الحنث في اليمين : معناه وما يتحقّق به :
123 - أمّا معناه فهو : مخالفة المحلوف عليه ، وذلك بثبوت ما حلف على عدمه ، أو عدم ما حلف على ثبوته . وأمّا ما يتحقّق به فيختلف باختلاف المحلوف عليه ، وإليك البيان . المحلوف عليه إمّا ماضٍ أو حاضرٍ أو مستقبلٍ .
124 - أمّا الماضي : فالحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ومن وافقهم لا يعتبرون اليمين عليه معقودةً أصلاً ، فلا حنث فيها بالكذب عمداً أو خطأً .
وأمّا الشّافعيّة ومن وافقهم فيعتبرون اليمين عليه معقودةً إذا كان الحالف كاذباً عمداً ، وحينئذٍ يكون الحنث مقارناً للانعقاد ، وتجب الكفّارة من حين تمام الإتيان بها .
125 - وأمّا الحاضر : فهو كالماضي ، إلاّ أنّ المالكيّة متّفقون مع الفريق الثّاني القائل بانعقاد اليمين عليه إن كان الحالف كاذباً عمداً ، ثمّ إنّهم توسّعوا فضمّوا إلى الكذب العمد ما تردّد فيه المتكلّم ، بأن حلف على ما يظنّه ظنّاً ضعيفاً ، أو يشكّ فيه ، أو يظنّ نقيضه ظنّاً ضعيفاً ، وسبق ذلك في تعريف الغموس وحكمها .
126 - وأمّا المستقبل : فاليمين عليه إن وجدت فيها شرائط الانعقاد ، فأمّا أن تكون على نفيٍ أو إثباتٍ ، وكلّ منهما إمّا مطلق وإمّا مقيّد بوقتٍ .
أمّا اليمين على النّفي المطلق : فالحنث فيها يتحقّق بثبوت ما حلف على نفيه ، سواء أكان ذلك عقب اليمين أم بعده بزمانٍ قصيرٍ أو طويلٍ ، وهل يمنع الحنث نسيان أو خطأ في الاعتقاد ، أو خطأ لسانيّ أو جنون أو إغماء أو إكراه ؟ وهل يحنث بالبعض إذا كان المحلوف عليه ذا أجزاءٍ أو لا يحنث إلاّ بالجميع ؟ كلّ ذلك محلّ خلافٍ يعلم ممّا يأتي في شرائط الحنث .
127 - وأمّا اليمين على النّفي المؤقّت : فالحنث فيها يتحقّق بحصول الضّدّ في الوقت ، لا بحصوله قبله أو بعد تمامه . وفي النّسيان ونحوه الخلاف الّذي سبقت الإشارة إليه .
128 - وأمّا اليمين على الإثبات المطلق : فالحنث فيها يتحقّق باليأس من البرّ ، إمّا بموت الحالف قبل أن يفعل ما حلف على فعله ، وإمّا بفوت محلّ المحلوف عليه ، كما لو قال : واللّه لألبسنّ هذا الثّوب ، فأحرقه هو أو غيره .
هذا مذهب الحنفيّة ، وفصّل غيرهم في فوت المحلّ بين ما كان باختيار الحالف وما كان بغير اختياره ، فما كان باختياره يحنث به ، وما كان بغير اختياره ففيه تفصيل يعلم من شرائط الحنث .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الحنث في هذه الحالة - وهي الحلف على الإثبات المطلق - يحصل أيضاً بالعزم على الضّدّ ، وذلك بأن ينوي عدم الإتيان بالمحلوف ما دام حيّاً ، وهذا الحنث محتّم لا يزول بالرّجوع عن العزم على قول ابن الموّاز وابن شاسٍ وابن الحاجب والقرافيّ ، وهو ظاهر كلام خليلٍ في مختصره والدّردير في أقرب المسالك واعتمده البنانيّ ، خلافاً للقائلين بالتّفصيل بين الطّلاق وغيره ، حيث ذهبوا إلى أنّ الحلف بالطّلاق على الإثبات المطلق يحنث فيه بالعزم على الفوات ، والحلف بالعتق وبالقربة وباللّه تعالى لا يحنث الحالف بها بالعزم المذكور إلاّ إذا استمرّ عليه ، فإن رجع عن عزمه رجعت اليمين كما كانت ، ولم يحنث إلاّ بالفوات .
وهذا الّذي ذهب إليه المالكيّة لم يوافقهم عليه أحد من أهل المذاهب الأخرى .
129 - وأمّا اليمين على الإثبات المؤقّت : فالحنث فيها يتحقّق باليأس من البرّ في الوقت ، إن كان الحالف والمحلوف عليه قائمين ، كأن قال : واللّه لآكلنّ هذا الرّغيف اليوم ، فغربت الشّمس وهو حيّ والرّغيف موجود ولم يأكله .
وإن مات الحالف في الوقت ولم يفت محلّ المحلوف عليه لم يعتبر حانثاً بالموت ولا بمضيّ الوقت بعده عند الحنفيّة جميعاً ، لأنّهم يرون أنّ الحنث إنّما يقع في آخر أجزاء الوقت في اليمين المؤقّتة ، والحالف ميّت في هذا الجزء الأخير ، ولا يوصف الميّت بالحنث ، ويحنث عند غيرهم على تفصيلٍ يعلم من شرائط الحنث . وإن فات محلّ المحلوف عليه في الوقت ، كأن أكل الرّغيف إنسان آخر ، ولم يمت الحالف ، لم يحنث في قول أبي حنيفة ومحمّدٍ وزفر لأنّهم يشترطون إمكان البرّ ، خلافاً لأبي يوسف ، حيث قال بالحنث في هذه الحالة ، لأنّه لا يشترط هذه الشّريطة . واختلفت الرّواية عنه في وقت الحنث : فروي عنه أنّه لا يحنث إلاّ آخر الوقت ، وروي عنه أنّه يحنث في الحال - أي حال فوت محلّ المحلوف عليه - وهذه الرّواية الثّانية هي الصّحيحة عنه . وفي المذاهب الأخرى تفصيل بين فوت المحلّ باختيار الحالف ، وفوته بغير اختياره ، وبين حصول الفوت أوّل الوقت ، أو بعد أوّله ، مع التّفريط أو عدمه ، وكلّ ذا يعلم من الشّرائط الآتية .
130 - وممّا ينبغي التّنبّه إليه أنّ المؤقّتة إذا لم يبدأ وقتها من حين الحلف فمات الحالف ، أو فات المحلّ قبل بدء الوقت فلا حنث في الصّورتين ، وخالف الحنابلة في الثّانية ، فقالوا بالحنث فيها ، وذلك كما لو قال : واللّه لأشربنّ ماء هذا الكوب غداً ، فمات هو أو شرب الماء إنسان آخر قبل فجر الغد ، فإنّه لا يعدّ حانثاً في الحالين عند الأكثرين .
وممّا ينبغي التّنبّه له أيضاً : أنّ التّوقيت في اليمين المؤقّتة يشمل التّوقيت نصّاً ، والتّوقيت دلالةً ، كما لو قيل لإنسانٍ : أتدخل دار فلانٍ اليوم ؟ فقال : واللّه لأدخلنّها ، أو واللّه لا أدخلها ، فالمحلوف عليه مؤقّت باليوم دلالةً ، لوقوعه جواباً عن السّؤال المحتوي على قيد التّوقيت باليوم ، وهذا من يمين الفور ، وسيأتي بيانها والخلاف فيها .
شرائط الحنث :
131 - الجمهور القائلون بأنّ الحنث هو السّبب الوحيد ، أو ثاني السّببين للكفّارة ، أو شريطة لها ، لم يصرّحوا بشرائط للحنث ، وإنّما ذكروا أموراً يختلف الرّأي فيها ، إذا كان الحنث فعلاً أو تركاً ، ومن هذه الأمور : العمد والطّواعية والتّذكّر والعقل .
وقد سبق أنّ الحنفيّة لا يشترطون في الحلف الطّواعية ولا العمد ، وهم لا يشترطونهما في الحنث أيضاً ، وكذلك لا يشترطون فيه التّذكّر ولا العقل ، فمن حلف أو حنث مخطئاً أو مكرهاً وجبت عليه الكفّارة . وكذا من حلف ألاّ يفعل شيئاً ففعله وهو ذاهل أو ساهٍ أو ناسٍ أو مجنون أو مغمًى عليه فعليه الكفّارة .
فإن لم يفعل المحلوف عليه ، بل فعله به غيره قهراً عنه لم يحنث ، كما لو حلف ألاّ يشرب هذا الماء ، فصبّه إنسان في حلقه قهراً ، لأنّه في هذه الحالة ليس شارباً ، فلم يفعل ما حلف على الامتناع منه .
ومن أمثلة النّسيان في الحنث : ما لو قال إنسان : واللّه لا أحلف ، ثمّ حلف ناسياً لهذه اليمين ، فإنّه يجب عليه كفّارة بهذا الحلف الثّاني من حيث كونه حنثاً في اليمين الأولى ، ثمّ إذا حنث في هذه اليمين الثّانية وجبت عليه كفّارة أخرى على القول بعدم تداخل الكفّارات وسيأتي الخلاف في ذلك . وقال المالكيّة : إنّ اليمين إمّا يمين برٍّ ، نحو واللّه لا أفعل كذا ، وإمّا يمين حنثٍ ، نحو واللّه لأفعلنّ كذا .
132 - أمّا يمين البرّ : فيحنث فيها بفعل ما حلف على تركه - وكذا بفعل بعضه إن كان ذا أجزاءٍ - عمداً أو نسياناً أو خطأً قلبيّاً ، بمعنى اعتقاد أنّه غير المحلوف عليه ، وإنّما يحنث بها إذا لم يقيّد يمينه بالعمد أو العلم ، فإن قيّدها بالعمد ، بأن قال : لا أفعله عمداً ، لم يحنث بالخطأ ، وإن قيّد بالعلم ، بأن قال : لا أفعله عالماً ، أو لا أفعله ما لم أنس لم يحنث بالنّسيان . ولا يحنث في يمين البرّ بالخطأ اللّسانيّ ، كما لو حلف : لا يذكر فلاناً ، ثمّ سبق لسانه بذكر اسمه ، وكذا لا يحنث فيها بالإكراه على فعل ما حلف على الامتناع منه ، وذلك بقيودٍ ستّةٍ :
أ - ألاّ يعلم أنّه يكره على الفعل .
ب - ألاّ يأمر غيره بإكراهه له
ج - ألاّ يكون الإكراه شرعيّاً .
د - ألاّ يفعل ثانياً طوعاً بعد زوال الإكراه .
هـ - ألاّ يكون الحلف على شخصٍ بأنّه لا يفعل كذا ، والحالف هو المكره له على فعله .
و - ألاّ يقول في يمينه : لا أفعله طائعاً ولا مكرهاً .
فإن وجد واحد من هذه السّتّة حنث بالإكراه ووجبت الكفّارة .
133 - وأمّا يمين الحنث : فيحنث فيها بالإكراه على ترك المحلوف عليه حتّى يفوت ، كما لو قال : واللّه لأدخلنّ دار زيدٍ غداً ، فمنع من دخولها بالإكراه حتّى غربت شمس الغد ، فإنّه يحنث .
ويؤخذ من هذا : أنّه يحنث أيضاً بالتّرك ناسياً ومخطئاً ، بأن لم يتذكّر الحلف من الغد ، أو تذكّره ودخل داراً أخرى يعتقد أنّها الدّار المحلوف عليها ، ولم يتبيّن له الحال حتّى مضى الغد . وإذا فات المحلوف عليه في يمين الحنث بمانعٍ ، فإمّا أن يكون المانع شرعيّاً أو عاديّاً أو عقليّاً .
134 - فإن كان المانع شرعيّاً حنث بالفوات مطلقاً ، سواء أتقدّم المانع على الحلف ولم يعلم به أم تأخّر ، وسواء أفرّط فيه حتّى فات أم لا ، وسواء أكانت اليمين مؤقّتةً أم لا .
مثال ذلك : ما لو حلف أن يباشر زوجته غداً فطرأ الحيض ، أو تبيّن أنّه كان موجوداً قبل الحلف ولم يعلم به ، فيحنث عند مالكٍ وأصبغ خلافاً لابن القاسم ، فإن لم يقيّد بالغد لم يحنث ، بل ينتظر حتّى تطهر فيباشرها .
135 - وإن كان المانع عاديّاً ، فإن تقدّم على اليمين ولم يعلم به فحلف لم يحنث مطلقاً ، أقّت أم لا ، فرّط أم لا ، وإن تأخّر حنث مطلقاً ، خلافاً لأشهب حيث قال بعدم الحنث .
مثال ذلك : أن يحلف ليذبحنّ هذا الكبش ، أو ليلبسنّ هذا الثّوب ، أو ليأكلنّ هذا الطّعام ، فسرق المحلوف عليه أو غصب ، أو منع الحالف من الفعل بالإكراه ، أو تبيّن أنّه سرق قبل اليمين أو غصب ولم يكن يعلم بذلك عند الحلف .
ومحلّ الحنث من المانع الشّرعيّ والمانع العاديّ ، إذا أطلق الحالف اليمين فلم يقيّد بإمكان الفعل ولا بعدمه ، أو قيّد بالإطلاق ، كأن قال : لأفعلنّ كذا وسكت ، أو لأفعلنّ كذا قدرت عليه أم لا ، فإن قيّد بالإمكان فلا حنث ، بأن قال : لأفعلنّه إن أمكن ، أو ما لم يمنع مانع .
136 - وإن كان المانع عقليّاً ، فإن تقدّم ولم يكن قد علم به لم يحنث مطلقاً كما في المانع العاديّ ، وإن تأخّر فإمّا إن تكون اليمين مؤقّتةً أو غير مؤقّتةٍ . فإن كانت مؤقّتةً ، وفات المحلوف عليه قبل ضيق الوقت ، لم يحنث إن حصل المانع عقب اليمين ، وكذا إن تأخّر ولم يكن قد فرّط ، فإن تأخّر مع التّفريط حنث .
مثال ذلك : ما لو حلف ليذبحنّ هذا الحمام أو ليلبسنّ هذا الثّوب ، فمات الحمام أو أحرق الثّوب وكان قد أطلق اليمين ، أو أقّت بقوله : هذا اليوم ، أو هذا الشّهر مثلاً .
وصورة تقدّم المانع : أن يكون غائباً عن المنزل مثلاً ، فيقول : واللّه لأذبحنّ الحمام الّذي بالمنزل ، أو لألبسنّ الثّوب الّذي في الخزانة ، ثمّ يتبيّن له بعد الحلف موت الحمام أو احتراق الثّوب قبل أن يحلف .
وقال الشّافعيّة : لا يحنث من خالف المحلوف عليه جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً أو مقهوراً ، ولا تنحلّ اليمين في جميع هذه الصّور ، ولا يحنث أيضاً إن تعذّر البرّ بغير اختياره .
ومن أمثلة الجهل : ما لو حلف لا يسلّم على زيدٍ ، فسلّم عليه في ظلمةٍ وهو لا يعرف أنّه زيد ، وما لو حلف لا يدخل على بكرٍ ، فدخل داراً هو فيها ولم يعلم أنّه فيها .
وأمثلة النّسيان والإكراه ظاهرة .
ومثال القهر : ما لو حلف : لا يدخل دار خالدٍ ، فحمل وأدخل قهراً ، ويلحق به من حمل بغير أمره ولم يمتنع ، لأنّه لا يسمّى داخلاً ، بخلاف من حمل بأمره فإنّه يحنث لأنّه يسمّى داخلاً ، كما لو ركب دابّةً ودخل بها .
ومن صور تعذّر البرّ بغير اختياره ، ما لو قال : واللّه لآكلنّ هذا الطّعام غداً ، فتلف الطّعام بغير اختيار الحالف ، أو مات الحالف قبل فجر الغد ، فإنّه لا يحنث ، بخلاف ما لو تلف باختياره ، فإنّه يحنث ، وفي وقت حنثه خلاف ، فقيل : هو وقت التّلف ، وقيل : هو غروب شمس الغد ، والرّاجح أنّ الحنث يتحقّق بمضيّ زمن إمكان الأكل من فجر الغد .
ومن صور الفوت بغير اختياره : ما لو تلف في الغد بغير اختياره ، أو مات في الغد قبل التّمكّن من أكله . وقالوا أيضاً : لو حلف لا يأكل هذين الرّغيفين ، أو لا يلبس هذين الثّوبين ، أو ليفعلنّ ذلك ، تعلّق الحنث والبرّ بالمجموع ولو متفرّقاً ، وكذا لو عطف بالواو نحو : لا أكلّم زيداً وعمراً ، أو لا آكل اللّحم والعنب ، أو لأكلّمنّ زيداً وعمراً ، أو لآكلنّ اللّحم والعنب ، فإنّ الحنث والبرّ يتعلّق بهما ، فلا يحنث في المثالين الأوّلين ، ولا يبرّ في المثالين الأخيرين إلاّ بفعل المجموع ولو متفرّقاً .
137 - ويستثنى في حالة النّفي ما لو كرّر حرف النّفي ، كأن قال : واللّه لا أكلّم زيداً ولا عمراً . فإنّه يحنث بتكليم أحدهما ، وتبقى اليمين ، فيحنث حنثاً ثانياً بتكليم الثّاني .
وإن قال : لا أكلّم أحدهما أو واحداً منهما وأطلق ، حنث بكلام واحدٍ وانحلّت اليمين .
وإن قال : لا آكل هذه الرّمّانة فأكلها إلاّ حبّةً لم يحنث ، أو قال : لآكلنّ هذه الرّمّانة ، فأكلها إلاّ حبّةً لم يبرّ . وخرج بالحبّة : القشر ونحوه ممّا لا يؤكل من الرّمّانة عادةً .
والحنابلة يوافقون الشّافعيّة في كلّ ما سبق ، ما عدا تفويت البرّ ، فقد قالوا : لو حلف إنسان ليشربنّ هذا الماء غداً ، فتلف قبل الغد أو فيه حنث ، ولا يحنث بجنونه أو إكراهه قبل الغد مع استمرار ذلك إلى خروج الغد ، ولا يحنث أيضاً بموته قبل الغد .
ولو حلف ليشربنّ هذا الماء اليوم أو أطلق ، فتلف قبل مضيّ وقتٍ يسع الشّرب لم يحنث ، بخلاف ما لو تلف بعد مضيّ ذلك الوقت فإنّه يحنث ، وقيل : يحنث في الحالين .
بيان الكفّارة :
138 - كفّارة اليمين باللّه تعالى إذا حنث فيها وهي منعقدة قد ذكرها اللّه عزّ وجلّ في كتابه العزيز حيث ، قال : { لا يؤاخذُكم اللّهُ باللّغو في أيمانِكمْ ولكنْ يؤاخذُكم بما عقّدْتُم الأيمانَ فكفَّارتُه إطعامُ عَشَرةِ مساكين من أوسطِ ما تُطْعمون أهليكم أو كِسوتُهم أو تحريرُ رقبةٍ فمن لم يجدْ فصيامُ ثلاثةِ أيّامٍ ذلك كفّارةُ أيمانِكم إذا حَلَفْتم واحفظوا أيمانَكم كذلك يُبَيِّنُ اللّه لكم آياتِه لعلّكم تشكرون } فقد بيّنت الآية الكريمة أنّ كفّارة اليمين المعقودة واجبة على التّخيير ابتداءً ، والتّرتيب انتهاءً ، فالحالف إذا حنث وجب عليه إحدى خصالٍ ثلاثٍ : إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبةٍ ، فإذا عجز عن الثّلاث وجب عليه صيام ثلاثة أيّامٍ . ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك ، لأنّه نصّ قرآنيّ قاطع ، غير أنّ في التّفاصيل اختلافاتٍ منشؤها الاجتهاد ، وموضع بسطها ( الكفّارات ) .
هل تتعدّد الكفّارة بتعدّد اليمين ؟
139- لا خلاف في أنّ من حلف يميناً فحنث فيها وأدّى ما وجب عليه من الكفّارة أنّه لو حلف يميناً أخرى وحنث فيها تجب عليه كفّارة أخرى ، ولا تغني الكفّارة الأولى عن كفّارة الحنث في هذه اليمين الثّانية .
وإنّما الخلاف فيمن حلف أيماناً وحنث فيها ، ثمّ أراد التّكفير ، هل تتداخل الكفّارات فتجزئه كفّارة واحدة ؟ أو لا تتداخل فيجب عليه لكلّ يمينٍ كفّارة ؟ فإنّ الكفّارات تتداخل على أحد القولين عند الحنفيّة وأحد الأقوال عند الحنابلة ، ولا تتداخل عند المالكيّة ولا الشّافعيّة . وتفصيل ذلك في ( الكفّارات ) .
ومثل الحلف باللّه الحلف بالنّذور ، ومثله أيضاً الحلف بالطّلاق عند ابن تيميّة ، كما لو قال : إن فعلت كذا فأنت طالق ، قاصداً المنع ، أو يلزمني الطّلاق إن فعلت كذا .
أحكام اليمين التّعليقيّة :
حكم تعليق الكفر :
140- سبق بيان الخلاف في أنّ تعليق الكفر على ما لا يريده الإنسان يعتبر يميناً أولا يعتبر فالقائلون بعدم اعتباره يميناً لا يرتّبون على الحنث فيه كفّارةً ، فيستوي عندهم أن يبرّ فيه وأن يحنث ، لكنّهم يذكرون حكم الإقدام عليه .
والقائلون باعتباره يميناً يجعلونه في معنى اليمين باللّه تعالى .
وفي البدائع ما خلاصته : أنّ الحلف بألفاظ الكفر يمين استحساناً ، لأنّه متعارف بين النّاس ، فإنّهم يحلفون بهذه الألفاظ من عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكيرٍ . ولو لم يكن ذلك حلفاً شرعيّاً لما تعارفوه ، لأنّ الحلف بغير اللّه تعالى معصية ، فدلّ تعارفهم على أنّهم جعلوا ذلك كنايةً عن الحلف باللّه عزّ وجلّ وإن لم يعقل وجه الكناية . وقال إبراهيم الحلبيّ ما خلاصته : يمكن تقرير وجه الكناية ، بأن يقال مقصود الحالف بهذه الصّيغة الامتناع عن الشّرط ، وهو يستلزم النّفرة عن الكفر باللّه تعالى ، وهي تستلزم تعظيم اللّه ، كأن قال : واللّه العظيم لا أفعل كذا .
وبناءً على ذلك يكون كاليمين باللّه تعالى في شرائط انعقاده وبقائه ، وفي تقسيمه إلى غموسٍ ولغوٍ ومنعقدٍ ، وفي أحكام الإقدام عليه والبرّ والحنث فيه وما يترتّب على الحنث . غير أنّه لمّا كان فيه نسبة الكفر إلى المتكلّم معلّقةً على شرطٍ أمكن القول بأنّه تارةً يحكم عليه بالكفر ، وتارةً لا ، وإذا حكم عليه بالكفر عند النّطق لم يكن منعقداً عند الحنفيّة ، لأنّهم يشترطون الإسلام في انعقاد اليمين باللّه تعالى فكذلك يشترطونه في انعقاد تعليق الكفر ، وإذا حكم عليه بالكفر بمباشرة الشّرط بعد الحلف بطل عندهم بعد انعقاده ، كما تبطل اليمين باللّه بعد انعقادها إذا كفّر قائلها ، وقد تقدّم ذلك .
حكم الإقدام عليه :
141 - معلوم أنّ من نطق بكلمة الكفر منجّزةً يكون كافراً حالاً متى توفّرت شرائط الرّدّة ، ومن علّقها على أمرٍ بغير قصد اليمين يكون كافراً في الحال أيضاً وإن كان ما علّقها عليه مستقبلاً ، لأنّ الرّضى بالكفر ولو في المستقبل ارتداد عن الإسلام في الحال ، وذلك كأن يقول إنسان : إذا كان الغد فهو يهوديّ ، أو إذا شفاه اللّه على يد هذا النّصرانيّ فهو نصرانيّ .
وأمّا من علّق الكفر بقصد اليمين فالأصل فيه أنّه لا يكفر ، سواء أعلّقه على ماضٍ أم حاضرٍ أم مستقبلٍ ، وسواء أكان كاذباً أم لم يكن ، لأنّه إنّما يقصد المنع من الشّرط أو الحثّ على نقيضه أو الإخبار بنقيضه - وإن لم يكن حقّاً - ترويجاً لكذبه . فمن قال : إن كلّمت فلانة ، أو إن لم أكلّمها فهو بريء من الإسلام ، فمقصوده منع نفسه من التّكليم في الصّورة الأولى أو حثّ نفسه عليه في الصّورة الثّانية حذراً من الكفر ، فلا يكون راضياً بالكفر ، ومن قال : إن لم أكن اشتريت هذا بدينارٍ فهو يهوديّ ، وأراد بهذا حمل المخاطب على تصديق ما ادّعاه وكان كاذباً عمداً لا يكون راضياً بالكفر ، لأنّه إنّما أراد ترويج كذبه بتعليق الكفر على نقيضه . هذا هو الأصل ، ولكن قد يكون المتكلّم جاهلاً ، فيعتقد أنّ الحلف بصيغة الكفر كفر ، أو يعتقد أنّه يكفر بإقدامه على ما حلف على تركه أو إحجامه عمّا حلف على فعله . ففي الصّورة الأولى يعتبر كافراً بمجرّد الحلف لأنّه تكلّم بما يعتقده كفراً ، فكان راضياً بالكفر حالاً . وفي الصّورتين الثّانية والثّالثة يكفر بالإقدام على ما حلف على تركه والإحجام عمّا حلف على فعله ، لأنّه عمل عملاً يعتقده كفراً ، فكان راضياً بالكفر ، ولا يكفر بمجرّد النّطق باليمين في هاتين الصّورتين إلاّ إذا كان حين النّطق عازماً على الحنث ، لأنّ العزم على الكفر كفر .
142 - وصفوة القول أنّ الحلف بالكفر لا يعدّ كفراً ، إلاّ إذا كان قائله راضياً بالكفر ، وهذا هو الأصحّ عند الحنفيّة في الغموس وغيرها ، ويقابله رأيان في الغموس - أي الحلف على الكذب العمد .
أحدهما : أنّه لا يكفر وإن اعتقد الكفر .
ثانيهما : أنّه يكفر وإن لم يعتقد الكفر .
ووجه الأوّل : أنّه لا يلزم من اعتقاد الكفر الرّضى به ، فكم من إنسانٍ يقدم على ما يعتقده كفراً لغرضٍ دنيويٍّ ، وقلبه مطمئنّ بالإيمان . والحالف غرضه ترويج كذبه أو إظهار امتناعه ، فهو حينما ينطق بما يعتقده كفراً إنّما يأتي به صورةً محضةً خاليةً من الرّضي بالكفر . ووجه الثّاني : أنّ الحالف لمّا علّق الكفر بأمرٍ محقّقٍ كان تنجيزاً في المعنى ، كأنّه قال ابتداءً : هو كافر ، ويؤيّد ذلك ما ثبت في الصّحيحين أنّه صلى الله عليه وسلم قال : « مَنْ حلفَ على يمينٍ بملّة غير الإسلام كاذباً متعمّداً فهو كما قال » .
حكم الإقدام على تعليق الكفر في بقيّة المذاهب :
143 - قال المالكيّة : يحرم تعليق الكفر بقصد الحلف ، ولا يرتدّ إن فعل المحلوف عليه ، وليتب إلى اللّه مطلقاً ، سواء أفعله أم لم يفعله ، لأنّه ارتكب ذنباً .
فإن قصد الإخبار عن نفسه بالكفر كان ردّةً ، ولو كان ذلك هزلاً وقال الشّافعيّة : يحرم تعليق الكفر الّذي يقصد به اليمين عادةً ، ولا يكفر به إذا قصد تبعيد نفسه عن المحلوف عليه أو أطلق ، فإن قصد حقيقة التّعليق ، أو قصد الرّضى بالكفر كفر من فوره ، دون توقّفٍ على حصول المعلّق عليه ، إذ الرّضى بالكفر كفر ، ثمّ إن كفر وجبت عليه التّوبة والعودة إلى الإسلام بالنّطق بالشّهادتين ، وإن لم يكفر وجبت عليه التّوبة أيضاً ، وندب له أن يستغفر اللّه عزّ وجلّ كأن يقول : أستغفر اللّه العظيم الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه . وندب له أن ينطق بالشّهادتين .
ومن مات أو غاب وتعذّرت مخاطبته ، وكان قد علّق الكفر ولم يعرف قصده ، فمقتضى كلام الأذكار للنّوويّ أنّه لا يحكم بكفره ، وهذا هو الرّاجح ، خلافاً لما اعتمده الإسنويّ من الحكم بكفره إذا لم تكن هناك قرينة تصرفه عن الكفر .
وعند الحنابلة : يحرم الإقدام على اليمين بالكفر ، سواء أكان بصورة التّعليق نحو : إن فعل كذا فهو يهوديّ ، أم بصورة القسم نحو : هو يهوديّ ليفعلنّ كذا . وإن قصد أنّه يكفر عند وجود الشّرط كفر منجّزاً .
حكم البرّ والحنث فيه :
144 - إذا قصد بتعليق الكفر تأكيد خبرٍ ، فإن كان صادقاً كان الحالف بارّاً ، وإن كان كاذباً كان الحالف حانثاً ، والبرّ في الصّورة الأولى ، والحنث في الصّورة الثّانية مقارنان لتمام اليمين ، فلا حكم لهما سوى حكم الإقدام .
وإنّما يكون للبرّ والحنث حكم مستقلّ إذا كان المقصود تأكيد الحثّ أو المنع ، فإنّهما حينئذٍ يكونان متأخّرين .
والخلاصة : أنّ تعليق الكفر بقصد اليمين إن كان صادقاً أو غموساً أو لغواً فليس للبرّ في الأوّل والحنث في الأخيرين حكم سوى حكم الإقدام على التّعليق .
وإن كان منعقداً ، فحكم البرّ والحنث فيه هو حكم البرّ والحنث في اليمين باللّه تعالى المنعقدة ، وقد سبق بيانه واختلاف الفقهاء فيه تفصيلاً .
ما يترتّب على الحنث فيه :
145 - سبق أنّ الفقهاء اختلفوا في تعليق الكفر بقصد اليمين ، أهو يمين شرعيّة أم لا ؟ فمن قال : إنّه ليس بيمينٍ قال : لا تجب الكفّارة بالحنث فيه ، ومن قال : إنّه يمين قال : إنّما تجب الكفّارة بالحنث فيه إن كان منعقداً ، فإن كان لغواً لم تجب فيه كفّارة ، وإن كان غموساً ففيه الخلاف الّذي في اليمين الغموس باللّه تعالى .
أحكام تعليق الطّلاق والظّهار والحرام والتزام القربة :
مقارنة بينها وبين اليمين باللّه تعالى :
146 - سبق أنّ تعليق الكفر في معنى اليمين باللّه تعالى ، وأنّه بناءً على ذلك يعتبر فيه ما يعتبر فيها من شرائط وأقسامٍ وأحكامٍ .
وليس لبقيّة التّعليقات هذه الصّفة ، فهي تخالف اليمين باللّه تعالى في أمورٍ :
الأمر الأوّل : أنّها تعتبر من قبيل الحلف بغير اللّه ، فينطبق عليه حديث النّهي عن الحلف بغير اللّه ، بخلاف تعليق الكفر فقد قرّر الحنفيّة أنّه كناية عن اليمين باللّه تعالى ، فلا يكون منهيّاً عنه لذاته ، لكنّهم قرّروا أيضاً أنّ يمين الطّلاق والعتاق إذا كانت للاستيثاق جازت على الأصحّ كما تقدّم .
الأمر الثّاني : أنّها لا تنقسم عند الحنفيّة والمالكيّة إلى غموسٍ ولغوٍ ومنعقدةٍ ، بل تعتبر كلّها منعقدةً ، سواء أقصد بها تأكيد خبرٍ أم تأكيد حثٍّ أو منعٍ ، فمن حلف بالطّلاق ونحوه كاذباً متعمّداً وقع طلاقه ، وكذا من كان معتقداً أنّه صادق وكان مخطئاً في اعتقاده لأنّ الطّلاق والعتق والتزام القربة يستوي فيها الهزل والجدّ ، لحديث : « ثلاث جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ : النّكاح والطّلاق والرّجعة » .
ويقاس بالطّلاق العتاق والتزام القربة ، فإذا كان هزل هذه الثّلاثة جدّاً ، فالكذب في الحلف بها يكون جدّاً أيضاً ، وكان القياس أن تكون اليمين باللّه تعالى كذلك ، لأنّ هزلها جدّ أيضاً كما سبق ، لكن لم يلحق فيها الغموس واللّغو بالهزل لأدلّةٍ أخرجتهما .
الأمر الثّالث : أنّ هذه التّعليقات يقع جزاؤها عند الجمهور بوقوع الشّرط ، فتعليق الطّلاق يقع به الطّلاق عند تحقّق ما علّق عليه ، وكذا تعليق العتاق ، وأمّا تعليق التزام القربة فيخيّر الحالف به بين ما التزمه وبين كفّارة اليمين ، وهناك أقوال غير ذلك سبق بيانها .
حكم الإقدام عليه :
147 - يرى الحنفيّة أنّ الحلف بغير اللّه تعالى لا يجوز ويدخل في ذلك عندهم الإقسام بغير اللّه تعالى ، نحو " وأبي " ، كما يدخل الحلف بالطّلاق ونحوه من التّعليقات ، لكنّهم استثنوا من ذلك تعليق الكفر ، فقد جعلوه كنايةً عن اليمين باللّه تعالى كما تقدّم ، واستثنوا أيضاً تعليق الطّلاق والعتاق بقصد الاستيثاق ، فأجازوه لشدّة الحاجة إليه خصوصاً في زماننا هذا ، كما تقدّم . وصرّح الحنابلة بكراهة الحلف بالطّلاق والعتاق ، ولمعرفة باقي المذاهب في ذلك يرجع إليها في مواضع هذه التّصرّفات من كتب الفقه .
حكم البرّ والحنث فيه :
148 - إذا قصد بشيءٍ من هذه التّعليقات تأكيد خبرٍ ، وكان صادقاً في الواقع ، لم يتصوّر فيها حنث ، لأنّها مبرورة حين النّطق بها ، وليس للبرّ فيها حكم سوى حكم الإقدام عليها . وإن كان كاذباً في الواقع لم يتصوّر فيها برّ ، لأنّ الحنث مقارن لتمام الإتيان بها ، وليس له حكم سوى حكم الإقدام عليها .
وإن قصد بشيءٍ منها تأكيد الحثّ أو المنع ، فحكم البرّ والحنث فيها هو حكم الحنث والبرّ في اليمين باللّه تعالى المنعقدة ، فيختلف باختلاف المحلوف عليه وما يؤدّي إليه ، وقد سبق بيانه وبيان الاختلاف فيه ، كما سبق حكم الإبرار إن كان حلفاً على الغير .
ما يترتّب على الحنث فيه :
149 - يرى الجمهور أنّ الحنث في هذه التّعليقات يترتّب عليه حصول الجزاء ، إلاّ تعليق التزام القربة ، فإنّه عند الحنث بتحقّق الشّرط يتخيّر الحالف بين ما التزمه وبين كفّارة اليمين .
انحلال اليمين :
اليمين إمّا مؤكّدة للخبر الماضي أو الحاضر أو المستقبل ، وإمّا مؤكّدة للحثّ أو المنع .
150 - فالمؤكّدة للخبر : إن كان ماضياً أو حاضراً فهي منحلّة من حين النّطق بها ، سواء أكانت صادقةً أم غموساً أم لغواً ، لأنّ البرّ والحنث والإلغاء يقتضي كلّ منها انحلال اليمين . وإن كان مستقبلاً صدّقا يقيناً فهي منحلّة أيضاً من حين النّطق بها ، نحو : واللّه لأموتنّ ، أو ليبعثنّ اللّه الخلائق ، لأنّها بارّة من حين النّطق بها ، ولا يتوقّف برّها على حصول الموت والبعث . وإن كان مستقبلاً كذباً عمداً ، كقول القائل : واللّه لأشربنّ ماء هذا الكوز ، وهو يعلم أنّه لا ماء فيه ، فهي غموس ، وقد سبق الخلاف في انعقادها : فمن قال بانعقادها يقول : إنّ الحنث قارن الانعقاد فوجبت الكفّارة وانحلّت ، ومن قال بعدم انعقادها قال : إنّها لا حاجة بها إلى الانحلال كما لا يخفى .
وإن كان مستقبلاً كذباً خطأً ، بأن كان الحالف يعتقده صدقاً ، فحكمها عند الشّافعيّة وابن تيميّة حكم اللّغو ، فهي منحلّة من حين انعقادها ، أو غير منعقدةٍ أصلاً ، وعند غيرهم حكمها حكم اليمين على الحثّ والمنع وسيأتي قريباً .
151 - والمؤكّدة للحثّ أو المنع تنحلّ بأمورٍ :
الأوّل : الرّدّة - والعياذ باللّه تعالى - وهي تحلّ اليمين باللّه تعالى وما في معناها من تحريم الحلال وتعليق الكفر بقصد اليمين ، وإنّما ذلك عند الحنفيّة والمالكيّة ، فإنّهم يشترطون في بقاء انعقاد اليمين الإسلام ، كما يشترطونه في أصل الانعقاد ، فالرّدّة عندهم تبطل الانعقاد ، سواء أكانت قبل الحنث أم بعده ، ولا يرجع الانعقاد بالرّجوع إلى الإسلام .
الثّاني : ذكر الاستثناء بالمشيئة بشرائطه المتقدّمة . فمن حلف ولم يخطر بباله الاستثناء انعقدت يمينه ، فإذا وصل بها الاستثناء انحلّت ، وهذا مذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وخالف الشّافعيّة والحنابلة فقالوا : لا بدّ من قصد الاستثناء قبل فراغ اليمين ، ثمّ وصل الاستثناء به ، ففي هذه الحالة يكون الاستثناء مانعاً من انعقاد اليمين .
الثّالث : فوات المحلّ في اليمين على الإثبات المؤقّت ، نحو : واللّه لأشربنّ ماء هذا الكوز اليوم ، فإذا صبّه الحالف أو غيره انحلّت اليمين عند الحنفيّة ، لأنّ البرّ لا يجب إلاّ آخر اليوم - أي الوقت المتّصل بغروب الشّمس - وفي هذا الوقت لا يمكنه البرّ ، لحصول الفراغ من الماء قبله ، فلا يحنث ، وبهذا يعلم انحلال يمينه من حين فراغ الكوز . وغير الحنفيّة يرون أنّ فوات المحلّ إذا كان بغير اختيار الحالف وقبل تمكّنه من البرّ يحلّ يمينه ، كما لو انصبّ الكوز عقب اليمين من غير اختياره ، أو أخذه إنسان فشربه ولم يتمكّن من أخذه منه . الرّابع : البرّ في اليمين ، بأن يفعل كلّ ما حلف على فعله ، أو يستمرّ على ترك كلّ ما حلف على تركه .
الخامس : الحنث ، فإنّ اليمين إذا انعقدت ، ثمّ حصل الحنث بوقوع ما حلف على نفيه ، أو باليأس من وقوع ما حلف على ثبوته ، فهذا الحنث تنحلّ به اليمين .
السّادس : العزم على الحنث في اليمين على الإثبات المطلق ، وهذا عند المالكيّة ، فلو قال : واللّه لأتزوّجنّ ، ثمّ عزم على عدم الزّواج طول حياته ، فمن حين العزم تنحلّ اليمين ، ويعتبر حانثاً ، وتجب عليه الكفّارة ، ولو رجع عن عزمه لم ترجع اليمين .
السّابع : البينونة في الحلف بالطّلاق ، فمن قال لامرأته : إن فعلت كذا فأنت طالق ، ثمّ بانت منه بخلعٍ أو بانقضاء العدّة في طلاقٍ رجعيٍّ ، أو بإكمال الطّلاق ثلاثاً ، أو بغير ذلك ، ثمّ عادت إليه بنكاحٍ جديدٍ لم يعد التّعليق لانحلاله بالبينونة .
جامع الأيمان
الأمور الّتي تراعى في ألفاظ الأيمان :
152 - معلوم أنّ اللّفظ الّذي يأتي به الحالف يشتمل على أفعالٍ وأسماءٍ وحروفٍ لها معانٍ لغويّة أو عرفيّة ، وأنّها تارةً تكون مقيّدةً بقيودٍ لفظيّةٍ ، وتارةً تقوم القرائن على تقييدها ، وقد يقصد الحالف معنًى يحتمله لفظه أو لا يحتمله ، وكلّ هذا يختلف البرّ والحنث تبعاً لاختلافه . وقد اختلف الفقهاء فيما تجب مراعاته عند اختلاف اللّغة والعرف والنّيّة والسّياق وغير ذلك . وفيما يلي بيان القواعد الّتي تتبع مرتّبةً مع بيان اختلاف المذاهب فيها . القاعدة الأولى : مراعاة نيّة المستحلف :
153 - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « يمينُك على ما يصدّقك عليه صاحبُك » والمعنى يمينك الّتي تحلفها ، محمولة على المعنى الّذي لو نويته ، وكنت صادقاً ، لاعتقد خصمك أنّك صادق فيها ، وهو المعنى الّذي يخطر بباله حين استحلافه إيّاك ، وهو في الغالب يكون متّفقاً مع ظاهر اللّفظ ، ومقتضى هذا أنّ التّورية بين يدي المستحلف لا تنفع الحالف ، بل تكون يمينه غموساً تغمسه في الإثم .
وهذا متّفق عليه بين أكثر الفقهاء ، غير أنّ لهم تفصيلاتٍ وشرائط بيانها فيما يلي :
154 - مذهب الحنفيّة : حكى الكرخيّ أنّ المذهب كون اليمين باللّه تعالى على نيّة الحالف إن كان مظلوماً ، فإن كان ظالماً فعلى نيّة المستحلف ، لكن فرّق القدوريّ بين اليمين على الماضي وعلى المستقبل ، فقال : إذا كانت اليمين على ماضٍ ففيها التّفصيل السّابق ، لأنّ المؤاخذة عليها إن كانت كاذبةً إنّما هي بالإثم ، كالمظلوم إذا نوى بها ما يخرجها عن الكذب ، صحّت نيّته فلم يأثم ، لأنّه لم يظلم بها أحداً ، بخلاف الظّالم إذا نوى بيمينه ما يخرجها عن الكذب فإنّ نيّته باطلة ، وتكون يمينه على نيّة المستحلف فتكون كاذبةً ظاهراً وباطناً ، ويأثم لأنّه ظلم بها غيره .
وإذا كانت على مستقبلٍ فهي على نيّة الحالف من غير تفصيلٍ ، لأنّها حينئذٍ عقد ، والعقد على نيّة العاقد .
واليمين بالطّلاق ونحوه تعتبر فيها نيّة الحالف ، ظالماً كان أو مظلوماً ، إذا لم ينو خلاف الظّاهر ، فلا تطلق زوجته لا قضاءً ولا ديانةً ، لكنّه يأثم - إن كان ظالماً - إثم الغموس ، فلو نوى خلاف الظّاهر - كما لو نوى الطّلاق عن وثاقٍ - اعتبرت نيّته ديانةً لا قضاءً ، فيحكم القاضي عليه بوقوع الطّلاق سواء أكان ظالماً أم مظلوماً .
وقال الخصّاف : تعتبر نيّته قضاءً إن كان مظلوماً .
155 - مذهب المالكيّة : اختلف المالكيّة في هذه المسألة ، فقال سحنون وأصبغ وابن الموّاز : إنّ اليمين على نيّة المستحلف .
وقال ابن القاسم إنّها على ، نيّة الحالف ، فينفعه الاستثناء ، فلا تلزمه كفّارة ، ولكن يحرم ذلك عليه من حيث إنّه منع حقّ غيره ، وهذا الّذي قاله ابن القاسم خلاف المشهور .
ثمّ إنّ القائلين بأنّها على نيّة المستحلف اختلفوا في كونها على نيّة المحلوف له عند عدم استحلافه ، فذهب خليل إلى أنّها لا تكون على نيّته ، وذهب الصّاويّ في حاشيته على الشّرح الصّغير إلى أنّها تكون على نيّته ، وسبق في شرائط صحّة الاستثناء بيان موضّح تكون فيه اليمين على نيّة المستحلف أو المحلوف له عندهم .
156 - مذهب الشّافعيّة : اليمين تكون على نيّة المستحلف بشرائط :
الشّريطة الأولى : أن يكون المستحلف ممّن يصحّ أداء الشّهادة عنده كالقاضي والمحكّم والإمام ، فإن لم يكن كذلك كانت على نيّة الحالف ، وألحق ابن عبد السّلام الخصم بالقاضي ، عملاً بحديث : « يمينُك على ما يُصَدِّقُك عليه صاحبُك » أي خصمك .
الشّريطة الثّانية : أن يستحلفه القاضي ونحوه بطلبٍ من الخصم ، فإن استحلفه بلا طلبٍ منه كانت اليمين على نيّة الحالف .
الشّريطة الثّالثة : ألاّ يكون الحالف محقّاً فيما نواه على خلاف نيّة المستحلف ، فإن ادّعى زيد أنّ عمراً أخذ من ماله كذا بغير إذنه وسأل ردّه ، وكان عمر وقد أخذه من دينٍ له عليه ، فأجاب بنفي الاستحقاق ، فقال زيد للقاضي : حلّفه أنّه لم يأخذ من مالي شيئاً بغير إذني ، وكان القاضي يرى إجابته لذلك ، فيجوز لعمرٍو أن يحلف أنّه لم يأخذ شيئاً من ماله بغير إذنه ، وينوي أنّه لم يأخذه بغير استحقاقٍ ، فيمينه في هذه الحالة تكون على نيّته المقيّدة ، لا على نيّة القاضي المطلقة ، ولا يأثم بذلك .
الشّريطة الرّابعة : أن يكون الاستحلاف باللّه تعالى لا بالطّلاق ونحوه ، لكن إذا كان المستحلف يرى جواز التّحليف بالطّلاق كالحنفيّ ، كانت اليمين على نيّته لا على نيّة الحالف.
157 - مذهب الحنابلة : يرجع في اليمين إلى نيّة الحالف فهي مبناها ابتداءً ، إلاّ إذا كان الحالف ظالماً ، ويستحلفه لحقّ عليه ، فهذا ينصرف يمينه إلى ظاهر اللّفظ الّذي عناه المستحلف .
القاعدة الثّانية : مراعاة نيّة الحالف :
إذا لم يكن مستحلف أصلاً ، أو كان مستحلف ولكن عدمت شريطة من الشّرائط الّتي يتوقّف عليها الرّجوع إلى نيّة المستحلف ، روعيت نيّة الحالف الّتي يحتملها اللّفظ ، وفيما يلي بيان أقوال الفقهاء في ذلك :
158 - مذهب الحنفيّة : الأصل عندهم أنّ الكلام ينصرف إلى العرف إذا لم يكن للحالف نيّة ، فإن كانت له نيّة شيءٍ واللّفظ يحتمله انعقدت اليمين باعتباره ، فمن حلف لا يدخل بيتاً فدخل المسجد لا يحنث إذا لم ينوه ، لأنّ المسجد لا يعتبر في العرف بيتاً ، وإن كان اللّه في كتابه قد سمّاه بيتاً .
159 - مذهب المالكيّة : إن لم تجب مراعاة نيّة المستحلف وجبت مراعاة نيّة الحالف ، فهي تخصّص العامّ وتقيّد المطلق وتبيّن المجمل ثمّ إنّ النّيّة المخصّصة والمقيّدة لها ثلاثة أحوالٍ :
الحالة الأولى : أن تكون مساويةً لظاهر اللّفظ ، بأن يحتمل اللّفظ إرادتها وعدم إرادتها على السّواء بلا ترجيحٍ لأحدهما على الآخر ، كحلفه لزوجته : إن تزوّج في حياتها فالّتي يتزوّجها طالق أو فعليه المشي إلى مكّة ، فتزوّج بعد طلاقها ، وقال : كنت نويت أنّي إن تزوّجت عليها في حياتها وهي في عصمتي ، وهي الآن ليست في عصمتي .
ففي هذه الحالة يصدق في اليمين باللّه تعالى أو الطّلاق أو التزام قربةٍ في كلٍّ من الفتوى والقضاء . ومن ذلك ما لو حلف : لا يأكل لحماً ، فأكل لحم طيرٍ ، وقال : كنت أردت لحم غير الطّير ، فإنّه يصدق مطلقاً أيضاً .
الحالة الثّانية : أن تكون نيّته مقاربةً لظاهر اللّفظ ، وإن كان أرجح منها ، كحلفه لا يأكل لحماً أو سمناً إذا ادّعى أنّه نوى لحم البقر وسمن الضّأن ، فأكل لحم الضّأن وسمن البقر ، ففي هذه الحالة يصدق في حلفه باللّه ، وبتعليق القربة ما عدا الطّلاق ، إذا رفع أمره للقاضي وأقيمت عليه البيّنة ، فإنّه يحكم بالطّلاق ، ومثل البيّنة الإقرار . ويقبل منه ما ادّعاه في الفتوى مطلقاً ، فلا يعدّ حانثاً في جميع أيمانه . ومن ذلك ما لو حلف : لا يكلّم فلاناً فكلّمه ، وقال : إنّي كنت نويت ألاّ أكلّمه شهراً أو ألا أكلّمه في المسجد ، وقد كلّمته بعد شهرٍ أو في غير المسجد ، فيقبل في الفتوى مطلقاً ، ويقبل في القضاء في غير الحلف بالطّلاق . وكذلك لو حلف : ألاّ يبيعه أو ألاّ يضربه ، ثمّ وكّل إنساناً في بيعه أو أمره بضربه ، وقال : إنّي كنت أردت الامتناع عن تكليمه وضربه بنفسي .
الحالة الثّالثة : أن تكون نيّته بعيدةً عن ظاهر اللّفظ ، كقوله : إن دخلت دار فلانٍ فزوجتي طالق ، إذا ادّعى أنّه أراد زوجته الميّتة ، ثمّ دخل الدّار استناداً إلى هذه النّيّة لم يقبل منه ما ادّعاه لا في القضاء ولا في الفتوى ، إلاّ إذا كانت هناك قرينة دالّة على هذه الدّعوى .
160- مذهب الشّافعيّة : في أسنى المطالب : من حلف على شيءٍ ولم يتعلّق به حقّ آدميٍّ ، فقال : أردت مدّة شهرٍ فقط ونحوه ممّا يخصّص اليمين قبل منه ظاهراً وباطناً ، لأنّه أمين في حقوق اللّه تعالى لا في حقّ آدميٍّ كطلاقٍ وإيلاءٍ ، فلا يقبل قوله ظاهراً ويدين فيما بينه وبين اللّه تعالى ، أو حلف : لا يكلّم أحداً ، وقال : أردت زيداً مثلاً لم يحنث بغيره عملاً بنيّته . ثمّ اللّفظ الخاصّ لا يعمّم بالنّيّة ، مثل أن يمنّ عليه رجل بما نال منه ، فحلف لا يشرب له ماءً من عطشٍ لم يحنث بغيره ، من طعامٍ وثيابٍ وماءٍ من غير عطشٍ وغيرها ، وإن نواه وكانت المنازعة بينهما تقتضي ما نواه ، لانعقاد اليمين على الماء من عطشٍ خاصّةً ، وإنّما تؤثّر النّيّة إذا احتمل اللّفظ ما نوى بجهةٍ يتجوّز بها .
وقد يصرف اللّفظ إلى المجاز بالنّيّة ، كلا أدخل دار زيدٍ ، ونوى مسكنه دون ملكه ، فيقبل في غير حقّ آدميٍّ - كأن حلف باللّه - لا في حقّ آدميٍّ ، كأن حلف بطلاقٍ .
161 - مذهب الحنابلة : إن لم يكن مستحلف ، أو كان مستحلف ولم يكن الحالف ظالماً رجع إلى نيّته هو - سواء أكان مظلوماً أم لا - وإنّما يرجع إلى نيّته إن احتملها لفظه ، كأن ينوي السّقف والبناء السّماء ، وبالفراش والبساط الأرض ، وباللّباس اللّيل ، وبالأخوّة أخوّة الإسلام . ثمّ إن كان الاحتمال بعيداً لم يقبل قضاءً ، وإنّما يقبل ديانةً ، وإن كان قريباً أو متوسّطاً قبل قضاءً وديانةً . فإن لم يحتمل أصلاً لم تنصرف يمينه إليه ، بل تنصرف إلى ظاهر اللّفظ ، وذلك كأن يقول : واللّه لا آكل ، وينوي عدم القيام دون عدم الأكل .
ومن أمثلة النّيّة المحتملة احتمالاً قريباً : ما لو نوى التّخصيص ، كأن يحلف : لا يدخل دار زيدٍ ، وينوي تخصيص ذلك باليوم ، فيقبل منه حكماً ، فلا يحنث بالدّخول في يومٍ آخر ، ولو كان حلفه بالطّلاق .
القاعدة الثّالثة : مراعاة قرينة الفور أو البساط ، أو السّبب :
إذا عدمت نيّة المستحلف المحقّ ونيّة الحالف ، وكانت اليمين عامّةً أو مطلقةً في الظّاهر ، لكن كان سببها الّذي أثارها خاصّاً أو مقيّداً كان ذلك مقتضياً تخصيص اليمين أو تقييدها . وهذا السّبب يسمّى عند المالكيّة بساط اليمين ، وعند الحنابلة السّبب المهيّج لليمين ، ويعبّر الحنفيّة عن هذه اليمين بيمين الفور . وفيما يلي أقوال الفقهاء في ذلك :
162 - فمذهب الحنفيّة : إذا لم يكن المحلوف عليه مقيّداً نصّاً ، ولكن دلّت الحال على تقييده بشيءٍ ، فإنّ ذلك القيد يراعى في اليمين استحساناً عند أبي حنيفة ، وهو الرّاجح . مثال ذلك : أن تخرج اليمين جواباً لكلامٍ مقيّدٍ ، أو بناءً على أمرٍ مقيّدٍ ، ولكنّ الحالف لا يذكر في يمينه هذا القيد نصّاً ، كما لو قال إنسان : تعال تغدّ معي ، فقال : واللّه لا أتغدّى ، فلم يتغدّ معه ، ثمّ رجع إلى منزله فتغدّى ، فإنّه لا يحنث لأنّ كلامه خرج جواباً للطّلب ، فينصرف إلى المطلوب ، وهو الغداء المدعوّ إليه ، فكأنّه قال : واللّه لا أتغدّى الغداء الّذي دعوتني إليه . وقال زفر : يحنث ، لأنّه منع نفسه عن التّغدّي عامّاً ، فلو صرف لبعضٍ دون بعضٍ كان ذلك تخصيصاً بغير مخصّصٍ ، وذا هو القياس .
163 - مذهب المالكيّة : إن لم يوجد مستحلف ذو حقٍّ ، ولم يكن للحالف نيّة صريحة ، أو كان له نيّة صريحة ولكنّه لم يضبطها ، روعي بساط يمينه في التّعميم والتّخصيص والتّقييد ، والبساط هو السّبب الحامل على اليمين ، ومثله كلّ سياقٍ وإن لم يكن سبباً ، ويعتبر البساط قرينةً على النّيّة وإن لم تكن صريحةً ولا منضبطةً ، وعلامته صحّة تقييد اليمين بقوله ما دام هذا الشّيء موجوداً .
ومن أمثلته : ما لو حلف لا يشتري لحماً ، أو لا يبيع في السّوق ، إذا كان الحامل على الحلف زحمة أو وجود ظالمٍ ، فيمينه تقيّد بذلك ، فلا يحنث بشراء اللّحم ولا بالبيع في السّوق إذا انتفت الزّحمة والظّالم ، سواء أكان حلفه باللّه أم بتعليق الطّلاق ونحوه ، ويستوي في ذلك القضاء والفتيا ، لكن لا بدّ في القضاء من إقامة بيّنةٍ على وجود البساط . ومن الأمثلة أيضاً : ما لو كان خادم المسجد يؤذيه ، فحلف لا يدخله ، فإنّ معناه أنّه لا يدخله ما دام هذا الخادم فيه ، وكذا لو كان فاسق بمكانٍ فقال إنسان لزوجته : إن دخلت هذا المكان فأنت طالق ، وكان وجود هذا الفاسق الحامل على الحلف ، فإنّ الحلف يقيّد بوجوده ، فإن زال فدخلت امرأته المكان لم تطلق .
ومن ذلك : ما لو منّ إنسان على آخر ، فحلف لا يأكل له طعاماً ، فإنّه يقتضي ألاّ ينتفع منه بشيءٍ فيه المنّة ، سواء أكان طعاماً أم كسوةً أو غيرهما ، فهذا تعميم لليمين بالبساط .
فإن لم يكن السّبب الحامل على اليمين داعياً إلى مخالفة الظّاهر لم يكن بساطاً ، كما لو حلف إنسان : لا يكلّم فلاناً أو لا يدخل داره ، وكان السّبب في ذلك أنّه شتمه أو تشاجر معه ، فهذا السّبب لا يدعو إلى مخالفة الظّاهر ، وهو الامتناع من التّكليم ومن دخول الدّار أبداً .
164 - مذهب الشّافعيّة : يتّضح من الاطّلاع على كتب المذهب الشّافعيّ أنّ المعتبر - بعد نيّة المستحلف ونيّة الحالف - هو ظاهر اللّفظ ، بقطع النّظر عن السّبب الحامل على اليمين ، فلو كانت اليمين عامّةً أو مطلقةً في الظّاهر - لكن كان سببها الّذي أثارها خاصّاً أو مقيّداً - لم يكن ذلك مقتضياً تخصيص اليمين أو تقييدها عندهم .
165 - مذهب الحنابلة : إن لم يوجد مستحلف ذو حقٍّ ، ولم ينو الحالف ما يوافق ظاهر اللّفظ أو يخصّصه ، أو يكون اللّفظ مجازاً فيه ، رجع إلى السّبب المهيّج لليمين لأنّه يدلّ على النّيّة ، وإن كان القائل غافلاً عنها ، فمن حلف : ليقضينّ زيداً حقّه غداً فقضاه قبله لم يحنث ، إذا كان سبب يمينه أمراً يدعو إلى التّعجيل وقطع المطل ، وإنّما يحنث بالتّأخير عن غدٍ ، فإن كان السّبب مانعاً من التّعجيل حاملاً على التّأخير إلى غدٍ فقضاه قبل حنث ، وفي هذه الصّورة لا يحنث بالتّأخير عن غدٍ ، فإن لم يكن سبب يدعو إلى التّعجيل أو التّأخير حنث بهما عند الإطلاق عن النّيّة ، وأمّا إذا نوى التّعجيل أو التّأخير فإنّه يعمل بنيّته كما تقدّم ، فعند نيّة التّعجيل يحنث بالتّأخير دون التّقديم ، وعند التّأخير يكون الحكم عكس ذلك .
ومن حلف على شيءٍ لا يبيعه إلاّ بمائةٍ ، وكان الحامل له على الحلف عدم رضاه بأقلّ من مائةٍ ، حنث ببيعه بأقلّ منها ، ولم تحنث ببيعه بأكثر إلاّ إذا كان قد نوى المائة بعينها لا أكثر ولا أقلّ . ومن حلف لا يبيعه بمائةٍ ، وكان الحامل له على الحلف أنّه يستقلّ المائة ، حنث ببيعه بها ، وكذا يحنث ببيعه بأقلّ منها ما لم ينو تعيّن المائة ، ولا يحنث ببيعه بأكثر من المائة ما لم ينو تعيّنها .
ومن دعي لغداءٍ ، فحلف لا يتغدّى ، لم يحنث بغداءٍ آخر عند الإطلاق ، لأنّ السّبب الحامل على الحلف هو عدم إرادته لهذا الغداء المعيّن ، وإنّما يحنث بالغداء الآخر إذا نوى العموم ، فإنّ النّيّة الموافقة للظّاهر تقدّم على السّبب المخصّص كما علم ممّا مرّ .
ومن حلف لا يشرب لفلانٍ ماءً من عطشٍ ، وكان السّبب عدم رضاه بمنّته ، حنث بأكل خبزه واستعارة دابّته ، وما ماثل ذلك من كلّ ما فيه منّة تزيد على شرب الماء من العطش ، بخلاف ما هو أقلّ منّةً من شرب الماء كقعوده في ضوء ناره ، وهذا كلّه عند الإطلاق عن النّيّة ، فإن نوى ظاهر اللّفظ عمل به .
ومن حلف لا يدخل بلداً ، وكان السّبب ظلماً رآه فيها ، أو حلف لا رأى منكراً إلاّ رفعه إلى الوالي ، وكان السّبب طلب الوالي ذلك منه ، ثمّ زال الظّلم في المثال الأوّل ، وعزل الوالي في المثال الثّاني ، لم يحنث بدخول البلد بعد زوال الظّلم ، ولا بترك رفع المنكر إلى الوالي بعد عزله ، فإن عاد الظّلم أو عاد الوالي للحكم حنث بمخالفة ما حلف عليه ، ويستوي في هذا الحكم ما لو أطلق الحالف لفظه عن النّيّة ، وما لو نوى التّقييد بدوام الوصف الحامل على اليمين .
166 - هذا وإذا تعارضت النّيّة والسّبب ، وكان أحدهما موافقاً لظاهر اللّفظ ، والثّاني أعمّ منه عمل بالموافق ، فمن حلف لا يأوي مع امرأته بدار فلانٍ ناوياً جفاءها ، وكان السّبب الحامل على اليمين هو عدم ملاءمة الدّار عمل بالسّبب ، فلا يحنث باجتماعه معها في دارٍ أخرى ، وإن كان ذلك مخالفاً لنيّته . فإن كان ناوياً عدم الاجتماع معها في الدّار بخصوصها ، وكان السّبب الحامل على اليمين يدعو إلى الجفاء العامّ فالحكم كما سبق ، عملاً بالنّيّة الموافقة للظّاهر ، وإن كان ذلك مخالفاً للسّبب .
فإن وجدت نيّة ولا سبب ، أو كان السّبب يدعو إلى الجفاء ولا نيّة ، أو اتّفقا معاً في الجفاء حنث بالاجتماع معها مطلقاً ، وإن اتّفقا في تخصيص الدّار لم يحنث بغيرها .
القاعدة الرّابعة : مراعاة العرف الفعليّ والقوليّ والشّرعيّ والمعنى اللّغويّ :
167- من تصفّح كتب المذاهب وجد عباراتها في هذا الموضوع تختلف .
فالحنفيّة يذكرون مراعاة العرف فاللّغة ، ولا يقسّمون العرف إلى فعليٍّ وقوليٍّ وشرعيٍّ ، ولعلّهم اكتفوا بأنّ الكلمة إذا أطلقت لم تتنازعها أعراف مختلفة ، لأنّها قد يكون المشهور فيها هو الفعليّ فقط أو القوليّ فقط أو الشّرعيّ فقط ، فلا حاجة لترتيبها .
والمالكيّة ذكر بعضهم العرف الفعليّ وقدّمه على القوليّ ، وأغفله بعضهم ، ومنهم من قدّم الشّرعيّ على اللّغويّ ، ومنهم من عكس .
والشّافعيّة لم يفصّلوا في العرف ، ثمّ إنّهم تارةً يقدّمون العرف على اللّغة ، وتارةً يعكسون . والحنابلة قدّموا المعنى الشّرعيّ ، وأتبعوه بالعرفيّ فاللّغويّ ، ولم يقسّموا العرفيّ إلى فعليٍّ وقوليٍّ .
أ - مذهب الحنفيّة :
168 - الأصل في الألفاظ الّتي يأت بها الحالف أن يراعي فيها معنى المفردات في اللّغة ، وأن يراعي المعنى التّركيبيّ من عمومٍ وخصوصٍ وإطلاقٍ وتقييدٍ بالوقت أو بغيره من القيود ، ومعاني الحروف الّتي فيها كالواو والفاء وثمّ وأو .
وإنّما يراعى المعنى اللّغويّ إذا لم يكن كلام النّاس بخلافه ، فإن كان كلام النّاس بخلافه وجب حمل اللّفظ على ما تعارفه النّاس ، فيكون حقيقةً عرفيّةً .
ومن أدلّة تقديم المعنى العرفيّ على اللّغويّ الأصليّ ما روي أنّ رجلاً جاء إلى ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما ، وقال : إنّ صاحباً لنا مات وأوصى ببدنةٍ ، أفتجزي عنه البقرة ؟ فقال : « ممّن صاحبكم ؟ فقال من بني رباحٍ ، فقال : " متى اقتنت بنو رباحٍ البقر ؟ إنّما البقر للأزد ، وذهب وَهْم صاحبكم إلى الإبل " .
فهذا الأثر أصل أصيل في حمل الكلام المطلق على ما يريده النّاس ، ولا شكّ أنّ إرادة النّاس تذهب إلى المعنى العرفيّ ، فيما له معنًى لغويّ ومعنًى عرفيّ ، فالظّاهر عند إطلاق اللّفظ إرادة المعنى العرفيّ ، ولهذا لو قال الغريم لغريمه : واللّه لأجرّنّك في الشّوك ، لم يرد به حقيقته اللّغويّة عادةً ، وإنّما يريد شدّة المطل ، فلا يحنث بعدم جرّه في الشّوك ، وإنّما يحنث بإعطائه الدّين من غير مماطلةٍ .
ولو حلف : ألاّ يجلس في سراجٍ ، فجلس في الشّمس لم يحنث ، وإن كان اللّه سبحانه وتعالى سمّاها سراجاً في قوله : { وجَعَلَ الشّمسَ سِراجاً } وكذا لا يحنث من جلس على الأرض ، وكان قد حلف ألاّ يجلس على بساطٍ ، وإن كان اللّه عزّ وجلّ سمّى الأرض بساطاً في قوله : { واللّهُ جَعَل لكم الأرضَ بِسَاطاً } وكذا من حلف ألاّ يمسّ وتداً ، فمسّ جبلاً لا يحنث ، وإن سمّاه اللّه سبحانه وتداً في قوله : { والجبالَ أَوْتَاداً } وكذا من حلف لا يركب دابّةً فركب إنساناً لا يحنث ، لأنّه لا يسمّى دابّةً في العرف ، وإن كان يسمّى دابّةً في اللّغة . وهذا كلّه حيث لم يجعل اللّفظ في العرف مجازاً عن معنًى آخر ، كما لو حلف : لا يضع قدمه في دار فلانٍ ، فإنّه صار مجازاً عن الدّخول مطلقاً ، ففي هذا لا يعتبر اللّفظ أصلاً ، حتّى لو وضع قدمه ولم يدخل لا يحنث ، لأنّ المعنى الأصليّ والعرفيّ للّفظ قد هجر ، وصار المراد به معنًى آخر ، ومثله : لا آكل من هذه الشّجرة - وهي من الأشجار الّتي لا تثمر ولم تجر العادة بأكل شيءٍ منها - فهذه العبارة تنصرف إلى الانتفاع بثمنها ، فلا يحنث بتناول شيءٍ منها ومضغه وابتلاعه .
ب - مذهب المالكيّة :
169 - إذا لم يوجد مستحلف ذو حقٍّ ، ولم ينو الحالف نيّةً معتبرةً ، ولم يكن لليمين بساط دالّ على مخالفة الظّاهر ، فالمعتمد اعتبار العرف الفعليّ ، كما لو حلف : لا يأكل خبزاً ، وكان أهل بلده لا يأكلون إلاّ خبز القمح ، فأكل القمح عندهم عرف فعليّ ، فهو مخصّص للخبز الّذي حلف على عدم أكله ، فلا يحنث بأكل خبز الذّرة .
فإن لم يكن عرف فعليّ اعتبر العرف القوليّ ، كما لو كان عرف قومٍ استعمال لفظ الدّابّة في الحمار وحده ، ولفظ الثّوب فيما يلبس من جهة الرّأس ويسلك في العنق ، فحلف حالف منهم : ألاّ يشتري دابّةً أو ثوباً ، فلا يحنث بشراء فرسٍ ولا عمامةٍ .
فإن لم يكن عرف فعليّ ولا قوليّ اعتبر العرف الشّرعيّ ، فمن حلف : لا يصلّي في هذا الوقت ، أو لا يصوم غداً ، أو لا يتوضّأ الآن ، أو لا يتيمّم حنث بالشّرعيّ من ذلك دون اللّغويّ ، فلا يحنث بالدّعاء ، ولا بالصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، مع أنّهما يسمّيان صلاةً في اللّغة ، ولا يحنث بالإمساك عن الطّعام والشّراب من غير نيّةٍ ، وإن كان يسمّى صياماً في اللّغة ، ولا بغسل اليدين إلى الرّسغين ، مع أنّه يسمّى وضوءاً في اللّغة ، ولا بقصده إنساناً والذّهاب إليه مع أنّه يسمّى تيمّماً في اللّغة .
فإن لم يوجد ما يدلّ على مخالفة الظّاهر اللّغويّ ، من نيّةٍ أو بساطٍ أو عرفٍ فعليٍّ أو قوليٍّ أو شرعيٍّ ، حملت اليمين على الظّاهر اللّغويّ ، فمن حلف لا يركب دابّةً أو لا يلبس ثوباً ، وليس له نيّة ، ولا لأهل بلده عرف في دابّةٍ معيّنةٍ أو ثوبٍ معيّنٍ ، حنث بركوبه التّمساح ولبسه العمامة ، لأنّ ذلك هو المدلول اللّغويّ .
ج - مذهب الشّافعيّة :
170 - الأصل عندهم أن يتّبع المعنى اللّغويّ عند ظهوره وشموله ، ثمّ يتّبع العرف إذا كان مطّرداً وكانت الحقيقة بعيدةً ، مثل لا آكل من هذه الشّجرة ، فإنّه يحمل على الثّمر لا الورق ، ولو حلف : لا يأكل الرّأس ، حمل على رءوس النّعم ، وهي البقر والإبل والغنم ، لأنّها هي المتعارفة ، حتّى إن اختصّ بعضها ببلد الحالف ، بخلاف رأس الطّير والحوت والظّبي ونحوها فلا تحمل اليمين على شيءٍ منها إلاّ إذا جرت العادة ببيعها في بلد الحالف ، لأنّها لا تفهم من اللّفظ عند إطلاقه .
د - مذهب الحنابلة :
171 - إن عدمت النّيّة والسّبب رجع في اليمين إلى ما تناوله الاسم شرعاً فعرفاً فلغةً ، فاليمين على الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ والعمرة والوضوء والبيع ونحوها من كلّ ماله معنًى شرعيّ ومعنًى لغويّ تحمل على المعنى الشّرعيّ عند الإطلاق ، ويحمل على الصّحيح دون الفاسد ، فيما عدا الحجّ والعمرة .
ولو قيّد حالف يمينه بما لا يصحّ شرعاً ، كأن حلف لا يبيع الخمر ، ففعل ، حنث بصورة ذلك العقد الفاسد لتعذّر الصّحيح .
ومن حلف على الرّاوية والظّعينة والدّابّة ونحو ذلك ، ممّا اشتهر مجازه حتّى غلب على حقيقته ، بحيث لا يعرفها أكثر النّاس ، فهذا حلف على أسماءٍ لها معانٍ عرفيّة وهي الّتي اشتهرت ، ومعانٍ لغويّة وهي الّتي صارت كالمجهولة . فالرّاوية في اللّغة : اسم لما يستقى عليه من الحيوانات ، واشتهرت في المزادة ، وهي وعاء يحمل فيه الماء في السّفر كالقربة ونحوها . والظّعينة في اللّغة : اسم للنّاقة الّتي يظعن عليها ، ثمّ اشتهرت في المرأة في الهودج . والدّابّة في اللّغة اسم لما دبّ ودرج ، واشتهرت في ذوات الأربع من خيلٍ وبغالٍ وحميرٍ ويراعى في الحلف عليها المعنى العرفيّ لا اللّغويّ .
ومن حلف : لا يأكل لحماً أو شحماً أو رأساً أو بيضاً أو لبناً ، أو ذكر نحو ذلك من الأسماء اللّغويّة ، وهي الّتي لم يغلب مجازها على حقيقتها ، يراعى في يمينه المعنى اللّغويّ ، فيحنث الحالف على ترك أكل اللّحم بأكل سمكٍ ولحم خنزيرٍ ونحوه ، ولا بمرق اللّحم ، ولا بالمخّ والشّحم والكبد والكلية والمصران والطّحال والقلب والألية والدّماغ والقانصة والكارع ولحم الرّأس واللّسان ، لأنّ مطلق اللّحم لا يتناول شيئاً من ذلك ، فإن نوى الامتناع من تناول الدّسم حنث بذلك كلّه .
ويحنث الحالف على ترك أكل الشّحم بجميع الشّحوم ، حتّى شحم الظّهر والجبّ والألية والسّنام ، لأنّ الشّحم ما يذوب من الحيوان بالنّار ، لا باللّحم الأحمر ولا الكبد والطّحال والرّأس والكلية والقلب والقانصة ونحوها . والحالف على الامتناع من أكل الرّءوس يحنث بجميع الرّءوس : رأس الطّير ورأس السّمك ورأس الجراد .
والحالف على الامتناع من أكل البيض يحنث بكلّ بيضٍ ، حتّى بيض السّمك والجراد . والحالف على الامتناع من أكل اللّبن يحنث بكلّ ما يسمّى لبناً ، حتّى لبن الظّبية والآدميّة ، وسواء أكان حليباً أم رائباً أم مجمّداً ، ويحنث بالمحرّم كلبن الخنزيرة والأتان ، ولا يحنث بأكل الزّبد أو السّمن أو الكشك أو المصل أو الجبن أو الأقطّ ونحوه ممّا يعمل من اللّبن ويختصّ باسمٍ .
إيمان *
التّعريف :
1 - الإيمان مصدر " آمن " " وآمن " أصله من الأمن ضدّ الخوف .
يقال : آمن فلان العدوّ يؤمنه إيماناً ، فهو مؤمن ، ومن هنا يأتي الإيمان بمعنى : جعل الإنسان في مأمنٍ ممّا يخاف . جاء في اللّسان : قرئ في سورة براءة { إنّهم لا أيمانَ } من قرأه بكسر الألف معناه : أنّهم إن أجاروا وأمنوا المسلمين لم يفوا وغدروا ، والإيمان هنا : الإجارة . والغالب أن يكون الإيمان لغةً بمعنى التّصديق ضدّ التّكذيب . يقال : آمن بالشّيء إذا صدّق به ، وآمن لفلانٍ إذا صدّقه فيما يقول . ففي التّنزيل { وما أنت بِمُؤْمِنٍ لنا ولو كُنّا صادقين } وفيه { وإن لم تُؤْمِنوا لي فاعْتَزلُون }
والإيمان في الاصطلاح مختلف فيه :
فقيل : هو تصديق الرّسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند اللّه ، مع إظهار الخضوع والقبول لما أتى به . فهو اعتقاد بالجنان ، وقول باللّسان ، وعمل بالأركان . والمراد بالاعتقاد : الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر ، على ما ورد في حديث جبريل عليه السلام . والمراد بقول اللّسان : النّطق بالشّهادتين .
والمراد بالعمل بالجوارح : فعلها وكفّها تبعاً للأمر والنّهي . قال ابن حجرٍ العسقلانيّ : هذا قول السّلف ، وهو أيضاً قول المعتزلة ، إلاّ أنّ المعتزلة جعلوا الأعمال شرطاً في صحّة الإيمان ، والسّلف جعلوها شرطاً في كماله .
وقيل : الإيمان هو : التّصديق بالقلب واللّسان فقط ، وهو قول بعض الفقهاء بناءً على أنّ هذا هو الوضع اللّغويّ للفظ ( الإيمان ) وأنّ الأصل عدم النّقل . وليست الأعمال عندهم داخلةً في مسمّى الإيمان . فإذا وجد لدى الإنسان الإيمان وجد كاملاً ، وإن زال زال دفعةً واحدةً . أمّا على قول السّلف المتقدّم ، فإنّ الإيمان درجات بحسب قوّة التّصديق لوضوح الأدلّة وجودة الفهم . ويزيد الإيمان بالطّاعات ، وينقص بالمعاصي ، ويفاضل النّاس فيه . واستشهد لهم بقول اللّه تعالى { فأمّا الّذين آمَنُوا فَزَادَتْهم إيماناً } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث الشّفاعة« يخرج من النّار من كان في قلبه مثقال حبّةٍ من خردلٍ من إيمانٍ »
الفرق بين الإسلام والإيمان :
2 - الإسلام لغةً : الاستسلام ، وشرعاً : النّطق بالشّهادتين والعمل بالفرائض ، فالإيمان أخصّ من الإسلام ، إذ يؤخذ في معنى الإيمان - مع النّطق والعمل - التّصديق ، والإحسان أخصّ من الإيمان . فكلّ محسنٍ مؤمن ، وكلّ مؤمنٍ مسلم ، ولا عكس .
قال الأزهريّ في تفسير قول اللّه تعالى : { قالت الأعرابُ آمنّا قل لم تُؤْمنوا ولكن قولوا أسلمنا وَلَمَّا يدخلِ الإيمانُ في قلوبِكم } قال : الإسلام إظهار الخضوع والقبول لما أتى به النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبه يحقن الدّم . فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك هو الإيمان ، الّذي يقال للموصوف به هو مؤمن مسلم .
فأمّا من أظهر قبول الشّريعة واستسلم ، لدفع المكروه ، فهو في الظّاهر مسلم ، وباطنه غير مصدّقٍ ، فذلك الّذي يقول : أسلمت . وحكمه في الظّاهر حكم المسلمين .
وفي العقائد النّسفيّة وشرحها أنّ الإيمان والإسلام شيء واحد ، أو أنّ أحدهما لا ينفكّ عن الآخر . ويرى بعض العلماء أنّ الإيمان والإسلام إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر ، ودلّ بانفراده على ما يدلّ عليه الآخر بانفراده .
وإن قرن بينهما تغايرا ، على وزان ما قالوه في ( الفقير ) ( والمسكين )
الحكم الإجماليّ :
3 - الإيمان واجب ، بل هو أعظم الفرائض . ولا يعتبر التّصديق إلاّ مع التّلفّظ بالشّهادتين من القادر . والامتناع من التّلفّظ - مع القدرة عليه - منافٍ للإذعان .
وقد اختلف في جواز التّقليد في الإيمان ، على قولين .
4 - والإيمان شرط في قبول العبادات ، لقول اللّه تعالى { مَنْ عَمِلَ صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فَلَنُحْيِيَنّه حياةً طيّبةً ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أجرَهم بأحسن ما كانوا يعملون } وقوله { والّذين كفروا أعمالُهم كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُه الظّمآنُ ماءً حتّى إذا جاءَه لم يجدْه شيئاً } ونحوهما من الآيات . أمّا صحّة الأعمال ظاهراً وجريان الأحكام على الشّخص ، كاستحقاق الميراث والصّلاة عليه ونحو ذلك ، فيشترط لها الإسلام فقط ، إذ التّصديق والاعتقاد أمر باطن لا تتعلّق به الأحكام الظّاهرة .
وقد يكون الإسلام شرط وجوبٍ ، كوجوب الصّلاة والزّكاة والصّوم والجهاد حيث وجبت ، فإنّما تجب ظاهراً على المسلمين .
من أجل ذلك ، وأنّ مباحث الفقه منصّبة على الأمور الظّاهرة ، فإنّ الفقهاء يستعملون غالباً في بيانهم للأحكام الشّرعيّة لفظ ( الإسلام ) ، ويجعلونه متعلّق الأحكام ، دون لفظ ( الإيمان ) ولذلك ينظر ما يتعلّق بذلك في موضعه ( ر : إسلام ) .
5- وإذا وجدت الرّدّة - بارتكاب أحد المكفّرات اختياراً - أبطلت الإسلام والإيمان ظاهراً . وخرج صاحبه منه إلى الكفر اتّفاقاً ( ر : ردّة ) .
6- أمّا الفسق والمعاصي فلا يخرج بهما المؤمن من الإيمان على قول أهل السّنّة . وعند الخوارج يخرج بهما من الإيمان ويدخل في الكفر . وعند المعتزلة يخرج من الإيمان ، ولا يدخل الكفر ، بل هو في منزلةٍ بين المنزلتين .
7- وفي حكم الاستثناء في الإيمان ، بأن يقول الإنسان : أنا مؤمن إن شاء اللّه اختلاف ، والحقيقة أنّه خلاف لفظيّ ، لأنّه لو قصد حقيقة التّعليق لا يكون مؤمناً بالإجماع ، ولو قصد التّبرّك والتّأدّب ، بإسناد الأمر والتّفويض إلى اللّه سبحانه وتعالى تبرّكاً ، فلا يمكن القول بأنّه غير مؤمنٍ .
شعب الإيمان :
8 - الإيمان أصل تنشأ عنه الأعمال الصّالحة وتنبني عليه ، كما تنبني فروع الشّجرة على أصلها وتتغذّى منه ، وقد جاء في الحديث الصّحيح « الإيمانُ بِضْعٌ وستّون ، أو بضع وسبعون شعبةً ، أعلاها لا إله إلاّ اللّه ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطّريق . والحياءُ شعبة من الإيمان » . وقد ذكر اللّه تعالى منها جملةً في أوّل سورة ( المؤمنون ) . وتتبّع بعض العلماء باقي العدد من الكتاب والسّنّة . وإتماماً لهذا المصطلح تراجع كتب العقائد والتّوحيد .
إيهام *
التّعريف :
1 - الإيهام لغةً : إيقاع الغير في الظّنّ .
واصطلاحاً : الإيقاع في الوهم . إلاّ أنّ الفقهاء والأصوليّين يختلفون في معنى الوهم ، فهو عند أغلب الفقهاء مرادف للشّكّ ، فالشّكّ عندهم هو التّردّد بين وجود الشّيء وعدمه ، سواء أكان الطّرفان في التّردّد سواءً ، أم كان أحدهما راجحاً .
وعند أصحاب الأصول وبعض الفقهاء : الوهم هو إدراك الطّرف المرجوح .
والبعض يطلق الإيهام ويريد به الظّنّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
الغشّ :
2 - الغشّ : أن يكتم البائع عن المشتري عيباً في المبيع لو اطّلع عليه لما اشتراه بذلك الثّمن .
التّدليس :
3 - التّدليس : العلم بالعيب وكتمانه .
الغرر :
4 - الغرر : ما يكون مجهول العاقبة ، ولا يدرى أيكون أم لا .
الحكم الإجماليّ :
5 - إيهام اللّقيّ والرّحلة من تدليس الإسناد عند المحدّثين ، وهو مكروه ، لكن لا يعتبر سبباً لتجريح الرّاوي .
فإيهام اللّقيّ : كقول من عاصر الزّهريّ مثلاً ولم يلقه : قال الزّهريّ ، موهماً أي موقعاً في الوهم - أي الذّهن - أنّه سمعه .
وإيهام الرّحلة نحو أن يقال : حدّثنا وراء النّهر ، موهماً جيحون ، والمراد نهر مصر ، كأن يكون بالجيزة ، لأنّ ذلك من المعاريض لا كذب فيه .
وعند الفقهاء : إيهام البائع المشتري سلامة المبيع المعيب منهيٍّ عنه ، وموجب الخيار للمشتري في الجملة على خلافٍ وتفصيلٍ موطنه خيار العيب .
إيواء *
التّعريف :
1- الإيواء لغةً : مصدر آوى - وهو متعدٍّ - ضمّ الإنسان غيره إلى مكان يقيم ومأمنٍ فيه ، كقوله تعالى : { فلمّا دَخَلوا على يوسفَ آوى إليه أَبَوَيْهِ } ومجرّده أوى ، وهو لازم . وقد يستعمل متعدّياً ، يقال : أوى إلى فلانٍ إذا التجأ وانضمّ إليه . والمأوى لكلّ حيوانٍ سكنه . وهو في الشّريعة كذلك ، فقد قال عليه الصلاة والسلام للأنصار : « أسألكم لربّي عزّ وجلّ أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤوونا .. » أي تضمّونا إليكم ، وقال صلوات الله وسلامه عليه : « لا يأوي الضّالّة إلاّ ضالّ » أي يأخذها ويضمّها إليه وهكذا .
الحكم العامّ ومواطن البحث :
2 - حيثما كان الإيواء لغايةٍ مشروعةٍ كان الإيواء مشروعاً ، ما لم يقم على منعه دليل ، كإيواء اليتيم ، وإيواء المشرّد ، وإيواء الضّيف ، وإيواء الفارّ من الظّالم ، وإيواء اللّقطة الّتي لا تستطيع أن تمتنع بنفسها .
وحيثما كان الإيواء لغايةٍ غير مشروعةٍ ، فهو غير مشروعٍ كإيواء الجاسوس والجاني لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المدينة « من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين » .
3 - وإيواء العين المسروقة من قبل مالكها شرط لقطع سارقها ، وهو الّذي يسمّيه الفقهاء بالحرز . لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تقطع اليد في ثمرٍ معلّقٍ ، فإذا ضمّه الجرين قطعت في ثمن المجنّ ، ولا تقطع في حريسة الجبل ، فإذا آوى المراح قطعت في ثمن المجنّ » كما فصّل ذلك الفقهاء في كتاب السّرقة . ( ر : سرقة ) .
4 - وإيواء المبيع إلى المشتري - بمعنى نقله وضمّه إلى المشتري - في المنقولات شرط عند البعض ، لجواز بيع المشتري له ، لقول ابن عمر : « لقد رأيت النّاس في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يبتاعون جزافاً - يعني الطّعام - يضربون أن يبيعوه في مكانهم حتّى يؤووه إلى رحالهم » .
الأيّام البيض *
التّعريف :
1 - الأيّام البيض هي : اليوم الثّالث عشر والرّابع عشر والخامس عشر من كلّ شهرٍ عربيٍّ . وسمّيت بيضاً لابيضاض لياليها بالقمر ، لأنّه يطلع فيها من أوّلها إلى آخرها . ولذلك قال ابن برّيٍّ : الصّواب أن يقال : أيّام البيض ، بالإضافة لأنّ البيض من صفة اللّيالي - أي أيّام اللّيالي البيضاء . وقال المطرّزيّ : من فسّرها بالأيّام فقد أبعد .
الألفاظ ذات الصّلة :
الأيّام السّود :
2 - الأيّام السّود أو أيّام اللّيالي السّود : هي الثّامن والعشرون وتالياه ، باعتبار أنّ القمر في هذه اللّيالي يكون في تمام المحاق .
الحكم الإجماليّ :
3 - يستحبّ صوم الأيّام البيض من كلّ شهرٍ ، لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك ، ومنها ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من صام من كلّ شهرٍ ثلاثةَ أيّامٍ فذاك صيام الدّهر » وعن ملحان القيسيّ قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض : ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ، وقال : هو كهيئة الدّهر » وهذا ينطبق على كلّ شهور العام عدا شهر ذي الحجّة ، فلا يصام فيه اليوم الثّالث عشر ، لأنّه من أيّام التّشريق الّتي ورد النّهي عن صومها .
والأوجه كما يقول الشّافعيّة أن يصام السّادس عشر من ذي الحجّة .
وصوم هذه الأيّام مستحبّ عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
وكان مالك يصوم أوّل يومه ، وحادي عشره ، وحادي عشرينه .
وكره المالكيّة كونها الثّلاثة الأيّام البيض ، مخافة اعتقاد وجوبها وفراراً من التّحديد .
وهذا إذا قصد صومها بعينها ، وأمّا إن كان على سبيل الاتّفاق فلا كراهة
أيّام التّشريق *
التّعريف :
1 - أيّام التّشريق - عند اللّغويّين والفقهاء - ثلاثة أيّامٍ بعد يوم النّحر ، قيل : سمّيت بذلك لأنّ لحوم الأضاحيّ تشرق فيها ، أي تقدّد في الشّمس .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الأيّام المعدودات :
2 - الأيّام المعدودات هي الواردة في قوله تعالى : { واذْكروا اللّه في أيّامٍ مَعْدوداتٍ } وهي أيّام التّشريق الثّلاثة كما ذكر اللّغويّون والفقهاء .
ب - الأيّام المعلومات :
3 - الأيّام المعلومات الواردة في قوله تعالى : { ويذكروا اسمَ اللّه في أيّامٍ مَعْلُوماتٍ } هي العشر الأوائل من ذي الحجّة ، على ما ذهب إليه الشّافعيّة والحنابلة ، وفي قولٍ عند الحنفيّة . وقيل : هي أيّام التّشريق ، وقيل : هي يوم النّحر ويومان بعده ، وهو رأي المالكيّة .
وقد روى نافع عن ابن عمر : أنّ الأيّام المعدودات والأيّام المعلومات يجمعها أربعة أيّامٍ : يوم النّحر وثلاثة بعده ، فيوم النّحر معلوم غير معدودٍ ، واليومان بعده معلومان معدودان ، واليوم الرّابع معدود لا معلوم . وقيل : هي يوم عرفة والنّحر والحادي عشر .
ج - أيّام النّحر :
4 - أيّام النّحر ثلاثة : العاشر والحادي عشر والثّاني عشر من ذي الحجّة ، وذلك هو مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، لما روي عن عمر وعليٍّ وابن عبّاسٍ وابن عمر وأنسٍ وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أنّهم قالوا : أيّام النّحر ثلاثة .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ أيّام النّحر أربعة : يوم النّحر وأيّام التّشريق لما روى جبير بن مطعمٍ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « كلّ أيّام التّشريق ذبح » .
وقد روي ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه ، وبه قال عطاء والحسن والأوزاعيّ وابن المنذر .
د - أيّام منًى :
5 - أيّام منًى هي أيّام التّشريق الثّلاثة ، وهي الحادي عشر والثّاني عشر والثّالث عشر من ذي الحجّة ، وتسمّى أيّام منًى وأيّام التّشريق وأيّام رمي الجمار والأيّام المعدودات ، كلّ هذه الأسماء واقعة عليها . والفقهاء يعبّرون بأيّام منًى تارةً ، وبأيّام التّشريق تارةً أخرى .
ما يتعلّق بأيّام التّشريق :
أ - رمي الجمار في أيّام التّشريق :
6 - أيّام رمي الجمار أربعة : يوم النّحر ، وثلاثة أيّام التّشريق ، فأيّام التّشريق هي وقت لرمي باقي الجمار بعد يوم النّحر ، يرمي الحاجّ كلّ يومٍ بعد الزّوال إحدى وعشرين حصاةً لثلاث جمراتٍ ، كلّ جمرةٍ سبع حصياتٍ ، والأصل في هذا ما روته السّيّدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « أفاض رسول اللّه من آخر يومه حين صلّى الظّهر ، ثمّ رجع إلى منًى ، فمكث بها ليالي أيّام التّشريق ، يرمي الجمرة إذا زالت الشّمس ، كلّ جمرةٍ بسبع حصياتٍ ، يكبّر مع كلّ حصاةٍ ، ويقف عند الأولى والثّانية ، فيطيل القيام ويتضرّع ، ويرمي الثّالثة ولا يقف عندها » . ورمي الجمار في أيّام التّشريق واجب ، ويفوت وقت الرّمي بغروب شمس آخر أيّام التّشريق ، فمن ترك الرّمي في هذه الأيّام سقط عنه الرّمي لفوات وقته ، ووجب عليه دم ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من ترك نُسُكاً فعليه دم » . وهذا باتّفاقٍ . وباقي تفصيل أحكام الرّمي في مصطلح ( رميٍ ، وحجٍّ ) .
ب - ذبح الهدي والأضحيّة في أيّام التّشريق :
7 - وقت ذبح الأضحيّة والهدي ثلاثة أيّامٍ : يوم الأضحى ، وهو اليوم العاشر من ذي الحجّة والحادي عشر والثّاني عشر ، فيدخل اليوم الأوّل والثّاني من أيّام التّشريق ، وهذا عند الحنفيّة والحنابلة وهو المعتمد عند المالكيّة ، وقد روي ذلك عن غير واحدٍ من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، ورواه الأثرم عن ابن عمر وابن عبّاسٍ ، ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن الأكل من النّسك فوق ثلاثٍ » وغير جائزٍ أن يكون الذّبح مشروعاً في وقتٍ يحرم فيه الأكل ، ثمّ نسخ تحريم الأكل وبقي وقت الذّبح بحاله .
وقد ورد عن بعض أهل المدينة إجازة الأضحيّة في اليوم الرّابع .
وعند الشّافعيّة يبقى وقت ذبح الأضحيّة والهدي إلى آخر أيّام التّشريق ، وهو الأصحّ ، كما قطع به العراقيّون ، وقد روي عن جبير بن مطعمٍ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « كلّ أيّام التّشريق ذبح » وروي عن عليٍّ رضي الله تعالى عنه أنّه قال : النّحر يوم الأضحى وثلاثة أيّامٍ بعده وبه قال الحسن وعطاء والأوزاعيّ وابن المنذر .
ت - الإحرام بالعمرة في أيّام التّشريق :
8 - يكره الإحرام بالعمرة في أيّام التّشريق ، لما روت السّيّدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : « وقت العمرة السّنة كلّها ، إلاّ يوم عرفة ويوم النّحر وأيّام التّشريق » ومثل هذا لا يعرف إلاّ بالتّوقيف . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى جواز الإحرام بالعمرة في أيّام التّشريق ، ولا يكره ذلك لعدم النّهي عنه .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ المحرم بالحجّ إذا أهلّ بعمرةٍ في أيّام التّشريق لزمته ، ويقطعها ، لأنّه قد أدّى ركن الحجّ من كلّ وجهٍ ، والعمرة مكروهة في هذه الأيّام ، فلهذا يلزمه قطعها ، فإن رفضها فعليه دم لقطعها ، وعمرة مكانها ، وإن مضى عليها أجزأه ، لأنّ الكراهة لمعنًى في غيرها ، وهو كونه مشغولاً في هذه الأيّام بأداء بقيّة أعمال الحجّ ، فيجب تخليص الوقت له تعظيماً ، وعليه دم لجمعه بينهما .
وعند المالكيّة يجوز الإحرام بالعمرة في أيّ وقتٍ من السّنة ، إلاّ لمحرمٍ بحجٍّ مفرداً ، فيمنع إحرامه بالعمرة - ولا ينعقد ، ولا يجب قضاؤها - إلى أن يتحلّل من جميع أفعال الحجّ ، وذلك برمي اليوم الرّابع لغير المتعجّل ، ومضيّ قدره لمن تعجّل ، وهو قدر زمنه عقب زوال الرّابع ، فإن أحرم بالعمرة قبل غروب اليوم الرّابع صحّ إحرامه ، لكن لا يفعل شيئاً من أفعال العمرة إلاّ بعد غروب الشّمس ، فإن فعل قبله شيئاً فلا يعتدّ به على المذهب .
ث - صلاة عيد الأضحى أيّام التّشريق :
9 - صلاة عيد الأضحى تكون في اليوم الأوّل من أيّام النّحر ، فإذا تركت في اليوم الأوّل ، فإنّه يجوز أن تصلّى في اليوم الأوّل والثّاني من أيّام التّشريق ، وهما الثّاني والثّالث من أيّام النّحر ، وسواء أتركت بعذرٍ أم بغير عذرٍ ، إلاّ أنّها إذا تركت بغير عذرٍ فإنّ ذلك مكروه ، وتلحقهم الإساءة ، وتكون أداءً في هذه الأيّام ، وإنّما جاز الأداء في هذه الأيّام استدلالاً بالأضحيّة ، فإنّها جائزة في اليوم الثّاني والثّالث ، فكذا صلاة العيد ، لأنّها معروفة بوقت الأضحيّة فتتقيّد بأيّامها .
وهذا بالنّسبة للجماعة ، أمّا المنفرد إذا فاتته صلاة العيد فلا قضاء عليه ، هذا مذهب الحنفيّة . ومثله الشّافعيّة والحنابلة ، إلاّ أنّهم يجيزون صلاتها في كلّ أيّام التّشريق وفيما بعد أيّام التّشريق ، ويعتبرونها قضاءً لا أداءً . وعند المالكيّة قال في المدوّنة : من فاتته صلاة العيد مع الإمام يستحبّ له أن يصلّيها من غير إيجابٍ ، وقال ابن حبيبٍ : إن فاتت صلاة العيد جماعةً ، فأرادوا أن يصلّوا بجماعتهم فلا بأس أن يجمعها مع نفرٍ من أهله ، قال سحنون : لا أرى أن يجمعوا ، وإن أحبّوا صلّوا أفذاذاً .
ج - الصّوم في أيّام التّشريق :
10- من الأيّام الّتي نهى عن الصّيام فيها أيّام التّشريق ، ففي صحيح مسلمٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « أيّامُ منًى أيّامُ أكلٍ وشربٍ وذكر للّه » إلاّ أنّه يجوز للمتمتّع أو القارن الّذي لم يجد الهدي أن يصوم هذه الأيّام ، لما روي عن ابن عمر وعائشة رضي الله تعالى عنهم أنّهما قالا : « لم يرخّص في أيّام التّشريق أن يُصَمْن إلاّ لمن لم يجد الهدي » .
وهذا عند الحنابلة والمالكيّة ، وفي القديم عند الشّافعيّة ، وروي عن الإمام أحمد أنّه لا يجوز صيام أيّام التّشريق عن الهدي .
وعند الحنفيّة ، وفي الجديد عند الشّافعيّة : لا يجوز صومها للنّهي الوارد في ذلك .
ومن نذر صوم سنةٍ لم يدخل في نذره أيّام التّشريق ، وأفطر ولا قضاء عليه ، لأنّه مستحقّ للفطر ولا يتناولها النّذر .
وهذا عند الحنابلة والشّافعيّة والمالكيّة ، وهو قول زفر ورواية أبي يوسف وابن المبارك عن أبي حنيفة ، وروى محمّد عن أبي حنيفة أنّه يصحّ نذره في هذه الأيّام ، لكن الأفضل أن يفطر فيها ويصوم في أيّامٍ أخر ، ولو صام في هذه الأيّام يكون مسيئاً لكنّه يخرج عن النّذر .
وروي عن الإمام مالكٍ أنّه يجوز صوم اليوم الثّالث من أيّام التّشريق لمن نذره .
ح - الخطبة في الحجّ في أيّام التّشريق :
11- يستحبّ أن يخطب الإمام في اليوم الثّاني من أيّام التّشريق خطبةً يعلّم النّاس فيها حكم التّعجيل والتّأخير وتوديعهم ، لما روي عن « رجلين من بني بكرٍ قالا : رأينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيّام التّشريق ونحن عند راحلته » .
وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة . وعند المالكيّة والحنفيّة - غير زفر - تكون الخطبة في اليوم الأوّل من أيّام التّشريق ، وهو ثاني أيّام النّحر .
خ - المبيت بمنًى ليالي أيّام التّشريق :
12 - المبيت بمنًى ليالي أيّام التّشريق واجب عند جمهور الفقهاء ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ، قالت السّيّدة عائشة رضي الله عنها : « أفاض رسول اللّه من آخر يومه حين صلّى الظّهر ، ثمّ رجع إلى منًى فمكث بها ليالي أيّام التّشريق » وقال ابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهما : « لم يرخّص النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأحدٍ أن يبيت بمكّة إلاّ للعبّاس من أجل سقايته » ، وروى الأثرم عن ابن عمر قال :" لا يبيتنّ أحد من الحاجّ إلاّ بمنًى ، وكان يبعث رجالاً لا يَدَعُون أحداً يبيت وراء العقبة ".
وعند الحنفيّة ، وفي قولٍ للشّافعيّة ، وروايةً عن الإمام أحمد : أنّ المبيت بمنًى ليالي أيّام التّشريق سنّة وليس بواجبٍ ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « رخّص للعبّاس أن يبيت بمكّة من أجل سقايته » ولو كان ذلك واجباً لم يكن للعبّاس أن يترك الواجب لأجل السّقاية ، ولا كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يرخّص له في ذلك ، وفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم محمول على السّنّة توفيقاً بين الدّليلين .
ومن ترك المبيت بمنًى ليلةً أو أكثر من ليالي أيّام التّشريق فعند الجمهور عليه دم لتركه الواجب ، وعند القائلين بأنّ المبيت سنّة فقد أساء لتركه السّنّة ولا شيء عليه .
والمبيت بمنًى ليالي أيّام التّشريق كلّها إنّما هو بالنّسبة لغير المتعجّل ، أمّا من تعجّل فليس عليه سوى مبيت ليلتين فقط ، ولا إثم عليه في ترك مبيت اللّيلة الثّالثة للآية الكريمة . ويرخّص في ترك المبيت بمنًى للسّقاة والرّعاة ، لحديث ابن عمر « أنّ العبّاس استأذن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكّة ليالي منًى من أجل سقايته فأذن له » ولحديث مالكٍ : « رخّص النّبيّ صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النّحر ، ثمّ يجمعوا رمي يومين بعد يوم النّحر ، فيرمونه في أحدهما » قال مالك : ظننت أنّه قال : في يومٍ منهما ، ثمّ يرمون يوم النّفر . والمريض ، ومن له مال يخاف عليه ونحوه ، كغيره من السّقاة والرّعاة ، وفي رواية ابن نافعٍ عن الإمام مالكٍ : أنّ من ترك المبيت بمنًى لضرورةٍ ، كخوفه على متاعه عليه هدي ، وإن لم يأثم . وتفصيل ذلك في مصطلح ( حجٍّ ، ورميٍ ) .
د - التّكبير في أيّام التّشريق :
13 - التّكبير في أيّام التّشريق مشروع لقوله تعالى : { واذكروا اللّهَ في أيّامٍ مَعْدُوداتٍ } ، والمراد أيّام التّشريق ، وهذا باتّفاق الفقهاء ، عدا أبا حنيفة فإنّه لا تكبير عنده في أيّام التّشريق .
ومع اتّفاق الفقهاء على مشروعيّة التّكبير في أيّام التّشريق ، فإنّهم يختلفون في حكمه ، فعند الحنابلة والشّافعيّة وبعض الحنفيّة هو سنّة لمواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك . وهو مندوب عند المالكيّة ، والصّحيح عند الحنفيّة أنّه واجب ، للأمر به في قوله تعالى : { واذْكروا اللّهَ في أيّامٍ معدوداتٍ } .
كذلك اختلف الفقهاء في وقت التّكبير ، فبالنّسبة للبدء فإنّه باتّفاق الفقهاء يكون قبل بداية أيّام التّشريق ، مع اختلافهم في كونه من ظهر يوم النّحر كما يقول المالكيّة وبعض الشّافعيّة ، أو من فجر يوم عرفة كما يقول الحنابلة وعلماء الحنفيّة في ظاهر الرّواية وفي قولٍ للشّافعيّة . وأمّا بالنّسبة للختم فعند الحنابلة وأبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة ، وفي قولٍ للشّافعيّة والمالكيّة يكون إلى عصر آخر أيّام التّشريق .
والمعتمد عند المالكيّة ، وفي قولٍ للشّافعيّة يكون إلى صبح آخر أيّام التّشريق . وقال ابن بشيرٍ من المالكيّة : يكون إلى ظهر آخر أيّام التّشريق . والتّكبير في هذه الأيّام يكون عقيب الصّلوات المفروضة ، ولا يكون بعد النّافلة ، إلاّ في قولٍ للشّافعيّة .
وما فات من الصّلوات في أيّام التّشريق فقضي فيها فإنّه يكبّر خلفها ، وهذا عند الحنابلة والحنفيّة وفي وجهٍ عند الشّافعيّة .
أمّا إن قضى في غيرها فلا يكبّر خلفها باتّفاقٍ .
وما فات من الصّلوات في غير أيّام التّشريق فقضي فيها ، فعند الحنابلة يكبّر خلفها .
ولا تكبير خلف مقضيّةٍ مطلقاً عند المالكيّة .
وصفة التّكبير هو أن يقول : اللّه أكبر ، اللّه أكبر ، لا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر ، اللّه أكبر ، وللّه الحمد . وهذا عند الحنفيّة والحنابلة . وعند المالكيّة والشّافعيّة يكبّر ثلاثاً في الأوّل . وفي موضوع التّكبير تفصيلات أخرى تنظر في : ( تكبيرٍ - عيدٍ ) .
أيّام منًى *
التّعريف :
1 - أيّام منًى أربعة هي : يوم النّحر وثلاثة أيّامٍ بعده ، وهي الحادي عشر ، والثّاني عشر ، والثّالث عشر من ذي الحجّة . وقد أطلق عليها هذا الاسم لعودة الحجّاج إلى منًى بعد طواف الإفاضة في اليوم العاشر من ذي الحجّة ، والمبيت بها ليالي هذا الأيّام الثّلاثة . كما أنّه يطلق على هذه الأيّام أيّام منًى ، فإنّه يطلق عليها كذلك أيّام الرّمي ، وأيّام التّشريق ، وأيّام رمي الجمار ، والأيّام المعدودات . كلّ هذه الأسماء واقعة عليها ، ويعبّر بها الفقهاء ، إلاّ أنّه اشتهر التّعبير عندهم بأيّام التّشريق أكثر من غيره .
الحكم الإجماليّ :
2 - لأيّام منًى أحكام تتعلّق بها ، كالمبيت بمنًى في هذه الأيّام ، ورمي الجمار فيها .
وقد ذكر تفصيل هذه الأحكام في مصطلح أيّام التّشريق ، نظراً لشهرة هذه الأيّام بها .
( ر : أيّام ، التّشريق ) .
نهاية الجزء السابع / الموسوعة الفقهية
باءة *
التّعريف :
1- الباءة لغةً : النّكاح ، كنّي به عن الجماع . إمّا لأنّه لا يكون إلاّ في المنزل غالباً ، أو لأنّ الرّجل يتبوّأ من أهله - أي يستمكن منها - كما يتبوّأ من داره .
وفي الحديث : « يا معشرَ الشّباب ، من استطاعَ منكم البَاءَةَ فَلْيَتَزوّجْ ، فإنّه أَغَضُّ للبصرِ وأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ . ومن لم يستطعْ فعليه بالصّومِ ، فإنّه له وِجاءٌ » .
وقال شارح المنهاج : الباءة : مؤن النّكاح .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - أ - الباءة : هو الوطء .
ب - أهبة النّكاح : القدرة على مؤنه من مهرٍ وغيره ، فهي بمعنى الباءة على قول من فسّر الحديث بذلك .
الحكم الإجماليّ :
3 - الباءة بمعنى الوطء تنظر أحكامها في موضوعها ( ر : وطء ) .
أمّا بمعنى مؤن النّكاح فإنّ من وجدها ، وكانت نفسه تتوق إلى الوطء ، ولا يخشى الوقوع في المحرّم ، استحبّ له النّكاح . لقوله صلى الله عليه وسلم : « يا معشر الشّباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّجْ ... » الحديث . فإن كان يتحقّق الوقوع في المحظور ، فيفترض عليه النّكاح ، لأنّه يلزمه إعفاف نفسه ، وصونها عن الحرام .
قال ابن عابدين : ولأنّ ما لا يتوصّل إلى ترك الحرام إلاّ به يكون فرضاً .
أمّا إن وجد الأهبة ، وكان به مرض كهرمٍ ونحوه ، فإنّ من الفقهاء من كره له النّكاح ، ومنهم من قال بحرمته لإضراره بالمرأة . ويختلف الفقهاء في حكم النّكاح بالنّسبة لمن وجد الباءة ، ولم تتق نفسه للوطء ، منهم من يرى أنّ النّكاح أفضل . ومنهم من يرى أنّ التّخلّي للعبادة أفضل ، وتفصيل ذلك كلّه يذكره الفقهاء في أوّل كتاب النّكاح .
بادي *
انظر : بدو .
بازلة *
التّعريف :
1 - من معاني البزل في اللّغة : الشّقّ . يقال : بزل الرّجل الشّيء يبزله بزلاً : شقّه . والبازلة من الشّجاج : هي الّتي تبزل الجلد ، أي تشقّه ، يقال انبزل الطّلع : أي تشقّق .
أمّا في استعمال الفقهاء : فهي الّتي تشقّ الجلد ويرشح منها الدّم .
وسمّاها بعضهم - ومنهم الحنفيّة - الدّامعة ، لقلّة ما يخرج منها من الدّم ، تشبيهاً بدمع العين ، وسمّيت أيضاً : الدّامية .
الحكم الإجماليّ :
2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ في البازلة حكومة عدلٍ في العمد وغيره ، وقال المالكيّة : فيها القصاص في العمد . ولمّا كانت البازلة من أنواع الجراح في الجنايات تكلّم الفقهاء عنها في القصاص والدّيات . وتفصيل ذلك في أبواب الجنايات ، والدّيات .
باسور *
انظر : أعذار .
باضعة *
التّعريف :
1- من معاني البضع في اللّغة . الشّقّ . يقال : بضع الرّجل الشّيء يبضعه : إذا شقّه . ومنه الباضعة : وهي الشّجّة الّتي تشقّ اللّحم بعد الجلد ، ولا تبلغ العظم ،ولا يسيل بها الدّم.
الحكم الإجماليّ :
2 - الباضعة من أنواع الجراح في الرّأس ، وقد تكلّم الفقهاء عن حكمها في الجنايات والدّيات ، وتفصيلها فيهما . فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ فيها حكومة عدلٍ في العمد وغيره ، وهي ما يقدّره أهل الخبرة تعويضاً عن الجناية ، بما لا يزيد عن دية أصل العضو المصاب . وقال المالكيّة : فيها القصاص في العمد .
باطل *
انظر : بطلان .
باغي *
انظر : بغاةً .
بتات *
التّعريف :
1 - البتات في اللّغة : القطع المستأصل . يقال : بتتّ الحبل : أي قطعته قطعاً مستأصلاً . ويقال : طلّقها ثلاثاً بتّةً وبتاتاً : أي بتلةً بائنةً ، يعني قطعاً لا عود فيها . ويقال : الطّلقة الواحدة تبتّ وتبتّ : أي تقطع عصمة النّكاح إذا انقضت العدّة ، كما يقال : حلف على ذلك يميناً بتّاً وبتّةً وبتاتاً : أي يميناً قد أمضاها . ومثل البتات : البتّ ، وهو مصدر بتّ : إذا قطع . يقال : بتّ الرّجل طلاق امرأته ، وبتّ امرأته : إذا قطعها عن الرّجعة . وأبتّ طلاقها كذلك . ويستعمل الفعلان : بتّ وأبتّ لازمين كذلك ، فيقال : بتّ طلاقها ، وأبتّ ، وطلاق باتّ ومبتّ ، كما يستعمل البتّ بمعنى الإلزام فيقال : بتّ القاضي الحكم عليه : إذا قطعه ، أي ألزمه ، وبتّ النّيّة : جزمها .
ولا تختلف معاني هذه الألفاظ في الفقه عنها في اللّغة ، إلاّ أنّ الشّافعيّة يوقعون الطّلاق بلفظ " ألبتّة " رجعيّاً إن كانت المطلّقة مدخولاً بها ، ونوى بها أقلّ من الثّلاث .
كما أنّهم يعبّرون عن خلوّ العقد عن الخيار بالبتّ فيقال : البيع على البتّ .
وهو راجع إلى المعنى اللّغويّ كما لا يخفى . وكذا يعبّرون عن المعتدّة الّتي طلقت ثلاثاً ، أو فرّق بينها وبين زوجها بخيار الجبّ والعنّة ونحوهما بمعتدّة البتّ ، وهي خلاف الرّجعيّة .
الحكم الإجماليّ :
2 - ذهب المالكيّة والحنابلة إلى وقوع الطّلاق ثلاثاً ، فيمن طلّق زوجته بقوله : هي بتّة ، لأنّه طلّق امرأته بلفظٍ يقتضي البينونة . والبتّ : هو القطع ، فكأنّه قطع النّكاح له ، واحتجّوا على ذلك بعمل الصّحابة .
وعند الحنفيّة يقع واحدةً بائنةً ، لأنّه وصف الطّلاق بما يحتمل البينونة .
وقال الشّافعيّ : يرجع إلى ما نواه . وهي رواية عند الحنابلة اختارها أبو الخطّاب منهم . وتمام الكلام على ذلك محلّه كتاب الطّلاق .
مواطن البحث :
3 - تعرّض الفقهاء للبتات - ومثله بقيّة المصادر والمشتقّات - في كتاب الطّلاق ، في الكلام على ألفاظ الطّلاق كما سبق . كما تعرّضوا في كتاب العدّة لمعتدّة البتّ ، وهل عليها الإحداد ؟ . وفي الظّهار يذكرون أنّ البتات يلزم الزّوجة إن ظاهر منها زوجها بلفظٍ كنائيٍّ ، ونوى به الطّلاق ، على تفصيلٍ في ذلك . وفي الأيمان ذكروا معنى الحلف على البتّ ، ومقابله الحلف على العلم ، أو على نفي العلم ، ومتى يحلف الحالف على البتّ . وفي الشّهادة ذكروا بيّنة البتّ ، ومقابلها بيّنة السّماع ، ومتى تقدّم الأولى على الثّانية . وفي البيع تعرّضوا لذكر البيع على البتّ ، باعتباره مقابلاً للخيار فيه .
بتر *
التّعريف :
1 - البتر لغةً : استئصال الشّيء بالقطع ، يقال : بتر الذّنب أو العضو : إذا قطعه واستأصله ، كما يطلق على قطع الشّيء دون تمامٍ ، بأن يبقى من العضو شيء .
وقد استعمل اصطلاحاً بهذين المعنيين عند الفقهاء . وقد يطلق على كلّ قطعٍ ، ومنه قولهم : سيف بتّار أي قاطع .
الحكم الإجماليّ :
2 - البتر إمّا أن يكون عدواناً بجنايةٍ ، عمداً أو خطأً ، وذلك محرّم .
وإمّا أن يكون بحقٍّ ، كقطع اليد حدّاً أو قصاصاً .
وإمّا أن يكون من وسائل العلاج بقطع اليد المصابة بالآكلة لمنع السّراية للبدن .
تطهير موضع البتر :
3 - من قُطعتْ يده من دون المرفق غسل ما بقي من محلّ الفرض ، وإن قطعت من المرفق غسل العظم الّذي هو طرف العضد ، لأنّ غسل العظمين المتلاقيين من الذّراع والعضد واجب ، فإذا زال أحدهما غسل الآخر . وإن كان من فوق المرفقين سقط الغسل لعدم محلّه . وللتّفصيل ينظر ( الوضوء ، والغسل ) .
بتر الأعضاء لضرورةٍ :
4 - يجوز بتر عضوٍ فاسدٍ من أعضاء الإنسان ، خوفاً على سلامة الجسم من انتشار العلّة في الجميع . والتّفصيل في ( طبّ ، وتداوٍ ) .
بتر الأعضاء في الجنايات :
5 - بتر أعضاء الغير عمداً عدواناً يجب فيه القصاص ، بشروطه المبيّنة في مباحث القصاص فيما دون النّفس ، وقد يعدل عن القصاص لأسبابٍ معيّنةٍ تذكر في موضعها . ( ر : قصاص - جنايات ) . أمّا بتر العضو خطأً فتجب فيه الدّية المقدّرة لذلك العضو شرعاً أو الأرش بالاتّفاق . ويختلف مقدارها باختلاف العضو المبتور . ( ر : ديات ) .
أعضاء الحيوان المبتورة :
6 - ما بتر من أعضاء الحيوان الحيّ المأكول اللّحم حكمه حكم ميتته ، في حلّ أكله وفي نجاسته أو طهارته . فلو قطع طرف شاةٍ أو فخذها لم يحلّ ، ولو ضرب سمكةً فقطع جزءاً منها حلّ أكله ، لأنّ ميتتها حلال ، وذلك لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ما قُطِعَ من البَهِيمَةِ - وهي حيّة - فهو كَمَيْتٍ » .
وهذا على خلافٍ وتفصيلٍ يذكر في موضعه . ( ر : صيد : ذبائح ) .
وما بتر من أعضاء الإنسان حكمه حكم الإنسان الميّت في الجملة ، في وجوب تغسيله وتكفينه ودفنه وفي النّظر إليه ( ر : جنائز ) .
بتراء *
التّعريف :
1 - البتر لغةً : القطع ، والبتراء من الشّياه : مقطوعة الذّنب على غير تمامٍ ، يقال للأنثى : بتراء ، وللذّكر : أبتر . واصطلاحاً : لا يختلف معناه عن المعنى اللّغويّ .
الحكم الإجماليّ :
2 - استعمل العلماء لفظة " بتراء " في الشّاة المقطوعة الألية ، حيث تكلّموا عنها في الهدي والأضحيّة . فعند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة البتر من العيوب الّتي تمنع الإجزاء في الأضحيّة والهدي . وأمّا الحنابلة فلم يعدّوا ذلك عيباً يمنع الإجزاء ( ر : أضحيّة ، هدي ) .
بتع *
التّعريف :
1 - البتع : نبيذ يتّخذ من العسل في اليمن .
الحكم الإجماليّ :
2 - ذهب الجمهور من الفقهاء إلى أنّ كلّ مسكرٍ هو خمر ، يحرم شربه ، ويحرم بيعه ، واحتجّوا لذلك بعموم الحديث : « كلُّ شرابٍ أَسْكر فهو حرامٌ » وبقوله صلى الله عليه وسلم : « ما أَسكر كثيرُه فقليلُه حرام » وبناءً على ذلك فالبتع عندهم حرام ، لأنّه ممّا يسكر كثيره . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الخمر هي : النّيء من ماء العنب إذا غلا واشتدّ وقذف بالزّبد ، وأنّها هي المحرّمة لعينها ، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « حرّمت الخمر لعينها » دون غيرها من سائر الأشربة .
قالوا : لا يحرم شرب البتع ما دام شاربه لا يسكر منه ، فإذا وصل إلى حدّ الإسكار حرم ، ولذلك فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن البتع قال : « كلّ شرابٍ أسكر فهو حرام » يعني شرب منه حتّى السّكر ، ولكنّهم كرهوا شربه لدخوله في جملة ما يكره من الأشربة ، ولذلك قال عنه أبو حنيفة : البتع خمر يمانيّة . يقصد أنّ أهل اليمن يشربون منه حتّى السّكر ، وما حلّ شربه حلّ بيعه . وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في كتاب الأشربة .
بتعة *
انظر : بتلة .
بتلة *
التعريف :
1- بتل في اللغة : بمعنى قطع ، والمتبتل : المنقطع لعبادة الله تعالى . والبتلة : المنقطعة .
ولما كان الطلاق قطعاً لحبل الزواج ، حيث تصبح المرأة به منقطعة عن زوجها ، فإنه قد يكنى به عن الطلاق ، فيقال أنت بتلة أي طالق . ولذلك اعتبر الفقهاء لفظ " بتلة " من كنايات الطلاق الظاهرة ، ولم يكن صريحاً ، لأنه قد يقصد به الانقطاع في غير النكاح .
الحكم الإجمالي :
2- اتفق الفقهاء على أن لفظ " بتلة " من كنايات الطلاق ، وأنه لا يقع بها الطلاق إلا بالنية -كما هي القاعدة في الكنايات - وأنه إن نوى بها واحدة وقعت واحدة ، وإن نوى بها ثلاثاً وقع ثلاث ، وإن أطلق فلم ينو عدداً ، فمنهم من قال : يقع واحدة ، ومنهم من قال : يقع ثلاث ، وتفصيل ذلك في مصطلح ( طلاق ) .
بحح *
انظر : كلام .
بحر *
التّعريف :
1 - البحر : الماء الكثير ، ملحاً كان أو عذباً ، وهو خلاف البرّ ، وإنّما سمّي البحر بحراً لسعته وانبساطه ، وقد غلب استعماله في الماء الملح حتّى قلّ في العذب .
الألفاظ ذات الصّلة
أ - النّهر :
2 - النّهر : الماء الجاري ، يقال : نهر الماء إذا جرى في الأرض ، وكلّ كثيرٍ جرى فقد نهر ، واستنهر ولا يستعمل النّهر غالباً إلاّ في الماء العذب ، خلافاً للبحر .
ب - العين :
3 - العين : ينبوع الماء الّذي ينبع من الأرض ويجري . وهي من الألفاظ المشتركة ، لأنّها تطلق على معانٍ أخرى : كالجاسوس ، والذّهب ، والعين الباصرة .
الأحكام المتعلّقة بالبحر :
يتعلّق بالبحر أحكام منها :
أ - ماء البحر :
4 - اتّفق جمهور العلماء على طهوريّة ماء البحر وجواز التّطهّر به ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : « سأل رجل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه إنّا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضّأنا به عطشنا . أفنتوضّأ بماء البحر ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : هو الطَّهُورُ مَاؤُه ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ » .
وروي عن عمر رضي الله عنه أنّه قال " من لم يطهّره ماء البحر فلا طهّره اللّه "ولأنّه ماء باقٍ على أصل خلقته ، فجاز الوضوء به كالعذب . وحكي عن عبد اللّه بن عمر وعبد اللّه بن عمرٍو أنّهما قالا في البحر :" التّيمّم أعجب إلينا منه "، وحكاه الماورديّ عن سعيد بن المسيّب : أي كانوا لا يرون جواز الوضوء به . ( ر : طهارة ، ماء ) .
ب - صيد البحر :
5 - ذهب جمهور الفقهاء إلى إباحة صيد جميع حيوانات البحر ، سواء كانت سمكاً أو غيره . لقول اللّه تعالى : { أُحِلَّ لكم صَيدُ البحرِ وَطَعامُه } أي مصيده ومطعومه .
وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن ماء البحر :« هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته ». واستثنى الشّافعيّة والحنابلة : التّمساح والضّفدع ، للنّهي عن قتل الضّفدع ، فقد ثبت أنّ
« النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله » وروي عن ابن عمرٍو أنّه قال :" لا تقتلوا الضّفادع ، فإنّ نقيقها تسبيح ". وللاستخباث في التّمساح ، ولأنّه يتقوّى بنابه ويأكل النّاس . وزاد الحنابلة : الحيّة ، وصرّح الماورديّ من الشّافعيّة بتحريمها وغيرها من ذوات السّموم البحريّة ، وقصر الشّافعيّة التّحريم على الحيّة الّتي تعيش في البحر والبرّ ، وأمّا الحيّة الّتي لا تعيش إلاّ في الماء فحلال . وذهب الحنفيّة إلى إباحة السّمك من صيد البحر فقط دون غيره من الحيوانات البحريّة . وللتّفصيل انظر مصطلح ( أطعمة ) .
ج - ميتة البحر :
6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى إباحة ميتة البحر ، سواء كانت سمكاً أو غيره من حيوانات البحر ، لقول اللّه تعالى : { أُحِلَّ لكم صيدُ البحرِ وطعامُه } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته » ، وعن أبي بكرٍ رضي الله عنه أنّه قال :" كلّ دابّةٍ تموت في البحر فقد ذكّاها اللّه لكم ".
ولم يبح الحنفيّة إلاّ ميتة السّمك الّذي مات بآفةٍ ، وأمّا الّذي مات حتف أنفه ، وكان غير طافٍ ، فليس بمباحٍ . وحدّ الطّافي عندهم : ما كان بطنه من فوق ، فلو كان ظهره من فوق ، فليس بطافٍ فيؤكل . وللتّفصيل انظر مصطلح ( أطعمة ) .
د - الصّلاة في السّفينة :
7 - اتّفق الفقهاء على جواز الصّلاة في السّفينة من حيث الجملة ، شريطة أن يكون المصلّي مستقبلاً للقبلة عند افتتاح الصّلاة ، وأن يدور إلى جهة القبلة إن دارت السّفينة لغيرها إن أمكنه ذلك ، لوجوب الاستقبال . ولا فرق في ذلك بين الفريضة والنّافلة لتيسّر استقباله . وخالف الحنابلة في النّافلة ، وقصروا وجوب الدّوران إلى القبلة على الفريضة فقط ، ولا يلزمه أن يدور في النّفل للحرج والمشقّة ، وأجازوا كذلك للملّاح : ألاّ يدور في الفرض أيضاً لحاجته لتسيير السّفينة . وللتّفصيل انظر مصطلح ( قبلة ) .
هـ – حكم من مات في السّفينة :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ من مات في سفينة في البحر ، وأمكن دفنه لقرب البرّ ، ولا مانع ، لزمهم التّأخير ليدفنوه فيه ، ما لم يخافوا عليه الفساد ، وإلاّ غسّل وكفّن وصلّي عليه وألقي في البحر .
وزاد الشّافعيّة : أنّه يوضع بعد الصّلاة عليه بين لوحين لئلاّ ينتفخ ، ويلقى لينبذه البحر إلى السّاحل ، لعلّه يقع إلى قومٍ يدفنونه . فإن كان أهل السّاحل كفّاراً ثقّل بشيءٍ ليرسب .
فإن لم يوضع بين لوحين ثقّل بشيءٍ لينزل إلى القرار ، وإلى تثقيله ذهب الحنابلة أيضاً .
و - الموت غرقاً في البحر :
9 - ذهب العلماء إلى أنّه من مات في البحر غرقاً ، فإنّه شهيد ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الشّهداء خمسة : المطعون ، والمبطون ، والغريق ، وصاحب الهدم ، والشّهيد في سبيل اللّه » .
وإذا وجد الغريق فإنّه يغسّل ويكفّن ويصلّى عليه كأيّ ميّتٍ آخر ، وإذا لم يعثر عليه فيصلّى عليه صلاة الغائب عند الشّافعيّة والحنابلة ، وكرهها المالكيّة ، ومنعها الحنفيّة لاشتراطهم لصلاة الجنازة حضور الميّت أو حضور أكثر بدنه أو نصفه مع رأسه . ( ر : غسل )
بخار *
التّعريف :
1 - البخار لغةً واصطلاحاً : ما يتصاعد من الماء أو النّدى أو أيّ مادّةٍ رطبةٍ تتعرّض للحرارة . ويطلق البخار أيضاً على : دخان العود ونحوه . وعلى : كلّ رائحةٍ ساطعةٍ من نتنٍ أو غيره .
الألفاظ ذات الصّلة :
البخر :
2 - البخر هو : الرّائحة المتغيّرة من الفم . قال أبو حنيفة : البخر : النّتن يكون في الفم وغيره ، وهو أبخر ، وهي بخراء .
واستعمال الفقهاء للبخر مخصوص بالرّائحة الكريهة في الفم فقط .
الأحكام المتعلّقة بالبخار :
للبخار أحكام خاصّة ، فقد يكون طاهراً ، وقد يكون نجساً ، وينبني عليه جواز أو عدم جواز التّطهّر بما تقاطر من البخار .
أ - رفع الحدث بما جمع من النّدى :
3 - ذهب الفقهاء إلى جواز التّطهّر بالنّدى ، وهو المتجمّع على أوراق الشّجر إذا جمع ، لأنّه ماء مطلق . أمّا ما ورد عن بعض الفقهاء من أنّ النّدى : نفس دابّةٍ في البحر ، ومن ثمّ فهل هو طاهر أو نجس ؟ فلا يعوّل عليه .
ب - رفع الحدث بما جمع من البخار :
4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز التّطهّر من الحدث وتطهير النّجس بما جمع من بخار الماء الطّاهر المغليّ بوقودٍ طاهرٍ ، لأنّه ماء مطلق ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة ، خلافاً لما ذهب إليه الرّافعيّ منهم إلى أنّه لا يرفع الحدث ، لأنّه لا يسمّى ماءً ، بل هو بخار .
أمّا البخار المتأثّر بدخان النّجاسة فهو مختلف في طهارته ، بناءً على اختلاف الفقهاء في دخان النّجاسة ، هل هو طاهر أم نجس ؟ .
فذهب الحنفيّة على المفتى به ، والمالكيّة في المعتمد ، وبعض الحنابلة إلى : أنّ دخان النّجاسة وبخارها طاهران ، قال الحنفيّة : إنّ ذلك على سبيل الاستحسان دفعاً للحرج . وبناءً على هذا فإنّ البخار المتصاعد من الماء النّجس طهور يزيل الحدث والنّجس .
وذهب الشّافعيّة ، وأبو يوسف من الحنفيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة إلى : أنّ دخان النّجاسة نجس كأصلها ، وعلى هذا فالبخار المتأثّر بدخان النّجاسة نجس لا تصحّ الطّهارة به ، لكن ذهب الشّافعيّة إلى أنّه يعفى عن قليله .
وأمّا البخار المتصاعد من الحمّامات وغيرها - كالغازات الكريهة المتصاعدة من النّجاسة - إذا علقت بالثّوب ، فإنّه لا ينجس على الصّحيح من مذهب الحنفيّة ، تخريجاً على الرّيح الخارجة من الإنسان ، فإنّها لا تنجس ، سواء أكانت سراويله مبتلّةً أم لا ، والظّاهر أنّ بقيّة المذاهب لا تخالف مذهب الحنفيّة في هذا .
بخر *
التّعريف :
1 - البخر : الرّائحة المتغيّرة من الفم من نتنٍ وغيره . يقال : بخر الفم بخراً من باب تعب ، إذا أنتن وتغيّر ريحه ، ولم يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى .
الحكم الإجماليّ :
2 - لمّا كان البخر في الإنسان يؤدّي إلى النّفرة والتّأذّي اعتبره الفقهاء عيباً ، واتّفقوا على أنّه من العيوب الّتي يثبت بها الخيار في بيع الإماء .
وأمّا في النّكاح : فقد اختلفوا في ثبوت الخيار والفسخ به .
فقال الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو القول الآخر للحنابلة : لا يثبت به الخيار ولا يفرّق به بين الزّوجين . وقال المالكيّة ، وهو رأي للحنابلة : يثبت بالبخر الخيار والفسخ في النّكاح . وينظر تفصيل القول في ذلك في باب خيار العيب في البيوع ، وباب العيب في النّكاح .
وأمّا في التّرخيص لمن به بخر في حضور الجماعات والجمع وعدمه - فيرجع في ذلك إلى باب صلاة الجماعة .
بخس *
انظر : غبن .
البخيلة *
التّعريف :
1 - البخيلة من مسائل العَوْل في الميراث ، سمّيت بخيلةً ، لأنّها أقلّ الأصول عولاً . وتسمّى ( المنبريّة ) لأنّ عليّاً رضي الله عنه سئل عنها على المنبر . وهي من سهام الفرائض الّتي تعول ، وتأتي في المسألتين اللّتين يعول فيهما أصل أربعةٍ وعشرين إلى سبعةٍ وعشرين .
2 - المسألة الأولى : هي الّتي يكون فيها نصف وثمن وثلاثة أسداسٍ ، كزوجةٍ وبنتٍ وأبوين وبنت ابنٍ ، فللزّوجة الثّمن ، وللبنت النّصف ، ولبنت الابن السّدس ، وللأبوين السّدسان .
3 - المسألة الثّانية : هي الّتي يكون فيها مع الثّمن ثلثان وسدسان ، كزوجةٍ وبنتين وأبوين ، فللزّوجة الثّمن ، وللبنتين الثّلثان ، وللأبوين السّدسان ، ومجموعها من الأربعة والعشرين سبعة وعشرون . وكلّ من هاتين المسألتين تسمّى البخيلة لقلّة عولها ، لأنّها تعول مرّةً واحدةً . والمسألة الثّانية تسمّى أيضاً ( المنبريّة ) لأنّ عليّاً سئل عنها وهو على المنبر فأجاب . وللتّفصيل ينظر ( الإرث ) عند الكلام عن العول .
بدعة *
التّعريف :
1 - البدعة لغةً : من بدع الشّيء يبدعه بدعاً ، وابتدعه : إذا أنشأه وبدأه .
والبدع : الشّيء الّذي يكون أوّلاً ، ومنه قوله تعالى : { قُلْ : ما كنتُ بِدْعاً من الرُّسُلِ } أي لست بأوّل رسولٍ بعث إلى النّاس ، بل قد جاءت الرّسل من قبل ، فما أنا بالأمر الّذي لا نظير له حتّى تستنكروني .
والبدعة : الحدث ، وما ابتدع في الدّين بعد الإكمال . وفي لسان العرب : المبتدع الّذي يأتي أمراً على شبهٍ لم يكن ، بل ابتدأه هو . وأبدع وابتدع وتبدّع : أتى ببدعةٍ ، ومنه قوله تعالى : { وَرَهْبَانِيّةً ابْتَدَعوها ما كَتَبْنَاها عليهم إلاّ ابْتِغَاءَ رِضْوانِ اللّه } وبدّعه : نسبه إلى البدعة ، والبديع : المحدث العجيب ، وأبدعت الشّيء : اخترعته لا على مثالٍ ، والبديع من أسماء اللّه تعالى ، ومعناه : المبدع ، لإبداعه الأشياء وإحداثه إيّاها .
أمّا في الاصطلاح ، فقد تعدّدت تعريفات البدعة وتنوّعت ، لاختلاف أنظار العلماء في مفهومها ومدلولها .
فمنهم من وسّع مدلولها ، حتّى أطلقها على كلّ مستحدثٍ من الأشياء ، ومنهم من ضيّق ما تدلّ عليه ، فتقلّص بذلك ما يندرج تحتها من الأحكام . وسنوجز هذا في اتّجاهين .
الاتّجاه الأوّل :
2 - أطلق أصحاب الاتّجاه الأوّل البدعة على كلّ حادثٍ لم يوجد في الكتاب والسّنّة ، سواء أكان في العبادات أم العادات ، وسواء أكان مذموماً أم غير مذمومٍ .
ومن القائلين بهذا الإمام الشّافعيّ ، ومن أتباعه العزّ بن عبد السّلام ، والنّوويّ ، وأبو شامة . ومن المالكيّة : القرافيّ ، والزّرقانيّ . ومن الحنفيّة : ابن عابدين . ومن الحنابلة : ابن الجوزيّ . ومن الظّاهريّة : ابن حزمٍ . ويتمثّل هذا الاتّجاه في تعريف العزّ بن عبد السّلام للبدعة وهو : أنّها فعلُ ما لم يُعْهد في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وهي منقسمة إلى بدعةٍ واجبةٍ ، وبدعةٍ محرّمةٍ ، وبدعةٍ مندوبةٍ ، وبدعةٍ مكروهةٍ ، وبدعةٍ مباحةٍ . وضربوا لذلك أمثلةً :
فالبدعة الواجبة : كالاشتغال بعلم النّحو الّذي يفهم به كلام اللّه ورسوله ، وذلك واجب ، لأنّه لا بدّ منه لحفظ الشّريعة ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب .
والبدعة المحرّمة من أمثلتها : مذهب القدريّة ، والجبريّة ، والمرجئة ، والخوارج .
والبدعة المندوبة : مثل إحداث المدارس ، وبناء القناطر ، ومنها صلاة التّراويح جماعةً في المسجد بإمامٍ واحدٍ .
والبدعة المكروهة : مثل زخرفة المساجد ، وتزويق المصاحف .
والبدعة المباحة : مثل المصافحة عقب الصّلوات ، ومنها التّوسّع في اللّذيذ من المآكل والمشارب والملابس . واستدلّوا لرأيهم في تقسيم البدعة إلى الأحكام الخمسة بأدلّةٍ منها :
أ - قول عمر رضي الله عنه في صلاة التّراويح جماعةً في المسجد في رمضان" نِعْمَتِ البدعةُ هذه ". فقد روي عن عبد الرّحمن بن عبد القاريّ أنّه قال :" خرجت مع عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ليلةً في رمضان إلى المسجد ، فإذا النّاس أوزاعٌ متفرّقون ، يصلّي الرّجل لنفسه ، ويصلّي الرّجل فيصلّي بصلاته الرّهْطُ . فقال عمر : إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئٍ واحدٍ لكان أمثل ، ثمّ عزم ، فجمعهم على أبيّ بن كعبٍ ، ثمّ خرجت معه ليلةً أخرى ، والنّاس يصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نعم البدعة هذه ، والّتي ينامون عنها أفضل من الّتي يقومون . يريد آخر اللّيل . وكان النّاس يقومون أوّله ".
ب - تسمية ابن عمر صلاة الضّحى جماعةً في المسجد بدعةً ، وهي من الأمور الحسنة . روي عن مجاهدٍ قال :" دخلت أنا وعروة بن الزّبير المسجد ، فإذا عبد اللّه بن عمر جالس إلى حجرة عائشة ، وإذا ناس يصلّون في المسجد صلاة الضّحى ، فسألناه عن صلاتهم ، فقال : بدعة ".
ج - الأحاديث الّتي تفيد انقسام البدعة إلى الحسنة والسّيّئة ، ومنها ما روي مرفوعاً : « من سنَّ سُنَّةً حَسَنةً ، فله أجرُها وأجرُ من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سنَّ سُنّةً سيّئةً ، فعليه وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عَمِلَ بها إلى يوم القيامة » .
الاتّجاه الثّاني :
3 - اتّجه فريق من العلماء إلى ذمّ البدعة ، وقرّروا أنّ البدعة كلّها ضلالة ، سواء في العادات أو العبادات . ومن القائلين بهذا الإمام مالك والشّاطبيّ والطّرطوشيّ . ومن الحنفيّة : الإمام الشّمنّيّ ، والعينيّ . ومن الشّافعيّة : البيهقيّ ، وابن حجرٍ العسقلانيّ ، وابن حجرٍ الهيتميّ . ومن الحنابلة : ابن رجبٍ ، وابن تيميّة .
وأوضح تعريفٍ يمثّل هذا الاتّجاه هو تعريف الشّاطبيّ ، حيث عرّف البدعة بتعريفين :
الأوّل أنّها : طريقة في الدّين مخترعة ، تضاهي الشّرعيّة ، يقصد بالسّلوك عليها المبالغة في التّعبّد للّه سبحانه . وهذا التّعريف لم يدخل العادات في البدعة ، بل خصّها بالعبادات ، بخلاف الاختراع في أمور الدّنيا .
الثّاني أنّها : طريقة في الدّين مخترعة تضاهي الشّريعة يقصد بالسّلوك عليها ما يقصد بالطّريقة الشّرعيّة . وبهذا التّعريف تدخل العادات في البدع إذا ضاهت الطّريقة الشّرعيّة ، كالنّاذر للصّيام قائماً لا يقعد متعرّضاً للشّمس لا يستظلّ ، والاقتصار في المأكل والملبس على صنفٍ دون صنفٍ من غير علّةٍ . واستدلّ القائلون بذمّ البدعة مطلقاً بأدلّةٍ منها :
أ - أخبر اللّه أنّ الشّريعة قد كملت قبل وفاة الرّسول صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه :
{ اليومَ أَكْملتُ لكم دينَكم وأَتممتُ عليكم نِعْمتي ورضيتُ لكم الِإسلامَ دِيناً } فلا يتصوّر أن يجيء إنسان ويخترع فيها شيئاً ، لأنّ الزّيادة عليها تعتبر استدراكاً على اللّه سبحانه وتعالى . وتوحي بأنّ الشّريعة ناقصة ، وهذا يخالف ما جاء في كتاب اللّه .
ب - وردت آيات قرآنيّة تذمّ المبتدعة في الجملة ، من ذلك قوله تعالى : { وأَنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبِعوه ولا تَتَّبِعُوا السُّبلَ فَتَفَرَّقَ بكم عن سبيلِهِ } .
ج - كلّ ما ورد من أحاديث عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في البدعة جاء بذمّها ، من ذلك حديث العرباض بن سارية : « وَعَظَنَا رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغةً ، ذَرَفتْ منها العيونُ ، وَوَجلَتْ منها القلوبُ . فقال قائل : يا رسولَ اللّه كأنّها موعظةُ مودِّعٍ فما تَعْهَد إلينا . فقال : أوصيكم بتقوى اللّه والسّمعِ والطّاعةِ لولاة الأمرِ ، وإن كان عبداً حبشيّاً ، فإنّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين ، تمسّكوا بها ، وعضّوا عليها بالنّواجذ ، وإيّاكم ومُحْدَثاتِ الأمورِ . فإنَّ كلّ مُحْدَثَةٍ بِدعةٌ ، وكلّ بدعةٍ ضلالة » .
( د ) أقوال الصّحابة في ذلك ، من هذا ما روي عن مجاهدٍ قال :" دخلت مع عبد اللّه بن عمر مسجداً ، وقد أذّن فيه ، ونحن نريد أن نصلّي فيه ، فثوّب المؤذّن ، فخرج عبد اللّه بن عمر من المسجد ، وقال : " اخرج بنا من عند هذا المبتدع " ولم يصلّ فيه .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - المحدثات :
4 - الحديث نقيض القديم ، والحدوث : كون شيءٍ بعد أن لم يكن . ومحدثات الأمور : ما ابتدعه أهل الأهواء من الأشياء الّتي كان السّلف الصّالح على غيرها . وفي الحديث :
« إيّاكم ومحدثات الأمور » والمحدثات جمع محدثةٍ بالفتح ، وهي : ما لم يكن معروفاً في كتابٍ ولا سنّةٍ ولا إجماعٍ . وعلى هذا المعنى تلتقي المحدثات مع البدعة على المعنى الثّاني .
ب - الفطرة :
5 - الفطرة : الابتداء والاختراع . وفطر اللّه الخلق : خلقهم وبدأهم ، ويقال : أنا فطرت الشّيء أي : أوّل من ابتدأه . وعلى هذا الوجه يلتقي مع البدعة في بعض معانيها اللّغويّة .
ج - السّنّة :
6 - السّنّة في اللّغة : الطّريقة ، حسنةً كانت أو سيّئةً . قال عليه الصلاة والسلام : « من سَنَّ سُنّةً حسنةً فله أجرُها وأجرُ من عَمِل بها إلى يوم القيامة ، ومن سَنّ سنّةً سيّئةً فعليه وِزْرها وَوِزْرُ من عَمِل بها إلى يوم القيامة » .
وفي الاصطلاح : هي الطّريقة المسلوكة الجارية في الدّين المأثورة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أو صحبه . لقوله صلى الله عليه وسلم : « عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين من بعدي » وهي بهذا المعنى مقابلة للبدعة ومضادّة لها تماماً .
وللسّنّة إطلاقات أخرى شرعيّة اشتهرت بها ، منها : أنّها تطلق على الشّريعة كلّها ، كقولهم : الأولى بالإمامة الأعلم بالسّنّة . ومنها : ما هو أحد الأدلّة الأربعة الشّرعيّة ، وهو ما صدر عن رسول اللّه - غير القرآن - من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ . ومنها : ما يعمّ النّفل ، وهو ما فعله خير من تركه من غير افتراضٍ ولا وجوبٍ .
د - المعصية :
7 - العصيان : خلاف الطّاعة يقال : عصى العبد ربّه إذا خالف أمره ، وعصى فلان أميره : إذا خالف أمره . وشرعاً : عصيان أمر الشّارع قصداً ، وهي ليست بمنزلةٍ واحدةٍ .
فهي إمّا كبائر وهي : ما يترتّب عليها حدّ ، أو وعيد بالنّار أو اللّعنة أو الغضب ، أو ما اتّفقت الشّرائع على تحريمه ، على اختلافٍ بين العلماء في تحديدها .
وإمّا صغائر وهي : ما لم يترتّب عليها شيء ممّا ذكر إذا اجتنب الإصرار عليها ، لقوله تعالى : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ ما تُنْهَونَ عنه نُكَفِّرْ عنكم سيّئاتِكم } وعلى هذا تكون البدعة أعمّ من المعصية ، حيث تشمل المعصية ، كالبدعة المحرّمة والمكروهة كراهة تحريمٍ ، وغير المعصية كالواجبة والمستحبّة والمباحة .
هـ – المصلحة المرسلة :
8 – المصلحة لغةً كالمنفعة وزناً ومعنًى ، فهي مصدر بمعنى الصّلاح ، أو هي اسم للواحد من المصالح . والمصلحة المرسلة اصطلاحاً هي : المحافظة على مقصود الشّرع المنحصر في الضّروريّات . الخمس ، كما قال الإمام الغزاليّ رحمه الله ، أو هي اعتبار المناسب الّذي لا يشهد له أصل معيّن عند الشّاطبيّ ، أو هي أن يرى المجتهد أنّ هذا الفعل فيه منفعة راجحة وليس في الشّرع ما ينفيه عند ابن تيميّة . أو هي أن يناط الأمر باعتبارٍ مناسبٍ لم يدلّ الشّرع على اعتباره ولا إلغائه إلاّ أنّه ملائم لتصرّفات الشّرع ، إلى غير ذلك من التّعريفات الأخرى الّتي يرجع لتفاصيلها إلى مصطلح ( مصلحة مرسلة ) .
حكم البدعة التّكليفيّ :
9 - ذهب الإمام الشّافعيّ والعزّ بن عبد السّلام وأبو شامة ، والنّوويّ من الشّافعيّة ، والإمام القرافيّ والزّرقانيّ من المالكيّة ، وابن الجوزيّ من الحنابلة ، وابن عابدين من الحنيفة إلى تقسيم البدعة تبعاً للأحكام الخمسة إلى : واجبةٍ أو محرّمةٍ أو مندوبةٍ أو مكروهةٍ أو مباحةٍ . وضربوا لكلٍّ من هذه الأقسام أمثلةً :
فمن أمثلة البدعة الواجبة : الاشتغال بعلم النّحو ، الّذي يفهم به كلام اللّه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لأنّ حفظ الشّريعة واجب ، ولا يتأتّى حفظها إلاّ بمعرفة ذلك ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب . وتدوين الكلام في الجرح والتّعديل لتمييز الصّحيح من السّقيم ، لأنّ قواعد الشّريعة دلّت على أنّ حفظ الشّريعة فرض كفايةٍ فيما زاد على القدر المتعيّن ، ولا يتأتّى حفظها إلاّ بما ذكرناه .
ومن أمثلة البدعة المحرّمة : مذهب القدريّة والخوارج والمجسّمة .
ومن أمثلة البدعة المندوبة : إحداث المدارس وبناء القناطر وصلاة التّراويح في المسجد جماعةً .
ومن أمثلة المكروهة : زخرفة المساجد وتزويق المصاحف .
وأمّا أمثلة البدعة المباحة فمنها : المصافحة عقيب صلاة الصّبح والعصر ، ومنها التّوسّع في اللّذيذ من المآكل والمشارب والملابس . هذا وقد قسّم العلماء البدعة المحرّمة إلى بدعةٍ مكفّرةٍ وغير مكفّرةٍ ، وصغيرةٍ وكبيرةٍ على ما سيأتي .
البدعة في العقيدة :
10 - اتّفق العلماء على أنّ البدعة في العقيدة محرّمة ، وقد تتدرّج إلى أن تصل إلى الكفر . فأمّا الّتي تصل إلى الكفر فهي أن تخالف معلوماً من الدّين بالضّرورة ، كبدعة الجاهليّين الّتي نبّه عليها القرآن الكريم في قوله تعالى : { ما جَعَل اللّهُ من بَحِيرَةٍ ولا سَائِبَةٍ ولا وَصِيلَةٍ ولا حَامٍ } وقوله تعالى : { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصةٌ لِذُكورنا ومُحَرَّمٌ على أزواجنا وإنْ يكن مَيْتَةً فهم فيه شركاءُ } وحدّدوا كذلك ضابطاً للبدعة المكفّرة ، وهي : أن يتّفق الكلّ على أنّ هذه البدعة كفر صراح لا شبهة فيه .
البدعة في العبادات :
اتّفق العلماء على أنّ البدعة في العبادات منها ما يكون حراماً ومعصيةً ، ومنها ما يكون مكروهاً .
أ - البدعة المحرّمة :
11 - ومن أمثلتها : بدعة التّبتّل والصّيام قائماً في الشّمس ، والخصاء لقطع الشّهوة في الجماع والتّفرّغ للعبادة . لما جاء عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حديث الرّهط الّذين فعلوا ذلك : « جاء ثلاثةُ رَهْطٍ إلى بيوتِ أزواج رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته ، فلمّا أُخبِروا كأنّهم تَقَالّوها ، فقالوا : وأينَ نحنُ من النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد غفرَ اللّه له ما تَقَدّمَ من ذنبه وما تَأَخّرَ . قال أحدُهم : أمّا أنا فإنّي أصلّي اللّيلَ أبداً ، وقال الآخر : أنا أصومُ الدّهرَ ولا أفطرُ ، وقال الآخر : أنا أعتزلُ النّساءَ فلا أتزوّجُ أبداً ، فجاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : أنتم الّذين قلتم كذا وكذا ، أمَا واللّه إنّي لَأَخْشَاكم لِلّه وأتقاكُم له . لكنّي أصومُ وأفطرُ ، وأصلّي وأرقدُ ، وأتزوّجُ النّساء ، فَمَنْ رغِبَ عن سنّتي فليس منّي » .
ب - البدعة المكروهة :
12 - قد تكون البدعة في العبادات من المكروهات ، مثل الاجتماع عشيّة عرفة للدّعاء لغير الحجّاج فيها ، وذكر السّلاطين في خطبة الجمعة للتّعظيم ، أمّا للدّعاء فسائغ ، وكزخرفة المساجد . جاء عن محمّد بن أبي القاسم عن أبي البحتريّ قال :" أخبر رجل عبد اللّه بن مسعودٍ أنّ قوماً يجلسون في المسجد بعد المغرب فيهم رجل يقول : كبّروا اللّه كذا وكذا ، وسبّحوا اللّه كذا وكذا ، واحمدوا اللّه كذا وكذا ، قال عبد اللّه : فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني فأخبرني بمجلسهم ، فأتاهم فجلس ، فلمّا سمع ما يقولون قام فأتى ابن مسعودٍ فجاء - وكان رجلاً حديداً - فقال أنا عبد اللّه بن مسعودٍ ، واللّه الّذي لا إله غيره لقد جئتم ببدعةٍ ظلماً ، ولقد فضلتم أصحاب محمّدٍ صلى الله عليه وسلم علماً . فقال عمرو بن عتبة : أستغفر اللّه . فقال عليكم بالطّريق فالزموه ، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلّنّ ضلالاً بعيداً ".
البدعة في العادات :
13 - البدعة في العادات منها المكروه ، كالإسراف في المآكل والمشارب ونحوها .
ومنها المباح ، مثل التّوسّع في اللّذيذ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن ، ولبس الطّيالسة ، وتوسيع الأكمام ، من غير سرفٍ ولا اختيالٍ .
وذهب قوم إلى أنّ الابتداع في العادات الّتي ليس لها تعلّق بالعبادات جائز ، لأنّه لو جازت المؤاخذة في الابتداع في العادات لوجب أن تعدّ كلّ العادات الّتي حدثت بعد الصّدر الأوّل - من المآكل والمشارب والملابس والمسائل النّازلة - بدعاً مكروهاتٍ ، والتّالي باطل ، لأنّه لم يقل أحد بأنّ تلك العادات الّتي برزت بعد الصّدر الأوّل مخالفةً لهم ، ولأنّ العادات من الأشياء الّتي تدور مع الزّمان والمكان .
دواعي البدعة وأسبابها :
14 - دواعي البدعة وأسبابها وبواعثها كثيرة ومتعدّدة ، يصعب حصرها ، لأنّها تتجدّد وتتنوّع حسب الأحوال والأزمان والأمكنة والأشخاص ، وأحكام الدّين وفروعه كثيرة ، والانحراف عنها واتّباع سبل الشّيطان في كلّ حكمٍ متعدّد الوجوه .
وكلّ خروجٍ إلى وسيلةٍ من وسائل الباطل لا بدّ له من باعثٍ .
ومع ذلك فمن الممكن إرجاع الدّواعي والأسباب إلى ما يأتي :
أ - الجهل بوسائل المقاصد :
15 - أنزل اللّه سبحانه وتعالى القرآن عربيّاً لا عجمة فيه ، بمعنى أنّه جارٍ في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب ، وقد أخبر اللّه تعالى بذلك فقال : { إنّا أنزلناه قرآناً عربيّاً } . وقال : { قرآناً عربيّاً غير ذي عوجٍ } ومن هذا يعلم أنّ الشّريعة لا تفهم إلاّ إذا فهم اللّسان العربيّ ، لقوله تعالى : { وكذلك أنزلناه حكماً عربيّاً } والإخلال في ذلك قد يؤدّي إلى البدعة .
ب - الجهل بالمقاصد :
16 - ما ينبغي للإنسان أن يعلمه ولا يجهله من المقاصد أمران :
- 1 - أنّ الشّريعة جاءت كاملةً تامّةً لا نقص فيها ولا زيادة ، ويجب أن ينظر إليها بعين الكمال لا بعين النّقص ، وأن يرتبط بها ارتباط ثقةٍ وإذعانٍ ، في عاداتها وعباداتها ومعاملاتها ، وألاّ يخرج عنها ألبتّة . وهذا الأمر أغفله المبتدعة فاستدركوا على الشّرع ، وكذبوا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وقيل لهم في ذلك فقالوا : نحن لم نكذب على رسول اللّه وإنّما كذبنا له . وحكي عن محمّد بن سعيدٍ ، المعروف بالأردنّيّ ، أنّه قال :" إذا كان الكلام حسناً لم أر فيه بأساً ، أجعل له إسناداً إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ".
- 2 - أن يوقن إيقاناً جازماً أنّه لا تضادّ بين آيات القرآن الكريم وبين الأحاديث النّبويّة بعضها مع بعضٍ ، أو بينها وبين القرآن الكريم ، لأنّ النّبع واحد ، وما كان الرّسول صلى الله عليه وسلم ينطق عن الهوى ، إن هو إلاّ وحيّ يوحى ، وإنّ قوماً اختلف عليهم الأمر لجهلهم ، هم الّذين عناهم الرّسول بقوله : « يقرءون القرآنَ لا يجاوِزُ حناجرَهم » .
فيتحصّل ممّا قدّمنا كمال الشّريعة وعدم التّضادّ بين نصوصها .
أمّا كمال الشّريعة فقد أخبرنا اللّه تعالى بذلك : { اليوم أكملتُ لكم دينَكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً } . وأمّا عدم التّضادّ في اللّفظ أو المعنى فقد بيّن اللّه أنّ المتدبّر لا يجد في القرآن اختلافاً ، لأنّ الاختلاف منافٍ للعلم والقدرة والحكمة { أفلا يَتَدَبَّرُونَ القرآنَ ولو كانَ من عندِ غيرِ اللّه لَوَجدوا فيه اختلافاً كثيراً } .
ج - الجهل بالسّنّة :
17 - من الأمور المؤدّية إلى البدعة الجهل بالسّنّة . والجهل بالسّنّة يعني أمرين :
الأوّل : جهل النّاس بأصل السّنّة .
والثّاني : جهلهم بالصّحيح من غيره ، فيختلط عليهم الأمر .
أمّا جهلهم بالسّنّة الصّحيحة ، فيجعلهم يأخذون بالأحاديث المكذوبة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وقد وردت الآثار من القرآن والسّنّة تنهي عن ذلك ، كقوله تعالى : { ولا تَقْفُ ما ليس لَكَ بهِ عِلْمٌ إنَّ السّمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مَسْئولاً } وقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من كَذَبَ عليَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبوّأ مَقْعَدَه من النّارِ » .
ومن جهلهم بالسّنّة ، جهلهم بدورها في التّشريع ، وقد بيّن اللّه سبحانه وتعالى مكانة السّنّة في التّشريع : { وَمَا آتاكم الرّسولُ فَخُذُوه وما نَهَاكم عنه فانتهوا } .
د - تحسين الظّنّ بالعقل :
18 - عدّ العلماء من دواعي البدعة تحسين الظّنّ بالعقل ، ويتأتّى هذا من جهة أنّ المبتدع يعتمد على عقله ، ولا يعتمد على الوحي وإخبار المعصوم صلى الله عليه وسلم فيجرّه عقله القاصر إلى أشياء بعيدةٍ عن الطّريق المستقيم ، فيقع بذلك في الخطأ والابتداع ، ويظنّ أنّ عقله موصّله ، فإذا هو مهلكه . وهذا لأنّ اللّه جعل للعقول في إدراكها حدّاً تنتهي إليه لا تتعدّاه ، من ناحية الكمّ ومن ناحية الكيف .
أمّا علم اللّه سبحانه فلا يتناهى ، والمتناهي لا يساوي ما لا يتناهى . ويتخلّص من ذلك :
- 1 - أنّ العقل ما دام على هذه الصّورة لا يجعل حاكماً بإطلاقٍ ، وقد ثبت عليه حاكم بإطلاقٍ ، وهو الشّرع ، والواجب عليه أن يقدّم ما حقّه التّقديم ، ويؤخّر ما حقّه التّأخير .
- 2 - إذا وجد الإنسان في الشّرع أخباراً يقتضي ظاهرها خرق العادة المألوفة - الّتي لم يسبق له أن رآها أو علم بها علماً صحيحاً - لا يجوز له أن يقدّم بين يديه لأوّل وهلةٍ الإنكار بإطلاقٍ ، بل أمامه أحد أمرين :
الأوّل : إمّا أن يصدّق به ويكل العلم فيه للرّاسخين في العلم والمتخصّصين فيه متمثّلاً بقوله تعالى : { والرّاسخونَ في العلمِ يقولون آمَنّا به كُلٌّ من عند ربّنا }
الثّاني : يتأوّل على ما يمكن حمله عليه من الآراء بمقتضى الظّاهر . ويحكم هذا كلّه قوله تعالى : { ثمّ جَعَلْناك على شَرِيعةٍ من الأَمْرِ فاتَّبِعْها ولا تَتَّبِعْ أهواءَ الّذينَ لا يعلمون } وقوله : { يَا أيّها الّذينَ آمنوا أطيعُوا اللّه وأطيعُوا الرّسولَ وأُولي الأمرِ منكم فإنْ تَنَازَعْتُمْ في شيءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللّه والرّسولِ إنْ كنتم تُؤْمنونَ باللّه واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً } .
هـ – اتّباع المتشابه :
19 – قال بعض العلماء : المتشابه هو ما اختلف فيه من أحكام القرآن ، وقال آخرون : هو ما تقابلت فيه الأدلّة . وقد نهى الرّسول صلى الله عليه وسلم عن اتّباع المتشابه بقوله : « إذا رأيتم الّذينَ يَتَّبِعُون ما تَشَابَهَ منه فأولئك الّذين سمّى اللّه فاحذَرُوهم » وقد ذكرهم القرآن في قوله تعالى : { هو الّذي أنزل عليك الكتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ فَأَمّا الّذينَ في قُلوبِهم زَيْغٌ فَيَتَّبِعُون ما تَشَابه مِنه } .
فليس نظرهم في الدّليل نظر المستبصر حتّى يكون هواه تحت حكمه ، بل نظر من حكم بالهوى . ثمّ أتى بالدّليل كالشّاهد له .
و - اتّباع الهوى :
20 - يطلق الهوى على ميل النّفس وانحرافها نحو الشّيء ، ثمّ غلب استعماله في الميل المذموم والانحراف السّيّئ . ونسبت البدع إلى الأهواء ، وسمّي أصحابها بأهل الأهواء ، لأنّهم اتّبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلّة مأخذ الافتقار إليها والتّعويل عليها ، بل قدّموا أهواءهم واعتمدوا على آرائهم ، ثمّ جعلوا الأدلّة الشّرعيّة منظوراً فيها من وراء ذلك .
21 - مداخل هذه الأهواء :
أ - اتّباع العادات والآباء وجعلها ديناً . قال تعالى في شأن هؤلاء : { إنّا وَجَدنا آباءنا على أُمَّةٍ وإنّا على آثارِهم مُهْتَدون } فقال الحقّ على لسان رسوله { قال أَوَلَوْ جِئْتُكم بأَهْدَى ممّا وَجَدْتُم عليه آباءَكم } .
ب - رأي بعض المقلّدين في أئمّتهم والتّعصّب لهم ، فقد يؤدّي هذا التّغالي في التّقليد إلى إنكار بعض النّصوص والأدلّة أو تأويلها ، وعدّ من يخالفهم مفارقاً للجماعة .
ج - التّصوّف الفاسد وأخذ ما نقل عن المتصوّفة من الأحوال الجارية عليهم ، أو الأقوال الصّادرة عنهم ديناً وشريعةً ، وإن كانت مخالفةً للنّصوص الشّرعيّة من الكتاب والسّنّة .
د - التّحسين والتّقبيح العقليّان . فإنّ محصول هذا المذهب تحكيم عقول الرّجال دون الشّرع ، وهو أصل من الأصول الّتي بنى عليها أهل الابتداع في الدّين ، بحيث إنّ الشّرع إن وافق آراءهم قبلوه وإلاّ ردّ .
هـ - العمل بالأحلام . فإنّ الرّؤيا قد تكون من الشّيطان ، وقد تكون من حديث النّفس ، وقد تكون من أخلاطٍ مهتاجةٍ . فمتى تتعيّن الرّؤيا الصّالحة النّقيّة حتّى يحكم بها ؟ ، .
أنواع البدعة :
تنقسم البدعة من حيث قربها من الأدلّة أو بعدها عنها إلى حقيقيّةٍ وإضافيّةٍ .
البدعة الحقيقيّة :
22 - هي الّتي لم يدلّ عليها دليل شرعيّ ، لا من كتابٍ ولا سنّةٍ ولا إجماعٍ ولا استدلالٍ معتبرٍ عند أهل العلم ، لا في الجملة ولا في التّفصيل ، ولهذا سمّيت بدعة حقيقيّة ، لأنّها شيء مخترع على غير مثالٍ سابقٍ ، وإن كان المبتدع يأبى أن ينسب إليه الخروج عن الشّرع ، إذ هو مدّعٍ أنّه داخل بما استنبط تحت مقتضى الأدلّة ، ولكن ثبت أنّ هذه الدّعوى غير صحيحةٍ ، لا في نفس الأمر ولا بحسب الظّاهر ، أمّا بحسب نفس الأمر فبالعرض ، وأمّا بحسب الظّاهر فإنّ أدلّته شبه وليست بأدلّةٍ ، ومن أمثلتها : التّقرّب إلى اللّه تعالى بالرّهبانيّة وترك الزّواج مع وجود الدّاعي إليه وفقد المانع الشّرعيّ ، كرهبانيّة النّصارى المذكورة في قوله تعالى : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوها ما كتَبْنَاها عليهم إلاّ ابتغاءَ رِضْوانِ اللّه } فهذه كانت قبل الإسلام ، أمّا في الإسلام فقد نسخت في شريعتنا بمثل قوله صلى الله عليه وسلم « فمن رغب عن سنّتي فليس منّي » .
ومنها : أن يفعل المسلم مثل ما يفعل أهل الهند في تعذيب النّفس بأنواع العذاب الشّنيع والقتل بالأصناف الّتي تفزع منها القلوب وتقشعرّ منها الجلود ، مثل الإحراق بالنّار على جهة استعجال الموت لنيل الدّرجات العليا والقربى من اللّه سبحانه في زعمهم .
البدعة الإضافيّة :
23 - وهي الّتي لها شائبتان : إحداهما لها من الأدلّة متعلّق ، فلا تكون من تلك الجهة بدعةً ، والثّانية ليس لها متعلّق إلاّ مثل ما للبدعة الحقيقيّة . ولمّا كان العمل له شائبتان ، ولم يتخلّص لأحدٍ الطّرفين ، وضعت له هذه التّسمية ، لأنّها بالنّسبة إلى إحدى الجهتين سنّة لاستنادها إلى دليلٍ ، وبالنّسبة إلى الجهة الأخرى بدعة لاستنادها إلى شبهةٍ لا إلى دليلٍ ، أو لأنّها غير مستندةٍ إلى شيءٍ ، وهذا النّوع من البدع هو مثار الخلاف بين المتكلّمين في البدع والسّنن . وله أمثلة كثيرة ، منها : صلاة الرّغائب ، وهي : اثنتا عشرة ركعةً في ليلة الجمعة الأولى من رجبٍ بكيفيّةٍ مخصوصةٍ ، وقد قال العلماء : إنّها بدعة قبيحة منكرة . وكذا صلاة ليلة النّصف من شعبان ، وهي : مائة ركعةٍ بكيفيّةٍ خاصّةٍ . وصلاة برّ الوالدين . ووجه كونها بدعةً إضافيّةً : أنّها مشروعة ، باعتبار النّظر إلى أصل الصّلاة ، لحديثٍ رواه الطّبرانيّ في الأوسط « الصّلاة خير موضوعٍ » وغير مشروعةٍ باعتبار ما عرض لها من التزام الوقت المخصوص والكيفيّة المخصوصة .
فهي مشروعة باعتبار ذاتها ، مبتدعة باعتبار ما عرض لها .
البدع المكفّرة وغير المكفّرة :
24 - البدع متفاوتة ، فلا يصحّ أن يقال : إنّها على حكمٍ واحدٍ هو الكراهة فقط ، أو التّحريم فقط . فقد وجد أنّها تختلف في أحكامها ، فمنها ما هو كفر صراح ، كبدعة الجاهليّة الّتي نبّه القرآن عليها كقوله تعالى : { وَجَعَلوا للّه ممّا ذَرَأَ من الحَرْثِ والأنعامِ نَصيباً فقالوا : هذا للّه بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَائِنا } الآية ، وقوله تعالى : { وقالوا ما في بُطونِ هذه الأنْعامِ خالصةٌ لذكورِنا ومحرّمٌ على أزواجِنا وإنْ يكنْ مَيْتةً فهم فيه شُرَكَاء } وقوله تعالى : { ما جَعَل اللّهُ من بَحِيرَةٍ ولا سَائِبَةٍ ولا وَصِيلةٍ ولا حَامٍ } . وكذلك بدعة المنافقين الّذين اتّخذوا الدّين ذريعةً لحفظ النّفس والمال وما أشبه ذلك { يقولونَ بِأَفْواهِهِمْ ما ليسَ في قُلوبِهم } فهذا وأضرابه لا يشكّ أحد في أنّه كفر صراح ، لابتداعه أشياء أنكرتها النّصوص وتوعّدت عليها .
ومنها ما هو كبيرة وليس بكفرٍ ، أو يختلف فيه هل هو كفر أم لا ؟ كبدع الفرق الضّالّة . ومنها ما هو معصية وليس بكفرٍ اتّفاقاً ، كبدعة التّبتّل والصّيام قائماً في الشّمس ، والخصاء بقطع شهوة الجماع ، للأحاديث الواردة في النّهي عن ذلك ، وقد سبق بعض منها ولقوله تعالى : { ولا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكم إنّ اللّه كانَ بِكم رَحيماً } .
تقسيم البدع غير المكفّرة إلى كبيرةٍ وصغيرةٍ :
25 - إنّ المعاصي منها صغائر ومنها كبائر ، ويعرف ذلك بكونها واقعةً في الضّروريّات أو الحاجيّات أو التّحسينات ، فإن كانت في الضّروريّات فهي أعظم الكبائر ، وإن وقعت في التّحسينات فهي أدنى رتبةً بلا إشكالٍ ، وإن وقعت في الحاجيّات فمتوسّطة بين الرّتبتين ، لقوله تعالى : { الّذين يَجْتَنِبُون كَبَائِرَ الِإثمِ والفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ } وقوله : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ ما تُنْهَوْنَ عنه نُكَفِّرْ عنكم سيّئاتِكم وَنُدْخِلْكم مُدْخَلاً كَرِيماً } ، وإذا كانت ليست رتبةً واحدةً فالبدع من جملة المعاصي ، وقد ثبت التّفاوت في المعاصي ، فكذلك يتصوّر مثله في البدع ، فمنها ما يقع في الضّروريّات ، ومنها ما يقع في رتبة الحاجيّات ، ومنها ما يقع في رتبة التّحسينات . وما يقع في رتبة الضّروريّات ، منه ما يقع في الدّين ، أو النّفس ، أو النّسل ، أو العقل ، أو المال . فمثال وقوعه في الدّين : اختراع الكفّار وتغييرهم ملّة إبراهيم عليه السلام في نحو قوله : { ما جَعَل اللّهُ من بَحِيرةٍ ولا سَائبةٍ ولا وَصِيلةٍ ولا حامٍ } وحاصل ما في الآية تحريم ما أحلّ اللّه على نيّة التّقرّب به إليه ، مع كونه حلالاً بحكم الشّريعة المتقدّمة . ومثال ما يقع في النّفس : ما عليه بعض نحل الهند ، من تعذيبها أنفسها بأنواع العذاب واستعجال الموت ، لنيل الدّرجات العلى على زعمهم .
ومثال ما يقع في النّسل : ما كان من أنكحة الجاهليّة الّتي كانت معهودةً ومعمولاً بها ومتّخذةً كالدّين ، وهي لا عهد بها في شريعة إبراهيم عليه السلام ولا غيره ، بل كانت من جملة ما اخترعوه . من ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها في حديث أنكحة الجاهليّة .
ومثال ما يقع في العقل : ما يتناول من المسكرات والمخدّرات بدعوى تحصيل النّفع والتّقوّي على القيام ببعض الواجبات المشروعة في ذاتها . ومثال ما يقع في المال : قولهم { إنّما البَيْعُ مِثْلُ الرّبا } فإنّهم احتجّوا بقياسٍ فاسدٍ . وكذلك سائر ما يحدث النّاس بينهم من البيوع المبنيّة على المخاطرة والغرر .
26 - هذا التّقسيم من حيث اعتبار البدعة كبيرةً أو صغيرةً مشروط بشروطٍ :
الأوّل : ألاّ يداوم عليها ، فإنّ الصّغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنّسبة إليه ، لأنّ ذلك ناشئ عن الإصرار عليها ، والإصرار على الصّغيرة يصيّرها كبيرةً ، ولذلك قالوا : لا صغيرة مع إصرارٍ ، ولا كبيرة مع استغفارٍ ، فكذلك البدعة من غير فرقٍ .
الثّاني : ألاّ يدعو إليها . فإذا ابتلي إنسان ببدعةٍ فدعا إليها تحمّل وزرها وأوزار الآخرين معه ، مصداقاً لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من سنّ سنّةً سيّئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة » .
الثّالث : ألاّ تفعل في الأماكن العامّة الّتي يجتمع فيها النّاس ، أو المواضع الّتي تقام فيها السّنن ، وتظهر فيها أعلام الشّريعة ، وألاّ يكون ممّن يقتدى به أو يحسن به الظّنّ ، فإنّ العوّام يقتدون - بغير نظرٍ - بالموثوق بهم أو بمن يحسنون الظّنّ به ، فتعمّ البلوى ويسهل على النّاس ارتكابها .
تقسيم المبتدع إلى داعيةٍ لبدعته وغير داعيةٍ :
27 - المنسوب إلى البدعة في العرف لا يخلو أن يكون مجتهداً فيها أو مقلّداً ، والمقلّد إمّا أن يكون مقلّداً مع الإقرار بالدّليل الّذي زعمه المجتهد المبتدع ، وإمّا أن يكون مقلّداً من غير نظرٍ ، كالعامّيّ الصّرف الّذي حسّن الظّنّ بصاحب البدعة ، ولم يكن له دليل على التّفصيل يتعلّق به ، إلاّ تحسين الظّنّ بالمبتدع خاصّةً . وهذا القسم كثير في العوّام ، فإذا تبيّن أنّ المبتدع آثم ، فليس الإثم الواقع عليه على رتبةٍ واحدةٍ . بل هو على مراتب مختلفةٍ ، من جهة كون صاحب البدعة داعياً إليها أم لا ، لأنّ الزّيغ في قلب الدّاعي أمكن منه في قلب المقلّد ، ولأنّه أوّل من سنّ تلك السّنّة ، ولأنّه يتحمّل وزر من تبعه ، مصداقاً لحديث : « من سنّ سنّةً سيّئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة » .
كما يختلف الإثم بالنّسبة إلى الإسرار والإعلان ، لأنّ المسرّ ضرره مقصور عليه لا يتعدّاه ، بخلاف المعلن . كما يختلف كذلك من جهة الإصرار عليها أو عدمه ، ومن جهة كونها حقيقيّةً أو إضافيّةً ، ومن جهة كونها كفراً أو غير كفرٍ .س
رواية المبتدع للحديث :
28 - ردّ العلماء رواية من كفر ببدعته ، ولم يحتجّوا به في صحّة الرّواية .
ولكنّهم شرطوا للكفر بالبدعة ، أن ينكر المبتدع أمراً متواتراً من الشّرع معلوماً من الدّين بالضّرورة . أمّا من لم يكفر ببدعته ، فللعلماء في روايته ثلاثة أقوالٍ :
الأوّل : لا يحتجّ بروايته مطلقاً ، وهو رأي الإمام مالكٍ ، لأنّ في الرّواية عن المبتدع ترويجاً لأمره وتنويهاً بذكره ، ولأنّه أصبح فاسقاً ببدعته .
الثّاني : يحتجّ به إن لم يكن ممّن يستحلّ الكذب في نصرة مذهبه ، سواء أكان داعيةً أم لا ، وهو قول الشّافعيّ وأبي يوسف والثّوريّ .
الثّالث : قيل يحتجّ به إن لم يكن داعياً إلى بدعته ، ولا يحتجّ به إن كان داعيةً إليها .
قال النّوويّ والسّيوطيّ : هذا القول هو الأعدل والأظهر ، وهو قول الكثير أو الأكثر ، ويؤيّده احتجاج البخاريّ ومسلمٍ في الصّحيحين بكثيرٍ من المبتدعة غير الدّعاة .
شهادة المبتدع :
29 - ردّ المالكيّة والحنابلة شهادة المبتدع ، سواء أكفر ببدعته أم لا ، وسواء أكان داعياً لها أم لا . وهو رأي شريكٍ وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثورٍ ، وعلّلوا ذلك بأنّ المبتدع فاسق تردّ شهادته للآية : { وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكم } ولقوله تعالى : { إنْ جَاءَكُمْ فاسقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } وقال الحنفيّة والشّافعيّة في الرّاجح عندهم : تقبل شهادة المبتدع ما لم يكفر ببدعته ، كمنكر صفات اللّه وخلقه لأفعال العباد ، لأنّهم يعتقدون أنّهم مصيبون في ذلك لما قام عندهم من الأدلّة .
وقال الشّافعيّة في المرجوح عندهم : لا تقبل شهادة المبتدع الدّاعي إلى البدعة .
الصّلاة خلف المبتدع
30 - اختلف العلماء في حكم الصّلاة خلف المبتدع . فذهب الحنفيّة ، والشّافعيّة ، وهو رأي للمالكيّة إلى جواز الصّلاة خلف المبتدع مع الكراهة ما لم يكفر ببدعته ، فإن كفر ببدعته فلا تجوز الصّلاة خلفه . واستدلّوا لذلك بأدلّةٍ منها : قوله صلى الله عليه وسلم « صَلُّوا خلْفَ مَنْ قال لا إِلهَ إلاّ اللّه » وقوله : « صَلُّوا خلفَ كلِّ بَرٍّ وفاجرٍ » .
وما روي من أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يصلّي مع الخوارج وغيرهم زمن عبد اللّه بن الزّبير وهم يقتتلون ، فقيل له : أتصلّي مع هؤلاء ومع هؤلاء ، وبعضهم يقتل بعضاً ؟ فقال :" من قال حيّ على الصّلاة أجبته ، ومن قال : حيّ على الفلاح أجبته . ومن قال : حيّ على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله قلت : لا ".
ولأنّ المبتدع المذكور تصحّ صلاته ، فصحّ الائتمام به كغيره .
وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ من صلّى خلف المبتدع الّذي يعلن بدعته ويدعو إليها أعاد صلاته ندباً ، وأمّا من صلّى خلف مبتدعٍ يستتر ببدعته فلا إعادة عليه .
واستدلّوا بقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تَؤُمَّنَّ امرأةٌ رجلاً ، ولا فاجرٌ مؤمناً إلاّ أن يَقْهَرَه بسلطانٍ ، أو يخافَ سوطَه أو سيفه » .
ولاية المبتدع :
31 - اتّفق العلماء على أنّ من شروط أصحاب الولايات العامّة - كالإمام الأعظم الخليفة وأمراء الولايات والقضاة وغيرهم - العدالة ، وألاّ يكونوا من أصحاب الأهواء والبدع ، وذلك لتكون العدالة وازعةً عن التّقصير في جلب المصالح ودرء المفاسد ، وحتّى لا يخرجه الهوى من الحقّ إلى الباطل ، وقد ورد : " حبّك الشّيء يعمي ويصمّ " .
ولكنّ ولاية المتغلّب على الإمامة أو غيرها من الولايات تنعقد ، وتجب طاعته فيما يجوز من أمره ونهيه وقضائه باتّفاق الفقهاء ، وإن كان من أهل البدع . والأهواء ، ما لم يكفر ببدعته ، درءاً للفتنة ، وصوناً لشمل المسلمين ، واحتفاظاً بوحدة الكلمة .
الصّلاة على المبتدع :
32 - اختلف الفقهاء في الصّلاة على المبتدع الميّت ، فذهب جمهور العلماء إلى وجوب الصّلاة على المبتدع الّذي لم يكفر ببدعته ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « صلّوا على من قال لا إله إلاّ اللّه » .
إلاّ أنّ المالكيّة يرون كراهية صلاة أصحاب الفضل على المبتدع ، ليكون ذلك ردعاً وزجراً لغيرهم عن مثل حالهم ، ولأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتي برجلٍ قتل نفسه لم يصلّ عليه » . وذهب الحنابلة إلى منع الصّلاة على المبتدع ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم
« ترك الصّلاة على صاحب الدّين وقاتل نفسه » وهما أقلّ جرماً من المبتدع .
توبة المبتدع :
33 - اختلف العلماء في قبول توبة المبتدع المكفّر ببدعته ، فقال جمهور كلٍّ من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بقبول توبته ، لقوله تعالى : { قُلْ لِلّذين كَفَروا إنْ يِنْتهُوا يُغْفَرْ لهم ما قَدْ سَلَفَ } ولقوله صلى الله عليه وسلم : « أُمِرْتُ أنْ أُقاتلَ النّاسَ حتّى يقولُوا : لا إلهَ إلاّ اللّه ، فإذا قالوها فقد عَصَمُوا منّي دماءَهم وأموالَهم إلاّ بِحَقِّها ، وحسابُهم على اللّه » ومن الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة من يرى أنّ توبة المبتدع لا تقبل إذا كان ممّن يظهر الإسلام ويبطن الكفر ، كالمنافق والزّنديق والباطنيّ ، لأنّ توبته صدرت عن خوفٍ ، ولأنّه لا تظهر منه علامة تبيّن صدق توبته ، حيث كان مظهراً للإسلام مسرّاً للكفر ، فإذا أظهر التّوبة لم يزد على ما كان منه قبلها ، واستدلّوا لذلك ببعض الأحاديث ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : « سيخرجُ في أمّتي أقوامٌ تجاري بهم تلك الأهواءُ ، كما يتجارى الكلبُ بصاحبه ، لا يبقى منه عرقٌ ولا مفصلٌ إلاّ دَخَلَه » . وهذا الخلاف بين العلماء في قبول توبة المبتدع ينحصر فيما يتعلّق بأحكام الدّنيا في حقّه ، أمّا ما يتعلّق بقبول اللّه تعالى لتوبته وغفرانه لذنبه إذا أخلص وصدق في توبته فلا خلاف فيه .
ما يجب على المسلمين تجاه البدعة :
34 - ينبغي على المسلمين تجاه البدعة أشياء لمنع الوقوع فيها - منها :
أ - تعهّد القرآن وحفظه وتعليمه وبيان أحكامه ، لقوله تعالى : { وأَنْزَلْنا إليك الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ للنّاسِ ما نُزِّلَ إليهم } ولقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « خيرُكم من تعلَّمَ القُرآنَ وعلَّمَه » وفي روايةٍ « أَفْضَلُكم من تعلّمَ القُرآنَ وعلّمَه » وقوله صلى الله عليه وسلم :
« تَعَاهَدُوا القرآنَ فوالّذي نفسي بيده لَهُوَ أشدُّ تَفَصِّياً من الإبِلِ في عُقُلِها » لأنّ في تعليم القرآن وبيان أحكامه قطع الطّريق على المبتدعين بإظهار الأحكام الشّرعيّة .
ب - إظهار السّنّة والتّعريف بها : لقوله تعالى : { وما آتاكم الرّسولُ فَخُذُوه وما نَهَاكم عنه فانْتَهُوا } وقوله تعالى : { وما كان لِمُؤْمنٍ ولا مُؤْمنةٍ إذا قَضَى اللّهُ ورسولُه أمراً أن يكونَ لهم الخِيَرَةُ من أمرِهم ومن يعص اللّهَ ورسولَه فقد ضلَّ ضَلالاً مُبيناً } . وعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « نَضَّرَ اللّهُ امْرأً سَمِع منّا حديثاً فَحَفِظَهُ حتّى يُبَلِّغَهُ غيرَه » .
وعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ما أحدثَ قومٌ بِدْعَةً إلاّ رُفِعَ مِثْلُها من السُّنّةِ » .
ج - عدم قبول الاجتهاد ممّن لا يتأهّل له ، وردّ الاجتهاد في الدّين من المصادر غير المقبولة ، لقوله تعالى : { فاسْألوا أهل الذِّكْرِ إنْ كُنْتم لا تَعْلَمون } وقوله : { فإنْ تَنَازَعْتُم في شيءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللّهِ والرَّسولِ } وقوله : { وما يَعْلمُ تَأْويلَه إلاّ اللّهُ والرّاسخونَ في العلمِ } .
د - نبذ التّعصّب لرأيٍ من الآراء أو اجتهادٍ من الاجتهادات ، ما لم يكن مؤيّداً بالحقّ من الأدلّة الشّرعيّة لقوله تعالى : { وَمَنْ أضلُّ مِمَّن اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغيرِ هُدىً من اللّهِ } .
هـ – منع العامّة من القول في الدّين ، وعدم الاعتداد بآرائهم مهما كانت مناصبهم وتقواهم إلاّ بالدّليل . يقول أبو يزيد البسطاميّ : لو نظرتم إلى رجلٍ أعطي من الكرامات حتّى يرتقي في الهواء ، فلا تغترّوا به حتّى تنظروا كيف تجدونه عن الأمر والنّهي وحفظ الحدود وأداء الشّريعة . وقال أبو عثمان الحيريّ : من أمّر السّنّة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة ، ومن أمّر الهوى على نفسه نطق بالبدعة . قال تعالى : { وَإِنْ تُطِيعوهُ تَهْتَدُوا } .
و- صدّ التّيّارات الفكريّة المضلّلة الّتي تشكّك النّاس في الدّين ، وتحمل بعضهم على التّأويل بغير دليلٍ لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إن تُطِيعُوا فَريقاً مِنَ الّذينَ أُوتوا الكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بعدَ إِيمانِكُم كافرين } .
ما يجب على المسلمين تجاه أهل البدعة :
35 - يجب على المسلمين من أولي الأمر وغيرهم أن يأمروا أهل البدع بالمعروف وينهوهم عن المنكر ، ويحضّوهم على اتّباع السّنّة والإقلاع عن البدعة والبعد عنها . لقوله تعالى : { ولْتَكُنْ منكم أُمّةٌ يَدْعون إلى الخيرِ وَيَأْمرون بالمعروفِ ويَنْهَونَ عن المنكَرِ وأولئكَ هُمُ المفلحون } ولقوله تعالى : { والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضُهمْ أَوْلياءُ بعضٍ يَأْمُرونَ بِالمَعْروفِ ويَنْهَوْن عن المنكَرِ } .
36 - مراحل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لمنع البدعة :
أ - التّعريف ببيان الصّواب من الخطأ بالدّليل .
ب - الوعظ بالكلام الحسن مصداقاً لقوله تعالى : { اُدْعُ إلى سبيلِ ربّك بالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ } .
ج - التّعنيف والتّخويف من العقاب الدّنيويّ والأخرويّ ، بيان أحكام ذلك في أمر بدعته .
د - المنع بالقهر ، مثل كسر الملاهي وتمزيق الأوراق وفضّ المجالس .
هـ - التّخويف والتّهديد بالضّرب الّذي يصل إلى التّعزير ، وهذه المرتبة لا تنبغي إلاّ للإمام أو بإذنه ، لئلاّ يترتّب عليها ضرر أكبر منها .
وللتّفصيل يرجع إلى مصطلح ( الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ) .
معاملة المبتدع ومخالطته :
37 - إذا كان المبتدع غير مجاهرٍ ببدعته ينصح ، ولا يجتنب ولا يشهّر به ، لحديث الرّسول صلى الله عليه وسلم : « مَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللّهُ في الدّنيا والآخرة » .
وأمّا إذا كان مجاهراً بشيءٍ منهيٍّ عنه من البدع الاعتقاديّة أو القوليّة أو العمليّة - وهو يعلم ذلك - فإنّه يسنّ هجره ، وقد اشتهر هذا عند العلماء . وروي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا تُجَالِسُوا أهلَ القَدَر ، ولا تُفَاتِحُوهم » وقال ابن مسعودٍ :" من أحبّ أن يكرم دينه فليعتزل مخالطة الشّيطان ومجالسة أصحاب الأهواء ، فإنّ مجالسهم ألصق من الحرب ".
وعن ابن عمر مرفوعاً : « لا تُجَالسوا أهلَ القدرِ ولا تُناكِحُوهم » . وعن أبي قلابة " لا تجالسوا أهل الأهواء ، فإنّي لا آمن أن يغمسوكم في ضلالاتهم ، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون " وقد هجر أحمد من قالوا بخلق القرآن . قال ابن تيميّة : ينبغي لأهل الخير والدّين أن يهجروا المبتدع حيّاً وميّتاً ، إذا كان في ذلك كفّ للمجرمين ، فيتركوا تشييع جنازته .
إهانة المبتدع :
38 - صرّح العلماء بجواز إهانة المبتدع بعدم الصّلاة خلفه ، أو الصّلاة على جنازته ، وكذلك لا يعاد إذا مرض ، على خلافٍ في ذلك .
بدنة *
التّعريف :
1 - البدنة في اللّغة : من الإبل خاصّةً ، ويطلق هذا اللّفظ على الذّكر والأنثى ، والجمع البدن . وسمّيت بدنةً لضخامتها .
قال في المصباح المنير : والبدنة قالوا : هي ناقة أو بقرة ، وزاد الأزهريّ : أو بعير ذكر . قال : ولا تطلق البدنة على الشّاة .
وفي الاصطلاح : البدنة اسم تختصّ به الإبل ، إلاّ أنّ البقرة لمّا صارت في الشّريعة في حكم البدنة قامت مقامها ، وذلك لما قال جابر بن عبد اللّه : « نَحَرْنا مع رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم عامَ الحديبيةِ البدنةَ عن سبعةٍ ، والبقرةَ عن سبعةٍ » فصار البقر في حكم البدن مع تغايرهما لوجود العطف بينهما ، والعطف يقتضي المغايرة .
ومع هذا فقد أطلق بعض الفقهاء " البدنة " على الإبل والبقر .
الحكم الإجماليّ :
تتعلّق بالبدن أحكام خاصّة منها :
أ - بول البدن ورَوْثها :
2 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى نجاسة بول وروث الحيوان ، سواء أكان ممّا يؤكل لحمه أم لا ، ومن الحيوان : البدن . لما روى البخاريّ « أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا جيء له بحجرين وَرَوْثَةٍ ليستنجي بها ، أخذ الحجرين وردَّ الرّوثة ، وقال : هذا ركس » والرّكس : النّجس . وأمّا نجاسة البول فلعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « تَنَزَّهوا من البول ، فإنّ عامَّةَ عذابِ القبرِ منه » حيث يدخل فيه جميع أنواع الأبوال .
وذهب المالكيّة والحنابلة إلى طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه ، لأنّه « صلى الله عليه وسلم أمر العُرَنيّين أن يَلْحَقُوا بإِبلِ الصّدقة ، فَيَشْرَبُوا من أبوالها وألبانها » والنّجس لا يباح شربه ، ولأنّه « صلى الله عليه وسلم كان يصلّي في مرابض الغنم ، وأمر بالصّلاة فيها » .
ب - نقض الوضوء :
3 - ذهب جمهور العلماء إلى أنّ أكل لحم الجزور - وهو لحم الإبل - لا ينقض الوضوء ، لما روى ابن عبّاسٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « الوضوءُ ممّا خرج لا ممّا دخل » ، ولما روى جابر قال : « كان آخرُ الأمرين عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تركُ الوضوءِ ممّا مَسّتِ النّار » ولأنّه مأكول أشبه سائر المأكولات .
وهذا القول مرويّ عن أبي بكرٍ الصّدّيق وعمر وعثمان وعليٍّ وابن مسعودٍ وأبيّ بن كعبٍ وأبي طلحة وأبي الدّرداء وابن عبّاسٍ وعامر بن ربيعة وأبي أمامة ، وبه قال جمهور التّابعين ، وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة ، والصّحيح من مذهب الشّافعيّة .
وذهب الحنابلة ، والشّافعيّ في القديم إلى وجوب الوضوء من أكل لحم الجزور على كلّ حالٍ ، نيئاً أو مطبوخاً ، عالماً كان أو جاهلاً . وبه قال إسحاق بن راهويه ويحيى بن يحيى . وحكاه الماورديّ عن جماعةٍ من الصّحابة ، منهم : زيد بن ثابتٍ وابن عمر وأبو موسى وأبو طلحة ، واختاره من الشّافعيّة أبو بكر بن خزيمة وابن المنذر ، وأشار البيهقيّ إلى ترجيحه واختياره ، وقوّاه النّوويّ في المجموع .
واستدلّوا بحديث البراء بن عازبٍ قال : « سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن لحوم الإبل ، فقال : توضّئوا منها ، وسئل عن لحوم الغنم ، فقال : لا يُتوضّأ منها » وبقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { توضّئوا من لحوم الإبل ، ولا تتوضّئوا من لحوم الغنم } .
أمّا ألبان الإبل ، فعند الحنابلة روايتان في نقض الوضوء بشربها :
إحداهما : ينقض الوضوء ، لما روى أسيد بن حضيرٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال :
« توضّئوا من لحوم الإبل وألبانها » .
والثّانية : لا وضوء فيه ، لأنّ الحديث الصّحيح إنّما ورد في اللّحم ، ورجّح هذا القول صاحب كشّاف القناع .
ج - سؤر البدنة :
4 - اتّفق الفقهاء على طهارة سؤر البدنة ، وسائر الإبل والبقر والغنم ، ولا كراهة في أسآرها ما لم تكن جلّالةً .
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ سؤر ما أكل لحمه يجوز شربه والوضوء به .
د - الصّلاة في أعطان الإبل ومرابض البقر :
5 - ذهب جمهور العلماء إلى كراهة الصّلاة في معاطن الإبل .
وقد ألحق الحنفيّة بالإبل البقر في الكراهة .
وقال المالكيّة والشّافعيّة : إنّ البقر كالغنم في جواز الصّلاة في مرابضها .
وذهب الحنابلة إلى عدم صحّة الصّلاة في أعطان الإبل ، وهي : ما تقيم فيه وتأوي إليه .
أمّا مواضع نزولها في سيرها فلا بأس بالصّلاة فيه .
هـ – الدّماء الواجبة :
6 – تجزئ البدنة عن سبعةٍ في حالتي القران والتّمتّع ، وفي الأضحيّة ، وفي فعل بعض المحظورات أو ترك بعض الواجبات حال الإحرام بحجٍّ أو عمرةٍ .
وتجب عند الحنفيّة بدنة كاملة على الحائض والنّفساء إذا طافتا .
كما تجب بدنة كاملة إذا قتل المحرم صيداً كبيراً ، كالزّرافة والنّعامة ، على التّخيير المفصّل في موضعه . وتجب أيضاً على من جامع حال الإحرام بالحجّ والعمرة قبل التّحلّل الأصغر ، على خلافٍ وتفصيلٍ يرجع إليه في المصطلحات التّالية : ( إحرام ، وحجّ ، وهدي ، وصيد ).
و- الهدي :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّ الهدي سنّة ، ولا يجب إلاّ بالنّذر . ويكون من الإبل والبقر والغنم ، ولا يجزئ إلاّ الثّنيّ من الإبل ، وهو ما كمّل خمس سنين ودخل في السّادسة .
ففي الصّحيحين : « أنّه صلى الله عليه وسلم أهدى في حجّة الوداع مائة بدنةٍ » .
ويستحبّ أن يكون ما يهديه سميناً حسناً ، لقوله تعالى : { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائرَ اللّه فإنّها من تَقْوى القلوبِ } فسّرها ابن عبّاسٍ بالاستسمان والاستحسان . ويستحبّ تقليد البدنة في الهدي . وهناك تفصيلات تنظر في مصطلح ( حجّ ، وهدي ، وإحرام ، وقران ، وتمتّع ) .
ز - ذكاة البدنة :
8 - تختصّ الإبل - ومنها البدنة - بالنّحر ، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى سنّيّة نحر الإبل . وذهب المالكيّة إلى وجوب نحرها ، وألحقوا بها الزّرافة .
وأمّا ذبحها ، فقد قال بجوازه الشّافعيّة والحنابلة ، وكرهه الحنفيّة كراهة تنزيهٍ ، على ما نقله ابن عابدين عن أبي السّعود عن الدّيريّ .
وقال المالكيّة : جاز الذّبح في الإبل ، والنّحر في غيرها للضّرورة . ثمّ النّحر - كما قال ابن عابدين - هو قطع العروق في أسفل العنق عند الصّدر ، أمّا الذّبح فقطعها في أعلاه تحت اللّحيين . والسّنّة نحرها قائمةً معقولةً يدها اليسرى ، لما ورد عن عبد الرّحمن بن سابطٍ :
« أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى ، قائمةً على ما بقي من قوائمها » وفي قوله تعالى : { فإذا وَجَبَتْ جُنُوبها } دليل على أنّها تنحر قائمةً . وكيفيّته : أن يطعنها بالحربة في الوهدة الّتي بين أصل العنق والصّدر .
ج - الدّيات : الدّية بدل النّفس :
9 - وقد اتّفق الفقهاء على جواز الدّية في : الإبل والذّهب والفضّة ، واختلفوا في الخيل والبقر والغنم . وللتّفصيل ينظر مصطلح ( دية ) .
بدو *
التّعريف :
1- البادية : خلاف الحاضرة . قال اللّيث : البادية اسم للأرض الّتي لا حضر فيها ، والبادي : هو المقيم في البادية ، ومسكنه المضارب والخيام ، ولا يستقرّ في موضعٍ معيّنٍ . والبدو : سكّان البادية ، سواء أكانوا من العرب أم من غيرهم ، أمّا الأعراب فهم سكّان البادية من العرب خاصّةً . وفي الحديث : « من بدا جفا » أي : من نزل البادية صار فيه جفاء الأعراب . ولا يختلف استعمال الفقهاء عن ذلك .
الأحكام المتعلّقة بالبدو :
2 - الأصل في الشّرع أنّ الأحكام تتعلّق بالمكلّف بقطع النّظر عن مكان سكناه ، وبذلك تستوي أحكام البدو والحضر ، إلاّ ما ورد على سبيل الاستثناء من هذه القاعدة ، بسبب اختلاف طبيعة حياة البدو عن طبيعة حياة الحضر ، فتبعاً لهذا الاختلاف تختلف بعض الأحكام ، وسيأتي أهمّها .
أ - الأذان في البادية :
3 - يسنّ للبادي الأذان عند كلّ صلاةٍ في باديته ، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأبي سعيدٍ : « إنّك رجل تحبّ الغنم والبادية . فإذا دخل وقت الصّلاة فأذّنْ ، وارفع صوتك بالنّداء ، فإنّه لا يسمع مدى صوت المؤذّن جِنٌّ ولا إنسٌ ولا شيء إلاّ شهد له يوم القيامة » ( ر : أذان ) .
ب - سقوط الجمعة والعيدين :
4 - لا تجب الجمعة على أهل البادية . ولو أقاموها في باديتهم لا تصحّ جمعة لعدم الاستيطان ، حيث لم يؤمر بها البدو ممّن كانوا حول المدينة ولا قبائل البادية ممّن أسلموا ، ولا أقاموها ، ولو أقاموها لنقل ذلك ، بل لا تجزئهم عن الظّهر ، ولكن إذا كانوا مقيمين بموضعٍ يسمعون فيه نداء الحضر وجبت عليهم .
ج - وقت الأضحيّة :
5 - يرى الجمهور أنّ وقت الأضحيّة للبدو كوقته للحضر ، وخالف في ذلك الحنفيّة حيث قالوا : لمّا كانت لا تجب على البدو صلاة العيد ، فإنّه يجوز لهم أن يذبحوا أضاحيهم بعد طلوع الفجر الصّادق من يوم العيد ، في حين لا يجوز لأهل الحضر أن يذبحوا أضاحيهم إلاّ بعد صلاة العيد ، لأنّ صلاة العيد واجبة عليهم .
د - عدم استحقاقهم العطاء :
6 - يختصّ أهل الحاضرة بالعطاء ، أمّا البدو فلا يفرض لهم فريضة راتبة تجري عليهم من بيت المال ، لا أعطية المقاتلة ، ولا أرزاق الذّرّيّة ، حتّى قال أبو عبيدٍ : فلم يبلغنا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من الأئمّة بعده أنّه فعل ذلك - أي أعطى البدو عطاء الجند وأرزاق الذّرّيّة - إلاّ بأهل الحاضرة ، الّذين هم أهل الغناء عن الإسلام . ولحديث بريدة مرفوعاً قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميراً على جيشٍ أو سريّةٍ ، أوصاه في خاصّته بتقوى اللّه ومن معه من المسلمين خيراً . ثمّ قال : اغزوا باسم اللّه في سبيل اللّه . قاتلوا من كفر باللّه . اغزوا ولا تغلّوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثّلوا ، ولا تقتلوا وليداً ، وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصالٍ( أو خلالٍ )فَأَيّتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم . ثمّ ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم . ثمّ ادعهم إلى التّحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنّهم إن فعلوا ذلك ، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين . فإن أبوا أن يتحوّلوا منها ، فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم اللّه الّذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء . إلاّ أن يجاهدوا مع المسلمين . فإن هم أبوا فَسَلْهُم الجزية . فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم ، فإن هم أبوا فاستعن اللّه وقاتلهم . وإذا حاصرت أهل حصنٍ ، فأرادوك أن تجعل لهم ذمّة اللّه وذمّة نبيّه ، فلا تجعل لهم ذمّة اللّه ولا ذمّة نبيّه . ولكن اجعل لهم ذمّتك وذمّة أصحابك . فإنّكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم ، أهون من أن تخفروا ذمّة اللّه وذمّة رسوله . وإذا حاصرت أهل حصنٍ ، فأرادوك أن تنزلهم على حكم اللّه ، فلا تنزلهم على حكم اللّه ، ولكن أنزلهم على حكمك ، فإنّك لا تدري أتصيب حكم اللّه فيهم أم لا » .
ولكن لأهل البادية على الإمام وعلى المسلمين نصرهم والدّفع عنهم بالأبدان والأموال إن اعتدي عليهم ، والمئونة والمواساة إذا نزلت بهم جائحة أو جدب .
هـ - عدم دخول البدو في عاقلة الحضر وعكسه :
7 - لا يدخل البدويّ في عاقلة القاتل الحضريّ ، ولا الحضريّ في عاقلة البدويّ القاتل ، لعدم التّناصر بينهما ، كما يقول المالكيّة . وللتّفصيل ( ر : عاقلة )
و - إمامة البدويّ :
8 - تكره إمامة الأعرابيّ في الصّلاة كما يقول الحنفيّة ، لأنّ الغالب عليهم الجهل بالأحكام . وقد ذكر الفقهاء ذلك في كتاب الصّلاة ، باب صلاة الجماعة . ( ر : إمامة الصّلاة ، وصلاة الجماعة )
ز - نقل اللّقيط إلى البادية وحكمه :
9 - إذا وجد حضريّ أو بدويّ لقيطاً في الحضر فليس له نقله إلى البادية ، لما في ذلك من الضّرر عليه بفوات الدّين والعلم والصّنعة ، أمّا إن وجده في البادية فله أن ينقله إلى الحاضرة ، لأنّ في نقله مصلحةً له . وله أن يبقيه في البادية .
كما صرّح الشّافعيّة بذلك ، وتنظر التّفاصيل في ( لقيط )
ح - شهادة البدويّ على الحضريّ :
10 - اختلف في شهادة البدويّ على الحضريّ ، فأجازها الجمهور ، ومنعها المالكيّة . لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا تجوز شهادة بدويٍّ على صاحب قريةٍ » ولأنّهم في الغالب لا يضبطون الشّهادة على وجهها .
ط - عدم الاحتكام إلى عاداتهم فيما يحلّ أكله :
11 - يقتصر على العرب من الحاضرة - عند الشّافعيّة والحنابلة - في تحديد من يرجع إليهم في معرفة المستخبث والطّيّب ، ممّا لم ينصّ على حكمه من الطّعام .
قال النّوويّ : يرجع في ذلك إلى العرب من أهل الرّيف والقرى وأهل اليسار والغنى ، دون الأجلاف من أهل البادية والفقراء وأهل الضّرورة .
وقال ابن قدامة : لأنّهم للضّرورة والمجاعة يأكلون ما وجدوا .
ي - حكم ارتحال المعتدّة من أهل البادية :
12 - لمّا كان الأصل في حياة البدو الانتقال لانتجاع مواقع الكلأ ، فإنّ البدويّة المعتدّة إذا ارتحل أهلها عن مواقعهم ترتحل معهم ، ولا تكون آثمةً بذلك ، لأنّ من الحرج إقامتها وحدها دون أهلها ، ولأنّ الرّحلة من طبيعة حياتهم ، وقد فصّل ذلك الفقهاء في كتاب العدّة من كتب الفقه .
ك - تحوّل البدويّ إلى حضريٍّ :
13 - إذا استوطن البدويّ الحاضرة أصبح من أهلها ، وسرت عليه أحكام الحضر .
بذر *
التّعريف :
1 -البذر لغةً : إلقاء الحبّ في الأرض للزّراعة ، وهذا هو المصدر ، وقد يطلق على ما يبذر ، فيكون من إطلاق المصدر على اسم المفعول . ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ عن ذلك .
الحكم الإجماليّ :
2 - الأصل في إلقاء البذر في الأرض للزّراعة الإباحة فيما هو مباحة زراعته ، لقوله تعالى : { أَفَرَأَيْتم ما تَحْرثون أَأَنْتُمْ تَزْرَعونَه أَمْ نحنُ الزَّارِعُون } .
فالآية تدلّ على إباحة الزّرع من جهة الامتنان به . وقد يكون مندوباً بقصد التّصدّق لقوله صلى الله عليه وسلم « مَا مَنْ مسلمٍ يَغْرِسُ غَرْساً ، أو يَزْرعُ زَرْعاً فيأكلَ منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلاّ كان له به صدقةٌ » . وقد يكون ، واجباً إذا احتاج النّاس إليه . وقد يكون إلقاء بعض أنواع البذور حراماً ، مثل إلقاء حبٍّ لزرعٍ يضرّ بالنّاس ، كالحشيشة والأفيون ، لأنّ هذا وما يماثله يؤدّي إلى الضّرر وفعل الحرام ، وما أدّى إلى الحرام فهو حرام .
مواطن البحث :
3 - تكلّم الفقهاء عن البذر في المزارعة والزّكاة والغصب في مواطن معيّنةٍ :
فمن المزارعة : تعيين من عليه البذر في عقد المزارعة لصحّة المزارعة أو فسادها ، عند من اعتبرها من الفقهاء ، كالحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . ولزوم عقد المزارعة بوضع البذر في الأرض ، على تفصيلٍ يرجع إليه في المزارعة .
ومن الزّكاة : مسألة الخارج من الزّارعة بشروطه ،على تفصيلٍ يرجع إليه في زكاة الزّروع. وجوب الزّكاة في الجملة من حبٍّ وقف ليزرع كلّ عامٍ في أرضٍ مملوكةٍ أو مستأجرةٍ إذا بلغ نصاباً ، بخلاف الحبّ الّذي وقف للتّسليف ، فلا زكاة فيه عند من يرى جواز وقف البذر ليزرع لحاجة الفقراء وغيرهم . ومن الغصب ، البذر في أرضٍ مغصوبةٍ أو متعدًّى عليها ، واسترجاع مالكها لها بعد البذر ، هل يعوّض المغتصب عن البذر أم لا . وبيانه في غصب .
بذرقة *
التّعريف :
1 - البذرقة ، قال ابن خالويه : فارسيّة معرّبة ، وقيل : مولّدة ( أي عربيّة غير محضةٍ ) ، ومعناها : الخفارة ، والجماعة تتقدّم القافلة للحراسة .
كما أنّ بعضهم ينطقها بالذّال ، وبعضهم بالدّال ، وبعضهم بهما جميعاً .
وهي في الاصطلاح بهذا المعنى ، غير أنّه يراد بها الحراسة في السّفر وغيره .
الحكم الإجماليّ :
2 - أجاز العلماء بالاتّفاق البذرقة " الخفارة أو الحراسة " وأجازوا أخذ الأجر عليها . واختلفوا في تضمينهم على رأيين ،بناءً على تكييف البذرقة على أنّها إجارة عامّة أو خاصّة. الأوّل : يضمن قيمة ما يفقد منه ، وهو لأبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة .
والثّاني : لا يضمن ، وهو الأصحّ والمفتى به عند الحنفيّة ، وهو رأي المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . ومنشأ هذا الخلاف في اعتبار الحارس أجيراً خاصّاً أو عامّاً ، فمن اعتبره أجيراً خاصّاً لم يضمّنه ومن اعتبره أجيراً عامّاً - مثل أبي يوسف ومحمّدٍ - ضمّنه .
ولبيان هذه المواطن يرجع إلى - ( إجارةٍ ، وضمانٍ ، وخفارةٍ ) .
براءة *
التّعريف :
1 - البراءة في اللّغة : الخروج من الشّيء والمفارقة له ، والأصل البرء بمعنى : القطع ، فالبراءة قطع العلاقة ، يقال : برئت من الشّيء ، وأبرأ براءةً : إذا أزلته عن نفسك وقطعت أسبابه ، وبرئت من الدّين : نقطع عنّي ، ولم يبق بيننا علقة .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ للبراءة عن معناها اللّغويّ ، فإنّهم يريدون بالبراءة في ألفاظ الطّلاق : المفارقة ، وفي الدّيون والمعاملات والجنايات : التّخلّص والتّنزّه ، وكثيراً ما يتردّد على ألسنة الفقهاء قولهم : الأصل براءة الذّمّة أي تخلّصها وعدم انشغالها بحقّ آخر .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإبراء :
2 - الإبراء في اللّغة : إفعال من برئ ، إذا تخلّص وتنزّه .
وفي الاصطلاح : إسقاط شخصٍ حقّاً له في ذمّة آخر أو قبله ، وفي المعاملات والدّيون عرّفه الأبيّ المالكيّ : بأنّه إسقاط الدّين عن ذمّة مدينه وتفريغ لها منه .
فإذا أبرأ الدّائن مثلاً ، بإسقاط الدّين عن ذمّة مدينه وتفريغها منه ، حصلت البراءة .
وعلى ذلك فالإبراء سبب من أسباب البراءة ، وهي قد تحصل بالإبراء ، وقد تحصل بسببٍ آخر كما لو استوفى الدّائن حقّه من المدين ، أو زال سبب الضّمان بعاملٍ آخر غير فعل الدّائن . وقد يستعمل أحدهما مكان الآخر ، لعلاقة الأثر والمؤثّر بينهما . ( ر : إبراء ) .
ب - المبارأة :
3 - المبارأة لغةً : مفاعلة من البراءة ، فهي الاشتراك في البراءة من الجانبين . وتعتبر من ألفاظ الخلع ، وإذا حصلت بين الزّوجين توجب سقوط حقّ كلٍّ منهما قبل الآخر ممّا يتعلّق بالنّكاح ، على تفصيلٍ في ذلك . وتستعمل غالباً في إسقاط الزّوجة حقوقها على الزّوج مقابل الطّلاق ، كما هو مبيّن في مباحث الطّلاق والخلع . فالمبارأة أخصّ من البراءة .
ج - الاستبراء :
4 - الاستبراء لغةً : طلب البراءة ، وشرعاً يستعمل في معنيين :
الأوّل : في الطّهارة بمعنى نظافة المخرجين من الأذى .
والثّاني : في النّسب بمعنى : طلب براءة المرأة من الحبل ومن ماء الغير ، كما عبّروا عنه باستبراء الرّحم .
الحكم الإجماليّ :
5 - البراءة حالة أصليّة في الأشخاص ، فكلّ شخصٍ يولد وذمّته بريئة ، وشغلها يحصل بالمعاملات أو الأعمال الّتي يجريها فيما بعد ، فكلّ شخصٍ يدّعي خلاف هذا الأصل يطلب منه أن يبرهن على ذلك ، فإذا ادّعى شخص على آخر بحقٍّ ، فالقول قول المدّعى عليه لموافقته الأصل ، والبيّنة على المدّعي لدعواه ما خالف الأصل ، فإذا لم يتمكّن من إثبات دعواه بالبيّنة يحكم ببراءة ذمّة المدّعى عليه اعتباراً بالقاعدة الفقهيّة : ( الأصل براءة الذّمّة ) . وكذلك إذا اختلفا في مقدار المغصوب والمتلف ، فالقول قول الغارم ( المدين ) لأنّ الأصل البراءة ممّا زاد . والبراءة وصف توصف به الذّمّة ، ولهذا صرّح الفقهاء بأنّ الأعيان لا توصف بالبراءة ، إلاّ أن يؤوّل بالبراءة من العهدة أو عن الدّعوى . هذا ، ولهذه القاعدة فروع مختلفة في المعاملات والجنايات ، وينظر تفصيلها في مباحث الدّعوى والبيّنات .
6 - ثمّ إنّ براءة الذّمّة كالأصل لا تحتاج إلى دليلٍ ، فإذا شغلت الذّمّة بارتكاب عملٍ أو إجراء معاملةٍ ، فبراءتها تحصل بأسبابٍ مختلفةٍ حسب اختلاف اشتغال الذّمّة وضمانها .
ففي حقوق اللّه تعالى إذا كانت الذّمّة مشغولةً بما يلزم من الأموال كالزّكاة والصّدقات الواجبة فلا تحصل البراءة إلاّ بأدائها ما دامت ميسّرةً . أمّا إذا كانت مشغولةً بالعبادات البدنيّة كالصّلاة والصّوم فبراءتها تحصل بالأداء ، وإذا فات الأوان فبالقضاء إذا كانت قليلةً يمكن قضاؤها ، وإلاّ فبالتّوبة والاستغفار ، وأمره إلى اللّه .
وفي حقوق العباد إذا أتلف أو غصب شخص مال شخصٍ آخر ، تحصل البراءة بالضّمان ، وهو إعطاء عين الشّيء إذا كان قائماً ، أو مثله إن كان مثليّاً ، أو قيمته إذا كان قيميّاً . ولتفصيل هذه المسائل ينظر مصطلح ( إتلاف ، غصب ، ضمان ) .
كذلك تحصل البراءة بإبراء الطّالب من حقّه على المطلوب منه دون الأداء أو الاستيفاء ، كما عبّروا عنه ببراءة الإسقاط ، أو إبراء الإسقاط . وتفصيله في مصطلح ( إبراء ) .
7- هذا ، وقد تحصل البراءة بانتقال الضّمان من ذمّةٍ إلى ذمّةٍ أخرى كما في الحوالة ، فإذا أحال المدين حقّ الدّائن على شخصٍ ثالثٍ ( المحال عليه ) وتمّ العقد ، برئت ذمّة المحيل من الدّين ، وبرئت ذمّة الكفيل إذا كان له كفيل ، وذلك لانتقال الدّين إلى ذمّة المحال عليه ، فإذا حصل التّوى ( تعذّر الاستيفاء من المحال عليه ) رجع الدّين إلى ذمّة المحيل ، وفيه خلاف ( ر : حوالة ) .
8- وقد تحصل البراءة بالتّبعيّة كما في الكفالة ، فإنّه إذا حصلت براءة المدين بأداء الدّين أو إبراء الدّائن له برئت ذمّة الكفيل ، وكذلك إذا زال سبب الضّمان بوجهٍ آخر ، كمن كان كفيلاً بثمن المبيع وانفسخ البيع مثلاً ، لأنّ براءة الأصيل توجب براءة الكفيل .
وتفصيله في مصطلح : ( كفالة ) .
هذا ، وهناك استعمال آخر لكلمة براءةٍ بمعنى : التّنزّه والانقطاع عن الأديان والمعتقدات الباطلة ، كما يطلب ممّن يشهر إسلامه أن يقرّ بأنّه بريء من كلّ عقيدةٍ ودينٍ يخالف دين الإسلام . وتفصيله في مصطلح : ( إسلام ) .
مواطن البحث :
9 - بحث الفقهاء البراءة في أبواب الدّعوى والبيّنات ، وفي بحث الكفالة تذكر براءة ذمّة الكفيل ، وفي الحوالة بأنّها توجب براءة ذمّة المدين ، وفي البيوع حيث قالوا : إنّ اشتراط البائع البراءة من عيوب المبيع سبب لسقوط الخيار ولزوم العقد ، كما ذكروها في باب الإبراء وآثاره من براءة الاستيفاء وبراءة الإسقاط .
براجم *
التّعريف :
1 - البراجم لغةً : جمع برجمةٍ ، وهي : المفاصل والعقد الّتي تكون في ظهور الأصابع ، ويجتمع فيها الوسخ . ومعنى الكلمة في الاصطلاح لا يخرج عن المعنى اللّغويّ .
الحكم الإجماليّ :
2 - يندب غسل البراجم في الطّهارة - في الوضوء والغسل - وفي غيرهما ، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « عشر من الفطرة ... وعدّ منها : غسل البراجم » .
ويلحق بالبراجم المواطن الّتي يجتمع فيها الوسخ عادةً : كالأذن والأنف والأظافر وأيّ موضعٍ من البدن .
هذا إذا كان الوسخ لا يمنع وصول الماء إلى البشرة ، أمّا إن منع وصول الماء إليها ، فإنّه يجب إزالته في الجملة ، ليصل الماء إلى العضو في الطّهارة . هذا ويتكلّم الفقهاء عن البراجم وغيرها من خصال الفطرة في الوضوء ، والغسل ، وخصال الفطرة .
براز *
التّعريف :
1- البراز ( بالفتح ) لغةً : اسم للفضاء الواسع . وكنّوا به عن قضاء الحاجة . كما كنّوا عنه بالخلاء ، لأنّهم كانوا يتبرّزون إلاّ في الأمكنة الخالية من النّاس . يقال : برز إذا خرج إلى البراز ، وهو الغائط ، وتبرّز الرّجل : خرج إلى البراز للحاجة . وهو بكسر الباء مصدر من المبارزة في الحرب ، ويكنّى به أيضاً عن الغائط وهو بمعناه الاصطلاحيّ لا يخرج عن المعنى الكنائيّ ، إذ هو ثفل الغذاء ، وهو الغائط الخارج على الوجه المعتاد .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الغائط :
2 - الغائط : أصله ما انخفض من الأرض ، والجمع الغيطان والأغواط . وبه سمّيت غوطة دمشق ، وكانت العرب تقصد هذا الصّنف من المواضع لقضاء حاجتها تستّراً عن أعين النّاس . ثمّ سمّي الحدث الخارج من الإنسان غائطاً للمقارنة .
وهو بهذا المعنى يتّفق مع البراز - بالفتح - كنائيّاً في الدّلالة ، من حيث إنّ كلّاً منهما كناية عن ثفل الغذاء وفضلاته الخارجة .
ب - البول :
3 - البول : واحد الأبوال . يقال : بال الإنسان والدّابّة ، يبول بولاً ومبالاً ، فهو بائل .
ثمّ استعمل البول في العين . أي في الماء الخارج من القبل ، وجمع على أبوالٍ .
وهو بهذا المعنى يأخذ حكم البراز ( بالفتح ) كنائيّاً ، من حيث إنّ كلّاً منهما نجس ، وإن اختلفا مخرجاً .
ج - النّجاسة :
4 - النّجاسة لغةً : كلّ مستقذرٍ .
واصطلاحاً : صفة حكميّة توجب لموصوفها منع استباحة الصّلاة ونحوها .
وهي بهذا المعنى أعمّ من البراز ( بالفتح ) مكنّياً إذ تشمله وغيره من الأنجاس ، كالدّم والبول والمذي والودي والخمر وغير ذلك من الأنجاس الأخرى .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
5 - أجمع الفقهاء على نجاسة البراز . وأنّه تتعلّق به أحكام منها : أنّه منجّس للبدن والثّوب والمكان . وأنّ تطهير ذلك واجب ، سواء أكان ذلك بالاستنجاء أو الغسل ، على ما هو مفصّل في موطنه . واختلفوا في المقدار المعفوّ عنه منه ، وفي جواز بيعه .
وتفصيل ذلك في أبواب الطّهارات وفي مصطلح ( قضاء الحاجة ) .
برد *
التّعريف :
1 - البرد لغةً : ضدّ الحرّ ، والبرودة نقيض الحرارة .
ولا يخرج استعمال الفقهاء للكلمة عن المعنى اللّغويّ في الجملة .
الألفاظ ذات الصّلة :
إبراد :
2 - من معاني الإبراد في اللّغة : الدّخول في البرد والدّخول في آخر النّهار .
وعند الفقهاء : تأخير الظّهر إلى وقت البرد .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
3 - تكلّم الفقهاء عن البرد في التّيمّم والجمعة والجماعة وجمع الصّلوات والحدود والتّعازير والصّلاة .
أ - ففي التّيمّم : أجاز المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - وهو رأي للحنفيّة - التّيمّم للحدث الأكبر والأصغر في البرد الشّديد مع وجود الماء ، إذا لم يجد ما يسخّنه وخشي الضّرر . وأجاز الحنفيّة - في المشهور - عندهم التّيمّم للحدث الأكبر دون الأصغر ، لعدم تحقّق الضّرر في الأصغر غالباً ، لكن لو تحقّق الضّرر جاز فيه أيضاً اتّفاقاً ، كما قرّره ابن عابدين ، قال : لأنّ الحرج مدفوع بالنّصّ ، وهو ظاهر إطلاق المتون .
وأجاز المالكيّة التّيمّم للبرد الشّديد المسبّب برودة الماء ، إذا خاف الصّحيح الحاضر أو المسافر خروج وقت الصّلاة بطلبه الماء وتسخينه .
ب - وفي صلاة الجمعة والجماعة : أجاز الفقهاء في البرد الشّديد التّخلّف عن صلاة الجمعة ، وعن صلاة الجماعة نهاراً أو ليلاً .
ج - وفي جمع الصّلوات : أجاز المالكيّة ، وهو رأي للحنابلة الجمع بين العشاءين فقط جمع تقديمٍ في البرد الشّديد ، حالّاً أو متوقّعاً .
وأجاز الشّافعيّة الجمع بين الظّهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء بشروطٍ مدوّنةٍ في مواطنها . ومنع الحنفيّة الجمع بين الصّلوات تقديماً أو تأخيراً في البرد ، لقَصْرهم الجمع على موطنين هما : مزدلفة وعرفة .
د - وفي الحدود والتّعازير : أوجب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في الجملة منع إقامة الحدود والتّعازير فيما دون النّفس في البرد الشّديد ، حتّى يعتدل الزّمان ، لأنّ إقامتها مهلكة ، وليس ردعاً .
هـ - وفي الصّلاة : أجاز الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة السّجود على كور العمامة أثناء الصّلاة على الأرض المكشوفة الباردة للضّرورة .
برد *
انظر : مياه .
بُرّ *
التّعريف :
1 - البرّ بالضّمّ يطلق لغةً : على القمح ، والواحدة منه ( برّة ) ، وهو في الإصلاح بهذا المعنى .
الحكم الإجماليّ :
2 - البرّ - من حيث كونه حبّاً خارجاً من الأرض - وجبت فيه الزّكاة إذا بلغ خمسة أوسقٍ عند الجمهور ، ومنهم أبو يوسف ومحمّد . وأوجبها أبو حنيفة في الخارج مطلقاً ، ولو لم يبلغ خمسة أوسقٍ .
ونسبة الواجب إذا سقيت الأرض سيحاً أو بماء السّماء : العشر ، وإذا سقيت بآلةٍ : نصف العشر ، وهذا باتّفاقٍ . وإذا كانت الأرض خراجيّةً ففيها الخراج دون العشر عند الحنفيّة . والبرّ من الأجناس المجزئة في صدقة الفطر الواجبة ، والقدر المجزئ منه صاع عند الجمهور ، ونصفه عند الحنفيّة . وتفصيله في صدقة الفطر .
وإذا قصد في البرّ التّجارة قوّم كالعروض ، وأخرجت عنه الزّكاة كما تخرج عنها . وتفصيله في الزّكاة .
ويعدّ البرّ من الماليّات المتقوّمة الّتي يجوز بيعها وهبتها والسّلم فيها ، ويدخله الرّبا إذا بيع بمثله . فيشترط له : المماثلة والحلول والتّقابض . لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :
« الذّهب بالذّهب ، والفضّة بالفضّة ، والبرّ بالبرّ ... » .
كما لا يجوز بيعه محاقلةً في الجملة ، وهي : بيع الحنطة في سنبلها بمثلها من الحنطة ولو خرصاً ، ولا مخاضرةً ، وهي : البيع قبل بدوّ الصّلاح والزّرع أخضر ، خلافاً لبعض الحنفيّة . والتّفصيل في ( البيع ، والرّبا ، والبيع المنهيّ عنه ) .
بِرّ *
التّعريف :
1 - تدور معاني لفظ البرّ لغةً : على الصّدق والطّاعة والصّلة والإصلاح والاتّساع في الإحسان إلى النّاس . يقال : بَرّ يبرّ : إذا صلح . وبرّ في يمينه : إذا صدق ، والبَرّ : الصّادق . وأبرّ اللّه الحجّ وبرّه : أي قبله . والبرّ : ضدّ العقوق ، والمبرّة مثله . وبررت والديّ : أي وصلتهما .
ومن أسمائه سبحانه وتعالى : ( البرّ ) أي الصّادق فيما وعد أولياءه .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن معناه اللّغويّ ، فهو عندهم : اسم جامع للخيرات كلّها ، يراد به التّخلّق بالأخلاق الحسنة مع النّاس بالإحسان إليهم وصلتهم والصّدق معهم ، ومع الخالق بالتزام أمره واجتناب نهيه .
كما يطلق ويراد به العمل الدّائم الخالص من المأثم . ويقابله : الفجور والإثم ، لأنّ الفجور خروج عن الدّين ، وميل إلى الفساد ، وانبعاث في المعاصي ، وهو اسم جامع للشّرّ .
الحكم الإجماليّ :
2 - تظاهرت نصوص الشّريعة على الأمر بالبرّ والحضّ عليه ، فهو خلق جامع للخير ، حاضّ على التزام الطّاعة واجتناب المعصية .
قال اللّه تعالى : { ليس البِرَّ أن تُوَلُّوا وجوهَكم قِبَلَ المشْرِقِ والمغْرِبِ ولكنَّ البِرَّ مَنْ آمن باللّه واليومِ الآخِرِ والملائكةِ والكتابِ والنّبيّينَ وآتى المالَ على حُبِّهِ ذَوِي القُرْبى واليتامَى والمساكينَ وابنَ السّبيلِ والسّائلين وفي الرّقابِ وأَقَامَ الصّلاةَ وآتى الزّكاةَ والموفُونَ بِعَهْدِهِم إذا عَاهَدُوا والصَّابرينَ في البَأْساءِ والضّرّاءِ وحين البَأْسِ أولئك الّذين صَدَقوا وأولئك هُمُ المتّقون } . جاء في تفسير القرطبيّ : أنّ البرّ هنا اسم جامع للخير ، وقال : تقدير الكلام : ولكنّ البرّ برّ من آمن . أو التّقدير : ولكنّ ذا البرِّ مَنْ آمن ، وذلك أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا هاجر إلى المدينة ، وفرضت الفرائض ، وصرفت القبلة إلى الكعبة ، وحدّت الحدود ، أنزل اللّه هذه الآية . فأفادت أنّ البرّ ليس كلّه بالصّلاة ، ولكنّ البرّ بالإيمان باللّه إلى آخرها من صفات الخير الجامعة .
وقال تعالى : { وَتَعاوَنُوا على البِرِّ والتّقوى ولا تَعَاوَنُوا على الإثمِ والعدوانِ } .
قال الماورديّ : ندب اللّه سبحانه إلى التّعاون بالبرّ ، وقرنه بالتّقوى له ، لأنّ في التّقوى رضى اللّه تعالى وفي البرّ رضى النّاس ، ومن جمع بين رضى اللّه تعالى ورضى النّاس فقد تمّت سعادته وعمّت نعمته .
وقال ابن خويز مندادٍ : والتّعاون على البرّ والتّقوى يكون بوجوهٍ ، فواجب على العالم أن يعين النّاس بعلمه فيعلّمهم ، ويعينهم الغنيّ بماله ، والشّجاع بشجاعته في سبيل اللّه ، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة .
وفي حديث النّوّاس بن سمعان قال : سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن البرّ والإثم ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « البِرُّ حُسْنُ الخلُق ، والإثمُ ما حاك في نفسِك ، وكَرِهْتَ أن يَطّلعَ عليه النّاس » .
قال النّوويّ في شرحه على مسلمٍ : قال العلماء : البرّ يكون بمعنى الصّلة ، وبمعنى اللّطف والمبرّة وحسن الصّحبة والعشرة ، وبمعنى الطّاعة ، وهذه الأمور هي مجامع حسن الخلق . ومعنى حاك في صدرك : أي تحرّك فيه وتردّد ، ولم ينشرح له الصّدر ، وحصل في القلب منه الشّكّ وخوف كونه ذنباً ".
ويتعلّق بالبرّ أحكام كثيرة منها :
برّ الوالدين :
3 - برّ الوالدين بمعنى : طاعتهما وصلتهما وعدم عقوقهما ، والإحسان إليهما مع إرضائهما بفعل ما يريدانه ما لم يكن إثماً . قال اللّه تعالى : { وَقَضى رَبُّك أَلاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاه وبالوالدين إحْسَاناً } .
وفي حديث عبد اللّه بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال : « سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أيُّ العمل أحبّ إلى اللّه ؟ قال : الصّلاةُ على وقتها ، قلت : ثمّ أيّ ؟ قال : برُّ الوالدين ، قلت : ثمّ أيّ ؟ قال : الجهادُ في سبيل اللّه » .
فهذه النّصوص تدلّ على وجوب برّ الوالدين وتعظيم حقّهما .
وللتّفصيل في بيان حقّ الوالدين وبرّهما انظر مصطلح ( برّ الوالدين ) .
برّ الأرحام :
4 - برّ الأرحام وهو بمعنى صلتهم والإحسان إليهم وتفقّد أحوالهم والقيام على حاجاتهم ومواساتهم . قال اللّه تعالى : { واعْبُدُوا اللّهَ ولا تُشْركُوا به شيئاً وبالوالدين إحْسَاناً وبذي القُرْبى واليَتَامى والمساكينِ والجارِ ذي القُرْبى والجارِ الجُنُبِ والصّاحبِ بالجَنْبِ وابنِ السّبيلِ وما مَلَكَتْ أيمانُكم }
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه تعالى خَلَقَ الخلق ، حتّى إذا فرغ منهم ، قامت الرّحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال نعم ، أما ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى قال : فذلك لك . ثمّ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : اقرءوا إن شئتم : { فهل عَسَيْتُم إنْ تَوَلَّيْتُم أنْ تُفْسِدوا في الأرضِ وتُقَطِّعُوا أرحامكم أولئكَ الّذين لَعَنَهُم اللّه فأصَمَّهم وأعمى أَبْصَارَهم } » . فهذه النّصوص تدلّ على أنّ صلة الأرحام وبرّها واجب ، وقطيعتها محرّمة في الجملة ، إلاّ أنّها درجات بعضها أرفع من بعضٍ ، وأدناها ترك الهجر ، والصّلة بالكلام والسّلام . وتختلف هذه الدّرجات باختلاف القدرة والحاجة ، فمنها الواجب ، ومنها المستحبّ . إلاّ أنّه لو وصل بعض الصّلة ، ولم يصل غايتها ، لا يسمّى قاطعاً ، ولو قصّر عمّا يقدر عليه وينبغي له لا يكون واصلاً .
أمّا حدّ الرّحم الّتي تجب صلتها ويحرم قطعها : فهو القرابات من جهة أصل الإنسان ، كأبيه وجدّه وإن علا ، وفروعه كأبنائه وبناته وإن نزلوا . وما يتّصل بهما من حواشٍ كالإخوة والأخوات والأعمام والعمّات والأخوال والخالات ، وما يتّصل بهم من أولادهم برحمٍ جامعةٍ . وللتّفصيل انظر مصطلح ( أرحام ) .
برّ اليتامى والضّعفة والمساكين :
5 - برّ اليتامى والضّعفة والمساكين يكون بالإحسان إليهم ، والقيام على مصالحهم وحقوقهم ، وعدم تضييعها ، ففي حديث سهل بن سعدٍ - رضي الله عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا وأشار بالسّبّابة والوسطى وفرّج بينهما » . وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه قال : رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « السّاعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل اللّه . وأحسبه قال : وكالقائم الّذي لا يفتر ، وكالصّائم الّذي لا يفطر » .
الحجّ المبرور :
6 - الحجّ المبرور هو : الحجّ المقبول الّذي لا يخالطه إثم ولا رياء .
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « العمرة إلى العمرة كفّارة لما بينهما ، والحجّ المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنّة » وللتّفصيل انظر مصطلح ( حجّ ) .
البيع المبرور :
7 - البيع المبرور : هو الّذي لا غشّ فيه ولا خيانة . ففي حديث أبي بردة بن نيارٍ عن ابن عمر قال : « سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أيّ الكسب أفضل قال : عمل الرّجل بيده ، وكلّ بيعٍ مبرورٍ » وللتّفصيل انظر مصطلح ( بيع ) .
برّ اليمين :
8 - برّ اليمين معناه : أن يصدق في يمينه ، فيأتي بما حلف عليه . قال اللّه تعالى : { ولا تَنْقُضُوا الأيمانَ بعدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُم اللّهَ عَلَيكم كَفيلاً إنَّ اللّه يَعْلَمُ ما تَفْعَلون } .
وهو واجب في الحلف على فعل الواجب أو ترك الحرام ، فيكون يمين طاعةٍ يجب البرّ به بالتزام ما حلف عليه ، ويحرم عليه الحنث فيه .
أمّا إن حلف على ترك واجبٍ أو فعل محرّمٍ فهو يمين معصيةٍ ، يجب الحنث فيه .
فإن حلف على فعل نفلٍ ، كصلاة تطوّعٍ أو صدقة تطوّعٍ فالتزام اليمين مندوب ، ومخالفته مكروهة .
فإن حلف على ترك نفلٍ فاليمين مكروهة ، والإقامة عليها مكروهة ، والسّنّة أن يحنث فيها . وإن كانت على فعلٍ مباحٍ فالحنث بها مباح قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :
« إذا حلفت على يمينٍ فرأيتَ غيرَها خيراً منها فَأْتِ الّذي هو خير ، وكَفِّرْ عن يَمينِك »
وللتّفصيل انظر مصطلح ( أيمان ) .
برّ الوالدين *
التّعريف :
1 - من معاني البرّ في اللّغة : الخير والفضل والصّدق والطّاعة والصّلاح .
وفي الاصطلاح : يطلق في الأغلب على الإحسان بالقول اللّيّن اللّطيف الدّالّ على الرّفق والمحبّة ، وتجنّب غليظ القول الموجب للنّفرة ، واقتران ذلك بالشّفقة والعطف والتّودّد والإحسان بالمال وغيره من الأفعال الصّالحات . والأبوان : هما الأب والأمّ .
ويشمل لفظ ( الأبوين ) الأجداد والجدّات . قال ابن المنذر : والأجداد آباء ، والجدّات أمّهات ، فلا يغزو المرء إلاّ بإذنهم ، ولا أعلم دلالةً توجب ذلك لغيرهم من الإخوة وسائر القرابات . حكمه التّكليفيّ :
2 - اهتمّ الإسلام بالوالدين اهتماماً بالغاً . وجعل طاعتهما والبرّ بهما من أفضل القربات . ونهى عن عقوقهما وشدّد في ذلك غاية التّشديد . كما ورد في القرآن المجيد في قوله سبحانه وتعالى : { وَقَضَى ربُّك أَلاّ تَعْبُدوا إِلاّ إيّاهُ وبالوالدين إِحساناً إِمّا يَبْلُغَنَّ عندَك الكِبَرَ أحدُهما أو كِلاهما فلا تَقُلْ لَهما أُفٍّ ولا تَنْهَرْهُما وقُلْ لَهما قَوْلاً كَريماً . واخْفِضْ لهما جَنَاحَ الذُّلِّ مِن الرَّحمةِ وقلْ ربِّ ارحَمْهُما كَما ربَّيَاني صَغِيراً } ، فقد أمر سبحانه بعبادته وتوحيده وجعل برّ الوالدين مقروناً بذلك ، والقضاء هنا : بمعنى الأمر والإلزام والوجوب .
كما قرن شكرهما بشكره في قوله سبحانه : { أَنِ اشْكُرْ لي ولوَالدَيْك إليَّ المصيرُ } .
فالشّكر للّه على نعمة الإيمان ، وللوالدين على نعمة التّربية . وقال سفيان بن عيينة : من صلّى الصّلوات الخمس فقد شكر اللّه تعالى .
ومن دعا لوالديه في أدبار الصّلوات فقد شكرهما . وفي صحيح البخاريّ عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال : « سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أيّ الأعمال أحبّ إلى اللّه عزّ وجلّ ؟ قال : الصّلاةُ على وَقْتها قال : ثمّ أيّ ؟ قال : بِرُّ الوالدين قال : ثمّ أيّ ؟ قال : الجهادُ في سبيلِ اللّه » . فأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ برّ الوالدين أفضل الأعمال بعد الصّلاة الّتي هي أعظم دعائم الإسلام . وقدّم في الحديث برّ الوالدين على الجهاد ، لأنّ برّهما فرض عينٍ يتعيّن عليه القيام به ، ولا ينوب عنه فيه غيره . فقد قال رجل لابن عبّاسٍ رضي الله عنهما :" إنّي نذرت أن أغزو الرّوم ، وإنّ أبويّ منعاني . فقال : أطع أبويك ، فإنّ الرّوم ستجد من يغزوها غيرك ". والجهاد في سبيل اللّه فرض كفايةٍ إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، وبرّ الوالدين فرض عينٍ ، وفرض العين أقوى من فرض الكفاية . وفي خصوص ذلك أحاديث كثيرة منها ما في صحيح البخاريّ عن عبد اللّه بن عمرٍو قال : « جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الغزو . فقال : أحَيُّ والداك ؟ قال : نعم . قال فَفِيهما فجاهد » . وفي سنن أبي داود عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص . « جاء رجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : جئتُ أبايعك على الهجرةِ ، وتركت أبويّ يبكيان فقال : ارْجِعْ إليهما فَأَضْحِكْهُما كما أَبْكَيْتَهُما » . وفيه عن أبي سعيدٍ الخدريّ « أنّ رجلاً هاجر إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من اليمن . فقال : هل لك أحد باليمن ؟ قال : أبواي . قال : أَذِنَا لك ؟ قال : لا . قال : فارجْع فاستأذِنْهما فإِنْ أَذِنَا لك فَجَاهِدْ ، وإلاّ فَبِرَّهما » . هذا إذا لم يكن النّفير عامّاً . وإلاّ أصبح خروجه فرض عينٍ ، إذ يتعيّن على الجميع الدّفع والخروج للعدوّ . وإذا كان برّ الوالدين فرض عينٍ ، فإنّ خلافه يكون حراماً ، ما لم يكن عن أمرٍ بشركٍ أو ارتكاب معصيةٍ ، حيث لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق .
البرّ بالوالدين مع اختلاف الدّين :
3 - البرّ بالوالدين فرض عينٍ كما سبق بيانه ، ولا يختصّ بكونهما مسلمين ، بل حتّى لو كانا كافرين يجب برّهما والإحسان إليهما ما لم يأمرا ابنهما بشركٍ أو ارتكاب معصيةٍ .
قال تعالى : { لا يَنْهاكُم اللّه عن الّذين لَمْ يُقاتِلوكم في الدِّين ولم يُخْرِجُوكم من دياركم أَنْ تَبَرُّوهم وتُقْسِطُوا إليهم إنَّ اللّه يحبُّ المقْسِطين } .
فعليه أن يقول لهما قولاً ليّناً لطيفاً دالّاً على الرّفق بهما والمحبّة لهما ، ويجتنب غليظ القول الموجب لنفرتهما ، ويناديهما بأحبّ الألفاظ إليهما ، وليقل لهما ما ينفعهما في أمر دينهما ودنياهما ، ولا يتبرّم بهما بالضّجر والملل والتّأفّف ، ولا ينهرهما ، وليقل لهما قولاً كريماً . وفي صحيح البخاريّ « عن أسماء قالت : قدمتْ أمّي وهي مشركة في عهد قريش ومدّتهم إذ عاهدوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع أبيها ، فاستفتيتُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت : إنّ أمّي قدمتْ وهي راغبةٌ أَفَأَصِلُها ؟ قال : نعم ، صِلي أَمّكِ » ، وفي روايةٍ أخرى عنها قالت : « أتتني أمّي راغبةً في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم أَأَصِلها ؟ قال : نعم » قال ابن عيينة : فأنزل اللّه عزّ وجلّ فيها { لا ينهاكم اللّه عن الّذين لم يقاتلوكم في الدّين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم } . وفي هذا المقام قال اللّه تعالى : { وَوَصَّيْنَا الإنسانَ بِوَالديهِ حُسْناً وإنْ جَاهداكَ لِتُشْرِكَ بي ما لَيْسَ لك به عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إليَّ مَرْجِعُكم فَأُنَبِّئكُم بما كُنْتُم تعْمَلون } . قيل : نزلت في سعد بن أبي وقّاصٍ . فقد روي أنّه قال :" كنت بارّاً بأمّي فأسلمت فقالت : لتدعنّ دينك أو لا آكل ولا أشرب شراباً حتّى أموت فتعيّر بي ، ويقال : يا قاتل أمّه .. وبقيت يوماً ويوماً . فقلت : يا أمّاه : لو كانت لك مائة نفسٍ ، فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني هذا ، فإن شئت فكلي ، وإن شئت فلا تأكلي . فلمّا رأت ذلك أكلت ". هذا وفي الدّعاء بالرّحمة الدّنيويّة للوالدين غير المسلمين حال حياتهما خلاف ذكره القرطبيّ .
أمّا الاستغفار لهما فممنوع ، استناداً إلى قوله تعالى : { ما كانَ لِلنَّبِيِّ والّذين آمَنوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلمشركينَ وَلَوْ كانُوا أُولي قُرْبى } فإنّها نزلت في استغفاره صلى الله عليه وسلم لعمّه أبي طالبٍ واستغفار بعض الصّحابة لأبويه المشركين . وانعقد الإجماع على عدم الاستغفار لهما بعد وفاتهما وحرمته ، وعلى عدم التّصدّق على روحهما .
أمّا الاستغفار للأبوين الكافرين حال الحياة فمختلف فيه ، إذ قد يسلمان .
ولو منعه أبواه الكافران عن الخروج للجهاد الكفائيّ ، مخافةً عليه ، ومشقّةً لهما بخروجه وتركهما ، فعند الحنفيّة : لهما ذلك ، ولا يخرج إلاّ بإذنهما برّاً بهما وطاعةً لهما ، إلاّ إذا كان منعهما له لكراهة قتال أهل دينهما ، فإنّه لا يطيعهما ويخرج له .
وعند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : يجوز له الخروج للجهاد بغير إذنهما ، لأنّهما متّهمان في الدّين ، إلاّ بقرينةٍ تفيد الشّفقة ونحوها عند المالكيّة . وقال الثّوريّ : لا يغزو إلاّ بإذنهما إذا كان الجهاد من فروض الكفاية .
أمّا إذا تعيّن الجهاد لحضور الصّفّ ، أو حصر العدوّ ، أو استنفار الإمام له بإعلان النّفير العامّ فإنّه يسقط الإذن ، ويجب عليه الجهاد بغير إذنهما ، إذ أصبح واجباً عليه القيام به ، لصيرورته فرض عينٍ على الجميع .
التّعارض بين برّ الأب وبرّ الأمّ :
4 - لمّا كان حقّ الوالدين على الأولاد عظيماً ، فقد نزل به القرآن الكريم في مواضع كثيرةٍ ، ووردت به السّنّة المطهّرة ، ويقضي ذلك بلزوم برّهما وطاعتهما ورعاية شئونهما والامتثال لأمرهما ، فيما ليس بمعصيةٍ ، على نحو ما سبق بيانه .
ونظراً لقيام الأمّ بالعبء الأكبر في تربية الولد اختصّها الشّارع بمزيدٍ من البرّ ، بعد أن أوصى ببرّهما ، فقال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الإنسانَ بِوالديه حَمَلَتْه أمُّه وَهْنَاً على وَهْنٍ وفِصَالُه في عَامينِ } . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه : من أحقّ بحسن صحابتي ؟ قال : أمّك قال : ثمّ من ؟ قال : أمّك قال : ثمّ من ؟ قال : أمّك قال : ثمّ من ؟ قال : أبوك » .
وقوله صلى الله عليه وسلم « إنّ اللّه يُوصيكم بأمّهاتكم ، ثمّ يُوصيكم بأمّهاتِكم ، ثمّ يُوصيكم بأمّهاتكم ، ثمّ يُوصيكم بآبائِكم ، ثمّ يوصيكم بالأقربِ فالأقربِ » .
ومن حديث عائشة رضي الله عنها : « سألتُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أيّ النّاسِ أعظمُ حقّاً على المرأة ؟ قال : زوجها . قلتُ : فعلى الرّجل ؟ قال أمُّه » .
ففيما ذكر - وغيره كثير - ممّا سبق بيانه دليل على منزلة الأبوين ، وتقديم الأمّ في البرّ على الأب في ذلك ، لصعوبة الحمل ، ثمّ الوضع وآلامه ، ثمّ الرّضاع ومتاعبه ، وهذه أمور تنفرد بها الأمّ وتشقى بها ، ثمّ تشارك الأب في التّربية ، فضلاً عن أنّ الأمّ أحوج إلى الرّعاية من الأب ، ولا سيّما حال الكبر .
وفي تقديم هذا الحقّ أيضاً : أنّه لو وجبت النّفقة على الولد لأبويه ، ولم يقدر إلاّ على نفقة أحدهما ، فتقدّم الأمّ على الأب في أصحّ الرّوايات عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رأي عند الحنابلة ، وذلك لما لها من مشقّة الحمل والرّضاع والتّربية وزيادة الشّفقة ، وأنّها أضعف وأعجز . هذا ما لم يتعارضا في برّهما .
5- فإن تعارضا فيه ، بأن كان في طاعة أحدهما معصية الآخر . فإنّه ينظر . إن كان أحدهما يأمر بطاعةٍ والآخر يأمر بمعصيةٍ ، فإنّ عليه أن يطيع الآمر بالطّاعة منهما دون الآمر بالمعصية ، فيما أمر به من معصيةٍ . لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق » وعليه أن يصاحبه بالمعروف للأمر بذلك في قوله تعالى : { وصاحِبْهما في الدّنيا معروفاً } وهي وإن كانت نزلت في الأبوين الكافرين ، إلاّ أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب .
أمّا إن تعارض برّهما في غير معصيةٍ ، وحيث لا يمكن إيصال البرّ إليهما دفعةً واحدةً ، فقد قال الجمهور : طاعة الأمّ مقدّمة ، لأنّها تفضل الأب في البرّ . وقيل : هما في البرّ سواء ، فقد روي أنّ رجلاً قال لمالكٍ :" والدي في السّودان ، كتب إليّ أن أقدم عليه ، وأمّي تمنعني من ذلك ، فقال له مالك : أطع أباك ولا تعص أمّك ". يعني أنّه يبالغ في رضى أمّه بسفره لوالده ، ولو بأخذها معه ، ليتمكّن من طاعة أبيه وعدم عصيان أمّه .
وروي أنّ اللّيث حين سئل عن المسألة بعينها قال :" أطع أمّك ، فإنّ لها ثلثي البرّ ".
كما حكى الباجيّ أنّ امرأةً كان لها حقّ على زوجها ، فأفتى بعض الفقهاء ابنها : بأن يتوكّل لها على أبيه ، فكان يحاكمه ، ويخاصمه في المجالس تغليباً لجانب الأمّ . ومنعه بعضهم من ذلك ، قال : لأنّه عقوق للأب ، وحديث أبي هريرة إنّما دلّ على أنّ برّه أقلّ من برّ الأمّ ، لا أنّ الأب يعقّ . ونقل المحاسبيّ الإجماع على أنّ الأمّ مقدّمة في البرّ على الأب .
برّ الوالدين والأقارب المقيمين بدار الحرب :
6 - قال ابن جريرٍ : إنّ برّ المؤمن من أهل الحرب ، ممّن بينه وبينه قرابة نسبٍ ، أو من لا قرابة بينه وبينه ولا نسب ، غير محرّمٍ ولا منهيٍّ عنه ، إذا لم يكن في ذلك تقوية للكفّار على المسلمين ، أو دلالة على عورةٍ لأهل الإسلام ، أو تقوية لهم بكراعٍ أو سلاحٍ .
وهو موافق لما نقل عن ابن الجوزيّ الحنبليّ في الآداب الشّرعيّة ، ولا يختلف عمّا ذكر ، واستدلّ له بإهداء عمر الحلّة الحريريّة إلى أخيه المشرك . وبحديث أسماء وفيهما صلة أهل الحرب وبرّهم وصلة القريب المشرك . ومن البرّ للوالدين الكافرين الوصيّة لهما ، لأنّهما لا يرثان ابنهما المسلم . وللتّفصيل ر : ( وصيّة ) .
بم يكون البرّ ؟
7 – يكون برّ الوالدين بالإحسان إليهما بالقول اللّيّن الدّالّ على الرّفق بهما والمحبّة لهما ، وتجنّب غليظ القول الموجب لنفرتهما ، وبمناداتهما بأحبّ الألفاظ إليهما ، كيا أمّي ويا أبي ، وليقل لهما ما ينفعهما في أمر دينهما ، ودنياهما ويعلّمهما ما يحتاجان إليه من أمور دينهما ، وليعاشرهما بالمعروف . أي بكلّ ما عرف من الشّرع جوازه ، فيطيعهما في فعل جميع ما يأمرانه به ، من واجبٍ أو مندوبٍ ، وفي ترك ما لا ضرر عليه في تركه ، ولا يحاذيهما في المشي ، فضلاً عن التّقدّم عليهما ، إلاّ لضرورةٍ نحو ظلامٍ ، وإذا دخل عليهما لا يجلس إلاّ بإذنهما ، وإذا قعد لا يقوم إلاّ بإذنهما ، ولا يستقبح منهما نحو البول عند كبرهما أو مرضهما لما في ذلك من أذيّتهما ، قال تعالى : { واعْبُدُوا اللّه ولا تُشْركوا به شيئاً وبالوالدينِ إحْسَاناً } .
قال ابن عبّاسٍ : يريد البرّ بهما مع اللّطف ولين الجانب ، فلا يغلظ لهما في الجواب ، ولا يحدّ النّظر إليهما ، ولا يرفع صوته عليهما .
ومن البرّ بهما والإحسان إليها : ألاّ يسيء إليهما بسبٍّ أو شتمٍ أو إيذاءٍ بأيّ نوعٍ من أنواعه ، فإنّه من الكبائر بلا خلافٍ . ففي صحيح مسلمٍ عن عبد اللّه بن عمرٍو أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّ مِنَ الكبائرِ شتمُ الرّجلِ والديه ، قالوا . يا رسول اللّه : وهل يشتم الرّجلُ والديه ؟ قال : نعم يَسُبُّ الرّجلُ أبا الرّجل فَيَسُبُّ أباه ، ويسبُّ أُمَّه فيسبُّ أمَّه » وفي روايةٍ أخرى : « إنّ من أكبر الكبائر أن يلعن الرّجلُ والدَيْه . قيل : يا رسول اللّه وكيف يلعن الرّجل والديه ؟ . قال : يسبّ أبا الرّجل فيسبّ الرّجل أباه » .
8- ومن برّهما صلة أهل ودّهما ، ففي الصّحيح عن ابن عمر قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « إنَّ من أَبَرِّ البِرِّ صلةَ الرّجلِ أهلَ ودِّ أبيه بعد أنْ يُوَلّي » فإن غاب أو مات يحفظ أهل ودّه ويحسن إليهم ، فإنّه من تمام الإحسان إليه .
وروى أبو أسيدٍ وكان بدريّاً قال : « كنت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم جالساً ، فجاءه رجل من الأنصار فقال : يا رسول اللّه . هل بقي من برّ والديّ بعد موتهما شيء أبرّهما به ؟ قال : نعم ، الصّلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عَهْدِهما من بعدِهما ، وإِكرامُ صديقِهما ، وصلةُ الرّحِمِ الّتي لا رَحِمَ لك إلاّ من قِبَلِهما ، فهذا الّذي بَقِيَ عليك » . « وكان صلى الله عليه وسلم يهدي لصدائق خديجة برّاً بها ووفاءً لها » ، وهي زوجته ، فما ظنّك بالوالدين .
استئذانهما للسّفر للتّجارة أو لطلب العلم :
9 - وضع فقهاء الحنفيّة لذلك قاعدةً حاصلها : أنّ كلّ سفرٍ لا يؤمن فيه الهلاك ، ويشتدّ فيه الخطر ، فليس للولد أن يخرج إليه بغير إذن والديه ، لأنّهما يشفقان على ولدهما ، فيتضرّران بذلك . وكلّ سفرٍ لا يشتدّ فيه الخطر يحلّ له أن يخرج إليه بغير إذنهما ، إذا لم يضيّعهما ، لانعدام الضّرر . وبذا لا يلزمه إذنهما للسّفر للتّعلّم ، إذا لم يتيسّر له ذلك في بلده ، وكان الطّريق آمناً ، ولم يخف عليهما الضّياع ، لأنّهما لا يتضرّران بذلك ، بل ينتفعان به ، فلا تلحقه سمة العقوق . أمّا إذا كان السّفر للتّجارة ، وكانا مستغنين عن خدمة ابنهما ، ويؤمن عليهما الضّياع ، فإنّه يخرج إليها بغير إذنهما . أمّا إذا كانا محتاجين إليه وإلى خدمته ، فإنّه لا يسافر بغير إذنهما .
وفصّل المالكيّة في السّفر لطلب العلم ، بأنّه إذا كان لتحصيل درجةٍ من العلم لا تتوفّر في بلده ، كالتّفقّه في الكتاب والسّنّة ومعرفة الإجماع ومواضع الخلاف ومراتب القياس ، كان له ذلك بغير إذنهما إن كان فيه أهليّة النّظر ، ولا طاعة لهما في منعه ، لأنّ تحصيل درجة المجتهدين فرض على الكفاية . قال تعالى : { وَلْتَكُنْ مِنْكم أمّةٌ يَدْعُون إلى الخيرِ وَيَأْمُرونَ بِالمعروفِ وَيَنْهَوْن عن المنْكَرِ } ، أمّا إن كان للتّفقّه على طريق التّقليد ، وفي بلده ذلك ، لم يجز له السّفر إلاّ بإذنهما .
وإذا أراد سفراً للتّجارة يرجو به ما يحصل له في الإقامة فلا يخرج إلاّ بإذنهما .
حكم طاعتهما في ترك النّوافل أو قطعها :
10 - قال الشّيخ أبو بكرٍ الطّرطوشيّ في كتاب برّ الوالدين : لا طاعة لهما في ترك سنّةٍ راتبةٍ ، كحضور الجماعات ، وترك ركعتي الفجر والوتر ونحو ذلك ، إذا سألاه ترك ذلك على الدّوام ، بخلاف ما لو دعواه لأوّل وقت الصّلاة وجبت طاعتهما ، وإن فاتته فضيلة أوّل الوقت .
حكم طاعتهما في ترك فروض الكفاية :
11 - سبق حديث صحيح مسلمٍ فيمن أراد البيعة وَأَحَدُ والديه حيّ ، وفيه دلالة على تقديم صحبتهما على صحبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وتقديم خدمتهما - الّتي هي واجبة عليه وجوباً عينيّاً - على فروض الكفاية ، وذلك لأنّ طاعتهما وبرّهما فرض عينٍ ، والجهاد فرض كفايةٍ ، وفرض العين أقوى .
حكم طاعتهما في طلبهما تطليق زوجته :
12 - روى التّرمذيّ عن ابن عمر قال : « كانت تحتي امرأة أحبّها ، وكان أبي يكرهها ، فأمرني أن أطلّقها ، فأبيتُ ، فذكرت ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا عبدَ اللّه بن عمر طلِّقْ امرأتك » .
وسأل رجل الإمام أحمد فقال :" إنّ أبي يأمرني أن أطلّق امرأتي . قال : لا تطلّقها . قال : أليس عمر رضي الله عنه أمر ابنه عبد اللّه أن يطلّق امرأته ؟ قال : حتّى يكون أبوك مثل عمر رضي الله عنه ". يعني لا تطلّقها بأمره حتّى يصير مثل عمر في تحرّيه الحقّ والعدل ، وعدم اتّباع هواه في مثل هذا الأمر . واختار أبو بكرٍ من الحنابلة أنّه يجب ، لأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم لابن عمر . وقال الشّيخ تقيّ الدّين بن تيميّة :" فيمن تأمره أمّه بطلاق امرأته . قال : لا يحلّ له أن يطلّقها . بل عليه أن يبرّها . وليس تطليق امرأته من برّها ".
حكم طاعتهما فيما لو أمراه بمعصيةٍ أو بترك واجبٍ :
13 - قال تعالى : { وَوَصَّينا الإنسانَ بوالديه حُسْناً وإن جاهَدَاك لِتُشْرِك بِي ما ليس لَكَ به عِلْمٌ فلا تُطِعْهما } وقال : { وإنْ جاهداك على أنْ تُشْرك بي ما ليس لك به علم فلا تُطْعهما وصاحِبْهما في الدّنيا معروفاً } ففيهما وجوب برّهما وطاعتهما والإحسان إليهما ، وحرمة عقوقهما ومخالفتهما ، إلاّ فيما يأمرانه به من شركٍ أو ارتكاب معصيةٍ ، فإنّه في هذه الحالة لا يطيعهما ولا يمتثل لأوامرهما ، لوجوب مخالفتهما وحرمة طاعتهما في ذلك ، يؤكّد هذا قوله صلى الله عليه وسلم : « لا طاعة لمخلوقٍ في معصيةٍ الخالق » وللحديث المتقدّم في سعد بن أبي وقّاصٍ مع أمّه فقد عصى أمرها ، حين طلبت إليه ترك دينه ، وبقي على مصاحبتها بالمعروف برّاً بها . وعصيانه لها فيما أمرته به واجب ، فلا تطاع في أمرها له بترك الواجبات .
عقوق الوالدين وجزاؤه في الدّنيا والآخرة :
14 - بالإضافة إلى العقوق السّلبيّ بترك برّهما ، فإنّ هناك صوراً مختلفةً للعقوق بعضها فعليّ وبعضها قوليّ . ومن العقوق ما يبديه الولد لأبويه من مللٍ وضجرٍ وغضبٍ وانتفاخ أوداجه ، واستطالته عليهما بدالّة البنوّة وقلّة الدّيانة خاصّةً في حال كبرهما . وقد أمر أن يقابلهما بالحسنى واللّين والمودّة ، والقول الموصوف بالكرامة ، السّالم من كلّ عيبٍ ، فقال تعالى : { إمّا يَبْلُغَنَّ عندك الكِبَرَ أحدُهما أو كلاهما فلا تَقُلْ لهما أُفٍّ }
فنهي عن أن يقول لهما ما يكون فيه أدنى تبرّمٍ . وضابط عقوقهما - أو أحدهما - هو أن يؤذي الولد أحد والديه بما لو فعله مع غيرهما كان محرّماً من جملة الصّغائر ، فينتقل بالنّسبة إلى أحد الوالدين إلى الكبائر . وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « يُراح ريحُ الجنّة من مسيرة خمسمائةِ عامٍ ، ولا يَجِدُ ريحَها منّانٌ بعمله ، ولا عاقّ ، ولا مُدْمِنُ خمرٍ » وما روي عن عبد الرّحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « ألا أنبّئكم بأكبرِ الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول اللّه . قال : ثلاثاً . الإشراكُ باللّه ، وعقوقُ الوالدين ، وكان مُتّكِئاً فجلس ، فقال : ألا وقولَ الزّورِ وشهادة الزّور . ألا وقولَ الزّورِ وشهادةَ الزّورِ . فما زال يقولها حتّى قلت : لا يسكت » . وقال صلى الله عليه وسلم : « رضى اللّه في رضى الوالدين ، وسخط اللّه في سخط الوالدين » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « كلُّ الذّنوبِ يؤخّرُ اللّه منها ما شاءَ إلى يومِ القيامةِ إلاّ عقوقَ الوالدين ، فإِنَّ اللّه يعجِّلُه لصاحبِه في الحياةِ قبل المماتِ » .
جزاء العقوق :
15 - جزاء عقوق الوالدين أخرويّاً سبق الكلام عنه ، وأمّا جزاؤه في الدّنيا فهو من باب التّعزير ، ويختلف قدره باختلاف حاله وحال فاعله .
فإن تعدّى على أبويه ، أو أحدهما ، بالشّتم أو الضّرب مثلاً عزّراه ، أو عزّره الإمام - بطلبهما - إن كانا مشتومين أو مضروبين معاً ، أو بطلب من كان منهما معتدًى عليه بذلك . فإن عفا المشتوم أو المضروب كان وليّ الأمر بعد عفوه على خياره في فعل الأصلح من التّعزير تقويماً ، والصّفح عنه عفواً ، فإن تعافوا عن الشّتم والضّرب قبل التّرافع إلى الإمام سقط التّعزير . ويكون تعزيره بالحبس على حسب الذّنب والهفوة ، أو بالضّرب أو التّأنيب بالكلام العنيف ، أو بغير ذلك ممّا به ينزجر ويرتدع .
برزة *
التّعريف :
1 - البَرْزة هي : المرأة البارزة المحاسن ، أو المتجاهرة الكهلة الوقورة ، الّتي تبرز للقوم يجلسون إليها ويتحدّثون ، وهي عفيفة . ويقال : امرأة برزة إذا كانت كهلةً لا تحتجب احتجاب الشّوَابّ ، وهي مع هذا عفيفة عاقلة ، تجلس للنّاس وتحدّثهم ، من البروز والخروج . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
المخدّرة :
2 - المخدّرة لغةً : من لزمت الخدر ، والخدر : السّتر .
وفي الاصطلاح : الملازمة للخدر ، بكراً كانت أو ثيّباً ، ولا يراها غير المحارم من الرّجال ، وإن خرجت لحاجةٍ . وعلى هذا : فالمخدّرة ضدّ البرزة .
الحكم الإجماليّ :
3 - يرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وجوب حضور المرأة البرزة لأداء الشّهادة ، إذا تحمّلت شهادةً ممّا يجوز شهادتها به ، وتوقّفت الدّعوى على حضورها ، ولا يقبل في هذه الحالة الشّهادة على شهادتها ، إلاّ إذا وجد مانع من الحضور ، كمرضٍ وسفرٍ ، فيرسل لها القاضي من يسمع شهادتها ، وتفصيله في أبحاث الشّهادة . أمّا المخدّرة فلا يجب إحضارها إلى مجلس القضاء . والمالكيّة لا يفرّقون في أداء شهادة المرأة بين البرزة وغيرها ، والحكم عندهم أنّها تنقل الشّهادة عنها ، لما ينالها من الكشف والمشقّة .
هذا في الشّهادة ، أمّا في التّقاضي فقد صرّح الحنابلة أنّه إن ادّعي على المرأة البرزة أحضرها القاضي ، لعدم العذر ، ولا يعتبر لإحضارها في سفرها هذا محرّم ، لتعيّن السّفر عليها ، ولأنّه حقّ آدميٍّ وهو مبنيّ على الشّحّ والضّيق ، أمّا إن كانت المدّعى عليها مخدّرةً فإنّها تؤمر بالتّوكيل ، ولا يجب إحضارها ، لما فيه من المشقّة والضّرر ، فإن توجّهت عليها اليمين بعث القاضي أميناً - معه شاهدان - يستحلفها بحضرتهما .
مواطن البحث :
4 - تكلّم الفقهاء عن أداء المرأة البرزة للشّهادة ، فيما يجوز لها أن تشهد به على النّحو المبيّن في مواطنه .
برسام *
التّعريف :
1 - البرسام لغةً ، واصطلاحاً : علّة عقليّة ينشأ عنها الهذيان ، شبيهة بالجنون .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - العته :
2 - العته لغةً : نقص في العقل من غير جنونٍ أو وهنٍ .
وهو في الاصطلاح : آفة توجب خللاً في العقل ، فيصير صاحبه مختلط العقل ، فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء ، وبعضه كلام المجانين ، وتجري على المعتوه أحكام الصّبيّ المميّز . وأمّا المبرسم فإنّه تجري عليه في حال نوباته أحكام الجنون .
ب - الجنون :
3 - الجنون كما عرّفه الشّرنبلاليّ : مرض يزيل العقل ويزيد القوى .
وهو في الجملة ممّا يسقط التّكليف ويبطل أهليّة الأداء .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
4 - للمبرسم أحكام تتعلّق به ، فعقوده غير معتبرةٍ في حال إصابته بالبرسام ، وإقراره غير صحيحٍ ، وتصرّفاته القوليّة غير معتبرةٍ شرعاً ، مثله في ذلك مثل المجنون .
أمّا تصرّفاته الفعليّة في وقت إصابته فإنّه لا إثم عليه فيها ، ولكن إذا ترتّب على فعله إتلاف مالٍ أو نفسٍ يجب الضّمان في ماله ، وعليه ديته ، أو قيمة التّعويض من ماله . وتفصيل ذلك تناوله الفقهاء عند الكلام عن الإتلاف ونحوه ، والأصوليّون في الأهليّة وعوارضها .
برص *
التّعريف :
1 - البرص لغةً : داء معروف ، وهو بياض يقع في ظاهر الجلد ، يبقّع الجلد ويذهب دمويّته . وبرص برصاً فهو أبرص ، والأنثى برصاء .
ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ عن هذا المعنى .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الجذام :
2 - الجذام : مأخوذ من الجذم ، وهو القطع ، سمّي كذلك لأنّه داء تجذم به الأعضاء أي تتقطّع . والجذام علّة يحمرّ منها العضو ، ثمّ يسودّ ، ثمّ ينتن ويتقطّع ويتناثر ، ويتصوّر في كلّ عضوٍ غير أنّه يكون في الوجه أغلب
ب - البهق :
البهق لغةً : بياض دون البرص يعتري الجسد بخلاف لونه ، وليس من البرص .
واصطلاحاً : تغيير في لون الجلد ، والشّعر النّابت عليه أسود . بخلاف النّابت على البرص فإنّه أبيض .
أحكام يختصّ بها الأبرص
ثبوت الخيار في فسخ النّكاح بسبب البرص :
3 - أثبت المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة طلب فسخ الزّواج بوجود البرص المستحكم في الجملة : فأجاز المالكيّة للزّوجة فقط طلب فسخ العقد ببرصٍ مضرٍّ بعد العقد ، سواء كان قبل الدّخول أو بعده ، وذلك بعد التّأجيل سنةً إن رجي برؤه .
وأجاز الشّافعيّة والحنابلة للزّوج أو للزّوجة طلب الفسخ بالبرص قبل الدّخول وبعده . وهذا كلّه مع مراعاة شروط الخيار على الوجه المبيّن في النّكاح .
ومنع الحنفيّة - عدا محمّدٍ - تخيير أحد الزّوجين بعيب الآخر ولو فاحشاً كبرصٍ ، وقال محمّد : يثبت الخيار بالبرص للزّوجة فقط ، بخلاف الزّوج لأنّه يقدر على دفعه بالطّلاق . ويرجع إليه في موطنه .
واستدلّ لثبوت الخيار بسبب البرص بما روي عن سعيد بن المسيّب أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال :" أيّما رجل تزوّج امرأةً ، فدخل بها فوجد بها برصاً . أو مجنونةً أو مجذومةً فلها الصّداق بمسيسه إيّاها ، وهو له على من غرّه منها ".
وحديث زيد بن كعب بن عجرة قال : « تزوّج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم امرأةً من بني غفارٍ فرأى بكشحها بياضاً ، فقال لها النّبيّ : خذي عليك ثيابك ولم يأخذ ممّا آتاها شيئاً » .
حكم شهود الأبرص المساجد :
4 - ذهب المالكيّة إلى إباحة ترك صلاة الجمعة والجماعة للأبرص ، إذا كان برصه شديداً ، إذا لم يوجد للبرص موضع يتميّزون فيه ، بحيث لا يلحق ضررهم بالنّاس على الوجه المبيّن في موطنه . وعند الحنابلة يكره حضور المسجد لصلاة الجمعة والجماعة لمن به برص يتأذّى به . ورخّص الشّافعيّة في ترك الجماعة لمريضٍ ببرصٍ للتّأذّي .
مصافحته وملامسته :
5 - يكره عند الشّافعيّة مصافحة أو ملامسة ذي عاهةٍ كالبرص ، لأنّ في ذلك إيذاءً ، ويخشى أن ينتقل ذلك إلى السّليم .
حكم إمامة الأبرص :
6 - أجاز المالكيّة الاقتداء بإمامٍ به برص ، إلاّ إن كان شديداً ، فيؤمر بالبعد عن النّاس بالكلّيّة وجوباً ، فإن امتنع أجبر على ذلك . وعند الحنفيّة تكره إمامة أبرص شاع برصه ، وكذا الصّلاة خلفه للنّفرة ، والاقتداء بغيره أولى .
بَرَكة *
انظر : تشهّد ، تحيّة .
بِرْكة *
انظر : مياه .
برنامج *
التّعريف :
1 - البرنامج : الورقة الجامعة للحساب ، وهو معرّب برنامه ، وقال في المغرب : هي النّسخة المكتوب فيها عدد الثّياب والأمتعة وأنواعها المبعوث بها من إنسانٍ لآخر ، فتلك النّسخة هي البرنامج الّتي فيها مقدار المبعوث ، ومنه قول السّمسار : إنّ وزن الحمولة في البرنامج كذا . ونصّ فقهاء المالكيّة على أنّ البرنامج : هو الدّفتر المكتوب فيه صفة ما في الوعاء من الثّياب المبيعة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الرّقم :
2 - الرّقم لغةً : من رقمت الشّيء : أعلمته بعلامةٍ تميّزه عن غيره كالكتابة ونحوها .
وفي الاصطلاح : علامة يعرف بها مقدار ما يقع به البيع ، كما عرّفه بذلك الحنفيّة .
وعرّفه الحنابلة بأنّه : الثّمن المكتوب على الثّوب .
ب - الأنموذج :
3 - ويقال فيه أيضاً : نموذج ، وهو معرّب ، وقال الصّغانيّ : النّموذج : مثال الشّيء الّذي يعمل عليه .
ومن معانيه لغةً : أنّه ما يدلّ على صفة الشّيء . كأن يريه صاعاً من صبرة قمحٍ ، ويبيعه الصّبرة على أنّها من جنس ذلك الصّاع . وتفصيل أحكامه في مصطلح : ( أنموذج ) .
الحكم الإجماليّ :
4 - أجاز المالكيّة البيع على رؤية البرنامج ، فيجوز شراء ثيابٍ مربوطةٍ في العدل ، معتمداً فيه على الأوصاف المذكورة في الدّفتر . فإن وجدت على الصّفّة لزم ، وإلاّ خيّر المشتري إن كانت أدنى صفةً . فإن وجدها أقلّ عدداً وضع عنه من الثّمن بقدره . فإن كثر النّقص أكثر من النّصف لم يلزمه ، وكان له أن يردّ البيع . وإن وجدها أكثر عدداً كان البائع شريكاً معه بنسبة الزّائد . وقيل : يردّ ما زاد . قال ابن القاسم : والأوّل أحبّ إليّ .
ولو قبضه المشتري وغاب عليه ، وادّعى أنّه أدنى أو أنقص ممّا هو مكتوب في البرنامج . فالقول للبائع بيمينه : أنّ ما في العدل موافق للمكتوب . حيث أنكر ما ادّعاه المشتري .
فإن نكل ولم يحلف حلف المشتري ، وردّ المبيع ، وحلف : أنّه ما بدّل فيه ، وإنّ هذا هو المبتاع بعينه . فإن نكل كالبائع لزمه .
بريد *
التّعريف :
1 - من معاني البريد في اللّغة : الرّسول ، ومنه قول بعض العرب : الحمّى بريد الموت . وأبرد بريداً : أرسله ، وفي الحديث أنّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أَبْردتم إليَّ بريداً فاجْعلوه حَسَنَ الوجهِ ، حسنَ الاسمِ » وإبراده : إرساله .
وقال الزّمخشريّ : البريد : كلمة فارسيّة معرّبة ، كانت تطلق على بغال البريد ، ثمّ سمّي الرّسول الّذي يركبها بريداً ، وسمّيت المسافة الّتي بين السّكّتين بريداً ، والسّكّة : موضع كان يسكنه الأشخاص المعيّنون لهذا الغرض من بيتٍ أو قبّةٍ أو رباطٍ . وكان يرتّب في كلّ سكّةٍ بغال ، وبعد ما بين السّكّتين فرسخان أو أربعة . أ . هـ . والفرسخ ثلاثة أميالٍ ، والميل أربعة آلاف ذراعٍ . وفي كتب الفقه : السّفر الّذي يجوز فيه القصر أربعة بردٍ ، وهي 48 ميلاً بالأميال الهاشميّة .
مواطن البحث :
2 - البريد مصطلح يذكره الفقهاء في تقدير مسافة القصر الّتي يرخّص فيها القصر والفطر في رمضان ونحو ذلك من أحكام السّفر ( ر : قصر ، فطر ، سفر ، صلاة المسافر ) وانظر أيضاً ( مقادير ) .
بَرِيّة *
انظر : طلاق .
بزاق *
انظر : بصاق .
بساط اليمين *
التّعريف :
1 - ركّب هذا المصطلح من لفظين . أوّلهما : لفظ بساطٍ . وثانيهما : لفظ اليمين . وأوّلهما مضاف إلى ثانيهما . وهما يستعملان في الحلف . ولم يستعملهما بهذه الصّورة سوى فقهاء المالكيّة ، ولا بدّ من تعريف المتضايفين للوصول إلى تعريف المركّب الإضافيّ .
من معاني اليمين في اللّغة : القسم والحلف ، وهو المراد هنا .
وفي اصطلاح فقهاء المالكيّة : تحقيق ما لم يجب بذكر اسم اللّه أو صفةً من صفاته .
وهذا أدقّ تعريفٍ وأوجزه ، وهناك تعاريف أخرى لليمين لا تخرج عن هذا المعنى .
2 - أمّا البساط فهو : السّبب الحامل على اليمين إذ هو مظنّتها فليس فيه انتفاع النّيّة ، بل هو متضمّن لها .
وضابطه : صحّة تقييد يمينه بقوله : ما دام هذا الشّيء أي الحامل على اليمين موجوداً .
الحكم الإجماليّ :
3 - بساط اليمين عند المالكيّة الّذين انفردوا بهذا التّعبير : هو الباعث على اليمين ، والحامل عليها . ويمكن أن يكون مقيّداً لمطلق اليمين ، أو مخصّصاً لعمومه ، كما لو كان هناك ظالم في السّوق فقال : واللّه لا أشتري لحماً من هذا السّوق ، فيمكن أن يقيّد يمينه بوجود هذا الظّالم ، فإذا زال هذا الظّالم جاز له شراء اللّحم من هذا السّوق ، ولا يكون حانثاً . وكذلك لو كان خادم المسجد سيّئ الخلق ، فقال : واللّه لا أدخل هذا المسجد ، ثمّ زال هذا الخادم ، فلو دخل هذا المسجد لا يحنث ، فإنّه يصحّ أن يقيّد اليمين بقوله : ما دام هذا الخادم موجوداً . ويشترط في هذا البساط ألاّ تكون للحالف نيّة ، وألاّ يكون له مدخل في هذا الباعث ، والتّقييد به أو التّخصيص به إنّما يكون بعد زوال هذا الباعث . ويقابل بساط اليمين عند الحنفيّة ، ما يسمّى يمين العذر ، كمن قال لزوجته عندما تهيّأت للخروج : واللّه لا تخرجي ، فإذا جلست ساعةً ثمّ خرجت لا يحنث استحساناً عند أئمّة الحنفيّة ، خلافاً لزفر الّذي أخذ بالقياس ، وهو الحنث . وليس هناك دخل عند الشّافعيّة للباعث على اليمين ، إلاّ أن تكون له نيّة ، والمعتبر عندهم ظاهر اللّفظ ، إن عامّاً فعامّ ، أو مطلقاً فمطلق ، أو خاصّاً فخاصّ . وسمّى الحنابلة بساط اليمين : سبب اليمين وما هيّجها ، واعتبروا مطلق اليمين ، إذا لم ينو الحالف شيئاً . ومن أراد تفصيل ذلك فليرجع إلى مصطلح ( أيمان ) .
بسملة *
التّعريف :
1 - البسملة في اللّغة والاصطلاح : قول : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم . يقال : بَسْمَلَ بَسْمَلَةً : إذا قال ، أو كتب : بسم اللّه . ويقال : أكثرَ من البسملة ، أي أكثر من قول : بسم اللّه .
قال الطّبريّ : إنّ اللّه - تعالى ذكره ، وتقدّست أسماؤه - أدّب نبيّه محمّداً صلى الله عليه وسلم بتعليمه ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله ، وجعل ذلك لجميع خلقه سنّةً يستنّون بها ، وسبيلاً يتّبعونه عليها ، فقول القائل : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إذا افتتح تالياً سورةً ، ينبئ عن أنّ مراده أقرأ باسم اللّه ، وكذلك سائر الأفعال . البسملة جزء من القرآن الكريم :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ البسملة جزء من آيةٍ في قوله تعالى : { إنّه من سليمانَ وإنّه بسمِ اللّه الرّحمنِ الرّحيمِ } .
واختلفوا في أنّها أيّة من الفاتحة ، ومن كلّ سورةٍ . والمشهور عند الحنفيّة ، والأصحّ عند الحنابلة ، وما قال به أكثر الفقهاء هو : أنّ البسملة ليست آيةً من الفاتحة ومن كلّ سورةٍ ، وأنّها آية واحدة من القرآن كلّه ، أنزلت للفصل بين السّور ، وذكرت في أوّل الفاتحة .
ومن أدلّتهم ما رواه أبو هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يقول اللّه تعالى : قَسَمْتُ الصّلاةَ بيني وبينَ عَبْدي نِصْفين ، فإذا قال العبد : { الحمدُ للّه ربِّ العالمينَ } ، قال اللّه تعالى : حمدني عبدي ، فإذا قال : { الرّحمن الرّحيم } ، قال اللّه تعالى : مجّدني عبدي ، وإذا قال : { مالك يوم الدّين } ، قال اللّه تعالى : أثنى عليّ عبدي ، وإذا قال : { إيّاك نعبد وإيّاك نستعين } ، قال اللّه تعالى : هذا بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل » فالبداءة بقوله : { الحمد للّه ربّ العالمين } ، دليل على أنّ التّسمية ليست آيةً من أوّل الفاتحة . إذ لو كانت آيةً من الفاتحة لبدأ بها ، وأيضاً : لو كانت البسملة آيةً منها لم تتحقّق المناصفة ، فإنّه يكون في النّصف الأوّل أربع آياتٍ إلاّ نصفاً ، وقد نصّ على المناصفة ، ولأنّ السّلف اتّفقوا على أنّ سورة الكوثر ثلاث آياتٍ . وهي ثلاث آياتٍ بدون البسملة . وورد في كلّ مذهبٍ من المذاهب الثّلاثة غير ما سبق . ففي المذهب الحنفيّ أنّ المعلّى قال : قلت لمحمّدٍ : التّسمية آية من القرآن أم لا ؟ قال : ما بين الدّفّتين كلّه قرآن ، فهذا عن محمّدٍ بيان أنّها آية للفصل بين السّور ، ولهذا كتبت بخطٍّ على حدةٍ . وقال محمّد : يكره للحائض والجنب قراءة التّسمية على وجه قراءة القرآن ، لأنّ من ضرورة كونها قرآناً حرمة قراءتها على الحائض والجنب ، وليس من ضرورة كونها قرآناً الجهر بها كالفاتحة ... وروى ابن عبّاسٍ أنّه قال لعثمان : لم لم تكتب التّسمية بين ، التّوبة والأنفال ، قال : لأنّ التّوبة من آخر ما نزل ، فرسول اللّه صلى الله عليه وسلم توفّي ، ولم يبيّن لنا شأنها ، فرأيت أوّلها يشبه أواخر الأنفال ، فألحقتها بها ، فهذا بيان منهما على أنّها كتبت للفصل بين السّور . والمشهور عند المالكيّة : أنّ البسملة ليست آيةً من القرآن إلاّ في سورة النّمل ، فإنّها جزء من آيةٍ ، ويكره قراءتها بصلاة فرضٍ - للإمام وغيره - قبل فاتحةٍ أو سورةٍ بعدها ، وقيل عند المالكيّة بإباحتها ، وندبها ، ووجوبها في الفاتحة . وروي عن الإمام أحمد أنّ البسملة من الفاتحة ، لما رواه أبو هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { إذا قرأتم : { الحمد للّه ربّ العالمين } ، فاقرءوا : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم فإنّها أمّ القرآن والسّبع المثاني وبسم اللّه الرّحمن الرّحيم آية منها } ولأنّ الصّحابة أثبتوها في المصاحف بخطّهم ، ولم يثبتوا بين الدّفّتين سوى القرآن ، وما روي عن نعيمٍ المجمر قال : صلّيت وراء أبي هريرة ، فقرأ : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، ثمّ قرأ بأمّ القرآن . وما رواه ابن المنذر { أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قرأ في الصّلاة : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، ثمّ قرأ بأمّ القرآن ، وعدّها آيةً ، { والحمد للّه ربّ العالمين } آيتين } . وقال ابن المبارك : من ترك بسم اللّه الرّحمن الرّحيم فقد ترك مائةً وثلاث عشرة آيةٍ وروي عن الإمام أحمد : أنّ البسملة آية مفردة ، كانت تنزل بين كلّ سورتين فصلاً بين السّور . وعنه أيضاً : أنّها بعض آيةٍ من سورة النّمل ، وما أنزلت إلاّ فيها . وعنه أيضاً : البسملة ليست بآيةٍ إلاّ من الفاتحة وحدها .
3 - ومذهب الشّافعيّة : أنّ البسملة آية كاملة من الفاتحة ومن كلّ سورةٍ ، لما روت أمّ سلمة رضي الله عنها : { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ في الصّلاة : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، فعدّها آيةً منها } ، ولما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه : أنّ { رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : الحمد للّه سبع آياتٍ ، إحداهنّ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم } . وعن عليٍّ رضي الله عنه كان إذا افتتح السّورة في الصّلاة يقرأ : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم . وروي عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { إذا قرأتم : { الحمد للّه ربّ العالمين } ، فاقرءوا : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، إنّها أمّ القرآن والسّبع المثاني ، بسم اللّه الرّحمن الرّحيم إحدى آياتها } ، ولأنّ الصّحابة أثبتوها فيما جمعوا من القرآن في أوائل السّور ، وأنّها مكتوبة بخطّ القرآن ، وكلّ ما ليس من القرآن فإنّه غير مكتوبٍ بخطّ القرآن ، وأجمع المسلمون على أنّ ما بين الدّفّتين كلام اللّه تعالى ، والبسملة موجودة بينهما ، فوجب جعلها منه . واتّفق أصحاب المذاهب الأربعة على أنّ من أنكر أنّها آية في أوائل السّور لا يعدّ كافراً . للخلاف السّابق في المذاهب .
حكم قراءة البسملة لغير المتطهّر :
4 - لا خلاف بين العلماء في أنّ البسملة من القرآن ، وذهب الجمهور إلى حرمة قراءتها على الجنب والحائض والنّفساء بقصد التّلاوة ، لحديث التّرمذيّ وغيره : { لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن } . ورويت كراهة ذلك عن عمر وعليٍّ ، وروى أحمد وأبو داود والنّسائيّ من رواية عبد اللّه بن سلمة عن عليٍّ قال : { كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يحجبه - وربّما قال لا يحجزه - من القرآن شيء ليس الجنابة } . وورد عن ابن عمر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن } . فلو قصد الدّعاء أو الثّناء أو افتتاح أمرٍ تبرّكاً ، ولم يقصد القراءة ، فلا بأس . وفي أحد قولين للمالكيّة : لا يحرم قراءة آيةٍ للتّعوّذ أو الرّقية ، ولو آية الكرسيّ . كما ذهب المالكيّة إلى أنّه لا يمنع الحيض والنّفاس قراءة القرآن ، ما دامت المرأة حائضاً أو نفساء بقصد التّعلّم أو التّعليم ، لأنّها غير قادرةٍ على إزالة المانع ، أمّا إذا انقطع ولم تتطهّر ، فلا تحلّ لها قراءته كما لا تحلّ للجنب . والدّليل على استثناء التّسمية من التّحريم : أنّ لهم ذكر اللّه ، ويحتاجون إلى التّسمية عند اغتسالهم ، ولا يمكنهم التّحرّز عنها ، لما روى مسلم عن عائشة قالت : { كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يذكر اللّه في كلّ أحيانه } . وإن قصدوا بها القراءة ، ففيه روايتان : إحداهما لا يجوز ، لما روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنّه سئل عن الجنب يقرأ القرآن ؟ فقال : لا ولو حرفاً ، لعموم الخبر في النّهي ، والثّانية : لا يمنع منه ، لأنّه لا يحصل به الإعجاز ، ويجوز إذا لم يقصد به القرآن . ( ر : الجنابة ، والحيض ، والغسل ، والنّفاس ) .
البسملة في الصّلاة :
5 - اختلف الفقهاء في حكم قراءة البسملة بالنّسبة للإمام والمأموم والمنفرد ، في ركعات الصّلاة ، لاختلافهم في أنّها آية من الفاتحة ومن كلّ سورةٍ . وحاصل مذهب الحنفيّة في ذلك : أنّه يسنّ قراءة البسملة سرّاً للإمام والمنفرد في أوّل الفاتحة من كلّ ركعةٍ ، ولا يسنّ قراءتها بين الفاتحة والسّورة مطلقاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، لأنّ البسملة ليست من الفاتحة ، وذكرت في أوّلها للتّبرّك . قال المعلّى : إنّ هذا أقرب إلى الاحتياط لاختلاف العلماء والآثار في كونها آيةً من الفاتحة ، وروى ابن أبي رجاءٍ عن محمّدٍ أنّه قال : يسنّ قراءة البسملة سرّاً بين السّورة والفاتحة في غير الصّلاة الجهريّة ، لأنّ هذا أقرب إلى متابعة المصحف ، وإذا كانت القراءة جهراً فلا يؤتى بالبسملة بين السّورة والفاتحة ، لأنّه لو فعل لأخفى ، فيكون ذلك سكتةً في وسط القراءة ، وليس ذلك مأثوراً . وفي قولٍ آخر في المذهب : تجب بداية القراءة بالبسملة في الصّلاة ، لأنّها آية من الفاتحة . وحكم المقتدي عند الحنفيّة أنّه لا يقرأ لحمل إمامه عنه ، ولا تكره التّسمية اتّفاقاً بين الفاتحة والسّورة المقروءة سرّاً أو جهراً . والمشهور عند المالكيّة : أنّ البسملة ليست من الفاتحة ، فلا تقرأ في المكتوبة سرّاً أو جهراً من الإمام أو المأموم أو المنفرد ، لما ورد عن أنسٍ أنّه قال : { صلّيت خلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمر وعثمان وعليٍّ ، فكانوا يفتتحون القراءة بالحمد للّه ربّ العالمين ، ولا يذكرون بسم اللّه الرّحمن الرّحيم في أوّل قراءةٍ ولا في آخرها } . ويكره قراءتها بفرضٍ قبل الفاتحة أو السّورة الّتي بعدها ، وفي قولٍ عند المالكيّة : يجب ، وهناك قول بالجواز . وفي روايةٍ في مذهب الإمام مالكٍ أنّه يجوز قراءة البسملة في صلاة النّفل قبل الفاتحة والسّورة في كلّ ركعةٍ سرّاً أو جهراً . وللخروج من الخلاف في حكم قراءة البسملة في الصّلاة ، قال القرافيّ : الورع البسملة أوّل الفاتحة ، وقال : محلّ كراهة الإتيان بالبسملة إذا لم يقصد الخروج من الخلاف الوارد في المذهب ، فإن قصده فلا كراهة . والأظهر عند الشّافعيّة : أنّه يجب على الإمام والمأموم والمنفرد قراءة البسملة في كلّ ركعةٍ من ركعات الصّلاة في قيامها قبل فاتحة الكتاب ، سواء أكانت الصّلاة فرضاً أم نفلاً ، سريّةً أو جهريّةً ، لحديثٍ رواه أبو هريرة : أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : { فاتحة الكتاب سبع آياتٍ ، إحداهنّ : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم } وللخبر : { لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب } ويدلّ على دخول المأمومين في العموم ما صحّ عن عبادة : { كنّا نخلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر ، فثقلت عليه القراءة ، فلمّا فرغ قال : لعلّكم تقرءون خلف إمامكم ، قلنا : نعم ، قال : لا تفعلوا إلاّ بفاتحة الكتاب ، فإنّه لا صلاة لمن لم يقرأ بها } وتقرأ البسملة عند ابتداء كلّ سورةٍ في ركعات الصّلاة ، ويجهر بها في حالة الجهر بالفاتحة والسّورة ، وكذا يسرّ بها معهما ، على القول بأنّ البسملة آية من سائر السّور . وعلى الأصحّ عند الحنابلة : لا يجب قراءة البسملة مع الفاتحة ومع كلّ سورةٍ في ركعات الصّلاة ، لأنّها ليست آيةً من الفاتحة ومن كلّ سورةٍ ، لحديث { قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين ... } ولأنّ الصّحابة أثبتوها في المصاحف بخطّهم ، ولم يثبتوا بين الدّفّتين سوى القرآن . وعلى الأصحّ : يسنّ قراءة البسملة مع فاتحة الكتاب في الرّكعتين الأوليين من كلّ صلاةٍ ، ويستفتح بها السّورة بعد الفاتحة ، ويسرّ بها ، لما ورد أنّ { النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسرّ ببسم اللّه الرّحمن الرّحيم في الصّلاة } . وعلى الرّواية الأخرى عن أحمد في قرآنيّة البسملة يجب على الإمام والمنفرد والمأموم قراءة البسملة مع الفاتحة في الصّلاة . هذا ، وتقرأ البسملة بعد التّكبير والاستفتاح والتّعوّذ في الرّكعة الأولى ، أمّا فيما بعدها فإنّه يقرؤها بعد تكبير القيام إلى تلك الرّكعة ، وتقرأ البسملة في حال القيام ، إلاّ إذا صلّى قاعداً لعذرٍ ، فيقرؤها قاعداً وللتّفصيل ر : ( الصّلاة )
مواطن أخرى للبسملة :
أ - التّسمية عند دخول الخلاء :
6 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة التّسمية على سبيل النّدب ، وذلك قبل دخول الخلاء لقضاء الحاجة ، لما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم { أنّه كان يقول إذا دخل الخلاء : بسم اللّه ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الخبث والخبائث } وانظر للتّفصيل مصطلح : ( قضاء الحاجة ) .
ب - التّسمية عند الوضوء :
7 - ذهب الحنفيّة ، والمالكيّة في المشهور عندهم ، والشّافعيّة إلى أنّ التّسمية سنّة عند ابتداء الوضوء ، وسندهم فيما قالوا : أنّ آية الوضوء مطلقة عن شرط التّسمية ، والمطلوب من المتوضّئ الطّهارة ، وترك التّسمية لا يقدح فيها ، لأنّ الماء خلق طهوراً في الأصل ، فلا تتوقّف طهوريّته على صنع العبد ، وما رواه ابن مسعودٍ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : { من توضّأ وذكر اسم اللّه عليه كان طهوراً لجميع بدنه ، ومن توضّأ ولم يذكر اسم اللّه كان طهوراً لما أصاب من بدنه } وإن نسي المتوضّئ التّسمية في أوّل الوضوء ، وذكرها في أثنائه ، أتى بها ، حتّى لا يخلو الوضوء من اسم اللّه تعالى . وذهب الحنابلة : إلى أنّ التّسمية في الوضوء واجبة ، وهي قول ( باسم اللّه ) لا يقوم غيرها مقامها ، واستدلّوا لوجوبها بما رواه أبو هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : { لا صلاة لمن لا وضوء له ، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه } وتسقط التّسمية حالة السّهو تجاوزاً ، لحديث : { تجاوز اللّه عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه } . فإن ذكر المتوضّئ التّسمية في أثناء الوضوء سمّى وبنى ، وإن تركها عمداً لم تصحّ طهارته ، لأنّه لم يذكر اسم اللّه على طهارته ، والأخرس والمعتقل لسانه يشير بها .
ج - التّسمية عند الذّبح :
8 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في المشهور عندهم إلى أنّ التّسمية واجبة عند الذّبح . لقوله تعالى : { ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه } ولا تجب التّسمية على ناسٍ ، ولا أخرس ، ولا مكرهٍ ، ويكفي من الأخرس أن يومئ إلى السّماء ، لأنّ إشارته تقوم مقام نطق النّاطق . وذهب الشّافعيّة ، وهو رواية عن أحمد إلى أنّ التّسمية سنّة عند الذّبح ، وصيغتها أن يقول : ( باسم اللّه ) عند الفعل ، لما روى البيهقيّ في صفة ذبح النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأضحيّته : { ضحّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتى بكبشين أملحين أقرنين عظيمين موجوأين ، فأضجع أحدهما فقال : بسم اللّه واللّه أكبر ، اللّهمّ هذا عن محمّدٍ ، ثمّ أضجع الآخر فقال : بسم اللّه واللّه أكبر ، اللّهمّ هذا عن محمّدٍ وأمّته ممّن شهد لك بالتّوحيد ، وشهد لي بالبلاغ } . ويكره عند الشّافعيّة تعمّد ترك التّسمية ، ولكن لو تركها عمداً يحلّ ما ذبحه ويؤكل ، لأنّ اللّه تعالى أباح ذبائح أهل الكتاب بقوله تعالى : { وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلّ لكم } وهم لا يذكرونها ( التّسمية ) ، وأمّا قوله تعالى : { ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه وإنّه لفسق } فالمراد ما ذكر عليه غير اسم اللّه ، أي ما ذبح للأصنام ، بدليل قوله تعالى : { وما أهلّ لغير اللّه به } وسياق الآية دالّ عليه ، فإنّه قال : { وإنّه لفسق } والحالة الّتي يكون فيها فسقاً هي الإهلال لغير اللّه تعالى .
د - التّسمية على الصّيد :
9 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى وجوب التّسمية عند صيد ما يؤكل لحمه ، والمراد بها : ذكر اللّه من حيث هو ، لا خصوص ( باسم اللّه ) والأفضل باسم اللّه واللّه أكبر ، ولا يزيد في البسملة : الرّحمن الرّحيم ولا الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويشترط عند الرّمي أو الإرسال للمعلّم إن ذكر وقدر ، لأنّه وقت الفعل من الرّامي والمرسل ، فتعتبر عنده . فإن تركها ناسياً أو عجزاً يحلّ ويؤكل ، وإن تركها عمداً مع القدرة عليها فلا ، لقوله تعالى : { ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه } على معنى ولا تأكلوا ممّا تركت التّسمية عليه عمداً مع القدرة ، وخالف ابن رشدٍ من المالكيّة وقال : التّسمية ليست بشرطٍ في صحّة الذّكاة ، لأنّ معنى قوله تعالى : { ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه } لا تأكلوا الميتة الّتي لم تقصد ذكاتها ، لأنّها فسق . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ التّسمية عند الصّيد سنّة ، وصيغتها أن يقول عند الفعل : باسم اللّه والأكمل : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، لما رواه الشّيخان في الذّبح للأضحيّة ، وقيس بما فيه غيره ، ويكره تعمّد ترك التّسمية . فلو تركها - ولو عمداً - يحلّ ويؤكل للدّليل المبيّن في التّسمية عند الذّبح . ولمزيدٍ من التّفصيل ( ر : ذبائح ) . وذهب الحنابلة إلى اشتراط التّسمية في حلّ الصّيد عند إرسال الجارح المعلّم ، وهي : باسم اللّه ، لأنّ إطلاق التّسمية ينصرف إلى ذلك ، ولو قال : باسم اللّه واللّه أكبر ، فلا بأس لوروده ، فإن ترك التّسمية عمداً أو سهواً لم يبح على التّحقيق ، لقوله تعالى : { ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه عديّ بن حاتمٍ : { إذا أرسلت كلبك وسمّيت فكل ، قلت : فإن أخذ معه آخر ؟ قال : لا تأكل ، فإنّك سمّيت على كلبك ، ولم تسمّ على الآخر } ، والفرق بين الذّبح والصّيد في التّسمية عند الحنابلة : أنّ الذّبح وقع في محلّه ، فجاز أن يتسامح فيه بالنّسبة لنسيان التّسمية ، بخلاف الصّيد ، فلا يتسامح في نسيانها فيه ، ونقل عن الإمام أحمد : أنّه إن نسي التّسمية عند الصّيد يباح ويؤكل ، وعنه أيضاً : إن نسيها على السّهم أبيح ، وإن نسيها على الجارحة لم يبح . ولمزيدٍ من التّفصيل ( ر : صيد ) .
هـ - ( التّسمية عند الأكل ) :
10 - ذهب الفقهاء إلى أنّ التّسمية عند البدء في الأكل من السّنن . وصيغتها : بسم اللّه وبسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، فإن نسيها في أوّله سمّى في باقيه ، ويقول : باسم اللّه أوّله وآخره لحديث عائشة رضي الله عنها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { إذا أكل أحدكم فليذكر اسم اللّه تعالى ، فإن نسي أن يذكر اسم اللّه في أوّله فليقل : باسم اللّه أوّله وآخره } .
و - التّسمية عند التّيمّم :
11 - التّسمية عند التّيمّم مشروعة : سنّة عند الحنفيّة ، ومندوبة عند المالكيّة ، ومستحبّة عند الشّافعيّة ، وصيغتها : بسم اللّه والأكمل عند الشّافعيّة : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، وإن نسي التّسمية في أوّل التّيمّم وذكرها في أثنائه أتى بها ، وإن تركها عمداً لا يبطل التّيمّم ، وإن فعلها يثاب . وذهب الحنابلة إلى أنّ التّسمية عند التّيمّم واجبة وهي : باسم اللّه ، لا يقوم غيرها مقامها ، ووقتها أوّله ، وتسقط سهواً لحديث : { تجاوز اللّه عن أمّتي الخطأ والنّسيان ... } وإن ذكرها في أثنائه سمّى وبنى ، وإن تركها عمداً حتّى مسح بعض أعضائه ، ولم يستأنف ما فعله ، لم تصحّ طهارته ، لأنّه لم يذكر اسم اللّه على طهارته .
ز - التّسمية لكلّ أمرٍ ذي بالٍ :
12 - اتّفق أكثر الفقهاء على أنّ التّسمية مشروعة لكلّ أمرٍ ذي بالٍ ، عبادةٍ أو غيرها ، فتقال عند البدء في تلاوة القرآن الكريم والأذكار ، وركوب سفينةٍ ودابّةٍ ، ودخول المنزل ومسجدٍ ، أو خروجٍ منه ، وعند إيقاد مصباحٍ أو إطفائه ، وقبل وطءٍ مباحٍ ، وصعود خطيبٍ منبراً ، ونومٍ ، والدّخول في صلاة النّفل ، وتغطية الإناء ، وفي أوائل الكتب ، وعند تغميض ميّتٍ ولحده في قبره ، ووضع اليد على موضع ألمٍ بالجسد ، وصيغتها ( باسم اللّه ) والأكمل ( بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ) فإن نسي التّسمية أو تركها عمداً فلا شيء ، ويثاب إن فعل . وممّا ورد : حديث { كلّ أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ فيه باسم اللّه فهو أبتر } ، وفي روايةٍ { فهو أقطع } وفي أخرى { فهو أجذم } ، وما ورد عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { ضع يدك على الّذي تألّم من جسدك ، وقل : باسم اللّه ثلاثاً ... } الحديث . وحديث : { أغلق بابك واذكر اسم اللّه ، فإنّ الشّيطان لا يفتح باباً مغلقاً ، وأطفئ مصباحك واذكر اسم اللّه ، وخمّر إناءك ... } وحديث : { إذا عثرت بك الدّابّة فلا تقل : تعس الشّيطان ، فإنّه يتعاظم ، حتّى يصير مثل البيت ، ويقول : بقوّتي صرعته ، ولكن قل : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، فإنّه يتصاغر ، حتّى يصير مثل الذّباب } .
بشارة
التّعريف
1 - البشارة - بكسر الباء - : ما يبشّر به الإنسان غيره من أمرٍ ، وبضمّ الباء : ما يعطاه المبشّر بالأمر ، كالعمالة للعامل ، قال ابن الأثير : البشارة بالضّمّ : ما يعطى البشير ، وبكسر الباء : الاسم ، سمّيت بذلك من البشر وهو السّرور ، لأنّها تظهر طلاقة وجه الإنسان . وهم يتباشرون بذلك الأمر أي : يبشّر بعضهم بعضاً ، والبشارة إذا أطلقت فهي للبشارة بالخير ، ويجوز استعمالها مقيّدةً في الشّرّ ، كقوله تعالى : { فبشّرهم بعذابٍ أليمٍ } . ولا يخرج استعمالها في اصطلاح الفقهاء عن ذلك . ( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - الخبر :
2 - الخبر يكون من المخبر الأوّل ومن يليه ، والبشارة لا تكون إلاّ من المخبر الأوّل . والخبر يكون بالصّدق والكذب سارّاً ، كان أو غير سارٍّ ، والبشارة تختصّ بالخبر الصّادق السّارّ غالباً .
ب - الجعل :
3 - الجعل لغةً : اسم لما يجعله الإنسان لغيره على شيءٍ يعمله . والجعل اصطلاحاً : عوض معلوم ملتزم به على عملٍ معيّنٍ معلومٍ فيه كلفة . والبشارة بضمّ الباء : ما يعطاه المبشّر بالأمر ، وهي بهذا المعنى تشبه الجعل ، جاء في نهاية المحتاج : لا بدّ من كون العمل في الجعالة فيه كلفة أو مؤنة ، كردّ آبقٍ ، أو إخبارٍ فيه غرض والمخبر صادق فيه .
الحكم الإجماليّ :
4 - إخبار النّاس بما يسرّهم أمر مستحبّ ، لما ورد في ذلك من الآيات القرآنيّة ، كقوله تعالى : { وبشّر الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات أنّ لهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار كلّما رزقوا منها من ثمرةٍ رزقاً قالوا : هذا الّذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواج مطهّرة وهم فيها خالدون } وما ورد كذلك من أحاديث ، منها حديث كعب بن مالكٍ رضي الله عنه المخرّج في الصّحيحين { في قصّة توبته قال : وسمعت صوت صارخٍ يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالكٍ . أبشر ، فذهب النّاس يبشّروننا ، وانطلقت أتأمّم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يتلقّاني النّاس فوجاً فوجاً يهنّئونني بالتّوبة ، ويقولون : لتهنك توبة اللّه تعالى عليك ، حتّى دخلت المسجد ، فإذا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حوله النّاس ، فقام طلحة بن عبيد اللّه يهرول ، حتّى صافحني وهنّأني ، وكان كعب لا ينساها لطلحة ، قال كعب : فلمّا سلّمت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال - وهو يبرق وجهه من السّرور - : أبشر بخير يومٍ مرّ عليك منذ ولدتك أمّك } . وفي قصّة كعبٍ أنّه لمّا جاءه البشير بالتّوبة ، نزع له ثوبيه وكساهما إيّاه نظير بشارته . ونقل الأبيّ عن القاضي عياضٍ أنّه قال : وهذا يدلّ على جواز البشارة والتّهنئة بما يسرّ من أمور الدّنيا والآخرة ، وإعطاء الجعل للمبشّر . وفي حديث كعبٍ مشروعيّة الاستباق إلى البشارة بالخير . ويستحبّ لمن بشّر بخبرٍ سارٍّ أن يحمد اللّه تعالى ويثني عليه ، لما روي في صحيح البخاريّ عن عمرو بن ميمونٍ ، في مقتل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ، في حديث الشّورى الطّويل : أنّ عمر رضي الله عنه أرسل ابنه عبد اللّه إلى عائشة رضي الله عنها يستأذنها أن يدفن مع صاحبيه ، فلمّا أقبل عبد اللّه ، قال عمر : ما لديك ؟ قال : الّذي تحبّ يا أمير المؤمنين ، أذنت . فقال : الحمد للّه ما كان شيء أهمّ إليّ من ذلك . وأجمع العلماء على أنّ البشارة تتحقّق من المخبر الأوّل منفرداً أو مع غيره ، فإذا قال رجل : من بشّرني من عبيدي بكذا فهو حرّ ، فبشّره واحد من عبيده فأكثر ، فإنّ أوّلهم يكون حرّاً . وأورد الفقهاء أمثلةً أخرى في مواطن متعدّدةٍ . ويدلّ على ذلك ما روي { أنّه عليه الصلاة والسلام مرّ بابن مسعودٍ وهو يقرأ القرآن ، فقال عليه الصلاة والسلام من أحبّ أن يقرأ القرآن غضّاً طريّاً كما نزل فليقرأ بقراءة ابن أمّ عبدٍ ، فابتدر إليه أبو بكرٍ وعمر رضي الله عنهما بالبشارة ، فسبق أبو بكرٍ عمر ، فكان ابن مسعودٍ يقول : بشّرني أبو بكرٍ ، وأخبرني عمر } رضي الله عنهم أجمعين . والبشارة مستحبّة كالهبة إذا قصد بها وجه اللّه تعالى .
( مواطن البحث ) :
5 - ورد في الكتاب الكريم ذكر البشارة ، وورد في السّنّة النّبويّة بيان بعض أحكام البشارة وما يستحبّ فعله لمن يبشّر بأمرٍ ، ويرد عند الفقهاء في الأيمان . كما ورد في كتب الآداب الشّرعيّة حكم البشارة ، وما يستحبّ فعله لمن يبشّر بأمرٍ .
بصاق
التّعريف
1 - البصاق : ماء الفم إذا خرج منه . يقال : بصق يبصق بصاقاً . ويقال فيه أيضاً : البزاق ، والبساق . وهو من الإبدال .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - التّفل :
2 - التّفل لغةً : البصق . يقال : تفل يتفل ويتفل تفلاً : بصق . والتّفل بالفم : نفخ معه شيء من الرّيق . فإذا كان نفخاً بلا ريقٍ فهو النّفث . والتّفل شبيه بالبزاق ، وهو أقلّ منه . أوّله البزق ، ثمّ التّفل ، ثمّ النّفخ .
ب - اللّعاب :
3 - اللّعاب : الرّيق الّذي يسيل من الفم .
الحكم الإجماليّ :
4 - الأصل في ماء فم الإنسان طهوريّته ما لم ينجّسه نجس . وللبصاق أحكام تتعلّق به . فهو حرام في المسجد ومكروه على حيطانه . فإذا بصق المصلّي في المسجد كان عليه أن يدفنه ، إذ البصق فيه خطيئة ، وكفّارتها دفنه ، كما جاء في الحديث { البصاق في المسجد خطيئة ، وكفّارتها دفنها } . والمشهور في ذلك أن يدفنه في تراب المسجد ورمله ، إن كان له تراب أو رمل ونحوهما . فإن لم يكن أخذه بعودٍ أو خرقةٍ أو نحوهما أو بيده وأخرجه منه . كما لا يبصق على حيطانه ، ولا بين يديه على الحصى ، ولا فوق البواري ( أي الحصر ) ولا تحتها . ولكن يأخذه بطرف ثوبٍ ويحكّ بعضه ببعضٍ ، ولا تبطل به الصّلاة إلاّ أن يتوالى ويكثر . وإن كان قد بصق في تراب المسجد فعليه أن يدفنه . فإن اضطرّ إلى ذلك ، كان الإلقاء فوق الحصير أهون من الإلقاء تحته . لأنّ البواري ليست بمسجدٍ حقيقةً ، وما تحتها مسجد حقيقةً . وإن لم يكن فيه البواري يدفنه في التّراب ، ولا يتركه على وجه الأرض . وإن كان في غير المسجد لم يبصق تلقاء وجهه ، ولا عن يمينه ، بل يبصق تحت قدمه اليسرى ، أو عن يساره . ومن رأى من يبصق في المسجد لزمه الإنكار عليه ومنعه منه إن قدر . ومن رأى بصاقاً ونحوه في المسجد فالسّنّة أن يزيله بدفنه أو إخراجه ، ويستحبّ له تطييب محلّه . وأمّا ما يفعله كثير من النّاس إذا بصق أو رأى بصاقاً دلكه بأسفل مداسه الّذي داس به النّجاسة والأقذار فحرام ، لأنّه تنجيس للمسجد وتقذير له . وعلى من رآه يفعل ذلك الإنكار عليه بشرطه . ولا يسوغ مسح لوح القرآن أو بعضه بالبصاق . ويتعيّن على معلّم الصّبيان أن يمنعهم من ذلك . ومن أحكامه بالنّسبة للصّائم : أنّ من ابتلع ريق نفسه ، وهو في فيه قبل خروجه منه ، فإنّه لا يفطر ، حتّى لو جمعه في الفم وابتلعه . وإن صار خارج فيه وانفصل عنه ، وأعاده إليه بعد انفصاله وابتلعه ، فسد صومه . كما لو ابتلع بزاق غيره . ومن ترطّبت شفتاه بلعابه عند الكلام أو القراءة أو غير ذلك ، فابتلعه لا يفسد صومه للضّرورة . ولو بقي بلل في فمه بعد المضمضة فابتلعه مع البزاق لم يفطّره . ولو بلّ الخيّاط خيطاً بريقه ثمّ ردّه إلى فيه على عادتهم حال الفتل ، فإن لم تكن على الخيط رطوبة تنفصل لم يفطر بابتلاع ريقه ، بخلاف ما إذا كانت تنفصل .
بصر
التّعريف
1 - البصر : هو القوّة الّتي أودعها اللّه في العين ، فتدرك بها الأضواء والألوان والأشكال . يقال : أبصرته برؤية العين إبصاراً ، وبصرت بالشّيء بالضّمّ ( والكسر لغةً ) بصراً بفتحتين : رأيته . ويطلق مجازاً على : الإدراك للمعنويّات ، كما يطلق على العين نفسها ، لأنّها محلّ الإبصار . والبصر : ضدّ العمى .
الحكم الإجماليّ : الجناية على البصر :
2 - اتّفق فقهاء المذاهب على وجوب القصاص من الجاني عمداً على البصر ، إذا أدّت جنايته إلى إذهاب البصر - وذلك بإذهاب بصر الجاني إن أمكن بوسيلةٍ ما برأي أهل الخبرة - فإن لم يمكن القصاص ، وجبت الدّية اتّفاقاً في مال الجاني . وكذلك تجب الدّية في إذهاب البصر خطأً ، وتكون على العاقلة . وتفصيل ذلك في الجنايات .
توجيه البصر في الصّلاة :
3 - أجمع العلماء على استحباب الخشوع والخضوع وغضّ البصر عمّا يلهي ، وكراهة الالتفات ورفع البصر إلى السّماء ، وأنّه يستحبّ للمصلّي النّظر إلى موضع سجوده إذا كان قائماً ، ويستحبّ نظره في ركوعه إلى قدميه ، وفي حال سجوده إلى أرنبة أنفه ، وفي حال التّشهّد إلى حجره . أمّا في صلاة الخوف - إذا كان العدوّ أمامه - فيوجّه نظره إلى جهته ، وبهذا قال الحنفيّة ، وهو رواية عند الحنابلة ، وفي قولٍ للشّافعيّة أنّه يسنّ . والآخر عندهم ، وعند الحنابلة : النّظر إلى موضع سجوده في جميع صلاته لحديثٍ رواه البخاريّ عن أنسٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { ما بال أقوامٍ يرفعون أبصارهم إلى السّماء في صلاتهم ، فاشتدّ قوله في ذلك حتّى قال : لينتهنّ عن ذلك ، أو لتخطفنّ أبصارهم } . وقال المالكيّة : إن كان رفع البصر إلى السّماء للموعظة والاعتبار بآيات السّماء فلا يكره . ويكره أيضاً في الصّلاة تغميض العينين إلاّ لحاجةٍ ، ولا يعلم في ذلك خلاف .
حكم رفع البصر إلى السّماء في الدّعاء خارج الصّلاة :
4 - نصّ الشّافعيّة على أنّ الأولى في الدّعاء خارج الصّلاة رفع البصر إلى السّماء ، وقال الغزاليّ منهم : لا يرفع الدّاعي بصره إليها .
غضّ البصر عن المحرّم :
5 - أمر اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بأن يغضّوا من أبصارهم عمّا حرّمه عليهم ، دون ما أباح لهم رؤيته - وإذا اتّفق أن وقع البصر على محرّمٍ من غير قصدٍ ، فليصرف البصر عنه سريعاً - لأنّ البصر هو الباب الأوّل إلى القلب ورائده ، وغضّه واجب عن جميع المحرّمات وكلّ ما يخشى منه الفتنة ، لقوله تعالى : { قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إنّ اللّه خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنّ } . وانظر للتّفصيل مصطلح : ( نظر . عورة ) .
( مواطن البحث ) :
6 - للبصر أحكام في مواطن متعدّدةٍ ، تتعلّق بالجناية عليه ، والدّية فيه ، واشتراطه في الشّاهد ، وشهادة الأعمى وتحمّله وأدائه ، واشتراطه واستدامته فيمن يتولّى القضاء ، ونفاذ حكم قاضٍ طرأ العمى عليه ، وتوجيه البصر في الصّلاة ، ورفع البصر إلى السّماء في الدّعاء في غير الصّلاة ، وما يجوز النّظر إليه ممّن يراد خطبتها ، وغضّ البصر عمّا حرّمه اللّه . ويفصّل الفقهاء أحكام ذلك في مباحث ( الجنايات ، والدّيات ، والشّهادة ، والقضاء ، والصّلاة ، والنّكاح ) على النّحو المبيّن في الحكم الإجماليّ ومواطنه .
بضاعة انظر : إبضاع .
بضع انظر : فرج .
بطالة
التّعريف
1 - البطالة لغةً : التّعطّل عن العمل . يقال : بطل العامل ، أو الأجير عن العمل فهو بطّال بيّن البطالة ( بفتح الباء ) وحكى بعض شارحي المعلّقات البطالة ( بالكسر ) وقال : هو أفصح ، ويقال : بطل الأجير من العمل ، يبطل بطالةً وبطالةً : تعطّل فهو بطّال . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ . حكمها التّكليفيّ :
2 - يختلف حكم البطالة تبعاً للأحوال الّتي تكون فيها كالآتي : البطالة حتّى لو كانت للتّفرّغ للعبادة ، مع القدرة على العمل ، والحاجة إلى الكسب لقوته وقوت من يعوله تكون حراماً ، لخبر { إنّ اللّه يكره الرّجل البطّال } وعن ابن عمر قال : { إنّ اللّه يحبّ العبد المؤمن المحترف } وعن ابن مسعودٍ أنّه قال : إنّي لأمقت الرّجل فارغاً ليس في شيءٍ من عمل دنيا ولا آخرةٍ وفي الشّعب للبيهقيّ عن عروة بن الزّبير أنّه سئل : ما شرّ شيءٍ في العالم ؟ فقال : البطالة . والبطالة تهاوناً وكسلاً مع عدم الحاجة للكسب مكروهة أيضاً ، وتزري بصاحبها . أمّا البطالة لعذرٍ - كزمانةٍ وعجزٍ لعاهةٍ - فلا إثم فيها ولا كراهة ، لقوله تعالى : { لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها } .
التّوكّل لا يدعو إلى البطالة :
3 - التّوكّل لا يدعو إلى البطالة ، وإنّما هو واجب ، ولكن يجب معه الأخذ بالأسباب . وورد أنّ { أعرابيّاً سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه : أرسل ناقتي وأتوكّل ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : اعقلها وتوكّل } وقال عليه الصلاة والسلام : { إنّ اللّه يحبّ المؤمن المحترف } . ومرّ عمر رضي الله عنه بقومٍ فقال : ما أنتم ؟ قالوا متوكّلون قال : لا بل أنتم متأكّلون ، إنّما المتوكّل من ألقى حبّةً في الأرض ، وتوكّل على ربّه . فليس في طلب المعاش والمضيّ في الأسباب على تدبير اللّه ترك التّفويض ، والتّوكّل إنّما هو بالقلب ، وترك التّوكّل يكون إذا غفل عن اللّه ، واعتمد على الأسباب ونسي مسبّبها ، وكان عمر رضي الله عنه إذا نظر إلى ذي سيما سأل : أله حرفة ؟ فإن قيل : لا ، سقط من عينه .
العبادة ليست مسوّغاً للبطالة :
4 - يرى الفقهاء : أنّ العبادة ليست مسوّغاً للبطالة ، وأنّ الإسلام لا يقرّ البطالة من أجل الانقطاع للعبادة ، لأنّ في هذا تعطيلاً للدّنيا الّتي أمر اللّه عباده بالسّعي فيها ، قال تعالى { فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه } وقال جلّ شأنه { يا أيّها الّذين آمنوا إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه وذروا البيع } وأعقبها بقوله { فإذا قضيت الصّلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل اللّه } وورد أنّ { النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ على شخصٍ ، قالوا له عنه أنّه كان يقوم اللّيل ويصوم النّهار ، وهو منقطع للعبادة انقطاعاً كلّيّاً ، فسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عمّن يعوله ؟ فقالوا : كلّنا . فقال : عليه الصلاة والسلام كلّكم أفضل منه } .
أثر البطالة في طلب المتعطّل نفقةً له :
5 - أجمع الفقهاء على أنّ نفقة الابن المتعطّل عن العمل - مع قدرته على الكسب - لا تجب على أبيه ، لأنّ من شروط وجوبها : أن يكون عاجزاً عن الكسب ، والعاجز عن الكسب هو من لا يمكنه اكتساب معيشته بالوسائل المشروعة المعتادة ، والقادر غنيّ بقدرته ، ويستطيع أن يتكسّب بها وينفق على نفسه ، ولا يكون في حالة ضرورةٍ يتعرّض فيها للهلاك .
أثر البطالة في استحقاق الزّكاة :
6 - إنّ القادر على الكسب مكلّف بالعمل ليكفي نفسه بنفسه ، أمّا العاجز عن الكسب لضعفٍ ذاتيٍّ ، كالصّغر والأنوثة والعته والشّيخوخة والمرض إذا لم يكن عنده مال موروث يسدّ حاجته ، كان في كفالة أقاربه الموسرين ، وإذا لم يوجد له شخص يكفله بما يحتاجه فقد حلّ له الأخذ من الزّكاة ، ولا حرج عليه في دين اللّه . وتفصيله في مصطلح : ( زكاة ) .
رعاية الدّولة والمجتمع للمتعطّلين بعدم وجود عملٍ :
7 - صرّح الفقهاء بأنّ على الدّولة القيام بشئون فقراء المسلمين من العجزة واللّقطاء والمساجين الفقراء ، الّذين ليس لهم ما ينفق عليهم منه ولا أقارب تلزمهم نفقتهم ، فيتحمّل بيت المال نفقاتهم وكسوتهم ، وما يصلحهم من دواءٍ وأجرة علاجٍ وتجهيز ميّتٍ ونحوها . وللتّفصيل ( ر : بيت المال ) .
بطانة
التّعريف
1 - البطانة : بطانة الثّوب ، وهي : ما يجعل وقاءً له من الدّاخل ، وهي خلاف الظّهارة . وبطانة الرّجل : خاصّته ، وأبطنت الرّجل : جعلته من خواصّك ، وفي الحديث : { وما بعث اللّه من نبيٍّ ولا استخلف من خليفةٍ إلاّ كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه ، وبطانة تأمره بالشّرّ وتحضّه عليه ، فالمعصوم من عصمه اللّه تعالى } وهو مصدر سمّي به الواحد والجمع . والبطانة اصطلاحاً : خاصّة الرّجل المقرّبون الّذين يفضي إليهم بأسراره .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الحاشية :
2 - الحاشية : هي واحدة حواشي الثّوب . وتطلق على صغار الإبل . وعلى ما يكتب على جوانب صفحات الكتاب . وفي الاصطلاح : أهل الرّجل من غير أصوله وفروعه كالإخوة والأعمام .
ب - ( أهل الشّورى ) :
3 - الشّورى : اسم مصدرٍ من التّشاور . وأهل الشّورى : هم أهل الرّأي الّذين يقدّمون المشورة لمن يستشيرهم ، وقد يكونون من بطانة الرّجل أو غيرهم من ذوي الرّأي . ما يتعلّق بالبطانة من أحكامٍ : أوّلاً : البطانة بمعنى خاصّة الرّجل . اتّخاذ البطانة الصّالحة :
4 - لمّا كانت الشّورى من قواعد الشّريعة ، ومن لوازم الحكم في الإسلام ، وأنّ العادة جارية بأنّ الإنسان يطمئنّ إلى بطانته ، فإنّه يجب على ولاة المسلمين أن يتّخذوا بطانةً صالحةً ، من أهل التّقوى والأمانة ، وممّن يخشى اللّه . قال ابن خويز مندادٍ : واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون ، وما أشكل عليهم من أمور الدّين ، ومشاورة وجوه الجيش فيما يتعلّق بالحرب ، ومشاورة وجوه النّاس فيما يتعلّق بالمصالح ، ومشاورة وجوه الكتّاب والوزراء والعمّال فيما يفعلون بمصالح البلاد وعمارتها . وجاء في كتاب " الأحكام السّلطانيّة " للماورديّ في معرض عدّ واجبات الإمام : استكفاء الأمناء ، وتقليد النّصحاء فيما يفوّضه إليهم من الأعمال ، ويكله إليهم من الأموال ، لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطةً ، والأموال بالأمناء محفوظةً . وفي الأثر الصّحيح : { إذا أراد اللّه بالأمير خيراً جعل له وزير صدقٍ ، إن نسي ذكّره ، وإن ذكر أعانه ، وإن أراد غير ذلك جعل له وزير سوءٍ : إن نسي لم يذكّره ، وإن ذكر لم يعنه } . وعن أبي سعيدٍ الخدريّ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : { ما بعث اللّه من نبيٍّ ولا استخلف من خليفةٍ إلاّ كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالخير وتحضّه عليه ، وبطانة تأمره بالشّرّ وتحضّه عليه ، فالمعصوم من عصمه اللّه تعالى } .
اتّخاذ بطانةٍ من دون المؤمنين :
5 - لا خلاف بين علماء الإسلام في أنّه لا يجوز لأولياء أمور المسلمين أن يتّخذوا بطانةً من الكفّار والمنافقين ، يطلعونهم على سرائرهم ، وما يضمرونه لأعدائهم ، ويستشيرونهم في الأمور ، لأنّ هذا من شأنه أن يضرّ مصلحة المسلمين ، ويعرّض أمنهم للخطر ، وقد ورد التّنزيل بتحذير المؤمنين من موالاة غيرهم ممّن يخالفونهم في العقيدة والدّين ، وقال عزّ من قائلٍ : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتّم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } . وقال : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة وقد كفروا بما جاءكم من الحقّ يخرجون الرّسول وإيّاكم أن تؤمنوا باللّه ربّكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي ، تسرّون إليهم بالمودّة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضلّ سواء السّبيل } . ونهى اللّه تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن اتّخاذ بطانةٍ من دون المؤمنين ، يطلعونهم على سرائرهم ، ويكشفون لهم عورات المسلمين . بقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين } وفي معنى ذلك آيات كثيرة . وقد تقدّم الحديث في شأن بطانة السّوء . وقال ابن أبي حاتمٍ : قيل لعمر بن الخطّاب : رضي الله عنه : إنّ هنا غلاماً من أهل الحيرة حافظاً كاتباً ، فلو اتّخذته كاتباً ؟ قال : اتّخذت إذن بطانةً من دون المؤمنين . قال ابن كثيرٍ : في الأثر مع هذه الآية دليل على أنّه لا يجوز استعمال أهل الذّمّة في الكتابة ، الّتي فيها استطالة على المسلمين ، واطّلاع على دخائل أمورهم الّتي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب . وقال السّيوطيّ نقلاً عن إلكيا الهرّاسيّ : في قوله تعالى : { لا تتّخذوا بطانةً من دونكم } فيه دلالة على أنّه لا يجوز الاستعانة بأهل الذّمّة في شيءٍ من أمر المسلمين . وقال القرطبيّ في تفسير هذه الآية : أكّد اللّه سبحانه وتعالى الزّجر عن الرّكون إلى الكفّار وهو متّصل بما سبق من قوله : { يا أيّها الّذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الّذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين } ، ونهى المؤمنين بهذه الآية أن يتّخذوا من الكفّار وأهل الأهواء دخلاء وولجاء ، يفاوضونهم في الآراء ، ويسندون إليهم أمورهم . ثمّ بيّن اللّه المعنى الّذي من أجله نهى عن المواصلة فقال : { لا يألونكم خبالاً } يعني لا يتركون الجهد في إفسادكم ، أي أنّهم وإن لم يقاتلوكم فإنّهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة . وروي أنّ أبا موسى الأشعريّ استكتب ذمّيّاً ، فعنّفه عمر رضي الله عنهما وتلا عليه هذه الآية . وعن عمر رضي الله عنه أنّه قال أيضاً : لا تستعملوا أهل الكتاب فإنّهم يستحلّون الرّشا ، واستعينوا على أموركم وعلى رعيّتكم بالّذين يخشون اللّه تعالى .
ثانياً : البطانة في الثّوب : الصّلاة على ثوبٍ بطانته نجسة :
6 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة وأبو حنيفة والحنابلة ومحمّد بن الحسن إلى أنّه تصحّ الصّلاة على بساطٍ ظاهره طاهر ، وبطانته نجس ، لأنّه ليس حاملاً ولا لابساً ، ولا مباشراً للنّجاسة ، فأشبه ما لو صلّى على بساطٍ طرفه نجس ، أو مفروشٍ على نجسٍ . وذهب أبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّه لا يصحّ الصّلاة عليه ، نظراً لاتّحاد المحلّ ، فاستوى ظاهره وباطنه .
حكم لبس الرّجل ثوباً بطانته من حريرٍ :
7 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يحرم على الرّجل لبس ثوبٍ بطانته من حريرٍ ، لحديث عمر رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { لا تلبسوا الحرير ، فإنّه من لبسه في الدّنيا لم يلبسه في الآخرة } . وفي كشّاف القناع ، بعد بيان تحريم الحرير على الرّجال والاستدلال بالحديث ، قال : ولو كان الحرير بطانةً ، لعموم الخبر ، لكن قيّد المالكيّة حرمة المبطّن بالحرير بما إذا كان كثيراً ، كما قال القاضي أبو الوليد . وهو مكروه عند الحنفيّة كما جاء في ابن عابدين نقلاً عن الهنديّة ، وقال في تعليله : لأنّ البطانة مقصودة . والكراهة حيث أطلقت عند الحنفيّة فهي لكراهة التّحريم . وتفصيله في مصطلح ( حرير ) .
بطلان
التّعريف
1 - البطلان لغةً : الضّياع والخسران ، أو سقوط الحكم . يقال : بطل الشّيء يبطل بطلاً وبطلاناً بمعنى : ذهب ضياعاً وخسراناً ، أو سقط حكمه ، ومن معانيه : الحبوط . وهو في الاصطلاح يختلف تبعاً للعبادات والمعاملات . ففي العبادات : البطلان : عدم اعتبار العبادة حتّى كأنّها لم تكن . كما لو صلّى بغير وضوءٍ . والبطلان في المعاملات يختلف فيها تعريف الحنفيّة عن غيرهم ، فهو عند الحنفيّة : أن تقع على وجهٍ غير مشروعٍ بأصله ولا بوصفه ، وينشأ عن البطلان تخلّف الأحكام كلّها عن التّصرّفات ، وخروجها عن كونها أسباباً مفيدةً لتلك الأحكام الّتي تترتّب عليها ، فبطلان المعاملة لا يوصّل إلى المقصود الدّنيويّ أصلاً ، لأنّ آثارها لا تترتّب عليها . وتعريف البطلان عند غير الحنفيّة هو تعريف الفساد بعينه ، وهو : أن تقع المعاملة على وجهٍ غير مشروعٍ بأصله أو بوصفه أو بهما .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - الفساد :
2 - الفساد : مرادف للبطلان عند الجمهور ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) فكلّ من الباطل والفاسد يطلق على الفعل الّذي يخالف وقوعه الشّرع ، ولا تترتّب عليه الآثار ، ولا يسقط القضاء في العبادات . وهذا في الجملة ، ففي بعض أبواب الفقه يأتي التّفريق بين البطلان والفساد ، كالحجّ والعاريّة والكتابة والخلع وسيأتي بيان ذلك . أمّا عند الحنفيّة ، فالفساد يباين البطلان بالنّسبة للمعاملات ، فالبطلان عندهم : مخالفة الفعل للشّرع لخللٍ في ركنٍ من أركانه أو شرطٍ من شرائط انعقاده . أمّا الفساد فهو : مخالفة الفعل للشّرع في شرطٍ من شروط صحّته ، ولو مع موافقة الشّرع في أركانه وشرائط انعقاده .
ب - الصّحّة :
3 - الصّحّة في اللّغة . بمعنى : السّلامة فالصّحيح ضدّ المريض . وفي الاصطلاح : وقوع الفعل موافقاً للشّرع باستجماع الأركان والشّروط . وأثره في المعاملات : ترتّب ثمرة التّصرّف المطلوبة منه عليه ، كحلّ الانتفاع في البيع ، والاستمتاع في النّكاح . وأثره في العبادات هو سقوط القضاء بفعل العبادة .
ج - الانعقاد :
4 - الانعقاد : يشمل الصّحّة ، ويشمل الفساد عند الحنفيّة ، فهو ارتباط أجزاء التّصرّف شرعاً . أو هو : تعلّق كلٍّ من الإيجاب والقبول بالآخر على وجهٍ مشروعٍ ، يظهر أثره في متعلّقهما . فالعقد الفاسد منعقد بأصله ، ولكنّه فاسد بوصفه ، وهذا عند الحنفيّة . فالانعقاد ضدّ البطلان . عدم التّلازم بين بطلان التّصرّف في الدّنيا وبطلان أثره في الآخرة :
5 - لا تلازم بين صحّة التّصرّف أو بطلانه في أحكام الدّنيا ، وبين بطلان أثره في الآخرة ، فقد يكون محكوماً عليه بالصّحّة في الدّنيا ، لاستكماله الأركان والشّروط المطلوبة شرعاً ، لكن اقترن به من المقاصد والنّيّات ما يبطل ثمرته في الآخرة ، فلا يكون له عليه ثواب ، بل قد يلزمه الإثم ، ودليل ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { إنّما الأعمال بالنّيّات ، وإنّما لكلّ امرئٍ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الدّنيا يصيبها أو إلى امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه } وقد يصحّ العمل ويستحقّ عامله الثّواب ، ولكن يتبعه صاحبه عملاً يبطله ، فالمنّ والأذى يبطل أجر الصّدقة ، لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى } وقال : { يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول ولا تبطلوا أعمالكم } .
6- ويوضّح الشّاطبيّ ذلك فيقول : يراد بالبطلان إطلاقان : أحدهما : عدم ترتّب آثار العمل عليه في الدّنيا ، كما نقول في العبادات : إنّها غير مجزئةٍ ولا مبرّئةٍ للذّمّة ولا مسقطةٍ للقضاء ، فهي باطلة بهذا المعنى لمخالفتها لما قصد الشّارع فيها . وقد تكون باطلةً لخللٍ في بعض أركانها أو شروطها ، ككونها ناقصةً ركعةً أو سجدةً . ونقول أيضاً في العادات : إنّها باطلة ، بمعنى عدم حصول فوائدها بها شرعاً ، من حصول إملاكٍ واستباحة فروجٍ وانتفاعٍ بالمطلوب . والثّاني : أن يراد بالبطلان عدم ترتّب آثار العمل عليه في الآخرة ، وهو الثّواب . فتكون العبادة باطلةً بالإطلاق الأوّل ، فلا يترتّب عليها جزاء ، لأنّها غير مطابقةٍ لمقتضى الأمر بها ، كالمتعبّد رئاء النّاس ، فهي غير مجزئةٍ ولا يترتّب عليها ثواب ، وقد تكون صحيحةً بالإطلاق الأوّل ، ولا يترتّب عليها ثواب أيضاً ، كالمتصدّق بالصّدقة يتبعها بالمنّ والأذى ، وقد قال اللّه تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كالّذي ينفق ماله رئاء النّاس } .
الحكم التّكليفيّ للإقدام على تصرّفٍ باطلٍ مع العلم وعدمه :
7 - الإقدام على فعلٍ باطلٍ - مع العلم ببطلانه - حرام ، ويأثم فاعله ، لارتكابه المعصية بمخالفته المشروع ، لأنّ البطلان وصف للفعل الّذي يقع مخالفاً للشّرع ، وسواء أكان ذلك في العبادات ، كالصّلاة بدون طهارةٍ ، والأكل في نهار رمضان ، أم كان ذلك في المعاملات ، كبيع الميتة والدّم والملاقيح والمضامين ، وكالاستئجار على النّوح ، وكرهن الخمر عند المسلم ولو كانت لذمّيٍّ ، وما شابه ذلك ، أم كان في النّكاح ، كنكاح الأمّ والبنت . وهذا الحكم يشمل الفاسد أيضاً عند الحنفيّة ، فإنّه وإن كان يفيد بعض الأحكام - كإفادته الملك بالقبض في البيع مثلاً - إلاّ أنّ الإقدام عليه حرام ، ويجب فسخه حقّاً للّه تعالى دفعاً للفساد ، لأنّ فعله معصية ، فعلى العاقد التّوبة منه بفسخه . ويستثنى من حكم الإقدام على التّصرّف الباطل حالة الضّرورة ، كالمضطرّ يشتري الميتة . هذا فيمن يقدم على الباطل مع علمه ببطلانه .
8 - وأمّا الإقدام على التّصرّف الباطل مع عدم العلم ، فهذا يشمل النّاسي والجاهل . والأصل بالنّسبة للجاهل : أنّه لا يجوز له أن يقدم على فعلٍ حتّى يعلم حكم اللّه فيه ، فمن باع وجب عليه أن يتعلّم ما شرعه اللّه في البيع ، ومن آجر وجب عليه أن يتعلّم ما شرعه اللّه في الإجارة ، ومن صلّى وجب عليه أن يتعلّم حكم اللّه تعالى في هذه الصّلاة ، وهكذا في كلّ ما يريد الإقدام عليه ، لقوله تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } فلا يجوز الشّروع في شيءٍ حتّى يعلم حكمه ، فيكون طلب العلم واجباً في كلّ مسألةٍ ، وترك التّعلّم معصيةً يؤاخذ بها . أمّا المؤاخذة بالنّسبة للتّصرّف الّذي وقع باطلاً مع الجهل ، فقد ذكر القرافيّ في الفروق : أنّ صاحب الشّرع قد تسامح في جهالاتٍ في الشّريعة ، فعفا عن مرتكبها ، وأخذ بجهالاتٍ ، فلم يعف عن مرتكبها . وانظر للتّفصيل مصطلح ( جهل ، نسيان ) .
الإنكار على من فعل الباطل :
9 - إن كان الفعل متّفقاً على بطلانه ، فإنكاره واجب على مسلمٍ . أمّا إن كان مختلفاً فيه ، فلا إنكار فيه . قال الزّركشيّ : الإنكار من المنكر إنّما يكون فيما اجتمع عليه ، فأمّا المختلف فيه فلا إنكار فيه ، لأنّ كلّ مجتهدٍ مصيب ، أو المصيب واحد ولا نعلمه ، ولم يزل الخلاف بين السّلف في الفروع ، ولا ينكر أحد على غيره أمراً مجتهداً فيه ، وإنّما ينكرون ما خالف نصّاً ، أو إجماعاً قطعيّاً أو قياساً جليّاً ، وهذا إذا كان الفاعل لا يرى تحريمه ، فإن كان يراه فالأصحّ الإنكار . وفي كلّ ذلك خلاف وتفصيل يرجع إليه في ( إنكار ، أمر بالمعروف ، اجتهاد ، تقليد ، اختلاف ، إفتاء ، رخصة ) .
الاختلاف في التّفريق بين البطلان والفساد ، وسبب ذلك :
10 - يرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّه لا فرق بين البطلان والفساد في التّصرّفات ، سواء أكان ذلك في العبادات ، كالصّلاة مع ترك ركنٍ من أركانها ، أو شرطٍ من شروطها ، أم كان ذلك في النّكاح ، كالعقد على إحدى المحارم ، أم كان في المعاوضات ، كبيع الميتة والدّم ، والشّراء بالخمر ، والبيع المشتمل على الرّبا ، فكلّ من البطلان والفساد يوصف به الفعل الّذي يقع على خلاف ما طلبه الشّارع ، ومن أجل هذه المخالفة لم يعتبره ، ولم يرتّب عليه أيّ أثرٍ من الآثار الّتي تترتّب على الفعل الصّحيح . فالجمهور يطلقونهما ، ويريدون بهما معنًى واحداً ، وهو : وقوع الفعل على خلاف ما طلبه الشّارع ، سواء أكان هذا الخلاف راجعاً إلى فوات ركنٍ من أركان الفعل ، أم راجعاً إلى فوات شرطٍ من شروطه . أمّا الحنفيّة فإنّهم - على المشهور عندهم ، وهو المعتمد - يوافقون الجمهور في أنّ البطلان والفساد مترادفان بالنّسبة للعبادات . أمّا بالنّسبة للمعاملات ، فإنّهم يخالفون الجمهور ، فيفرّقون بينهما ، ويجعلون للفساد معنًى يخالف معنى البطلان ، ويقوم هذا التّفريق على أساس التّمييز بين أصل العقد ووصفه . فأصل العقد هو أركانه وشرائط انعقاده ، من أهليّة العاقد ومحلّيّة المعقود عليه وغيرهما ، كالإيجاب والقبول ... وهكذا . أمّا وصف العقد ، فهي شروط الصّحّة ، وهي العناصر المكمّلة للعقد ، كخلوّه عن الرّبا ، وعن شرطٍ من الشّروط الفاسدة ، وعن الغرر والضّرر . وعلى هذا الأساس يقول الحنفيّة : إذا حصل خلل في أصل العقد - بأن تخلّف ركن من أركانه ، أو شرط من شروط انعقاده - كان العقد باطلاً ، ولا وجود له ، ولا يترتّب عليه أيّ أثرٍ دنيويٍّ ، لأنّه لا وجود للتّصرّف إلاّ من الأهل في المحلّ ، ويكون العقد فائت المعنى من كلّ وجهٍ مع وجود الصّورة فحسب ، إمّا لانعدام محلّ التّصرّف كبيع الميتة والدّم ، أو لانعدام أهليّة المتصرّف كالبيع الصّادر من المجنون أو الصّبيّ الّذي لا يعقل . أمّا إذا كان أصل العقد سالماً من الخلل ، وحصل خلل في الوصف ، بأن اشتمل العقد على شرطٍ فاسدٍ ، أو رباً ، فإنّ العقد يكون فاسداً لا باطلاً ، وتترتّب عليه بعض الآثار دون بعضٍ .
11 - والسّبب في هذا الاختلاف بين الجمهور والحنفيّة ، يرجع إلى اختلاف هؤلاء الفقهاء في أثر النّهي إذا توجّه إلى وصفٍ من أوصاف العمل اللّازمة له ، كالنّهي عن البيع المشتمل على الرّبا أو شرطٍ فاسدٍ . فالجمهور يقولون : إنّه يقتضي بطلان كلٍّ من الوصف والأصل ، كأثر النّهي المتوجّه إلى ذات الفعل وحقيقته ، ويطلقون على الفعل المنهيّ عنه لوصفٍ لازمٍ له اسم الفاسد أو الباطل ، ولا يرتّبون عليه أيّ أثرٍ من الآثار المقصودة منه ، ولهذا كان البيع المشتمل على الرّبا ، أو على شرطٍ فاسدٍ ، أو نحو هذا من قبيل الباطل عندهم أو الفاسد . والحنفيّة يقولون : إنّه يقتضي بطلان الوصف فقط ، أمّا أصل العمل فهو باقٍ على مشروعيّته بخلاف النّهي المتوجّه إلى ذات الفعل وحقيقته ، ويطلقون على الفعل المنهيّ عنه لوصفٍ لازمٍ له اسم الفاسد لا الباطل ، ويرتّبون عليه بعض الآثار دون بعضٍ ، ولهذا كان البيع المشتمل على الرّبا ، أو على شرطٍ فاسدٍ ونحوهما من قبيل الفاسد عندهم ، لا من قبيل الباطل .
12 - وقد استدلّ كلّ من الفريقين لما ذهب إليه بأدلّةٍ كثيرةٍ ، أهمّها ما يأتي : أمّا الجمهور فقد استدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ } فإنّه يدلّ على أنّ العمل متى خالف أمر الشّارع صار غير معتبرٍ في نظره ، فلا تترتّب عليه الأحكام الّتي يقصدها منه ، سواء أكانت المخالفة راجعةً إلى ذات العمل وحقيقته ، أم إلى وصفٍ من الأوصاف اللّازمة له . وأمّا الحنفيّة فإنّهم استندوا إلى أنّ الشّارع قد وضع العبادات والمعاملات أسباباً لأحكامٍ تترتّب عليها ، فإذا نهى الشّارع عن شيءٍ منها لوصفٍ من الأوصاف اللّازمة له ، كان النّهي مقتضياً بطلان هذا الوصف فقط ، لأنّ النّهي متوجّه إليه ، فيقتصر أثره عليه ، فإذا لم يكن وجود هذا الوصف مخلّاً بحقيقة التّصرّف الموصوف به ، بقيت حقيقته قائمةً ، وحينئذٍ يجب أن يثبت لكلٍّ منهما مقتضاه . فإذا كان المنهيّ عنه بيعاً مثلاً ، ووجدت حقيقته بوجود ركنه ومحلّه ، ثبت الملك به نظراً لوجود حقيقته ، ووجب فسخه نظراً لوجود الوصف المنهيّ عنه ، وبذلك يمكن مراعاة الجانبين ، وإعطاء كلٍّ منها حكمه اللّائق به . إلاّ أنّ العبادات لمّا كان المقصود منها الامتثال والطّاعة ، ولا يتحقّق هذا إلاّ إذا لم تحصل فيها مخالفة ما ، لا في الأصل ولا في الوصف ، كانت مخالفة أمر الشّارع فيها مقتضيةً للفساد والبطلان ، سواء أكانت هذه المخالفة راجعةً إلى ذات العبادة ، أم إلى صفةٍ من صفاتها اللّازمة . بقي بعد ذلك أن نذكر أنّ الجمهور وإن كانوا لا يفرّقون بين الفاسد والباطل - على ما جاء في قواعدهم العامّة - إلاّ أنّه يتبيّن وجود الخلاف في كثيرٍ من أبواب الفقه ، كما يؤخذ من نصوصهم ، غير أنّهم اعتبروا ذلك استثناءً من القاعدة العامّة كما يقول الشّافعيّة ، أو للتّفرقة في مسائل الدّليل كما يقول الحنابلة والمالكيّة ، وتفصيل ذلك في كلّ بابٍ من أبواب الفقه ينظر في مواضعه .
تجزّؤ البطلان :
13 - المراد بتجزّؤ البطلان : أن يشمل التّصرّف على ما يجوز وما لا يجوز ، فيكون في شقٍّ منه صحيحاً ، وفي الشّقّ الآخر باطلاً . ومن هذا النّوع ما يسمّى بتفريق الصّفقة . وهي الجمع بين ما يجوز وما لا يجوز في عقدٍ واحدٍ . وأهمّ الصّور الواردة في ذلك ما جاء في البيع وهي .
14 - عقد البيع إذا كان في شقٍّ منه صحيحاً ، وفي الشّقّ الآخر باطلاً ، كبيع العصير والخمر صفقةً واحدةً ، وكذلك بيع المذكّاة والميتة ، فالصّفقة كلّها باطلة ، وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة - عدا ابن القصّار منهم - وهو أحد قولي الشّافعيّة ( وادّعى في المهمّات أنّه المذهب ) ، وفي روايةٍ عن الإمام أحمد . وذلك لأنّه متى بطل العقد في البعض بطل في الكلّ ، لأنّ الصّفقة غير متجزّئةٍ ، أو لتغليب الحرام على الحلال عند اجتماعهما ، أو لجهالة الثّمن . والقول الآخر للشّافعيّة - قالوا : وهو الأظهر - والرّواية الثّانية عن الإمام أحمد ، وقول ابن القصّار من المالكيّة : أنّه يجوز تجزئة الصّفقة ، فيصحّ البيع فيما يجوز ، ويبطل فيما لا يجوز ، لأنّ الإبطال في الكلّ لبطلان أحدهما ليس بأولى من تصحيح الكلّ لصحّة أحدهما ، فيبقيان على حكمهما ، ويصحّ فيما يجوز ويبطل فيما لا يجوز . وقال أبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة : إن عيّن ابتداءً لكلّ شقّ حصّته من الثّمن ، فعند ذلك نعتبر الصّفقة صفقتين مستقلّتين ، تجوز فيهما التّجزئة ، فتصحّ واحدة ، وتبطل الأخرى . وإذا كان العقد في شقٍّ منه صحيحاً ، وفي الشّقّ الآخر موقوفاً ، كالجمع بين ما يملكه وما يملكه غيره ، وبيعهما صفقةً واحدةً ، فإنّ البيع يصحّ فيهما ويلزم في ملكه ، ويقف اللّازم في ملك الغير على إجازته ، وهذا عند المالكيّة والحنفيّة عدا زفر ، وهو مبنيّ عند الحنفيّة على قاعدة عدم جواز البيع بالحصّة ابتداءً ، وجواز ذلك بقاءً . وعند زفر : يبطل الجميع ، لأنّ العقد وقع على المجموع ، والمجموع لا يتجزّأ . وعند الشّافعيّة والحنابلة يجري الخلاف السّابق ، لأنّ العقد الموقوف عندهم باطل في الأصحّ .
15 - كذلك تجري التّجزئة في النّكاح ، فلو جمع في عقد النّكاح بين من تحلّ ومن لا تحلّ ، كمسلمةٍ ووثنيّةٍ ، صحّ نكاح الحلال اتّفاقاً ، وبطل في من لا تحلّ . أمّا لو جمع بين خمسٍ ، أو بين أختين في عقدٍ واحدٍ فإنّه يبطل في الكلّ ، لأنّ المحرّم الجمع ، لا إحداهنّ أو إحداهما فقط ، وإنّما يجري خلاف الفقهاء فيما لو جمع بين أمةٍ وحرّةٍ معاً في عقدٍ واحدٍ ، فعند الحنفيّة يبطل فيهما ، وعند المالكيّة صحّ نكاح الحرّة ، وبطل نكاح الأمة على المشهور ، وهو أظهر الرّوايتين عند الحنابلة والأظهر عند الشّافعيّة . والحكم في سائر عقود المعاملات كالإجارة وغيرها كالحكم في البيع في الجملة ، وقد عقد الفقهاء فصلاً لتفريق الصّفقة وما يجرى مجراها من تصرّفاتٍ . انظر ( تفريق الصّفقة ) .
بطلان الشّيء يستلزم بطلان ما في ضمنه وما بني عليه :
16 - من القواعد الفقهيّة الّتي ذكرها ابن نجيمٍ في الأشباه : إذا بطل الشّيء بطل ما في ضمنه ، ثمّ قال : وهو معنى قولهم : إذا بطل المتضمّن ( بالكسر ) بطل المتضمّن ( بالفتح ) وأورد لذلك عدّة أمثلةٍ منها :
أ - لو قال : بعتك دمي بألفٍ ، فقتله وجب القصاص ، ولا يعتبر ما في ضمنه من الإذن بقتله .
ب - التّعاطي ضمن عقدٍ فاسدٍ أو باطلٍ لا ينعقد به البيع .
ج - لو أبرأه أو أقرّ له ضمن عقدٍ فاسدٍ فسد الإبراء .
د - لو جدّد النّكاح لمنكوحته بمهرٍ لم يلزمه ، لأنّ النّكاح الثّاني لم يصحّ ، فلم يلزم ما في ضمنه من المهر . إلاّ أنّ أغلب كتب الحنفيّة تجري القاعدة على الفساد لا على البطلان ، لأنّ الباطل معدوم شرعاً أصلاً ووصفاً ، والمعدوم لا يتضمّن شيئاً ، أمّا الفاسد فهو فائت الوصف دون الأصل ، فلم يكن معدوماً بأصله فصحّ أن يكون متضمّناً ، فإن فسد المتضمّن فسد المتضمّن .
17 - هذا والمذاهب الأخرى - وهي الّتي لا تفرّق بين البطلان والفساد - تسير على هذا النّهج ، واستثنوا من ذلك صوراً . ففي كتب الشّافعيّة : الفاسد من العقود المتضمّنة للإذن ، إذا صدرت من المأذون ، صحّت ، كما في الوكالة المعلّقة إذا أفسدناها فتصرّف الوكيل ، صحّ لوجود الإذن ، والوكيل بالبيع مع شرط عوضٍ فاسدٍ للوكيل ، فالإذن صحيح والعوض فاسد . وفي القواعد لابن رجبٍ الحنبليّ : العقود الجائزة كالشّركة والمضاربة والوكالة لا يمنع فسادها نفوذ المتصرّف فيها بالإذن . ثمّ يفرّق بين الإذن في البيع - وهو عقد تمليكٍ - وبين الإذن في العقود الجائزة ، فيقول : البيع وضع لنقل الملك لا للإذن وصحّة التّصرّف فيه تستفاد من الملك لا من الإذن ، بخلاف الوكالة فإنّها موضوعة للإذن . ويقول ابن قدامة : إذا تصرّف العامل في المضاربة الفاسدة نفذ تصرّفه ، لأنّه أذن له فيه ، فإذا بطل العقد بقي الإذن ، فملك به التّصرّف . وقواعد المالكيّة لا تأبى ذلك . هذه هي قاعدة التّضمّن . لكن هناك قاعدة أخرى شبيهة بها ، وهي : إذا سقط الأصل سقط الفرع ، ومنها : التّابع يسقط بسقوط المتبوع ، وقد مثّل الفقهاء لذلك بقولهم : لو أبرأ الدّائن المدين من الدّين ، فكما أنّه يبرأ المدين يبرأ منه الكفيل أيضاً ، لأنّ المدين في الدّين أصل ، والكفيل فرع .
تصحيح العقد الباطل :
18 - تصحيح العقد الباطل يمكن تصويره بصورتين : الأولى : إذا ارتفع ما يبطل العقد فهل ينقلب صحيحاً الثّانية : أن تؤدّي صيغة العقد الباطل إلى معنى عقدٍ آخر صحيحٍ .
19 - أمّا الصّورة الأولى : فإنّ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة لا يصير العقد الباطل صحيحاً عندهم إذا ارتفع ما يبطله . وعلى ذلك : لا يجوز بيع الدّقيق في الحنطة ، والزّيت في الزّيتون ، واللّبن في الضّرع ، والبذر في البطّيخ ، والنّوى في التّمر ، لأنّه لا يعلّم وجوده فهو كالمعدوم ، حتّى لو سلّم اللّبن أو الدّقيق أو العصير لا ينقلب صحيحاً ، لأنّ المعقود عليه كالمعدوم حالة العقد ، ولا يتصوّر انعقاد العقد بدونه ، فلم ينعقد أصلاً ، فلا يحتمل التّصحيح . أمّا الجمهور ( وهم لا يفرّقون في الجملة بين الفاسد والباطل ) فالحكم عند الشّافعيّة والحنابلة كالحنفيّة ، لا ينقلب العقد الباطل صحيحاً برفع المفسد . ففي كتب الشّافعيّة : لو حذف العاقدان المفسد للعقد ، ولو في مجلس الخيار ، لم ينقلب العقد صحيحاً ، إذ لا عبرة بالفاسد . وفي منتهى الإرادات : الفاسد لا ينقلب صحيحاً . أمّا المالكيّة : فإنّهم يوافقون الجمهور في هذا الحكم ، إلاّ في البيع بشرطٍ لا يؤدّي إلى الإخلال بشيءٍ من شروط الصّحّة ، فإنّ العقد ينقلب صحيحاً إذا أسقط الشّرط ، وذلك كبيع الثّنيا ، وهو أن يبتاع السّلعة على أنّ البائع متى ردّ الثّمن فالسّلعة له ، وكالبيع بشرط السّلف ، فإنّ البيع عندهم يكون فاسداً ، لكنّه ينقلب صحيحاً إن حذف الشّرط .
أمّا الصّورة الثّانية : وهي تحوّل العقد الباطل إلى عقدٍ آخر صحيحٍ ، فيكاد الفقهاء يتّفقون على أنّه متى أمكن تحويل العقد الباطل إلى عقدٍ آخر صحيحٍ - لتوفّر أسباب الصّحّة فيه - صحّ ذلك ، سواء أكانت الصّحّة عن طريق المعنى عند بعض الفقهاء ، أم عن طريق اللّفظ عند البعض الآخر ، نظراً لاختلافهم في قاعدة : هل العبرة بصيغ العقود أو معانيها . 21 - ومن أمثلة ذلك ما يأتي : المضاربة ، وهي : أن يدفع شخص إلى آخر ماله ليتّجر فيه ، ويكون الرّبح بينهما بحسب ما يتّفقان ، ويسمّى القائم بالتّجارة مضارباً ، فلو شرط في عقد المضاربة الرّبح كلّه للمضارب لم يكن مضاربةً ، ولكن يكون قرضاً ، تصحيحاً للعقد ، لأنّه لو بقي مضاربةً لكان باطلاً ، لأنّ المضارب لا يملك رأس مال المضاربة حتّى يكون الرّبح كلّه له ، فجعل قرضاً ، نظراً للمعنى ، ليصحّ العقد . وكذلك لو شرط الرّبح كلّه لربّ المال ، اعتبر العقد في هذه الحالة إبضاعاً ، تصحيحاً للعقد ، وفي هذه الحالة يكون المضارب وكيلاً متبرّعاً لصاحب المال . نصّ على ذلك فقهاء الحنفيّة . وبه قال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وصحّحوا الوكالة إذا عقدت بلفظ الحوالة ، والحوالة إذا عقدت بلفظ الوكالة ، لاشتراكهما في المعنى ، حيث قالوا : إن أحال من ليس عليه دين رجلاً على رجلٍ آخر مدينٍ له ، لم يكن هذا التّصرّف حوالةً ، بل وكالةً تترتّب عليه أحكامها ، وإن أحال من عليه دين صاحب الدّين على رجلٍ ليس له عليه دين ، لم يجعل هذا التّصرّف حوالةً ، بل اقتراضاً ، وإن كان الّذي أحاله لا دين له عليه اعتبر وكالةً في الاقتراض . وفي الفقه الشّافعيّ : إذا وهب شخص لآخر شيئاً بشرط الثّواب ، اعتبر هذا التّصرّف بيعاً بالثّمن لا هبةً ، في أصحّ الأقوال .
الباطل لا يصير صحيحاً بتقادم الزّمان أو بحكم الحاكم :
22 - التّصرّفات الباطلة لا تنقلب صحيحةً بتقادم الزّمان ، ولو حكم حاكم بنفاذ التّصرّفات الباطلة ، فإنّ ثبوت الحقّ وعودته يعتبر قائماً في نفس الأمر ، ولا يحلّ لأحدٍ الانتفاع بحقّ غيره نتيجة تصرّفٍ باطلٍ ما دام يعلم بذلك . فإنّ حكم الحاكم لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً . هذا هو الأصل ، والقضاة إنّما يقضون بحسب ما يظهر لهم من أدلّةٍ وحججٍ يبنون عليها أحكامهم ، وقد تكون غير صحيحةٍ في نفس الأمر . ولذلك يقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما روت أمّ سلمة عنه : { إنّما أنا بشر ، وإنّكم تختصمون إليّ ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعضٍ ، فأقضي له بما أسمع ، وأظنّه صادقاً ، فمن قضيت له بشيءٍ من حقّ أخيه فلا يأخذ منه شيئاً ، فإنّما أقطع له قطعةً من النّار } . 23 - ومضيّ فترةٍ من الزّمن على أيّ تصرّفٍ ، مع عدم تقدّم أحدٍ إلى القضاء بدعوى بطلان هذا التّصرّف ، ربّما يعني صحّة هذا التّصرّف أو رضى صاحب الحقّ به . ومن هنا نشأ عدم سماع الدّعوى بعد مضيّ مدّةٍ معيّنةٍ ، يختلف الفقهاء في تحديدها بحسب الأحوال ، وبحسب الشّيء المدّعى به ، وبحسب القرابة وعدمها ، ومدّة الحيازة ، لكنّ مضيّ المدّة الّتي تمنع سماع الدّعوى لا أثر له في صحّة التّصرّف ، إن كان باطلاً . يقول ابن نجيمٍ : الحقّ لا يسقط بتقادم الزّمان ، قذفاً أو قصاصاً أو لعاناً أو حقّاً للعبد . ويقول : ينفذ قضاء القاضي في المسائل المجتهد فيها ، إلاّ في مسائل منها : لو قضى ببطلان الحقّ بمضيّ المدّة ، أو بصحّة نكاح المتعة ، أو بسقوط المهر بالتّقادم . وفي التّكملة لابن عابدين : من القضاء الباطل : القضاء بسقوط الحقّ بمضيّ سنين . ثمّ يقول . عدم سماع الدّعوى بعد مضيّ ثلاثين سنةً ، أو بعد الاطّلاع على التّصرّف ، ليس مبنيّاً على بطلان الحقّ في ذلك ، وإنّما هو مجرّد منعٍ للقضاء عن سماع الدّعوى ، مع بقاء الحقّ لصاحبه ، حتّى لو أقرّ به الخصم يلزمه . وفي منتهى الإرادات : تقبل الشّهادة بحدٍّ قديمٍ على الصّحيح ، لأنّها شهادة بحقٍّ ، فجازت مع تقادم الزّمان . والمالكيّة - وإن كانوا يشترطون لعدم سماع الدّعوى حيازة الشّيء المدّعى به مدّةً تختلف بحسبه من عقارٍ وغيره - إلاّ أنّ ذلك مقيّد بكون المدّعي حاضراً مدّة حيازة الغير ، ويراه يقوم بالهدم والبناء والتّصرّف وهو ساكت . أمّا إذا كان ينازعه فإنّ الحيازة لا تفيد شيئاً مهما طالت المدّة ، وفي فتح العليّ لمالكٍ : رجل استولى على أرضٍ بعد موت أهلها بغير حقٍّ ، مع وجود ورثتهم ، وبناها ونازعه الورثة ، ولم يقدروا على منعه لكونه من رؤساء بلدتهم ، فهل لا تعتبر حيازته ولو طالت مدّتها ؟ أجيب : نعم . لا تعتبر حيازته ولو طالت مدّتها ... سمع يحيى من ابن القاسم : من عرف بغصب أموال النّاس لا ينتفع بحيازته مال غيره في وجهه ، فلا يصدّق فيما يدّعيه من شراءٍ أو عطيّةٍ ، وإن طال بيده أعواماً إن أقرّ بأصل الملك لمدّعيه ، أو قامت له به بيّنة . قال ابن رشدٍ : هذا صحيح لا خلاف فيه ، لأنّ الحيازة لا توجب الملك ، وإنّما هي دليل عليه توجب تصديق غير الغاصب فيما ادّعاه من تصير إليه ، لأنّ الظّاهر أنّه لا يجوز أخذ مال أحدٍ ، وهو حاضر لا يطلبه ولا يدّعيه ، إلاّ وقد صار إلى حائزةٍ إذا حازه عشرة أعوامٍ ونحوها . وتنظر تفصيلات ذلك في ( دعوى . تقادم . حيازة ) . وبالنّسبة للعبادات : فمن المقرّر أنّ من بطلت عبادته ، فإنّ ذمّته تظلّ مشغولةً بها حتّى يقضيها .
آثار البطلان : تختلف آثار البطلان بالنّسبة للتّصرّفات ، وبيان ذلك فيما يلي : أوّلاً - بالنّسبة للعبادات :
24 - بطلان العبادات يترتّب عليه عدّة آثارٍ منها :
أ - استمرار انشغال الذّمّة بالعبادة إلى أن - تؤدّى إن كانت العبادة ليس لها وقت محدّد كالزّكاة ، وعبّر بعض الفقهاء فيها بالإعادة - أو تقضى ، إن كانت العبادة لا يتّسع وقتها لمثلها كرمضان . - أو تعاد ، إن كان وقتها يتّسع لغيرها معها كالصّلاة . فإن خرج الوقت كانت قضاءً أو يؤتى بالبدل ، كالظّهر لمن بطلت جمعته .
ب - العقوبة الدّنيويّة في بعض العبادات كالكفّارة على من تعمّد الإفطار في رمضان . ج - وجوب الانقطاع عن المضيّ في الصّلاة إذا بطلت لا في الصّيام والحجّ ، إذ يجب الإمساك في الصّوم في رمضان ، والمضيّ في الحجّ الفاسد ، مع القضاء فيهما .
د - حقّ استرداد الزّكاة إذا أعطيت لغير مستحقٍّ . وفي كلّ ما سبق تفصيل ينظر في أبوابه .
ثانياً : أثر البطلان في المعاملات :
25 - العقد الباطل في اصطلاح الحنفيّة لا وجود له إلاّ من حيث الصّورة ، فليس له وجود شرعيّ ، ومن ثمّ فهو عدم ، والعدم لا ينتج أثراً . وهو منقوض من أساسه ، ولا يحتاج لحكم حاكمٍ لنقضه . ولا تلحقه الإجازة ، لأنّه غير منعقدٍ أصلاً فهو معدوم ، والإجازة لا تلحق المعدوم ، لأنّه متلاشٍ . ولا يملك بالعقد الباطل ما يملك بغيره ، وإذا حدث فيه تسليم يجب الرّدّ . ففي البيع الباطل لا ينتقل الملك بالقبض ولذا يجب الرّدّ . يقول ابن رشدٍ من المالكيّة : اتّفق العلماء على أنّ البيوع الفاسدة - وهي الباطلة عند الحنفيّة - إذا وقعت ولم تفت ، حكمها الرّدّ ، أي أن يردّ البائع الثّمن ، ويردّ المشتري المثمّن . ولا يملك المصالح ما صالح به في الصّلح الباطل ، ويرجع الدّافع بما دفع . ولا يملك الموهوب له الهبة في الهبة الباطلة . ولا يملك المرتهن حبس المرهون في الرّهن الباطل . ولا يملك المكاتب حرّيّته في الكتابة الباطلة . وفي الإجارة الباطلة الّتي ليست محلّاً للإجارة ، لا تملك الأجرة ويجب ردّها ، لأنّ أخذها حرام ، وتعتبر من أكل الأموال بالباطل . ولا يملك الاستمتاع بالبضع والانتفاع به في النّكاح الباطل . وهكذا الحكم في كلّ العقود الباطلة على وجه الإجمال ، مع تفصيلاتٍ تنظر في مواضعها . لكنّ وجود العقد الباطل كصورةٍ قد ينتج أثراً ، وذلك إذا حدث فيه تسليم وامتنع الرّدّ للفوات ، فهل يكون فيه الضّمان أو لا يكون . وبيان ذلك فيما يلي : الضّمان :
26 - رغم أنّ جمهور الفقهاء لا يفرّقون في قواعدهم العامّة بين الباطل والفاسد إلاّ أنّه بالنّسبة لبعض الأحكام نجد التّفريق بينهما . والضّمان ممّا يفترقان فيه وبيان ذلك فيما يلي : في قاعدةٍ عند الشّافعيّة والحنابلة أنّ كلّ عقدٍ اقتضى صحيحه الضّمان بعد التّسليم كالبيع ففاسده كذلك يقتضي الضّمان ، وإن اقتضى صحيحه عدم الضّمان كالقراض ففاسده كذلك لا يقتضي الضّمان . لكنّ عدم اقتضاء الضّمان مقيّد بما إذا كان القبض صحيحاً ، بأن كان الإذن في قبضه صادراً من أهله ، ويكون وضع اليد عليه في هذه الحالة صحيحاً ، وحينئذٍ فلا ضمان مع فساد القبض . أمّا إذا لم يوجد إذن أصلاً ، أو صدر ولم يكن صحيحاً ، لكونه من غير أهله ، أو في ظلّ الإكراه ، فإنّ القبض يكون باطلاً ، وحينئذٍ يجب الضّمان مطلقاً ، سواء أكان صحيحه لا ضمان فيه ، أم كان فيه الضّمان . جاء في نهاية المحتاج : فاسد كلّ عقدٍ صدر من رشيدٍ كصحيحه ، في الضّمان وعدمه ، لأنّ العقد إن اقتضى صحيحه الضّمان بعد التّسليم كالبيع والإعارة ففاسده أولى . وإن اقتضى صحيحه عدم الضّمان كالرّهن ، والهبة من غير ثوابٍ ، والعين المستأجرة ، ففاسده كذلك لا يقتضي الضّمان . ومثل ذلك في حاشية الجمل وغيرها من كتب الشّافعيّة . 27 - واعتبار عدم الضّمان مع البطلان في عقود التّصرّفات والأمانات لوجود الإذن الصّادر من أهله ، والضّمان إن كان الإذن من غير أهله ، هو أيضاً مذهب الحنفيّة والمالكيّة في الجملة على ما يستفاد من أقوالهم ، مع الاختلاف فيمن يعتبر أهلاً للإذن ، ومن لا يعتبر كالسّفيه ، ومع الاختلاف أيضاً في العقود المضمونة في صحيحها ، أو غير المضمونة كالرّهن والعاريّة . ويعتبر أبو حنيفة المبيع في البيع الباطل إذا قبضه المشتري أمانةً ، ولا ضمان عليه لو هلك ، لأنّ العقد إذا بطل بقي مجرّد القبض بإذن المالك ، وهو لا يوجب الضّمان إلاّ بالتّعدّي ، والقائلون بالضّمان يعلّلون ذلك بأنّه لا يكون أدنى من المقبوض على سوم الشّراء . ويفرّق المالكيّة في العقد الفاسد بين ما قبض على جهة التّملّك فيكون مضموناً ، وما قبض على جهة الأمانة فلا ضمان فيه . جاء في الفواكه الدّواني : كلّ مبيعٍ فاسدٍ قبضه المبتاع قبضاً مستمرّاً بعد بتّ البيع فضمانه من المبتاع من يوم قبضه ، لأنّه قبضه على جهة التّملّك ، لا على جهة الأمانة . ومثل ذلك في الشّركة : لو اشترك من لا يعتبر إذنه ، كصبيٍّ غير مأذونٍ أو سفيهٍ ، فلا ضمان .
أثر البطلان في النّكاح :
28 - من القواعد العامّة عند الجمهور أنّه لا فرق بين الباطل والفاسد ، ويتابعهم الحنفيّة في ذلك في باب النّكاح على ما عرف من القواعد العامّة عندهم . إلاّ أنّ الفقهاء يعبّرون عن النّكاح غير الصّحيح بالباطل أحياناً ، وبالفاسد أحياناً أخرى . ويريدون بهما ما قابل الصّحيح . لكنّهم يقصدون بالفاسد ما كان مختلفاً في فساده بين المذاهب ، كالنّكاح بدون شهودٍ ، حيث يجيز المالكيّة العقد بدونه ، وإن كانوا يشترطون الإشهاد قبل الدّخول ، ويجيزه أيضاً أبو ثورٍ وجماعة . وكنكاح المحرم بالحجّ ، والنّكاح بدون وليٍّ ، حيث يجيزهما الحنفيّة . وكنكاح الشّغار يصحّحه الحنفيّة ويلغون الشّرط ، ويوجبون مهر المثل لكلٍّ من المرأتين . ويقصدون بالباطل : ما كان مجمعاً على فساده بين المذاهب ، كنكاح الخامسة ، أو المتزوّجة من الغير ، أو المطلّقة ثلاثاً ، أو نكاح المحارم . والنّكاح الباطل أو الفاسد واجب الفسخ عند الجميع بالنّسبة للمتّفق على فساده ، وعند القائلين بالفساد بالنّسبة للمختلف فيه ، إلاّ إذا حكم حاكم بصحّته ، فلا ينقض حكمه . والتّفريق في المتّفق على فساده ليس طلاقاً بالإجماع ، وإنّما هو فسخ أو متاركة ، وأمّا المختلف فيه ، ففي اعتبار التّفريق طلاقاً أم لا اختلاف الفقهاء . ر : ( طلاق - فرقة - فسخ ) . ولا حكم للنّكاح الباطل أو الفاسد قبل الدّخول في الجملة على ما سيعرف ، لأنّه ليس بنكاحٍ حقيقةً ، لانعدام ملك منافع البضع بالعقد الباطل أو الفاسد . أمّا بعد الدّخول فيتعلّق بالفاسد بعض الأحكام ، لاعتباره منعقداً ضرورةً في حقّ المنافع المستوفاة . وفيما يلي بيان أهمّ الأحكام الّتي تتعلّق به : المهر :
29 - لا يستحقّ المهر في النّكاح الفاسد مطلقاً - سواء اتّفق على فساده أم لا - إذا حصل التّفريق قبل الدّخول باتّفاقٍ في الجملة ، أو قبل الخلوة فيما اختلف فيه ، وذلك عند الحنابلة . هذا مع استثناء بعض المسائل الّتي يثبت فيها نصف المهر قبل الدّخول ، ومن ذلك ما يقوله المالكيّة من أنّ سبب الفساد إذا لم يؤثّر خللاً في المهر ، كنكاح المحرم بالحجّ ، ففيه نصف الصّداق بالطّلاق ، وجميعه بالموت . وكذلك النّكاح الفاسد عند المالكيّة لوقوع صداقه أقلّ من الصّداق الشّرعيّ ، وامتنع الزّوج من إتمامه ( وهو ما يسمّى بنكاح الدّرهمين ، لأنّهما أقلّ من الصّداق الشّرعيّ ) ففيه نصف الدّرهمين بفسخه قبل الدّخول . ومن ذلك ما إذا ادّعى الزّوج قبل الدّخول رضاعاً محرّماً بلا بيّنةٍ ، وكذّبته الزّوجة ، فإنّه يفسخ ، وعليه نصف الصّداق كما يقول المالكيّة والحنابلة . ويتّفق الفقهاء على وجوب المهر في النّكاح الفاسد مطلقاً بالدّخول ( أي بالوطء ) لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : { أيّما امرأةٍ أنكحت نفسها بغير إذن وليّها فنكاحها باطل ، فإن دخل بها فلها مهر مثلها } جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم لها مهر المثل فيما له حكم النّكاح الفاسد ، وعلّقه بالدّخول ، فدلّ أنّ وجوبه متعلّق به . وعند الحنابلة يجب المهر كذلك في النّكاح المختلف فيه بالخلوة . قال في منتهى الإرادات : نصّاً لما في حديث عائشة رضي الله عنها من قوله صلى الله عليه وسلم : { فلها المهر بما استحلّ من فرجها } . إلاّ أنّ ابن قدامة ذكر في المغني أنّ الخلوة في النّكاح الفاسد لا يجب بها شيء من المهر ، وإنّما يوجبه الوطء ولم يوجد ، ثمّ قال : وقد روي عن أحمد ما يدلّ على أنّ الخلوة فيه كالصّحيح ، فيتقرّر به المهر كالصّحيح ، والأوّل أولى . ويرى المالكيّة أنّ المتلذّذ بها من غير وطءٍ تعوّض وجوباً بالاجتهاد ، سواء أكان النّكاح مختلفاً فيه أم متّفقاً على فساده . واختلف الفقهاء في الواجب من المهر ، هل هو المسمّى أو مهر المثل ؟ . فعند الحنفيّة - غير زفر - لها الأقلّ من مهر مثلها ومن المسمّى . وعند المالكيّة لها المسمّى ، وإن لم يكن مسمًّى - كنكاح الشّغار - فلها مهر المثل ، وعند الشّافعيّة وزفر من الحنفيّة لها مهر المثل ، وعند الحنابلة لها المسمّى في الفاسد ومهر المثل في الباطل . وفي الموضوع تفصيلات كثيرة تنظر في ( مهر ، صداق ، نكاح ) .
ب - العدّة والنّسب :
30 - اتّفق الفقهاء على وجوب العدّة وثبوت النّسب بالوطء في النّكاح المختلف فيه بين المذاهب ، كالنّكاح بدون شهودٍ ، أو بدون وليٍّ ، وكنكاح المحرم بالحجّ ، ونكاح الشّغار . ويزيد الحنابلة ثبوتهما بالخلوة ، لأنّه ينفذ بحكم الحاكم أشبه الصّحيح . ويتّفقون كذلك على وجوب العدّة وثبوت النّسب في النّكاح المجمع على فساده بالوطء كنكاح المعتدّة ، وزوجة الغير والمحارم إذا كانت هناك شبهة تسقط الحدّ ، بأن كان لا يعلم بالحرمة ، ولأنّ الأصل عند الفقهاء : أنّ كلّ نكاحٍ يدرأ فيه الحدّ فالولد لاحق بالواطئ . أمّا إذا لم تكن هناك شبهة تسقط الحدّ ، بأن كان عالماً بالحرمة ، فلا يلحق به الولد عند الجمهور ، وكذلك عند بعض مشايخ الحنفيّة ، لأنّه حيث وجب الحدّ فلا يثبت النّسب . وعند أبي حنيفة وبعض مشايخ الحنفيّة يثبت النّسب لأنّ العقد شبهة . وروي عن أبي يوسف ومحمّدٍ أنّ الشّبهة تنتفي إذا كان النّكاح مجمعاً على تحريمه والمنكوحة محرّمة على التّأبيد ، كالأمّ والأخت ، وعلى ذلك فلا يثبت النّسب عندهما في المحرّمة على التّأبيد ، فقد ذكر الخير الرّمليّ في باب المهر عن العينيّ ومجمع الفتاوى أنّه يثبت النّسب عند أبي حنيفة خلافاً لهما ، إلاّ أنّه روي عن محمّدٍ أنّه قال سقوط الحدّ عنه لشبهةٍ حكميّةٍ فيثبت النّسب . هذا بالنّسبة للنّسب في النّكاح المجمع على تحريمه مع العلم بالحرمة . وأمّا بالنّسبة للعدّة ، فعند المالكيّة والحنابلة والقائلين من الحنفيّة بثبوت النّسب فإنّ العدّة تجب وتسمّى استبراءً ، ولا يجب عند الشّافعيّة وبعض الحنفيّة القائلين بعدم ثبوت النّسب . هذا مع اختلافهم في العدّة وهل تعتبر وقت التّفريق أو من آخر الوطآت . وهل تتداخل العدد أو لا تتداخل ، بل تستأنف . وهل يعتبر النّسب من وقت الدّخول أو من وقت العقد . وهل تثبت بالنّكاح الباطل حرمة المصاهرة أو لا تثبت . وهل يثبت به الإرث أو لا يثبت ؟ ففي كلّ ذلك تفصيلات كثيرة تنظر في مواضعها .
بعضيّة
التّعريف
1 - البعضيّة : مصدر صناعيّ من البعض ، وبعض الشّيء : الطّائفة منه ، وبعضهم يقول : الجزء منه ، والجمع : أبعاض . قال ثعلب : أجمع أهل النّحو على أنّ البعض : شيء من شيءٍ ، أو شيء من أشياء ، وهذا يتناول ما فوق النّصف ، كالثّمانية ، فإنّه يصدق عليه أنّه شيء من العشرة ، ويتناول أيضاً ما دون النّصف . وبعّضت الشّيء تبعيضاً : جعلته أبعاضاً متمايزةً . وفي الاصطلاح لا يخرج عن معناه اللّغويّ .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - من الألفاظ ذات الصّلة " الجزئيّة والفرعيّة " وهذه الألفاظ مقاربة ، لأنّ الجزئيّة من الجزء ، والجزء من الشّيء : الطّائفة منه . والفرعيّة من الفرع ، وهو ما يتفرّع من أصله .
( الحكم الإجماليّ ) : ورد استعمال الفقهاء لهذا المصطلح في كتب الفقه في مواطن أهمّها ما يأتي : في الطّهارة :
3 - اختلف الفقهاء في القدر الواجب في مسح الرّأس ، فذهب الأحناف إلى أنّه يجب مسح مقدار النّاصية ، وهو ربع الرّأس . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه يجب مسح جميع الرّأس . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يكفي ما يقع عليه اسم المسح من الرّأس ، وإن قلّ . وتفصيل ذلك في مصطلح ( وضوء ) . واختلف الفقهاء كذلك فيمن لم يجد من الماء إلاّ ما يكفي بعض أعضائه . فذهب الأحناف والمالكيّة وأكثر العلماء إلى أنّه يترك الماء الّذي لا يكفي إلاّ لبعض أعضائه ويتيمّم ، وهذا أحد الوجهين عند الحنابلة ، وذهب الشّافعيّة في الأظهر إلى أنّه يلزمه استعماله ، ثمّ يتيمّم ، وهو الوجه الثّاني عند الحنابلة . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( تيمّم ) .
في الصّلاة :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ من لم يجد إلاّ ما يستر به بعض عورته لزمه ستره . وأبعاض الصّلاة في اصطلاح الشّافعيّة : هي السّنن الّتي تجبر بسجود السّهو ، وهي القنوت في الصّبح ، أو في وتر نصف رمضان ، والقيام له ، والتّشهّد الأوّل ، وقعوده ، والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الأظهر . وسمّيت أبعاضاً ، لأنّها لمّا تأكّدت بالجبر بالسّجود أشبهت الأبعاض الحقيقيّة ، وهي الأركان . وما عداها من السّنن يسمّى هيئاتٍ لا تجبر بسجود السّهو ، ولا يشرع لها . ويتميّز البعض من الهيئة عند الشّافعيّة بعدّة أمورٍ . أوّلها : أنّ البعض يجبر بسجود السّهو بخلاف الهيئة ، فإنّها لا تجبر بسجود السّهو ، لعدم وروده فيها . ثانيها : أنّ البعض سنّة مستقلّة وليست تابعةً لغيرها ، بخلاف الهيئات ، فإنّها ليست مستقلّةً ، بل هي تابعة للأركان ، كالتّكبيرات والتّسبيحات والأدعية الواقعة إمّا في القيام ، أو الرّكوع ، أو الاعتدال منها ، أو السّجود ، أو الجلوس بين السّجدتين . ثالثها : الأبعاض لها محلّ خاصّ بها من الصّلاة لا يشاركها غيرها ، بخلاف الهيئات فليس لها محلّ خاصّ بها ، بل تقع في داخل الأركان ، كما ذكرنا آنفاً . رابعها : أنّ الأبعاض لا يطلب الإتيان بها خارج الصّلاة إلاّ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بخلاف الهيئات ، فالتّكبيرات والتّسبيحات وغيرها من الأذكار مطلوبة في الصّلاة وخارج الصّلاة . ويكره ترك البعض عمداً عند الشّافعيّة ، ولا تبطل الصّلاة به ، ويسجد للسّهو ندباً بتركه ، كما يسجد كذلك بتركه نسياناً في المعتمد عندهم ، لأنّ الخلل حاصل في الحالتين ، بل خلل العمد أكثر ، فكان للجبر أحوج . والمرجوح لديهم أنّه إن ترك عمداً فلا يسجد لتقصيره بتفويت السّنّة على نفسه ، بخلاف النّاسي فإنّه معذور ، فناسب أن يشرع له الجبر . ويقابل البعض عند الحنفيّة والحنابلة الواجب ، وهو عند الحنفيّة : ما لا تفسد الصّلاة بتركه ، ولكن يجب إعادتها في العمد والسّهو إن لم يسجد للسّهو في حالة النّسيان ، وإن لم يعدها يكون آثماً ، وتصحّ صلاته في الحالتين . وتبطل صلاته إذا ترك الواجب عمداً عند الحنابلة ، ويجب سجود السّهو عند الفريقين إذا ترك الواجب نسياناً . أمّا المالكيّة فيرون أنّ الأبعاض سنّة كالشّافعيّة ، وإن لم يسمّوها بهذا الاسم . كما أنّ سجود السّهو سنّة عندهم كذلك ( ر : صلاة ) .
في الزّكاة :
5 - لا يعطى من تلزم المزكّي نفقته بزوجيّةٍ أو بعضيّةٍ ، كالأبناء والبنت ، من سهم الفقراء والمساكين ، بلا خلافٍ بين الفقهاء في ذلك ، فيما إذا كان المزكّي يجب عليه الإنفاق .
في زكاة الفطر :
6 - لو وجد بعض الصّاع من الفطرة فهل يلزمه إخراجه ؟ ذهب الحنفيّة إلى أنّ الفطرة لا تجب إلاّ على من ملك نصاب الزّكاة ، فاضلاً عن مسكنه وثيابه وأثاثه وما يحتاجه . وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى عدم اشتراط ملك نصاب الزّكاة ، واتّفقوا على أنّ من ملك صاعاً زائداً عن قوت يومٍ وليلةٍ وجب عليه إخراجه . أمّا من ملك بعض صاعٍ ، فذهب المالكيّة إلى أنّه يجب إخراجه ، وهو إحدى الرّوايتين عن أحمد ، وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يجب إخراج بعض الصّاع في الأصحّ محافظةً على الواجب قدر الإمكان . راجع مصطلح : ( زكاة ) .
في الطّلاق والظّهار والعتق :
7 - أجمع الفقهاء على أنّ الطّلاق أو الظّهار لا يتبعّض ولا يتجزّأ ، فإن قال لزوجته : أنت طالق بعض طلقةٍ أو نصفها أو جزأها تقع طلقة كاملة . كما اتّفقوا على أنّه إذا أضاف الطّلاق أو الظّهار إلى بعض زوجته يلزمه الطّلاق أو الظّهار ، إن كان ذلك البعض جزءاً شائعاً كنصفها أو ثلثها ، أمّا إذا أسند الطّلاق أو الظّهار إلى جزءٍ معيّنٍ ففي ذلك تفصيل وخلاف يرجع إليه في مصطلح : ( طلاق وظهار ) . والكلام في تبعيض العتق يرجع إليه في مصطلح : ( عتق ) .
في الشّهادة :
8 - تردّ شهادة الابن لأبيه بعلّة البعضيّة ، وهو قول جماهير العلماء ، أمّا شهادة الابن على أبيه فهي مقبولة عند عامّة أهل العلم ، وإنّما ردّوا شهادة الابن لأبيه لأنّ بينهما بعضيّة ، فكأنّه يشهد لنفسه أو عليها . راجع مصطلح : ( شهادة ) .
العتق بالبعضيّة :
9 - ذهب الشّافعيّة إلى أنّ من ملك أحد أصوله أو فروعه عتق عليه . أمّا الأحناف والحنابلة فقد وسّعوا دائرة العتق وقالوا : إنّ العلّة هنا المحرميّة ، فمن ملك ذا رحمٍ محرمٍ عتق عليه . وذهب المالكيّة إلى أنّه يعتق بنفس الملك الأبوان وإن علوا ، والولد وإن سفل ، وأخ وأخت شقيقان أو لأبٍ أو لأمٍّ . راجع مصطلح : ( عتق ) .
بغاء
التّعريف
1 - البغاء مصدر : بغت المرأة تبغي بغاءً ، بمعنى : فجرت ، فهي بغيّ ، والجمع بغايا ، وهو وصف مختصّ بالمرأة ، ولا يقال للرّجل : بغيّ . ويعرّف الفقهاء البغاء بأنّه : زنى المرأة . أمّا الرّجل فلا يسمّى زناه بغاءً . والمراد من بغاء المرأة هو خروجها تبحث عمّن يفعل بها ذلك الفعل ، سواء أكانت مكرهةً أم غير مكرهةٍ ، ويفهم ذلك من كلام العلماء في تفسير قوله تعالى : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّناً } وقد ذكرت كتب التّفسير سبب نزول هذه الآية ، وهو أنّه كان لعبد اللّه بن أبيٍّ ابن سلول جوارٍ ، وكان يكرههنّ على ذلك الفعل ، فقد سمّي فعلهنّ وهنّ مكرهات عليه بغاءً ، فإطلاق هذا الاسم عليه مع رضاهنّ يصحّ ، بل أولى ، وبالنّسبة للقيد الّذي في الآية وهو قوله تعالى : { إن أردن تحصّناً } فستأتي الإشارة إليه . حكم أخذ البغيّ مهراً :
2 - نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن مهر البغيّ ، لحديث ابن مسعودٍ قال : { نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب ، ومهر البغيّ ، وحلوان الكاهن } فإنّ من البغايا من كنّ يأخذن عوضاً عن البغاء ، ومن ذلك ما روى مجاهد في قوله تعالى : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } قال : كانوا يأمرون ولائدهم فيباغين ، فكنّ يفعلن ذلك فيصبن ، فيأتينهم بكسبهنّ . وكانت لعبد اللّه بن أبيٍّ ابن سلول جارية كانت تباغي ، فكرهت ذلك ، وحلفت ألاّ تفعله ، فأكرهها ، فانطلقت فباغت ببردٍ أخضر ، فأتتهم به ، فأنزل اللّه الآية . والمراد بمهر البغيّ : ما تؤجر به المرأة نفسها على الزّنى ، ولا خلاف بين العلماء في تحريمه . وتفصيل بقيّة الأحكام المتعلّقة بالبغاء محلّها مصطلح : ( زنى ) .
بغاة
التّعريف
1 - يقال في اللّغة : بغى على النّاس بغياً : أي ظلم واعتدى ، فهو باغٍ والجمع بغاة ، وبغى : سعى بالفساد ، ومنه الفئة الباغية . والفقهاء لا يخرجون في الجملة عن هذا المعنى إلاّ بوضع بعض قيودٍ في التّعريف فقد عرّفوا البغاة بأنّهم : الخارجون من المسلمين عن طاعة الإمام الحقّ بتأويلٍ ، ولهم شوكة . ويعتبر بمنزلة الخروج : الامتناع من أداء الحقّ الواجب الّذي يطلبه الإمام ، كالزّكاة . ويطلق على من سوى البغاة اسم ( أهل العدل ) وهم الثّابتون على موالاة الإمام .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - الخوارج :
2 - يقول الجرجانيّ : هم الّذي يأخذون العشر من غير إذن السّلطان . وهم في الأصل كانوا في صفّ الإمام عليٍّ رضي الله عنه في القتال ، وخرجوا عليه لمّا قبل التّحكيم . قالوا : لم تحكّم وأنت على حقٍّ . ويقول ابن عابدين : إنّهم يرون عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه على باطلٍ بقبوله التّحكيم ، ويوجبون قتاله ، ويستحلّون دماء أهل العدل ، ويسبون نساءهم وذراريّهم ، لأنّهم في نظرهم كفّار . وأكثر الفقهاء يرون أنّهم بغاة ، ولا يرون تكفيرهم ، وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنّهم كفّار مرتدّون . وقال ابن المنذر : لا أعلم أحداً وافق أهل الحديث على تكفيرهم ، وذكر ابن عبد البرّ أنّ الإمام عليّاً رضي الله عنه سئل عنهم : أكفّار هم ؟ قال : من الكفر فرّوا . قيل : فمنافقون ؟ قال : إنّ المنافقين لا يذكرون اللّه إلاّ قليلاً . قيل فما هم ؟ قال : هم قوم أصابتهم فتنة ، فعموا وصمّوا ، وبغوا علينا ، وقاتلوا فقاتلناهم . وقال لهم : لكم علينا ثلاث : لا نمنعكم مساجد اللّه أن تذكروا فيها اسم اللّه ، ولا نبدؤكم بقتالٍ ، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا . ويقول الماورديّ : إن تظاهر الخوارج باعتقادهم ، وهم على اختلاطٍ بأهل العدل ، جاز للإمام أن يعزّرهم . وتفصيل الكلام في مصطلح ( فرق ) .
ب - المحاربون :
3 - المحاربون : لفظ مشتقّ من الحرابة مصدر حرب ، وحرّبه يحرّبه : إذا أخذ ماله ، والحارب : الغاصب النّاهب . وعبّر عنها الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : بقطع الطّريق ، وقالوا : إنّه الخروج على المارّة لأخذ المال على سبيل المغالبة ، على وجهٍ يمنع المارّة من المرور ، فينقطع الطّريق ، سواء أكان القطع من جماعةٍ أم واحدٍ ، بعد أن يكون له قوّة القطع ، وسواء أكان القطع بسلاحٍ أم بغيره من العصا والحجر ونحو ذلك . وتسمّى الحرابة بالسّرقة الكبرى . أمّا كونها سرقةً ، فباعتبار أنّ قاطع الطّريق يأخذ المال خفيةً عن عين الإمام الّذي عليه حفظ الأمن . وأمّا كونها كبرى ، فلأنّ ضرره يعمّ ، حيث يقطع الطّريق على الجماعة بزوال الأمن . فالفرق بين الحرابة والبغي هو أنّ البغي يستلزم وجود تأويلٍ ، أمّا الحرابة فالغرض منها الإفساد في الأرض . الحكم التّكليفيّ للبغي :
4 - البغي حرام ، والبغاة آثمون ، ولكن ليس البغي خروجاً عن الإيمان ، لأنّ اللّه سمّى البغاة مؤمنين في قوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا الّتي تبغي حتّى تفيء إلى أمر اللّه ... } إلى أن قال : { إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } ، ويحلّ قتالهم ، ويجب على النّاس معونة الإمام في قتالهم . ومن قتل من أهل العدل أثناء قتالهم فهو شهيد . ويسقط قتالهم إذا فاءوا إلى أمر اللّه ، ويقول الصّنعانيّ : إذا فارق أحد الجماعة ولم يخرج عليهم ولا قاتلهم يخلّى وشأنه ، إذ مجرّد الخلاف على الإمام لا يوجب قتال المخالف . وفي حديثٍ رواه الحاكم وغيره قال النّبيّ عليه الصلاة والسلام لابن مسعودٍ : { يا ابن مسعودٍ : أتدري ما حكم اللّه فيمن بغى من هذه الأمّة ؟ قال ابن مسعودٍ : اللّه ورسوله أعلم . قال : حكم اللّه فيهم ألاّ يتّبع مدبرهم ، ولا يقتل أسيرهم ، ولا يذفّف على جريحهم } . ويرى الشّافعيّة أنّ البغي ليس اسم ذمٍّ ، لأنّ البغاة خالفوا بتأويلٍ جائزٍ في اعتقادهم ، لكنّهم مخطئون فيه ، فلهم نوع عذرٍ ، لما فيهم من أهليّة الاجتهاد . وقالوا : إنّ ما ورد في ذمّهم ، وما وقع في كلام الفقهاء في بعض المواضع من وصفهم بالعصيان أو الفسق محمول على من لا أهليّة فيه للاجتهاد ، أو لا تأويل له . وكذلك إن كان تأويله قطعيّ البطلان .
5 - وقد بيّن الفقهاء أنواع البغاة من حيث جواز فعلهم ، أو كونه صغيرةً أو كبيرةً كما يلي :
أ - البغاة إذا لم يكونوا من أهل البدع ليسوا بفاسقين ، وإنّما هم مخطئون في تأويلهم ، كالمجتهدين من الفقهاء ، يقول ابن قدامة : لا أعلم خلافاً في قبول شهادتهم . وسيأتي بيانه . وكذا إن تكلّموا بالخروج لكن لم يعزموا على الخروج بعد ، فليس للإمام أن يتعرّض لهم ، لأنّ العزم على الجناية لم يوجد . ومثال ذلك : ما وقع لبعض الصّحابة ، ممّن عصى الإمام لا على سبيل المغالبة ، من أنّه مكث أشهراً لم يبايع الخليفة ثمّ بايعه . يقول القرطبيّ : ولم يوجب ذلك لعن البغاة والبراءة منهم وتفسيقهم .
ب - إن خالط البغاة أهل العدل ، وتظاهروا باعتقادهم ، دون مقاتلتهم جاز للإمام تعزيرهم ، إذ التّظاهر باعتقادهم ، ونشره بين أهل العدل دون قتالٍ يعتبر من الصّغائر .
ج - إذا اجتمع المسلمون على إمامٍ ، وصاروا آمنين به ، فخرج عليه طائفة من المؤمنين ، ولم يكن ذلك لظلمٍ ظلمهم إيّاه ، ولكن لدعوى الحقّ والولاية . فقالوا : الحقّ معنا ، ويدّعون الولاية ، ولهم تأويل ومنعة ، فهم أهل بغيٍ ، فعلى كلّ من يقوى على القتال مناصرة الإمام عليهم . قال ابن عابدين : ومن البغاة الخوارج . ويقول ابن قدامة : إذا خرجوا على الإمام فهم فسّاق .
شروط تحقّق البغي :
6 - يتحقّق البغي بما يلي :
أ - أن يكون الخارجون على الإمام جماعةً من المسلمين لهم شوكة ، وخرجوا عليه بغير حقٍّ لإرادة خلعه بتأويلٍ فاسدٍ . فلو خرج عليه أهل الذّمّة لكانوا حربيّين لا بغاةً . ولو خرجت عليه طائفة من المسلمين بغير تأويلٍ ولا طلب إمرةٍ لكانوا قطّاع طريقٍ ، وكذا لو لم يكن لهم قوّة ومنعة ، ولا يخشى قتالهم ، ولو كانوا متأوّلين . ولو خرجوا على الإمام بحقٍّ - كدفع ظلمٍ - فليسوا ببغاةٍ ، وعلى الإمام أن يترك الظّلم وينصفهم ، ولا ينبغي للنّاس معونة الإمام عليهم ، لأنّ فيه إعانةً على الظّلم ، ولا أن يعينوا تلك الطّائفة الخارجة ، لأنّ فيه إعانةً على خروجهم ، واتّساع الفتنة ، وقد لعن اللّه من أيقظ الفتنة . وأمّا من خرجوا على الإمام بمنعةٍ ، بتأويلٍ يقطع بفساده ، مستحلّين دماء المسلمين وأموالهم ، ممّا كان قطعيّ التّحريم ، كتأويل المرتدّين ، فليسوا ببغاةٍ ، لأنّ الباغي تأويله محتمل للصّحّة والفساد ، ولكنّ فساده هو الأظهر ، وهو متّبع للشّرع في زعمه ، والفاسد منه ملحق بالصّحيح ، إذا ضمّت إليه المنعة في حقّ الدّفع .
ب - أن يكون النّاس قد اجتمعوا على إمامٍ وصاروا به آمنين ، والطّرقات به آمنة ، لأنّه إذا لم يكن كذلك يكون عاجزاً ، أو جائراً ظالماً يجوز الخروج عليه وعزله ، إن لم يلزم منه فتنة ، وإلاّ فالصّبر أولى من التّعرّض لإفساد ذات البين .
ج - أن يكون الخروج على سبيل المغالبة ، أي بإظهار القهر . وقيل : بالمقاتلة ، وذلك لأنّ من يعصي الإمام لا على سبيل المغالبة لا يكون من البغاة ، فمن خرج عن طاعة الإمام من غير إظهار القهر لا يكون باغياً .
د - وصرّح الشّافعيّة باشتراط أن يكون للخارجين مطاع فيهم ، يصدرون عن رأيه ، وإن لم يكن إماماً منصوباً ، إذ لا شوكة لمن لا مطاع لهم . وقيل : بل يشترط أن يكون لهم إمام منصوب منهم ، هذا ولا يشترط لتحقّق البغي انفرادهم بنحو بلدٍ ولكنّ ذلك شرط لمقاتلتهم .
الإمام الّذي يعتبر الخروج عليه بغياً :
7 - من اتّفق ، المسلمون على إمامته وبيعته ، وثبتت إمامته ، وجبت طاعته ومعونته ، ومثله من تثبت إمامته بعهد إمامٍ قبله إليه ، إذ الإمام يصير إماماً بالمبايعة أو بالاستخلاف ممّن قبله . ولو خرج رجل على الإمام فقهره ، وغلب النّاس بسيفه ، حتّى أذعنوا له وتابعوه ، صار إماماً يحرم قتاله والخروج عليه . وينظر للتّفصيل بحث ( الإمامة الكبرى ) .
أمارات البغي :
8 - إذا تكلّم جماعة في الخروج على الإمام ومخالفة أوامره ، وأظهروا الامتناع ، وكانوا متحيّزين متهيّئين لقصد القتال ، لخلع الإمام وطلب الإمرة لهم ، وكان لهم تأويل يبرّر في نظرهم مسلكهم دون المقاتلة ، فإنّ ذلك يكون أمارة بغيهم . وينبغي إذا ما بلغ الإمام أمرهم ، وأنّهم يشترون السّلاح ويتأهّبون للقتال ، أن يأخذهم ويحبسهم حتّى يقلعوا عن ذلك ، ويحدثوا توبةً ، دفعاً للشّرّ بقدر الإمكان ، لأنّه لو انتظر أن يبدءوه بالقتال ، فربّما لا يمكنه الدّفع ، لتقوّي شوكتهم وتكثّر جمعهم ، خصوصاً والفتنة يسرع إليها أهل الفساد . ويختلف الفقهاء في بدئهم بالقتال على ما سيأتي بيانه . وكذلك فإنّ مخالفتهم للإمام لمنع حقّ اللّه ، أو لآدميٍّ كزكاةٍ ، وكأداء ما عليهم ممّا جبوه لبيت مال المسلمين خراج الأرض ، مع التّحيّز والتّهيّؤ للخروج على الإمام على وجه المغالبة ، وعدم المبالاة به ، فإنّ ذلك يكون أمارة بغيهم . أمّا لو أظهروا رأي الخوارج ، كتكفير فاعل الكبيرة وترك الجماعات واستباحة دماء المسلمين وأموالهم ، ولكن لم يرتكبوا ذلك ، ولم يقصدوا القتال ، ولم يخرجوا عن طاعة الإمام ، فإنّ ذلك لا يكون أمارة البغي ، حتّى لو امتازوا بموضعٍ يتجمّعون فيه ، لكن إن حصل منهم ضرر تعرّضنا لهم إلى زوال الضّرر .
بيع السّلاح لأهل الفتنة 9 - ذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم بيع السّلاح للبغاة وأهل الفتنة ، لأنّ هذا سدّ لذريعة الإعانة على المعصية ، وكذا ما كان في معنى البيع من إجارةٍ أو معاوضةٍ ، وقد قال الإمام أحمد : { نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن بيع السّلاح في الفتنة } . وصرّح الحنفيّة بكراهة بيع السّلاح لهم كراهةً تحريميّةً ، لأنّه إعانة على معصيةٍ ، قال اللّه تعالى : { وتعاونوا على البرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ، ولأنّ الواجب أخذ سلاحهم بما أمكن ، حتّى لا يستعملوه في الفتنة ، فمنع بيعه لهم أولى . والّذي يكره هو بيع السّلاح نفسه المعدّ للاستعمال . وإن لم يدر أنّ طالب السّلاح من أهل الفتنة لا يكره البيع له ، لأنّ الغلبة في دار الإسلام لأهل الصّلاح ، والأحكام تبنى على الغالب . وأمّا ما لا يقاتل به إلاّ بصنعةٍ كالحديد ، فلا يكره بيعه ، لأنّ المعصية تقع بعين السّلاح ، بخلاف الحديد ، وقاسوه على الخشب الّذي يتّخذ منه المعازف ، فإنّه لا يكره بيعه ، لأنّ عينه ليس منكراً ، وإنّما المنكر في استعماله المحظور . والحديد وإن كان يكره تحريماً بيعه لأهل الحرب ، فإنّه يجوز بيعه لأهل البغي ، لأنّهم لا يتفرّغون لاستعمال الحديد سلاحاً ، لأنّ فسادهم في الغالب يكون على شرف الزّوال بالتّوبة ، أو بتفريق جمعهم ، بخلاف أهل الحرب . واستظهر ابن عابدين أنّ الكراهة تنزيهيّة ، وقال : ولم أر من تعرّض لهذا .
واجب الإمام نحو البغاة :
أ - قبل القتال :
10 - ينبغي للإمام أن يدعو البغاة الخارجين عليه إلى العودة إلى الجماعة ، والدّخول في طاعته رجاء الإجابة ، وقبول الدّعوة ، لعلّ الشّرّ يندفع بالتّذكرة ، لأنّه ترجى توبتهم ، ويسألهم عن سبب خروجهم ، فإن كان لظلمٍ منه أزاله ، وإن ذكروا علّةً يمكن إزالتها أزالها ، وإن ذكروا شبهةً كشفها ، لأنّ اللّه سبحانه بدأ الأمر بالإصلاح قبل القتال فقال : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } ولأنّ المقصود كفّهم ودفع شرّهم ، لا قتلهم . فإذا أمكن بمجرّد القول كان أولى من القتال ، لما فيه من الضّرر بالفريقين . ولا يجوز قتالهم قبل ذلك إلاّ أن يخاف شرّهم . وإن طلبوا الإنظار - وكان الظّاهر من قصدهم الرّجوع إلى الطّاعة - أمهلهم . قال ابن المنذر : أجمع على هذا كلّ من أحفظ عنه من أهل العلم . وقال أبو إسحاق الشّيرازيّ : ينظرهم إلى مدّةٍ قريبةٍ كيومين أو ثلاثةٍ . وإن أصرّوا على بغيهم ، بعد أن بعث إليهم أميناً ناصحاً لدعوتهم ، نصحهم ندباً بوعظٍ ترغيباً وترهيباً ، وحسّن لهم اتّحاد كلمة الدّين وعدم شماتة الكافرين ، فإن أصرّوا آذنهم بالقتال . وإن قاتلهم بلا دعوةٍ جاز ، لأنّ الدّعوة ليست بواجبةٍ . وعند المالكيّة : يجب إنذارهم ودعوتهم ما لم يعاجلوه . وكون المبعوث إليهم عارفاً فطناً واجب ، إن بعث للمناظرة وكشف الشّبهة ، وإلاّ فمستحبّ . وفصّل الكاسانيّ فقال : إن علم الإمام أنّهم يجهّزون السّلاح ويتأهّبون للقتال ، فينبغي له أن يأخذهم ، ويحبسهم حتّى يتوبوا ، وإن لم يعلم بذلك حتّى تعسكروا وتأهّبوا للقتال ، فينبغي له أن يدعوهم إلى الرّجوع إلى رأي الجماعة أوّلاً ، فإنّ الإمام عليّاً رضي الله عنه لمّا خرج عليه أهل حروراء ، ندب إليهم عبد اللّه بن عبّاسٍ رضي الله عنهما ليدعوهم إلى العدل ، فإن أجابوا كفّ عنهم وإن أبوا قاتلهم ... وإن قاتلهم قبل الدّعوة لا بأس بذلك ، لأنّ الدّعوة قد بلغتهم ، فهم مسلمون في دار الإسلام . وقد أسند النّسائيّ في سننه الكبرى إلى ابن عبّاسٍ قال : لمّا خرجت الحروريّة اعتزلوا في دارٍ ، وكانوا ستّة آلافٍ ، فقلت لعليٍّ أمير المؤمنين : لعلّي أكلّم هؤلاء القوم . قال إنّي أخافهم عليك . قلت : كلّاً . فلبست ثيابي ، ومضيت إليهم ، حتّى دخلت عليهم وهم مجتمعون . وقلت : أتيتكم من عند أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم من عند ابن عمّ النّبيّ وصهره وعليهم نزل القرآن ، وهم أعرف بتأويله منكم . وليس فيكم منهم أحد . وقلت : هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول اللّه وختنه . قالوا : ثلاث . أنّه حكّم الرّجال في دين اللّه ، وقد قال اللّه تعالى : { إن الحكم إلاّ للّه } وأنّه قاتل ولم يسب ولم يغنم ، فإن كانوا كفّاراً فقد حلّت لنا نساؤهم وأموالهم ، وإن كانوا مؤمنين فقد حرمت علينا دماؤهم . وأنّه محا نفسه من أمير المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فإنّه يكون أمير الكافرين . قلت : أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب اللّه ، وحدّثتكم من سنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم ما يردّ قولكم هذا ، ترجعون ؟ قالوا : نعم . قلت : أمّا قولكم : إنّه حكّم الرّجال في دين اللّه ، فأنا أقرأ عليكم أن قد صيّر اللّه حكمه إلى الرّجال في أرنبٍ ثمنها ربع درهمٍ ، قال اللّه تعالى : { لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرم } إلى قوله { يحكم به ذوا عدلٍ منكم } وقال اللّه تعالى في المرأة وزوجها : { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها } أنشدكم اللّه أحكم الرّجال في حقن دمائهم وأنفسهم وإصلاح ذات البين أحقّ ، أم في أرنبٍ ثمنها ربع درهمٍ ؟ . وأمّا قولكم : إنّه قاتل ولم يسب ولم يغنم ، أتسبون أمّكم عائشة ، فتستحلّون منها ما تستحلّون من غيرها ، وهي أمّكم ؟ لئن فعلتم لقد كفرتم . فإن قلتم : ليست أمّنا فقد كفرتم ، لأنّ اللّه تعالى يقول : { النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمّهاتهم } . وأمّا قولكم : إنّه محا نفسه من أمير المؤمنين . فإنّ { رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دعا قريشاً يوم الحديبية ، على أن يكتب بينه وبينهم كتاباً ، فقال لكاتبه : اكتب : هذا ما قضى عليه محمّد رسول اللّه . فقالوا : واللّه لو كنّا نعلم أنّك رسول اللّه ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمّد بن عبد اللّه . فقال : واللّه إنّي لرسول اللّه وإن كذّبتموني . يا عليّ اكتب : محمّد بن عبد اللّه } ، فرسول اللّه خير من عليٍّ ، وقد محا نفسه ولم يكن محو ذلك محواً من النّبوّة . فرجع منهم ألفان وبقي سائرهم ، فقوتلوا . ويصرّح الألوسيّ أنّه يجب قبل القتال إزالة الشّبهة بالحجج النّيّرة والبراهين القاطعة ، ودعوة البغاة إلى الرّجوع إلى الجماعة والدّخول في طاعة الإمام .
ب - قتال البغاة :
11 - إذا ما دعا الإمام البغاة إلى الدّخول في طاعته ، وكشف شبهتهم ، فلم يستجيبوا وتحيّزوا مجتمعين ، وكانوا متهيّئين للقتال فإنّه يحلّ قتالهم . ولكن هل نبدؤهم بالقتال ، أم لا نقاتلهم إلاّ إذا أظهروا المغالبة ؟ هناك اتّجاهان : الاتّجاه الأوّل : جواز البدء بالقتال ، لأنّه لو انتظرنا قتالهم ربّما لا يمكن الدّفع ، وهو ما نقله خواهر زاده ، قال الزّيلعيّ : وهو المذهب عند الحنفيّة ، لأنّ النّصّ جاء غير مقيّدٍ بالبداءة منهم في قوله تعالى : { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا الّتي تبغي ... } وقول عليٍّ رضي الله عنه : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : { سيخرج قوم في آخر الزّمان ، حداث الأسنان سفهاء الأحلام ، يقولون من قول خير البرّيّة ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّميّة ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإنّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة } ، ولأنّ الحكم يدار على علامته ، وهي هنا التّحيّز والتّهيّؤ ، فلو انتظرنا حقيقة قتالهم لصار ذريعةً لتقويتهم . فيدار الحكم على الإمارة ضرورة دفع شرّهم ، ولأنّهم بالخروج على الإمام صاروا عصاةً فجاز قتالهم ، إلى أن يقلعوا عن ذلك . وما نقل عن عليٍّ رضي الله عنه من قوله في الخوارج لن نقاتلكم حتّى تقاتلونا معناه : حتّى تعزموا على قتالنا . ولو أمكن دفع شرّهم بالحبس بعدما تأهّبوا فعل ذلك ، ولا نقاتلهم ، لأنّه أمكن دفع شرّهم بأهون منه . وإلى القول بحلّ بدئهم بالقتال اتّجه فقهاء الحنابلة ، جاء في كشّاف القناع : إن أبوا الرّجوع وعظهم وخوّفهم بالقتال ، فإن رجعوا إلى الطّاعة تركهم ، وإلاّ لزمه قتالهم إن كان قادراً ، لإجماع الصّحابة على ذلك . الاتّجاه الثّاني : نقل القدوريّ أنّه لا يبدؤهم بالقتال حتّى يبدءوه ، وهو ما رواه الكاسانيّ والكمال . قال الكاسانيّ : لأنّ قتالهم لدفع شرّهم ، لا لشرّ شركهم ، لأنّهم مسلمون ، فما لم يتوجّه الشّرّ منهم لا يقاتلهم الإمام ، إذ لا يجوز قتال المسلم إلاّ دفعاً ، بخلاف الكافر ، لأنّ نفس الكفر قبيح . وهو ما استظهره بعض المالكيّة ، وهو مذهب الشّافعيّة ، وقول أحمد بن حنبلٍ ، لأنّ عليّاً أمر أصحابه ألاّ يبدءوا من خرجوا عليه بالقتال ، وإن أمكن دفعهم دون القتل لم يجز القتل . ولا يجوز قتالهم قبل ذلك إلاّ أن يخاف شرّهم كالصّائل . وقال ابن تيميّة : « الأفضل تركه حتّى يبدءوه " أي القتال .
المعاونة في مقاتلة البغاة :
12 - من دعاه الإمام إلى مقاتلة البغاة افترض عليه إجابته ، لأنّ طاعة الإمام فيما ليس بمعصيةٍ فرض . قال ابن عابدين : يجب على كلّ من أطاق الدّفع أن يقاتل مع الإمام ، إلاّ إن كان سبب الخروج ظلم الإمام بما لا شبهة فيه ، إذ يجب معونتهم لإنصافهم إن كان ذلك ممكناً . ومن لم يكن قادراً لزم بيته . وعليه يحمل ما روي عن جماعةٍ من الصّحابة أنّهم قعدوا في الفتنة ، وربّما كان بعضهم في تردّدٍ من حلّ القتال . وما روي عن أبي حنيفة من قوله : « إذا وقعت الفتنة بين المسلمين ، فالواجب على كلّ مسلمٍ أن يعتزل الفتنة ، ويقعد في بيته " فإنّه محمول على ما إذا لم يكن إمام . أمّا ما روي من حديث : { إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النّار } فإنّه محمول على اقتتالهما حميّةً وعصبيّةً ، أو لأجل الدّنيا والملك . ولو كان السّلطان ظالماً ، وبغت عليه طائفة لرفع الظّلم ، وطلب منه ذلك فلم يستجب ، فلا ينبغي للنّاس معاونة السّلطان ولا معاونة البغاة ، إذ غير العدل لا تجب معاونته . قال مالك : دعه وما يراد منه ، ينتقم اللّه من الظّالم بظالمٍ ، ثمّ ينتقم من كليهما . وينصّ الشّافعيّة على من خرجوا على الإمام - ولو جائراً - يجب على المسلمين إعانته ممّن قرب منهم ، حتّى تبطل شوكتهم . ويدلّ على وجوب معونة الإمام لدفع البغاة ما رواه عبد اللّه بن عمرٍو رضي الله عنهما قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : { من أعطى إماماً صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر } ولأنّ كلّ من ثبتت إمامته وجبت طاعته ، للحديث السّابق { يخرج قوم في آخر الزّمان ... } .
شروط قتال البغاة وما يتميّز به :
13 - إذا لم يجد مع البغاة النّصح ، ولم يستجيبوا للرّجوع إلى طاعة الإمام والدّخول في الجماعة ، أو لم يقلبوا الاستتابة - إن كانوا في قبضة الإمام - ورأوا مقاتلتنا وجب قتالهم . بشرط أن يتعرّضوا لحرمات أهل العدل ، أو يتعطّل جهاد المشركين بهم ، أو يأخذوا من حقوق بيت المال ما ليس لهم ، أو يمتنعوا من دفع ما وجب عليهم ، أو يتظاهروا على خلع الإمام الّذي انعقدت له البيعة . على ما قاله الماورديّ . وقال الرّمليّ : الأوجه وجوب قتالهم مطلقاً ، لأنّ ببقائهم - وإن لم يوجد ما ذكر - تتولّد مفاسد ، قد لا تتدارك ما داموا قد خرجوا عن قبضة الإمام وتهيّئوا للقتال . ولو اندفع شرّهم بما هو أهون وجب بقدر ما يندفع ، إذ يشترط لمقاتلتهم أن يتعيّن القتال لدفع شرّهم ، وإذا أمكن ذلك بمجرّد القول كان أولى من القتال .
كيفيّة قتال البغاة :
14 - الأصل أنّ قتالهم إنّما يكون درءاً لتفريق الكلمة ، مع عدم التّأثيم ، لأنّهم متأوّلون ، ولذا فإنّ قتالهم يفترق عن قتال الكفّار بأحد عشر وجهاً : أن يقصد بالقتال ردعهم لا قتلهم ، وأن يكفّ عن مدبرهم ، ولا يجهز على جريحهم ، ولا تقتل أسراهم ، ولا تغنم أموالهم ، ولا تسبى ذراريّهم ، ولا يستعان عليهم بمشركٍ ، ولا يوادعهم على مالٍ ، ولا تنصب عليهم العرّادات ( المجانيق ونحوها ) ، ولا تحرّق مساكنهم ، ولا يقطع شجرهم . وإذا تحيّز البغاة إلى جهةٍ مجتمعين ، أو إلى جماعةٍ ولم يمكن دفع شرّهم إلاّ بالقتال ، حلّ قتالهم حتّى يتفرّق جمعهم ، ولو أمكن دفع شرّهم بالحبس بعدما تأهّبوا فعل ذلك ، إذ الجهاد معهم واجب بقدر ما يندفع به شرّهم على ما سبق . وقد قاتل عليّ رضي الله عنه أهل حروراء بالنّهروان بحضرة الصّحابة ، تصديقاً لقوله عليه الصلاة والسلام له { أنا أقاتل على تنزيل القرآن ، وعليّ يقاتل على تأويله } والقتال مع التّأويل هو القتال مع البغاة ، وذلك كقتال أبي بكرٍ رضي الله عنه مانعي الزّكاة . وإذا قاتلهم الإمام فهزمهم ، وولّوا مدبرين ، وأمن جانبهم ، أو تركوا القتال بإلقاء السّلاح أو بالهزيمة أو بالعجز ، لجراحٍ أو أسيرٍ ، فإنّه لا يجوز لأهل العدل أن يتّبعوهم ، ولا يجهزوا على جريحهم ، ولا يقلتوا أسيرهم ، لوقوع الأمن عن شرّهم ، ولا تسبى لهم ذرّيّة ، ولا يقسم له مال ، لقول عليٍّ رضي الله عنه لا يقتل بعد الهزيمة مقبل ولا مدبر ، ولا يفتح باب ، ولا يستحلّ فرج ولا مال بل قال لهم : من اعترف شيئاً فليأخذه ، أي من عرف من البغاة متاعه استردّه ، وقال يوم الجمل : لا تتّبعوا مدبراً ، ولا تجهزوا على جريحٍ ، ولا تقتلوا أسيراً ، وإيّاكم والنّساء ، ولأنّ قتالهم للدّفع والرّدّ إلى الطّاعة دون القتل . ويقول ابن قدامة : أمّا غنيمة أموالهم وسبي ذرّيّتهم فلا نعلم في تحريمه بين أهل العلم خلافاً ، لأنّهم معصومون ، وإنّما أبيح من دمائهم وأموالهم ما حصل من ضرورة دفعهم وقتالهم ، وما عداه يبقى على أصل التّحريم . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا كانت لهم فئة بعيدة ينحازون إليها ، ولا يتوقّع في العادة مجيئها إليهم والحرب قائمة ، وغلب على الظّنّ عدم وصولها لهم ، فإنّه لا يقاتل مدبرهم ، ولا يجهز على جريحهم ، لأمن غائلته إلاّ إذا كان متحرّفاً لقتالٍ . وأمّا إذا كان لهم فئة قريبة تسعفهم عادةً ، والحرب قائمة ، فإنّه يجوز اتّباعهم والإجهاز على جريحهم . أو كانت لهم فئة بعيدة يتوقّع في العادة مجيئها إليهم والحرب قائمة ، وغلب على الظّنّ ذلك فالمتّجه أن يقاتل . وقريب منه ما ذهب إليه المالكيّة ، فقد صرّحوا بأنّه إذا أمن جانبهم بالظّهور عليهم ، لم يتبع منهزمهم ، ولم يذفّف على جريحهم . أمّا الحنابلة فينصّون على أنّ أهل البغي إذا تركوا القتال ، بالرّجوع إلى الطّاعة ، أو بإلقاء السّلاح ، أو بالهزيمة إلى فئةٍ ، أو إلى غير فئةٍ ، أو بالعجز لجراحٍ أو مرضٍ أو أسرٍ فإنّه يحرم قتلهم واتّباع مدبرهم . وساق ابن قدامة الآثار الواردة في النّهي عن قتل المدبر والإجهاز على الجريح وقتل الأسير ، وهي عامّة . ثمّ قال : لأنّ المقصود كفّهم وقد حصل ، فلم يجز قتلهم كالصّائل ، ولا يقتلون لما يخاف في التّالي - إن كان لهم فئة - كما لو لم تكن لهم فئة . أمّا الحنفيّة : فقد نصّوا على أنّه إذا كانت لهم فئة ينحازون إليها - مطلقاً - فإنّه ينبغي لأهل العدل أن يقتلوا مدبرهم ، ويجهزوا على جريحهم ، لئلاّ ينحازوا إلى الفئة ، فيمتنعوا بها ، فيكرّوا على أهل العدل . والمعتبر في جواز القتل أمارة قتالهم لا حقيقته ، ولأنّ قتلهم إذا كان لهم فئة ، لا يخرج عن كونه دفعاً ، لأنّه يتحيّز إلى الفئة ويعود شرّه كما كان . وقالوا : إنّ ما قاله عليّ رضي الله عنه على تأويل إذا لم تكن لهم فئة .
المرأة المقاتلة من أهل البغي :
15 - ذهب جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إلى أنّ المرأة من البغاة - إن كانت تقاتل - فإنّها تحبس ، ولا تقتل إلاّ في حال مقاتلتها ، وإنّما تحبس للمعصية ، ولمنعها من الشّرّ والفتنة . وقال المالكيّة : إن لم يكن قتالهنّ إلاّ بالتّحريض والرّمي بالحجارة ، فإنّهنّ لا يقتلن .
أموالهم بالنّسبة لاغتنامها وإتلافها وضمانها :
16 - اتّفق الفقهاء على أنّ أموال البغاة لا تغنم ، ولا تقسّم ، ولا يجوز إتلافها ، وإنّما يجب أن تردّ إليهم . لكن ينبغي أن يحبس الإمام أموالهم دفعاً لشرّهم بكسر شوكتهم حتّى يتوبوا ، فيردّها إليها لاندفاع الضّرورة ، ولأنّها لا استغنام فيها ، وإذا كان في أموالهم خيل ونحوها - ممّا يحتاج في حفظه إلى إنفاقٍ - كان الأفضل بيعه وحبس ثمنه . وفي ضمان إتلاف مالهم كلام . فإنّ العادل إذا أتلف نفس الباغي أو ماله حال القتال بسبب القتال أو ضرورته لا يضمن ، إذ لا يمكن أن يقتلهم إلاّ بإتلاف شيءٍ من أموالهم كالخيل ، فيجوز عقر دوابّهم إذا قاتلوا عليها ، وإذا كانوا لا يضمنون الأنفس فالأموال أولى . أمّا في غير حال القتال وضرورته فلا تحرّق مساكنهم ، ولا يقطع شجرهم ، لأنّ الإمام إذا ظفر لهم بمالٍ حال المقاتلة فإنّه يحبسه حتّى يردّ إليهم ، فلا تؤخذ أموالهم ، لأنّ مواريثهم قائمة ، وإنّما قوتلوا بما أحدثوا من البدع ، فكان ذلك كالحدّ يقام عليهم . وقيّد الماورديّ الضّمان بما إذا كان الإتلاف خارج القتال بقصد التّشفّي والانتقام ، أمّا إذا كان لإضعافهم أو هزيمتهم فلا ضمان . واستظهر الزّيلعيّ وابن عابدين حمل الضّمان على ما قبل تحيّزهم وخروجهم ، أو بعد كسرهم وتفرّق جمعهم .
ما أتلفه أهل العدل للبغاة :
17 - نقل الزّيلعيّ عن المرغينانيّ : أنّ العادل إذا أتلف نفس الباغي أو ماله لا يضمن ولا يأثم ، لأنّه مأمور بقتالهم دفعاً لشرّهم . وفي المحيط : إذا أتلف مال الباغي يؤخذ بالضّمان ، لأنّ مال الباغي معصوم في حقّنا ، وأمكن إلزام الضّمان ، فكان في إيجابه فائدة
ما أتلفه البغاة لأهل العدل :
18 - إذا أتلف أهل البغي لأهل العدل مالاً فلا ضمان عليهم ، لأنّهم طائفة متأوّلة فلا تضمن كأهل العدل ، ولأنّه ذو منعةٍ في حقّنا ، وأمّا الإثم فإنّه لا منعة له في حقّ الشّارع ، ولأنّ تضمينهم يفضي إلى تنفيرهم عن الرّجوع إلى الطّاعة ، لما رواه عبد الرّزّاق بإسناده عن الزّهريّ ، أنّ سليمان بن هشامٍ كتب إليه يسأله عن امرأةٍ خرجت من عند زوجها ، وشهدت على قومها بالشّرك ، ولحقت بالحروريّة فتزوّجت ، ثمّ إنّها رجعت إلى أهلها تائبةً ، قال فكتب إليه : أمّا بعد ، فإنّ الفتنة الأولى ثارت ، وأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - ممّن شهد بدراً - كثير ، فاجتمع رأيهم على ألاّ يقيموا على أحدٍ حدّاً في فرجٍ استحلّوه بتأويل القرآن ، ولا قصاصاً في دمٍ استحلّوه بتأويل القرآن ، ولا يردّ مال استحلّوه بتأويل القرآن ، إلاّ أن يوجد شيء بعينه فيردّ على صاحبه ، وإنّي أرى أن تردّ إلى زوجها ، وأن يحدّ من افترى عليها . وفي قولٍ للشّافعيّ : يضمنون ، لقول أبي بكرٍ تدون قتلانا ، ولا ندي - من الدّية - قتلاكم ولأنّها نفوس وأموال معصومة أتلفت بغير حقٍّ ولا ضرورة دفع مباحٍ ، فوجب ضمانه ، كالّتي أتلفت في غير حال الحرب . وإذا تاب البغاة ورجعوا أخذ منهم ما وجد بأيديهم من أموال أهل الحقّ ، وما استهلكوه لم يتبعوا به ، ولو كانوا أغنياء ، لأنّهم متأوّلون . وإذا قتل الباغي أحداً من أهل العدل في غير المعركة يقتل به ، لأنّه قتل بإشهار السّلاح والسّعي في الأرض بالفساد كقاطع الطّريق ، وقيل : لا يتحتّم قتله ، وهو الصّحيح عند الحنابلة : لقول عليٍّ رضي الله عنه : إن شئت أن أعفو ، وإن شئت استقدت .
التّمثيل بقتلى البغاة :
19 - التّمثيل بقتلى البغاة مكروه تحريماً عند الحنفيّة ، حرام عند المالكيّة ، أمّا نقل رءوسهم ، فقد قال الحنفيّة : يكره أخذ رءوسهم ، فيطاف بها في الآفاق ، لأنّه مثلة . وجوّزه بعض متأخّري الحنفيّة ، إذا كان فيه طمأنينة قلوب أهل العدل ، أو كسر شوكة البغاة . وجوّز المالكيّة رفع رءوس قتلى البغاة في محلّ قتلهم .
أسرى البغاة :
20 - أسرى البغاة يعاملون معاملةً خاصّةً ، لأنّ قتالهم كان لمجرّد دفع شرّهم ، فلا يستباح دمهم إلاّ بقدر ما يدفع القتال ، ولذا فإنّهم لا يقتلون إذا لم تكن لهم فئة اتّفاقاً ، للتّعليل السّابق ، ولذا لا يسترقّون مطلقاً ، سواء أكانت لهم فئة أم لا اتّفاقاً ، لأنّهم أحرار مسلمون ، ولا تسبى لهم نساء ولا ذرّيّة . أمّا إن كانت لهم فئة ، فقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّهم لا يقتلون أيضاً . غير أنّ عبد الملك من المالكيّة قال : إن أسر منهم أسير وقد انقطعت الحرب لا يقتل ، وإن كانت الحرب قائمةً فللإمام قتله ، إذا خاف منه الضّرر . وفي بعض كتب المالكيّة : أنّه إذا أسر بعد انقضاء الحرب يستتاب ، فإن لم يتب قتل ، وقيل : يؤدّب ولا يقتل . وقال الشّافعيّة : إن قتله ضمنه بالدّية ، لأنّه بالأسر صار محقون الدّم ، وقيل : فيه قصاص . وقيل : لا قصاص فيه ، لأنّ أبا حنيفة يجيز قتله فصار ذلك شبهةً . وإن كان أسير بالغاً فدخل في الطّاعة أطلقه ، وإن لم يدخل في الطّاعة حبسه إلى أن تنتهي الحرب . وإن كان عبداً أو صبيّاً لم يحبس ، لأنّه ليس من أهل البيعة ، وقال بعض الشّافعيّة : يحبس لأنّ في حبسه كسراً لقلوبهم . وهذا ما قاله الحنابلة . وقال الحنفيّة : إذا كانت للأسير فئة ، فالإمام بالخيار إن شاء قتله ، وإن شاء حبسه دفعاً لشرّه بقدر الإمكان ، ويحكم الإمام بنظره فيما هو أحسن في كسر الشّوكة .
فداء الأسرى :
21 - نصّ الفقهاء على جواز فداء أسارى أهل العدل بأسارى البغاة ، وقالوا : إن قتل أهل البغي أسرى أهل العدل لم يجز لأهل العدل قتل أسراهم ، لأنّهم لا يقتلون بجناية غيرهم ، وإن أبى البغاة مفاداة الأسرى الّذين معهم وحبسوهم ، قال ابن قدامة : احتمل أن يجوز لأهل العدل حبس من معهم ليتوصّلوا إلى تخليص أسراهم بذلك ، ويحتمل ألاّ يجوز حبسهم ، ويطلقون ، لأنّ الذّنب في حبس أسارى أهل العدل لغيرهم . وتفصيل الكلام عن أسرى البغاة في مصطلح ( أسرى ) .
( موادعة البغاة ) :
22 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز موادعة البغاة على مالٍ . فإن وادعهم الإمام على مالٍ بطلت الموادعة . ولو طلبوا الموادعة - أي الصّلح على ترك المقاتلة بغير مالٍ - أجيبوا إليها إن كان ذلك خيراً . فإن بان له أنّ قصدهم الرّجوع إلى الطّاعة ومعرفة الحقّ أمهلهم . وقال ابن المنذر : أجمع على هذا كلّ من أحفظ عنه من أهل العلم . فإن كان قصدهم الاجتماع على قتاله وانتظار مددٍ ، أو ليأخذوا الإمام على غرّةٍ عاجلهم ولم ينظرهم . وإذا وقعت الموادعة فأعطى كلّ فريقٍ رهناً على أيّهما غدر يقتل الآخرون الرّهن ، فغدر أهل البغي وقتلوا الرّهن ، لا يحلّ لأهل العدل قتل الرّهن ، بل يحبسونهم حتّى يهلك أهل البغي أو يتوبوا ، لأنّهم صاروا آمنين بالموادعة ، أو بإعطائه الأمان لهم حين أخذناهم رهناً . والغدر من غيرهم لا يؤاخذون به ، لكنّهم يحبسون مخافة أن يرجعوا إلى فئتهم فيكونون لهم قوّةً تغريهم على المقاتلة . 23 - وإن بذل البغاة لأهل العدل رهائن على إنظارهم لم يجز أخذها لذلك ، لأنّ الرّهائن لا يجوز قتلهم لغدر أهلهم ، وإن كان في أيديهم أسرى من أهل العدل ، وأعطوا بذلك رهائن منهم قبلهم الإمام ، واستظهر لأهل العدل . فإن أطلقوا أسرى أهل العدل الّذين عندهم أطلق رهائنهم . وإن قتلوا من عندهم لم يجز قتل رهائنهم ، لأنّهم لا يقتلون بقتل غيرهم ، لأنّهم صاروا آمنين . فإذا انقضت الحرب خلّي الرّهائن كما تخلّى الأسرى منهم .
من لا يجوز قتله من البغاة :
24 - يتّفق الفقهاء على أصل قاعدةٍ : أنّ من لا يجوز قتله من أهل الحرب - كالنّساء والشّيوخ والصّبيان والعميان - لا يجوز قتله من البغاة ما لم يقاتلوا ، لأنّ قتلهم لدفع شرّ قتالهم ، فيختصّ ذلك بأهل القتال . وهؤلاء ليسوا من أهل القتال عادةً ، فلا يقتلون إلاّ إذا قاتلوا ولو بالتّحريض ، لوجود القتال من حيث المعنى ، فيباح قتلهم إلاّ الصّبيّ والمعتوه . فالأصل أنّهما لا يقصدان القتل . فيحلّ قتلهما حال القتال إن قاتلا حقيقةً أو معنًى . أمّا الحنفيّة ، فعلى مذهبهم في تخيير الإمام بين قتل أسرى البغاة أو حبسهم ، يرون جواز قتل من قاتل أو حرّض من الشّيوخ ونحوهم ، فيقتلون حال القتال أو بعد الفراغ منه . لكن لا يقتل الصّبيّ والمعتوه بعد الفراغ من القتال ، لأنّ القتل بعد الفراغ والأسر بطريق العقوبة ، وهما ليسا من أهل العقوبة . وأمّا قتلهما حال الحرب فدفعاً لشرّهم كدفع الصّائل . وقال الحنابلة : إن حضر مع البغاة عبيد ونساء وصبيان قوتلوا مقبلين ، وتركوا مدبرين كغيرهم من الأحرار والذّكور البالغين ، لأنّ قتالهم للدّفع ، ولو أراد أحد هؤلاء قتل إنسانٍ جاز دفعه وقتاله . وقد نصّ المالكيّة على أنّ البغاة لو تترّسوا بذرّيّتهم تركوا ، إلاّ أن يترتّب على تركهم تلف أكثر المسلمين .
حضور من لا يقاتل من القادرين على القتال مع البغاة :
25 - إذا حضر مع البغاة من لا يقاتل - برغم قدرته على القتال - لم يجز أن يقصد بالقتل ، لأنّ القصد من قتالهم كفّهم ، وهذا قد كفّ نفسه لقوله تعالى : { ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم } فإنّه يدلّ على تحريم قتل المؤمن عمداً على وجه العموم ، وإنّما خصّ من ذلك ما حصل ضرورة دفع الباغي والصّائل ، ففيما عداه يبقى على العموم ، فمن لا يقاتل تورّعاً عنه - مع قدرته عليه - ولا يخاف منه القتال بعد ذلك ، وهو مسلم لا يحتاج لدفعٍ فلا يحلّ دمه . وفي وجهٍ عند الشّافعيّة يجوز قتله ، لأنّ عليّاً نهاهم عن قتل محمّدٍ السّجّاد بن طلحة بن عبيد اللّه ولم يكن يقاتل ، وإنّما كان يحمل راية أبيه ، فقتله رجل وأنشد شعراً ، فلم ينكر عليّ قتله ، ولأنّه صار ردءاً لهم .
حكم قتال المحارم من البغاة :
26 - اتّفق الفقهاء في الجملة على عدم جواز قتل العادل لذي رحمه المحرّم من أهل البغي ، وقصر المالكيّة ذلك على الأبوين فقط . بل منهم من قال بجواز قتل أبويه ، وكذا في روايةٍ عند الحنابلة ذكرها القاضي . ومنهم من صرّح بالكراهة ، وهو الأصحّ لقوله تعالى : { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدّنيا معروفاً } ولما روى الشّافعيّ أنّ { النّبيّ صلى الله عليه وسلم كفّ أبا حذيفة بن عتبة عن قتل أبيه } . وصرّح بعضهم بعدم الحلّ ، لأنّ اللّه أمر بالمصاحبة بالمعروف ، والأمر يقتضي الوجوب . وللفقهاء تفصيل وأدلّة . يقول الحنفيّة : لا يجوز للعادل أن يبتدئ بقتل ذي رحمٍ محرمٍ من أهل البغي مباشرةً ، إذ اجتمع فيه حرمتان : حرمة الإسلام وحرمة القرابة . وإذا أراد الباغي قتل العادل فله أن يدفعه ، وإن كان لا يندفع إلاّ بالقتل فيجوز له أن يتسبّب ليقتله غيره ، لأنّ الإسلام في الأصل عاصم : { فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم ... } والباغي مسلم ، إلاّ أنّه أبيح قتل غير ذي الرّحم المحرّم من أهل البغي لدفع شرّهم ، لا لشركهم ، ودفع الشّرّ يحصل بالدّفع والتّسبّب ليقتله غيره . وقال المالكيّة : كره للرّجل قتل أبيه الباغي ، ومثل أبيه أمّه ، بل هي أولى ، لما جبلت عليه من الحنان والشّفقة ، ولا يكره قتل جدّه وأخيه وابنه . وقال ابن سحنونٍ : ولا بأس أن يقتل الرّجل في قتال البغاة أخاه وقرابته ، فأمّا الأب وحده فلا أحبّ قتله عمداً ، وروى ابن عبد السّلام جواز قتل الابن الباغي ، وهو غير المشهور . وقال الشّافعيّة : يكره أن يقصد قتل ذي رحمٍ محرمٍ ، كما يكره في قتال الكفّار ، فإن قاتله لم يكره . وقال الحنابلة : الأصحّ كراهة قتل ذي الرّحم المحرّم الباغي ، ونقل ابن قدامة عن القاضي أنّه لا يكره ، لأنّه قتل بحقٍّ ، فأشبه إقامة الحدّ عليه .
إرث العادل من الباغي الّذي قتله والعكس :
27 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة - وهو قول لأبي بكرٍ من الحنابلة - إلى أنّ العادل إذا قتل قريبه الباغي ورثه ، لأنّه قتل بحقٍّ ، فلم يمنع الميراث كالقصاص ، ولأنّ قتل الباغي واجب ، ولا إثم على القاتل بقتله ، ولا يجب الضّمان عليه . فكذا لا يحرم من الإرث . وكذا لو قتل الباغي ذا رحمه العادل عند المالكيّة وأبي بكرٍ من الحنابلة ، لقولهم " ومواريثهم قائمة » . أمّا الحنفيّة فقالوا : لو قتل الباغي قريبه العادل وقال : أنا على حقٍّ ورثه عند أبي حنيفة ومحمّدٍ ، خلافاً لأبي يوسف . وإن قال : قتلته وأنا على الباطل لا يرث اتّفاقاً بين الإمام وصاحبيه . واستدلّ - أبو حنيفة - بأنّه أتلف ما أتلف عن تأويلٍ فاسدٍ ، والفاسد منه ملحق بالصّحيح إذا انضمّت إليه منعة ، وهو إن كان فاسداً في نفسه فإنّه يسقط به الضّمان ، فكذا لا يوجب الحرمان ، كما أنّ التّأويل في اعتقاده هو صحيح . وذهب الشّافعيّة ، وهو قول ابن حامدٍ من الحنابلة إلى أنّه لا يرث لعموم حديث : { ليس لقاتلٍ شيء } وكذا بالنّسبة للباغي إذا قتل العادل ، ونصّ الشّافعيّة : لا يرث قاتل من مقتوله مطلقاً .
ما يجوز قتال البغاة به :
28 - يجوز عند الحنفيّة والمالكيّة قتال البغاة - إذا تحصّنوا - بكلّ ما يقاتل به أهل الحرب ، بالسّيف والرّمي بالنّبل وبالمنجنيق والحريق والتّغريق ، وقطع الميرة ( المؤن ) والماء عنهم ، وكذا إذا فعل البغاة معهم مثل ذلك ، لأنّ قتالهم لدفع شرّهم وكسر شوكتهم ، فيقاتلون بكلّ ما يحصل به ذلك . وقال المالكيّة : إلاّ أن يكون فيهم نسوة أو ذراريّ ، فلا نرميهم بالنّار . وقال الشّافعيّة والحنابلة بعدم جواز قتالهم بالنّار والرّمي بالمنجنيق ، ولا بكلّ عظيمٍ يعمّ ، كالتّغريق وإرسال سيولٍ جارفةٍ ، ولا يجوز محاصرتهم وقطع الطّعام والشّراب عنهم إلاّ لضرورةٍ ، بأن قاتلوا به ، أو أحاطوا بنّا ولم يندفعوا إلاّ به ، ويكون فعل ذلك بقصد الخلاص منهم لا بقصد قتلهم ، لأنّه لا يجوز قتل من لا يقاتل ، وما يعمّ إتلافه يقع على من يقاتل ومن لا يقاتل .
مقاتلة البغاة بسلاحهم الّذي في أيدينا :
29 - يجوز عند الحنفيّة والمالكيّة ، وهو وجه عند الحنابلة ، قتالهم بسلاحهم وخيلهم وكلّ أدوات القتال الّتي استولينا عليها منهم ، إن احتاج أهل العدل إلى هذا ، لأنّ عليّاً رضي الله عنه قسّم ما استولى عليه من سلاح البغاة بين أصحابه بالبصرة ، وكانت قسمةً للحاجة لا للتّمليك ، ولأنّ للإمام أن يفعل ذلك في مال أهل العدل عند الحاجة ، ففي مال الباغي أولى . ونقل ابن قدامة عن القاضي أنّ أحمد أومأ إلى جواز الانتفاع به حال التحام الحرب ، ومنعه في غير قتالهم ، لأنّ هذه الحالة يجوز فيها إتلاف نفوسهم ، وحبس سلاحهم وكراعهم ، فجاز الانتفاع به كسلاح أهل الحرب . وقال أبو الخطّاب : في هذه المسألة وجهان . أمّا الشّافعيّة ، وهو الوجه الآخر عند الحنابلة الّذي ذكره أبو الخطّاب ، فيرون أنّه لا يجوز لأحدٍ استعمال شيءٍ ممّا استولينا عليه من سلاح البغاة وخيلهم إلاّ لضرورةٍ ، ويلزم دفع أجرة المثل لهم ، كمضطرٍّ لأكل طعام غيره يلزمه ثمنه ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : { لا يحلّ مال امرئٍ مسلمٍ إلاّ بطيب نفسٍ منه } ولأنّ من لا يجوز أخذ ماله لم يجز الانتفاع بماله من غير إذنه ومن غير ضرورةٍ ، ولأنّ الإسلام عصم أموالهم ، وإنّما أبيح قتالهم لردّهم إلى الطّاعة ، فيبقى المال على عصمته ، ومتى انقضت الحرب وجب ردّه إليهم كسائر أموالهم ، ولا يردّ إليهم قبل ذلك لئلاّ يقاتلونا به .
الاستعانة في قتالهم بالمشركين :
30 - اتّفق المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على تحريم الاستعانة بالكفّار في قتال البغاة ، لأنّ القصد كفّهم لا قتلهم ، والكفّار لا يقصدون إلاّ قتلهم ، وإن دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم ، فإن كان من الممكن القدرة على كفّ هؤلاء الكفّار المستعان بهم جاز ، وإن لم يقدر لم يجز . كما نصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّه لا يجوز الاستعانة على قتالهم بمن يرى من أهل العدل ( وهم فقهاء الحنفيّة ) قتل البغاة وهم مدبرون ، على ما سبق بيانه . ويتّفق الحنفيّة مع الجمهور في أنّه لا يحلّ الاستعانة بأهل الشّرك إذا كان حكم أهل الشّرك ، هو الظّاهر ، أمّا إذا كان حكم أهل العدل هو الظّاهر فلا بأس بالاستعانة بالذّمّيّين وصنفٍ من البغاة ، ولو لم تكن هناك حاجة ، لأنّ أهل العدل يقاتلون لإعزاز الدّين ، والاستعانة على البغاة بهم كالاستعانة عليهم بأدوات القتال .
قتلى معارك البغاة وحكم الصّلاة عليهم :
31 - من قتل من أهل العدل كان شهيداً ، لأنّه قتل في قتالٍ أمر اللّه به ، وذلك بقوله جلّ شأنه : { فقاتلوا الّتي تبغي } ولا يغسّل ، ولا يصلّى عليه ، لأنّه شهيد معركةٍ أمر بالقتال فيها ، فأشبه شهيد معركة الكفّار . وفي روايةٍ عند الحنابلة : يغسّل ويصلّي عليه ، وهو قول الأوزاعيّ وابن المنذر ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { صلّوا على من قال لا إله إلاّ اللّه } واستثنى قتيل الكفّار في المعركة ، ففيما عداه يبقى على الأصل . أمّا قتلى البغاة ، فمذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : أنّهم يغسّلون ويكفّنون ويصلّى عليهم ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : { صلّوا على من قال : لا إله إلاّ اللّه } ولأنّهم مسلمون لم يثبت لهم حكم الشّهادة ، فيغسّلون ويصلّى عليهم . ومثله الحنفيّة ، سواء أكانت لهم فئة ، أم لم تكن لهم فئة على الرّأي الصّحيح عندهم . وقد روي : أنّ عليّاً رضي الله عنه لم يصلّ على أهل حروراء ، ولكنّهم يغسّلون ويكفّنون ويدفنون . ولم يفرّق الجمهور بين الخوارج وغيرهم من البغاة في حكم التّغسيل والتّكفين والصّلاة .
تقاتل أهل البغي :
32 - إن اقتتل فريقان من أهل البغي ، فإن قدر الإمام على قهرهما ، لم يعاون واحداً منهما ، لأنّ الفريقين على خطأٍ ، وإن لم يقدر على قهرهما ، ولم يأمن أن يجتمعا على قتاله ، ضمّ إلى نفسه أقربهما إلى الحقّ . فإن استويا في ذلك اجتهد رأيه في ضمّ أحدهما ، ولا يقصد بذلك معاونته على الآخر ، بل يقصد الاستعانة به على الآخر ، فإذا انهزم الآخر لم يقاتل الّذي ضمّه إلى نفسه حتّى يدعوه إلى الطّاعة ، لأنّه بالاستعانة به حصل على الأمان ، نصّ على هذا الشّافعيّة والحنابلة . ولم يوجد فيما رجعنا إليه من كتب الحنفيّة والمالكيّة حكم هذه الصّورة . وجاء في كتب الحنفيّة : لو قتل باغٍ مثله عمداً في عسكرهم ، ثمّ ظهر أهل العدل على البغاة ، فلا شيء على القاتل ، لكون المقتول مباح الدّم ، إذ لو قتله العادل لا يجب عليه شيء ، فلا يجب على الباغي القاتل دية ولا قصاص ، ولا إثم عليه أيضاً ، ولأنّه لا ولاية لإمام العدل حين القتل ، فلم ينعقد موجباً للجزاء ، كالقتل في دار الحرب . وقالوا : لو غلب أهل البغي على بلدٍ ، فقاتلهم آخرون من أهل البغي ، فأرادوا أن يسبوا ذراريّ أهل المدينة ، وجب على أهل البلد أن يقاتلوا دفاعاً عن ذراريّهم . وقال الحنفيّة أيضاً : لو قتل تاجر من أهل العدل تاجراً آخر من أهل العدل في عسكر أهل البغي ، أو قتل الأسير من أهل العدل أسيراً آخر ، ثمّ ظهر عليه فلا قصاص عليه ، لأنّ الفعل لم يقع موجباً للجزاء ، لتعذّر الاستيفاء وانعدام الولاية ، كما لو فعل ذلك في دار الحرب ، لأنّ عسكر أهل البغي في حقّ انقطاع الولاية ودار الحرب سواء .
استعانة البغاة بالكفّار :
33 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا استعان البغاة بالحربيّين وأمّنوهم ، أو عقدوا لهم ذمّةً ، لم يعتبر الأمان بالنّسبة لنا إن ظفرنا بهم ، لأنّ الأمان من شرط صحّته إلزام كفّهم عن المسلمين ، وهؤلاء يشترطون عليهم قتال المسلمين ، فلا يصحّ الأمان لهم . ولأهل العدل قتالهم ، وحكم أسرهم في يد أهل العدل حكم الأسير الحربيّ . أمّا ما إذا استعان البغاة بالمستأمنين ، فمتى أعانوهم كانوا ناقضين للعهد ، وصاروا كأهل الحرب ، لأنّهم تركوا الشّرط ، وهو كفّهم عن المسلمين ، وعهدهم مؤقّت بخلاف الذّمّيّين ، فإن فعلوا ذلك مكرهين ، وكانت لهم منعة ، لم ينتقض عهدهم . وإن استعانوا بأهل الذّمّة فأعانوهم ، وقاتلوا معهم ، فعند الشّافعيّة والحنابلة وجهان : أحدهما : ينتقض عهدهم ، لأنّهم قاتلوا أهل الحقّ فينتقض عهدهم ، كما لو انفردوا بقتالهم ، وعلى هذا يكونون كأهل الحرب ، فيقتلون مقبلين ومدبرين ، ويجهز على جريحهم ، ويسترقّون ، وغير ذلك من أحكام قتال الحربيّين . والوجه الثّاني : أنّه لا ينقض عهدهم ، لأنّ أهل الذّمّة لا يعرفون المحقّ من المبطل ، فيكون ذلك شبهةً لهم . وعلى هذا يكونون كأهل البغي في الكفّ عن قتل أسرهم ومدبرهم وجريحهم . والحنفيّة والمالكيّة يتّفقون مع الشّافعيّة والحنابلة في أنّ معونة الذّمّيّين للبغاة استجابة لطلبهم لا تنقض عهد الذّمّة ، كما أنّ هذا الفعل من أهل البغي ليس نقضاً للأمان . فالّذين انضمّوا إليهم من أهل الذّمّة لم يخرجوا من أن يكونوا ملتزمين حكم الإسلام في المعاملات ، وأن يكونوا من أهل الدّار . وإن أكرههم البغاة على معونتهم لم ينقض عهدهم - قولاً واحداً - ويقبل قولهم ، لأنّهم تحت أيديهم وقدرتهم . ونصّ الحنفيّة على أنّهم يأخذون حكم البغاة ، وأطلقوا هذه العبارة ممّا يفيد أنّهم كالبغاة في عدم ضمان ما أتلفوه لأهل العدل أثناء القتال ، وهو ما صرّح به المالكيّة ، إذ قالوا بالنّسبة للذّمّيّ الخارج مع البغاة المتأوّلين استجابةً لطلبهم : لا يضمن نفساً ولا مالاً . لكنّ الشّافعيّة والحنابلة نصّوا على أنّهم يضمنون ما أتلفوا على أهل العدل حال القتال وغيره ، إذ لا تأويل لهم .
إعطاء الأمان للباغي من العادل :
34 - صرّح الحنفيّة أنّه إذا أمّن رجل من أهل العدل رجلاً من أهل البغي جاز أمانه ، لأنّه ليس أعلى شقاقاً من الكافر الّذي يجوز إعطاء الأمان له . فكذا هذا ، بل هو أولى وأحقّ ، لأنّه مسلم ، وقد يحتاج إلى مناظرته ليتوب ، ولا يتأتّى ذلك ما لم يأمن كلّ الآخر . ولو دخل باغٍ بأمانٍ ، فقتله عادل عمداً ، لزمته الدّية .
تصرّفات إمام البغاة إذا استولى البغاة على بلدٍ في دار الإسلام ، ونصّبوا لهم إماماً ، وأحدث الإمام تصرّفاتٍ باعتباره حاكماً ، كالجباية من جمع الزّكاة والعشور والجزية والخراج ، واستيفاء الحدود والتّعازير وإقامة القضاة ، فهل تنفذ هذه التّصرّفات ، وتترتّب عليها آثارها في حقّ أهل العدل ؟ بيان ذلك فيما يأتي :
أ - جباية الزّكاة والجزية والعشور والخراج :
35 - ذهب الفقهاء إلى أنّ ما جباه أهل البغي من البلاد الّتي غلبوا عليها ، من الزّكاة والجزية والعشور والخارج ، يعتدّ به ، لأنّ ما فعلوه أو أخذوه كان بتأويلٍ سائغٍ ، فوجب إمضاؤه ، كالحاكم إذا حكم بما يسوغ الاجتهاد فيه ، ولا حرج على النّاس في دفع ذلك إليهم ، فقد كان ابن عمر إذا أتاه ساعي نجدة الحروريّ دفع إليه زكاته ، وكذلك سلمة بن الأكوع . وليس لإمام أهل العدل إذا ظهر على هذه البلاد أن يطالب بشيءٍ ممّا جبوه ، ولا يرجع به على من أخذ منه ، وقد روي نحو هذا عن ابن عمر وسلمة بن الأكوع ، ولأنّ ولاية الأخذ كانت له باعتبار الحماية ، ولم يحمهم ، ولأنّ في ترك الاحتساب بها ضرراً عظيماً ومشقّةً كبيرةً ، فإنّهم قد يغلبون على البلاد السّنين الكثيرة ، فلو لم يحتسب ما أخذوه ، أدّى إلى أخذ الصّدقات منهم عن كلّ تلك المدّة . وقال أبو عبيدٍ : على من أخذوا منه الزّكاة الإعادة ، لأنّه أخذها من لا ولاية له صحيحة ، فأشبه ما لو أخذها آحاد الرّعيّة . وذهب فقهاء الحنفيّة إلى أنّه إذا كان إمام أهل البغي صرف ما أخذه في مصرفه أجزأ من أخذ منه ، ولا إعادة عليه ، لوصول الحقّ إلى مستحقّه . وإن لم يكن صرفه في حقّه فعلى من أخذ منهم أن يعيدوا دفعه فيما بينهم وبين اللّه تعالى ، لأنّه لم يصل إلى مستحقّه . وقال الكمال ابن الهمام : قال المشايخ : لا إعادة على الأرباب في الخراج ، لأنّ البغاة مقاتلة ، وهم مصرف الخراج وإن كانوا أغنياء ، وكذلك في العشر إن كانوا فقراء ، أمّا إن كانوا أغنياء فقد أفتوا بالإعادة ، وذلك في زكاة الأموال كلّها . وقال الشّافعيّة والحنابلة : إن عاد بلد البغاة إلى أهل العدل ، فادّعى من عليه الزّكاة أنّه دفعها إلى أهل البغي قبل قوله . وفي استحلافه وجهان عند الشّافعيّة ، وقال أحمد : لا يستحلف النّاس على صدقاتهم . وإن ادّعى من عليه الجزية أنّه دفعها إليهم لم يقبل قوله ، لأنّها عوض ، فلم يقبل قوله في الدّفع ، كالمستأجر إذا ادّعى دفع الأجرة . وعند الحنابلة يحتمل قبول قولهم إذا مضى الحول ، لأنّ الظّاهر أنّ البغاة لا يدّعون الجزية لهم ، فكان القول قولهم ، لأنّ الظّاهر معهم ، ولأنّه إذا مضى لذلك سنون كثيرة شقّ عليهم إقامة البيّنة على مدّعيهم ، فيؤدّي ذلك إلى تغريمهم الجزية مرّتين . وإن ادّعى من عليه الخراج أنّه دفعه إليهم ، ففيه وجهان : أحدهما : يقبل قوله ، لأنّه مسلم ، فقبل قوله في الدّفع لمن عليه الزّكاة . والثّاني : لا يقبل ، لأنّ الخراج ثمن أو أجرة ، فلم يقبل قوله في الدّفع ، كالثّمن في البيع والأجرة في الإجارة . ويصحّ تفريقهم سهم المرتزقة على جنودهم ، لاعتقادهم التّأويل المحتمل ، فأشبه الحكم بالاجتهاد ، ولما في عدم الاعتداد به من الإضرار بالرّعيّة ، ولأنّ جندهم من جند الإسلام ، ورعب الكفّار قائم بهم ، وسواء أكانت الزّكاة معجّلةً أم لا ، واستمرّت شوكتهم على وجوبها أم لا ، وقيل : لا يعتدّ بتفرقتهم لئلاّ يتقوّوا به علينا ، وإن كان من عليه الخراج ذمّيّاً فهو كالجزية ، لأنّه عوض على غير المسلم .
ب - قضاء البغاة وحكم نفاذه :
36 - لو ظهر أهل البغي على بلدٍ فولّوا فيه قاضياً من أهله ، وليس من أهل البغي صحّ اتّفاقاً ، وعليه أن يقيم الحدود . أمّا إن كان منهم ، فإذا ظهر أهل العدل على هذا البلد ، فرفعت أقضيته إلى قاضي أهل العدل نفذ منها ما هو عدل ، وكذا ما قضاه برأي بعض المجتهدين ، لأنّ قضاء القاضي في المجتهدات نافذ ، وإن كان مخالفاً لرأي قاضي أهل العدل . وقال المالكيّة : إذا كان الباغي متأوّلاً ، وأقام قاضياً ، فحكم بشيءٍ فإنّه ينفذ ، ولا تتصفّح أحكامه ، بل تحمل على الصّحّة ، ويرتفع بها الخلاف . قال الموّاق : هذا في ظاهر المذهب . أمّا غير المتأوّل فأحكامه تتعقّب . وقال ابن القاسم : لا يجوز قضاؤهم . وقال الشّافعيّة والحنابلة : إن كان ممّن يستبيح دماء أهل العدل وأموالهم لم تنفذ أحكامه ، لأنّ من شرط القضاء العدالة والاجتهاد ، وهذا ليس بعدلٍ ولا مجتهدٍ ، وإن كان ممّن لا يستبيح ذلك نفذ من حكمه ما ينفذ من حكم أهل العدل ، لأنّ لهم تأويلاً يسوغ فيه الاجتهاد ، فلم ينقض من حكمه ما يسوغ الاجتهاد فيه ، ولأنّه اختلاف في الفروع بتأويلٍ سائغٍ ، فلم يمنع صحّة القضاء ولم يفسق كاختلاف الفقهاء ، وإذا حكم بما لا يخالف إجماعاً نفذ حكمه ، وإن خالف الإجماع نقض ، وإن حكم بسقوط الضّمان عن أهل البغي فيما أتلفوه حال الحرب جاز حكمه ، لأنّه موضع اجتهادٍ ، وإن كان فيما أتلفوه قبل الحرب لم ينفذ ، لأنّه مخالف للإجماع ، وإن حكم على أهل العدل بالضّمان فيما أتلفوه حال الحرب لم ينفذ حكمه لمخالفته للإجماع ، وإن حكم عليهم بوجوب الضّمان فيما أتلفوه في غير حال الحرب نفذ حكمه .
ج - كتاب قاضي البغاة إلى قاضي أهل العدل :
37 - لا يقبل قاضي أهل العدل كتاب قاضي البغاة عند الحنفيّة ، لأنّهم فسقة . وعند الشّافعيّة والحنابلة : يجوز الحكم بكتابهم إلينا بسماع البيّنة في الأصحّ ، ويستحبّ عدم تنفيذه والحكم به ، استخفافاً بهم حيث لا ضرر على المحكوم له . فإن قبله جاز ، لأنّه ينفذ حكمه ، فجاز الحكم بكتابه ، كقاضي أهل العدل ، لأنّه حكم والحاكم من أهله . بل لو كان الحكم لواحدٍ منّا على واحدٍ منهم ، فالمتّجه وجوب التّنفيذ . وقيل : لا يجوز اعتبار كتابه ، لما فيه من إعلاءٍ لمنصبه . ولم نقف على نصٍّ للمالكيّة في هذا ، لكنّهم اشترطوا في القاضي الّذي يقبل كتابه : العدالة ، سواء أكان تولّى القضاء من قبل الوالي المتغلّب أو من قبل الكافر ، رعايةً لمصالح العباد ، ممّا يفيد جواز قبول كتاب قاضي أهل البغي .
د - إقامتهم للحدّ ، ووجوبه عليهم :
38 - الحدّ الّذي يقيمه إمام أهل البغي يقع موقعه ، ويكون مجزئاً ، ولا يعاد ثانياً على المحدود إن كان غير قتلٍ ، ولا دية عليه إن كان قتلاً ، لأنّ عليّاً رضي الله عنه قاتل أهل البصرة ، ولم يلغ ما فعلوه ، لأنّهم فعلوه بتأويلٍ سائغٍ ، فوجب إمضاؤه ، وهذا ما صرّح به كلّ من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . وقال الحنفيّة : إذا كان القاضي الّذي أقامه إمام أهل البغي من أهل البلد الّتي تغلّبوا عليها ، وليس من البغاة ، وجب عليه إقامة الحدّ وأجزأ . وأمّا إذا كان من أهل البغي ، وكانوا امتنعوا بدار الحرب ، فإنّ الحدّ لا يجب ، إذ الفعل لم يقع موجباً أصلاً لوقوعه في غير دار الإسلام ، لعدم الولاية على مكان وقوع الجريمة وقت وقوعها . ولو رجع إلى دار الإسلام لا يقام عليه الحدّ أيضاً . وعلى هذا لو تغلّبنا عليهم لا يقام . ولو كانوا أقاموه فإنّه لا تجب إعادته ، لعدم وجوبه أصلاً . وقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إذا ارتكبوا حال امتناعهم ما يوجب حدّاً ، ثمّ قدر عليهم - ولم يكن أقيم الحدّ - أقيمت فيهم حدود اللّه ، ولا تسقط الحدود باختلاف الدّار . وهو قول ابن المنذر لعموم الآيات والأخبار ، ولأنّ كلّ موضعٍ تجب فيه العبادة في أوقاتها تجب الحدود فيه عند وجود أسبابها كدار أهل العدل ، ولأنّه زانٍ أو سارق لا شبهة في زناه وسرقته ، فوجب عليه الحدّ كالذّمّيّ في دار العدل .
شهادة البغاة :
39 - الأصل قبول شهادتهم . فقد نصّ الحنفيّة على قبول شهادة أهل الأهواء إن كانوا عدولاً في أهوائهم ، إلاّ بعض الرّافضة كالخطابيّة ، ومن كانت بدعته تكفّر ، أو كان صاحب عصبيّةٍ ، أو فيه مجانة ، فإنّ شهادته لا تقبل لكفره ولفسقه . ويقول المالكيّة : تقبل شهادة البغاة إذا لم يكونوا مبتدعين ، ولا تقبل إذا كانوا مبتدعين والعبرة بوقت الأداء . وقال الشّافعيّة : تقبل شهادة البغاة لتأويلهم ، إلاّ أن يكونوا ممّن يشهدون لموافقيهم بتصديقهم ، فلا تقبل حينئذٍ لبعضهم . وقال الحنابلة : البغاة إذا لم يكونوا من أهل البدع ليسوا بفاسقين ، وإنّما هم يخطئون في تأويلهم ، فهم كالمجتهدين ، فمن شهد منهم قبلت شهادته إذا كان عدلاً . ونقل عن أبي حنيفة أنّهم يفسقون بالبغي وخروجهم على الإمام ، ولكن تقبل شهادتهم ، لأنّ فسقهم من جهة الدّين فلا تردّ به الشّهادة .
بغي انظر : بغاة
بقر
التّعريف
1 - البقر : اسم جنسٍ . قال ابن سيده : ويطلق على الأهليّ والوحشيّ ، وعلى الذّكر والأنثى ، وواحده بقرة ، وقيل : إنّما دخلته الهاء لأنّه واحد من الجنس . والجمع : بقرات ، وقد سوّى الفقهاء الجاموس بالبقر في الأحكام ، وعاملوهما كجنسٍ واحدٍ . زكاة البقر :
2 - زكاة البقر واجبة بالسّنّة والإجماع . أمّا السّنّة فما روى البخاريّ عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : { والّذي نفسي بيده ، أو والّذي لا إله غيره - أو كما حلف - ما من رجلٍ تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدّي حقّها إلاّ أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه ، تطؤه بأخفافها ، وتنطحه بقرونها ، كلّما جازت أخراها ردّت عليه أولاها حتّى يقضى بين النّاس } . وما روى النّسائيّ والتّرمذيّ عن مسروقٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم { بعث معاذاً إلى اليمن ، وأمره أن يأخذ من كلّ حالمٍ ديناراً ، ومن البقر من كلّ ثلاثين تبيعاً أو تبيعةً ، ومن كلّ أربعين مسنّةً } . وقد أجمع الصّحابة ومن بعدهم على وجوب الزّكاة في الأنعام ، ولم يخالف في ذلك أحد ، والبقر صنف من الأنعام ، فوجبت الزّكاة فيها كالإبل والغنم ، وإنّما كان الخلاف في بعض الشّروط كما سيأتي .
شروط وجوب الزّكاة في البقر :
3 - يشترط في وجوب الزّكاة في البقر شروط عامّة تفصيلها في الزّكاة ، وهناك شروط خاصّة بيانها فيما يلي : اشتراط السّوم :
4 - المراد بالسّوم في زكاة الماشية : أن ترعى الماشية أكثر أيّام السّنة في كلأٍ مباحٍ ، سواء أكانت ترعى بنفسها أم براعٍ يرعاها ، هذا وقد ذهب جمهور العلماء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وغيرهم إلى أنّه يشترط السّوم في زكاة الماشية ، ومن بين تلك الماشية البقر ، فيشترط فيها السّوم أيضاً ، وأمّا البقر العوامل والمعلوفة فلا زكاة فيها ، لانتفاء السّوم . وقال الإمام مالك : لا يشترط السّوم في زكاة البقر ، فالبقر العوامل والمعلوفة تجب فيها الزّكاة عنده . استدلّ الإمام مالك لما ذهب إليه بالإطلاق في الأحاديث الموجبة لزكاة البقر ، وهو الّذي استقرّ عليه عمل أهل المدينة ، وعمل أهل المدينة أحد أصول المالكيّة . واستدلّ القائلون باشتراط السّوم في زكاة الماشية بما روي عن عليٍّ رضي الله عنه ، قال الرّاوي أحسبه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في صدقة البقر قال : { وليس في العوامل شيء } ، وأيضاً بما روي عن عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { ليس في البقر العوامل شيء } وقد حمل الجمهور النّصوص المطلقة في البقر على النّصوص المقيّدة بالسّوم الواردة في الإبل والغنم ، كما استدلّوا بقياس البقر على الإبل والغنم في اشتراط السّوم . وأيضاً فإنّ صفة النّماء معتبرة في الزّكاة ، فلا توجد إلاّ في السّائمة ، أمّا البقر العوامل فصفة النّماء مفقودة فيها ، ومثلها المعلوفة فلا نماء فيها أيضاً ، لأنّ علفها يستغرق نماءها ، إلاّ أن يعدّها للتّجارة ، فيزكّيها زكاة عروض التّجارة .
الزّكاة في بقر الوحش :
5 - ذهب أكثر العلماء إلى عدم وجوب الزّكاة في بقر الوحش ، وعند الحنابلة روايتان ، فالمذهب عندهم وجوب الزّكاة فيها ، لأنّ مطلق الخبر الّذي أوجب الزّكاة في البقر - والّذي سبق ذكره - يتناولها . والرّواية الثّانية عندهم عدم وجوب الزّكاة فيها . قال ابن قدامة : وهي أصحّ ، وهو قول أكثر أهل العلم في عدم وجوب الزّكاة في بقر الوحش ، لأنّ اسم البقر عند الإطلاق لا ينصرف إليها ولا يفهم منه إذ كانت لا تسمّى بقراً بدون الإضافة ، فيقال : بقر الوحش ، ولأنّ العادة تنفي وجود نصابٍ منها موصوفاً بصفة السّوم حولاً كاملاً ، ولأنّها حيوان لا يجزئ نوعه في الأضحيّة والهدي ، فلا تجب فيها الزّكاة كالظّباء ، ولأنّها ليست من بهيمة الأنعام ، فلا تجب فيها الزّكاة كسائر الوحوش ، والسّرّ في ذلك أنّ الزّكاة إنّما وجبت في بهيمة الأنعام دون غيرها لكثرة النّماء فيها ، من درّها ونسلها وكثرة الانتفاع بها لكثرتها وخفّة مئونتها ، وهذا المعنى يختصّ بها ، فاختصّت الزّكاة بها دون غيرها .
زكاة المتولّد بين الوحشيّ والأهليّ :
6 - ذهب الحنابلة إلى وجوب الزّكاة في المتولّد بين الوحشيّ والأهليّ ، سواء أكان الوحشيّ هو الفحل أم الأمّ ، واحتجّوا لذلك بأنّ المتولّد بين الوحشيّ والأهليّ متولّد بين الّذي تجب فيه الزّكاة وبين ما لا تجب فيه ، فيرجّح جانب الوجوب ، قياساً على المتولّد بين السّائمة والمعلوفة ، فتجب فيه الزّكاة ، فكذلك المتولّد بين الوحشيّ والأهليّ . وعلى هذا القول تضمّ إلى جنسها من الأهليّ في وجوب الزّكاة ، ويكمّل بها نصابها ، وتكون كأحد أنواعه . وقال أبو حنيفة ومالك : إن كانت الأمّهات أهليّةً وجبت الزّكاة فيها ، وإلاّ فلا . واستدلّ لهذا القول بأنّ جانب الأمّ في الحيوان هو المعتبر ، لأنّ الأمّ في الحيوان هي الّتي تقوم وحدها برعاية ابنها . وقال الشّافعيّ : لا زكاة فيه مطلقاً ، سواء أكانت الوحشيّة من قبل الفحل أم من قبل الأمّ .
اشتراط تمام النّصاب : أمّا النّصاب فقد اختلف الفقهاء فيه على أقوالٍ ، من أشهرها اتّجاهان :
8 - الاتّجاه الأوّل : وهو قول عليّ بن أبي طالبٍ ومعاذ بن جبلٍ وأبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنهم وقال به الشّعبيّ وشهر بن حوشبٍ وطاووس وعمر بن عبد العزيز والحسن البصريّ ، ونقله الزّهريّ عن أهل الشّام ، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبلٍ والشّافعيّ ، قالوا : ليس فيما دون الثّلاثين من البقر شيء ، فإذا بلغتها ففيها تبيع أو تبيعة ، ( والتّبيع هو الّذي له سنتان ، أو الّذي له سنة وطعن في الثّانية ، وقيل : ستّة أشهرٍ ، والتّبيعة مثله ) ، ثمّ لا شيء فيها حتّى تبلغ أربعين ، فإذا بلغتها ففيها بقرة مسنّة . ثمّ لا شيء فيها حتّى تبلغ ستّين ، فإذا بلغتها ففيها تبيعان أو تبيعتان . ثمّ لا شيء فيها حتّى تبلغ عشراً زائدةً ، فإذا بلغتها ففي كلّ ثلاثين من ذلك العدد تبيع أو تبيعة وفي كلّ أربعين مسنّ أو مسنّة ، ففي سبعين تبيع ومسنّة ، وفي ثمانين مسنّتان ، وفي تسعين ثلاثة أتبعةٍ ، وفي مائةٍ مسنّة وتبيعان ، وفي مائةٍ وعشرٍ مسنّتان وتبيع ، وفي مائةٍ وعشرين ثلاث مسنّاتٍ أو أربعة أتبعةٍ ، فالمالك مخيّر بين إخراج الأتبعة أو المسنّات ، وإن كان الأولى النّظر إلى حاجة الفقراء والأصلح لهم . ثمّ يتغيّر الواجب كلّما زاد العدد عشراً . واحتجّ أصحاب هذا القول بما روي عن معاذٍ رضي الله عنه { أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كلّ حالمٍ ديناراً ، ومن البقر من كلّ ثلاثين تبيعاً أو تبيعةً ، ومن كلّ أربعين مسنّةً } . وروى ابن أبي ليلى والحكم بن عتيبة عن { معاذٍ أنّه سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الأوقاص : ما بين الثّلاثين إلى الأربعين ، وما بين الأربعين إلى الخمسين ؟ قال : ليس فيها شيء } . واحتجّوا أيضاً بما جاء في كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزمٍ : { فرائض البقر ليس فيما دون الثّلاثين من البقر صدقة ، فإذا بلغت ثلاثين ففيها عجل رائع جذع ، إلى أن تبلغ أربعين ، فإذا بلغت أربعين ففيها بقرة مسنّة . إلى أن تبلغ سبعين ، فإنّ فيها بقرةً وعجلاً جذعاً ، فإذا بلغت ثمانين ففيها مسنّتان ، ثمّ على هذا الحساب } . هذا ، ولتفصيل أحكام ما بين الفريضتين في الزّكاة - وهو المسمّى بالوقص - ينظر مصطلح : ( أوقاص ) .
9- الاتّجاه الثّاني : قول سعيد بن المسيّب والزّهريّ وأبي قلابة وغيرهم : أنّ نصاب البقر هو نصاب الإبل ، وأنّه يؤخذ في زكاة البقر ما يؤخذ من الإبل ، دون اعتبارٍ للأسنان الّتي اشترطت في الإبل ، من بنت مخاضٍ وبنت لبونٍ وحقّةٍ وجذعةٍ ، وروي هذا عن كتاب عمر بن الخطّاب في الزّكاة ، وعن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهم ، وشيوخٍ أدّوا الصّدقات على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وروى أبو عبيدٍ : أنّ في كتاب عمر بن الخطّاب ( في الزّكاة ) أنّ البقر يؤخذ منها مثل ما يؤخذ من الإبل ، قال : وقد سئل عنها غيرهم ، فقالوا : فيها ما في الإبل . وقد ذكر ابن حزمٍ بسنده عن الزّهريّ وقتادة كلاهما عن جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ رضي الله عنهما قال : في كلّ خمسٍ من البقر شاة ، وفي عشرٍ شاتان ، وفي خمس عشرة ثلاث شياهٍ ، وفي عشرين أربع شياهٍ . قال الزّهريّ : فرائض البقر مثل فرائض الإبل غير أسنانٍ فيها : فإذا كانت البقر خمساً وعشرين ففيها بقرة إلى خمسٍ وسبعين ، فإذا زادت على خمسٍ وسبعين ففيها بقرتان إلى مائةٍ وعشرين ، فإذا زادت على مائةٍ وعشرين ففي كلّ أربعين بقرة . قال الزّهريّ : وبلغنا أنّ قولهم : في كلّ ثلاثين تبيع ، وفي كلّ أربعين بقرة ، أنّ ذلك كان تخفيفاً لأهل اليمن ، ثمّ كان بعد ذلك لا يروى . وروي أيضاً عن عكرمة بن خالدٍ قال : استعملت - أي ولّيت - على صدقات ( عكّ ) فلقيت أشياخاً ممّن صدّق ( أخذت منهم الصّدقة ) على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاختلفوا عليّ : فمنهم من قال اجعلها مثل صدقة الإبل ، ومنهم من قال : في ثلاثين تبيع ، ومنهم من قال : في أربعين بقرة مسنّة . وذكر ابن حزمٍ أيضاً بسنده عن ابن المسيّب وأبي قلابة وآخرين مثل ما نقل عن الزّهريّ ، ونقل عن عمر بن عبد الرّحمن بن خلدة الأنصاريّ : أنّ صدقة البقر صدقة الإبل ، غير أنّه لا أسنان فيها .
ما يجزئ في الأضحيّة :
10 - لا يجزئ في الأضحيّة سوى النّعم ، وهي الإبل والبقر والغنم ، خلافاً لمن قال : يجوز التّضحية بأيّ شيءٍ من مأكول اللّحم من النّعم أو من غيرها . وتفصيله في ( الأضحيّة ) . واتّفق العلماء على أنّ الشّخص إذا ضحّى بالبقرة الواحدة عن نفسه فقط فإنّ الأضحيّة تقع له ، وسواء أكانت واجبةً أم متطوّعاً بها .
11 - وأمّا الاشتراك في التّضحية بالبقرة الواحدة ففيه خلاف : فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وأكثر أهل العلم : إلى أنّ البقرة الواحدة تجزئ عن سبعة أشخاصٍ ، فيجوز لهم الاشتراك في البقرة الواحدة ، وسواء أكانوا أهل بيتٍ واحدٍ ، أم أهل بيتين ، أم متفرّقين ، وسواء أكانت أضحيّةً واجبةً أم متطوّعاً بها ، وسواء أراد بعضهم القربة أم أراد اللّحم ، فيقع لكلّ واحدٍ منهم ما قصد . إلاّ أنّه عند الحنفيّة لا بدّ أن يريد كلّهم القربة ، فلو أراد أحدهم اللّحم لم تجزئ عن الكلّ عندهم . وقال مالك : يجزئ الرّأس الواحد من الإبل أو البقر أو الغنم عن واحدٍ ، وعن أهل البيت وإن كثر عددهم وكانوا أكثر من سبعةٍ ، إذا أشركهم فيها تطوّعاً ، ولا تجزئ إذا اشتروها بينهم بالشّركة ، ولا على أجنبيّين فصاعداً . واحتجّ أصحاب القول الأوّل بما رواه جابر قال : { نحرنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعةٍ ، والبقرة عن سبعةٍ } وعنه قال : { خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مهلّين ، فأمرنا أن نشترك في الإبل والبقر ، كلّ سبعةٍ منّا في بدنةٍ } . وأمّا مالك فقد أخذ بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه كان يقول : البدنة عن واحدٍ والبقرة عن واحدٍ ، والشّاة عن واحدٍ لا أعلم شركاً . وقد روي هذا أيضاً عن غير ابن عمر كمحمّد بن سيرين فإنّه يرى أنّ النّفس الواحدة لا تجزئ إلاّ عن نفسٍ واحدةٍ فقط .
البقر في الهدي :
12 - حكم البقرة في الهدي كحكمها في الأضحيّة ، باستثناء ما يتّصل بالتّضحية عن الرّجل وأهل بيته ، وتفصيله في ( الحجّ ، والهدي ) . أمّا إشعار البقر في الهدي فقد اتّفق العلماء ( سوى أبي حنيفة ) على أنّ الإشعار سنّة ، وأنّه مستحبّ ، وقد فعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم والصّحابة من بعده ، واتّفقوا أيضاً على أنّ الإشعار سنّة في الإبل ، سواء أكان لها سنام أم لم يكن لها سنام ، فإن لم يكن لها سنام فإنّها تشعر في موضع السّنام . وأمّا البقر فمذهب الشّافعيّة : الإشعار فيها مطلقاً ، سواء أكان لها سنام أم لم يكن لها سنام ، فهي عندهم كالإبل . وقد ذهب مالك إلى أنّ البقر إذا كان لها سنام فإنّها تشعر ، أمّا إذا لم يكن لها سنام فإنّها لا تشعر .
( حكم التّقليد ) :
13 - التّقليد : جعل القلادة في العنق ، وتقليد الهدي : أن يعلّق في عنقه قطعة من جلدٍ ، ليعرف أنّه هدي فلا يتعرّض له . واتّفق العلماء على أنّ التّقليد مستحبّ في الإبل والبقر . وأمّا الغنم فقد ذهب الشّافعيّة إلى استحباب التّقليد فيها كالإبل والبقر . وذهب أبو حنيفة ومالك إلى عدم استحباب التّقليد فيها . وتقليد الإبل والبقر يكون بالنّعال ونحوها ممّا يشعر أنّها هدي .
ذكاة البقر :
14 - ذكاة البقر كذكاة الغنم ، فإذا أريد تذكية البقرة فإنّها تضجع على جنبها الأيسر ، وتشدّ قوائمها الثّلاث : اليد اليمنى واليسرى والرّجل اليسرى ، وتترك الرّجل اليمنى بلا شدٍّ لتحرّكها عند الذّبح ، ويمسك الذّابح رأسها بيده اليسرى ، ويمسك السّكّين بيده اليمنى ، ثمّ يبدأ الذّبح بعد أن يقول : باسم اللّه واللّه أكبر وبعد أن يتّجه هو وذبيحته نحو القبلة . وأمّا الإبل فإنّها تنحر بطعنها في اللّبّة ، أي أسفل العنق ، وهي قائمة معقولة الرّكبة اليسرى .
استعمال البقر للرّكوب :
15 - اتّفق العلماء على أنّ ما يركب من الأنعام ويحمل عليه هو الإبل . وأمّا البقر فإنّه لم يخلق للرّكوب ، وإنّما خلق لينتفع به في حرث الأرض ، وغير ذلك من المنافع سوى الرّكوب . وأمّا الغنم فهي للدّرّ والنّسل واللّحم لقوله تعالى : { وإنّ لكم في الأنعام لعبرةً نسقيكم ممّا في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون ، وعليها وعلى الفلك تحملون } ، وقوله تعالى : { اللّه الّذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون } ، وقوله تعالى : { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون } . وأمّا الآيات الّتي تذكر أنّ الأنعام تركب فهي محمولة عند العلماء على بعض الأنعام ، وهي الإبل ، وهو من العامّ الّذي أريد به الخاصّ . وممّا يدلّ على أنّ استعمال البقر للرّكوب غير لائقٍ ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { بينما رجل يسوق بقرةً له قد حمل عليها ، التفتت إليه البقرة فقالت : إنّي لم أخلق لهذا ، ولكنّي إنّما خلقت للحرث ، فقال النّاس : سبحان اللّه - تعجّباً وفزعاً - أبقرة تكلّم ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : فإنّي أومن به وأبو بكرٍ وعمر } .
بول وروث البقر :
16 - اتّفق الفقهاء على نجاسة بول وروث ما لا يؤكل لحمه ، سواء أكان إنساناً أم غيره . وأمّا بول وروث ما يؤكل لحمه كالإبل والبقر والغنم ففيه الخلاف فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف والشّافعيّ إلى نجاسة الأبوال والأرواث كلّها ، من مأكول اللّحم وغيره . وذهب مالك وأحمد وطائفة من السّلف ، ووافقهم من الشّافعيّة ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبّان والإصطخريّ والرّويانيّ ، ومن الحنفيّة محمّد بن الحسن إلى طهارة بول ما يؤكل لحمه . وانظر للتّفصيل والاستدلال مصطلح ( نجاسة ) .
حكم البقر في الدّية :
17 - اختلف العلماء في اعتبار البقر أصلاً في الدّية على قولين : فذهب أبو حنيفة ومالك والشّافعيّ في القديم إلى أنّ الدّية ثلاثة أصولٍ : الإبل ، والذّهب ، والفضّة ، وليس أصلاً . وذهب صاحبا أبي حنيفة ( أبو يوسف ومحمّد بن الحسن ) والثّوريّ وأحمد بن حنبلٍ إلى أنّ الدّية خمسة أصولٍ : الإبل ، والذّهب ، والفضّة ، والبقر ، والغنم . وزاد الصّاحبان : الحلل ، وهو قول عمر وعطاءٍ وطاووسٍ وفقهاء المدينة السّبعة ، فعلى هذا القول تعتبر البقر أصلاً من أصول الدّية ، ويجوز لأصحابها - كما عند الصّاحبين - دفعها ابتداءً ، ولا يكلّفون غيرها . وذهب الشّافعيّ في الجديد إلى أنّ الدّية ليس لها إلاّ أصل واحد ، وهو الإبل ، فإذا فقدت فالواجب قيمتها من نقد البلد بالغةً ما بلغت . فليست البقر أصلاً على هذا القول كذلك . وانظر للتّفصيل مصطلح ( دية ) .
بكاء
التّعريف
1 - البكاء : مصدر بكى يبكي بكًى ، وبكاءً . قال في اللّسان : البكاء يقصر ويمدّ . قال الفرّاء وغيره : إذا مددت أردت الصّوت الّذي يكون مع البكاء ، وإذا قصرت أردت الدّموع وخروجها . قال كعب بن مالكٍ رضي الله عنه في رثاء حمزة بكت عيني وحقّ لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل قال الخليل : من قصر ذهب به إلى معنى الحزن ، ومن مدّه ذهب به إلى معنى الصّوت . والتّباكي : تكلّف البكاء كما في الحديث { فإن لم تبكوا فتباكوا } . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الصّياح والصّراخ :
2 - الصّياح والصّراخ في اللّغة : هو الصّوت بأقصى الطّاقة ، وقد يكون معهما بكاء ، وقد لا يكون ، ويرد الصّراخ أيضاً لرفع الصّوت على سبيل الاستغاثة .
ب - النّياح :
3 - النّياح والنّياحة لغةً : البكاء بصوتٍ على الميّت . وقال في المصباح ، وهو قريب ممّا جاء في القاموس : ناحت المرأة على الميّت نوحاً من باب قال ، والاسم النّواح وزان غرابٍ ، وربّما قيل : النّياح بالكسر ، فهي نائحة ، والنّياحة بالكسر : الاسم منه ، والمناحة بفتح الميم : موضع النّوح . ج النّدب :
4 - النّدب لغةً : الدّعاء إلى الأمر والحثّ عليه . والنّدب : البكاء على الميّت وتعداد محاسنه . والاسم : النّدبة . د - النّحب ، أو النّحيب :
5 - النّحب لغةً : أشدّ البكاء ، كالنّحيب . العويل :
6 - العويل : هو رفع الصّوت بالبكاء ، يقال : أعولت المرأة إعوالاً وعويلاً . هذا ويتّضح ممّا تقدّم أنّ النّحيب والعويل معناهما البكاء الشّديد ، وأنّ الصّراخ والصّياح متقاربان في المعنى ، وأنّ النّواح يأتي بمعنى البكاء على الميّت ، وأنّ النّدب هو تعداد محاسن الميّت ، وأنّ البكاء ما كان مصحوباً بصوتٍ ، والبكى ما كان بلا صوتٍ ، بأن كان قاصراً على خروج الدّمع . أسباب البكاء :
7 - للبكاء أسباب ، منها : خشية اللّه تعالى ، والحزن ، وشدّة الفرح . الحكم التّكليفيّ للبكاء في المصيبة :
8 - البكاء قد يكون قاصراً على خروج الدّمع فقط بلا صوتٍ ، أو بصوتٍ لا يمكن الاحتراز عنه ، وقد يكون مصحوباً بصوتٍ كصراخٍ أو نواحٍ أو ندبٍ وغيرها ، وهذا يختلف باختلاف من يصدر منه البكاء ، فمن النّاس من يقدر على كتمان الحزن ، ويملك السّيطرة على مشاعره ، ومنهم من لا يستطيع ذلك . فإن كان البكاء مجرّداً عن فعل اليد ، كشقّ جيبٍ أو لطمٍ ، وعن فعل اللّسان ، كالصّراخ ودعوى الويل والثّبور ونحو ذلك ، فإنّه مباح لقوله صلى الله عليه وسلم { إنّه مهما كان من العين والقلب فمن اللّه عزّ وجلّ ومن الرّحمة ، وما كان من اليد واللّسان فمن الشّيطان } ولقوله صلى الله عليه وسلم أيضاً { إنّ اللّه لا يعذّب بدمع العين ولا بحزن القلب ، ولكن يعذّب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم } . أمّا حكم البكاء في غير هذه الحالة فسيأتي فيما بعد .
البكاء من خشية اللّه تعالى :
9 - المؤمن يعيش في جهادٍ مع نفسه ، ويراقب اللّه في جميع أفعاله وتصرّفاته ، فهو يخاف اللّه ، ويبكي عند ذكره سبحانه تعالى ، فهذا من المخبتين الّذين بشّرهم اللّه سبحانه وتعالى بقوله : { وبشّر المخبتين الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم والصّابرين على ما أصابهم والمقيمي الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون } وهم الّذين عناهم اللّه بقوله : { إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربّهم يتوكّلون } . وممّا قاله القرطبيّ في تفسير هذه الآية ، مع الإشارة إلى غيرها من الآيات القريبة منها في المعنى : وصف اللّه تعالى المؤمنين في هذه الآية بالخوف والوجل عند ذكره ، وذلك لقوّة إيمانهم ومراعاتهم لربّهم ، وكأنّهم بين يديه ، ونظير هذه الآية { وبشّر المخبتين الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم } وقال : { الّذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكر اللّه } ، فهذا يرجع إلى كمال المعرفة وثقة القلب ، والوجل : الفزع من عذاب اللّه ، فلا تناقض ، وقد جمع اللّه بين المعنيين في قوله تعالى : { اللّه نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعرّ منه جلود الّذين يخشون ربّهم ثمّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر اللّه } أي تسكن نفوسهم مع اللّه من حيث اليقين ، وإن كانوا يخافون اللّه .
10 - فهذه حالة العارفين باللّه ، الخائفين من سطوته وعقوبته . لا كما يفعله جهّال العوّام والمبتدعة الطّغام ، من الزّعيق والزّئير ومن النّهاق الّذي يشبه نهاق الحمير ، فيقال لمن تعاطى ذلك ، وزعم أنّ ذلك وجد وخشوع : لم تبلغ أن تساوي حال الرّسول ولا حال أصحابه في المعرفة باللّه ، والخوف منه ، والتّعظيم لجلاله ، ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن اللّه والبكاء خوفاً من اللّه ، ولذلك وصف اللّه أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه فقال : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ يقولون ربّنا آمنا فاكتبنا مع الشّاهدين } . فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم ، ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم ، فمن كان مستنّاً فليستنّ بهم ، ومن تعاطى أحوال المجانين والجنون فهو من أخسّهم حالاً ، والجنون فنون . روى مسلم عن أنس بن مالكٍ { أنّ النّاس سألوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى أحفّوه في المسألة ، فخرج ذات يومٍ ، فصعد المنبر ، فقال : سلوني ، لا تسألوني عن شيءٍ إلاّ بيّنته لكم ، ما دمت في مقامي هذا . فلمّا سمع ذلك القوم أرموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمرٍ قد حضر ، قال أنس : فجعلت ألتفت يميناً وشمالاً فإذا كلّ إنسانٍ لافّ رأسه في ثوبه يبكي ... } . وذكر الحديث . وروى التّرمذيّ وصحّحه عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : { وعظنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغةً ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب } . الحديث . ولم يقل : زعقنا ولا رقصنا ولا زفنا ولا قمنا . وقال صاحب روح المعاني في تفسير قوله تعالى : { الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم } أي خافت قلوبهم منه عزّ وجلّ لإشراق أشعّة الجلال عليها .
11 - والبكاء خشيةً من اللّه له أثره في العمل ، وفي غفران الذّنوب ، ويدلّ لذلك ما رواه التّرمذيّ عن ابن عبّاسٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { عينان لا تمسّهما النّار : عين بكت من خشية اللّه ، وعين باتت تحرس في سبيل اللّه } . قال صاحب تحفة الأحوذيّ : قوله : { عينان لا تمسّهما النّار } أي لا تمسّ صاحبهما ، فعبّر بالجزء عن الجملة ، وعبّر بالمسّ إشارةً إلى امتناع ما فوقه بالأولى ، وفي روايةٍ : « أبداً " وفي روايةٍ : { لا يقربان النّار } . وقد ذكر صاحب روح المعاني أخباراً وردت في مدح البكاء خشيةً من اللّه تعالى ، من بينها هذا الحديث المتقدّم . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { لا يلج النّار رجل بكى من خشية اللّه تعالى حتّى يعود اللّبن في الضّرع ، ولا يجتمع على عبدٍ غبار في سبيل اللّه تعالى ودخان جهنّم } .
البكاء في الصّلاة :
12 - يرى الحنفيّة أنّ البكاء في الصّلاة إن كان سببه ألماً أو مصيبةً فإنّه يفسد الصّلاة ، لأنّه يعتبر من كلام النّاس ، وإن كان سببه ذكر الجنّة أو النّار فإنّه لا يفسدها ، لأنّه يدلّ على زيادة الخشوع ، وهو المقصود في الصّلاة ، فكان في معنى التّسبيح أو الدّعاء . ويدلّ على هذا حديث الرّسول صلى الله عليه وسلم { أنّه كان يصلّي باللّيل وله أزيز كأزيز المرجل من البكاء } . وعن أبي يوسف أنّ هذا التّفصيل فيما إذا كان على أكثر من حرفين ، أو على حرفين أصليّين ، أمّا إذا كان على حرفين من حروف الزّيادة ، أو أحدها من حروف الزّيادة والآخر أصليّ ، لا تفسد في الوجهين معاً ، وحروف الزّيادة عشرة يجمعها قولك : أمان وتسهيل . وحاصل مذهب المالكيّة في هذا : أنّ البكاء في الصّلاة إمّا أن يكون بصوتٍ ، وإمّا أن يكون بلا صوتٍ ، فإن كان البكاء بلا صوتٍ فإنّه لا يبطل الصّلاة ، سواء أكان بغير اختيارٍ ، بأن غلبه البكاء تخشّعاً أو لمصيبةٍ ، أم كان اختياريّاً ما لم يكثر ذلك في الاختياريّ . وأمّا إذا كان البكاء بصوتٍ ، فإن كان اختياريّاً فإنّه يبطل الصّلاة ، سواء كان لمصيبةٍ أم لتخشّعٍ ، وإن كان بغير اختياره ، بأن غلبه البكاء تخشّعاً لم يبطل ، وإن كثر ، وإن غلبه البكاء بغير تخشّعٍ أبطل . هذا وقد ذكر الدّسوقيّ أنّ البكاء بصوتٍ ، إن كان لمصيبةٍ أو لوجعٍ من غير غلبةٍ أو لخشوعٍ فهو حينئذٍ كالكلام ، يفرّق بين عمده وسهوه ، أي فالعمد مبطل مطلقاً ، قلّ أو كثر ، والسّهو يبطل إن كان كثيراً ، ويسجد له إن قلّ . وأمّا عند الشّافعيّة ، فإنّ البكاء في الصّلاة على الوجه الأصحّ إن ظهر به حرفان فإنّه يبطل الصّلاة ، لوجود ما ينافيها ، حتّى وإن كان البكاء من خوف الآخرة . وعلى مقابل الأصحّ : لا يبطل لأنّه لا يسمّى كلاماً في اللّغة ، ولا يفهم منه شيء ، فكان أشبه بالصّوت المجرّد . وأمّا الحنابلة فإنّهم يرون أنّه إن بان حرفان من بكاءٍ ، أو تأوّهٍ خشيةً ، أو أنينٍ في الصّلاة لم تبطل ، لأنّه يجري مجرى الذّكر ، وقيل : إن غلبه وإلاّ بطلت ، كما لو لم يكن خشيةً ، لأنّه يقع على الهجاء ، ويدلّ بنفسه على المعنى كالكلام ، قال أحمد في الأنين : إذا كان غالباً أكرهه ، أي من وجعٍ ، وإن استدعى البكاء فيها كره كالضّحك وإلاّ فلا .
البكاء عند قراءة القرآن :
13 - البكاء عند قراءة القرآن مستحبّ ، ويفهم ذلك من قوله تعالى في سورة الإسراء { ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً } . قال القرطبيّ : هذا مدح لهم ، وحقّ لكلّ من توسّم بالعلم ، وحصل منه شيئاً أن يجري إلى هذه المرتبة ، فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذلّ . وقال الزّمخشريّ في الكشّاف في تفسير قوله تعالى : { ويزيدهم خشوعاً } أي يزيدهم لين قلبٍ ورطوبة عينٍ . وقال الطّبريّ عند الكلام على هذه الآية : يقول تعالى ذكره . ويخرّ هؤلاء الّذين أوتوا العلم من مؤمني أهل الكتابين ، من قبل نزول الفرقان ، إذا يتلى عليه القرآن لأذقانهم يبكون ، ويزيدهم ما في القرآن من المواعظ والعبر خشوعاً ، يعني خضوعاً لأمر اللّه وطاعته استكانةً له . ويفهم استحباب البكاء أيضاً عند قراءة القرآن بما أخرجه ابن ماجه وإسحاق بن راهويه والبزّار في مسنديهما من حديث سعد بن أبي وقّاصٍ رضي الله عنه مرفوعاً : { إنّ هذا القرآن نزل بحزنٍ ، فإذا قرأتموه فابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا } .
البكاء عند الموت وبعده :
14 - اتّفق الفقهاء على أنّ البكاء إن كان قاصراً على خروج الدّمع فقط بلا صوتٍ فإنّه جائز ، قبل الموت وبعده ، ومثله غلبة البكاء بصوتٍ إذا لم يقدر على ردّه ، ومثله حزن القلب . واتّفقوا أيضاً على تحريم النّدب بتعداد محاسن الميّت برفع صوتٍ ، إلاّ ما نقل في الفروع عن بعض الحنابلة . واتّفقوا على تحريم النّواح وشقّ الجيب أو الثّوب ولطم الخدّ وما أشبه ذلك ، إلاّ أنّ الحنفيّة عبّروا في ذلك بالكراهة ، ومرادهم الكراهة التّحريميّة ، وبذلك لا يكون بين الفقهاء في ذلك خلاف . وأمّا إذا كان البكاء بصوتٍ وغير مصحوبٍ بنياحةٍ وندبٍ أو شقّ جيبٍ أو نحو ذلك ، فيرى الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة أنّه جائز ، واشترط المالكيّة عدم الاجتماع للبكاء ، وإلاّ كره . وللشّافعيّة تفصيل أتى به القليوبيّ ، فقال : إنّ البكاء على الميّت إن كان لخوفٍ عليه من هول يوم القيامة ونحوه فلا بأس به ، أو لمحبّةٍ ورقّةٍ كطفلٍ فكذلك ، ولكنّ الصّبر أجمل ، أو لصلاحٍ وبركةٍ وشجاعةٍ وفقد نحو علمٍ فمندوب ، أو لفقد صلةٍ وبرٍّ وقيامٍ بمصلحةٍ فمكروه ، أو لعدم تسليمٍ للقضاء وعدم الرّضى به فحرام . وقال الشّافعيّ : يجوز البكاء قبل الموت ، فإذا مات أمسكن . واستدلّ بحديث النّسائيّ عن جابر بن عتيكٍ كما يأتي قريباً . والفقهاء فيما قالوه في ذلك استدلّوا بما ورد في السّنّة ، فقد أخرج التّرمذيّ عن جابرٍ رضي الله عنه قال : { أخذ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بيد عبد الرّحمن بن عوفٍ رضي الله عنه فانطلق به إلى ابنه إبراهيم ، فوجده يجود بنفسه ، فأخذه النّبيّ صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره فبكى ، فقال له عبد الرّحمن : أتبكي ؟ أولم تكن نهيت عن البكاء ؟ قال : لا . ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوتٍ عند مصيبةٍ ، خمش وجوهٍ وشقّ جيوبٍ ورنّة شيطانٍ } . وقد أخرج البخاريّ عن عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : { ليس منّا من لطم الخدود وشقّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهليّة } . فهذا يدلّ على عدم جواز ما ذكر فيه من اللّطم وشقّ الجيب ودعوى الجاهليّة . وأخرج النّسائيّ عن جابر بن عتيكٍ رضي الله عنه : { أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد اللّه بن ثابتٍ فوجده قد غلب ، فصاح النّسوة وبكين ، فجعل ابن عتيكٍ يسكتهنّ ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : دعهنّ ، فإذا وجب فلا تبكين باكية . قالوا : وما الوجوب يا رسول اللّه ؟ قال : الموت } .
البكاء عند زيارة القبر :
15 - البكاء عند زيارة القبر جائز ، والدّليل على ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : { زار النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبر أمّه فبكى ، وأبكى من حوله ... } إلخ الحديث .
اجتماع النّساء للبكاء :
16 - اجتماع النّساء للبكاء عند المالكيّة مكروه إن كان بلا صوتٍ ، وحرام إن كان معه صوت . والشّافعيّة لا يجيزون الاجتماع للبكاء . ولم يتعرّض الحنفيّة ولا الحنابلة لاجتماع النّساء للبكاء . على أنّ الفقهاء متّفقون على جواز البكاء بالدّمع فقط بلا صوتٍ ، وإنّما تأتي الكراهة أو التّحريم على ما إذا قصد الاجتماع له . هذا ، وإذا كان اجتماع النّساء للبكاء مكروهاً أو محرّماً فكراهة أو تحريم اجتماع الرّجال له أولى ، وإنّما خصّ الفقهاء النّساء بالذّكر لأنّ هذا شأنهنّ .
أثر بكاء المولود عند الولادة :
17 - إذا بكى المولود عند ولادته ، بأن استهلّ صارخاً ، فإنّ ذلك يدلّ على تحقّق حياته ، سواء انفصل بالكلّيّة كما عند الشّافعيّة ، أم لم ينفصل كما عند الحنفيّة . فإن لم يبك ، ولم توجد منه علامة تدلّ على الحياة فلا يحكم بحياته . فإن بدا منه ما يدلّ على حياته ، كالبكاء والصّراخ ونحو ذلك ، فإنّه يعطى حكم الأحياء ، فيسمّى ويرث ، ويقتصّ من قاتله عمداً ، ويستحقّ مواليه الدّية في غير العمد فإن مات بعد تحقّق حياته فإنّه يغسّل ويصلّى عليه ويورث . وتفصيل ذلك يرجع إليه في مصطلح ( استهلال ) .
أثر بكاء البكر عند الاستئذان لتزويجها :
18 - إذا استؤذنت البكر في النّكاح فبكت ، فإنّ للفقهاء في دلالته على الرّضا وعدمه اتّجاهاتٍ ثلاثةً :
أ - فالحنفيّة والشّافعيّة يقولون : إن كان البكاء بلا صوتٍ فيدلّ على الرّضا ، وإن كان بصوتٍ فلا يدلّ على الرّضا .
ب - والمالكيّة يقولون : إنّ بكاء البكر غير المجبرة ، وهي الّتي يزوّجها غير الأب من الأولياء ، يعتبر رضاً ، لاحتمال أنّ هذا البكاء إنّما هو لفقد الأب مثلاً ، فإن علم أنّه للمنع من الزّواج لم يكن رضاً .
ج - والحنابلة يقولون : إنّ البكاء إذن في النّكاح ، لما روى أبو هريرة قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { تستأمر اليتيمة فإذا بكت أو سكتت فهو رضاها ، وإن أبت فلا جواز عليها } ولأنّها غير ناطقةٍ بالامتناع مع سماع الاستئذان ، فكان ذلك إذناً منها كالصّمات . والبكاء يدلّ على فرط الحياء لا الكراهة . ولو كرهت لامتنعت ، فإنّها لا تستحي من الامتناع .
بكاء المرء هل يكون دليلاً على صدق مقاله :
19 - بكاء المرء لا يدلّ على صدق مقاله ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى في سورة يوسف { وجاءوا أباهم عشاءً يبكون } . فإنّ إخوة يوسف تصنّعوا البكاء ليصدّقهم أبوهم بما أخبروه به ، مع أنّ الّذي أخبروه به كذب ، هم الّذين دبّروه وفعلوه . قال القرطبيّ قال علماؤنا : هذه الآية دليل على أنّ بكاء المرء لا يدلّ على صدق مقاله ، لاحتمال أن يكون تصنّعاً ، فمن الخلق من يقدر على ذلك ، وفيهم من لا يقدر ، وقد قيل : إنّ الدّمع المصنوع لا يخفى . كما قال حكيم : إذا اشتبكت دموع في خدودٍ تبيّن من بكى ممّن تباكى .
بكارة
التّعريف
1 - البكارة ( بالفتح ) لغةً : عذرة المرأة ، وهي الجلدة الّتي على القبل . والبكر : المرأة الّتي لم تفتضّ ، ويقال للرّجل : بكر ، إذا لم يقرب النّساء ، ومنه حديث { البكر بالبكر جلد مائةٍ ونفي سنةٍ } . والبكر اصطلاحاً عند الحنفيّة : اسم لامرأةٍ لم تجامع بنكاحٍ ولا غيره ، فمن زالت بكارتها بغير جماعٍ كوثبةٍ ، أو درور حيضٍ ، أو حصول جراحةٍ ، أو تعنيسٍ : بأن طال مكثها بعد إدراكها في منزل أهلها حتّى خرجت عن عداد الأبكار فهي بكر حقيقةً وحكماً . وعرّفها المالكيّة : بأنّها الّتي لم توطأ بعقدٍ صحيحٍ ، أو فاسدٍ جرى مجرى الصّحيح . وقيل : إنّها الّتي لم تزل بكارتها أصلاً .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - العذرة :
2 - العذرة لغةً : الجلدة الّتي على المحلّ . ومنه العذراء ، وهي : المرأة الّتي لم تزل بكارتها بمزيلٍ . فالعذراء : ترادف البكر لغةً وعرفاً ، وقد يفرّقون بينهما ، فيطلقون العذراء على من لم تزل بكارتها أصلاً ، وقال الدّردير : إذا جرى العرف بالتّسوية بينهما يعتبر .
ب - الثّيوبة :
3 - الثّيوبة : زوال البكارة بالوطء ولو حراماً . والثّيّب لغةً : ضدّ البكر ، فهي الّتي تزوّجت فثابت ، وفارقت زوجها بأيّ وجهٍ كان بعد أن مسّها ، وعن الأصمعيّ أنّ الثّيّب : هو الرّجل أو المرأة بعد الدّخول . والثّيّب اصطلاحاً : من زالت بكارتها بالوطء ولو حراماً . والثّيّب والبكر ضدّان . ما تثبت به البكارة عند التّنازع :
4 - أجاز جمهور الفقهاء قبول شهادة النّساء في البكارة والثّيوبة . واختلفوا في العدد المشترط : فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ البكارة تثبت بشهادة امرأةٍ ثقةٍ ، والثّنتان أحوط وأوثق . وأجاز أبو الخطّاب من الحنابلة شهادة الرّجل في ذلك . وذهب المالكيّة - على ما صرّح به خليل والدّردير في شرحيه - إلى أنّها تثبت بشهادة امرأتين . لكن قال الدّسوقيّ في باب النّكاح : إن أتى الرّجل بامرأتين ، أو امرأةٍ واحدةٍ تشهد له على ما تصدّق فيه الزّوجة قبلت . وقال الشّافعيّة : تثبت البكارة بشهادة رجلين ، أو رجلٍ وامرأتين ، أو شهادة أربع نسوةٍ . ومناط قول شهادة المرأة في إثبات البكارة أنّ موضعها عورة لا يطّلع عليه الرّجال إلاّ للضّرورة ، وروى مالك عن الزّهريّ : { مضت السّنّة أنّه تجوز شهادة النّساء فيما لا يطّلع عليه غيرهنّ ، من ولادة النّساء وعيوبهنّ } . وقيس على ذلك البكارة والثّيوبة . وتثبت البكارة كذلك باليمين حسب التّفصيل الّذي سيأتي .
أثر البكارة في عقد النّكاح : ما يكون به إذن البكر :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّ سكوت البكر البالغة عند استئذانها في النّكاح إذن منها ، لحديث : { البكر تستأذن في نفسها ، وإذنها صماتها } . ولما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { الأيّم أحقّ بنفسها من وليّها ، والبكر تستأذن في نفسها ، وإذنها صماتها } . ومثل السّكوت : الضّحك بغير استهزاءٍ ، لأنّه أدلّ على الرّضا من السّكوت ، وكذا التّبسّم والبكاء بلا صوتٍ ، لدلالة بكاها على الرّضا ضمناً . والمعوّل عليه اعتبار قرائن الأحوال في البكاء والضّحك ، فإن تعارضت أو أشكل احتيط . واستئمار البكر البالغة العاقلة مندوب عند الجمهور ، لأنّ لوليّها الحقّ في إجبارها على النّكاح . وسنّة عند الحنفيّة ، لأنّه ليس لوليّها حقّ الإجبار . وتفصيل ذلك في مصطلح ( نكاح ) .
6- وقد ذكر المالكيّة أبكاراً لا يكتفى بصمتهنّ ، بل لا بدّ من إذنهنّ بالقول عند استئذانهنّ في النّكاح :
أ - بكر رشّدها أبوها أو وصيّه بعد بلوغها ، لأنّه لا جبر لأبيها عليها ، لما قام بها من حسن التّصرّف على المعروف في المذهب .
ب - بكر مجبرة عضلها أبوها ، أي منعها من النّكاح لا لمصلحتها ، بل للإضرار بها ، فرفعت أمرها للحاكم ، فأراد تزويجها لامتناع أبيها ، وزوّجها .
ج - بكر يتيمة مهملة لا أب لها ولا وصيّ ، خيف فسادها بفقرٍ أو زنًى أو عدم حاضنٍ شرعيٍّ في قولٍ ، والمعتمد أنّها تجبر .
د - بكر غير مجبرةٍ ، افتيت عليها ، زوّجها وليّها غير المجبر - وهو غير الأب ووصيّه - بغير إذنها ، ثمّ أنهى إليها الخبر فرضيت .
هـ - بكر أريد تزويجها لذي عيبٍ موجبٍ لخيارها ، كجنونٍ وجذامٍ وبرصٍ . والتّفصيل في مصطلح ( نكاح ) .
اشتراط الوليّ وعدمه :
7 - البكر إن كانت صغيرةً فالإجماع على أنّها لا تزوّج نفسها ، بل يزوّجها وليّها . وأمّا إن كانت كبيرةً ، فجمهور الفقهاء من السّلف والخلف على أنّها لا تزوّج نفسها ، وإنّما يزوّجها وليّها ، وعند المالكيّة : ولو كانت عانساً بلغت السّتّين في مشهور المذهب . وذهب الحنفيّة إلى أنّه ليس لوليّها حقّ إجبارها ، ولها أن تزوّج نفسها ، فإن زوّجت نفسها بغير كفءٍ ، أو بدون مهر المثل ، فلوليّها حقّ طلب الفسخ ما لم تحمل . وروي عن أبي يوسف أنّ نكاح الحرّة البالغة العاقلة إذا كانت بكراً لا ينعقد إلاّ بوليٍّ ، وعن محمّدٍ ينعقد موقوفاً . والتّفصيل في مصطلح ( نكاح ) .
متى يرتفع الإجبار مع وجود البكارة :
8 - أ - يرى المالكيّة أنّ الأب لا يجبر بكراً رشّدها - إن بلغت - بأن قال لها : رشّدتك ، أو أطلقت يدك ، أو رفعت الحجر عنك ، أو نحو ذلك . وثبت ترشيدها بإقراره ، أو ببيّنةٍ إن أنكر ، وحيث كانت لا تجبر فلا بدّ من نطقها وإذنها ، وهو المعروف في المذهب ، وقال ابن عبد البرّ : له جبرها .
ب - إذا عضل والد البكر المجبرة ، ومنعها من نكاح من ترغب فيه ، ورفعت أمرها للقضاء ، وثبت كفاءة من ترغب في زواجه يأمره الحاكم بتزويجها ، فإن امتنع ارتفع إجباره ، وزوّجها الحاكم ، ولا بدّ من نطقها برضاها بالزّوج وبالصّداق . ولا يختلف مذهب الشّافعيّة والحنابلة عن هذا إلاّ في بعض التّفصيلات ، كتكرار امتناع الوليّ العاضل مراراً .
ج - والبكر اليتيمة الصّغيرة إذا خيف فسادها ، يجبرها وليّها على التّزويج ، وتجب مشاورة القاضي على المعتمد عند المالكيّة . ولا خصوصيّة لهذا الحالة عند الحنفيّة ، لأنّ مطلق الصّغيرة - بكراً كانت أو ثيّباً - لوليّها إجبارها على النّكاح ، ثمّ إذا بلغت وكان الوليّ المجبر غير الأب أو الجدّ ثبت لها خيار البلوغ . وذهب الحنابلة - في روايةٍ - إلى أنّ الوليّ المجبر هو الأب فقط ، ولا يزوّج الصّغيرة غيره ولو كان جدّاً . وفي المذهب رواية أخرى كمذهب الحنفيّة . ويرى الشّافعيّة أنّ ولاية الإجبار في تزويج البكر هي للأب والجدّ وحدهما ، دون بقيّة الأولياء . فالبكر اليتيمة تنحصر ولاية إجبارها في الجدّ .
اشتراط الزّوج بكارة الزّوجة :
9 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ الرّجل لو تزوّج امرأةً على أنّها بكر ، فتبيّن بعد الدّخول أنّها ليست كذلك ، لزمه كلّ المهر ، لأنّ المهر شرع لمجرّد الاستمتاع دون البكارة ، وحملاً لأمرها على الصّلاح ، بأن زالت بوثبةٍ . فإن كان قد تزوّجها بأزيد من مهر مثلها على أنّها بكر ، فإذا هي غير بكرٍ ، لا تجب الزّيادة ، لأنّه قابل الزّيادة بما هو مرغوب فيه ، وقد فات ، فلا يجب ما قوبل به ، ولا يثبت بتخلّف شرط البكارة فسخ العقد . وعند المالكيّة : إذا تزوّج الرّجل امرأةً ظانّاً أنّها بكر ، ثمّ تبيّن أنّها ثيّب ، ولا علم عند أبيها ، فلا ردّ للزّوج بذلك ، إلاّ أن يقول : أتزوّجها بشرط أنّها ( عذراء ) وهي الّتي لم تزل بكارتها بمزيلٍ ، فإذا وجدها ثيّباً فله ردّها ، وسواء أعلم الوليّ أم لا ، وسواء أكانت الثّيوبة بنكاحٍ أم لا . وأمّا إذا شرط أنّها ( بكر ) فوجدها ثيّباً بغير وطء نكاحٍ ، ولم يعلم الأب بذلك ، ففيه تردّد ، قيل : يخيّر ، وقيل : لا ، وهو الأصوب لوقوع اسم البكارة عليها ، ولأنّ البكارة قد تزول بوثبةٍ ونحوها . وإن علم الأب بثيوبتها بلا وطءٍ وكتم ، فللزّوج الرّدّ على الأصحّ ، وأحرى بوطءٍ . ولو شرط البكارة ووجدها قد ثيبت بنكاحٍ ، فله الرّدّ مطلقاً علم الأب أم لا . وعند الشّافعيّة : لو نكح امرأةً بشرط بكارتها ، فتبيّن فوات الشّرط صحّ النّكاح في الأظهر ، لأنّ المعقود عليه معيّن لا يتبدّل بخلف الصّفة المشروطة والقول الثّاني عندهم : بطلانه ، لأنّ النّكاح يعتمد الصّفات والأسماء دون التّعيين والمشاهدة ، فيكون اختلاف الصّفّة فيه كاختلاف العين . وورد عن الحنابلة : إن شرط في التّزويج أن تكون بكراً فوجدها ثيّباً بالزّنى ملك الفسخ . وإن شرط أن تكون بكراً فبانت ثيّباً ، قال ابن قدامة : عن أحمد كلام يحتمل أمرين : أحدهما : لا خيار له ، لأنّ النّكاح لا يردّ فيه بعيبٍ سوى ثمانية عيوبٍ ، فلا يردّ منه بمخالفة الشّرط . والأمر الثّاني : له الخيار نصّاً ، لأنّه شرط وصفاً مرغوباً فيه ، فبانت بخلافه .
البكارة الحكميّة ، وأثرها في الإجبار ومعرفة إذنها :
10 - من زالت بكارتها بلا وطءٍ كوثبةٍ ، أو أصبعٍ ، أو حدة حيضٍ ، ونحو ذلك ، فهي بكر حقيقةً وحكماً ، ولا أثر لزوال بكارتها بما ذكر ونحوه في الإجبار والاستئذان ومعرفة إذنها ، لأنّها لم تمارس الرّجال بالوطء في محلّ البكارة ، ولأنّ الزّائل في هذه المسائل العذرة ، أي الجلدة الّتي على محلّ البكارة . وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . والأصحّ للشّافعيّة ، والثّاني لهؤلاء ، ولأبي يوسف ومحمّدٍ : أنّها كالثّيّب من حيث عدم الاكتفاء بسكوتها ، لزوال العذرة ، لأنّها ثيّب حقيقةً . وقال الحنفيّة : من زالت بكارتها بزنًى - إن لم يتكرّر ، ولم تحدّ به - هي بكر حكماً . والتّفصيل في مصطلح ( نكاح ) .
تعمّد إزالة العذرة بغير جماعٍ وأثر ذلك :
11 - اتّفق الحنفيّة ، والحنابلة ، والشّافعيّة في الأصحّ عندهم على أنّ الزّوج إذا تعمّد إزالة بكارة زوجته بغير جماعٍ ، كأصبعٍ ، لا شيء عليه . ووجهه عند الحنفيّة : أنّه لا فرق بين آلةٍ وآلةٍ في هذه الإزالة . وورد في أحكام الصّغار في الجنايات : أنّ الزّوج لو أزال عذرتها بالأصبع لا يضمن ، ويعزّر ، ومقتضاه أنّه مكروه فقط . وقال الحنابلة : إنّه أتلف ما يستحقّ إتلافه بالعقد ، فلا يضمن بغيره . وأمّا الشّافعيّة فقالوا : إنّ الإزالة من استحقاق الزّوج . والقول الثّاني لهم : إن أزال بغير ذكرٍ فأرش . وقال المالكيّة : إذا أزال الزّوج بكارة زوجته بأصبعه تعمّداً ، يلزمه حكومة عدلٍ ( أرش ) يقدّره القاضي ، وإزالة البكارة بالأصبع حرام ، ويؤدّب الزّوج عليه . والتّفصيل يكون في مصطلح ( نكاح ودية ) .
مقدار الصّداق بإزالة البكارة بالأصبع دون الجماع :
12 - يرى الحنفيّة أنّ الزّوج إذا أزال بكارة زوجته بغير جماعٍ ، ثمّ طلّقها قبل المسيس ، وجب لها جميع مهرها ، إن كان مسمًّى ولم يقبض ، وباقيه إن قبض بعضه ، لأنّ إزالة البكارة بأصبعٍ ونحوه لا يكون إلاّ في خلوةٍ . وقال المالكيّة : لو فعل الزّوج ما ذكر لزمه أرش البكارة الّتي أزالها بأصبعه ، مع نصف صداقها . وقال الشّافعيّة والحنابلة : يحكم لها بنصف صداقها ، لمفهوم قوله تعالى : { وإن طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضةً فنصف ما فرضتم } إذ المراد بالمسّ : الجماع ، ولا يستقرّ المهر باستمتاعٍ وإزالة بكارةٍ بلا آلةٍ ، فإن طلّقها وجب لها الشّطر دون أرش البكارة ، وعلّل الحنابلة زيادةً على الآية بأنّ هذه مطلّقة قبل المسيس والخلوة ، فلم يكن لها سوى نصف الصّداق المسمّى ، ولأنّه أتلف ما يستحقّ إتلافه بالعقد ، فلا يضمنه بغيره .
ادّعاء البكارة ، وأثر ذلك في الاستحلاف :
13 - يرى المالكيّة : أنّ من تزوّج امرأةً ظانّاً أنّها بكر ، وقال : إنّي وجدتها ثيّباً ، وقالت : بل وجدني بكراً ، فالقول قولها مع يمينها إن كانت رشيدةً ، سواء ادّعت أنّها الآن بكر ، أم ادّعى أنّها كانت بكراً ، وهو أزال بكارتها على المشهور في المذهب ، ولا يكشف عن حالها . فإن لم تكن رشيدةً ، وكانت لا تحسن التّصرّف ، أو صغيرةً ، يحلف أبوها ، ولا ينظرها النّساء جبراً عليها ، أو ابتداءً ، وأمّا برضاها فينظرنها ، فإن أتى الزّوج بامرأتين تشهدان له على ما هي مصدّقة فيه فإنّه يعمل بشهادتهما ، وكذا المرأة الواحدة . وحينئذٍ لا تصدّق الزّوجة ، وظاهره ولو حصلت الشّهادة بعد حلفها على ما ادّعت ، وإن كان الأب أو غيره من الأولياء عالماً بثيوبتها بلا وطءٍ من نكاحٍ ، بل بوثبةٍ ونحوها ، أو زنًى وكتم عن الزّوج ، فللزّوج الرّدّ على الأصحّ إن كان قد شرط بكارتها ، ويكون له الرّجوع بالصّداق على الأب ، وعلى غيره إن تولّى العقد . وأمّا إن كانت الثّيوبة من نكاحٍ فتردّ ، وإن لم يعلم الأب . والتّفصيل في مصطلح ( نكاح ، صداق ، عيب ) . وقال الشّافعيّة : تصدّق المرأة في دعوى بكارتها بلا يمينٍ ، وكذا في ثيوبتها ، إلاّ إذا ادّعت بعد العقد أنّها كانت ثيّباً قبله فلا بدّ من يمينها . وقال الخطيب الشّربينيّ : يصدّق الوليّ بيمينه هنا ، لئلاّ يلزم بطلان العقد ، ولا تسأل عن سبب زوال بكارتها . ولو أقام الوليّ بيّنةً ببكارتها قبل العقد لإجبارها قبلت ، ولو أقامت هي بيّنةً بعد العقد بزوال بكارتها قبل العقد لم يبطل العقد . وقال الحنابلة : من تزوّج امرأةً بشرط أنّها عذراء ، فادّعى بعد دخوله بها أنّه وجدها ثيّباً ، وأنكرت ذلك ، لا يقبل قوله بعد وطئه في عدم بكارتها ، لأنّ ذلك ممّا يخفى ، فلا يقبل في قوله بمجرّد دعواه . فإن شهدت امرأة عدل : أنّها كانت ثيّباً قبل الدّخول قبل قولها ويثبت له الخيار ، وإلاّ فلا . والتّفصيل في مصطلح ( نكاح ، صداق ، شرط )
بلاغ انظر : تبليغ .
بلعوم 1 - البلعوم لغةً واصطلاحاً : هو مجرى الطّعام والشّراب ، وموضع الابتلاع من الحلق . أحكام تتعلّق بالبلعوم : البلعوم - باعتباره مجرى الطّعام والشّراب بين آخر الفم ( أي أقصاه ، وهو اللّهاة ) والمعدة - تجري عليه أحكام ، منها ما يتعلّق بما يفطر به الصّائم ، ومنها ما يتعلّق بالتّذكية وقطع البلعوم فيها ، ومنها ما يتعلّق بالجناية عليه والدّية فيه .
أ - ما يتعلّق بالصّوم ومفطراته :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ كلّ ما أدخل في البلعوم من طعامٍ أو شرابٍ أو دواءٍ في فترة الصّوم فإنّه يفطر في الجملة . وفي ذلك تفصيلات تنظر في ( الصّوم ) . وإن استقاء وجاوز القيء البلعوم أفطر عند بعض الفقهاء . وفي ذلك خلاف وتفصيل ينظر في ( الصّوم ) أيضاً .
ب - ما يتعلّق بالتّذكية :
3 - اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على ضرورة قطع البلعوم أثناء الذّبح ، ضمن ما يقطع من عروقٍ في المذبوح معلومةٍ . وهي الحلقوم وهو : مجرى النّفس ، والودجان وهما : عرقان في جانبي العنق بينهما الحلقوم والمريء ، ويتّصل بهما أكثر عروق البدن ، ويتّصلان بالدّماغ . هذا بالإضافة إلى المريء ( البلعوم ) . أمّا المالكيّة فلم يشترطوا قطعه ، بل قالوا بقطع جميع الحلقوم ، وقطع جميع الودجين . وفيما يجزئ في الذّبح خلاف ، مجمله فيما يلي : ذهب الحنفيّة إلى أنّ الذّابح إن قطع جميعها حلّ الأكل ، لوجود الذّكاة . وكذلك إن قطع ثلاثة منها ، أيّ ثلاثةٍ كانت . وقال أبو يوسف : لا بدّ من قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين . وقال محمّد : إنّه يعتبر الأكثر من كلّ عرقٍ ، وذكر القدوريّ قول محمّدٍ مع أبي يوسف ، وحمل الكرخيّ قول أبي حنيفة " وإن قطع أكثرها حلّ " على ما قاله محمّد ، والصّحيح أنّ قطع أيّ ثلاثةٍ منها يكفي . وعند الشّافعيّة : يستحبّ قطع الحلقوم والمريء والودجين ، لأنّه أسرع وأروح للذّبيحة ، فإن اقتصر على قطع الحلقوم والمريء أجزأه ، لأنّ الحلقوم مجرى النّفس ، والمريء مجرى الطّعام ، والرّوح لا تبقى مع قطعهما . وشرط المالكيّة قطع جميع الحلقوم ، وهو القصبة الّتي يجري فيها النّفس ، وقطع جميع الودجين ، ولم يشترطوا قطع المريء . أمّا الحنابلة فاشترطوا قطع الحلقوم والمريء ، واكتفوا بقطع البعض منهما ، ولم يشترطوا إبانتهما ، لأنّه قطع في محلّ الذّبح ما لا تبقى الحياة معه ، واشترطوا فري الودجين ، وذكر ابن تيميّة وجهاً أنّه يكفي قطع ثلاثةٍ من الأربعة ، وقال : إنّه الأقوى ، وسئل عمّن قطع الحلقوم والودجين لكن فوق الجوزة ؟ فقال : هذا فيه نزاع ، والصّحيح أنّها تحلّ . والتّفصيل يرجع فيه إلى : ( تذكية ) .
ج - ما يتعلّق بالجناية :
4 - الفقهاء متّفقون على أنّ الجروح - فيما عدا الرّأس والوجه - تنقسم إلى جائفةٍ وغير جائفةٍ . قال الشّافعيّة والحنابلة : إنّ الجائفة هي الّتي تصل إلى الجوف من البطن أو الظّهر أو الورك أو الثّغر ( ثغرة النّحر ) أو الحلق أو المثانة ، وقال الحنفيّة : إنّ ما وصل من الرّقبة إلى الموضع الّذي لو وصل إليه من الشّراب قطرة لأفطر يكون جائفةً ، لأنّه لا يفطر إلاّ إذا كان وصل إلى الجوف . وفي الجائفة ثلث الدّية ، فإن نفذت فهي جائفتان قال عليه الصلاة والسلام { في الجائفة ثلث الدّية } وعن أبي بكرٍ رضي الله عنه أنّه حكم في جائفةٍ نفذت بثلث الدّية لأنّها إن نفذت فهي جائفتان ، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . أمّا المالكيّة فقد قالوا : إنّ الجائفة مختصّة بالبطن والظّهر ، وفيها ثلث من الدّية المخمّسة ، فإن نفذت فهي جائفتان . والتّفصيل في ( الجنايات ، والدّيات ) .
بلغم انظر : نخامة .
بلوغ
التّعريف
1 - البلوغ لغةً : الوصول ، يقال بلغ الشّيء يبلغ بلوغاً وبلاغاً : وصل وانتهى ، وبلغ الصّبيّ : احتلم وأدرك وقت التّكليف ، وكذلك بلغت الفتاة . واصطلاحاً : انتهاء حدّ الصّغر في الإنسان ، ليكون أهلاً للتّكاليف الشّرعيّة . أو هو : قوّة تحدث في الصّبيّ ، يخرج بها عن حالة الطّفوليّة إلى غيرها .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - الكبر :
2 - الكبر والصّغر معنيان إضافيّان ، فقد يكون الشّيء كبيراً بالنّسبة لآخر ، صغيراً لغيره ، ولكنّ الفقهاء يطلقون الكبر في السّنّ على معنيين . الأوّل : أن يبلغ الإنسان مبلغ الشّيخوخة والضّعف بعد تجاوزه مرحلة الكهولة . الثّاني : أن يراد به الخروج عن حدّ الصّغر بدخول مرحلة الشّباب ، فيكون بمعنى البلوغ المصطلح عليه .
ب - الإدراك :
3 - الإدراك : لغةً مصدر أدرك ، وأدرك الصّبيّ والفتاة : إذا بلغا . ويطلق الإدراك في اللّغة ويراد به : اللّحاق ، يقال : مشيت حتّى أدركته . ويراد به أيضاً : البلوغ في الحيوان والثّمر . كما يستعمل في الرّؤية فيقال : أدركته ببصري : أي رأيته . وقد استعمل الفقهاء الإدراك بمعنى : بلوغ الحلم ، فيكون مساوياً للفظ البلوغ بهذا الإطلاق ، ويطلق بعض الفقهاء الإدراك ويريدون به أوان النّضج . ج الحلم والاحتلام :
4 - الاحتلام : مصدر احتلم ، والحلم : اسم المصدر . وهو لغةً : رؤيا النّائم مطلقاً ، خيراً كان المرئيّ أو شرّاً . وفرّق الشّارع بينهما ، فخصّ الرّؤيا بالخير ، وخصّ الحلم بضدّه . ثمّ استعمل الاحتلام والحلم بمعنًى أخصّ من ذلك ، وهو : أن يرى النّائم أنّه يجامع ، سواء أكان مع ذلك إنزال أم لا ثمّ استعمل هذا اللّفظ بمعنى البلوغ ، وعلى هذا يكون الحلم والاحتلام والبلوغ بهذا المعنى ألفاظاً مترادفةً .
د - المراهقة : د 5 - المراهقة : مقاربة البلوغ ، وراهق الغلام والفتاة مراهقةً : قاربا البلوغ ، ولم يبلغا ، ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ . وبهذا تكون المراهقة والبلوغ لفظين متباينين .
هـ - الأشدّ :
6 - الأشدّ لغةً : بلوغ الرّجل الحنكة والمعرفة . والأشدّ : طور يبتدئ بعد انتهاء حدّ الصّغر ، أي من وقت بلوغ الإنسان مبلغ الرّجال إلى سنّ الأربعين ، وقد يطلق الأشدّ على الإدراك والبلوغ . وقيل : أن يؤنس منه الرّشد مع أن يكون بالغاً . فالأشدّ مساوٍ للبلوغ في بعض إطلاقاته . الرّشد :
7 - الرّشد لغةً : خلاف الضّلال . والرّشد ، والرّشد ، والرّشاد : نقيض الضّلال ، وهو : إصابة وجه الأمر والاهتداء إلى الطّريق . والرّشد في اصطلاح الفقهاء : الصّلاح في المال لا غير عند أكثر العلماء ، منهم : أبو حنيفة ومالك وأحمد . وقال الحسن والشّافعيّ وابن المنذر : الصّلاح في الدّين والمال . والتّفصيل في مصطلح ( رشد ) ( والولاية على المال ) . وليس للرّشد سنّ معيّنة ، وقد يحصل قبل البلوغ ، وهذا نادر لا حكم له ، وقد يحصل مع البلوغ أو بعده ، وفي استعمال الفقهاء : كلّ رشيدٍ بالغ ، وليس كلّ بالغٍ رشيداً . علامات البلوغ الطّبيعيّة في الذّكر ، والأنثى ، والخنثى :
8 - للبلوغ علامات طبيعيّة ظاهرة ، منها ما هو مشترك بين الذّكر والأنثى ، ومنها ما يختصّ بأحدهما . وفيما يلي بيان العلامات المشتركة : الاحتلام :
9 - الاحتلام : خروج المنيّ من الرّجل أو المرأة في يقظةٍ أو منامٍ لوقت إمكانه . لقوله تعالى : { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا } ولحديث : { خذ من كلّ حالمٍ ديناراً } . الإنبات :
10 - الإنبات : ظهور شعر العانة ، وهو الّذي يحتاج في إزالته إلى نحو حلقٍ ، دون الزّغب الضّعيف الّذي ينبت للصّغير . ونجد في كلام بعض المالكيّة والحنابلة : أنّ الإنبات إذا جلب واستعمل بوسائل صناعيّةٍ من الأدوية ونحوها فإنّه لا يكون مثبتاً للبلوغ ، قالوا : لأنّه قد يستعجل الإنبات بالدّواء ونحوه لتحصيل الولايات والحقوق الّتي للبالغين . وقد اختلف الفقهاء في اعتبار الإنبات علامةً على البلوغ ، على أقوالٍ ثلاثةٍ :
11 - الأوّل : أنّ الإنبات ليس بعلامةٍ على البلوغ مطلقاً . أي لا في حقّ اللّه ولا في حقّ العباد . وهو قول أبي حنيفة ، ورواية عن مالكٍ على ما في باب القذف من المدوّنة ، ونحوه لابن القاسم في باب القطع في السّرقة ، قال الدّسوقيّ : وظاهره لا فرق بين حقّ اللّه وحقّ الآدميّين .
12 - الثّاني : أنّ الإنبات علامة البلوغ مطلقاً . وهو مذهب المالكيّة والحنابلة ، ورواية عن أبي يوسف ذكرها ابن عابدين وصاحب الجوهرة ، إلاّ أنّ ابن حجرٍ نقل أنّ مالكاً لا يقيم الحدّ على من لم يثبت بلوغه بغير الإنبات ، لأنّ الشّبهة فيه تمنع من إقامة الحدّ ، واحتجّ أصحاب هذا القول بحديثٍ نبويٍّ ، وآثارٍ عن الصّحابة . فأمّا الحديث : فما ورد أنّ { النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا حكّم سعد بن معاذٍ في بني قريظة ، فحكم بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريّهم ، وأمر أن يكشف عن مؤتزرهم ، فمن أنبت فهو من المقاتلة ، ومن لم ينبت فهو من الذّرّيّة . بلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : لقد حكمت فيهم بحكم اللّه من فوق سبعة أرقعةٍ } ومن هنا قال عطيّة بن كعبٍ القرظيّ : كنت معهم يوم قريظة . فأمر أن ينظر إليّ هل أنبتّ ، فكشفوا عانتي ، فوجدوها لم تنبت ، فجعلوني في السّبي . وأمّا ما ورد عن الصّحابة ، فمنه أنّ عمر رضي الله عنه كتب إلى عامله أن لا يقتل إلاّ من جرت عليه المواسي ، ولا يأخذ الجزية إلاّ ممّن جرت عليه المواسي وأنّ غلاماً من الأنصار شبّب بامرأةٍ في شعره ، فرفع إلى عمر فلم يجده أنبت فقال : لو أنبتّ الشّعر لحددتك .
13 - القول الثّالث : أنّ الإنبات بلوغ في بعض الصّور دون بعضٍ . وهو قول الشّافعيّة ، وبعض المالكيّة . فيرى الشّافعيّة أنّ الإنبات يقتضي الحكم ببلوغ ولد الكافر ، ومن جهل إسلامه ، دون المسلم والمسلمة . وهو عندهم أمارة على البلوغ بالسّنّ أو بالإنزال ، وليس بلوغاً حقيقةً . قالوا : ولهذا لو لم يحتلم ، وشهد عدلان بأنّ عمره دون خمسة عشرة سنةً ، لم يحكم ببلوغه بالإنبات . وإنّما فرّقوا بينه وبين المسلم في ذلك لسهولة مراجعة آباء المسلم وأقاربه من المسلمين ، ولأنّ الصّبيّ المسلم متّهم في الإنبات ، فربّما تعجّله بدواءٍ دفعاً للحجر عن نفسه وتشوّفاً للولايات ، بخلاف الكافر فإنّه لا يستعجله .
14 - ويرى بعض المالكيّة أنّ الإنبات يقبل علامةً في أعمّ ممّا ذهب إليه الشّافعيّة ، فقد قال ابن رشدٍ : إنّ الإنبات علامة فيما بين الشّخص وبين غيره من الآدميّين من قذفٍ وقطعٍ وقتلٍ . وأمّا فيما بين الشّخص وبين اللّه تعالى فلا خلاف - يعني عند المالكيّة - أنّه ليس بعلامةٍ . وبنى بعض المالكيّة على هذا القول أنّه ليس على من أنبت ، ولم يحتلم إثم في ترك الواجبات وارتكاب المحرّمات ، ولا يلزمه في الباطن عتق ولا حدّ ، وإن كان الحاكم يلزمه ذلك ، لأنّه ينظر فيه ويحكم بما ظهر له والحجّة للطّرفين الحديث المتقدّم ذكره الوارد في شأن بني قريظة . أمّا الشّافعيّة فقد قصروا حكمه على مخرجه ، فإنّ بني قريظة كانوا كفّاراً ، وابن رشدٍ ومن معه من المالكيّة جعلوه فيما هو أعمّ من ذلك ، أي في الأحكام الظّاهرة ، بنوعٍ من القياس .
ما تختصّ به الأنثى من علامات البلوغ :
15 - تزيد الأنثى وتختصّ بعلامتين : هما الحيض ، إذ هو علم على بلوغها لحديث : { لا يقبل اللّه صلاة حائضٍ إلاّ بخمارٍ } . وخصّ المالكيّة الحيض بالّذي لم يتسبّب في جلبه ، وإلاّ فلا يكون علامةً . والحمل علامة على بلوغ الأنثى ، لأنّ اللّه تعالى أجرى العادة أنّ الولد يخلق من ماء الرّجال وماء المرأة . قال تعالى : { فلينظر الإنسان ممّ خلق خلق من ماءٍ دافقٍ يخرج من بين الصّلب والتّرائب } فإذا وجد واحد من العلامات السّابقة حكم بالبلوغ على الوجه المتقدّم ، وإن لم يوجد كان البلوغ بالسّنّ على النّحو المبيّن في مواطنه من البحث .
16 - واعتبر المالكيّة من علامات البلوغ في الذّكر والأنثى - زيادةً على ما تقدّم - نتن الإبط ، وفرق الأرنبة ، وغلظ الصّوت . واعتبر الشّافعيّة أيضاً من علامات البلوغ في الذّكر - زيادةً على ما سبق - نبات الشّعر الخشن للشّارب ، وثقل الصّوت ، ونتوء طرف الحلقوم ، ونحو ذلك . وفي الأنثى نهود الثّدي .
علامات البلوغ الطّبيعيّة لدى الخنثى :
17 - الخنثى إن كان غير مشكلٍ ، وألحق بالذّكور أو الإناث ، فعلامة بلوغه بحسب النّوع الّذي ألحق به . أمّا الخنثى المشكل فعلامات البلوغ الطّبيعيّة لديه كعلامات البلوغ لدى الذّكور أو الإناث ، فيحكم ببلوغه بالإنزال أو الإنبات أو غيرهما من العلامات المشتركة أو الخاصّة ، على التّفصيل المتقدّم ، وهذا قول المالكيّة والحنابلة ، وهو قول بعض الشّافعيّة . أمّا القول الثّاني ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة : أنّه لا بدّ من وجود العلامة في الفرجين جميعاً ، فلو أمنى الخنثى من ذكره ، وحاضت من فرجها ، أو أمنى منهما جميعاً حكم ببلوغه ، أمّا لو أمنى من ذكره فقط ، أو حاضت من فرجها فقط فلا يحكم بالبلوغ .
18 - واستدلّ ابن قدامة من الحنابلة على الاكتفاء بأيّ العلامتين تظهر أوّلاً ، بأنّ خروج منيّ الرّجل من المرأة مستحيل ، وخروج الحيض من الرّجل مستحيل ، فكان خروج أيٍّ منهما دليلاً على تعيين كون الخنثى أنثى أو ذكراً ، فإذا ثبت التّعيين لزم كونه دليلاً على البلوغ ، كما لو تعيّن قبل خروجه ، ولأنّه منيّ خارج من ذكرٍ ، أو حيض خارج من فرجٍ ، فكان علماً على البلوغ ، كالمنيّ الخارج من الغلام ، والحيض الخارج من الجارية . قال : ولأنّهم سلّموا أنّ خروجهما معاً دليل البلوغ ، فخروج أحدهما أولى ، لأنّ خروجهما معاً يقتضي تعارضهما وإسقاط دلالتهما ، إذ لا يتصوّر حيض صحيح ومنيّ رجلٍ . فيلزم أن يكون أحدهما فضلةً خارجةً من غير محلّها ، وليس أحدهما أولى بذلك من الآخر ، فتبطل دلالتهما ، كالبيّنتين إذا تعارضتا ، أمّا إن وجد الخروج من أحدهما من غير معارضٍ ، وجب أن يثبت حكمه ، ويقضى بثبوت دلالته .
19 - وأمّا الحنفيّة فلم نجد - في ما اطّلعنا عليه - من كلامهم تعرّضاً صريحاً لهذه المسألة ، ولكن يبدو أنّ قول الحنفيّة كقول المالكيّة والحنابلة ، لظاهر ما في شرح الأشباه من قوله في باب أحكام الخنثى : إذا كان الخنثى بالغاً ، بأن بلغ بالسّنّ ، ولم يظهر شيء من علامات الرّجال أو النّساء ، لا تجزيه الصّلاة بغير قناعٍ ، لأنّ الرّأس من الحرّة عورة .
البلوغ بالسّنّ :
20 - جعل الشّارع البلوغ أمارةً على أوّل كمال العقل ، لأنّ الاطّلاع على أوّل كمال العقل متعذّر ، فأقيم البلوغ مقامه . والبلوغ بالسّنّ : يكون عند عدم وجود علامةٍ من علامات البلوغ قبل ذلك ، واختلف الفقهاء في سنّ البلوغ . فيرى الشّافعيّة ، والحنابلة ، وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة : أنّ البلوغ بالسّنّ يكون بتمام خمس عشرة سنةً قمريّةً للذّكر والأنثى ، كما صرّح الشّافعيّة بأنّها تحديديّة ، لخبر ابن عمر { عرضت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحدٍ ، وأنا ابن أربع عشرة سنةً فلم يجزني ، ولم يرني بلغت ، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنةً فأجازني ، ورآني بلغت } . قال الشّافعيّ : ردّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سبعة عشر من الصّحابة ، وهم أبناء أربع عشرة سنةً ، لأنّه لم يرهم بلغوا ، ثمّ عرضوا عليه وهم من أبناء خمس عشرة فأجازهم ، منهم : زيد بن ثابتٍ ورافع بن خديجٍ وابن عمر . ويرى المالكيّة أنّ البلوغ يكون بتمام ثماني عشرة سنةً ، وقيل بالدّخول فيها ، وقد أورد الحطّاب خمسة أقوالٍ في المذهب ، ففي روايةٍ : ثمانية عشر ، وقيل : سبعة عشر ، وزاد بعض شرّاح الرّسالة : ستّة عشرة ، وتسعة عشر ، وروي عن ابن وهبٍ خمسة عشر ، لحديث ابن عمر السّابق . ويرى أبو حنيفة : أنّ البلوغ بالسّنّ للغلام هو بلوغه ثماني عشرة سنةً ، والجارية سبع عشرة سنةً لقوله تعالى : { ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالّتي هي أحسن حتّى يبلغ أشدّه } قال ابن عبّاسٍ رضي الله عنه : الأشدّ ثماني عشرة سنةً . وهي أقلّ ما قيل فيه ، فأخذ به احتياطاً ، هذا أشدّ الصّبيّ ، والأنثى أسرع بلوغاً فنقصت سنةً .
السّنّ الأدنى للبلوغ الّذي لا تصحّ دعوى البلوغ قبله :
21 - السّنّ الأدنى للبلوغ في الذّكر : عند المالكيّة والشّافعيّة باستكمال تسع سنين قمريّةٍ بالتّمام ، وفي وجهٍ آخر للشّافعيّة : مضيّ نصف التّاسعة ، ذكره النّوويّ في شرح المهذّب . وعند الحنفيّة : اثنتا عشرة سنةً . وعند الحنابلة : عشر سنين . ويقبل إقرار الوليّ بأنّ الصّبيّ بلغ بالاحتلام ، إذا بلغ عشر سنين . والسّنّ الأدنى للبلوغ في الأنثى : تسع سنين قمريّةٍ عند الحنفيّة ، والشّافعيّة على الأظهر عندهم ، وكذا الحنابلة لأنّه أقلّ سنٍّ تحيض له المرأة ، ولحديث : { إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة } والمراد حكمها حكم المرأة ، وفي روايةٍ للشّافعيّة : نصف التّاسعة ، وقيل : الدّخول في التّاسعة ، ولأنّ هذا أقلّ سنٍّ لحيض الفتاة . والسّنّ الأدنى للبلوغ في الخنثى : تسع سنين قمريّةٍ بالتّمام ، وقيل نصف التّاسعة ، وقيل : الدّخول فيها .
إثبات البلوغ : يثبت البلوغ بالطّرق الآتية : الطّريق الأولى : الإقرار :
22 - تتّفق كلمة الفقهاء في المذاهب الأربعة على أنّ الصّغير إذا كان مراهقاً ، وأقرّ بالبلوغ بشيءٍ من العلامات الطّبيعيّة الّتي تخفى عادةً ، كالإنزال والاحتلام والحيض ، يصحّ إقراره ، وتثبت له أحكام البالغ فيما له وما عليه . قال المالكيّة : يقبل قوله في البلوغ نفياً وإثباتاً ، طالباً أو مطلوباً . فالطّالب كمن ادّعى البلوغ ليأخذ سهمه في الغنيمة ، أو ليؤمّ النّاس ، أو ليكمل العدد في صلاة الجمعة . والمطلوب كجانٍ ادّعى عدم البلوغ ليدرأ عن نفسه الحدّ أو القصاص أو الغرامة في إتلاف الوديعة ، وكمطلّقٍ ادّعى عدم البلوغ عند الطّلاق ، لئلاّ يقع عليه الطّلاق . ويشترط لقبول قوله أن يكون قد جاوز السّنّ الأدنى للبلوغ ، بل لا تقبل البيّنة ببلوغه قبل ذلك . فعند الحنفيّة : لا يقبل إقرار الصّبيّ قبل تمام اثني عشر عاماً ، وعند الحنابلة لا يقبل إقراره بذلك قبل تمام العاشرة ، وعند كليهما : لا يقبل إقرار الصّبيّة به قبل تمام التّاسعة ، ووجه صحّة الإقرار بالبلوغ : أنّه معنًى لا يعرف إلاّ من قبل الشّخص نفسه ، وفي تكليف الاطّلاع عليه عسر شديد ، ولا يكلّف البيّنة على ذلك . ولا يحلف أيضاً حتّى عند الخصومة ، فإن لم يكن في الحقيقة بالغاً فلا قيمة ليمينه ، لعدم الاعتداد بيمين الصّغير ، وإن كان بالغاً فيمينه تحصيل حاصلٍ ، وقد استثنى الشّافعيّة بعض الصّور يحلف فيها احتياطاً ، لكنّه يزاحم غيره في الحقوق ، كما لو طلب في الغنيمة سهم مقاتلٍ 23 - واشترط الفقهاء في المذاهب الأربعة لصحّة إقراره بذلك : أن لا يكون بحالٍ مريبةٍ ، أو كما عبّر الشّافعيّ رحمه الله : يقبل إن أشبه ، فإن لم يشبه لم يقبل ، ولو صدّقه أبوه . وعبّر الحنفيّة بقولهم إن لم يكذّبه الظّاهر ، بل يكون بحالٍ يحتلم مثله . والمراد أن يكون حال جسمه عند الإقرار حال البالغين ، ولا يشكّ في صدقه . هكذا أطلق فقهاء المذاهب - ما عدا المالكيّة - قبول قوله ، وفصّل المالكيّة فقالوا : إن ارتيب فيه يصدّق فيما يتعلّق بالجناية والطّلاق ، فلا يحدّ للشّبهة ، ولا يقع عليه الطّلاق استصحاباً لأصل الصّغر ، ولا يصدّق فيما يتعلّق بالمال ، فلو أقرّ بإتلاف الوديعة ، وأنّه بالغ ، فقال أبوه : إنّه غير بالغٍ ، فلا ضمان . وقد تعرّض بعض المالكيّة لقبول قول المراهقين في البلوغ إن ادّعياه بالإنبات . والفرق بين الإنبات وبين غيره من العلامات الطّبيعيّة الّتي ذكرت سابقاً : أنّه يسهل الاطّلاع عليه . وقد أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالكشف عمّن شكّ في بلوغه من غلمان بني قريظة . إلاّ أنّ كون العورة في الأصل يحرم كشفها ، دعا إلى قول الفقهاء إنّه يقبل قول الشّخص المشكوك فيه في نباتها وعدمه ، إلاّ أنّ ابن العربيّ المالكيّ خالف في ذلك وقال : إنّه ينبغي أن ينظر إليها ، ولكن لا ينظر مباشرةً بل من خلال المرآة . وردّ كلامه ابن القطّان من المالكيّة وقال : لا ينظر إليها مباشرةً ، ولا من خلال المرآة ، ويقبل كلامه إن ادّعى البلوغ بالإنبات .
البلوغ شرط للزوم الأحكام الشّرعيّة عند الفقهاء :
24 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الشّارع ربط التّكليف بالواجبات والمحرّمات ولزوم آثار الأحكام في الجملة بشرط البلوغ ، واستدلّوا على ذلك بأدلّةٍ منها :
أ - قول اللّه تعالى : { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الّذين من قبلهم } جعل البلوغ موجباً للاستئذان .
ب - ومنها قوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتّى إذا بلغوا النّكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } جعل بلوغ النّكاح موجباً لارتفاع الولاية الماليّة عن اليتيم ، بشرط كونه راشداً .
ج - ومنها قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمعاذٍ لمّا أرسله إلى اليمن : { خذ من كلّ حالمٍ ديناراً أو عدله معافريّاً } جعل الاحتلام موجباً للجزية .
د - ومنها ما حصل يوم قريظة ، من أنّ من اشتبهوا في بلوغه من الأسرى كان إذا أنبت قتل ، فإن لم يكن أنبت لم يقتل . فجعل الإنبات علامةً لجواز قتل الأسير .
هـ - ومنها قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { لا يقبل اللّه صلاة حائضٍ إلاّ بخمارٍ } فجعل الحيض من المرأة موجباً لفساد صلاتها ، إن صلّت بغير خمارٍ .
و - ومنها حديث : { غسل يوم الجمعة واجب على كلّ محتلمٍ } بوّب عليه البخاريّ " باب بلوغ الصّبيان وشهادتهم " قال ابن حجرٍ : ويستفاد مقصود التّرجمة - يعني شهادة الصّبيان - بالقياس على بقيّة الأحكام من حيث تعلّق الوجوب بالاحتلام .
ز - ومنها حديث : { رفع القلم عن ثلاثةٍ : عن الصّغير حتّى يكبر ... } جعل الخروج عن حدّ الصّغير موجباً لكتابة الإثم ، على من فعل ما يوجبه . فهذه الأدلّة وأمثالها - ممّا يأتي في شأن علامات البلوغ - تدلّ على أنّ الشّارع ربط التّكليف ولزوم الأحكام عامّةً بشرط البلوغ ، فمن اعتبر بالغاً بأيّ علامةٍ من علامات البلوغ فهو رجل تامّ أو امرأة تامّة ، مكلّف - إن كان عاقلاً - كغيره من الرّجال والنّساء ، يلزمه ما يلزمهم ، وحقّ له ما يحقّ لهم . وقد نقل بعضهم الإجماع على ذلك ، فقال ابن المنذر : وأجمعوا على أنّ الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل . وقال ابن حجرٍ : أجمع العلماء على أنّ الاحتلام في الرّجال والنّساء يلزم به العبادات والحدود وسائر الأحكام .
ما يشترط له البلوغ من الأحكام :
أ - ما يشترط لوجوبه البلوغ :
25 - التّكليف بالفرائض والواجبات وترك المحرّمات يشترط له البلوغ ، ولا تجب على غير البالغ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { رفع القلم عن ثلاثةٍ : عن الصّغير حتّى يكبر ... } الحديث ، وذلك كالصّلاة والصّوم والحجّ على أنّ في الزّكاة خلافاً . ومع هذا ينبغي لوليّ الصّغير أن يجنّبه المحرّمات ، وأن يأمره بالصّلاة ونحوها ليعتادها ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { مروا أبناءكم بالصّلاة لسبعٍ ، واضربوهم عليها لعشرٍ ، وفرّقوا بينهم في المضاجع } . ومع هذا إذا أدّاها الصّغير ، أو فعل المستحبّات تصحّ منه ، ويؤجر عليها . ولا يجب القصاص والحدود ، كحدّ السّرقة وحدّ القذف ولكن يجوز أن يؤدّب .
ب - ما يشترط لصحّته البلوغ :
26 - البلوغ شرط صحّةٍ في كلّ ما يشترط له تمام الأهليّة ، ومن ذلك : الولايات كلّها ، كالإمارة والقضاء والولاية على النّفس والشّهادة في الجملة . ومن ذلك التّصرّفات المتمحّضة للضّرر كالهبة والعاريّة والوقف والكفالة . ومن ذلك أيضاً : الطّلاق ، وما في معناه كالظّهار والإيلاء والخلع والعتق ، وكذلك النّذر . وينظر تفصيل كلّ ذلك في موطنه ، وفي مصطلح ( صغر ) .
ما يثبت بطروء البلوغ من الأحكام :
27 - من الصّعوبة بمكانٍ حصر جميع الأحكام الّتي تثبت بمجرّد طروء البلوغ ، وفيما يلي بعض الأمثلة للأحكام الّتي تثبت بمجرّد أن يحتلم الصّبيّ أو الصّبيّة ، أو يريا أيّة علامةٍ من علامات البلوغ : أوّلاً في باب الطّهارة : إعادة التّيمّم :
28 - عند الشّافعيّة والحنابلة إذا تيمّم ، وهو غير بالغٍ ، ثمّ بلغ بما لا ينقض الطّهارة كالسّنّ ، لزمه أن يعيد التّيمّم إن أراد أن يصلّي الفرض ، لأنّ تيمّمه قبل بلوغه كان لنافلةٍ ، إذ أنّه لو تيمّم للظّهر مثلاً فقد كانت في حقّه نافلةً ، فلا يستبيح به الفرض ، وهذا بخلاف من توضّأ أو اغتسل ثمّ بلغ ، لا يلزمه إعادتهما ، لأنّ الوضوء والغسل للنّافلة يرفعان الحدث من أصله . أمّا التّيمّم فهو مبيح وليس رافعاً ، والمشهور من مذهب المالكيّة كذلك : أنّه مبيح لا رافع . أمّا مذهب الحنفيّة ، وهو قول عند المالكيّة فهو أنّ التّيمّم رافع للحدث إلى وقت وجود الماء مع القدرة على استعماله ، وهذا يقتضي أن ليس على الصّبيّ إذا تيمّم ، ثمّ بلغ إعادة التّيمّم .
ثانياً - في باب الصّلاة :
29 - تجب على الصّبيّ أو الصّبيّة الصّلاة الّتي بلغ في وقتها إن لم يكن قد صلّاها إجماعاً ، حتّى المالكيّة - الّذين قالوا : يحرم تأخير الصّلاة إلى الوقت الضّروريّ ، أي للعصر في الجزء الآخر من وقتها ، والصّبح كذلك - قالوا : لو بلغ في الوقت الضّروريّ فعليه أن يصلّيها ، ولا حرمة عليه . 30 - ولو أنّه صلّى صلاة الوقت ، ثمّ بلغ قبل خروج وقتها ، لزمه إعادتها ، وذلك لأنّ الصّلاة الّتي صلّاها قبل البلوغ نفل في حقّه ، لعدم وجوبها عليه ، فلم تجزئه عن الواجب ، هذا مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . ونصّ المالكيّة أيضاً على أنّه لو صلّى الظّهر ، ثمّ بلغ قبل صلاة الجمعة ، تجب عليه الجمعة مع النّاس . وكذا إن صلّى الجمعة ، ثمّ بلغ ووجد جمعةً أخرى ، وجب عليه الإعادة معهم ، وإن فاتته الجمعة أعادها ظهراً ، لأنّ فعله الأوّل - ولو جمعةً - وقع نفلاً ، فلا يجزئ عن الفرض . أمّا مذهب الشّافعيّة ، فهو أنّه لا يلزم الصّبيّ الإعادة إذا بلغ في الوقت وقد صلّى ، قالوا : لأنّه أدّى وظيفة الوقت . ولو أنّه بلغ في أثناء الصّلاة يلزمه إتمام الصّلاة الّتي هو فيها ، ولا يجب عليه إعادتها ، بل تستحبّ . 31 - تجب عليه الصّلاة الّتي بلغ في وقتها ، كما تقدّم ، ويجب عليه مع ذلك أن يصلّي الصّلاة الّتي تجمع إلى الحاضرة قبلها ، فلو بلغ قبل أن تغرب الشّمس وجب عليه أن يصلّي الظّهر والعصر ، ولو بلغ قبل الفجر وجب عليه أن يصلّي المغرب والعشاء . قال ابن قدامة : روي هذا القول عن عبد الرّحمن بن عوفٍ وابن عبّاسٍ وطاووسٍ ومجاهدٍ والنّخعيّ والزّهريّ وربيعة ، وهو قول مالكٍ والشّافعيّ واللّيث وإسحاق وأبي ثورٍ وعامّة التّابعين ، إلاّ أنّ مالكاً قال : لا تجب الأولى إلاّ بإدراك ما يسع خمس ركعاتٍ أي الصّلاة الأولى منهما كاملةً وركعةً واحدةً على الأقلّ من الثّانية . وعند الحنابلة : لو أدرك ما يسع تكبيرة إحرامٍ فقد لزمته الصّلاتان . وعند الشّافعيّة : بإدراك ركعةٍ واحدةٍ . ووجه هذا القول : أنّ وقت الثّانية هو وقت للأولى حال العذر ، أي لأنّه يمكن في حال السّفر أو نحوه أن يؤخّر الظّهر إلى العصر ، والمغرب إلى العشاء ، فوقت العصر وقت للظّهر من وجهٍ ، وكذلك المغرب والعشاء ، فكأنّه بإدراكه وقت الثّانية مدرك للأولى أيضاً . وخالف في هذه المسألة الحنفيّة والثّوريّ والحسن البصريّ ، فرأوا أنّه يصلّي الصّلاة الّتي بلغ في وقتها فقط .
ثالثاً - الصّوم :
32 - إن بيّت الصّبيّ الصّوم في رمضان ، ثمّ بلغ أثناء النّهار وهو صائم ، فإنّه يجب عليه إتمام صومه بغير خلافٍ ، لأنّه - كما قال الرّمليّ الشّافعيّ - صار من أهل الوجوب في أثناء العبادة ، فأشبه ما لو دخل البالغ في صوم تطوّعٍ ، ثمّ نذر إتمامه . فإن صام في تلك الحال فلا قضاء عليه إلاّ في وجهٍ عند الحنابلة . أمّا إن بيّت الإفطار ، ثمّ بلغ أثناء النّهار ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك في موضعين : في حكم الإمساك بقيّة النّهار ، وفي حكم قضاء ذلك اليوم . 33 - فأمّا الإمساك فقد اختلفوا فيه : فذهب الحنفيّة والحنابلة - وهو قول لدى الشّافعيّة - إلى أنّه يجب عليه الإمساك بقيّة اليوم ، لإدراكه وقت الإمساك ، وإن لم يدرك وقت الصّوم . واحتجّوا بما ورد في فرض عاشوراء - قبل أن ينسخ بفرض رمضان - فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { من كان منكم أصبح مفطراً فليمسك بقيّة يومه ، ومن كان أصبح صائماً فليتمّ صومه } قالوا : والأمر يقتضي الوجوب ، وذلك لحرمة الشّهر . وذهب الشّافعيّة - في الأصحّ عندهم - إلى أنّ الإمساك في تلك الحال مستحبّ ، وليس واجباً . وإنّما استحبّوه لحرمة الوقت . ولم يجب الإمساك في تلك الحال ، لأنّه أفطر بعذرٍ هو الصّغر ، فأشبه المسافر إذا قدم ، والمريض إذا برأ . وذهب المالكيّة إلى أنّ الإمساك حينئذٍ لا يجب ولا يستحبّ ، ككلّ صاحب عذرٍ يباح لأجله الفطر . 34 - وأمّا القضاء قد اختلفوا فيه كذلك : فذهب الشّافعيّة - في قولٍ - إلى أنّ القضاء واجب ، وفصّل الحنابلة بين من أصبح مفطراً ، ثمّ بلغ في أثناء النّهار ، فالقضاء واجب عليه ، لأنّه أدرك جزءاً من وقت الوجوب ، ولا يمكن فعله إلاّ بصومٍ كاملٍ . وبين من بيّت الصّوم من اللّيل ، وأصبح صائماً ثمّ بلغ ، فلا قضاء عليه ، خلافاً لأبي الخطّاب منهم . وقال الحنفيّة والمالكيّة ، والشّافعيّة في الأصحّ عندهم : لا يجب القضاء لعدم تمكّنه من زمنٍ يسع الكلّ . وفرّقوا بين ذلك وبين الصّلاة ، إذ يجب فعلها لمن بلغ في الوقت ، لأنّ السّبب فيها الجزء المتّصل بأدائها ، فوجدت الأهليّة عنده ، وأمّا الصّوم فالسّبب فيه الجزء الأوّل والأهليّة منعدمة فيه ، وبهذا علّله الحنفيّة . هذا وقد ورد في المغني أنّ الأوزاعيّ كان يرى أنّ الصّبيّ إذا بلغ أثناء شهر رمضان ، يلزمه قضاء الأيّام الّتي سبقت بلوغه من الشّهر ، إن كان قد أفطرها ، وهو خلاف ما عليه عامّة أهل العلم .
رابعاً : الزّكاة :
35 - اختلف في وجوب الزّكاة على من لم يبلغ . فذهب جمهور الفقهاء إلى وجوبها ، لتعلّق الوجوب بالمال . وذهب الحنفيّة إلى أنّها لا تجب ، لأنّها عبادة تلزم الشّخص المكلّف ، والصّبيّ ليس من أهل التّكليف . فعلى هذا إذا بلغ الصّبيّ : فعند الحنفيّة يبدأ حول زكاته من حين بلوغه ، إن كان يملك نصاباً . أمّا عند غير الحنفيّة : فالحول الّذي بدأ قبل البلوغ ممتدّ بعده . وعند غير الحنفيّة كذلك يلزم الصّبيّ إذا بلغ راشداً أداء الزّكاة ، لما مضى من الأعوام ، منذ دخل المال في ملكه ، إن لم يكن وليّه يخرج عنه الزّكاة . أمّا إن بلغ سفيهاً ، فاستمرّ الحجر عليه ، فإنّه عند الحنفيّة يؤدّيها بنفسه لاشتراط النّيّة ، ولا يقوم عنه وليّه في ذلك . قالوا : غير أنّه يدفع القاضي إليه قدر الزّكاة ليفرّقها ، لكن يبعث معه أميناً ، كي لا يصرفها في غير وجهها ، بخلاف النّفقات الواجبة على السّفيه لأقاربه مثلاً ، فإنّ وليّه يتولّى دفعها لعدم اشتراط النّيّة فيها . أمّا عند الشّافعيّة ، قد قال الرّمليّ : لا يفرّق السّفيه الزّكاة بنفسه ، لكن إن أذن له الوليّ ، وعيّن المدفوع له ، صحّ صرفه ، كما يجوز للأجنبيّ توكيله فيه . وينبغي أن يكون تفريقه الزّكاة بحضرة الوليّ أو نائبه ، لاحتمال تلف المال لو خلا به السّفيه ، أو دعواه صرفها كاذباً . ولم يتعرّض لكون الوليّ يخرجها أو يؤخّرها إلى الرّشد . ولم يتعرّض المالكيّة والحنابلة لهذه المسألة فيما رأيناه من كلامهم .
خامساً : الحجّ :
36 - إذا حجّ الصّغير ثمّ بلغ فعليه حجّة أخرى ، هي حجّة الإسلام بالنّسبة إليه ، ولا تجزئه الحجّة الّتي حجّها قبل البلوغ . نقل الإجماع على ذلك التّرمذيّ وابن المنذر ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { إنّي أريد أن أجدّد في صدور المؤمنين عهداً : أيّما مملوكٍ حجّ به أهله فمات قبل أن يعتق فقد قضى حجّه ، وإن عتق قبل أن يموت فليحجّ ، وأيّما غلامٍ حجّ به أهله قبل أن يدرك ، فقد قضى حجّته ، وإن بلغ فليحجج } ، ولأنّها عبادة بدنيّة فعلها قبل وقت الوجوب ، فلم يمنع ذلك وجوبها عليه في وقتها . قال الرّمليّ : والمعنى فيه : أنّ الحجّ وظيفة العمر ، لا تكرار فيه ، فاعتبر وقوعه في حالة الكمال . 37 - إذا بلغ المراهق ( أو المراهقة ) وهو محرم بعد أن تجاوز الميقات ، فإن كان بلوغه وهو واقف بعرفة ، أو قبل الوقوف ، أو كان بلوغه بعد الوقوف ، ولكن رجع فوقف بعرفاتٍ قبل الفجر من ليلة يوم النّحر ، وأتمّ المناسك كلّها ، فهل تجزئه ذلك عن حجّة الإسلام ؟ مذهب الشّافعيّ وأحمد : أنّ ذلك يجزئه عن حجّة الإسلام ، ولا دم عليه ، ولا يجدّد لحجّته تلك إحراماً ، لما ورد عن ابن عبّاسٍ أنّه قال : إذا عتق العبد بعرفة أجزأت عنه حجّته ، فإن عتق بجمعٍ - يعني المزدلفة - لم تجزئ عنه وقياساً على ما لو أحرم غيره من البالغين الأحرار بعرفة ، فإنّ ذلك يجزئه عن حجّة الإسلام إذا أتمّ مناسكه ، فكذلك من بلغ بعرفة . ومذهب الحنفيّة أنّ ذلك يجزئه بشرط أن يجدّد إحراماً بعد بلوغه قبل الوقوف ، فإن لم يجدّد إحراماً لم يجزئه ، لأنّ إحرامه انعقد نفلاً ، فلا ينقلب فرضاً . قالوا : والإحرام وإن كان شرطاً للحجّ إلاّ أنّه شبيه بالرّكن ، فاعتبرنا شبه الرّكن احتياطاً للعبادة . وفي روايةٍ عن الشّافعيّ - كما في مختصر المزنيّ - أنّ عليه في ذلك دماً ، أي لأنّه كمن جاوز الميقات غير محرم . ومذهب مالكٍ أنّ ذلك لا يجزئه عن حجّة الإسلام أصلاً . وليس له أن يجدّد إحرامه بعد بلوغه . ولكن عليه أن يمضي على إحرامه الّذي احتلم فيه ، ولا يجزئه من حجّة الإسلام . 38 - إذا تجاوز الصّبيّ الميقات غير محرمٍ ، ثمّ بلغ ، فأحرم من مكان دون الرّجوع إلى الميقات : يرى الحنفيّة والمالكيّة ، وهو رواية عند الحنابلة أنّه يجزئه ذلك ، وليس عليه دم ، لأنّه كالمكّيّ ومن كان منزله دون الميقات . ويرى الشّافعيّ ، وهو الرّواية الأخرى عن أحمد : أنّ عليه إن لم يرجع إلى الميقات دماً ، لأنّه تجاوز الميقات دون إحرامٍ .
سادساً : خيار البلوغ : تخيير الزّوج والزّوجة في الصّغر :
39 - يرى أكثر الحنفيّة : أنّ الصّغير أو الصّغيرة - ولو ثيّباً - إن زوّجهما غير الأب والجدّ ، كالأخ أو العمّ ، من كفءٍ وبمهر المثل ، صحّ النّكاح ، ولكن لهما خيار الفسخ بالبلوغ ، إذا علما بعقد النّكاح قبل البلوغ أو عنده ، أو علما بالنّكاح بعد البلوغ ، بأن بلغا ولم يعلما به ثمّ علما بعده ، فإن اختار الفسخ لا يتمّ الفسخ إلاّ بالقضاء ، لأنّ في أصله ضعفاً ، فيتوقّف على الرّجوع إلى القضاء . وقال أبو يوسف : لا خيار لهما ، اعتباراً بما لو زوّجهما الأب والجدّ ، ويبطل خيار البكر بالسّكوت لو مختارةً عالمةً بأصل النّكاح ، ولا يمتدّ إلى آخر مجلس بلوغها أو علمها بالنّكاح . أي إذا بلغت وهي عالمة بالنّكاح ، أو علمت به بعد بلوغها ، فلا بدّ من الفسخ في حال البلوغ أو العلم ، فلو سكتت - ولو قليلاً - بطل خيارها ، ولو قبل تبدّل المجلس . وكذا لا يمتدّ إلى آخر مجلس بلوغها أو علمها بالنّكاح ، بأن جهلت بأنّ لها خيار البلوغ ، أو بأنّه لا يمتدّ إلى آخر مجلس بلوغها ، فلا تعذر بدعوى جهلها أنّ لها الخيار ، لأنّ الدّار دار إسلامٍ ، فلا تعذر بالجهل ، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف . وقال محمّد : إنّ خيارها يمتدّ إلى أن تعلم أنّ لها خياراً ، وخيار الصّغير إذا بلغ والثّيّب - سواء أكانت ثيّباً في الأصل ، أو كانت بكراً ، ثمّ دخل بها ، ثمّ بلغت - لا يبطل بالسّكوت بلا صريح الرّضا ، أو دلالةٍ على الرّضا ، كقبلةٍ ولمسٍ ودفع مهرٍ ، ولا يبطل بقيامها عن المجلس ، لأنّ وقته العمر ، فيبقى الخيار حتّى يوجد الرّضا . وإذا زوّج القاضي صغيرةً من كفءٍ ، وكان أبوها أو جدّها فاسقاً ، فلها الخيار في أظهر الرّوايتين عند أبي حنيفة ، وهو قول محمّدٍ . 40 - وعند المالكيّة : إذا عقد للصّغير وليّه - أباً كان أو غيره - على شروطٍ شرطت حين العقد ، وكانت تلزم إن وقعت من مكلّفٍ - كأن اشترط لها في العقد أنّه إن تزوّج عليها فهي ، أو الّتي تزوّجها طالق - أو زوّج الصّغير نفسه بالشّروط وأجازها وليّه ، ثمّ بلغ وكره بعد بلوغه تلك الشّروط - والحال أنّه لم يدخل بها ، لا قبل البلوغ ولا بعده - عالماً بها ، فهو مخيّر بين التزامها وثبوت النّكاح ، وبين عدم التزامها وفسخ النّكاح بطلاقٍ ، ومحلّ ذلك ما لم ترض المرأة بإسقاط الشّروط . والصّغيرة في هذا حكمها حكم الصّغير . والتّفصيل في باب ( الولاية ) من كتب الفقه . وإن زوّج الصّغير نفسه بغير إذن وليّه ، فلوليّه فسخ عقده بطلاقٍ ، لأنّه نكاح صحيح ، غاية الأمر أنّه غير لازمٍ . وقال ابن الموّاز من المالكيّة : إذا لم يرد الوليّ نكاح الصّبيّ - والحال أنّ المصلحة في ردّه - حتّى كبر وخرج من الولاية جاز النّكاح ، وينبغي أن ينتقل النّظر إليه فيمضي أو يردّ ، ومفاده أنّ للصّغير حقّ الاختيار بعد بلوغه . والتّفصيل في باب ( الولاية ) . 41 - ويرى الشّافعيّة في قولٍ عندهم : أنّ الصّغير إذا زوّجه أبوه امرأةً معيبةً بعيبٍ صحّ النّكاح ، وثبت له الخيار - إذا بلغ - ولا يصحّ على المذهب لأنّه خلاف الغبطة . والصّغير إن زوّجه أبوه من لا تكافئه ، ففي الأصحّ أنّ نكاحه على هذا الوجه جائز ، لأنّ الرّجل لا يتعيّر باستفراش من لا تكافئه ، ولكن له الخيار . وهناك قول بعدم صحّة العقد ، لأنّ الولاية ولاية مصلحةٍ ، وليست المصلحة في تزويجه ممّن لا تكافئه . وإن زوّج الأب أو الجدّ الصّغيرة من غير كفءٍ يثبت لها الخيار إذا بلغت ، لوقوع النّكاح على الوجه المذكور صحيحاً على خلاف الأظهر ، والنّقص لعدم الكفاءة يقتضي الخيار . وعلى الأظهر : التّزويج باطل . 42 - وعند الحنابلة لا يجوز لغير الأب تزويج الصّغيرة ، فإن زوّجها الأب فلا خيار لها ، وإن زوّجها غير الأب فالنّكاح باطل . وفي روايةٍ : يصحّ تزويج غير الأب ، وتخيّر إذا بلغت ، كمذهب أبي حنيفة . وقيل : تخيّر إذا بلغت تسعاً . فإن طلقت قبله وقع الطّلاق وبطل خيارها . وكذا يبطل خيارها إن وطئها بعد أن تمّ لها تسع سنين ولم تخيّر . وليس لوليّ صغيرٍ تزويجه بمعيبةٍ بعيبٍ يردّ به في النّكاح ، وكذا ليس لوليّ الصّغيرة تزويجها بمعيبٍ بعيبٍ يردّ به في النّكاح ، لوجوب نظره لهما بما فيه الحظّ والمصلحة ، ولا حظّ لهما في هذا العقد ، فإن فعل وليّ غير المكلّف والمكلّفة بأن زوّجه بمعيبٍ يردّ به - عالماً بالعيب - لم يصحّ النّكاح ، لأنّه عقد لهما عقداً لا يجوز ، وإن لم يعلم الوليّ أنّه معيب صحّ العقد ، ووجب عليه الفسخ إذا علم . وهذا خلافاً لما ورد في المنتهى فيما يوهم إباحة الفسخ ، ومن الحنابلة من قال : لا يفسخ ، وينتظر البلوغ لاختيارهما . وتفصيل ما ذكر يرجع إليه في باب ( النّكاح ، والولاية ) .
سابعاً - انتهاء الولاية على النّفس بالبلوغ :
43 - عند الحنفيّة : تنتهي الولاية على النّفس بالنّسبة لولاية الإنكاح في الحرّة بالتّكليف ( البلوغ والعقل ) فيصحّ نكاح حرّةٍ مكلّفةٍ بلا رضى وليٍّ ، وتترتّب الأحكام من طلاقٍ وتوارثٍ وغيرهما . وتنتهي الحضانة للجارية البكر ببلوغها بما تبلغ به النّساء من الحيض ونحوه ، ويضمّها الأب إلى نفسه وإن لم يخف عليها الفساد ، لو كانت حديثة السّنّ ، والأخ والعمّ كذلك عند فقد الأب ما لم يخف عليها منهما ، فينظر القاضي امرأةً ثقةً فتسلّم إليها ، وتنتهي ولاية الأب على الأنثى إذا كانت مسنّةً ، واجتمع لها رأي ، فتسكن حيث أحبّت حيث لا خوف عليها ، وإن ثيّباً لا يضمّها إلاّ إذا لم تكن مأمونةً على نفسها ، فللأب والجدّ الضّمّ ، لا لغيرهما كما في الابتداء . وتنتهي ولاية الأب على الغلام إذا بلغ وعقل واستغنى برأيه ، إلاّ إذا لم يكن مأموناً على نفسه ، بأن يكون مفسداً مخوفاً عليه ، فللأب ولاية ضمّه إليه لدفع فتنةٍ أو عارٍ ، وتأديبه إذا وقع منه شيء ، والجدّ بمنزلة الأب فيما ذكر من أحكام البكر والثّيّب والغلام . وعند المالكيّة : تنتهي الولاية على النّفس بالنّسبة للصّغير ببلوغه الطّبيعيّ ، وهو بلوغ النّكاح ، فيذهب حيث شاء ، ولكن إذا كان يخشى عليه الفساد لجماله مثلاً ، أو كما إذا كان يصطحب الأشرار وتعوّد معهم أخلاقاً فاسدةً ، يبقى حتّى تستقيم أخلاقه . وإذا بلغ الذّكر رشيداً ذهب حيث يشاء ، لانقطاع الحجر عنه بالنّسبة لذاته ، وإذا بلغ الذّكر - ولو زمناً أو مجنوناً - سقطت عنه حضانة الأمّ على المشهور . وبالنّسبة للأنثى ، فتستمرّ الحضانة عليها والولاية على النّفس حتّى تتزوّج ، ويدخل بها الزّوج . وعند الشّافعيّة : تنتهي الولاية على الصّغير - ذكراً كان أو أنثى - بمجرّد بلوغه . وعند الحنابلة : لا تثبت الحضانة إلاّ على الطّفل أو المعتوه ، فأمّا البالغ الرّشيد فلا حضانة عليه ، فإن كان رجلاً فله الانفراد بنفسه لاستغنائه عن أبويه ، وإن كانت أنثى لم يكن لها الانفراد ، ولأبيها منعها منه ، لأنّه لا يؤمن أن يدخل عليها من يفسدها ، ويلحق العار بها وبأهلها ، وإن لم يكن لها أب فلوليّها وأهلها منعها من ذلك .
ثامناً : الولاية على المال :
44 - تنقضي الولاية على المال أيضاً ببلوغ الصّغير عاقلاً ، ذكراً كان أو أنثى ، وينفكّ الحجر عنه ، ولكن يشترط لذلك باتّفاق الفقهاء أن يكون رشيداً ، لقوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتّى إذا بلغوا النّكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } وفي المسألة خلاف وتفصيل يرجع لمعرفته إلى أبواب الحجر .
بناء
التّعريف
1 - البناء لغةً : وضع شيءٍ على شيءٍ على وجهٍ يراد به الثّبوت . ويطلق على بناء الدّور ونحوها ، وضدّه الهدم والنّقض ، ويطلق البناء أيضاً على الدّخول بالزّوجة يقال : بنى على أهله ، وبنى بأهله . والأوّل أفصح ، ويكنّى بهذا عن الجماع بعد عقد النّكاح . وأصله : أنّ الرّجل كان إذا تزوّج بنى للعرس خباءً جديداً ، وعمّره بما يحتاج إليه . ويطلقه الفقهاء : على الدّور ونحوها ، وعلى إتمام العبادة بالنّيّة الأولى إذا طرأ فيها خلل لا يوجب التّجديد . ومن أمثلة ذلك : إذا سلّم المسبوق بسلام الإمام سهواً ، بنى على صلاته وسجد للسّهو . وإذا رعف المصلّي في الصّلاة ، ولم يصب الدّم ثوبه أو بدنه ، بنى على صلاته . إذا تكلّم المؤذّن أثناء الأذان عمداً أو سهواً بنى ، ولم يستأنف . وإذا خرج المجمعون أثناء الخطبة من المسجد ثمّ رجعوا قبل طول الفصل ، بنى الخطيب على ما مضى من خطبته في وجودهم ، ولم يستأنف . كما يطلق البناء على التّفريع على القاعدة الفقهيّة ، أي التّخريج عليها .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - التّرميم :
2 - التّرميم : هو إصلاح البناء .
ب - العمارة :
3 - العمارة : ما يعمّر به المكان ، ويطلق على بناء الدّار ، وضدّ العمارة الخراب ، ويطلق الخراب على المكان الّذي خلا بعد عمارته .
ج - الأصل :
4 - الأصل لغةً : أسفل الشّيء . ويطلق اصطلاحاً على : ما يبنى عليه غيره ، ويقابله الفرع ، وعلى الرّاجح ، وعلى الدّليل ، وعلى القاعدة الّتي تجمع جزئيّاتٍ ، وعلى المتفرّع منه كالأب يتفرّع منه أولاده .
د - العقار :
5 - العقار هو : ما يقابل المنقول ، وهو كلّ ملكٍ ثابتٍ له أصل في الأرض ( الحكم الإجماليّ ) : أوّلاً - البناء ( بمعنى إقامة المباني ) 6 - الأصل في البناء الإباحة ، وإن زاد على سبعة أذرعٍ ، أمّا النّهي الوارد عنه في الحديث وهو { إذا أراد اللّه بعبدٍ شرّاً أخضر له اللّبن والطّين ، حتّى يبني } . فقد بيّن المناويّ أنّ ذلك يحمل على ما كان للتّفاخر ، أو زاد عن الحاجة . وتعتريه باقي الأحكام الخمسة : فيكون واجباً : كبناء دار المحجور عليه إذا كان في البناء غبطة ( مصلحة ظاهرة تنتهز قد لا تعوّض ) . وحراماً : كالبناء في الأماكن ذات المنافع المشتركة ، كالشّارع العامّ ، وبناء دور اللّهو ، والبناء بقصد الإضرار ، كسدّ الهواء عن الجار . ومندوباً : كبناء المساجد والمدارس ، والمستشفيات ، وكلّ ما فيه مصلحة عامّة للمسلمين حيث لا يتعيّن ذلك لتمام الواجبات ، وإلاّ صار واجباً ، لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب . ومكروهاً : كالتّطاول في البنيان لغير حاجةٍ .
الوليمة للبناء :
7 - هي مستحبّة ، كبقيّة الولائم الّتي تقام لحدوث سرورٍ أو اندفاع شرٍّ ، وتسمّى الوليمة للبناء ( وكيرة ) ولا تتأكّد تأكّد وليمة النّكاح . وقد ذكر بعض الشّافعيّة قولاً بوجوبها ، لأنّ الشّافعيّ قال : بعد ذكر الولائم - ومنها الوكيرة - : ولا أرخّص في تركها . وذهب بعض المالكيّة إلى أنّها مكروهة ، وعن بعضهم أنّها مباحة . وينظر التّفصيل في مصطلح ( وليمة ) .
من أحكام البناء :
أ - هل البناء من المنقولات ؟ 8 - صرّح الحنفيّة بأنّ البناء من المنقولات . وعند بقيّة المذاهب هو من غير المنقول وللتّفصيل ينظر مصطلح ( عقار ) .
ب - قبض البناء :
9 - يكون قبض البناء في البيع بتخليته للمشتري ، وتمكين المشتري من التّصرّف فيه ، كما صرّح به الحنفيّة والشّافعيّة وقالوا : من تمكينه من التّصرّف تسليمه المفتاح إليه ، بشرط فراغ البناء من أمتعة البائع ، وأن لا يكون مانع شرعيّ أو حسّيّ . قالوا : لأنّ الشّارع أطلق القبض وأناط به أحكاماً ولم يبيّنه ، وليس له حدّ في اللّغة ، فيجب الرّجوع إلى العرف ، وهو يقتضي ما ذكرناه . وللتّفصيل ينظر مصطلح ( قبض ) .
ج - جريان الشّفعة في البناء المبيع :
10 - تجري الشّفعة في البناء إذا بيع مع الأرض تبعاً لها ، ولا تثبت فيه إذا بيع منفرداً ، وعلى هذا جمهور الفقهاء . وعند الإمام مالكٍ وعطاءٍ وهو رواية عن أحمد : تثبت فيه الشّفعة ، وإن بيع منفرداً . وانظر مصطلح ( شفعة ) .
د - البناء في الأراضي المباحة :
11 - يرى جمهور الفقهاء جواز البناء في الأرض المباحة ، ولو بدون إذن الإمام اكتفاءً بإذن الشّارع ، ولأنّه مباح ، كالاحتطاب والاصطياد . ولكن يستحبّ الاستئذان من الإمام خروجاً من خلاف من أوجبه . وإلى هذا ذهب الشّافعيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة ، وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة . وقال أبو حنيفة : لا يجوز إلاّ بإذن الإمام ، واستدلّ بحديث : { ليس للمرء إلاّ ما طابت به نفس إمامه } وانظر مصطلح ( إحياء الموات ) .
هـ - تحجير الأرض للبناء :
12 - إذا احتجر أرضاً للبناء ، ولم يبن مدّةً يمكن البناء فيها ، ولا أحياها بغير ذلك ، بطل حقّه فيها ، لأنّ التّحجّر ذريعة إلى العمارة ، وهي لا تؤخّر عنه إلاّ بقدر أسبابها . ومن الفقهاء من يرى أنّه يرفع إلى السّلطان ، ولا يبطل حقّه بطول المدّة . وقد قدّر البعض المدّة بثلاث سنواتٍ ، لقول عمر رضي الله عنه ليس لمتحجّرٍ بعد ثلاث سنواتٍ حقّ هذا ما صرّح به الشّافعيّة ، وفي المذاهب الأخرى خلاف وتفصيل يرجع إليه في مصطلح ( إحياء الموات ) .
و - البناء في الأراضي المغصوبة :
13 - إذا بنى في أرضٍ مغصوبةٍ ، فطلب صاحب الأرض قلع بنائه قلع ، قال ابن قدامة : لا نعلم في ذلك خلافاً بين الفقهاء لحديث : { ليس لعرقٍ ظالمٍ حقّ } ولأنّه شغل ملك غيره بملكه الّذي لا حرمة له في نفسه بغير إذنه ، فلزمه تفريغه ، وإن أراد صاحب الأرض أخذ البناء بغير عوضٍ لم يكن له ذلك . وللحنفيّة تفصيل فيما إذا كان البناء أو الغرس بزعم سببٍ شرعيٍّ يعذر به الباني ، فينظر : إن كانت قيمة الأرض أكثر من قيمة البناء كلّف الغاصب القلع . وإن كانت أقلّ منه فلا يؤمر بالقلع ، ويغرم صاحب البناء لصاحب الأرض قيمة الأرض ، أمّا إذا كان البناء ظلماً ، فالخيار لصاحب الأرض بين الأمر بالقلع أو تملّك البناء مستحقّ القلع . أمّا ضمان منفعة الأرض في مدّة الغصب وآراء الفقهاء فيه فيرجع إليه في مصطلح ( غصب ) .
ز - البناء في الأرض المستأجرة :
14 - إذا بنى المستأجر في الأرض المستأجرة ، فإن انقضت مدّة الإجارة لزم المستأجر قلعها ، وتسليم الأرض فارغةً للمؤجر ، لأنّ البناء لا نهاية له ، وفي إبقائه إضرار بصاحب الأرض ، إلاّ أن يختار صاحب الأرض أن يغرم للمستأجر قيمة البناء مقلوعاً ويتملّكه ، فله ذلك برضا صاحب البناء إن لم تنقص الأرض بالقلع ، فيتملّكها حينئذٍ بغير رضاه . ولا فرق عند الحنفيّة بين الإجارة المطلقة والإجارة المشروط فيها القلع . أمّا عند المالكيّة فإن استأجر أرضاً لمدّةٍ طويلةٍ كتسعين سنةً - على مذهب من يرى ذلك منهم - ليبني فيها ، وفعل ثمّ مضت المدّة ، وأراد المؤجّر إخراج المستأجر ويدفع له قيمة بنائه منقوضاً ، فإنّه لا يجاب لذلك ، ويجب عليه بقاء البناء في أرضه ، وله كراء المثل في المستقبل ، وسواء كانت تلك الأرض المؤجّرة ملكاً أو وقفاً على جهةٍ . أمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فإنّ شرط القلع بعد انتهاء مدّة الإجارة لزم المستأجر القلع وفاءً بشرطه ، وليس على مالك الأرض أرش نقص البناء بالقلع ، ولا على المستأجر تسوية الأرض وإصلاحها لتراضيهما بالقلع ، وإن أطلقا فللمكتري قلعه ، لأنّه ملكه فله أخذه ، وعليه تسوية الأرض إن قلعه لأنّه ضرر أدخله في ملك غيره بغير إذنه ، وإن أبى القلع لم يجبر عليه ، إلاّ أن يضمن له المالك أرش النّقص بالقلع فيجبر عليه . أمّا المالك فله الخيار بين ثلاثة أشياء : أن يدفع للمستأجر قيمة البناء فيتملّكه ، أو يقلع البناء ويضمن أرش النّقص ، أو يقرّ البناء فيأخذ من المستأجر أجرة المثل . والتّفصيل في ( الإجارة ) .
ح - البناء في الأرض المستعارة :
15 - إذا استعار أرضاً للبناء لم يكن له أن يبني بعد انتهاء مدّة العاريّة أو الرّجوع عن العاريّة ، فإن فعل ذلك قلع بناؤه ، وحكمه حكم الغاصب ، وعليه تسوية الأرض وضمان نقص الأرض ، لأنّه عدوان . أمّا إذا بنى قبل الرّجوع ، فإن شرط عليه : القلع مجّاناً عند الرّجوع لزمه القلع عملاً بالشّرط . وإن لم يشترط القلع فلا يقلع مجّاناً ، سواء كانت العاريّة مطلقةً أو مقيّدةً بوقتٍ ، لأنّ البناء مال محترم فلا يقلع مجّاناً ، فيخيّر المعير بين الأمور الثّلاثة الّتي مرّت في الإجارة المطلقة ، وهذا في الجملة عند غير الحنفيّة . وفرّق الحنفيّة بين المطلقة والمؤقّتة ، فإن كانت العاريّة مؤقّتةً فرجع قبل الوقت ضمن المعير ما نقص في قيمة البناء بالقلع ، لأنّ المستعير مغرور من قبل المعير ، أمّا المطلقة فلا ضمان على المعير ، لأنّ المستعير مغترّ غير مغرورٍ ، حيث اعتمد إطلاق العقد ، وظنّ أنّه يتركه مدّةً طويلةً .
ط - البناء في الأرض الموقوفة 16 - إذا بنى في الأرض الموقوفة المستأجرة بغير إذن ناظر الوقف قلع بناؤه إن لم يكن ضرر على الأرض بالقلع ، ويضمن منافعها الّتي فاتت بيده ، بهذا صرّح الحنفيّة في هذه المسألة ، والضّمان هو الأصل عند غير الحنفيّة في منفعة كلّ مغصوبٍ .
ي - بناء المساجد :
17 - بناء المساجد في الأمصار والقرى والمحالّ حسب الحاجة فرض كفايةٍ وهو من أجلّ أعمال البرّ الّتي حثّ الشّارع عليها . قال تعالى : { في بيوتٍ أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه } . وجاء في الخبر الصّحيح { من بنى مسجداً ، يبتغي به وجه اللّه ، بنى اللّه له مثله في الجنّة } . وأمّا ما يراعى في بناء المساجد فينظر في مصطلح ( مسجد ) .
ك - البناء باللّبن المخلوط بالنّجاسة :
18 - صرّح الشّافعيّة بأنّه يجوز بناء الدّور ونحوها بموادّ مخلوطةٍ بالنّجاسة - كتسميد الأرض بها - للضّرورة . قال الأذرعيّ : والإجماع الفعليّ على صحّة بيع ذلك . والتّفصيل في باب ( النّجاسة ) .
ل - البناء على القبور :
19 - يكره تجصيص القبر والبناء عليه ، إن كان في أرضٍ كان يملكها الميّت ، أو أرضٍ مواتٍ بلا قصد مباهاةٍ ، فإن كان في مقبرةٍ مسبّلةٍ حرم البناء ، ويهدم إن بني ، لأنّه يضيّق على النّاس ، ولا فرق في ذلك بين أن يبني قبّةً أو بيتاً أو مسجداً . وقد ورد النّهي عن بناء المساجد على القبور ، ففي الخبر المتّفق عليه أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الّذي مات فيه : { لعن اللّه اليهود والنّصارى ، اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد } . والتّفصيل ينظر في مصطلح ( قبر ) .
م - البناء في الأماكن المشتركة :
20 - لا يجوز البناء الخاصّ في الأماكن الّتي تتعلّق بها حقوق عامّة ، كالشّوارع العامّة ، ومصلّى العيد في الصّحراء ، وأماكن النّسك ، كعرفة ومزدلفة ، لما في ذلك من التّضييق على النّاس ولأنّها للمسلمين جميعاً ، فليس لفردٍ أن يستأثر بها .
ن - بناء الحمّام :
21 - ذهب الإمام أحمد إلى أنّه يكره بناء الحمّام مطلقاً ، وبناؤه للنّساء أشدّ كراهةً ، ونقل عنه قوله : الّذي يبني الحمّام للنّساء ليس بعدلٍ وهو جائز عند بقيّة الأئمّة .
ثانياً : البناء في العبادات يراد بالبناء هنا : إتمام العبادة بعد انقطاعها . 22 - إذا أحرم متطهّراً ، ثمّ أحدث عمداً ، بطلت صلاته باتّفاق الفقهاء . واختلفوا فيما إذا سبقه الحدث بلا عمدٍ منه . فذهب الحنفيّة إلى أنّه لا تبطل صلاته ، فيبني عليها بعد التّطهّر ، وهو القول القديم للشّافعيّ . وعند المالكيّة : لا يبني المحدث في الصّلاة إلاّ في الرّعاف . وتبطل الصّلاة في الجديد عند الشّافعيّة ولا بناء ، وهو مذهب الحنابلة . وللتّفصيل انظر مصطلح ( حدث ، رعاف ) .
بناء السّاهي في الصّلاة على يقينه :
23 - إذا شكّ في أثناء الصّلاة في عدد الرّكعات أو فعل ركنٍ ، فالأصل أنّه لم يفعل ، فيجب البناء على اليقين ، وهو الأقلّ . وانظر مصطلح ( شكّ ) .
البناء في خطبة الجمعة :
24 - إذا انفضّ المجمعون في أثناء الصّلاة ، وعادوا قبل طول الفصل ، بنى الخطيب على خطبته . وانظر مصطلح ( خطبة ) .
البناء في الطّواف :
25 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا ابتدأ بالطّواف ، ثمّ أقيمت الصّلاة المكتوبة ، فإنّه يقطع الطّواف ، ويصلّي مع الجماعة ، ثمّ يبني على طوافه ، لأنّه فعل مشروع فلم يقطعه ، كالفعل اليسير . أمّا في غير المكتوبة فقد اختلف الفقهاء في صحّة البناء على ما مضى . ر : مصطلح ( طواف ) .
بناء بالزّوجة انظر : دخول .
بناء في العبادات انظر : استئناف .
بنان انظر : إصبع .
بنت
التّعريف
1 - بنت وابنة : مؤنّث ابنٍ . والولد يطلق عليهما . الحكم الإجماليّ ومواطن البحث : وردت أحكام تتعلّق بالبنت أهمّها ما يلي :
أ - النّكاح :
2 - نكاح البنت : يحرم نكاح الرّجل ابنته ، والعقد عليها باطل . لقوله تعالى : { حرّمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم } وعليه إجماع الأمّة .
3 - نكاح ابنته من الزّنى : ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى تحريم زواج الرّجل ابنته من الزّنى ، لأنّ الوطء سبب الجزئيّة ، والاستمتاع بالجزء حرام . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ المخلوقة من ماء زناه تحلّ له ، لأنّ ماء الزّنى لا حرمة له ، لكنّه مكروه خروجاً من الخلاف . انظر مصطلح ( نكاح ) .
الولاية في النّكاح :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ للأب إنكاح ابنته الصّغيرة والكبيرة المجنونة أو المعتوهة ولو جبراً عنها ، إن كانت بكراً . واختلفوا في الثّيّب الصّغيرة . وأمّا تزويج الرّجل ابنته البكر الكبيرة فالجمهور على أنّ للأب إجبارها خلافاً للحنفيّة . أمّا البنت الثّيّب الكبيرة فالأب يلي إنكاحها دون إجبارٍ . والتّفصيل في ( النّكاح والولاية ) .
ب - إرث البنت :
5 - البنت إذا انفردت لها النّصف في الميراث ، لقوله تعالى : { وإن كانت واحدةً فلها النّصف } وإن كانتا اثنتين فصاعداً فلهما الثّلثان ، لقوله تعالى : { فإن كنّ نساءً فوق اثنتين فلهنّ ثلثا ما ترك } هذا عند عامّة الصّحابة ، وعن ابن عبّاسٍ أنّ حكمهما حكم الواحدة . أمّا إذا كان مع البنت ابن ، فللذّكر مثل حظّ الأنثيين وهو يعصبهنّ ، لقوله تعالى : { يوصيكم اللّه في أولادكم للذّكر مثل حظّ الأنثيين } . والتّفصيل في مصطلح ( إرث )
ج - النّفقة :
6 - اتّفقوا على وجوب نفقة البنت الفقيرة غير المتزوّجة على والدها إذا كان غنيّاً . أمّا إذا كانت البنت غنيّةً ، فلا تجب لها النّفقة ، وإذا كانت كبيرةً وفقيرةً فتجب لها النّفقة أيضاً مع بعض الشّروط . ولتفصيل ذلك انظر مصطلح ( نفقة )
بنت الابن
التّعريف
1 - بنت الابن : هي كلّ بنتٍ تنتسب إلى المتوفّى بطريق الابن ، مهما نزلت درجة أبيها ، فتشمل بنت الابن وبنت ابن الابن مهما نزل . الحكم الإجماليّ ومواطن البحث : لبنت الابن أحكام خاصّة في الفقه الإسلاميّ نجمل أهمّها فيما يلي : النّكاح :
2 - يحرم على الرّجل نكاح بنت ابنه وإن نزلت ، لقوله تعالى { حرّمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم } والمراد بالبنت : الفرع المؤنّث وإن بعد . فيشمل بنت الابن وبنت البنت ، ولإجماع المجتهدين على ذلك . وللتّفصيل يراجع مصطلح ( نكاح ) .
الزّكاة :
3 - لا يجوز دفع الزّكاة إلى بنت الابن عند الحنفيّة والحنابلة ، لأنّ منافع الأملاك بينهم متّصلة . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يجوز دفع الزّكاة إليها في الحال الّتي تجب فيها النّفقة على الجدّ أمّا المالكيّة فقد جوّزوا دفع الزّكاة إلى بنت الابن ، لأنّها لا تجب نفقتها على جدّها .
الفرائض :
4 - لبنت الابن أحوال في الميراث نجملها فيما يلي :
أ - النّصف للواحدة .
ب - الثّلثان للاثنتين فصاعداً . وهاتان الحالتان يشترط فيهما عدم البنات الصّلبيّات ، فإذا عدمن قامت بنت الابن مقامهنّ .
ج - إذا كان معهنّ ذكر فإنّه يعصبهنّ ، وحينئذٍ فللذّكر مثل حظّ الأنثيين .
د - لهنّ السّدس مع البنت الواحدة الصّلبيّة ، تكملةً للثّلثين .
هـ - لا يرثن مع الصّلبيّتين عند عامّة الصّحابة ، إلاّ إذا كان معهنّ ذكر بدرجتهنّ أو أسفل منهنّ ، فإنّه يعصبهنّ ، وحينئذٍ فللذّكر مثل حظّ الأنثيين . ولتفصيل ذلك راجع مصطلح ( فرائض ) .
بنت لبونٍ انظر : ابن لبونٍ
بنت مخاضٍ انظر : ابن مخاضٍ
بنج
التّعريف
1 - البنج - بفتح الباء - في اللّغة والاصطلاح : نبات مخدّر ، غير الحشيش ، مسكّن للأوجاع .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - الأفيون :
2 - الأفيون : عصارة ليّنة يستخرج من الخشخاش ، ويحتوي على ثلاث موادّ منوّمةٍ منها المورفين .
ب - الحشيشة :
3 - الحشيشة : نوع من ورق القنّب الهنديّ يسكر جدّاً إذا تناول منه قدر درهمٍ . هذا ما قاله ابن تيميّة وابن حجرٍ الهيتميّ وابن عابدين . لكن قال القرافيّ - بعد بيان الفرق بين المسكر والمفسد ( أي المخدّر ) - وبهذا يظهر لك أنّ الحشيشة مفسدة وليست مسكرةً ، ثمّ استدلّ لذلك بكلامٍ نفيسٍ يرجع إليه في الفروق . الحكم الشّرعيّ في تناوله :
4 - يرى جمهور الفقهاء أنّه يحرم تناول القدر المسكر من هذه المادّة ، ويعزّر بالسّكر منه بغير عذرٍ ويجوز عندهم التّداوي به واستعماله لإزالة العقل لقطع عضوٍ متآكلٍ . أمّا الحنفيّة فقد اختلفت آراؤهم في حكم تناول البنج لغير التّداوي ووجوب إقامة الحدّ على السّكران منه .
عقوبة تناوله :
5 - يعرّف الفقهاء ما يحرم تناوله ، ويترتّب على تعاطيه الحدّ بأنّه : كلّ شرابٍ مسكرٍ . وبناءً على هذا التّعريف ذهب معظم الفقهاء إلى عدم إقامة الحدّ على السّكران من البنج ونظائره من الجامدات ، وإن كان مذاباً وقت التّعاطي ، ولكنّه يعاقب عقوبةً تعزيريّةً .
حكم طهارته :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ البنج طاهر ، لأنّهم يشترطون لنجاسة المسكر أن يكون مائعاً .
( مواطن البحث ) :
7 - يذكره الفقهاء في باب الأشربة والنّجاسات والطّلاق .
بندق انظر : صيد
بنوّة انظر : ابن
بهتان انظر : افتراء
بهيمة انظر : حيوان
بول . انظر : قضاء الحاجة
بيات . انظر : بيتوتة
بيان
التّعريف
1 - البيان لغةً : الإظهار والتّوضيح ، والكشف عن الخفيّ أو المبهم . قال اللّه تعالى : { علّمه البيان } أي الكلام الّذي يبيّن به ما في قلبه ، ويحتاج إليه من أمور دنياه ، فهو منفصل به عن سائر الحيوانات . ولم يبعد الأصوليّون والفقهاء عن المعنى اللّغويّ في تعريفهم للبيان . فهو عند الأصوليّين : الدّالّ على المراد بخطابٍ لا يستقلّ بنفسه في الدّلالة على المراد . ويطلق ويراد به المدلول ، ويطلق أيضاً على فعل المبيّن ، ولأجل إطلاقه على المعاني الثّلاثة اختلفوا في تفسيره بالنّظر إليها . قال العبدريّ بعد حكاية المذاهب : الصّواب أنّ البيان هو مجموع هذه الأمور .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - التّفسير :
2 - التّفسير لغةً : هو الكشف والإظهار . وفي الشّرع : توضيح معنى الآية وشأنها وقصّتها ، والسّبب الّذي نزلت فيه بلفظٍ يدلّ عليه دلالةً ظاهرةً . والبيان بعمومه يختلف عن التّفسير ، إذ البيان قد يكون بدلالة حال المتكلّم كالسّكوت ، في حين أنّ التّفسير لا يكون إلاّ بلفظٍ يدلّ على المعنى دلالةً ظاهرةً .
ب - التّأويل :
3 - التّأويل : صرف اللّفظ عن معناه الظّاهر إلى معنًى يحتمله ، إذا كان المحتمل موافقاً للكتاب والسّنّة . ( ر : تأويل ) . والفرق بين التّأويل والبيان : أنّ التّأويل ما يذكر في كلامٍ لا يفهم منه المعنى المراد لأوّل وهلةٍ ، والبيان ما يذكر في كلامٍ يفهم المعنى المراد منه بنوع خفاءٍ بالنّسبة إلى البعض ، فالبيان أعمّ من التّأويل . الأحكام المتعلّقة بالبيان عند الأصوليّين :
4 - البيان بالقول والفعل : المذهب عند الفقهاء وأكثر المتكلّمين أنّ البيان يحصل بالفعل من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما يحصل بالقول . والدّليل على أنّ البيان قد يحصل بالفعل : أنّ جبريل عليه الصلاة والسلام بيّن مواقيت الصّلاة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم بالفعل ، حيث أمّه في البيت يومين ، { ولمّا سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن مواقيت الصّلاة قال للسّائل : صلّ معنا } وكما قال : { صلّوا كما رأيتموني أصلّي } ثمّ صلّى في اليومين في وقتين ، فبيّن له المواقيت بالفعل . وفي الحجّ قال لأصحابه : { خذوا عنّي مناسككم } ، ولأنّ البيان عبارة عن إظهار المراد . فربّما يكون ذلك بالفعل أبلغ منه بالقول ، لأنّه { صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالحلق عام الحديبية ، فلم يفعلوا ثمّ لمّا رأوه حلق بنفسه حلقوا في الحال } . فعرفنا أنّ إظهار المراد يحصل بالفعل كما يحصل بالقول . وقال الكرخيّ وأبو إسحاق المروزيّ وبعض المتكلّمين : لا يكون البيان إلاّ بالقول ، بناءً على أصلهم أنّ بيان المجمل لا يكون إلاّ متّصلاً ، والفعل لا يكون متّصلاً بالقول . وللتّفصيل انظر الملحق الأصوليّ .
أنواع البيان 5 - قال البزدويّ : البيان على أوجهٍ : بيان تقريرٍ ، وبيان تفسيرٍ ، وبيان تغييرٍ ، وبيان تبديلٍ ، وبيان ضرورةٍ ، فهي خمسة أقسامٍ . وتجدر الإشارة إلى أنّ إضافة البيان إلى التّقرير والتّغيير والتّبديل من قبيل إضافة الجنس إلى نوعه كعلم الطّبّ ، أي بيان هو تقرير ، وكذا الباقي ، وإضافته إلى الضّرورة من قبيل إضافة الشّيء إلى سببه . بيان التّقرير :
6 - بيان التّقرير هو كلّ حقيقةٍ تحتمل المجاز ، أو عامّ يحتمل الخصوص ، إذا لحق به ما يقطع الاحتمال ، وذلك نحو قوله تعالى : { فسجد الملائكة كلّهم أجمعون } ، فصيغة الجمع تعمّ الملائكة على احتمال أن يكون المراد بعضهم وقوله تعالى : { كلّهم أجمعون } بيان قاطع لهذا الاحتمال فهو بيان التّقرير .
بيان التّفسير :
7 - بيان التّفسير هو بيان ما فيه خفاء ، كالمشترك والمجمل ونحوهما ، مثل قوله تعالى : { أقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة } فإنّه مجمل ، إذ العمل بظاهره غير ممكنٍ ، وإنّما يوقف على المراد للعمل به بالبيان ، ثمّ لحق هذه الآية البيان بالسّنّة ، فإنّه عليه الصلاة والسلام بيّن الصّلاة بالقول والفعل ، والزّكاة بقوله : { هاتوا ربع العشور } فإنّه يكون تفسيراً .
بيان التّغيير :
8 - بيان التّغيير هو البيان الّذي فيه تغيير لموجب الكلام وهو نوعان : الأوّل - التّعليق بالشّرط : كما قال اللّه تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهنّ أجورهنّ } فإنّه يتبيّن به أنّه لا يجب إيتاء الأجر بعد عقد إجارة المرضع إذا لم يوجد الإرضاع ، وإنّما يجب ابتداءً عند وجود الإرضاع فيكون تغييراً لحكم وجوب أداء البدل بنفس العقد . الثّاني - الاستثناء : كما قال اللّه تعالى : { فلبث فيهم ألف سنةٍ إلاّ خمسين عاماً } فإنّ الألف اسم موضوع لعددٍ معلومٍ ، فما يكون دون ذلك العدد يكون غيره لا محالة ، فلولا الاستثناء لكان العلم يقع لنا بأنّه لبث فيهم ألف سنةٍ ، ومع الاستثناء إنّما يقع العلم لنا بأنّه لبث فيهم تسعمائةٍ وخمسين عاماً ، فيكون الاستثناء تغييراً لما يفيده لفظ الألف .
بيان التّبديل :
9 - بيان التّبديل هو النّسخ ، وهو رفع حكمٍ شرعيٍّ بدليلٍ شرعيٍّ متأخّرٍ . والنّسخ في حقّ صاحب الشّرع بيان محض لانتهاء الحكم الأوّل ، ليس فيه معنى الرّفع ، لأنّه كان معلوماً عند اللّه أنّه ينتهي في وقت كذا بالنّاسخ ، فكان النّاسخ بالنّسبة إلى علمه تعالى مبيّناً لا رافعاً . ثمّ الرّاجح عند الأصوليّين أنّ النّسخ جائز في الأمر والنّهي الّذي يجوز أن يكون ثابتاً ، ويجوز أن لا يكون . وقد قال بعضهم : إنّه لا يجوز النّسخ ، وربّما قالوا : لم يرد النّسخ في شيءٍ أصلاً . وانظر التّفاصيل في ( نسخ ) وفي الملحق الأصوليّ .
بيان الضّرورة :
10 - بيان الضّرورة نوع من البيان يحصل بغير اللّفظ للضّرورة ، وهو على أربعة أنواعٍ : النّوع الأوّل : ما يكون في حكم المنطوق ، وذلك بأن يدلّ النّطق على حكم المسكوت عنه . وقد مثّلوا له بقوله تعالى : { فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمّه الثّلث } فإنّه لمّا أضاف الميراث إليها في صدر الكلام ، ثمّ بيّن نصيب الأمّ ، كان ذلك بيان أنّ للأب ما بقي ، فلم يحصل هذا البيان بترك التّنصيص على نصيب الأب ، بل بدلالة صدر الكلام يصير نصيب الأب كالمنصوص عليه . النّوع الثّاني : هو السّكوت الّذي يكون بياناً بدلالة حال المتكلّم ، نحو سكوت صاحب الشّرع عند معاينة شيءٍ عن تغييره يكون بياناً لحقيته باعتبار حاله ، مثل ما شاهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم من بياعاتٍ ومعاملاتٍ كان النّاس يتعاملونها فيما بينهم ، فأقرّهم عليها ، ولم ينكرها عليهم ، فدلّ أنّ جميعها مباح في الشّرع ، إذ لا يجوز من النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقرّ النّاس على منكرٍ محظورٍ . النّوع الثّالث : هو السّكوت الّذي جعل بياناً ، ضرورة دفع الغرور ، مثل الأب إذا رأى ولده المميّز يبيع ويشتري ، فسكت عن النّهي ، كان سكوته إذناً له في التّجارة ، لضرورة دفع الغرور عمّن يعامله ، فإنّ في هذا الغرور إضراراً بهم ، والضّرر مدفوع . بهذا قال الحنفيّة . وقال الشّافعيّ : لا يكون السّكوت إذناً لأنّ سكوت الأب عن النّهي محتمل ، قد يكون للرّضا بتصرّفه ، وقد يكون لفرط الغيظ ، أو قلّة الالتفات ، والمحتمل لا يكون حجّةً . النّوع الرّابع : هو السّكوت الّذي جعل بياناً لضرورة الكلام كما إذا قال رجل : لفلانٍ عليّ مائة ودرهم ، أو مائة ودينار ، فإنّ العطف جعل بياناً للأوّل ، وجعل الأوّل من جنس المعطوف . بهذا يقول الحنفيّة . وقال الشّافعيّ : يلزمه المعطوف ، والقول في بيان جنس المائة قول المقرّ ، لأنّها مجملة فإليه بيانها ، والعطف لا يصلح بياناً ، لأنّه لم يوضع له .
تأخير البيان عن وقت الحاجة : كلّ ما يحتاج إلى البيان من مجملٍ وعامٍّ ، ومجازٍ ومشتركٍ ، وفعلٍ متردّدٍ ومطلقٍ ، إذا تأخّر بيانه فذلك على وجهين :
11 - الوجه الأوّل : أن يتأخّر عن وقت الحاجة ، وهو الوقت الّذي إذا تأخّر البيان عنه لم يتمكّن المكلّف من معرفة ما تضمّنه الخطاب ، وذلك في الواجبات الفوريّة . فهذا النّوع من التّأخير لا يجوز ، لأنّ الإتيان بالشّيء مع عدم العلم به ممتنع عند جميع القائلين بمنع التّكليف بما لا يطاق . وأمّا من جوّز التّكليف بما لا يطاق فهو يقول بجوازه عقلاً ، لا بوقوعه ، فكان عدم الوقوع متّفقاً عليه بين الطّائفتين . ولهذا نقل أبو بكرٍ الباقلّانيّ إجماع أرباب الشّرائع على امتناعه .
12 - الوجه الثّاني : تأخير البيان عن وقت ورود الخطاب إلى وقت الحاجة إلى الفعل ، وذلك في الواجبات الّتي ليست بفوريّةٍ ، حيث يكون الخطاب لا ظاهر له ، كالأسماء المتواطئة والمشتركة ، أو يكون له ظاهر وقد استعمل في خلاف الظّاهر ، كتأخير البيان بالتّخصيص . ومثله تأخير النّسخ ونحو ذلك ، وفي ذلك اتّجاهات أهمّها ما يلي :
أ - الجواز مطلقاً ، قال ابن برهانٍ : وعليه عامّة علمائنا من الفقهاء والمتكلّمين . ونقله القاضي عن الشّافعيّ ، واختاره الأخوّات في المحصول ، وابن الحاجب . وقال الباجيّ : عليه أكثر أصحابنا ، وحكاه القاضي عن مالكٍ .
ب - المنع مطلقاً ، نقل ذلك عن أبي إسحاق المروزيّ وأبي بكرٍ الصّيرفيّ وأبي حامدٍ المروزيّ وأبي بكرٍ الدّقّاق وداود الظّاهريّ والأبهريّ ، قال القاضي : وهو قول المعتزلة وكثيرٍ من الحنفيّة .
ج - أنّ بيان المجمل إن لم يكن تبديلاً ولا تغييراً جاز مقارناً وطارئاً ، وإن كان تغييراً جاز مقارناً ولا يجوز طارئاً بحالٍ . نقله السّمعانيّ عن أبي زيدٍ من الحنفيّة . وتنظر مراتب البيان للأحكام وسائر التّفاصيل المتعلّقة بالموضوع في الملحق الأصوليّ .
الأحكام المتعلّقة بالبيان عند الفقهاء بيان المقرّ به المجهول :
13 - إذا أقرّ شخص بمجهولٍ وأطلق ، بأن قال : عليّ شيء أو حقّ ، يلزمه ، لأنّ الحقّ قد يلزمه مجهولاً ، كأن يتلف مالاً لا يعرف قيمته ، أو يجرح جراحةً لا يعرف أرشها ، أو يبقى عليه باقية حسابٍ لا يعرف قدره وهو محتاج إليه لإبراء ذمّته بالإيفاء أوالتّراضي ، فجهالة المقرّ به لا تمنع صحّة الإقرار ، ويقال للمقرّ : بيّن المجهول ، فإن لم يبيّن أجبره الحاكم على البيان ، لأنّه لزمه الخروج عمّا وجب عليه بصحيحٍ إقراره ، وذلك الخروج عمّا لزمه يكون بالبيان ، ولكن يبيّن شيئاً يثبت في الذّمّة ، قلّ أو كثر ، أمّا إذا بيّن شيئاً لا يثبت في الذّمّة فلا يقبل منه ، نحو أن يقول : عنيت حقّ الإسلام ، أو كفّاً من ترابٍ أو نحوه ، بهذا قال الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وهو أحد قولي الشّافعيّة . وذهب الشّافعيّة في القول الآخر إلى أنّه إن وقع الإقرار المبهم في جواب دعوى ، وامتنع عن التّفسير ، يجعل ذلك إنكاراً منه وتعرض اليمين عليه ، فإن أصرّ على الامتناع جعل ناكلاً عن اليمين ويحلف المدّعي . أمّا إذا أقرّ بمجهولٍ وبيّن السّبب ، فينظر إن كان سبباً لا تضرّه الجهالة كالغصب الوديعة ، بأن قال : غصبت مال فلانٍ ، أو لفلانٍ عندي أمانة ، فيصحّ إقراره ، ويجبر على بيان المغصوب أو الأمانة المجهولة وتعيينهما ، وإن كان سبباً تضرّه الجهالة كالبيع والإجارة لا يصحّ الإقرار ، ولا يجبر على بيان ما باعه أو استأجره .
البيان في الطّلاق المبهم :
14 - إذا قال الزّوج لزوجتيه : إحداكما طالق ، وقصد معيّنةً منهما طلقت ، ويلزمه البيان ، ويصدّق ، لأنّه مالك للإيقاع عليها ، فيصحّ بيانه أيضاً ، وما في ضميره لا يوقف عليه إلاّ من جهته ، فيقبل قوله فيه . وتعتزلانه إلى البيان ، لاختلاط المحرّمة بالمباحة . ويلزم الزّوج البيان فوراً ، فإن أخّر عصى ، فإن امتنع حبس وعزّر . وللفقهاء تفاصيل في لزوم نفقة الزّوجتين إلى البيان ، وألفاظ البيان وما يثبت به البيان من الأفعال كالوطء ومقدّماته تنظر في ( طلاق ) .
بيان المعتق المبهم :
15 - إذا قال شخص لأرقّائه : أحدكم حرّ ، أو أعتقت أحدكم ، ونوى معيّناً بيّنه وجوباً ، وإذا خاصم أحدهم إلى الحاكم أجبر المولى على البيان ، وإن بيّن واحداً من الاثنين للعتق ، فللآخر تحليفه أنّه ما أراده . وإن قال : أردت هذا ، بل هذا ، عتقا جميعاً مؤاخذةً له بإقراره . وللتّفصيل ( ر : عتق )
. بيت
التّعريف
1 - من معاني البيت في اللّغة : المسكن ، وهو كلّ ما كان له جدار وسقف ، وإن لم يكن به ساكن . ويطلق أيضاً على البيت الشّقّة . ويجمع البيت على أبياتٍ ، وبيوتٍ . ويطلق البيت على القصر ، ومنه { قول جبريل عليه السلام لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم بشّروا خديجة ببيتٍ في الجنّة من قصبٍ } قال في اللّسان : يعني بشّروها بقصرٍ من لؤلؤةٍ مجوّفةٍ . ويطلق على المسجد . قال اللّه عزّ وجلّ : { في بيوتٍ أذن اللّه أن ترفع } قال الزّجّاج : أراد المساجد . وقد يكون البيت مستقلّاً بذاته ، أو جزءاً من المسكن المستقلّ كحجرةٍ من دارٍ . ويصدق على المبنيّ من طينٍ ، أو آجرٍّ ومدرٍ وحجرٍ ، وعلى المتّخذ من خشبٍ ، أو صوفٍ ، أو وبرٍ ، أو شعرٍ ، أو جلدٍ ، وأنواع الخيام . ولا يخرج معناه الاصطلاحيّ عمّا ورد في اللّغة .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - الدّار :
2 - الدّار لغةً : اسم لما اشتمل على بيوتٍ ومنازل وصحنٍ غير مسقّفٍ . واسم الدّار يتناول العرصة والبناء جميعاً . والفرق بين البيت والدّار : أنّ الدّار تشتمل على بيوتٍ ومنازل .
ب - المنزل :
3 - المنزل لغةً : اسم مكان النّزول ، وفي بعض الأعراف : هو اسم لما يشتمل على بيوتٍ ، وصحنٍ مسقّفٍ ومطبخٍ يسكنه الرّجل بعياله . وهو دون الدّار وفوق البيت ، وأقلّه بيتان أو ثلاثة . وتختلف الأعراف في هذه الألفاظ باختلاف المكان والزّمان . المبيت على ظهر البيت :
4 - جاء التّحذير في السّنّة الشّريفة عن المبيت على ظهر بيتٍ ليس له حائط يمنع من السّقوط . فقد روى عليّ بن شيبان رضي الله عنه عن الرّسول صلى الله عليه وسلم قال : { من بات على ظهر بيتٍ ليس له حجار فقد برئت منه الذّمّة } وجاء في روايةٍ : حجاب ، وفي أخرى : حجاز . وهي بمعنى السّترة الّتي تمنع وتحجز النّائم عن السّقوط . ومعنى برئت منه الذّمّة : أي أزال عصمة نفسه ، وصار كالمهدر الّذي لا ذمّة له ، أي لا يجب له على أحدٍ شيء بسبب موته ، إذ أنّ الّذي نام كذلك ربّما انقلب من نومه فسقط فمات هدراً . ثمّ إنّه إن مات كذلك مات من غير تأهّبٍ ، ولا استعدادٍ للموت .
الأحكام المتعلّقة بالبيت :
أ - البيع :
5 - يجوز بيع البيت المملوك المعيّن والمحدود عند جمهور الفقهاء ويدخل تبعاً للأرض . وقال مالك : إنّ بيع البيت يتناول الأرض الّتي بها البيت ، وكذا بيع الأرض يتناول البناء ، ومحلّ تناول العقد على البناء للأرض ، وتناول العقد على الأرض ما فيها من بناءٍ - كان العقد بيعاً أو غيره - إن لم يكن شرط ، أو عرف بخلافه ، وإلاّ عمل بذلك الشّرط ، أو العرف . فإذا اشترط البائع إفراد البناء عن الأرض ، أو جرى العرف بإفراده عن الأرض في البيع وغيره ، فلا تدخل الأرض في العقد على البناء ، وكذلك لو اشترط البائع إفراد الأرض عن البناء ، أو جرى العرف بذلك ، فإنّ البناء لا يدخل في العقد على الأرض . والتّفصيل موطنه مصطلح ( بيع ) .
ب - خيار الرّؤية :
6 - يثبت خيار الرّؤية للمشتري في شرائه للبيت إن لم يعاين ولم تحصل رؤيته ، لأنّ البيت من الأعيان اللّازم تعيينها ، وهذا عند الحنفيّة وعلى قولٍ للشّافعيّة والحنابلة . قالوا : يصحّ بيع الغائب ، وهو ما لم يره المتعاقدان أو أحدهما ، ويثبت الخيار للمشتري عند الرّؤية ، وتعتبر في رؤية البيت رؤية السّقف والجدران والسّطح والحمّام والطّريق . وفي الأظهر للشّافعيّة ، والمقدّم عند الحنابلة : إن اشترى إنسان ما لم يره ، وما لم يوصف له ، لم يصحّ العقد . والتّفصيل موطنه مصطلح ( بيع - خيار الرّؤية ) .
ج - الشّفعة :
7 - يثبت حقّ طلب الشّفعة في البيت المبيع للشّريك فيه الّذي لم يقاسم تبعاً للأرض المبيعة ، وأمّا الجار فلا شفعة له ، لحديث جابرٍ رضي الله عنه قال : { قضى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالشّفعة في كلّ ما لم يقسّم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطّرق فلا شفعة } ولا شفعة في بناءٍ مفردٍ عن أرضٍ ، لأنّ من شروط الشّفعة أن يكون المبيع أرضاً ، لأنّها هي الّتي تبقى على الدّوام ، ويدوم ضررها ، والبناء يؤخذ تبعاً للأرض ، لحديث جابرٍ رضي الله عنه قال : { قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالشّفعة في كلّ شركةٍ لم تقسّم ربعةٍ ، أو حائطٍ ... } ويدخل فيه البناء ، وهذا عند جمهور الفقهاء . وعند الحنفيّة : الشّفعة تكون للشّريك وللجار تبعاً للعقار المملوك ، وهذا إن تحقّقت شروط الشّفعة . والتّفصيل في مصطلح ( شفعة ) .
د - الإجارة :
8 - لمّا كان المقصود من عقد إجارة البيت هو بيع منفعته إلى أجلٍ معلومٍ ، اشترط في المنفعة ما يشترط في المعقود عليه في عقد البيع ، وهو أن لا يمنع من الانتفاع بها مانع شرعيّ ، بأن تكون محرّمةً كالخمر وآلات اللّهو ولحم الخنزير . فلا يجوز عند جمهور الفقهاء إجارة البيت لغرضٍ غير مشروعٍ ، كأن يتّخذه المستأجر مكاناً لشرب الخمر أو لعب القمار ، أو أن يتّخذه كنيسةً أو معبداً وثنيّاً . ويحرم حينئذٍ أخذ الأجرة كما يحرم إعطاؤها ، وذلك لما فيه من الإعانة على المعصية .
مراعاة حقّ الجار في مرافق البيت :
9 - جاءت السّنّة الشّريفة بالتّأكيد على حقّ الجار والأمر بمراعاته والحفاظ عليه ، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : { ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورّثه } . وقوله صلى الله عليه وسلم : { واللّه لا يؤمن واللّه لا يؤمن واللّه لا يؤمن قيل : من يا رسول اللّه ؟ قال : الّذي لا يأمن جاره بوائقه } . والبوائق تعني : الغوائل والشّرور . ولذا لا يجوز أن يحدث مالك البيت فيه ما يضرّ بجاره . كأن يحفر كنيفاً إلى جنب حائط جاره ، أو يبني حمّاماً ، أو تنّوراً ، أو أن يعمل دكّان حدادةٍ أو نحوها من المهن الّتي يتأذّى منها جار البيت . أمّا في المرافق الّتي تكون بين البيتين ، كالجدار الفاصل بينهما ، فله حالتان : إمّا أن يختصّ بملكه أحدهما ، ويكون ساتراً للآخر فقط . فليس للآخر التّصرّف فيه بما يضرّ مطلقاً . فيحرم عليه وضع الأخشاب ، أو مدّ الجسور ، أو بناء العقود ، ونحوها من التّصرّفات الّتي تضرّ الجدار وتؤثّر في تحمّله ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم ، وذلك لعموم القاعدة الفقهيّة : ( لا ضرر ولا ضرار ) ، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم : { لا يحلّ مال امرئٍ مسلمٍ إلاّ بطيب نفسٍ منه } . أمّا إذا كان التّصرّف لا يضرّ الجدار ولا يضعفه ، فيجوز ، بل يندب لصاحبه الإذن لجاره باستعماله والتّصرّف فيه ، لما فيه من الإرفاق بالجار والتّوسعة عليه . والتّفصيل ينظر في مصطلح ( ارتفاق . جوار ) .
دخول البيوت :
10 - أجمع الفقهاء على أنّه لا يجوز دخول بيت الغير إلاّ بإذنٍ ، لأنّ اللّه تعالى حرّم على الخلق أن يطّلعوا على ما في بيوت الغير من خارجها ، أو يلجوها من غير إذن أربابها ، لئلاّ يطّلع أحد منهم على عورةٍ ، وذلك لغايةٍ هي : الاستئناس ، وهو : الاستئذان ، لأنّ اللّه تعالى خصّص البيوت لسكنى النّاس ، وملّكهم الاستمتاع بها على الانفراد ، قال تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلّكم تذكّرون } . واستثنى الفقهاء حالة الغزو ، فيجوز دخول البيت إذا كان ذلك البيت مشرفاً على العدوّ ، فللغزاة دخوله ليقاتلوا العدوّ فيه وكذا في حالة العلم ، أو الظّنّ الغالب بوجود فسادٍ فيه ، فيجوز للإمام أو نائبه الهجوم على بيت المفسدين ، وقد هجم عمر رضي الله عنه على نائحةٍ في منزلها ، وضربها بالدّرّة حتّى سقط خمارها ، فقيل له فيه ، فقال : لا حرمة لها . أي لاشتغالها بالمحرّم والتحقت بالإماء . وقد نفّذ عمر رضي الله عنه التّعزير لهتك حرمات البيت ، وذلك في رجلٍ وجد في بيت رجلٍ بعد العتمة ملفّفاً ، فضربه عمر مائة جلدةٍ . وكما يحرم الدّخول بلا استئذانٍ يحرم النّظر إلى داخل البيوت ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { لو أنّ امرأً اطّلع عليك بغير إذنٍ ، فحذفته بحصاةٍ ، فقأت عينه لم يكن عليك جناح }
إباحة دخول البيت :
11 - أباح اللّه عدم الاستئذان في كلّ بيتٍ لا يسكنه أحد ، فقال تعالى : { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونةٍ فيها متاع لكم واللّه يعلم ما تبدون وما تكتمون } ذلك لأنّ العلّة في الاستئذان إنّما هي لأجل خوف الاطّلاع على المحرّمات ، فإذا زالت العلّة زال الحكم . وللتّفصيل ينظر ( استئذان ) .
ولا يجوز للمرأة أن تأذن في بيتها إلاّ بإذن زوجها ، أو بغلبة ظنّها بأنّه يرضى بذلك لحاجةٍ مشروعةٍ لقوله صلى الله عليه وسلم : { لا يحلّ للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلاّ بإذنه ، ولا تأذن في بيته إلاّ بإذنه } .
دعاء دخول المرء بيته ، ودعاء الخروج منه :
12 - من الآداب الّتي سنّها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الدّعاء عند دخول البيت وعند الخروج منه . من ذلك ما روته أمّ سلمة - رضي الله عنها - أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال : { باسم اللّه ، وتوكّلت على اللّه اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أضلّ ، أو أضلّ ، أو أزلّ أو أزلّ ، أو أظلم أو أظلم ، أو أجهل أو يجهل عليّ } . وجاء في دعاء دخول البيت ما رواه أبو مالكٍ الأشعريّ - رضي الله عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { إذا ولج الرّجل بيته فليقل : اللّهمّ أنّي أسألك خير المولج ، وخير المخرج ، باسم اللّه ولجنا ، وباسم اللّه خرجنا ، وعلى اللّه ربّنا توكّلنا ، ثمّ ليسلّم على أهله } .
صلاة الرّجل والمرأة الفريضة في البيت :
13 - اتّفق الفقهاء على صحّة أداء صلاة الفريضة في البيت للرّجل والمرأة . وذهب الحنابلة إلى أنّ الرّجل يأثم إن صلّى الفريضة منفرداً في البيت ، مع صحّة صلاته ، بناءً على قولهم بوجوب صلاة الجماعة على الرّجال الأحرار القادرين عليها ، وذهب الشّافعيّة إلى أنّها فرض كفايةٍ ، وذهب المالكيّة والحنفيّة إلى أنّها سنّة مؤكّدة ، مع اتّفاق فقهاء المذاهب على أنّ الجماعة ليست شرطاً في صحّة الصّلاة ، إلاّ على قول ابن عقيلٍ من الحنابلة . واتّفق الفقهاء على أنّ صلاة الرّجل في المسجد جماعةً أفضل من صلاته منفرداً في البيت ، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسٍ وعشرين درجةً } وفي روايةٍ : { بسبعٍ وعشرين درجةً } . أمّا في حقّ النّساء فإنّ صلاتهنّ في البيت أفضل ، لحديث أمّ سلمة مرفوعاً : { خير مساجد النّساء قعر بيوتهنّ } ولحديث عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها ، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها } وعن { أمّ حميدٍ السّاعديّة أنّها جاءت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول اللّه إنّي أحبّ الصّلاة معك ، فقال صلى الله عليه وسلم : قد علمت . وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك ، وصلاة في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك ، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك ، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجد الجماعة } . قال النّوويّ : يستحبّ للزّوج أن يأذن لزوجته في شهود الجماعة في المسجد ، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه ، ولكن ليخرجن وهنّ تفلات } . أي تاركات للطّيب . ولحديث ابن عمر مرفوعاً { إذا استأذنكم نساؤكم باللّيل إلى المسجد فأذنوا لهنّ } . غير أنّه يكره للمرأة حضور جماعة المسجد إذا ترتّب على خروجها من البيت وحضورها الجماعة فتنة ، وللزّوج منعها من ذلك ، ولا يأثم . وحمل النّهي في الحديث على نهي التّنزيه ، لأنّ حقّ الزّوج في ملازمة البيت واجب ، فلا تتركه للفضيلة .
صلاة النّافلة في البيت :
14 - من السّنّة أن تصلّى النّوافل في البيت . فقد روى زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { صلّوا أيّها النّاس في بيوتكم ، فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته ، إلاّ المكتوبة } . ووجه أفضليّتها : أنّ الصّلاة في البيت أقرب إلى الإخلاص ، وأبعد من الرّياء ، لما فيه من الإسرار بالعمل الصّالح ، وهو أفضل من الإعلان به . وقد جاء تعليل أداء النّافلة في البيت في قوله صلى الله عليه وسلم : { اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ، ولا تتّخذوها قبوراً } فالبيت الّذي لا يذكر اللّه فيه ، ولا تقام فيه الصّلاة ، يكون كالقبر الخرب . بل من الخير أن يجعل المرء نصيباً من صلاته في بيته ، حتّى يعمّره بالذّكر والتّقرّب إلى اللّه سبحانه وتعالى . وجاء في حديث جابرٍ رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : { إذا قضى أحدكم الصّلاة في مسجده ، فليجعل لبيته نصيباً من صلاته ، فإنّ اللّه جاعل في بيته من صلاته خيراً } .
الاعتكاف في البيت :
15 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز للرّجل أن يعتكف في مسجد بيته ، وهو المكان المعزول المهيّأ المتّخذ للصّلاة في البيت . وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى عدم جواز اعتكاف المرأة في مسجد بيتها كذلك . مستدلّين بالأثر عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما : { سئل عن امرأةٍ جعلت عليها - أي نذرت - أن تعتكف في مسجد بيتها ، فقال : بدعة ، وأبغض الأعمال إلى اللّه البدع ، فلا اعتكاف إلاّ في مسجدٍ تقام فيه الصّلاة } ولأنّ مسجد البيت ليس بمسجدٍ حقيقةً ولا حكماً . ولو جاز لفعلته أمّهات المؤمنين ولو مرّةً ، تبييناً للجواز . وذهب الحنفيّة إلى جواز اعتكاف المرأة في مسجد بيتها ، لأنّ موضع الاعتكاف في حقّها هو الموضع الّذي تكون صلاتها فيه أفضل ، كما في حقّ الرّجل ، وصلاتها في مسجد بيتها أفضل ، فكان موضع الاعتكاف مسجد بيتها . كما ذهبوا إلى أنّه لا يجوز لها أن تخرج من معتكفها في البيت إلى نفس البيت . كما في رواية الحسن .
حكم الحلف على سكنى البيت :
16 - لو حلف لا يسكن بيتاً ، ولا نيّة له ، فسكن بيتاً من شعرٍ أو فسطاطاً أو خيمةً ، لم يحنث إن كان من أهل الأمصار ، وحنث إن كان من أهل البادية ، لأنّ البيت اسم لموضعٍ يبات فيه ، واليمين تتقيّد بما عرف من مقصود الحالف ، وأهل البادية يسكنون البيوت المتّخذة من الشّعر ، فإذا كان الحالف بدويّاً يحنث ، بخلاف ما إذا كان من أهل الأمصار .
البيت الحرام 1 - يطلق البيت الحرام على الكعبة ، وسمّى اللّه الكعبة البيت الحرام ، في مثل قوله تعالى : { جعل اللّه الكعبة البيت الحرام قياماً للنّاس } ويقال للكعبة أيضاً : بيت اللّه ، إعظاماً لها وتشريفاً ، كما في قوله تعالى : { وطهّر بيتي للطّائفين والقائمين والرّكّع السّجود } ويطلق على : المسجد الحرام ، وعلى حرم مكّة وما حولها إلى الأعلام المعروفة .
2 - والبيت الحرام أوّل مسجدٍ وضع للعبادة في الأرض ، لقوله تعالى : { إنّ أوّل بيتٍ وضع للنّاس للّذي ببكّة مباركاً وهدًى للعالمين } وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال : { سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن أوّل مسجدٍ وضع في الأرض قال : المسجد الحرام } ولمعرفة أحكام كلٍّ من الكعبة والمسجد الحرام ر : ( الكعبة . المسجد الحرام ) .
بيت الخلاء . انظر : قضاء الحاجة .
بيت الزّوجيّة
التّعريف
1 - البيت لغةً : المسكن ، وبيت الرّجل داره . وبيت الزّوجيّة : محلّ منفرد معيّن مختصّ بالزّوجة ، لا يشاركها أحد في سكناه من أهل الزّوج المميّزين ، وله غلق يخصّه ومرافق سواء كانت في البيت أو في الدّار ، على ألا يشاركها فيها أحد إلاّ برضاها . وهذا في غير الفقراء الّذين يشتركون في بعض المرافق . ما يراعى في بيت الزّوجيّة :
2 - يرى الحنفيّة - على المفتى به - عندهم ، والحنابلة ، وهو رواية عند الشّافعيّة أنّ بيت الزّوجيّة يكون بقدر حال الزّوجين في اليسار والإعسار ، فليس مسكن الأغنياء كمسكن الفقراء ، لقوله تعالى : { وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف } فقوله بالمعروف يقتضي مراعاة حال الزّوجين ، ولأنّ بيت الزّوجيّة - في الأصل - بيت دوامٍ واستقرارٍ ، فجرى مجرى النّفقة والكسوة ، ويراعي الحاكم حالهما عند التّنازع . ويرى المالكيّة : أنّ " محلّ الطّاعة " يكون حسب العادة الجارية بين أهل بلد الزّوجين بقدر وسع الرّجل وحال المرأة . فإن تساويا فقراً أو غنًى اعتبر حالهما ، وإن كان فقيراً لا قدرة له إلاّ على أدنى الكفاية ، فالعبرة بوسعه فقط . وإن كان غنيّاً ذا قدرٍ ، وهي فقيرة ، أجيبت لحالةٍ أعلى من حالها ودون حاله . وإن كانت غنيّةً ذات قدرٍ ، وهو فقير ، إلاّ أنّ له قدرةً على أرفع من حاله ، ولا قدرة له على حالها رفعها بالقضاء إلى الحالة الّتي يقدر عليها . ويرى الشّافعيّة على المعتمد عندهم : أنّ بيت الزّوجيّة يكون بما يليق بحال المرأة عادةً ، إذ هو إمتاع ، سواء كان داراً أو حجرةً أو غيرهما . وظاهر الرّواية عند الحنفيّة : اعتبار حال الزّوج فقط ، لقوله تعالى : { أسكنوهنّ من حيث سكنتم من وجدكم } وهو خطاب للأزواج ، وبه قال جمع كثير منهم ، ونصّ عليه محمّد . وكذا في قولٍ ثالثٍ للشّافعيّة : أنّ مسكن الطّاعة يكون على قدر يسار الزّوج وإعساره وتوسّطه كالنّفقة .
شروط بيت الزّوجيّة :
3 - يرى الفقهاء أنّ بيت الزّوجيّة يراعى فيه ما يأتي :
أ - أن يكون خالياً عن أهل الزّوج ، سوى طفله غير المميّز ، لأنّ المرأة تتضرّر بمشاركة غيرها في بيت الزّوجيّة الخاصّ بها ، ولا تأمن على متاعها ، ويمنعها ذلك من معاشرة زوجها ، وهذا بالنّسبة إلى بيت الزّوجيّة متّفق عليه بين الفقهاء . أمّا سكنى أقارب الزّوج أو زوجاته الأخريات في الدّار الّتي فيها بيت الزّوجيّة ، إذا لم ترض بسكناهم معها فيها ، فقد قال الحنفيّة : إنّه إذا كان لها بيت منفرد في الدّار له غلق ومرافق خاصّة كفاها ، ومقتضاه أنّه ليس لها الاعتراض حينئذٍ على سكنى أقاربه في بقيّة الدّار ، إن لم يكن أحد منهم يؤذيها . وقالوا أيضاً : له أن يسكن ضرّتها حينئذٍ في الدّار ما لم تكن المرافق مشتركةً ، لأنّ هذا سبب للتّخاصم . ومثله في الجملة مذهب الشّافعيّة . وفي قولٍ عند بعض الحنفيّة ارتضاه ابن عابدين : أنّه يفرّق بين الشّريفة والوضيعة ، ففي الشّريفة ذات اليسار لا بدّ من إفرادها في دارٍ ، ومتوسّطة الحال يكفيها بيت واحد من دارٍ . وبنحو هذا قال المالكيّة على تفصيلٍ ذكروه ، كما نصّ عليه صاحب الشّرح الكبير ، قال : للزّوجة الامتناع من أن تسكن مع أقارب الزّوج كأبويه في دارٍ واحدةٍ ، لما فيه من الضّرر عليها باطّلاعهم على حالها ، إلاّ الوضيعة فليس لها الامتناع من السّكنى معهم ، وكذا الشّريفة إن اشترطوا عليها سكناها معهم . ومحلّ ذلك فيما لم يطّلعوا على عوراتها . ونصّ المالكيّة أيضاً على أنّ له أن يسكن معها ولده الصّغير من غيرها ، إن كانت عالمةً به وقت البناء ، أو لم يكن له حاضن غير أبيه ، وإن لم تعلم به وقت البناء . وقال الحنابلة : إن أسكن زوجتيه في دارٍ واحدةٍ ، كلّ واحدةٍ منهما في بيتٍ ، جاز إذا كان بيت كلّ واحدةٍ منهما كمسكن مثلها ، وهذا يقتضي أنّه إذا كان مسكن مثلها داراً مستقلّةً فيلزم الزّوج ذلك . أمّا خادم الزّوج أو الزّوجة : سواء من جهتها أو من جهة الزّوج ، فيجوز سكناه في الدّار ، لأنّ نفقته واجبة على الزّوج ، ولا يكون الخادم إلاّ ممّن يجوز نظره إلى الزّوجة كالمرأة الحرّة .
ب - أن يكون خالياً من سكنى ضرّتها ، لما بينهما من الغيرة ، واجتماعهما يثير الخصومة والمشاجرة ، إلاّ إن رضيتا بسكناهما معاً ، لأنّ الحقّ لهما ، ولهما الرّجوع بعدئذٍ .
ج - أن يكون بين جيرانٍ صالحين ، وهم من تقبل شهادتهم ، وذلك لتأمن فيه على نفسها ومالها ، ومفاده أنّ البيت بلا جيرانٍ ليس مسكناً شرعيّاً ، إن كانت لا تأمن فيه على نفسها ومالها .
د - أن يكون مشتملاً على جميع ما يلزم لمعيشة أمثالهما عادةً على ما تقدّم ، وعلى جميع ما يحتاج إليه من المرافق اللّازمة .
سكنى الطّفل الرّضيع في بيت الزّوجيّة :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ المرأة إذا تعيّن عليها إرضاع طفلها ، أو كانت آجرت نفسها للإرضاع ، وهي غير متزوّجةٍ ، ثمّ تزوّجت ، فليس للزّوج فسخ عقد الإرضاع ، وكذلك ليس له الفسخ إذا أذن لها ، وفي هاتين الحالتين لها أن تسكن الرّضيع معها في بيت الزّوجيّة .
ما يجيز للزّوجة الخروج من بيت الزّوجيّة : الأصل أنّه ليس للمرأة الخروج من بيت الزّوجيّة إلاّ بإذن زوجها ، إلاّ في حالاتٍ خاصّةٍ . وقد اختلف الفقهاء في تلك الحالات ، وأهمّها :
أ - زيارة أهلها :
5 - الرّاجح عند الحنفيّة : إنّه يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزّوجيّة لزيارة أبويها كلّ أسبوعٍ ، أو زيارة المحارم كلّ سنةٍ ، وإن لم يأذن زوجها . ولها الخروج لعيادة والديها وحضور جنازتهما أو أحدهما . وعن أبي يوسف : تقييد خروج المرأة من بيت الزّوجيّة لزيارة أبويها كلّ جمعةٍ بأن لا يقدرا على زيارتها ، فإن قدرا لا تذهب . وأجاز المالكيّة : للمرأة الخروج من بيت الزّوجيّة لزيارة والديها ، ويقضى لها بزيارتهما مرّةً كلّ أسبوعٍ ، إن كانت مأمونةً ولو شابّةً ، وحالها محمول على الأمانة حتّى يظهر خلافها . وإن حلف : أن لا تزور والديها يحنث في يمينه ، بأن يحكم لها القاضي بالخروج للزّيارة ، فإذا خرجت بالفعل حنث ، وهذا على فرض أنّ والديها بالبلد ، لا إن بعدا عنها فلا يقضى لها ، وليس لها أن تخرج لزيارتهما إن حلف باللّه أنّها لا تخرج ، وأطلق - بحيث لم يخصّ منعها من الزّيارة بل منعها من الخروج أصلاً - لفظاً ونيّةً ، ولا يقضى عليه بخروجها ولو لزيارة والديها إذا طلبتها ، لأنّه في حال التّخصيص يظهر منه قصد ضررها ، فلذا حنث ، بخلاف حال التّعميم فإنّه لم يظهر منه قصد الضّرر ، فلذا لا يقضى عليه بخروجها ولا يحنث . وإن لم تكن مأمونةً ، لم تخرج ولو متجالّةً ، أو مع أمينةٍ ، لتطرّق فسادها بالخروج . وجوّز الشّافعيّة خروج المرأة لزيارة أهلها ولو محارم - على المعتمد عندهم - حيث لا ريبة ، وكذا عيادتهم ، وتشييع جنازتهم ، ولو في غيبة الزّوج من غير إذنٍ ، أو منع قبل غيبته ، فلو منعها قبل غيبةٍ فليس لها الخروج ، والمراد خروج لغير سفرٍ وغيبةٍ عن البلد . وأجاز الحنابلة للمرأة الخروج لزيارة والديها بإذن زوجها ، وليس لها الخروج بلا إذنه ، لأنّ حقّ الزّوج واجب فلا يجوز تركه بما ليس بواجبٍ مهما كان سبب الزّيارة ، ولا تخرج بغير إذنه إلاّ لضرورةٍ ، ولا يملك الزّوج منعها من زيارتهما إلاّ مع ظنّ حصول ضررٍ يعرف بقرائن الأحوال بسبب زيارتهما لها ، فله منعهما حينئذٍ من زيارتها دفعاً للضّرر .
ب - سفر المرأة والمبيت خارج بيت الزّوجيّة :
6 - يرى الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة جواز خروج المرأة من بيت الزّوجيّة لأداء الحجّة المفروضة ، ولا يجوز للزّوج منعها لأنّ الحجّ فرض بأصل الشّرع ، ولا يملك تحليلها إذا أحرمت بإذنه بحجٍّ غير مفروضٍ ، لوجوب إتمامه بشروعها فيه . ويرى الشّافعيّة جواز خروج المرأة للحجّ بإذن الزّوج ، إذ ليس للمرأة الحجّ إلاّ بإذن الزّوج للفرض وغيره .
ج - الاعتكاف :
7 - يرى الفقهاء جواز خروج المرأة من بيت الزّوجيّة بإذن زوجها للاعتكاف في المسجد مطلقاً ، والمكث فيه مدّته .
د - رعاية المحارم :
8 - ذهب جمهور الفقهاء - خلافاً للحنابلة - إلى أنّ للمرأة أن تخرج من بيت الزّوجيّة لرعاية محارمها ، كأبويها وإخوتها ، وذلك لتمريض المريض أو عيادته ، إذا لم يوجد من يقوم عليه واحتاجها ، وعليها تعاهده بقدر احتياجه ، وكذا إذا مات أحد من أقاربها تخرج لشهود جنازته ، ويستحبّ لزوجها إذنها بالخروج ، لما في ذلك من صلة الرّحم ، وفي منعها من ذلك قطيعة رحمٍ ، وربّما حملها عدم إذنه على مخالفته ، وقد أمر اللّه سبحانه وتعالى بالمعاشرة بالمعروف ، فلا ينبغي للزّوج منعها . ولم يصرّح الحنابلة بحكم هذه الصّور .
هـ - الخروج لقضاء الحوائج :
9 - يرى جمهور الفقهاء أنّه يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزّوجيّة بلا إذن الزّوج إن كانت لها نازلة ، ولم يغنها الزّوج الثّقة أو نحو محرمها ، وكذا لقضاء بعض حوائجها الّتي لا بدّ لها منها ، كإتيانها بالماء من الدّار ، أو من خارجها ، وكذا مأكل ، ونحو ذلك ممّا لا غناء عنه للضّرورة إن لم يقم الزّوج بقضائه لها ، وكذا إن ضربها ضرباً مبرّحاً ، أو كانت تحتاج إلى الخروج لقاضٍ تطلب عنده حقّها . وصرّح الحنفيّة بأنّ للمرأة أن تخرج من بيت الزّوجيّة إن كان البيت مغصوباً ، لأنّ السّكنى في المغصوب حرام ، والامتناع عن الحرام واجب ، ولا تسقط نفقتها . وكذا لو أبت الذّهاب إليه . وصرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّ للمرأة أن تخرج من بيت الزّوجيّة للعمل إن أجاز لها زوجها ذلك ، لأنّ الحقّ لهما لا يخرج عنهما ، ولها الخروج للإرضاع إن كانت آجرت نفسها له قبل عقد النّكاح ثمّ تزوّجت ، لصحّة الإجارة ، ولا يملك الزّوج فسخها ، ولا منعها من الرّضاع حتّى تنقضي المدّة ، لأنّ منافعها ملكت بعقدٍ سابقٍ على نكاح الزّوج مع علمه بذلك . وصرّح الشّافعيّة بأنّ للمرأة أن تخرج من بيت الزّوجيّة إن كانت تخاف على نفسها أو مالها من فاسقٍ أو سارقٍ ، أو أخرجها معير المنزل ، كما صرّح الشّافعيّة بأنّ لها الخروج والسّفر بإذن الزّوج مطلقاً مع محرمٍ . وصرّح الحنفيّة والشّافعيّة أنّه يجوز للمرأة الخروج من بيت الزّوجيّة ولو بغير إذن الزّوج ، إن كانت في منزلٍ أضحى كلّه أو بعضه يشرف على الانهدام ، مع وجود قرينةٍ على ذلك . ولها الخروج إلى مجلس العلم برضا الزّوج ، وليس لها ذلك بغير رضاه .
ما يترتّب على رفض الزّوجة الإقامة في بيت الزّوجيّة :
10 - يرى الفقهاء أنّ المرأة إذا امتنعت عن الإقامة في بيت الزّوجيّة بغير حقٍّ ، سواء أكان بعد خروجها منه ، أم امتنعت عن أن تجيء إليه ابتداءً بعد إيفائها معجّل مهرها ، وطلب زوجها الإقامة فيه ، فلا نفقة لها ولا سكنى حتّى تعود إليه ، لأنّها بالامتناع قد فوّتت حقّ الزّوج في الاحتباس الموجب للنّفقة ، فتكون ناشزاً .
بيت المال
التّعريف
1 - بيت المال لغةً : هو المكان المعدّ لحفظ المال ، خاصّاً كان أو عامّاً . وأمّا في الاصطلاح : فقد استعمل لفظ " بيت مال المسلمين ، أو " بيت مال اللّه " في صدر الإسلام للدّلالة على المبنى والمكان الّذي تحفظ فيه الأموال العامّة للدّولة الإسلاميّة من المنقولات ، كالفيء وخمس الغنائم ونحوها ، إلى أن تصرف في وجوهها . ثمّ اكتفي بكلمة " بيت المال " للدّلالة على ذلك ، حتّى أصبح عند الإطلاق ينصرف إليه . وتطوّر لفظ " بيت المال " في العصور الإسلاميّة اللّاحقة إلى أن أصبح يطلق على الجهة الّتي تملك المال العامّ للمسلمين ، من النّقود والعروض والأراضي الإسلاميّة وغيرها . والمال العامّ هنا : هو كلّ مالٍ ثبتت عليه اليد في بلاد المسلمين ، ولم يتعيّن مالكه ، بل هو لهم جميعاً . قال القاضي الماورديّ والقاضي أبو يعلى : كلّ مالٍ استحقّه المسلمون ، ولم يتعيّن مالكه منهم ، فهو من حقوق بيت المال . ثمّ قال : وبيت المال عبارة عن الجهة لا عن المكان . أمّا خزائن الأموال الخاصّة للخليفة أو غيره فكانت تسمّى " بيت مال الخاصّة » .
2 - وينبغي عدم الخلط بين ( ديوان بيت المال ) ( وبيت المال ) فإنّ ديوان بيت المال هو الإدارة الخاصّة بتسجيل الدّخل والخرج والأموال العامّة . وهو عند الماورديّ وأبي يعلى : أحد دواوين الدّولة ، فقد كانت في عهدهما أربعة دواوين : ديوان يختصّ بالجيش . وديوان يختصّ بالأعمال ، وديوان يختصّ بالعمّال ، وديوان يختصّ ببيت المال . وليس للدّيوان سلطة التّصرّف في أموال بيت المال ، وإنّما عمله قاصر على التّسجيل فقط . والدّيوان في الأصل بمعنى ( السّجلّ ) أو ( الدّفتر ) وكان في أوّل الإسلام عبارةً عن الدّفتر الّذي تثبت فيه أسماء المرتزقة ( من لهم رزق في بيت المال ) ثمّ تنوّع بعد ذلك ، كما سبق . ومن واجبات كاتب الدّيوان أن يحفظ قوانين بيت المال على الرّسوم العادلة ، من غير زيادةٍ تتحيّف بها الرّعيّة ، أو نقصانٍ ينثلم به حقّ بيت المال . وعليه فيما يختصّ ببيت المال أن يحفظ قوانينه ورسومه ، وقد حصر القاضيان الماورديّ وأبو يعلى أعماله في ستّة أمورٍ ، نذكرها باختصارٍ :
أ - تحديد العمل بما يتميّز به عن غيره ، وتفصيل نواحيه الّتي تختلف أحكامها .
ب - أن يذكر حال البلد ، هل فتحت عنوةً أو صلحاً ، وما استقرّ عليه حكم أرضها من عشرٍ أو خراجٍ بالتّفصيل .
ج - أن يذكر أحكام خراج البلد وما استقرّ على أراضيه ، هل هو خراج مقاسمةٍ ، أم خراج وظيفةٍ ( دراهم معلومة موظّفة على الأرض ) .
د - أن يذكر ما في كلّ ناحيةٍ من أهل الذّمّة ، وما استقرّ عليهم في عقد الجزية .
هـ - إن كان البلد من بلدان المعادن ، يذكر أجناس معادنه ، وعدد كلّ جنسٍ ، ليعلم ما يؤخذ ممّا ينال منه .
و - إن كان البلد يتاخم دار الحرب ، وكانت أموالهم إذا دخلت دار الإسلام تعشّر عن صلحٍ استقرّ معهم ، أثبت في الدّيوان عقد صلحهم وقدر المأخوذ منهم . نشأة بيت المال في الإسلام :
3 - تشير بعض المصادر إلى أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كان أوّل من اتّخذ بيت المال . نقل ذلك ابن الأثير . غير أنّ كثيراً من المصادر تذكر أنّ أبا بكرٍ رضي الله عنه كان قد اتّخذ بيت مالٍ للمسلمين . ففي الاستيعاب لابن عبد البرّ وتهذيب التّهذيب لابن حجرٍ في ترجمة معيقيبٍ بن أبي فاطمة : استعمله أبو بكرٍ وعمر على بيت المال . بل ذكر ابن الأثير في موضعٍ آخر : أنّ أبا بكرٍ رضي الله عنه كان له بيت مالٍ بالسّنح ( من ضواحي المدينة ) وكان يسكنه إلى أن انتقل إلى المدينة . فقيل له : ألا نجعل عليه من يحرسه ؟ قال : لا . فكان ينفق ما فيه على المسلمين ، فلا يبقى فيه شيء ، فلمّا انتقل إلى المدينة جعل بيت المال في داره . ولمّا توفّي أبو بكرٍ جمع عمر الأمناء ، وفتح بيت المال ، فلم يجدوا فيه غير دينارٍ سقط من غرارةٍ ، فترحموا عليه . وقال : وأمر أبو بكرٍ أن يردّ جميع ما أخذ من بيت المال لنفقته بعد وفاته . وفي كتاب الخراج لأبي يوسف أنّ خالد بن الوليد - في عهده لأهل الحيرة زمن أبي بكرٍ رضي الله عنه - كتب لهم : وجعلت لهم أيّما شيخٍ ضعف عن العمل ، أو أصابته آفة ، أو كان غنيّاً فافتقر وصار أهل دينه يتصدّقون عليه ، طرحت جزيته ، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام ... وشرطت عليهم جباية ما صالحتهم عليه ، حتّى يؤدّوه إلى بيت مال المسلمين عمّا لهم منهم .
4 - أمّا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلا تذكر السّنّة وغيرها من المراجع - فيما اطّلعنا عليه - استعمال هذه التّسمية " بيت المال " في عهده صلى الله عليه وسلم . ولكن يظهر من كثيرٍ من الأحاديث الواردة أنّ بعض وظائف بيت المال كانت قائمةً ، فإنّ الأموال العامّة من الفيء ، وأخماس الغنائم ، وأموال الصّدقات ، وما يهيّأ للجيش من السّلاح والعتاد ونحو ذلك ، كلّ ذلك كان يضبطه الكتّاب وكان يخزّن إلى أن يحين موعد إخراجه . أمّا فيما بعد عهد عمر رضي الله عنه فقد استمرّ بيت المال يؤدّي دوره طيلة العهود الإسلاميّة إلى أن جاءت النّظم المعاصرة ، فاقتصر دوره في الوقت الحاضر - في بعض البلاد الإسلاميّة - على حفظ الأموال الضّائعة ومال من لا وارث له ، وقام بدوره في غير ذلك وزارات الماليّة والخزانة .
سلطة التّصرّف في أموال بيت المال :
5 - سلطة التّصرّف في بيت مال المسلمين للخليفة وحده أو من ينيبه . وذلك لأنّ الإمام نائب عن المسلمين فيما لم يتعيّن المتصرّف فيه منهم . وكلّ من يتصرّف في شيءٍ من حقوق بيت المال فلا بدّ أن يستمدّ سلطته في ذلك من سلطة الإمام . ويجب - وهو ما جرت عليه العادة - أن يولّي الخليفة على بيت المال رجلاً من أهل الأمانة والقدرة . وكان المتصرّف في بيت المال بإنابة الخليفة يسمّى " صاحب بيت المال " وإنّما يتصرّف فيه طبقاً لما يحدّده الخليفة من طرق الصّرف . وكون الحقّ في التّصرّف في أموال بيت المال للخليفة ليس معناه أن يتصرّف فيها طبقاً لما يشتهي ، كما يتصرّف في ماله الخاصّ ، فإن كان يفعل ذلك قيل : إنّ بيت المال قد فسد ، أو أصبح غير منتظمٍ ، ويستتبع ذلك أحكاماً خاصّةً يأتي بيانها ، بل ينبغي أن يكون تصرّفه في تلك الأموال كتصرّف وليّ اليتيم في مال اليتيم ، كما قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : إنّي أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة وليّ اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت . ويعني ذلك أن يتصرّف في المال بالّذي يرى أنّه خير للمسلمين وأصلح لأمرهم ، دون التّصرّف بالتّشهّي والهوى والأثرة . وبيّن القاضي أبو يعلى أنّ ما يلزم الإمام من أمور الأمّة عشرة أشياء ، منها : جباية الفيء والصّدقات على ما أوجبه الشّرع . ومنها تقدير العطاء وما يستحقّ في بيت المال من غير سرفٍ ولا تقصيرٍ ، ودفعه في وقتٍ لا تقديم فيه ولا تأخير . وله أن يعطي الجوائز من بيت المال لمن كان فيه نفع ظاهر للمسلمين ، وقوّة على العدوّ ، ونحو ذلك ممّا فيه المصلحة . وقد كانت العادة في صدر الدّولة الإسلاميّة أنّ العامل ( أي الوالي ) على بلدٍ أو إقليمٍ ، ينوب عن الإمام بتفويضٍ منه في الجباية لبيت المال والإنفاق منه ، وكان المفترض فيه أن يتصرّف على الوجه الشّرعيّ المعتبر . ولم يكن ذلك للقضاة . وربّما كان صاحب بيت المال في بعض الأمصار يتّبع الخليفة مباشرةً ، مستقلّاً عن عامل المصر .
موارد بيت المال :
6 - موارد بيت المال الأصناف التّالية ، وأمّا صفة اليد على كلٍّ منها فإنّها مختلفة ، كما سنبيّنه فيما بعد .
أ - الزّكاة بأنواعها ، الّتي يأخذها الإمام سواء أكانت زكاة أموالٍ ظاهرةٍ أم باطنةٍ ، من السّوائم والزّروع والنّقود والعروض ، ومنها عشور تجّار المسلمين إذا مرّوا بتجارتهم على العاشر . ب - خمس الغنائم المنقولة . والغنيمة هي كلّ مالٍ أخذ من الكفّار بالقتال ، ما عدا الأراضي والعقارات ، فيورّد خمسها لبيت المال ، ليصرف في مصارفه . قال اللّه تعالى : { واعلموا أنّما غنمتم من شيءٍ فأنّ للّه خمسه وللرّسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل ... } الآية .
ج - خمس الخارج من الأرض من المعادن من الذّهب والفضّة والحديد وغيرها ، وقيل : مثلها المستخرج من البحر من لؤلؤٍ وعنبرٍ وسواهما .
د - خمس الرّكاز ( الكنوز ) وهو كلّ مالٍ دفن في الأرض بفعل الإنسان ، والمراد هنا كنوز أهل الجاهليّة والكفر إذا وجده مسلم ، فخمسه لبيت المال ، وباقيه بعد الخمس لواجده .
هـ - الفيء : وهو كلّ مالٍ منقولٍ أخذ من الكفّار بغير قتالٍ ، وبلا إيجاف خيلٍ ولا ركابٍ . والفيء أنواع : ( 1 ) ما جلا عنه الكفّار خوفاً من المسلمين من الأراضي والعقارات ، وهي توقف كالأراضي المغنومة بالقتال ، وتقسّم غلّاتها كلّ سنةٍ ، نصّ عليه الشّافعيّة . وفي ذلك خلاف ( انظر : فيء ) . ( 2 ) ما تركوه وجلوا عنه من المنقولات . وهو يقسّم في الحال ولا يوقف . ( 3 ) ما أخذ من الكفّار من خراجٍ أو أجرةٍ عن الأراضي الّتي ملكها المسلمون ، ودفعت بالإجارة لمسلمٍ أو ذمّيٍّ ، أو عن الأراضي الّتي أقرّت بأيدي أصحابها من أهل الذّمّة صلحاً أو عنوةً على أنّها لهم ، ولنا عليها الخراج . ( 4 ) الجزية وهي : ما يضرب على رقاب الكفّار لإقامتهم في بلاد المسلمين . فيفرض على كلّ رأسٍ من الرّجال البالغين القادرين مبلغ من المال ، أو يضرب على البلد كلّها أن تؤدّي مبلغاً معلوماً . ولو أدّاها من لا تجب عليه كانت هبةً لا جزيةً . ( 5 ) عشور أهل الذّمّة ، وهي : ضريبة تؤخذ منهم عن أموالهم الّتي يتردّدون بها متاجرين إلى دار الحرب ، أو يدخلون بها من دار الحرب إلى دار الإسلام ، أو ينتقلون بها من بلدٍ في دار الإسلام إلى بلدٍ آخر ، تؤخذ منهم في السّنة مرّةً ، ما لم يخرجوا من دار الإسلام ، ثمّ يعودوا إليها . ومثلها عشور أهل الحرب من التّجّار كذلك ، إذا دخلوا بتجارتهم إلينا مستأمنين . ( 6 ) ما صولح عليه الحربيّون من مالٍ يؤدّونه إلى المسلمين . ( 7 ) مال المرتدّ إن قتل أو مات ، ومال الزّنديق إن قتل أو مات ، فلا يورث مالهما بل هو فيء ، وعند الحنفيّة في مال المرتدّ تفصيل . ( 8 ) مال الذّمّيّ إن مات ولا وارث له ، وما فضل من ماله عن وارثه فهو فيء كذلك . ( 9 ) الأراضي المغنومة بالقتال ، وهي الأراضي الزّراعيّة عند من يرى عدم تقسيمها بين الغانمين .
و - غلّات أراضي بيت المال وأملاكه ونتاج المتاجرة والمعاملة .
ز - الهبات والتّبرّعات والوصايا الّتي تقدّم لبيت المال للجهاد أو غيره من المصالح العامّة . ح - الهدايا الّتي تقدّم إلى القضاة ممّن لم يكن يهدى لهم قبل الولاية ، أو كان يهدى لهم لكن له عند القاضي خصومة ، فإنّها إن لم تردّ إلى مهديها تردّ إلى بيت المال . لأنّ { النّبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ من ابن اللّتبيّة ما أهدي إليه } . وكذلك الهدايا الّتي تقدّم إلى الإمام من أهل الحرب ، والهدايا الّتي تقدّم إلى عمّال الدّولة ، وهذا إن لم يعط الآخذ مقابلها من ماله الخاصّ . ط - الضّرائب الموظّفة على الرّعيّة لمصلحتهم ، سواء أكان ذلك للجهاد أم لغيره ، ولا تضرب عليهم إلاّ إذا لم يكن في بيت المال ما يكفي لذلك ، وكان لضرورةٍ ، وإلاّ كانت مورداً غير شرعيٍّ . ي - الأموال الضّائعة ، وهي مال وجد ولم يمكن معرفة صاحبه ، من لقطةٍ أو وديعةٍ أو رهنٍ ، ومنه ما يوجد مع اللّصوص ونحوهم ممّا لا طالب له ، فيورّد إلى بيت المال . ك - مواريث من مات من المسلمين بلا وارثٍ ، أو له وارث لا يرث كلّ المال - عند من لا يرى الرّدّ - ومن قتل وكان بلا وارثٍ فإنّ ديته تورّد إلى بيت المال ، ويصرف هذا في مصارف الفيء . وحقّ بيت المال في هذا النّوع هو على سبيل الميراث عند الشّافعيّة والمالكيّة أي على سبيل العصوبة . وقال الحنابلة والحنفيّة : يردّ إلى بيت المال فيئاً لا إرثاً ( ر : إرث ) . ل - الغرامات والمصادرات : وقد ورد في السّنّة تغريم مانع الزّكاة بأخذ شطر ماله ، وبهذا يقول إسحاق بن راهويه وأبو بكرٍ عبد العزيز ، وورد تغريم من أخذ من الثّمر المعلّق وخرج به ضعف قيمته ، وبهذا يقول الحنابلة وإسحاق بن راهويه : والظّاهر أنّ مثل هذه الغرامات إذا أخذت تنفق في المصالح العامّة ، فتكون بذلك من حقوق بيت المال . وورد أنّ عمر رضي الله عنه صادر شطر أموال بعض الولاة ، لمّا ظهر عليهم الإثراء بسبب أعمالهم ، فيرجع مثل ذلك إلى بيت المال أيضاً .
أقسام بيت المال ومصارف كلّ قسمٍ :
7 - الأموال الّتي تدخل بيت المال متنوّعة المصارف ، وكثير من أصنافها لا يجوز صرفه في الوجوه الّتي تصرف فيها الأصناف الأخرى . ومن أجل ذلك احتيج إلى فصل أموال بيت المال بحسب مصارفها ، لأجل سهولة التّصرّف فيها ، وقد نصّ أبو يوسف على فصل الزّكاة عن الخراج في بيت المال ، فقال : مال الصّدقة والعشور لا ينبغي أن يجمع إلى مال الخراج ، لأنّ الخراج فيء لجميع المسلمين ، والصّدقات لمن سمّى اللّه في كتابه . وقد نصّ الحنفيّة على أنّه يجب على الإمام توزيع موجودات بيت المال على أربعة بيوتٍ ، ولا تأبى قواعد المذاهب الأخرى التّقسيم من حيث الجملة . وقد قال الحنفيّة : للإمام أن يستقرض من أحد البيوت الأربعة ليصرفه في مصارف البيوت الأخرى ، ويجب ردّه إلى البيت المستقرض منه ، ما لم يكن ما صرفه إليه يجوز صرفه من هذا البيت الآخر . والبيوت الأربعة هي : البيت الأوّل : بيت الزّكاة :
8 - من حقوقه : زكاة السّوائم ، وعشور الأراضي الزّكويّة ، والعشور الّتي تؤخذ من التّجّار المسلمين إذا مرّوا على العاشر ، وزكاة الأموال الباطنة إن أخذها الإمام . ومصرف هذا النّوع المصارف الثّمانية الّتي نصّ عليها القرآن العظيم . وفي ذلك تفصيل وخلاف يرجع إليه في مصطلح ( زكاة ) . وقد نقل الماورديّ الخلاف بين الفقهاء في صفة اليد على هذه الأموال ، فنقل أنّ قول أبي حنيفة : إنّها من حقوق بيت المال ، أي أملاكه الّتي يرجع التّصرّف فيها إلى رأي الإمام واجتهاده ، كمال الفيء . ولذا يجوز صرفه في المصالح العامّة كالفيء ، وإن رأى الشّافعيّ أنّ بيت المال مجرّد حرزٍ للزّكاة يحرّزها لأصحابها ، فإن وجدوا وجب الدّفع إليهم ، وإن لم يوجدوا أحرزها لبيت المال ، وجوباً على مذهبه القديم ، وجوازاً على مذهبه الجديد ، بناءً على وجوب دفع الزّكاة إلى الإمام ، أو جواز ذلك . ونقل أبو يعلى الحنبليّ أنّ قول أحمد كقول الشّافعيّ في ذلك وخرّج وجهاً في زكاة الأموال الظّاهرة كقول أبي حنيفة .
البيت الثّاني : بيت الأخماس :
9 - والمراد بالأخماس :
أ - خمس الغنائم المنقولة ، وقيل : وخمس العقارات الّتي غنمت أيضاً .
ب - خمس ما يوجد من كنوز الجاهليّة وقيل هو زكاة .
ج - خمس أموال الفيء على قول الشّافعيّ ، وإحدى روايتين عن أحمد . وعلى الرّواية الأخرى ومذهب الحنفيّة والمالكيّة : لا يخمّس الفيء . ومصرف هذا النّوع خمسة أسهمٍ : سهم للّه ورسوله ، وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السّبيل ، على ما قال اللّه تعالى : { واعلموا أنّما غنمتم من شيءٍ فأنّ للّه خمسه وللرّسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل } وكان السّهم الأوّل يأخذه النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حياته ، وبعده يصرف في مصالح المسلمين على رأي الإمام ، فينقل لبيت مال الفيء الآتي ذكره . وسائر الأسهم الأربعة تحرّز لأصحابها في بيت المال ، حتّى تقسّم عليهم ، وليس للإمام أن يصرفها في المصالح .
البيت الثّالث : بيت الضّوائع :
10 - وهي الأموال الضّائعة ونحوها من لقطةٍ لا يعرف صاحبها ، أو مسروقٍ لا يعلم صاحبه ونحوهما على ما تقدّم ، فتحفظ في هذا البيت محرّزةً لأصحابها ، فإن حصل اليأس من معرفتهم صرف في وجهه . ومصرف أموال هذا البيت - على ما نقله ابن عابدين عن الزّيلعيّ ، وقال : إنّه المشهور عند الحنفيّة - هو اللّقيط الفقير ، والفقراء الّذين لا أولياء لهم ، فيعطون منه نفقتهم وأدويتهم وتكاليف أكفانهم ودية جناياتهم . وقال الماورديّ : عند أبي حنيفة يصرف لهؤلاء صدقةً عمّن المال له ، أو من خلّف المال . ولم نعثر لغير الحنفيّة على تخصيص هذا النّوع من الأموال بمصرفٍ خاصٍّ ، فالظّاهر أنّها عندهم تصرف في المصالح العامّة كالفيء ، وهو ما صرّح به أبو يعلى والماورديّ في مال من مات بلا وارثٍ ، وبناءً على ذلك تكون البيوت عندهم ثلاثةً لا أربعةً .
البيت الرّابع : وهو بيت مال الفيء :
11 - أهمّ موارد هذا البيت ما يلي :
أ - أنواع الفيء الّتي تقدّم ذكرها .
ب - سهم اللّه ورسوله من الأخماس .
ج - الأراضي الّتي غنمها المسلمون على القول بأنّها لا تقسّم ، وأنّها ليست من الوقف المصطلح عليه .
د - خراج الأرض الّتي غنمها المسلمون ، سواء اعتبرت وقفاً أم غير وقفٍ .
هـ - خمس الكنوز الّتي لم يعلم صاحبها ، أو تطاول عليها الزّمن .
و - خمس الخارج من الأرض من معدنٍ أو نفطٍ أو نحو ذلك . وقيل : ما يؤخذ من ذلك هو زكاة مقدارها ربع العشر ، ويصرف في مصارف الزّكاة .
ز - مال من مات بلا وارثٍ من المسلمين ، ومن ذلك ديته . ح - الضّرائب الموظّفة على الرّعيّة ، الّتي لم توظّف لغرضٍ معيّنٍ . ط - الهدايا إلى القضاة والعمّال والإمام . ى - أموال البيت السّابق على قول غير الحنفيّة .
مصارف بيت مال الفيء :
12 - مصرف أموال هذا البيت المصالح العامّة للمسلمين ، فيكون تحت يد الإمام ، ويصرف منه بحسب نظره واجتهاده في المصلحة العامّة . والفقهاء إذا أطلقوا القول بأنّ نفقة كذا هي في بيت المال ، يقصدون هذا البيت الرّابع ، لأنّه وحده المخصّص للمصالح العامّة ، بخلاف ما عداه ، فالحقّ فيه لجهاتٍ محدّدةٍ ، يصرف لها لا لغيرها . وفيما يلي بيان بعض المصالح الّتي تصرف فيها أموال هذا البيت ممّا ورد في كلام الفقهاء ، لا على سبيل الحصر والاستقصاء ، فإنّ أبواب المصالح لا تنحصر ، وهي تختلف من عصرٍ إلى عصرٍ ، ومن بلدٍ إلى بلدٍ .
13 - ومن أهمّ المصالح الّتي تصرف فيها أموال هذا البيت ما يلي :
أ - العطاء ، وهو نصيب من بيت مال المسلمين يعطى لكلّ مسلمٍ ، سواء أكان من أهل القتال أم لم يكن . وهذا أحد قولين للحنابلة قدّمه صاحب المغني ، وهو كذلك أحد قولين للشّافعيّة هو خلاف الأظهر عندهم . قال الإمام أحمد : في الفيء حقّ لكلّ المسلمين ، وهو بين الغنيّ والفقير . ومن الحجّة لهذا القول قول اللّه تعالى : { ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى فللّه وللرّسول ... } الآية . ثمّ قال : { للفقراء المهاجرين الّذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من اللّه ورضواناً وينصرون اللّه ورسوله أولئك هم الصّادقون } ثمّ قال : { والّذين تبوّءوا الدّار والإيمان من قبلهم يحبّون من هاجر إليهم ... } ثمّ قال : { والّذين جاءوا من بعدهم ... } فاستوعب كلّ المسلمين . ولهذا قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بعد أن قرأ الآيات من سورة الحشر : هذه - يعني الآية الأخيرة - استوعبت المسلمين عامّةً ، ولإن عشت ليأتينّ الرّاعي بسرو حمير نصيبه منها ، لم يعرق فيه جبينه . والقول الثّاني للحنابلة ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة : أنّ أهل الفيء هم أهل الجهاد المرابطون في الثّغور ، وجند المسلمين ، ومن يقوم بمصالحهم - أي بالإضافة إلى أبواب المصالح الآتي بيانها . وأمّا الأعراب ونحوهم ممّن لا يعدّ نفسه للقتال في سبيل اللّه فلا حقّ لهم فيه ، ما لم يجاهدوا فعلاً . ومن الحجّة لهذا القول ما في صحيح مسلمٍ وغيره من حديث بريدة { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أمّر أميراً على جيشٍ أو سريّةٍ أوصاه في خاصّته بتقوى اللّه ... } إلى أن قال : { ثمّ ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم ، ثمّ ادعهم إلى التّحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنّهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما على المهاجرين . فإن أبوا أن يتحوّلوا منها ، فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم اللّه الّذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء ، إلاّ أن يجاهدوا مع المسلمين } . وقيل عند الشّافعيّة : إنّ الفيء كلّه يجب قسمه بين من له رزق في بيت المال في عامه ، ولا يبقى منه شيء ولا يوفّر شيء للمصالح ما عدا خمس الخمس ( أي الّذي للّه ورسوله ) والتّحقيق عندهم : إعطاء من لهم رزق في بيت المال كفايتهم ، وصرف ما يتبقّى من مال الفيء للمصالح .
ب - الأسلحة والمعدّات والتّحصينات وتكاليف الجهاد والدّفاع عن أوطان المسلمين .
ج - رواتب الموظّفين الّذين يحتاج إليهم المسلمون في أمورهم العامّة ، من القضاة والمحتسبين ، ومن ينفّذون الحدود ، والمفتين والأئمّة والمؤذّنين والمدرّسين ، ونحوهم من كلّ من فرّغ نفسه لمصلحة المسلمين ، فيستحقّ الكفاية من بيت المال له ولمن يعوله . ويختلف ذلك باختلاف الأعصار والبلدان لاختلاف الأحوال والأسعار . وليست هذه الرّواتب أجرةً للموظّفين من كلّ وجهٍ ، بل هي كالأجرة ، لأنّ القضاء ونحوه من الطّاعات لا يجوز أخذ الأجرة عليه أصلاً . ثمّ إن سمّي للموظّف مقدار معلوم استحقّه ، وإلاّ استحقّ ما يجري لأمثاله إن كان ممّن لا يعمل إلاّ بمرتّبٍ . وأرزاق هؤلاء ، وأرزاق الجند إن لم توجد في بيت المال ، تبقى ديناً عليه ، ووجب إنظاره ، كالدّيون مع الإعسار . بخلاف سائر المصالح فلا يجب القيام بها إلاّ مع القدرة ، وتسقط بعدمها . والرّاجح عند الحنفيّة : أنّ من مات من أهل العطاء ، كالقاضي والمفتي والمدرّس ونحوهم قبل انتهاء العام ، يعطى حصّته من العام ، أمّا من مات في آخره أو بعد تمامه فإنّه يجب الإعطاء إلى وارثه .
د - القيام بشئون فقراء المسلمين من العجزة واللّقطاء والمساجين الفقراء ، الّذين ليس لهم ما ينفق عليهم منه ، ولا أقارب تلزمهم نفقتهم ، فيتحمّل بيت المال نفقاتهم وكسوتهم وما يصلحهم من دواءٍ وأجرة علاجٍ وتجهيز ميّتٍ ، وكذا دية جناية من لم يكن له عاقلة من المسلمين ، أو كان له عاقلة فعجزوا عن الكلّ أو البعض ، فإنّ بيت المال يتحمّل باقي الدّية ، ولا تعقل عن كافرٍ . ونبّه بعض الشّافعيّة إلى أنّ إقرار الجاني لا يقبل على بيت المال ، كما لا يقبل على العاقلة .
هـ - الإنفاق على أهل الذّمّة من بيت المال : ليس لكافرٍ ذمّيٍّ أو غيره حقّ في بيت مال المسلمين . لكنّ الذّمّيّ إن احتاج لضعفه يعطى ما يسدّ جوعته . وفي كتاب الخراج لأبي يوسف أنّ ممّا أعطاه خالد بن الوليد رضي الله عنه في عهده لأهل الحيرة : أيّما شيخٍ ضعف عن العمل ، أو أصابته آفة من الآفات ، أو كان غنيّاً فافتقر ، وصار أهل دينه يتصدّقون عليه طرحت جزيته ، وعيل من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام . ونقل مثل ذلك أبو عبيدٍ في كتاب الأموال .
و - ومن مصارف بيت مال الفيء أيضاً : فكاك أسرى المسلمين من أيدي الكفّار ، ونقل أبو يوسف في كتاب الخراج قول عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : كلّ أسيرٍ كان في أيدي المشركين من المسلمين ففكاكه من بيت مال المسلمين . وهناك وجه للشّافعيّة بأنّ فكاكه في ماله هو ( ر : أسرى ) . وشبيه بهذا ما قاله بعض الشّافعيّة أنّ مالك الدّوابّ - غير المأكولة - لو امتنع من علفها ، ولم يمكن إجباره لفقره مثلاً ينفق عليها من بيت المال مجّاناً ، وكذلك الدّابّة الموقوفة إن لم يمكن أخذ النّفقة من كسبها .
ز - المصالح العامّة لبلدان المسلمين ، من إنشاء المساجد والطّرق والجسور والقناطر والأنهار والمدارس ونحو ذلك ، وإصلاح ما تلف منها . ح - ضمان ما يتلف بأخطاء أعضاء الإدارة الحكوميّة : من ذلك أخطاء وليّ الأمر والقاضي ونحوهم من سائر من يقوم بالأعمال العامّة ، إذا أخطئوا في عملهم الّذي كلّفوا به ، فتلف بذلك نفس أو عضو أو مال ، كدية من مات بالتّجاوز في التّعزير ، فحيث وجب ضمان ذلك يضمن بيت المال . فإن كان العمل المكلّف به لشأنٍ خاصٍّ للإمام أو غيره من المسئولين فالضّمان على عاقلته ، أو في ماله الخاصّ بحسب الأحوال . وذلك لأنّ أخطاءهم قد تكثر ، فلو حملوها هم أو عاقلتهم لأجحف بهم . هذا عند الحنفيّة والمالكيّة ، وهو الأصحّ عند الحنابلة ، والقول غير الأظهر للشّافعيّة . أمّا الأظهر للشّافعيّة ، ومقابل الأصحّ عند الحنابلة فهو أنّ الضّمان على عاقلته . أمّا ضمان العمد فيتحمّله فاعله اتّفاقاً . ط - تحمّل الحقوق الّتي أقرّها الشّرع لأصحابها ، واقتضت قواعد الشّرع أن لا يحملها أحد معيّن : ومن أمثلة ذلك ما لو قتل شخص في زحام طوافٍ أو مسجدٍ عامٍّ أو الطّريق الأعظم ، ولم يعرف قاتله ، فتكون ديته في بيت المال لقول عليٍّ رضي الله عنه : لا يبطل في الإسلام دم ، وقد { تحمّل النّبيّ صلى الله عليه وسلم دية عبد اللّه بن سهلٍ الأنصاريّ حين قتل في خيبر ، لمّا لم يعرف قاتله ، وأبى الأنصار أن يحلفوا القسامة ، ولم يقبلوا أيمان اليهود ، فوداه النّبيّ صلى الله عليه وسلم من عنده كراهية أن يبطل دمه } . ومن ذلك أيضاً أجرة تعريف اللّقطة ، فللقاضي أن يرتّب أجرة تعريفها من بيت المال ، على أن تكون قرضاً على صاحبها .
أولويّات الصّرف من بيت المال :
14 - يرى المالكيّة والشّافعيّة أنّه يندب البدء بالصّرف لآل النّبيّ صلى الله عليه وسلم الّذين تحرم عليهم الصّدقة ، اقتداءً بفعل عمر رضي الله عنه ، إذ قدّم آل بيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ديوان العطاء . ثمّ بعد ذلك يجب البدء بمصالح أهل البلد الّذين جمع منهم المال ، كبناء مساجدهم وعمارة ثغورهم وأرزاق قضاتهم ومؤذّنيهم وقضاء ديونهم وديات جناياتهم ، ويعطون كفاية سنتهم . وإن كان غير فقراء البلد الّتي جبي فيها المال أكثر احتياجاً منهم ، فإنّ الإمام يصرف القليل لأهل البلد الّتي جبي فيها المال ، ثمّ ينقل الأكثر لغيرهم . ويرى الحنابلة أنّه إذا اجتمع على بيت المال حقّان ، ضاق عنهما واتّسع لأحدهما ، صرف فيما يصير منهما ديناً على بيت المال لو لم يؤدّ في وقته ، كأرزاق الجند وأثمان المعدّات والسّلاح ونحوهما ، دون ما يجب على وجه الإرفاق والمصلحة ، كالطّرق ونحوها .
الفائض في بيت المال :
15 - لعلماء المسلمين فيما يفيض في بيت المال ، بعد أداء الحقوق الّتي عليه ، ثلاثة اتّجاهاتٍ : الأوّل - وهو مذهب الشّافعيّة : أنّه يجب تفريق الفائض وتوزيعه على من يعمّ به صلاح المسلمين ، ولا يدّخر ، لأنّ ما ينوب المسلمين يتعيّن فرضه عليهم إذا حدث . وفي المنهاج وشرحه من كتب الشّافعيّة : يوزّع الفائض على الرّجال البالغين ممّن لهم رزق في بيت المال ، لا على غيرهم ولا ذراريّهم . قال القليوبيّ : والغرض أن لا يبقى في بيت المال شيء . والثّاني - وهو مذهب الحنفيّة : أنّها تدّخر في بيت المال لما ينوب المسلمين من حادثٍ . والثّالث - التّفويض لرأي الإمام ، قال القليوبيّ من الشّافعيّة : قال المحقّقون : للإمام الادّخار . ونقل صاحب جواهر الإكليل عن المدوّنة : يبدأ في الفيء بفقراء المسلمين ، فما بقي يقسّم بين النّاس بالسّويّة ، إلاّ أن يرى الإمام حبسه لنوائب المسلمين . إذا عجز بيت المال عن أداء الحقوق :
16 - بيّن الماورديّ وأبو يعلى حالة عجز بيت المال عن أداء الحقوق فقالا ما حاصله : إنّ المستحقّ على بيت المال ضربان : الأوّل : ما كان بيت المال له مجرّد حرزٍ ، كالأخماس والزّكاة ، فاستحقاقه معتبر بالوجود ، فإن كان المال موجوداً فيه كان مصرفه مستحقّاً ، وعدمه مسقط لاستحقاقه . الثّاني : ما كان بيت المال له مستحقّاً ، وهو مال الفيء ونحوه ، ومصارفه نوعان : أوّلهما : ما كان مصرفه مستحقّاً على وجه البدل ، كرواتب الجنود ، وأثمان ما اشتري من السّلاح والمعدّات ، فاستحقاقه غير معتبرٍ بالوجود ، بل هو من الحقوق اللّازمة لبيت المال مع الوجود والعدم . فإن كان موجوداً يعجّل دفعه ، كالدّين على الموسر ، وإن كان معدوماً وجب فيه ، ولزم إنظاره ، كالدّين على المعسر . ثانيهما : أن يكون مصرفه مستحقّاً على وجه المصلحة والإرفاق دون البدل ، فاستحقاقه معتبر بالوجود دون العدم . فإن كان موجوداً وجب فيه ، إن كان معدوماً سقط وجوبه عن بيت المال . ثمّ يكون - إن عمّ ضرره - من فروض الكفاية على المسلمين ، حتّى يقوم به من فيه كفاية كالجهاد ، وإن كان ممّا لا يعمّ ضرره كوعورة طريقٍ قريبٍ يجد النّاس غيره طريقاً بعيداً ، أو انقطاع شربٍ يجد النّاس غيره شرباً . فإذا سقط وجوبه عن بيت المال بالعدم سقط وجوبه عن الكافّة ، لوجود البدل . ويلاحظ أنّه قد يكون العجز في بيت المال الفرعيّ ، أي في أحد الأقاليم التّابعة للإمام . فإذا قلّد الخليفة أميراً على إقليمٍ ، فإذا نقص مال الخراج عن أرزاق جيشه ، فإنّه يطالب الخليفة بتمامها من بيت المال . أمّا إن نقص مال الصّدقات عن كفاية مصارفها في عمله فلا يكون له مطالبة الخليفة بتمامها ، وذلك لأنّ أرزاق الجيش مقدّرة بالكفاية ، وحقوق أهل الصّدقات معتبرة بالوجود .
تصرّفات الإمام في الدّيون على بيت المال :
17 - إذا ثبتت الدّيون على بيت المال ، ولم يكن فيه وفاء لها ، فللإمام أن يستقرض من أحد بيوت المال للبيت الآخر ، نصّ على ذلك الحنفيّة . وقالوا : وإذا حصل للخزانة الّتي استقرض لها مال يردّ إلى المستقرض منه ، إلاّ أن يكون المصروف من الصّدقات أو خمس الغنائم على أهل الخراج ، وهم فقراء ، فإنّه لا يردّ من ذلك شيئاً ، لاستحقاقهم الصّدقات بالفقر . وكذا غيره إذا صرف إلى المستحقّ . وللإمام أيضاً أن يستعير أو يقترض لبيت المال من الرّعيّة . { وقد استعار النّبيّ صلى الله عليه وسلم دروعاً للجهاد من صفوان بن أميّة } { واستسلف عليه الصلاة والسلام بعيراً وردّ مثله من إبل الصّدقة } ، وذلك اقتراض على خزانة الصّدقات من بيت المال .
تنمية أموال بيت المال والتّصرّف فيها :
18 - بالإضافة إلى ما تقدّم من صلاحيات الإنفاق في بيت المال ، فإنّ للإمام التّصرّف في أموال بيت المال . والقاعدة في ذلك أنّ منزلة الإمام من أموال بيت المال منزلة الوليّ من مال اليتيم ، كما قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : إنّي أنزلت نفسي من هذا المال منزلة وليّ اليتيم . فله فيه من التّصرّف ما لوليّ اليتيم في مال اليتيم . وليست هذه القاعدة على إطلاقها ، فلا يلزم التّشبيه من كلّ وجهٍ ، بدليل أنّ للإمام التّمليك من بيت المال والإقطاع منه . ومن الأمثلة الّتي تعرّض لها بعض الفقهاء ما يلي :
أ - البيع : يجوز للإمام بيع شيءٍ من أموال بيت المال ، إذا رأى المصلحة في ذلك . أمّا شراؤه لنفسه شيئاً منها فقد جاء في الدّرّ المختار : لا يصحّ بيع الإمام ولا شراؤه من وكيل بيت المال لشيءٍ من أموال بيت المال ، لأنّه كوكيل اليتيم ، فلا يجوز ذلك منه إلاّ لضرورةٍ . زاد في البحر : أو رغب في العقار بضعف قيمته ، على قول المتأخّرين المفتى به .
ب - الإجارة : أرض بيت المال تجري عليها أحكام الوقوف المؤبّدة . فتؤجّر كما يؤجّر الوقف . ج - المساقاة : تصحّ المساقاة من الإمام على بساتين بيت المال ، كما تصحّ من جائز التّصرّف لصبيٍّ تحت ولايته .
د - الإعارة : اختلف قول الشّافعيّة في إعارة الإمام لشيءٍ من أموال بيت المال ، فأفتى الإسنويّ بجوازه ، بناءً على أنّه إذا جاز له التّمليك من بيت المال فالإعارة أولى . وقال الرّمليّ : لا يجوز للإمام مطلقاً إعارة أموال بيت المال ، كالوليّ في مال مولّيه . وقال القليوبيّ : ثمّ إن أخذ أحد شيئاً من بيت المال عاريّةً فهلك في يده فلا ضمان عليه ، إن كان له في بيت المال حقّ ، وتسميته عاريّةً مجاز .
هـ - الإقراض : ذكر ابن الأثير أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أقرض هنداً بنت عتبة أربعة آلافٍ تتّجر فيها وتضمنها . وممّا يجري مجرى الإقراض الإنفاق بقصد الرّجوع ، ومن ذلك الإنفاق على البهيمة الضّائعة ونحوها ، حفظاً لها من التّلف . ثمّ يرجع بيت المال بالنّفقة على صاحب البهيمة ، وإن لم يعرف بيعت ، وأخذ من ثمنها حقّ بيت المال .
إقطاع التّمليك :
19 - يرى الحنفيّة أنّ للإمام أن يقطع من الأراضي الّتي لم تكن لأحدٍ ولا في يد وارثٍ ، لمن فيه غناء ونفع للمسلمين على سبيل النّظر في المصلحة ، لا على سبيل المحاباة والأثرة ، كما أنّ له أن يعطي من أموال بيت المال الأخرى ، إذ الأرض والمال شيء واحد . كذا قال القاضي أبو يوسف ، واحتجّ بما روي أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أصفى أموال كسرى وأهله لبيت المال ، ومال كلّ رجلٍ قتل في الحرب أو لحق بأرض الحرب أو مغيض ماءٍ أو أجمةٍ . وكان خراج ذلك سبعة آلاف ألفٍ ، فكان يقطع من هذه لمن أقطع . قال أبو يوسف : وذلك بمنزلة المال الّذي لم يكن لأحدٍ ، ولا في يد وارثٍ ، فللإمام العادل أن يجيز منه ويعطي من كان له غناء في الإسلام . ونقل هذا ابن عابدين ، وقال : هذا صريح في أنّ القطائع قد تكون من الموات ، وقد تكون من بيت المال لمن هو من مصارفه ، كما يعطي المال حيث رأى المصلحة ، وأنّ المقطع يملك رقبة الأرض ، ولذا يؤخذ منها العشر ، لأنّها بمنزلة الصّدقة . ويرى الشّافعيّة والحنابلة - على ما فصّله الماورديّ وأبو يعلى - أنّ أراضي بيت المال ثلاثة أقسامٍ :
أ - ما اصطفاه الإمام لبيت المال بحقّ الخمس أو باستطابة نفوس الغانمين ، كما اصطفى عمر أراضي كسرى وأهله ، ولم يقطع من ذلك شيئاً . فلمّا جاء عثمان أقطع منه وأخذ منه حقّ الفيء . قال الماورديّ : فكان ذلك إقطاع إجارةٍ لا إقطاع تمليكٍ . ولا يجوز إقطاع رقبته ، لأنّه صار باصطفائه لبيت المال ملكاً لكافّة المسلمين ، فجرى على رقبته حكم الوقف المؤبّد .
ب - أرض الخراج ، فلا يجوز تمليك رقبتها ، لأنّ أرض الخراج بعضها موقوف ، وخراجها أجرة ، وبعضها مملوك لأهلها ، وخراجها جزية .
ج - ما مات عنه أربابه ولم يستحقّه وارث بفرضٍ أو تعصيبٍ . واختلف أصحاب الشّافعيّ في هذا النّوع على وجهين : أحدهما : أنّها تصير وقفاً ، فعلى هذا لا يجوز بيعها ولا إقطاعها . وثانيهما : أنّها لا تصير وقفاً حتّى يقفها الإمام . فعلى هذا يجوز له إقطاعها تمليكاً ، كما يجوز بيعها . ونقل قولاً آخر : أنّ إقطاعها لا يجوز ، وإن جاز بيعها ، لأنّ البيع معاوضة ، وهذا الإقطاع صلة ، والأثمان إذا صارت ناضّةً لها حكم يخالف في العطايا حكم الأصول الثّابتة ، فافترقا ، وإن كان الفرق بينهما ضعيفاً . والحكم كذلك عند المالكيّة في أرض العنوة العامرة فإنّها لا يجوز للإمام إقطاعها تمليكاً ، بناءً على أنّها تكون وقفاً بنفس الاستيلاء عليها . ولم نجد لهم تعرّضاً للأرض الّتي تئول إلى بيت المال بهلاك أربابها . هل يجوز إقطاع التّمليك منها أم لا ؟ .
إقطاع الانتفاع والإرفاق والاستغلال :
20 - يجوز للإمام - إذا رأى المصلحة - أن يقطع من أراضي بيت المال أو عقاره - بعض النّاس إرفاقاً أو ليأخذ الغلّة . قال المالكيّة : ثمّ ما اقتطعه الإمام من العنوة ، إن كان لشخصٍ بعينه انحلّ بموت المنتفع . وإن كان لشخصٍ وذرّيّته وعقبه استحقّته الذّرّيّة بعده ، للأنثى مثل الذّكر . وانظر ( إرفاق . إرصاد . أرض الحوز ) وبعضهم جعل مثل هذا وقفاً .
وقف عقار بيت المال :
21 - ذكر الحنفيّة جواز وقف الإمام من بيت المال ، ثمّ قالوا : إن كان السّلطان اشترى الأراضي والمزارع من وكيل بيت المال يجب مراعاة شرائطه ، إن وقفها من بيت المال لا تجب مراعاتها . ويرى الشّافعيّة ، كما نقل عميرة البرلّسيّ : وقف الإمام من بيت المال . قالوا : لأنّ له التّمليك منه ، وكما فعل عمر رضي الله عنه في أرض سواد العراق ، إذ وقفها على المسلمين . وانظر ( ر : إرصاد ) .
تمليك حقوق بيت المال قبل توريدها إليه :
22 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ للإمام أن يترك الخراج للمالك لا العشر ، ثمّ يحلّ ذلك للمالك عند أبي يوسف ، إن كان المالك ممّن يستحقّ شيئاً من بيت المال ، وإلاّ تصدّق به . ولو ترك الإمام العشر ونحوه من أموال الزّكاة فلم يأخذه لا يجوز إجماعاً ، ويخرجه المالك بنفسه للفقراء ونحوهم من مصارف الزّكاة .
الدّيون الّتي لبيت المال :
23 - تثبت لبيت المال الدّيون في ذمم الأفراد . فلو ضرب الإمام أموالاً على الرّعيّة عامّةً ، أو طائفةٍ منهم أو أهل بلدٍ ، لمصلحتهم ، كتجهيز الجيوش أو فداء الأسرى ، وكأجرة الحراسة وكري الأنهار ، فمن لم يؤدّ من ذلك ما ضرب عليه بقي في ذمّته ديناً واجباً لبيت المال ، لا يجوز لهم الامتناع منه .
انتظام بيت المال وفساده :
24 - يكون بيت المال منتظماً إذا كان الإمام عدلاً يأخذ المال من حقّه ، ويضعه في مستحقّه . ويكون فاسداً إذا كان الإمام غير عدلٍ ، فيأخذ المال من أصحابه بغير حقٍّ . أو يأخذه بحقٍّ ، ولكن ينفق منه في غير مصلحة المسلمين ، وعلى غير الوجه الشّرعيّ ، كما لو أنفقه في مصالحه الخاصّة ، أو يخصّ أقاربه أو من يهوى بما لا يستحقّونه ، ويمنع أهل الاستحقاق . ومن الفساد أيضاً أن يفوّض الإمام أمر بيت المال إلى غير عدلٍ ، ولا يستقصي عليه فيما يتصرّف فيه من أموال بيت المال فيظهر منه التّضييع وسوء التّصرّف . ومن أوجه فساد بيت المال أيضاً ما أشار إليه ابن عابدين : أن يخلط الإمام أموال بيت المال الأربعة بعضها ببعضٍ ، فلا تكون مفرزةً . 25 - وإذا فسد بيت المال ترتّبت عليه أحكام منها :
أ - أنّ لمن عليه حقّاً لبيت المال - إذا لم يطّلع عليه - أن يمنع من ذلك الحقّ بقدر حقّه هو في بيت المال ، إن كان له فيه حقّ لم يعطه . وإن لم يكن له فيه حقّ ، فإنّ له أن يصرفه مباشرةً في مصارف بيت المال ، كبناء مسجدٍ أو رباطٍ . ذكر ذلك بعض الشّافعيّة بخصوص لقطةٍ حصل اليأس من معرفة صاحبها ، أو نحو ثوبٍ ألقته الرّيح إلى داره ولم يعلم صاحبه وأيس من ذلك ، وقالوا أيضاً : ما انحسر عنه ماء النّهر لو زرعه أحد لزمته أجرته لمصالح المسلمين ، ويسقط عنه قدر حصّته ، إن كان له حصّة في مال المصالح . واستدلّ لذلك بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّ رجلاً قال لها : أصبت كنزاً فرفعته إلى السّلطان . فقالت له : بفيك الكثكث . والكثكث : التّراب .
ب - ومنها : لو منع السّلطان حقّ المستحقّين ، فظفر أحدهم بمالٍ لبيت المال ، فقد أجاز بعض الفقهاء أن يأخذ المستحقّ قدر ما كان يعطيه الإمام . وهذا أحد أقوالٍ أربعةٍ ذكرها الغزاليّ . ثانيها : أنّ له أن يأخذ كلّ يومٍ قدر قوته . وثالثها : يأخذ كفاية سنته . ورابعها : لا يجوز له أن يأخذ شيئاً لم يؤذن له فيه . وأمّا المالكيّة فقد صرّحوا بأنّه لا يجوز السّرقة من بيت المال ، سواء انتظم أم لم ينتظم ، ويفهم من هذا أنّهم يوافقون القول الرّابع من الأقوال الّتي نقلها الغزاليّ . ومفاد ما يذكره الحنفيّة : أنّ له في تلك الحال أن يأخذ قدر حقّه ديانةً ، إلاّ أنّه ليس له الأخذ من غير بيته الّذي يستحقّ هو منه إلاّ للضّرورة كما في زماننا ، إذ لو لم يجز أخذه إلاّ من بيته لزم أن لا يبقى حقّ لأحدٍ في زماننا ، لعدم إفراز كلّ بيتٍ على حدةٍ ، بل يخلطون المال كلّه . ولو لم يأخذ ما ظفر به لم يمكنه الوصول إلى شيءٍ ، كما أفتى به ابن عابدين . ج - ومنها ما أفتى به المتأخّرون من الشّافعيّة - وهم من بعد سنة 400 هـ - موافقةً لبعض المتقدّمين ، وقال به متأخّرو المالكيّة أيضاً : أنّه إذا لم ينتظم بيت المال يردّ على أهل الفرض غير الزّوجين ما فضل عن إرثهم ، فإن لم يكن ذو فرضٍ يردّ على ذوي الأرحام . والحكم الأصليّ عند الشّافعيّة والمالكيّة ، في حال انتظام بيت المال ، عدم الرّدّ وعدم توريث ذوي الأرحام ، بل تكون التّركة كلّها أو فاضلها عن ذوي الفروض لبيت المال ، إن لم يكن عصبة .
الاعتداء على أموال بيت المال :
26 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من أتلف شيئاً من أموال بيت المال بغير حقٍّ كان ضامناً لما أتلفه ، وأنّ من أخذ منه شيئاً بغير حقٍّ لزمه ردّه ، أو ردّ مثله إن كان مثليّاً ، وقيمته إن كان قيميّاً . وإنّما الخلاف بينهم في قطع يد السّارق من بيت المال ، ولهم في ذلك اتّجاهان : أحدهما - وإليه ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : أنّ السّارق من بيت المال لا تقطع يده . واستدلّوا على ذلك بما روى ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما { أنّ عبداً من رقيق الخمس سرق من الخمس ، فرفع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه ، وقال : مال اللّه سرق بعضه بعضاً } . وبما روي أنّ ابن مسعودٍ سأل عمر بن الخطّاب عن رجلٍ سرق من بيت المال ، فقال عمر : أرسله ، فما من أحدٍ إلاّ وله في هذا المال حقّ . وثانيهما - وإليه ذهب المالكيّة أنّ السّارق من بيت المال تقطع يده ، واستدلّوا على ذلك بعموم قول اللّه تعالى : { والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما } ، فإنّه عامّ يشمل السّارق من بيت المال والسّارق من غيره ، وبأنّ السّارق قد أخذ مالاً محرّزاً ، وليست له فيه شبهة قويّة ، فتقطع يده كما لو أخذ غيره من الأموال الّتي ليست له فيها شبهة قويّة .
الخصومة في شأن أموال بيت المال :
27 - إذا ادّعي على بيت المال بحقٍّ ، أو كان لبيت المال حقّ قبل الغير ، ورفعت الدّعوى بذلك أمام القضاء ، كان للقاضي الّذي رفعت الدّعوى إليه أن يقضي فيها ، ولو أنّه أحد المستحقّين . وإذا كان القاضي نفسه هو المدّعي أو المدّعى عليه ، فلا تتوجّه عليه دعوى أصلاً ، ولا على نائبه ، بل لا بدّ أن ينصّب من يدّعي ومن يدّعى عليه عنده ، أو عند غيره . ومن جملة ما يمكن الادّعاء به : إيرادات بيت المال إذا قبضها العامل ، وأنكر صاحب بيت المال أنّه قبضها من العامل . فيطالب العامل بإقامة الحجّة على صاحب بيت المال بالقبض ، فإن عدمها أحلف صاحب بيت المال ، وأخذ العامل بالغرم .
الاستقصاء على الولاة ومحاسبة الجباة :
28 - على الإمام وولاته أن يراقبوا من يوكّل إليهم جمع الزّكاة وغيرها ممّا يجب لبيت المال ، وأن يستقصوا عليهم فيما يتصرّفون فيه من أموال بيت المال ، ويحاسبوهم في ذلك محاسبةً دقيقةً . ففي صحيح البخاريّ من حديث أبي حميدٍ السّاعديّ قال : { استعمل النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد على صدقات بني سليمٍ يدعى ابن اللّتبيّة ، فلمّا جاء حاسبه } . وقال القاضي أبو يعلى : مذهب أبي حنيفة في إيراد الصّدقات وجوب رفع الحساب عنها إلى كاتب الدّيوان ، ويجب على كاتب الدّيوان محاسبتهم على صحّة ما رفعوه ، وذلك لأنّ مصرف العشر ومصرف الخراج عند أبي حنيفة واحد . وأمّا على مذهب الشّافعيّ فلا يجب على العمّال رفع الحساب عن العشور ، لأنّها عنده صدقة ، لا يقف مصرفها على اجتهاد الولاة . وأمّا عمّال الخراج فيلزمهم رفع الحساب باتّفاق المذهبين . ويجب على كاتب الدّيوان محاسبتهم على صحّة ما رفعوه . ثمّ من وجبت محاسبته من العمّال لا يخلو من حالين : الأولى : إن لم يقع بينه وبين كاتب الدّيوان اختلاف في الحساب كان كاتب الدّيوان مصدّقاً في الحساب . وإن استراب فيه وليّ الأمر كلّفه إحضار شواهده ، فإن زالت الرّيبة عنه فلا يحلف ، وإن لم تزل الرّيبة - وأراد وليّ الأمر تحليفه عليه - حلف العامل دون كاتب الدّيوان ، لأنّ المطالبة متوجّهة على العامل دون كاتب الدّيوان . الثّانية : إن وقع بين العامل وكاتب الدّيوان اختلاف في الحساب : فإن كان اختلافهما في الدّخل ، فالقول قول العامل ، لأنّه منكر . وإن كان اختلافهما في الخرج ، فالقول قول الكاتب ، لأنّه منكر . وإن كان اختلافهما في تقدير الخراج ، كما لو اختلفا في مساحةٍ يمكن إعادتها أعيدت ويعمل فيها بما يتبيّن . وإن لم يمكن إعادتها يحلف ربّ المال دون الماسح . 29 - وقد فصّل الماورديّ وأبو يعلى صفة المحاسبة في ذلك ، واستعرضا ما يعتبر حجّةً في قبض ، الولاة من الجباة ، وأنّه يعمل في ذلك بالإقرار بالقبض ، أمّا الخطّ إذا أنكره ، أو لم يعترف به فعرف الدّواوين أن يكتفى به ، ويكون حجّةً . والّذي عليه الفقهاء أنّه إن لم يعترف الوالي أنّه خطّه أو أنكره لم يلزمه ، ولم يكن حجّةً في القبض . ولا يجوز أن يقاس بخطّه في الإلزام إجباراً ، وإنّما يقاس بخطّه إرهاباً ليعترف به طوعاً . وقد يعترف الوالي بالخطّ وينكر القبض ، وحينئذٍ يكون ذلك في الحقوق السّلطانيّة خاصّةً حجّةً للعاملين بالدّفع ، وحجّةً على الولاة بالقبض اعتباراً بالعرف . وأورد الماورديّ ذلك ثمّ قال : هذا هو الظّاهر من مذهب الشّافعيّ . أمّا أبو حنيفة فالظّاهر من مذهبه أنّه لا يكون حجّةً عليه . ولا للعاملين ، حتّى يقرّ به لفظاً كالدّيون الخاصّة . قال : وفيما قدّمناه من الفرق بينهما مقنع . ويلاحظ أنّ كلّ ما ورد إلى عمّال المسلمين ، أو خرج من أيديهم من المال العامّ ، فحكم بيت المال جارٍ عليه في دخله إليه وخرجه عنه ، ولذلك تجرى المحاسبة عليه .
بيت المقدس 1 - بيت المقدس : اسم لمكان العبادة المعروف في أرض فلسطين . وأصل التّقديس التّطهير ، والأرض المقدّسة أي : المطهّرة . قال ابن منظورٍ : والنّسبة إليه مقدسيّ ومقدسيّ . وفي معجم البلدان سمّاه في بعض مواضع من كلامه عنه " البيت المقدّس » .
2 - وهذا الاسم " بيت المقدس " يطلق الآن على المدينة الّتي فيها المسجد الأقصى ، ولا يطلق على مكان العبادة بخصوصه ، أمّا في كلام الفقهاء والمؤرّخين فإنّ الاسم دائر بين المعنيين ، كما استعمله صاحب معجم البلدان وغيره . وتسمّى المدينة الآن أيضاً ( القدس ) . ووردت هذه التّسمية أيضاً في كلام العرب . ففي اللّسان : قال الشّاعر : لا نوم حتّى تهبطي أرض العدس وتشربي من خير ماءٍ بقدس هذا وإنّ للمسجد الأقصى ببيت المقدس أحكاماً يختصّ بها عن سائر المساجد ( ر : المسجد الأقصى ) .
بيت النّار . انظر : معابد .
بيتوتة . انظر : تبييت .
بيض
التّعريف
1 - البيض معروف ، يقال : باض الطّائر يبيض بيضاً ، واحدته : بيضة ، وتطلق البيضة أيضاً على الخصية . وتنظر أحكامها في مصطلح : ( خصية ) . الأحكام المتعلّقة بالبيض : بيض الحيوانات المأكولة اللّحم وغير المأكولة :
2 - سبق في مصطلح ( أطعمة ) تفصيل ما يتّصل بحلّ الأكل وحرمته بالنّسبة للبيض ، وهو حلّ أكل بيض ما يؤكل لحمه من الحيوان ، وحرمة أكل بيض ما لا يحلّ أكل لحمه في الجملة .
بيض الجلّالة :
3 - اختلف الفقهاء في حكم أكل بيض الجلّالة ( وهي الّتي تتّبع النّجاسات وتأكلها إذا كانت مخلّاةً تجول في القاذورات ) . فبنى الحنفيّة والشّافعيّة في الصّحيح الحكم على تغيّر لحمها ونتنه ، فإن تغيّر ووجدت منها رائحة منتنة كره أكل بيضها عند الحنفيّة ، وحرم الأكل في الصّحيح عند الشّافعيّة ، لأنّها صارت من الخبائث ، { ولنهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن أكل لحم الجلّالة وشرب لبنها } . وقيّد الحنابلة وبعض الشّافعيّة حرمة أكل بيض الجلّالة بما إذا كان أكثر علفها النّجاسة للحديث الوارد في ذلك . وقال بعض الشّافعيّة : يكره أكل بيض الجلّالة كراهةً تنزيهً ، لأنّ النّهي إنّما هو لتغيّر اللّحم ، وهو لا يوجب التّحريم . قالوا : وهو الأصحّ ، وهو رواية عند الحنابلة . والمختار عند المالكيّة ، أنّه يحلّ أكل بيضها لتولّده من حيٍّ ، وكلّ حيٍّ طاهر . وإن لم يتغيّر لحم الجلّالة ولم ينتن ، بأن كانت تخلط ولم يكن أكثر علفها النّجاسة حلّ أكل بيضها باتّفاقٍ .
سلق البيض في ماءٍ نجسٍ :
4 - إذا سلق البيض في ماءٍ نجسٍ حلّ أكله عند الجمهور ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو القول المرجوح عند المالكيّة ) وفي الرّاجح عند المالكيّة لا يحلّ أكله لنجاسته وتعذّر تطهيره لسريان الماء النّجس في مسامّه .
5 - البيض المذر ( وهو الفاسد بوجهٍ عامٍّ ) : هـ - إذا استحالت البيضة دماً صارت نجسةً عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في الصّحيح من مذهبهم ، وفي الأصحّ عند الشّافعيّة ، ومقابله أنّها طاهرة ، وإذا تغيّرت بالتّعفّن فقط فهي طاهرة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، كاللّحم المنتن ، وهي نجسة عند المالكيّة . وإن اختلط صفارها ببياضها من غير عفونةٍ فهي طاهرة .
البيض الخارج بعد الموت :
6 - البيض الخارج من مأكول اللّحم بعد موته ولا يحتاج لتذكيةٍ يحلّ أكله باتّفاقٍ ، إلاّ إذا كان فاسداً . أمّا ما يحتاج لتذكيةٍ ولم يذكّ فالبيض الخارج بعد موته يحلّ أكله إن تصلّبت قشرته ، وهذا عند الحنابلة ، وأصحّ الأوجه عند الشّافعيّة ، لأنّه صار شيئاً آخر منفصلاً فيحلّ أكله . ويحلّ أكله عند الحنفيّة ولو لم تتصلّب قشرته ، وهو وجه عند الشّافعيّة ، لأنّه شيء طاهر في نفسه ، ولا يحلّ عند المالكيّة أكل بيض الحيوان البرّيّ الّذي له نفس سائلة إذا لم يذكّ ، إلاّ ما كانت ميتته طاهرةً دون ذكاةٍ - كالجراد والتّمساح - فيحلّ أكل بيضه .
بيع البيض :
7 - يشترط في بيع البيض ما يشترط في غيره من المبيعات ، وهو أن يكون موجوداً متقوّماً طاهراً منتفعاً به مقدوراً على تسليمه ... ( ر : بيع ) . ولذلك لا يجوز بيع البيض الفاسد ، لأنّه لا ينتفع به ، ولا بيع بيضٍ في بطن دجاجةٍ ، لأنّه في حكم المعدوم ... هذا ويختلف الفقهاء في اعتبار البيض من الرّبويّات وعدم اعتباره . فذهب الحنفيّة والحنابلة وابن شعبان من المالكيّة ، وهو القديم عند الشّافعيّة : إلى أنّه لا يعتبر البيض من الرّبويّات ، لأنّ علّة الرّبا عندهم الكيل مع الجنس ، أو الوزن مع الجنس ، وهذا بالنّسبة لربا الفضل . ولا يتحقّق الرّبا إلاّ بإجماع الوصفين : الجنس والقدر ( الكيل أو الوزن ) ، وعلى ذلك يجوز بيع بيضةٍ ببيضتين إذا كان يداً بيدٍ ، لأنّه لا تتحقّق فيه العلّة . إلاّ أنّه روي عن الإمام أحمد كراهة بيع بيضةٍ ببيضتين لعلّة الطّعم . ويحرم بيع البيض بالبيض نساءً ، لأنّ علّة ربا النّساء هي أحد وصفي علّة ربا الفضل ، أمّا الكيل أو الوزن المتّفق ، أو الجنس فالجنس بانفراده يحرّم النّساء . وهذا عند الحنفيّة بالنّسبة للنّساء . وهو إحدى الرّوايات عند الحنابلة ، وفي أصحّ الرّوايات : لا يحرم النّساء في بيع البيض بالبيض . وذهب المالكيّة غير ابن شعبان والشّافعيّة في الجديد إلى اعتبار البيض من الرّبويّات ، لعلّة الاقتيات والادّخار في ربا الفضل ، وعلّة الطّعم في رباً النّساء ، وذلك عند المالكيّة ، وعلّة الطّعم في ربا الفضل والنّساء عند الشّافعيّة . والبيض يقتات ويدّخر ويطعم فيكون ربويّاً . وعلى ذلك يحرم الفضل والنّساء في بيع البيض بالبيض ، فإذا بيع بعضه ببعضٍ فلا بدّ أن تكون حالّاً ، مثلاً بمثلٍ ، يداً بيدٍ . والأصل في ذلك ما رواه مسلم عن عبادة قال : { سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذّهب بالذّهب ، والفضّة بالفضّة ، والبرّ بالبرّ ، والشّعير بالشّعير ، والتّمر بالتّمر ، والملح بالملح ، إلاّ سواءً بسواءٍ ، عيناً بعينٍ ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى } فإن اختلف الجنس ولم تختلف العلّة جاز التّفاضل ، لأنّ اختلاف الجنس لا يحرم معه التّفاضل ويحرم النّساء لوجود علّة الطّعم ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تتمّة الحديث السّابق : { فإذا اختلفت هذه الأصناف ، فبيعوا كيف شئتم ، إذا كان يداً بيدٍ } . وبيع البيض بالبيض لا يجوز إلاّ وزناً عند الشّافعيّة ، وبالوزن أو التّحرّي لتحقّق المماثلة عند المالكيّة .
السّلم في البيض :
8 - إسلام البيض في البيض لا يجوز عند جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وروايةٍ عند الحنابلة - لأنّه يعتبر رباً لعلّة الجنس عند الحنفيّة ، وعلّة الطّعم عند المالكيّة والشّافعيّة وروايةٍ عند الحنابلة . ويجوز في أصحّ الرّوايات عند الحنابلة إسلام البيض في البيض ، لأنّه ليس من الرّبويّات ، واستدلّوا على ذلك بحديث { ابن عمرٍو ، وهو أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ على قلائص الصّدقة فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصّدقة } . ويجوز أن يكون البيض مسلماً فيه عند جمهور الفقهاء ، ويشترط فيه ما يشترط في كلّ مسلمٍ فيه من كونه معلوم الجنس والصّفة ، وأن يكون ممّا يمكن ضبط قدره وصفته .. وهكذا . والبيض يمكن ضبطه قدراً وصفةً ، لأنّ الجهالة يسيرة لا تفضي إلى المنازعة ، وصغير البيض وكبيره سواء ، لأنّه لا يجري التّنازع في ذلك القدر من التّفاوت بين النّاس عادةً فكان ملحقاً بالعدم ، وبذلك يجوز السّلم في البيض عدداً ، وهذا عند الحنفيّة خلافاً لزفر ، وكذلك عند من يقول بجوازه من الحنابلة يجوز السّلم فيه عدداً ، ويذهب التّفاوت باشتراط الكبر أو الصّغر أو الوسط . ويجوز عند المالكيّة أيضاً أن يسلم فيه عدداً إذا أمكن ضبطه أو قياسه بنحو خيطٍ يوضع عند أمينٍ لاختلاف الأغراض بالكبر والصّغر . أمّا عند الشّافعيّة فلا يجوز السّلم في البيض عدداً ولا كيلاً ، وإنّما يجوز بالوزن التّقريبيّ . وعند أبي الخطّاب من الحنابلة ، وزفر من الحنفيّة ، وفي قولٍ عند الشّافعيّة : لا يجوز السّلم في البيض ، لأنّه لا يمكن ضبطه لاختلافه في الصّغر والكبر .
الاعتداء على البيض في الحرم وحال الإحرام :
9 - كلّ ما حرم صيده في الحرم حرم التّعرّض لبيضه ، فإذا كسره أحد أو شواه لزمه قيمته بمحلّه يوم التّلف ، لأنّه أصل الصّيد ، إذ الصّيد يتولّد منه فيعطى له حكم الصّيد احتياطاً . وقد روي عن الصّحابة رضي الله تعالى عنهم أنّهم حكموا في بيض النّعامة بالقيمة . وهذا عند الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة ، عدا المزنيّ فإنّه قال : هو حلال لا جزاء فيه . وعند المالكيّة يجب في كلّ فردٍ من أفراد البيض عشر قيمة أمّه طعاماً أو عدله صياماً - صوم يومٍ عن كلّ مدٍّ - واستظهر ابن عرفة أنّ في العشر البيضات شاةً . واستثنى المالكيّة بيض حمام حرم مكّة ففيه عشر قيمة شاةٍ طعاماً ، لقضاء عثمان رضي الله عنه فيه بذلك . ولا ضمان في البيض الفاسد باتّفاقٍ إذا كان غير بيض نعامةٍ ، لأنّ الضّمان لعرضيّة أن يصير البيض صيداً وهو مفقود في الفاسد . أمّا إذا كان الفاسد بيض نعامةٍ فعند الحنفيّة والمالكيّة وإمام الحرمين من الشّافعيّة وابن قدامة من الحنابلة لا شيء فيه أيضاً ، لأنّه إذا لم يكن فيه حيوان ولا مآله إلى أن يصير منه حيوان صار كالأحجار والخشب . وقال الشّافعيّة غير إمام الحرمين ، والحنابلة غير ابن قدامة يضمن قيمة قشر بيض النّعام ، لأنّ لقشره قيمة لكن قال ابن قدامة : الصّحيح لا شيء فيه . وإن كسر البيض فخرج منه فرخ ميّت ، فإن كان موت الفرخ بسبب الكسر ، فعند الجمهور عليه قيمته حيّاً ، وعند المالكيّة عليه عشر قيمة أمّه - فإن علم موت الفرخ قبل الكسر فلا شيء فيه . وإذا كسر المحرم بيضاً أو شواه وضمنه أو أخذه حلال من أجله حرم عليه أكله لأنّه صار كالميتة ، وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ويحلّ أكله عند الحنفيّة . ويحلّ أكله لغير المحرم عند الحنفيّة والشّافعيّة كما صحّحه في المجموع وجزم به ابن المقري ، وكذلك يحلّ عند الحنابلة - غير القاضي - وسندٍ من المالكيّة . وعند المالكيّة غير سندٍ ، وفي قولٍ عند الشّافعيّة والقاضي من الحنابلة يحرم على الحلال ( غير المحرم ) أكله كما يحرم على المحرم . وما مرّ إنّما هو بالنّسبة لبيض حرم مكّة ، أمّا بالنّسبة لحرم المدينة فلا جزاء فيه وإن كان يحرم ويأثم بذلك . هذا كلّه في بيض الصّيد وهو غير المستأنس من الطّيور . أمّا المستأنس ( ما يربّى في البيوت كالدّجاج ) فلا شيء في بيضه .
غصب البيض :
10 - غصب البيض - كغصب غيره من الأموال - حرام ، وعلى الغاصب الضّمان ، فإن كان البيض المغصوب باقياً وجب ردّه ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { لا يأخذنّ أحدكم مال أخيه لاعباً ولا جادّاً ومن أخذ عصا أخيه فليردّها } فإن تلف ضمن مثله ، إذ البيض من المثليّات عند الجمهور ، وإن تعذّر المثل فالقيمة . ويختلف الفقهاء فيمن غصب بيضاً فحضنه تحت دجاجٍ حتّى أفرخ . فعند الحنفيّة والمالكيّة يكون على الغاصب بيض مثله لربّه والفراخ للغاصب ، لأنّ المغصوب قد تبدّل وصار شيئاً آخر ، وعند الشّافعيّة والحنابلة تكون الفراخ لربّ البيض لأنّه عين ماله نمّي ، ولا شيء للغاصب .
بيطرة 1 - البيطرة في اللّغة : معالجة الدّوابّ . مأخوذ من بطر الشّيء إذا شقّه . ومنه البيطار ، وهو معالج الدّوابّ . ولا تخرج البيطرة في معناها الاصطلاحيّ عن ذلك . ( الحكم التّكليفيّ ) :
2 - مداواة البهائم وعلاجها بما فيه منفعتها ولو بالفصد والكيّ جائز شرعاً وهو مطلوب شرعاً ، لأنّه من الرّحمة بالحيوان ومن حفظ المال وهل يضمن من باشر مداواتها وعلاجها إذا أتلفها أو عطبت بفعله ؟ قال الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في الأصحّ عندهم : لا ضمان عليه إن كان قد أذن بذلك ، وكانت له بصنعته خبرة ومعرفة ، ولم يتجاوز ، فإن لم يؤذن له أو كان قد جاوز ما أذن فيه ، أو قطع بآلةٍ كآلةٍ يكثر ألمها ، أو في وقتٍ لا يصلح القطع فيه وأشباه هذا ، ضمن في هذا كلّه ، لأنّه إتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ ، فأشبه إتلاف المال ، ولأنّ هذا فعل محرّم فيضمن سرايته كالقطع ابتداءً ، وفي الحديث : { من تطبّب ولم يعلم منه طبّ فهو ضامن } . أي من تعاطى الطّبّ ولم يسبق له تجربة فيه . فالحديث يدلّ بمنطوقه على أنّ من طبّب وليست له خبرة بالطّبّ يكون ضامناً . وكذلك من له خبرة بالطّبّ ولكنّه أهمل أو تعدّى . والتّفصيل في ذلك يرجع إليه في مواطنه ( إجارة - جنايات ، حيوان ، ضمان ) .