو ظنّاً فهي غموس ، وهي منعقدة أيضاً . وإن كانت للحثّ أو المنع وكان المحلوف عليه ممكناً فإنّها تكون منعقدةً أيضاً .
وأمّا إذا كان واجباً فإنّها صادقة قطعاً ولا تعدّ يميناً .
وإن كان مستحيلاً فهي كاذبة قطعاً وتكون منعقدةً وحانثةً .
وقال الحنابلة : إنّ اليمين على المستقبل إذا كان التّلفّظ بها مقصوداً ، وكان الحالف مختاراً ، وكانت على ممكنٍ أو على إثبات مستحيلٍ أو نفي واجبٍ ، لكنّ الشّيخ تقيّ الدّين أخرج منها من حلف على مستقبلٍ ظانّاً صدق نفيه فتبيّن بخلافه ، ومن حلف على غيره ظانّاً أنّه يطيعه فلم يطعه .
107 - وتنوّع اليمين إلى الأنواع الثّلاثة الّتي أساسها الكذب وعدمه هو اصطلاح الحنفيّة والشّافعيّة وموافقوهم لا يقسّمون اليمين إلى الأنواع الثّلاثة ، وإنّما يقسّمونها - من حيث القصد وعدمه - إلى قسمين فقط ، وهما : اللّغو والمعقودة . فاللّغو هي الّتي لم تقصد ، وكذا الّتي قصدت وكانت إخباراً عن الظّنّ ، والمعقودة هي الّتي قصدت وكانت للحمل أو المنع ، أو كانت للإخبار صدقاً أو كذباً عمداً .
أحكام الأيمان القسميّة :
حكم اليمين الغموس :
اليمين الغموس لها حكمان : حكم الإتيان بها ، والحكم المترتّب على تمامها .
وبيان ذلك فيما يلي :
حكم الإتيان بها :
108 - الإتيان باليمين الغموس حرام ، ومن الكبائر بلا خلافٍ ، لما فيه من الجرأة العظيمة على اللّه تعالى ، حتّى قال الشّيخ أبو منصورٍ الماتريديّ ، كان القياس عندي أنّ متعمّد الحلف باللّه تعالى على الكذب يكفر ، لأنّ اليمين به عزّ وجلّ جعلت لتعظيمه ، والمتعمّد لليمين به على الكذب مستخفّ به ، لكنّه لا يكفر ، لأنّه ليس غرضه الجرأة على اللّه والاستخفاف به ، وإنّما غرضه الوصول إلى ما يريده من تصديق السّامع له .
ونظير هذا ما يروى أنّ رجلاً سأل أبا حنيفة قائلاً : إنّ العاصي يطيع الشّيطان ، ومن أطاع الشّيطان فقد كفر ، فكيف لا يكفر العاصي ؟ فقال : إنّ ما يفعله العاصي هو في ظاهره طاعة للشّيطان ، ولكنّه لا يقصد هذه الطّاعة فلا يكفر ، لأنّ الكفر عمل القلب ، وإنّما يعدّ مؤمناً عاصياً فقط .
ثمّ إنّه لا يلزم من كونها من الكبائر أن تكون جميعها مستويةً في الإثم ، فالكبائر تتفاوت درجاتها حسب تفاوت آثارها السّيّئة ، فالحلف الّذي يترتّب عليه سفك دم البريء ، أو أكل المال بغير حقٍّ أو نحوهما ، أشدّ حرمةً من الحلف الّذي لا يترتّب عليه شيء من ذلك .
109 - وقد ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في ذمّ اليمين الغموس وبيان أنّها من الكبائر والتّرهيب من الإقدام عليها .
منها : ما روي عن عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من حلفَ على مالِ امرئٍ مسلمٍ بغير حقّهِ لَقِيَ اللّهَ وهو عليه غضبان ، قال عبد اللّه : ثمّ قرأ علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب اللّه عزّ وجلّ : { إنَّ الّذين يَشْتَرون بِعَهْدِ اللّهِ وأَيْمانهم ثَمَناً قَلِيلاً } إلى آخر الآية » .
وعن وائل بن حجرٍ رضي الله عنه قال : « جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال الحضرميّ : يا رسول اللّه إنّ هذا قد غلبني على أرضٍ كانت لأبي ، فقال الكنديّ : هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حقّ ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم للحضرميّ : أَلَكَ بَيِّنَةٌ ؟ قال : لا ، قال : فَلَكَ يمينُه . قال : يا رسول اللّه : إنّ الرّجلَ فاجر ، لا يبالي على ما حلف عليه ، وليس يتورّع عن شيءٍ فقال : ليس لَكَ منه إلاّ يمينه . فانطلق ليحلف ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمّا أدبر : لئن حلف على مالٍ لِيأكله ظلماً لَيَلْقَيَنّ اللّه وهو عنه مُعرض » .
وقال الرّسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه عبد اللّه بن أنيسٍ رضي الله عنه : « من أكبر الكبائر : الإشراكُ باللّه ، وعقوقُ الوالدين ، واليمين الغموس والّذي نفسي بيده لا يحلفُ رجلٌ على مثلِ جناحِ بعوضةٍ إلاّ كانت كَيّاً في قلبه يوم القيامة » .
وعن جابر بن عتيكٍ رضي الله عنه أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « من اقتطعَ حقّ امرئٍ مسلمٍ بيمينه فقد أوجبَ اللّه له النّارَ وحرَّم عليه الجنّةَ ، فقال رجل : وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول اللّه ، قال : وإن كان قضيباً من أراكٍ » .
التّرخيص في اليمين الغموس للضّرورة :
110 - إنّ حرمة اليمين الغموس هي الأصل ، فإذا عرض ما يخرجها عن الحرمة لم تكن حراماً ، ويدلّ على هذا .
أوّلاً : قوله تعالى : { مَنْ كَفَرَ باللّه مِنْ بعد إيمانه إلاّ من أُكْرِه وقَلْبُه مُطْمَئِنّ بالِإيمانِ ولكنْ مَنْ شَرَحَ بالكفرِ صَدْراً فعليهم غَضَبٌ من اللّه ولهم عذابٌ عظيمٌ } .
فإذا كان الإكراه يبيح كلمة الكفر فإباحته لليمين الغموس أولى .
ثانياً : آيات الاضطرار إلى أكل الميتة وما شاكلها ، كقول تعالى : { فَمَنْ اضْطُرَّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا إثمَ عليه إنَّ اللّهَ غفورٌ رحيمٌ } .
فإذا أباحت الضّرورة تناول المحرّمات أباحت النّطق بما هو محرّم .
111 - وإليك نصوص بعض المذاهب في بيان ما تخرج به اليمين الغموس عن الحرمة .
أ - قال الدّردير في أقرب المسالك وشرحه ، والصّاويّ في حاشيته ما خلاصته : لا يقع الطّلاق على من أكره على الطّلاق ولو ترك التّورية مع معرفته بها ، ولا على من أكره على فعل ما علّق عليه الطّلاق . وندب أو وجب الحلف ليسلم الغير من القتل بحلفه وإن حنث هو ، وذلك فيما إذا قال ظالم : إن لم تطلّق زوجتك ، أو إن لم تحلف بالطّلاق قتلت فلاناً ، قال ابن رشدٍ : إن لم يحلف لم يكن عليه حرج ، أي لا إثم عليه ولا ضمان ، ومثل الطّلاق : النّكاح والإقرار واليمين .
ب - قال النّوويّ : الكذب واجب إن كان المقصود واجباً ، فإذا اختفى مسلم من ظالمٍ ، وسأل عنه وجب الكذب بإخفائه ، وكذا لو كان عنده أو عند غيره وديعة ، وسأل عنها ظالم يريد أخذها وجب عليه الكذب بإخفائها ، حتّى لو أخبره بوديعةٍ عنده فأخذها الظّالم قهراً وجب ضمانها على المودع المخبر ، ولو استحلفه عليها لزمه أن يحلف ، ويورّي في يمينه ، فإن حلف ولم يورّ حنث على الأصل وقيل : لا يحنث .
ج - وقال موفّق الدّين بن قدامة : من الأيمان ما هي واجبة ، وهي الّتي ينجّي بها إنساناً معصوماً من هلكةٍ ، كما روي عن سويد بن حنظلة قال : « خرجنا نريد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجرٍ ، فأخذه عدوّ له ، فتحرّج القوم أن يحلفوا ، فحلفت أنا : أنّه أخي ، فذكرت ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم صدقت ، المسلم أخو المسلم » فهذا ومثله واجب ، لأنّ إنجاء المعصوم واجب ، وقد تعيّن في اليمين فيجب ، وكذلك إنجاء نفسه ، مثل : أن تتوجّه عليه أيمان القسامة في دعوى القتل عليه وهو بريء
الحكم المترتّب على تمامها :
112 - في الحكم المترتّب على تمام الغموس ثلاثة آراءٍ .
الرّأي الأوّل : أنّها لا كفّارة عليها سواء أكانت على ماضٍ أم حاضرٍ ، وكلّ ما يجب إنّما هو التّوبة ، وردّ الحقوق إلى أهلها إن كان هناك حقوق ، وهذا مذهب الحنفيّة .
الرّأي الثّاني : أنّ فيها الكفّارة ، وهذا مذهب الشّافعيّة ، ويلاحظ أنّهم في تعريف الغموس خصّوها بالماضي ، لكن من المعلوم أنّ إيجاب الكفّارة في الحلف على الماضي يستلزم إيجابها في الحلف على الحاضر والمستقبل ، لأنّهم قالوا : إنّ كلّ ما عدا اللّغو معقود . الرّأي الثّالث : التّفصيل ، وقد أوضحه المالكيّة بناءً على توسّعهم في معناها ، فقالوا : من حلف على ما هو متردّد فيه أو معتقد خلافه فلا كفّارة عليه إن كان ماضياً ، سواء أكان موافقاً للواقع أم مخالفاً ، وعليه الكفّارة إن كان حاضراً أو مستقبلاً وكان في الحالين مخالفاً للواقع . وإلى التّفصيل ذهب الحنابلة أيضاً ، حيث اقتصروا في تعريف الغموس على ما كانت على الماضي ، وشرطوا في كفّارة اليمين أن تكون على مستقبلٍ .
فيؤخذ من مجموع كلامهم أنّ الحلف على الكذب عمداً لا كفّارة فيه إن كان على ماضٍ أو حاضرٍ ، وفيه الكفّارة إن كان على مستقبلٍ .
113 - احتجّ القائلون بوجوب الكفّارة في الغموس بأنّها مكسوبة معقودة ، إذ الكسب فعل القلب ، والعقد : العزم ، ولا شكّ أنّ من أقدم على الحلف باللّه تعالى كاذباً متعمّداً فهو فاعل بقلبه وعازم ومصمّم ، فهو مؤاخذ .
وقد أجمل اللّه عزّ وجلّ المؤاخذة في سورة البقرة فقال : { لا يؤاخذُكم اللّه باللّغو في أيمانِكم ولكنْ يؤاخذُكم بما كسبتْ قلوبُكم } وفصّلها في سورة المائدة ، فقال : { لا يؤاخذُكم اللّه باللّغو في أيمانِكم ولكن يؤاخذُكم بما عقّدْتُم الأيمانَ ، فكفّارته إطعامُ عشرةِ مساكين ... } على أنّ اليمين الغموس أحقّ بالتّكفير من سائر الأيمان المعقودة ، لأنّ ظاهر الآيتين ، ينطبق عليها من غير تقديرٍ ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ جعل المؤاخذة في سورة البقرة على الكسب بالقلب ، وفي سورة المائدة على تعقيد الأيمان وإرادتها ، وهذا منطبق أعظم انطباقٍ على اليمين الغموس ، لأنّها حانثة من حين إرادتها والنّطق بها ، فالمؤاخذة مقارنة لها ، بخلاف سائر الأيمان المعقودة ، فإنّه لا مؤاخذة عليها إلاّ عند الحنث فيها ، فهي محتاجة في تطبيق الآيتين عليها إلى تقديرٍ ، بأن يقال : إنّ المعنى : ولكن يؤاخذكم بالحنث فيما كسبت قلوبكم ، وبالحنث في إيمانكم المعقودة ، وكذلك قوله تعالى : { ذلك كفّارةُ أيمانِكم إذا حلفْتُم } معناه : إذا حلفتم وحنثتم .
114- واستدلّ الحنفيّة ومن وافقهم على عدم وجوب الكفّارة في اليمين الغموس بما يأتي : أوّلاً : قال اللّه تعالى : { إنّ الّذين يشترون بعَهْدِ اللّه وأيمانِهم ثمناً قليلاً أولئك لا خَلاقَ لهم في الآخرةِ ولا يكلّمُهُمُ اللّه ولا ينظرُ إليهم يومَ القيامةِ ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليم } .
ثانياً : ما رواه الأشعث بن قيسٍ وعبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنهما كلّ منهما عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من حلف على يمين صَبْرٍ يقتطع بها مالَ امرئٍ مسلمٍ هو فيها فاجرٌ لقيَ اللّه وهو عليه غضبان » .
ووجه الاستدلال بالآية والحديثين وما معناهما : أنّ هذه النّصوص أثبتت أنّ حكم الغموس العذاب في الآخرة ، فمن أوجب الكفّارة فقد زاد على النّصوص .
ثالثاً : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « خمسٌ ليس لهنّ كفّارةٌ : الشّركُ باللّه عزّ وجلّ ، وقتلُ النّفسِ بغيرِ حقٍّ ، وبهتُ مؤمنٍ ، والفرارُ من الزّحفِ ، ويمينٌ صابرة يقتطع بها مالاً بغير حقٍّ » .
حكم اليمين اللّغو :
115 - سبق بيان اختلاف المذاهب في تفسير يمين اللّغو ، فمن فسّروها باليمين على الاعتقاد أو باليمين غير المقصودة ذهبوا إلى أنّها لا إثم فيها من حيث ذاتها ولا كفّارة لها . لكن لمّا فسّرها المالكيّة بمعنًى شاملٍ للمستقبل قالوا : إنّها تكفّر إذا كانت على مستقبلٍ وحنث فيها ، كما لو حلف : أن يفعل كذا ، أو ألاّ يفعل كذا غداً ، وهو معتقد أنّ ما حلف على فعله سيحصل ، وما حلف على عدم فعله لن يحصل ، فوقع خلاف ما اعتقده وهم لا يخالفون الحنفيّة في ذلك ، غير أنّ الحنفيّة لا يسمّون الحلف على المستقبل لغواً كما تقدّم .
ومن فسّروها باليمين على المعاصي اختلفوا ، هل تكفّر بالحنث أو لا تكفّر ؟ فمنهم من قال : لا كفّارة لها ، لقوله تعالى : { لا يؤاخذكم اللّه باللّغو في أيمانكم } لأنّ المراد أنّ اللّه عزّ وجلّ لا يؤاخذ من حلف على المعصية إذا لم ينفّذ ما حلف عليه ، وذلك أنّ التّنفيذ حرام ، واجتنابه واجب ، فإذا اجتنبه فقد أدّى ما عليه ، فلا يطالب بكفّارةٍ .
ومنهم من قال : يجب على الحالف الحنث ، وإذا حنث وجبت عليه الكفّارة ، لأنّ قوله تعالى : { لا يؤاخذكم اللّه باللّغو في أيمانكم } يراد به أنّ اللّه عزّ وجلّ لا يؤاخذ من حلف على المعصية إذا حنث ولم ينفّذ ، فلا يعاقبه على هذا الحنث ، بل يوجبه عليه ، ويأمره به ، فإذا حنث وجب عليه التّكفير ، عملاً بقوله تعالى : { ذلك كفّارةُ أيمانِكم إذا حلفتم } فإنّ المراد به : أنّ ما ذكر هو كفّارة الأيمان مطلقاً لغواً ومعقودةً .
وهذا كلّه في اليمين باللّه تعالى ، وأمّا اليمين بغيره فسيأتي الكلام على اللّغو فيها .
أحكام اليمين المعقودة :
اليمين المعقودة لها ثلاثة أحكامٍ : حكم الإتيان بها ، وحكم البرّ والحنث فيها ، والحكم المترتّب على البرّ والحنث . وبيانها كما يلي :
أ - حكم الإتيان بها :
116 - قال الحنفيّة والمالكيّة : إنّ الأصل في اليمين باللّه تعالى الإباحة ، والإكثار منها مذموم . وهذا هو الحكم الأصليّ لليمين ، فلا ينافي أنّه قد تعرض لليمين أمور تخرجها عن هذا الحكم ، كما في المذاهب الآتية الّتي ذكرت الأحكام تفصيلاً .
وقال الشّافعيّة : الأصل في اليمين الكراهة إلاّ في طاعةٍ ، أو لحاجةٍ دينيّةٍ ، أو في دعوى عند حاكمٍ ، أو في ترك واجبٍ على التّعيين أو فعل حرامٍ وهذا إجمال توضيحه فيما يلي : الأصل في اليمين الكراهة ، لقوله تعالى : { ولا تَجْعَلوا اللّهَ عُرْضَةً لأيمانِكم أنْ تَبَرُّوا وتتّقوا وتُصْلِحُوا بين النّاس } وقوله عزّ وجلّ : { واحْفَظُوا أيمانَكم } ولحديث : « إنّما الحلف حِنْثُ أو ندم » .
وقد يقال : إنّ الآية الأولى يحتمل أن يكون معناها : لا تجعلوا الحلف باللّه حاجزاً لما حلفتم على تركه من أنواع الخير ، بناءً على أنّ العرضة معناها : الحاجز والمانع ، والأيمان معناها : الأمور الّتي حلفتم على تركها . ويحتمل أن يكون معناها : لا تجعلوا اللّه نصباً لأيمانكم ، فتبذلوه بكثرة الحلف به في كلّ حقٍّ وباطلٍ ، لأنّ في ذلك نوع جرأةٍ على اللّه تعالى .
فالآية الأولى لا تدلّ على حكم الحلف ، وعلى الاحتمال الثّاني تدلّ على كراهة الإكثار ، لا كراهة أصل الحلف .
والآية الثّانية : يحتمل أن يكون معناها طلب حفظ الأيمان المحلوفة عن الحنث ، إذا كان الوفاء بها لا مانع منه ، فتدلّ على كراهة الحنث أو حرمته ، ولا شأن لها بالإقدام على الحلف ، ويحتمل أن يكون معناها طلب حفظ الأيمان الّتي في القلوب عن الإظهار ، فيكون المطلوب ترك الأيمان حذراً ممّا يترتّب عليها من الحنث والكفّارة ، وعلى هذا يكون الإقدام على اليمين مكروهاً إلاّ لعارضٍ يخرجه عن الكراهة إلى حكمٍ آخر .
والحديث المتقدّم بعد الآيتين السّابقتين ضعيف الإسناد كما يؤخذ من فيض القدير ، وعلى فرض صحّته فالحصر فيه إنّما يصحّ فيمن يكثر الحلف من غير مبالاةٍ ، فيقع في بعض الأحيان في الحنث ، وفي بعضها يأتي بما حلف عليه كارهاً له مستثقلاً إيّاه ، نادماً على ما كان منه من الحلف .
117 - ومذهب الحنابلة شبيه بمذهب الحنفيّة ، إذ الأصل عندهم الإباحة ، إلاّ أنّهم فصّلوا ، فقالوا : تنقسم اليمين إلى واجبةٍ ، ومندوبةٍ ، ومباحةٍ ، ومكروهةٍ ، وحرامٍ .
فتجب لإنجاء معصومٍ من مهلكةٍ ، ولو نفسه ، كأيمان قسامةٍ توجّهت على بريءٍ من دعوى قتلٍ . وتندب لمصلحةٍ ، كإزالة حقدٍ وإصلاحٍ بين متخاصمين ودفع شرٍّ وهو صادق فيها . وتباح على فعلٍ مباحٍ أو تركه ، كمن حلف لا يأكل سمكاً مثلاً أو ليأكلنّه ، وكالحلف على الخبر بشيءٍ هو صادق فيه ، أو يظنّ أنّه صادق .
وتكره على فعل مكروهٍ ، كمن حلف ليصلينّ وهو حاقن أو ليأكلنّ بصلاً نيئاً ومنه الحلف في البيع والشّراء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « الحلف منفّقة للسّلعة ممحقة للبركة » أو على ترك مندوبٍ كحلفه لا يصلّي الضّحى .
وتحرم على فعل محرّمٍ ، كشرب خمرٍ ، أو على ترك واجبٍ ، كمن حلف لا يصوم رمضان وهو صحيح مقيم .
ثمّ إنّ إباحتها على فعل مباحٍ أو تركه ما لم تتكرّر ، فالتّكرار خلاف السّنّة ، فإن أفرط فيه كره ، لقوله تعالى : { ولا تُطِعْ كلَّ حَلّافٍ مَهِينٍ } وهو ذمّ له يقتضي كراهة الإكثار .
وهذا التّقسيم لا تأباه المذاهب الأخرى .
ب - حكم البرّ والحنث فيها :
118 - اليمين المعقودة إمّا أن تكون على فعلٍ واجبٍ أو ترك معصيةٍ أو عكسهما ، أو فعل ما هو أولى أو ترك ما تركه أولى أو عكسهما ، أو فعل ما استوى طرفاه أو تركه .
فاليمين على فعل واجبٍ أو ترك معصيةٍ ، كواللّه لأصلينّ الظّهر اليوم ، أو لا أسرق اللّيلة ، يجب البرّ فيها ويحرم الحنث ، ولا خلاف في ذلك كما لا يخفى .
واليمين على فعل معصيةٍ أو ترك واجبٍ ، كواللّه لأسرقنّ اللّيلة أو لا أصلّي الظّهر اليوم يحرم البرّ فيها ويجب الحنث ، وظاهر أنّه لا خلاف في ذلك أيضاً .
لكن ينبغي التّنبّه إلى أنّ الحلف على المعصية المطلقة عن التّوقيت يلزمه فيها العزم على الحنث ، لأنّ الحنث فيها إنّما يكون بالموت ونحوه .
واليمين على فعل ما فعله أولى أو على ترك ما تركه أولى - كواللّه لأصلينّ سنّة الصّبح أو لا ألتفت في الصّلاة - يطلب البرّ فيها وهو أولى من الحنث .
هكذا عبّر الحنفيّة القدامى بالأولويّة ، وبحث الكمال بن الهمام في ذلك بأنّ قوله تعالى : { واحفظوا أيمانكم } يدلّ على وجوب البرّ وعدم جواز الحنث ، ورجّح ذلك ابن عابدين وغيره . وقال الشّافعيّة والحنابلة : يسنّ البرّ ويكره الحنث في هذه الحالة .
واليمين على ترك ما فعله أولى ، أو فعل ما تركه أولى - كواللّه لا أصلّي سنّة الصّبح أو لألتفتنّ في الصّلاة - يطلب الحنث فيها وهو أولى من البرّ . هذا مذهب الحنفيّة .
وقال الشّافعيّة والحنابلة : يسنّ الحنث في هذه الحالة ويكره البرّ .
واليمين على فعل ما استوى طرفاه أو على تركه - كواللّه لأتغدّينّ هذا اليوم أو لا أتغدّى هذا اليوم - يطلب البرّ فيها ، وهو أولى من الحنث .
هكذا قال الحنفيّة القدامى ، ومقتضى بحث الكمال وجوب البرّ وعدم جواز الحنث .
وقال الشّافعيّة : البرّ أفضل ، ما لم يتأذّ بذلك صديقه ، كمن حلف لا يأكل كذا ، وكان صديقه يتأذّى من ترك أكله إيّاه ، فينعكس الحكم ويكون الحنث أفضل .
ومقصود الشّافعيّة بالأفضليّة الأولويّة ، وهي الاستحباب غير المؤكّد ، ويقال لمقابلها خلاف الأولى أو خلاف الأفضل ، وهو أقلّ من المكروه .
وقال الحنابلة : يخيّر بين البرّ والحنث ، والبرّ أولى ، فمذهبهم كمذهب الشّافعيّة .
الحلف على الغير واستحباب إبرار القسم :
119 - قد يحلف الإنسان على فعلٍ أو تركٍ منسوبين إليه ، نحو : واللّه لأفعلنّ أو لا أفعل ، وهذا هو الغالب . وقد يحلف على فعلٍ أو تركٍ منسوبين إلى غيره ، كقوله : واللّه لتفعلنّ أو لا تفعل ، وقوله : واللّه ليفعلنّ فلان كذا أو لا يفعله .
وأحكام البرّ والحنث السّابق ذكرها إنّما هي فيمن حلف على فعل نفسه أو تركها .
وأمّا من حلف على فعل غيره أو تركه ، مخاطباً كان أو غائباً ، فإنّه يتّفق حكم التّحنيث والإبرار فيه مع حكم الحنث والبرّ السّابقين في بعض الصّور ويختلف في بعضها .
أ - فمن حلف على غيره أن يفعل واجباً أو يترك معصيةً وجب إبراره ، لأنّ الإبرار في هذه الحالة إنّما هو قيام بما أوجبه اللّه أو انتهاء عمّا حرّمه اللّه عليه .
ب - ومن حلف على غيره أن يفعل معصيةً أو يترك واجباً لم يجز إبراره ، بل يجب تحنيثه ، لحديث : « لا طاعة لأحدٍ في معصية اللّه تبارك وتعالى » .
ج - ومن حلف على غيره أن يفعل مكروهاً أو يترك مندوباً فلا يبرّه ، بل يحنّثه ندباً ، لأنّ طاعة اللّه مقدّمة على طاعة المخلوق .
د - ومن حلف على غيره أن يفعل مندوباً أو مباحاً ، أو يترك مكروهاً أو مباحاً فهذا يطلب إبراره على سبيل الاستحباب ، وهو المقصود بحديث الأمر بإبرار القسم الّذي رواه الشّيخان عن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه قال : « أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بسبعٍ : أمرنا بعيادة المريض ، واتّباع الجنائز ، وتشميت العاطس ، وإبرار القسم ، أو المقسم ، ونصر المظلوم ، وإجابة الدّاعي ، وإفشاء السّلام » .
وظاهر الأمر الوجوب ، لكن اقترانه بما هو متّفق على عدم وجوبه - كإفشاء السّلام - قرينة صارفة عن الوجوب .
وممّا يدلّ على عدم الوجوب أيضاً أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يبرّ قسم أبي بكرٍ رضي الله عنه ، فقد روى الشّيخان عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما حديثاً طويلاً يشتمل على رؤيا قصّها أبو بكرٍ رضي الله عنه وجاء في هذا الحديث « أنّه قال لرسول اللّه بأبي أنت وأمّي : أصبت أم أخطأت ؟ فقال : أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً . قال : فواللّه لتحدّثني بالّذي أخطأت ، قال : لا تقسم » فقوله صلى الله عليه وسلم " لا تقسم " معناه لا تكرّر القسم الّذي أتيت به ، لأنّي لن أجيبك ، ولعلّ هذا الصّنيع من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز ، فإنّه عليه الصلاة والسلام لا يفعل خلاف المستحسن إلاّ بقصد بيان الجواز ، وهو يدلّ على أنّ الأمر في الحديث السّابق ليس للوجوب ، بل للاستحباب .
ج - الحكم المترتّب على البرّ والحنث :
120 - اليمين المعقودة إذا برّ فيها الحالف لم تلزمه كفّارة كما لا يخفى ، وإذا حنث - بأن انتفى ما أثبته أو ثبت ما نفاه - لزمته الكفّارة ، سواء أكان حالفاً على فعل معصيةٍ أو ترك واجبٍ أم لا ، وسواء أكان كاذباً عمداً أو خطأً أم لا ، وسواء أكان قاصداً للحلف أم لا .
هذا مذهب الحنفيّة ومن وافقهم ، فهم يوجبون الكفّارة على من حنث في اليمين باللّه تعالى على أمرٍ مستقبلٍ ليس مستحيلاً عقلاً عند أبي حنيفة ومحمّدٍ ، وليس مستحيلاً عادةً أيضاً عند زفر ، سواء أكان الحالف قاصداً أم غير قاصدٍ ، وكذا من حلف بتعليق الكفر .
121 - والمالكيّة يخالفون الحنفيّة في أمورٍ :
أحدها : أنّهم يوجبون الكفّارة في الغموس إذا كانت على أمرٍ حاضرٍ أو مستقبلٍ ، والحنفيّة لا يوجبون الكفّارة فيها إلاّ إذا كانت على أمرٍ مستقبلٍ ممكنٍ عقلاً .
ثانيها : أنّهم يوجبون الكفّارة في الحلف على المستقبل المستحيل عقلاً إن كان عالماً باستحالته أو متردّداً فيها ، والحنفيّة لا يوجبونها مطلقاً .
ثالثها : أنّهم يفصّلون في اليمين غير المقصودة ، فيقولون : من أراد النّطق بكلمةٍ فنطق باليمين بدلها لخطأ لسانه لم تنعقد ، ومن أراد النّطق بشيءٍ فنطق معه باليمين زيادةً بغير قصدٍ كانت كاليمين المقصودة ، فيكفّرها إن كانت مستقبليّةً مطلقاً ، وكذا إن كانت غموساً حاضرةً ، والحنفيّة لم نر لهم تفصيلاً في غير المقصودة ، فقد أطلقوا القول بعدم اشتراط القصد .
رابعها : أنّهم لا يقولون بالكفّارة في تعليق الكفر ، والحنفيّة يجعلونه كنايةً عن اليمين باللّه تعالى ، فيوجبون الكفّارة فيه إن كان على أمرٍ مستقبلٍ غير مستحيلٍ عقلاً .
وليس المقصود بالكناية أنّها تحتاج إلى النّيّة ، وإنّما المقصود أنّها لفظ أطلق وأريد لازم معناه ، كما يقول علماء البلاغة .
122 - والشّافعيّة يخالفون في أمورٍ :
أحدها : أنّهم يوجبون الكفّارة في الغموس على ماضٍ ، ويلزم من ذلك إيجابها في الغموس على حاضرٍ ومستقبلٍ ، فإنّ الغموس عندهم منعقدة مطلقاً .
ثانيها : أنّهم يوجبون الكفّارة في الحلف على المستحيل عقلاً ، ماضياً كان أو حاضراً أو مستقبلاً ، إلاّ إن كانت اليمين غير مقصودةٍ ، أو كان جاهلاً بالاستحالة .
ثالثها : أنّهم يقولون : إنّ اليمين غير المقصودة تعدّ لغواً مطلقاً ، سواء أكان معنى عدم القصد خطأ اللّسان ، أم كان معناه سبق اللّسان إلى النّطق بها ، فلا كفّارة فيها ولو على مستقبلٍ . ويقولون فيمن حلف على غير الواقع ، جاهلاً بمخالفته للواقع : لا تنعقد يمينه . سواء أكان المحلوف عليه ماضياً أم حاضراً أم مستقبلاً ، إلاّ إذا قصد أنّ المحلوف عليه هو كما حلف عليه في الواقع ونفس الأمر ، فتجب فيه الكفّارة حينئذٍ .
رابعها : أنّهم لا يوجبون الكفّارة في تعليق الكفر مطلقاً .
ونقل ابن قدامة عن قومٍ من فقهاء السّلف أنّ من حلف على معصيةٍ فالكفّارة ترك المعصية ، ومعنى هذا : أنّ اليمين على المعصية تنعقد ويجب الحنث ، وليس فيها الكفّارة المعهودة .