تأكيد *
التّعريف :
1- التّأكيد لغةً : التّوثيق والإحكام والتّقوية ، يقال : أكّد العهد إذا وثّقه وأحكمه .
وفي الاصطلاح هو : جعل الشّيء مقرّراً ثابتاً في ذهن المخاطب .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّأسيس :
2 - التّأسيس عبارة عن إفادة معنًى جديد لم يكن حاصلاً قبله ، فالتّأسيس على هذا في عرف الفقهاء خير من التّأكيد ، لأنّ حمل الكلام على الإفادة خير من حمله على الإعادة . وإذا دار اللّفظ بينهما تعيّن حمله على التّأسيس ، ولذا لو قال شخص لزوجته : أنت طالق أنت طالق ولم ينو شيئاً ، فالأصحّ الحمل على الاستئناف ( أي التّأسيس ) لا التّأكيد . فإن قال : أردت التّأكيد بذلك صدّق .
وعند الحنفيّة - كما نقله ابن نجيم عن الزّيلعيّ - صدّق ديانةً لا قضاءً .
الحكم الإجماليّ :
3 - التّأكيد جائز في الأحكام لتقويتها وترجيحها على غيرها ، حيث يرجّح المؤكّد على غيره من الأحكام غير المؤكّدة ، لاحتمال تأويل غير المؤكّد بخلاف المؤكّد ، فإنّه لا يحتمله ، كما يمنع نقضها إلاّ بشرطه . من ذلك قوله تعالى : { ولا تَنْقُضُوا الأَيمانَ بعد توكيدها } .
تأكيد الأقوال :
4 - تؤكّد الأقوال فترجّح على غيرها ، ومن ذلك تأكيد الشّهادات ، لقوله تعالى : { فشهادةُ أحدهم أربعُ شهاداتٍ باللّه إنّه لمن الصّادقين } .
وقد يأخذ التّأكيد أحكاماً معيّنةً ، كتأكيد الطّلاق ، فإنّه يضمّ المتفرّق منه ليجعل حكمه واحداً ، وينظر تفصيله في الطّلاق ، وفي مصطلح ( أيمان ) .
التّأكيد بالأفعال :
5 - من ذلك تأكيد الثّمن في عقد البيع بقبض المبيع ، لأنّ المبيع ربّما هلك في يد البائع قبل التّسليم فيسقط الثّمن ، وتأكيد المهر بالدّخول ، وتأكيد الأحكام بالتّنفيذ .
وتفصيل ما أجمل في هذا البحث ينظر في الملحق الأصوليّ .
تأميم *
انظر : مصادرة .
تأمين *
انظر : أمين ، مستأمن .
تأمين الدّعاء *
انظر : آمين .
تأويل *
التّعريف :
1 - التّأويل : مصدر أوّل ، وأصل الفعل : آل الشّيء يئول أولاً : إذا رجع ، تقول : آل الأمر إلى كذا ، أي رجع إليه . ومعناه : تفسير ما يئول إليه الشّيء ، ومصيره .
وفي اصطلاح الأصوليّين ، التّأويل : صرف اللّفظ عن المعنى الظّاهر إلى معنًى مرجوح ، لاعتضاده بدليل يصير به أغلب على الظّنّ من المعنى الظّاهر .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّفسير :
2 - التّفسير لغةً : البيان ، وكشف المراد من اللّفظ المشكل .
وفي الشّرع : توضيح معنى الآية ، وشأنها ، وقصّتها ، والسّبب الّذي نزلت فيه بلفظ يدلّ عليه دلالةً ظاهرةً . وقريب من ذلك أنّ التّأويل : بيان أحد محتملات اللّفظ ، والتّفسير : بيان مراد المتكلّم . وقال ابن الأعرابيّ وأبو عبيدة وطائفة : التّفسير والتّأويل بمعنًى واحد .
وقال الرّاغب : التّفسير أعمّ من التّأويل ، وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها ، وأكثر استعمال التّأويل في المعاني والجمل . وكثيراً ما يستعمل في الكتب الإلهيّة ، والتّفسير يستعمل فيها وفي غيرها . وقال غيره : التّفسير : بيان لفظ لا يحتمل إلاّ وجهاً واحداً . والتّأويل : توجيه لفظ متوجّه إلى معان مختلفة إلى واحد منها بما ظهر من الأدلّة .
وقال أبو طالب الثّعلبيّ التّفسير : بيان وضع اللّفظ إمّا حقيقةً ، أو مجازاً ، كتفسير ( الصّراط ) بالطّريق ( والصّيّب ) بالمطر . والتّأويل : تفسير باطن اللّفظ ، مأخوذ من الأول وهو الرّجوع لعاقبة الأمر . فالتّأويل : إخبار عن حقيقة المراد ، والتّفسير إخبار عن دليل المراد ، لأنّ اللّفظ يكشف عن المراد ، والكاشف دليل .
ب - البيان :
3 - البيان لغةً : الإظهار والإيضاح والانكشاف ، وما يتبيّن به الشّيء من الدّلالة وغيرها . وأمّا في الاصطلاح : فهو إظهار المعنى وإيضاحه للمخاطب .
والفرق بين التّأويل والبيان : أنّ التّأويل ما يذكر في كلام لا يفهم منه معنًى محصّل في أوّل وهلة ليفهم المعنى المراد . والبيان ما يذكر فيما يفهم ذلك بنوع خفاء بالنّسبة إلى البعض .
الحكم الإجماليّ :
يختلف الحكم الإجماليّ باختلاف ما يدخله التّأويل ، وبيان ذلك فيما يلي :
4 - أوّلاً : بالنّسبة للنّصوص المتعلّقة بالعقائد ، وأصول الدّيانات ، وصفات الباري عزّ وجلّ ، فقد اختلف العلماء في هذا القسم على ثلاثة مذاهب :
الأوّل : أنّه لا مدخل للتّأويل فيها ، بل تجري على ظاهرها ، ولا يؤوّل شيء منها .
وهذا قول المشبّهة .
الثّاني : أنّ لها تأويلاً ، ولكنّا نمسك عنه ، مع تنزيه اعتقادنا عن التّشبيه والتّعطيل ، لقوله تعالى : { وما يعلم تأويلَه إلاّ اللّه } ، قال ابن برهان : وهذا قول السّلف . وقال الشّوكانيّ : وهذا هو الطّريق الواضح والمنهج المصحوب بالسّلامة عن الوقوع في مهاوي التّأويل ، وكفى بالسّلف الصّالح قدوةً لمن أراد الاقتداء ، وأسوةً لمن أحبّ التّأسّي ، على تقدير عدم ورود الدّليل القاضي بالمنع من ذلك ، فكيف وهو قائم موجود في الكتاب والسّنّة .
والمذهب الثّالث : أنّها مؤوّلة . قال ابن برهان : والأوّل من هذه المذاهب باطل ، والآخران منقولان عن الصّحابة ، ونقل هذا المذهب الثّالث عن عليّ وابن مسعود وابن عبّاس وأمّ سلمة . وقال ابن دقيق العيد في الألفاظ المشكلة : إنّها حقّ وصدق ، وعلى الوجه الّذي أراده اللّه ، ومن أوّل شيئاً منها ، فإن كان تأويله قريباً على ما يقتضيه لسان العرب ويفهمونه في مخاطباتهم لم ننكر عليه ولم نبدّعه ، وإن كان تأويله بعيداً توقّفنا عليه واستبعدناه ورجعنا إلى القاعدة في الإيمان بمعناه مع التّنزيه .
وفي إعلام الموقّعين ، قال الجوينيّ : ذهب أئمّة السّلف إلى الانكفاف عن التّأويل ، وإجراء الظّواهر على مواردها ، وتفويض معانيها إلى الرّبّ تعالى ، والّذي نرتضيه رأياً وندين اللّه به عقد اتّباع سلف الأمّة ، فحقّ على ذي الدّين أن يعتقد تنزيه الباري عن صفات المحدّثين ، ولا يخوض في تأويل المشكلات ، ويكل معناها إلى الرّبّ تعالى .
5 - ثانياً : النّصوص المتعلّقة بالفروع ، وهذه لا خلاف في دخول التّأويل فيها .
والتّأويل في النّصوص المتعلّقة بها باب من أبواب الاستنباط ، وهو قد يكون تأويلاً صحيحاً ، وقد يكون تأويلاً فاسداً . فيكون صحيحاً إذا كان مستوفياً لشروطه ، من الموافقة لوضع اللّغة ، أو عرف الاستعمال ، ومن قيام الدّليل على أنّ المراد بذلك اللّفظ هو المعنى الّذي حمل عليه ، ومن كون المتأوّل أهلاً لذلك .
ويتّفق العلماء على قبول العمل بالتّأويل الصّحيح مع اختلافهم في طرقه ومواضعه ، وما يعتبر قريباً ، وما يعتبر بعيداً . يقول الآمديّ : التّأويل مقبول معمول به إذا تحقّق بشروطه ، ولم يزل علماء الأمصار في كلّ عصر من عهد الصّحابة إلى زمننا عاملين به من غير نكير . وفي البرهان : تأويل الظّاهر على الجملة مسوّغ إذا استجمعت الشّرائط ، ولم ينكر أصل التّأويل ذو مذهب ، وإنّما الخلاف في التّفاصيل .
وعلى أيّ حال فهذا يرجع إلى نظر المجتهد في كلّ مسألة ، وعليه اتّباع ما أوجبه ظنّه كما يقول الآمديّ . ويقول الغزاليّ : مهما كان الاحتمال قريباً ، وكان الدّليل أيضاً قريباً ، وجب على المجتهد التّرجيح ، والمصير إلى ما يغلب على ظنّه ، فليس كلّ تأويل مقبولاً بوسيلة كلّ دليل ، بل ذلك يختلف ولا يدخل تحت ضبط . ويقول ابن قدامة : لكلّ مسألة ذوق يجب أن تفرد بنظر خاصّ .
هذا ، وقد ذكرت في كتب الأصول أمثلة للمسائل الفرعيّة الّتي استنبطت أحكامها عن طريق تأويل النّصوص ، مع بيان وجهة نظر الّذين نحوا هذا المنحى والّذين عارضوهم .
أثر التّأويل :
6 - للتّأويل أثر ظاهر في المسائل الفرعيّة المستنبطة من النّصوص ، إذ هو سبب اختلاف الفقهاء في أحكام هذه المسائل .
والمعروف عند الفقهاء ، أنّ العمل بالمختلف فيه لا ينكر على صاحبه إلاّ أن يكون الخلاف شاذّاً ، لكنّ الأفضل مراعاة الخلاف ، وذلك بترك ما هو جائز عند من يراه كذلك إذا كان غيره يراه حراماً ، وبفعل ما هو مباح إذا كان غيره يراه واجباً . وقد سبق تفصيل ذلك في مصطلح ( اختلاف ) . ونذكر هنا بعض الآثار العمليّة للتّأويل من خلال بعض المسائل :
7 - أوّلاً : أمثلة للتّأويل المتّفق على فساده وما يترتّب عليه :
أ - من المقرّر أنّ كلّ من ثبتت إمامته وجبت طاعته ، وحرم الخروج عليه للنّصوص الدّالّة على ذلك من الكتاب والسّنّة .
وقد اتّفق الفقهاء على أنّ خروج طائفة على الإمام بتأويل يبيح لهم في نظرهم يعتبر بغياً لفساد تأويلهم . ويجب دعوتهم إلى الطّاعة والدّخول في الجماعة وكشف شبههم ، فإن لم يستجيبوا وجب قتالهم كما فعل عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه مع الخوارج .
وقد سبق تفصيل ذلك في مصطلح ( بغاة ) .
ب - وجوب الزّكاة أمر ثابت بالكتاب والسّنّة والإجماع ، والتّأويل في منع أدائها تأويل فاسد . ويجب حمل المانعين على أدائها بالقوّة ، وقد فعل ذلك أبو بكر رضي الله تعالى عنه مع مانعي الزّكاة الّذين تأوّلوا قول اللّه تعالى : { خذْ من أموالهم صدقةً تطهّرهم وتزكّيهم بها وصلِّ عليهم إنَّ صلاتك سَكَنٌ لهم } فقالوا : إنّ ذلك لا يتأتّى لغير النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يقم دليل على قيام غيره في ذلك مقامه . والتّفصيل ينظر في الزّكاة .
ج - حرمة شرب الخمر ثابتة بالكتاب والسّنّة والإجماع ، والتّأويل لاستحلال شربها تأويل فاسد ، ويجب توقيع الحدّ على شاربها المتأوّل .
وقد حدث أنّ قدامة بن مظعون شرب الخمر ، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه : ما حملك على ذلك ؟ فقال : إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول : { ليس على الّذين آمَنوا وعملوا الصّالحات جُنَاحٌ فيما طَعِمُوا إذا ما اتّقَوْا وآمنوا وعملوا الصّالحات } وإنّي من المهاجرين من أهل بدر وأحد ، فطلب عمر من الصّحابة أن يجيبوه ، فقال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما : " إنّما أنزلها اللّه تعالى عذراً للماضين لمن شربها قبل أن تحرم ، وأنزل : { إنّما الخمرُ والميسر والأنصابُ والأزلامُ رجْسٌ من عمل الشّيطانِ فاجتنبوه } حجّة على النّاس . وقال له عمر : " إنّك أخطأت التّأويل يا قدامة ، إذا اتّقيت اجتنبت ما حرّم اللّه عليك ".
8 - ثانياً : تأويل متّفق على قبوله :
وذلك مثل التّأوّل في اليمين إذا كان الحالف مظلوماً ، قال ابن قدامة : من حلف فتأوّل في يمينه فله تأويله إذا كان مظلوماً ، وإن كان ظالماً لم ينفعه تأويله . ولا يخلو حال الحالف المتأوّل من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يكون مظلوماً ، مثل من يستحلفه ظالم على شيء لو صدّقه لظلمه ، أو ظلم غيره ، أو نال مسلماً منه ضرر ، فهذا له تأويله .
ثانيها : أن يكون الحالف ظالماً كالّذي يستحلفه الحاكم على حقّ عنده ، فهذا تنصرف يمينه إلى ظاهر اللّفظ الّذي عناه المستحلف ولا ينفع الحالف تأويله ، ولا نعلم فيه مخالفاً ، فإنّ أبا هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « يمينك على ما يصدّقك به صاحبك » ولأنّه لو ساغ التّأويل لبطل المعنى المبتغى باليمين .
ثالثها : ألاّ يكون ظالماً ولا مظلوماً فظاهر كلام أحمد أنّ له تأويله . هذا ما ذكره ابن قدامة . والمذاهب متّفقة على أنّ المظلوم إذا تأوّل في يمينه فله تأويله . ( ر : أيمان ) .
9 - ثالثاً : هناك من التّأويلات ما اعتبره بعض الفقهاء قريباً ، فأصبح دليلاً في استنباط الحكم ، في حين اعتبره البعض الآخر بعيداً ، فلا يصلح دليلاً .
ومن أمثلة ذلك ، وجوب الكفّارة بالأكل أو الجماع عمداً في نهار رمضان عند الحنفيّة والمالكيّة ، وبالجماع فقط عند الشّافعيّة والحنابلة .
وعلى ذلك فمن رأى هلال رمضان وحده ، وردّت شهادته ، وجب عليه الصّوم ، فإن ظنّ إباحة الفطر لردّ شهادته فأفطر بما يوجب الكفّارة ، فعند الشّافعيّة والحنابلة ، وفي المشهور عند المالكيّة : تجب عليه الكفّارة لانتهاك حرمة الشّهر ، أمّا ظنّ الإباحة لردّ الشّهادة فهو تأويل بعيد لمخالفته قول اللّه تعالى : { فمن شَهِدَ منكم الشّهرَ فَلْيَصمْه } ، وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « صوموا لرؤيته » - وعند الحنفيّة وبعض المالكيّة : لا كفّارة عليه لمكان الشّبهة ، إذ ردّ الشّهادة يعتبر تأويلاً قريباً في ظنّ الإباحة .
ومثل هذه الاختلافات بين المذاهب ، بل بين فقهاء المذهب الواحد كثيرة في المسائل الفرعيّة . فالحنفيّة مثلاً لا يوجبون الزّكاة في مال الصّبيّ والمجنون ، وينتقض عندهم الوضوء بالقهقهة في الصّلاة ، خلافاً لبقيّة المذاهب في المسألتين . والمعروف كما سبق أنّه لا ينكر المختلف فيه . وتفصيل ما أجمل هنا موطنه الملحق الأصوليّ .
تابع *
انظر : تبعيّة .
تابوت *
انظر : جنائز .
تاريخ *
انظر : تأريخ .
تاسوعاء *
التّعريف :
1 - التّاسوعاء : هو اليوم التّاسع من شهر المحرّم استدلالاً بالحديث الصّحيح « أنّه صلى الله عليه وسلم صام عاشوراء ، فقيل له : إنّ اليهود والنّصارى تعظّمه ، فقال : فإذا كان العام المقبل إن شاء اللّه صمنا اليوم التّاسع » .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - عاشوراء : وهو العاشر من شهر المحرّم ، لما روى ابن عبّاس رضي الله عنهما « أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بصوم يوم عاشوراء : العاشر من المحرّم » .
وأنّ صومه مستحبّ أو مسنون . فعن أبي قتادة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال : يكفّر السّنة الماضية والباقية » .
الحكم الإجماليّ :
3 - صوم يوم تاسوعاء مسنون ، أو مستحبّ ، كصوم يوم عاشوراء ، فقد روي أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء ، فذكروا أنّ اليهود والنّصارى تصومه . فقال صلى الله عليه وسلم إنّه في العام المقبل يصوم التّاسع » إلاّ أنّ صوم يوم عاشوراء آكد في الاستحباب لأنّه يكفّر السّنة الّتي قبله . ففي صحيح مسلم " أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال « صيام يوم عرفة أحتسب على اللّه أن يكفّر السّنة الّتي قبله والسّنة الّتي بعده . وصيام يوم عاشوراء أحتسب على اللّه أن يكفّر السّنة الّتي قبله »
وفي رواية لمسلم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « فإذا كان العام المقبل إن شاء اللّه صمنا اليوم التّاسع » . قال ابن عبّاس : « فلم يأت العام المقبل حتّى توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم » وتكفير سنة : أي ذنوب سنة من الصّغائر ، فإن لم يكن صغائر خفّف من كبائر السّنة ، وذلك التّخفيف موكول لفضل اللّه ، فإن لم يكن كبائر رفع له درجات . وعن عطاء أنّه سمع ابن عبّاس يقول في يوم عاشوراء : « خالفوا اليهود وصوموا التّاسع والعاشر » .
4 - وذكر العلماء في حكمة استحباب صوم يوم تاسوعاء أوجهاً :
أحدهما : أنّ المراد منه مخالفة اليهود في اقتصارهم على العاشر ، وهو مرويّ عن ابن عبّاس ، وفي حديث رواه الإمام أحمد بن حنبل بسنده إلى ابن عبّاس قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « صوموا يوم عاشوراء ، وخالفوا اليهود ، وصوموا قبله يوماً وبعده يوماً » .
الثّاني : أنّ المراد به وصل يوم عاشوراء بصوم .
الثّالث : الاحتياط في صوم العاشر خشية نقص الهلال ووقوع غلط ، فيكون التّاسع في العدد هو العاشر في نفس الأمر وللمزيد من التّفصيل في ذلك ر : ( صوم التّطوّع ) .
تبختر *
انظر : اختيال .
تبديل *
التّعريف :
1 - تبديل الشّيء لغةً : تغييره وإن لم يأت ببدله . يقال : بدّلت الشّيء تبديلاً بمعنى غيّرته تغييراً . والأصل في التّبديل : تغيير الشّيء عن حاله ، وقوله عزّ وجلّ : { يوم تُبَدَّلُ الأرضُ غيرَ الأرضِ والسّماواتُ } قال الزّجّاج : تبديلها واللّه أعلم : تسيير جبالها ، وتفجير بحارها ، وجعلها مستويةً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً . وتبديل السّماوات : انتشار كواكبها وانفطارها وانشقاقها وتكوير شمسها وخسوف قمرها .
ومعناه في الاصطلاح ، كمعناه في اللّغة ، ومنه النّسخ : وهو رفع حكم شرعيّ بدليل شرعيّ متأخّر . ويطلق التّبديل على الاستبدال في الوقف بمعنى : بيع الموقوف عقاراً كان أو منقولاً ، وشراء عين بمال البدل لتكون موقوفةً مكان العين الّتي بيعت . أو مقايضة عين الوقف بعين أخرى . ويدلّ كلام الحنفيّة على أنّ بيان التّغيير مثل تقييد المطلق وتخصيص العام ، وبيان التّبديل مثل النّسخ أي رفع الحكم الثّابت أوّلاً بنصّ متأخّر .
الحكم الإجماليّ :
للتّبديل أحكام تعتريه ، وهي تختلف باختلاف مواطنه :
2 - التّبديل في الوقف : أجاز الحنفيّة للواقف اشتراط الإدخال والإخراج في وقفه ، كما أجاز له متأخّروهم ما عرف بالشّروط العشرة . وهي الإعطاء ، والحرمان ، والإدخال ، والإخراج ، والزّيادة ، والنّقصان ، والتّغيير ، والإبدال ، والاستبدال ، والبدل أو التّبادل . وخالفهم الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة في ذلك .
فاعتبر الشّافعيّة اشتراط الواقف الرّجوع متى شاء ، أو الحرمان ، أو تحويل الحقّ إلى غير الموقوف عليه متى شاء اشتراطاً فاسداً ، وأجازوا له التّغيير إن كان قدر المصلحة ولم يجزه الحنابلة والمالكيّة ، لأنّه شرط ينافي مقتضى الوقف .
وتفصيل ذلك يرجع فيه إلى مصطلح ( وقف ) شرط الواقف .
التّبديل في البيع :
ومن التّبديل البيع ، لأنّه تبديل متقوّم بمتقوّم . ولا بدّ فيه من مراعاة الشّروط الشّرعيّة ومن ذلك :
أ - التّبديل في الصّرف :
3 - وهو بيع جنس الأثمان بعضه ببعض ، ويستوي في ذلك مضروبها ومصوغها وتبرها . فإن باع فضّةً بفضّة أو ذهباً بذهب ، جاز متى كان وزناً بوزن ويداً بيد ، والأصل فيه ما رواه عبادة بن الصّامت رضي الله عنه " أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الذّهب بالذّهب والفضّة بالفضّة والتّمر بالتّمر والبرّ بالبرّ والشّعير بالشّعير والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد » ولأنّهما جنسان فجاز التّفاضل فيهما ، كما لو تباعدت منافعهما .
ب - تبديل أحد العوضين بعد تعيّنه في العقد :
4 - إذا تعيّن أحد العوضين في العقد فلا يجوز تبديله ، ومن ذلك المبيع ، فإنّه يتعيّن بالعقد ، أمّا الثّمن فلا يتعيّن بالتّعيين ، إلاّ في مواطن منها : الصّرف والسّلم .
كما تتعيّن الأثمان في الإيداع ، فلا يجوز تبديلها .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( تعيين ) وفي ( الصّرف ، والسّلم ) .
تبديل الدّين :
5 - إن كان التّبديل من دين الإسلام إلى غيره ، وهو المعروف بالرّدّة ، فإنّه لا يقرّ عليه اتّفاقاً ، وتترتّب على ذلك أحكام كثيرة . وتفصيل ذلك في مصطلح ( ردّة ) .
أمّا إن كان تبديل الدّين من دين غير الإسلام إلى دين آخر غير الإسلام أيضاً ، كما لو تهوّد نصرانيّ ، أو تنصّر يهوديّ ، فقد اختلف الفقهاء في إقراره على ذلك ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وهو غير الأظهر عند الشّافعيّة ، وروايةً عن أحمد إلى أنّه يقرّ على ما انتقل إليه ، لأنّ الكفر كلّه ملّة واحدة .
والأظهر عند الشّافعيّة ، وهو مذهب الحنابلة : أنّه لا يقرّ على ذلك ، لأنّه أحدث ديناً باطلاً بعد اعترافه ببطلانه ، فلا يقرّ عليه ، كما لو ارتدّ المسلم . فإن كانت امرأةً لم تحلّ لمسلم تفريعاً على أنّه لا يقرّ ، فإن كانت زوجةً لمسلم فتهوّدت بعد أن كانت نصرانيّةً فهي كالمرتدّة . فإن كان التّهوّد أو التّنصّر قبل الدّخول تنجّزت الفرقة ، أو بعده توقّفت على انقضاء العدّة ، ولا يقبل منها إلاّ الإسلام ، لأنّها أقرّت ببطلان ما انتقلت عنه وكانت مقرّةً ببطلان المنتقل إليه . ولو انتقل يهوديّ أو نصرانيّ إلى دين غير كتابيّ لم يقرّ ، وفيما يطلب منه الرّجوع إليه عند الاستتابة قولان ، أحدهما : الإسلام فقط ، والثّاني هو أو دينه الأوّل ، وفي قول ثالث هما أو الدّين المساوي لدينه السّابق ، فإن كانت امرأةً تحت مسلم تنجّزت الفرقة قبل الدّخول ، وتوقّفت بعده على انقضاء العدّة .
ولو تهوّد وثنيّ أو تنصّر لم يقرّ لانتقاله عمّا لا يقرّ عليه إلى باطل ، والباطل لا يفيد فضيلة الإقرار ، ويتعيّن الإسلام ، كمسلم ارتدّ ، فإن أبى قتل .
تبديل الشّهادة في اللّعان :
6 - لو أبدل أحد المتلاعنين لفظة أشهد بأقسم ، أو أحلف ، أو أولي ، لم يعتدّ به ، لأنّ اللّعان يقصد فيه التّغليظ ، ولفظ الشّهادة أبلغ فيه ، ولو أبدل لفظة اللّعنة بالإبعاد ، أو أبدلها ( أي لفظة اللّعنة ) بالغضب لم يعتدّ به ، أو أبدلت المرأة لفظة الغضب بالسّخط ، أو قدّمت الغضب فيما قبل الخامسة لم يعتدّ به ، أو أبدلته أي الغضب باللّعنة أو قدّم الرّجل اللّعنة فيما قبل الخامسة لم يعتدّ به لمخالفته المنصوص .
والأصل فيه قوله تعالى : { والّذين يَرْمون أزواجَهم ولم يكن لهم شُهداء إلاّ أنفسُهم فشهادةُ أحدِهم أربعُ شهاداتٍ باللّه إنّه لمن الصّادقين ، والخامسة أنَّ لعنةَ اللّه عليه إنْ كان من الكاذبين ، ويَدْرَأُ عنها العذابَ أن تشهدَ أربعَ شهاداتٍ باللّه إنّه لمن الكاذبين ، والخامسة أنَّ غضبَ اللّه عليها إنْ كان من الصّادقين } . وتفصيل ذلك في مصطلح ( لعان ) .
تبديل الزّكاة :
7 - ذهب الجمهور إلى عدم جواز تبديل الزّكاة بدفع قيمتها بدلاً من أعيانها ، وذهب الحنفيّة إلى جوازه ، إذ دفع القيمة عندهم أفضل من دفع العين ، لأنّ العلّة في أفضليّة القيمة كونها أعون على دفع حاجة الفقير ، لاحتمال أنّه يحتاج غير الحنطة مثلاً من ثياب ونحوها ، بخلاف دفع العروض ، وهذا في السّعة ، أمّا في الشّدّة فدفع العين أفضل .
وتفصيل ذلك يرجع إليه في ( زكاة الفطر ) .
تبذّل *
التّعريف :
1 - للتّبذّل في اللّغة معان : منها : ترك التّزيّن ، والتّهيّؤ بالهيئة الحسنة الجميلة على جهة التّواضع . ومنه حديث سلمان : « فرأى أمّ الدّرداء متبذّلةً » وفي رواية « مبتذلةً » . والمبذل والمبذلة : الثّوب الخلق . والمتبذّل : لابسه . وفي حديث الاستسقاء « فخرج متبذّلاً متخضّعاً » ، وفي مختار الصّحاح . البِذلة والمِبذلة بكسر أوّلهما : ما يمتهن من الثّياب . وابتذال الثّوب وغيره : امتهانه . ومن معاني التّبذّل أيضاً : ترك التّصاون .
والتّبذّل في الاصطلاح : لبس ثياب البذلة . والبذلة : المهنة . وثياب البذلة هي الّتي تلبس في حال الشّغل ، ومباشرة الخدمة ، وتصرّف الإنسان في بيته .
وهو بهذا لا يخرج في معناه الاصطلاحيّ عمّا ذكر له من معان لغويّة .
حكمه الإجماليّ :
2 - التّبذّل بمعنى ترك التّزيّن . تارةً يكون واجباً ، وتارةً يكون مسنوناً . وتارةً يكون مكروهاً . وتارةً يكون مباحاً ، وهو الأصل .
3 - فيكون واجباً : في الإحداد . وهو ترك الزّينة ونحوها للمعتدّة من الموت أو الطّلاق البائن . ولا خلاف بين عامّة الفقهاء في وجوبه على المتوفّى عنها زوجها ، والأصل فيه قول اللّه تبارك وتعالى : { والّذين يُتوفّون منكم ويَذَرون أزواجاً يَتَرَبَّصْنَ بأنفسهنّ أربعةَ أشهرٍ وعشراً } وقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يَحِلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث إلاّ على زوج أربعةَ أشهر وعشراً » .
وإحدادها يكون بتجنّب الزّينة ، والطّيب ، ولبس الحليّ ، والملوّن والمطرّز من الثّياب للتّزيّن ، والكحل والادّهان ، وكلّ ما من شأنه أن تعتبر معه باستعماله متزيّنةً ما لم تدع إلى ذلك ضرورة ، فتقدّر حينئذ بقدرها ، كالكحل مثلاً للرّمد ، فإنّه يرخّص لها باستعماله ليلاً وتمسحه نهاراً ، لما روى أبو داود « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على أمّ سلمة وهي حادّة على أبي سلمة وقد جعلت في عينها صبراً ، فقال : ما هذا يا أمّ سلمة ؟ فقالت : إنّما هو صبر يا رسول اللّه ليس فيه طيب ، قال : إنّه يشبّ الوجه ، فلا تجعليه إلاّ باللّيل ، وتنزعينه بالنّهار » . وحديث أمّ عطيّة رضي الله عنها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قالت : « كنّا ننهى أن نحدّ على ميّت فوق ثلاث ، إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشراً ، ولا تكتحل ولا تتطيّب ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلاّ ثوب عصب ، وقد رخّص لنا عند الطّهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة من كست أظفار » .
والمطلّقة طلاقاً بائناً كالمتوفّى عنها زوجها عند الحنفيّة ، فيجب عليها تجنّب ما تتجنّبه الحادّة ، إظهاراً للتّأسّف على فوت نعمة النّكاح . وانظر للتّفصيل مصطلح ( إحداد ) .
4 - ويكون التّبذّل مسنوناً في الاستسقاء . وهو طلب العباد السّقيا من اللّه تعالى عند حاجتهم إليها . فيخرجون إلى الصّحراء في ثياب بذلة خاشعين متضرّعين وجلين ناكسين رءوسَهم ، إذ ذلك أقرب إلى الإجابة . فيصلّون ركعتين ، ويكثرون من الدّعاء والاستغفار . قال ابن عبّاس : « خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للاستسقاء متبذّلاً متواضعاً متخشّعاً متضرّعاً حتّى أتى المصلّى » . وانظر للتّفصيل مصطلح ( استسقاء ) .
5- ويكون التّبذّل مكروهاً : في الجمعة والعيدين ، لأنّ التّزيّن مسنون لهما باتّفاق ، فيغتسل ويلبس أحسن ثيابه ، والجديد منها أفضل ، وأولاها البياض ، ويتطيّب . والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة ، منها : حديث « من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه ومسّ من طيب إن كان عنده ، ثمّ أتى الجمعة ، فلم يتخطّ أعناق النّاس ، ثمّ صلّى ما كتب له ، ثمّ أنصت إذا خرج إمامه حتّى يفرغ من صلاته ، كانت كفّارةً لما بينها وبين جمعته الّتي قبلها » وما روي عن عبد اللّه بن سلام رضي الله عنه « أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة يقول : ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم جمعته سوى ثوبي مهنته » . هذا بالنّسبة للرّجال . أمّا النّساء فإنّهنّ إذا أردن حضور الجمعة والعيدين يتنظّفن بالماء ولا يتطيّبن ، ولا يلبسن الشّهرة من الثّياب ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه ، وليخرجن تفلات » أي غير متعطّرات ، لأنّهنّ إذا تطيّبن ولبسن الشّهرة من الثّياب دعا ذلك إلى الفساد والافتتان بهنّ . فهذه الأحاديث قد دلّت على كراهة التّبذّل للرّجال في الجمعة والعيدين ، وعلى استحبابه بالنّسبة للنّساء فيهما .
وانظر : ( جمعةً وعيدين ) .
ويكره التّبذّل في مجامع النّاس ولقاء الوفود . وانظر لتفصيل ذلك مصطلح : ( تزيّن ) . ويكره تبذّل المرأة لزوجها والرّجل لزوجته ، ذلك لأنّه يستحبّ لكلّ منهما أن يتزيّن للآخر عند عامّة الفقهاء ، لقوله تعالى : { وعاشروهنّ بالمعروف } وقوله تعالى : { ولهنّ مثلُ الّذي عليهنّ بالمعروف } فالمعاشرة بالمعروف حقّ لكلّ منهما على الآخر ، ومن المعروف أن يتزيّن كلّ منهما لصاحبه ، فكما يحبّ الزّوج أن تتزيّن له زوجته . فكذلك هي تحبّ أن يتزيّن لها . قال أبو زيد :" تتّقون اللّه فيهنّ كما عليهنّ أن يتّقين اللّه فيكم ".
وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما : " إنّي لأحبّ أن أتزيّن للمرأة كما أحبّ أن تتزيّن لي ، لأنّ اللّه تعالى يقول : { ولهنّ مثل الّذي عليهنّ بالمعروف } .
وكان محمّد بن الحسن يلبس الثّياب النّفيسة ويقول : إنّ لي نساءً وجواري ، فأزيّن نفسي كي لا ينظرن إلى غيري . وقال أبو يوسف : يعجبني أن تتزيّن لي امرأتي ، كما يعجبها أن أتزيّن لها . وانظر للتّفصيل مصطلح ( زينة ) .
كما يكره التّبذّل في الصّلاة عدا ما كان منه في صلاة الاستسقاء على نحو ما سبق بيانه ، سواء أكان المصلّي فرداً أم في جماعة ، إماماً كان أم مأموماً ، كأن يلبس المصلّي ثوباً يزري به . وذلك لأنّ مريد الصّلاة يعدّ نفسه لمناجاة ربّه ، ولذا يستحبّ له أن يرتدي أكمل ثيابه وأحسنها لقوله تعالى : { يا بَني آدمَ خذوا زينَتكم عندَ كلّ مسجد } وهذه الآية وإن كان نزولها فيمن كان يطوف بالبيت عرياناً إلاّ أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب ، والمراد ما يستر العورة عند الصّلاة بما لا يصف البشرة ويخلّ بالصّلاة ، والرّجل والمرأة في ذلك سواء .
6- ولكون التّبذّل مباحاً في غير المواضع المذكورة ، كمن يلبس ثياب البذلة في عمله أو شؤونه الخاصّة .
7- أمّا التّبذّل بمعنى عدم التّصاون ، فهو مذموم شرعاً لإخلاله بالمروءة ، ولأنّه يؤدّي إلى عدم قبول الشّهادة .
وهو حرام إن كان عدم التّصاون عن المعاصي وتفصيله في ( الشّهادة ) .
تبر *
التّعريف :
1 - التّبر لغةً : الذّهب كلّه . وقال ابن الأعرابيّ : التّبر : الفتات من الذّهب والفضّة قبل أن يصاغا ، فإذا صيغا ، فهما ذهب وفضّة . وقال الجوهريّ : التّبر : ما كان من الذّهب غير مضروب . فإذا ضرب دنانير فهو عين ، ولا يقال : تبر إلاّ للذّهب ، وبعضهم يقوله للفضّة أيضاً . وقيل : يطلق التّبر على غير الذّهب والفضّة . كالنّحاس والحديد والرّصاص . واصطلاحاً : اسم للذّهب والفضّة قبل ضربهما ، أو للأوّل فقط ، والمراد الأعمّ .
الأحكام المتعلّقة بالتّبر :
الرّبا في التّبر :
2 - أجمع العلماء على أنّ بيع الذّهب بالذّهب ، والفضّة بالفضّة لا يجوز إلاّ مثلاً بمثل يداً بيد ، لما رواه مالك عن نافع عن أبي سعيد الخدريّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا تبيعوا الذّهب بالذّهب إلاّ مثلاً بمثل ، ولا تشفّوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الفضّة بالفضّة إلاّ مثلاً بمثل ، ولا تشفّوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها شيئاً غائباً بناجز » وخبر : « الذّهب بالذّهب وزناً بوزن ، ومثلاً بمثل ، يداً بيد ، والفضّة بالفضّة وزناً بوزن ، مثلاً بمثل ، فمن زاد أو استزاد فهو رباً » .
كما أجمعوا على أنّ مسكوكه ، وتبره ، ومصوغه سواء في منع بيع بعضه ببعض متفاضلاً ، لما رواه عبادة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال « الذّهب بالذّهب تبرها وعينها ، والفضّة بالفضّة تبرها وعينها ، والبرّ بالبرّ مدي بمدي ، والشّعير بالشّعير مدي بمدي ، والتّمر بالتّمر مدي بمدي ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى » . ولا بأس ببيع الذّهب بالفضّة ، والفضّة أكثرهما ، يداً بيد ، وأمّا نسيئةً فلا ، ولا بأس ببيع البرّ بالشّعير ، والشّعير أكثرهما ، يداً بيد ، وأمّا نسيئةً فلا . ولعموم الأحاديث الواردة بهذا الخصوص .
الزّكاة في تبر الذّهب والفضّة :
3 - الذّهب والفضّة إن كان كلّ منهما نقوداً أو تبراً ففيه الزّكاة ، إذا بلغ نصاباً وحال عليه الحول . ر : ( زكاة : زكاة الذّهب والفضّة ) .
جعل التّبر رأسمال في الشّركات :
4 - يجوز أن يكون التّبر رأس مال في شركة المفاوضة إن تعامل النّاس به - أي باستعماله ثمناً - فينزّل التّعامل حينئذ منزلة الضّرب ، فيكون ثمناً ، ويصلح أن يكون رأس مال ، وهذا عند بعض الفقهاء الحنفيّة . وفي الجامع الصّغير : لا تكون المفاوضة بمثاقيل ذهب أو فضّة ، ومراده التّبر ، فعلى هذه الرّواية التّبر سلعة تتعيّن بالتّعيين ، فلا تصلح رأس مال في المضاربات والشّركات ، ونحوه عند الشّافعيّة .
وقال المالكيّة : لا تجوز الشّركة بتبر ومسكوك ولو تساويا قدراً إن كثر فضل السّكّة ، فإن ساوتها جودة التّبر فقولان كما في الشّامل .
التّبر المستخرج من الأرض :
5 - التّبر المستخرج من الأرض جعل فيه بعض العلماء الخمس لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « في الرّكاز الخمس » وذهب آخرون إلى أنّ فيه ربع العشر ( ر : ركاز ) .
مواطن البحث :
6 - فصّل الفقهاء أحكام التّبر في ( رباً ، وصرف ، وشركة ، وزكاة ، بيع ، ومضاربة ، وركاز ) " كنز " .
تبرّؤ *
انظر : براءة .
تبرّج *
التّعريف :
1 - التّبرّج لغةً : مصدر تبرّج ، يقال تبرّجت المرأة : إذا أبرزت محاسنها للرّجال .
وفي الحديث « كان يكره عشر خلال ، منها : التّبرّج بالزّينة لغير محلّها » والتّبرّج : إظهار الزّينة للرّجال الأجانب وهو المذموم . أمّا للزّوج فلا ، وهو معنى قوله لغير محلّها .
وهو في معناه الشّرعيّ لا يخرج عن هذا . قال القرطبيّ في تفسير قوله تعالى : { غيرَ مُتبرِّجات بِزِينَةٍ } أي غير مظهرات ولا متعرّضات بالزّينة لينظر إليهنّ ، فإنّ ذلك من أقبح الأشياء وأبعدها عن الحقّ . وأصل التّبرّج : التّكشّف والظّهور للعيون . وقال في تفسير قوله تعالى { ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهليّةِ الأُولى } حقيقة التّبرّج : إظهار ما ستره أحسن .
قيل ما بين نوح وإبراهيم عليهما السلام : كانت المرأة تلبس الدّرع من اللّؤلؤ غير مخيط الجانبين ، وتلبس الثّياب الرّقاق ولا تواري بدنها .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّزيّن :
2 - التّزيّن : اتّخاذ الزّينة ، وهي ما يستعمل استجلاباً لحسن المنظر من الحليّ وغيره ، ومنه قوله تعالى { حتّى إذا أخذتِ الأرضُ زُخرفَها وازَّيَّنَتْ } أي حسنت وبهجت بالنّبات . فأمّا التّبرّج : فهو إظهار تلك الزّينة لمن لا يحلّ له النّظر إليها .
ما يعتبر إظهاره تبرّجاً :
3 - التّبرّج : إظهار الزّينة والمحاسن ، سواء أكانت فيما يعتبر عورةً من البدن : كعنق المرأة وصدرها وشعرها ، وما على ذلك من الزّينة . أو كان فيما لا يعتبر عورةً : كالوجه والكفّين ، إلاّ ما ورد الإذن به شرعاً كالكحل ، والخاتم ، والسّوار ، على ما روي عن ابن عبّاس في تفسير قوله تعالى : { ولا يُبْدين زينَتَهنّ إلاّ ما ظهرَ منها } قال : ما ظهر منها : الكحل ، والخاتم والسّوار . ولأنّها تحتاج إلى كشف ذلك في المعاملات فكان فيه ضرورة ، على أنّ في اعتبار الوجه والكفّين من العورة خلافاً ينظر في مصطلح ( عورة ) .
الحكم التّكليفيّ للتّبرّج :
تبرّج المرأة :
4 - تبرّج المرأة على أشكاله المختلفة ، سواء ما كان منه بإظهار الزّينة والمحاسن لغير من لا يحلّ له نظر ذلك ، أو ما كان بالتّبختر والاختيال ، والتّثنّي في المشي ، ولبس الرّقيق من الثّياب الّذي يصف بشرتها ، ويبيّن مقاطع جسمها ، إلى غير ذلك - ممّا يبدو منها مثيراً للغرائز ومحرّكاً للشّهوة - حرام إجماعاً لغير الزّوج ، لقول اللّه تبارك وتعالى { وقَرْنَ في بيوتِكنَّ ولا تَبَرَّجْنَ تبرّجَ الجاهليّة الأُولى } وقوله { ولا يَضْرِبْنَ بأرجُلِهنّ لِيُعْلمَ ما يُخْفِين من زينتهنّ } وذلك أنّ النّساء في الجاهليّة الأولى كنّ يخرجن في أجود زينتهنّ ويمشين مشيةً من الدّلّال والتّبختر ، فيكون ذلك فتنةً لمن ينظر إليهنّ . حتّى القواعد من النّساء ، وهنّ العجائز ونحوهنّ ممّن لا رغبة للرّجال فيهنّ ، نزل فيهنّ قوله تعالى { والقواعدُ من النّساء اللّاتي لا يَرْجون نكاحاً فليس عليهنَّ جُناحٌ أن يَضَعْنَ ثيابَهنّ غيرَ متبَرِّجات بزينةٍ } فأباح لهنّ وضع الخمار ، وكشف الرّأس ونحوه ، ونهاهنّ مع ذلك عن التّبرّج .
تبرّج الرّجل :
تبرّج الرّجل إمّا بإظهار عورته أو تزيّنه ، والتّزيّن إمّا أن يكون موافقاً للشّريعة ، أو مخالفاً لها .
أ - التّبرّج بإظهار العورة :
5 - يحرم على الرّجل كشف عورته أمام الرّجال والنّساء غير زوجته ، أو لحاجة التّداوي والختان ، على خلاف بين الفقهاء في تحديد العورة . ينظر إليه في مصطلح ( عورة ) . ويجوز للمرأة أن تنظر من الرّجل إلى ما ينظر الرّجل إليه من الرّجل إذا أمنت الشّهوة ، لاستواء الرّجل والمرأة في النّظر إلى ما ليس بعورة ، وذهب بعض الفقهاء إلى التّحريم . كما يكره نظر الرّجل إلى فرجه عبثاً من غير حاجة .
ب - التّبرّج بإظهار الزّينة :
6 - إظهار الزّينة من الرّجل قد يكون موافقاً للشّريعة ، وقد يكون مخالفاً لها .
فالتّزيّن المخالف للشّريعة ، كالأخذ من أطراف الحاجب تشبّهاً بالنّساء ، وكوضع المساحيق على الوجه تشبّهاً بالنّساء ، وكالتّزيّن بلبس الحرير والذّهب والتّختّم به وما إلى ذلك ، وهناك صور من التّزيّن اختلف في حكمها . تنظر في ( اختضاب ) وفي ( لحية وتزيّن ) . وأمّا التّزيّن الّذي أباحته الشّريعة ، ومنه تزيّن حضّت عليه : كتزيّن الزّوج لزوجته كتزيّنها له ، وتسريح الشّعر أو حلقه ، لكن يكره القزع ، ويسنّ تغيير الشّيب إلى الحمرة والصّفرة . ويجوز التّزيّن بالتّختّم بالفضّة ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اتّخذ خاتماً من الفضّة » ، إلاّ أنّ الفقهاء اختلفوا في مقدار الخاتم وينظر في مصطلح ( تختّم ) .
تبرّج الذّمّيّة :
7 - الذّمّيّة الحرّة عورتها كعورة المسلمة الحرّة ، حيث لم يفرّق الفقهاء في إطلاقهم للحرّة بين المسلمة وغيرها ، كما أنّهم لم يفرّقوا بين عورة الرّجل المسلم والكافر ، وهذا يقتضي تحريم النّظر إلى عورة الذّمّيّ رجلاً كان أو أنثى ، وعلى ذلك يجب على الذّمّيّة ستر عورتها والامتناع عن التّبرّج المثير للفتنة ، درءاً للفساد ومحافظةً على الآداب العامّة .
من يطلب منه منع التّبرّج ؟
8 - على الأب أن يمنع بنته الصّغيرة عن التّبرّج إذا كانت تشتهى ، حيث لا يباح مسّها والنّظر إليها والحالة هذه لخوف الفتنة ، وكذلك عليه ذلك بالنّسبة لبنته الّتي لم تتزوّج متى كانت في ولايته ، إذ ينبغي له أن يأمرها بجميع المأمورات ، وينهاها عن جميع المنهيّات ، ومثل الأب في ذلك وليّها عند عدمه . وعلى الزّوج منع زوجته عنه ، لأنّه معصية ، فله تأديبها وضربها ضرباً غير مبرّح في كلّ معصية لا حدّ فيه ، إذا لم تستجب لنصحه ووعظه ، متى كان متمشّياً مع المنهج الشّرعيّ . وعلى وليّ الأمر أن ينهى عن التّبرّج المحرّم ، وله أن يعاقب عليه ، وعقوبته التّعزير ، والمراد به التّأديب ، ويكون بالضّرب أو بالحبس أو بالكلام العنيف ، أو ليس فيه تقدير ، بل هو مفوّض إلى رأي من يقوم به وفق مقتضيات الأحوال الّتي يطلب فيها التّعزير . وانظر مصطلح ( تعزير ) .
تبرّز *
انظر : قضاء الحاجة .
تبرّع *
التّعريف :
1 - التّبرّع لغةً : مأخوذ من برع الرّجل وبرع بالضّمّ أيضاً براعةً ، أي : فاق أصحابه في العلم وغيره فهو بارع ، وفعلت كذا متبرّعاً أي : متطوّعاً ، وتبرّع بالأمر : فعله غير طالب عوضاً .
وأمّا في الاصطلاح ، فلم يضع الفقهاء تعريفاً للتّبرّع ، وإنّما عرّفوا أنواعه كالوصيّة والوقف والهبة وغيرها ، وكلّ تعريف لنوع من هذه الأنواع يحدّد ماهيّته فقط ، ومع هذا فإنّ معنى التّبرّع عند الفقهاء كما يؤخذ من تعريفهم لهذه الأنواع ، لا يخرج عن كون التّبرّع بذل المكلّف مالاً أو منفعةً لغيره في الحال أو المآل بلا عوض بقصد البرّ والمعروف غالباً .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّطوّع :
2 - التّطوّع : اسم لما شرع زيادةً على الفرض والواجب وهو فرد من أفراد التّبرّع ، فالتّبرّع قد يكون واجباً ، وقد لا يكون واجباً ، ويكون التّطوّع أيضاً في العبادات ، وهي النّوافل كلّها الزّائدة عن الفروض والواجبات .
الحكم التّكليفيّ للتّبرّع :
3 - حثّ الإسلام على فعل الخير وتقديم المعروف في الكتاب والسّنّة والإجماع ، والتّبرّع بأنواعه المختلفة من الخير ، فيكون مشروعاً بهذه الأدلّة .
أمّا الكتاب فقوله تعالى : { وتعاوَنوا على البِرِّ والتّقوى ولا تَعَاونوا على الإِثم والعدوان } فقد أمر اللّه بالتّعاون على البرّ ، وهو كلّ معروف يقدّم للغير سواء أكان بتقديم المال أم المنفعة . وقوله سبحانه { كُتِبَ عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إنْ ترك خيراً الوصيّةُ للوالدَيْن والأقربين بالمعروف حقّاً على المتّقين } .
وأمّا السّنّة ، فإنّ الأحاديث الدّالّة على أعمال الخير كثيرة ، منها : ما روي عن ابن عمر قال : « أصاب عمر أرضاً بخيبر ، فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها ، فقال : يا رسول اللّه إنّي أصبت أرضاً بخيبر ، لم أصب مالاً قطّ هو أنفس عندي منه . فما تأمرني به ؟ قال : إن شئت حَبسْتَ أصلها وتصدّقتَ بها . قال : فتصدّق بها عمر : أنّه لا يباع أصلها ، ولا يبتاع ، ولا يورث ، ولا يوهب . قال : فتصدّق عمر في الفقراء . وفي القربى ، وفي الرّقاب ، وفي سبيل اللّه ، وابن السّبيل . والضّيف . لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ، أو يطعم صديقاً ، غير متموّل فيه . قال : فحدّثت بهذا الحديث محمّداً . فلمّا بلغت هذا المكان : غير متموّل فيه . قال محمّد : غير متأثّل مالاً » .
قال ابن عون : وأنبأني من قرأ هذا الكتاب ، أنّ فيه : غير متأثّل مالاً .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : « تهادوا تحابّوا » وقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه تبارك وتعالى تصدّق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادةً في حياتكم ، ليجعلها لكم زيادةً في أعمالكم » .
وأمّا الإجماع فقد اتّفقت الأمّة على مشروعيّة التّبرّع ، ولم ينكر ذلك أحد .
4 - والتّبرّعات أنواع متعدّدة منها : تبرّع بالعين ، ومنها تبرّع بالمنفعة ، وتكون التّبرّعات ، حالّةً أو مؤجّلةً ، أو مضافةً إلى ما بعد الموت .
والتّبرّع بأنواعه يدور عليه الحكم التّكليفيّ بأقسامه .
5- وقد اتّفق الفقهاء على أنّ التّبرّع ليس له حكم تكليفيّ واحد ، وإنّما تعتريه الأحكام الخمسة : فقد يكون واجباً ، وقد يكون مندوباً ، وقد يكون حراماً ، وقد يكون مكروهاً تبعاً ، لحالة التّبرّع والمتبرّع له والمتبرّع به .
فإن كان التّبرّع وصيّةً ، فتكون واجبةً لتدارك قربة فاتته كزكاة أو حجّ ، وتكون مندوبةً إذا كان ورثته أغنياء وهي في حدود الثّلث ، وتكون حراماً إذا أوصى لمعصية أو بمحرّم ، وتكون مكروهةً إذا أوصى لفقير أجنبيّ وله فقير قريب ، وتكون مباحةً إذا أوصى بأقلّ من الثّلث لغنيّ أجنبيّ وورثته أغنياء . والحكم كذلك في باقي التّبرّعات كالوقف والهبة .
أركان التّبرّع :
6 - التّبرّع أساسه العقد ، ولا بدّ من توافر أركان العقد ، وقد اختلف الفقهاء في عدد هذه الأركان . فالجمهور يرون أنّ للتّبرّع أربعة أركان : متبرّع ، ومتبرّع له ، ومتبرّع به ، وصيغة . فالمتبرّع هو الموصي أو الواهب أو الواقف أو المعير .
والمتبرّع له قد يكون الموصى له أو الموهوب له أو الموقوف عليه أو المستعير .
والمتبرّع به قد يكون موصًى به أو موهوباً أو موقوفاً أو معاراً إلى غير ذلك .
والصّيغة هي الّتي تنشئ التّبرّع وتبيّن إرادة المتبرّع .
أمّا الحنفيّة فللتّبرّع عندهم ركن واحد ، وهو الصّيغة ، والخلاف عندهم فيما تتحقّق به هذه الصّيغة ، وهذا يختلف تبعاً لنوع التّبرّع .
شروط التّبرّع :
7 - لكلّ نوع من التّبرّعات شروط إذا تحقّقت كان التّبرّع صحيحاً .
وإذا لم تتحقّق لم يكن صحيحاً ، وهذه الشّروط كثيرة ومتنوّعة ، فبعضها يتعلّق بالمتبرّع ، وبعضها يتعلّق بالمتبرّع له ، وبعضها يتعلّق بالمتبرّع به ، وبعضها يتعلّق بالصّيغة ، وتفصيل شروط كلّ نوع من التّبرّعات في مصطلحه .
آثار التّبرّع :
8 - التّبرّع إذا تمّ بشروطه الشّرعيّة يترتّب عليه أثر شرعيّ ، وهو انتقال المتبرّع به إلى المتبرّع له ، ويختلف ذلك باختلاف المتبرّع به .
ففي الوصيّة مثلاً ينتقل الملك من الموصي بعد وفاته إلى الموصى له بقبوله ، سواء أكان الموصى به أعياناً أم منافع ، وفي الهبة ينتقل ملك الموهوب من الواهب إلى الموهوب له إذا قبضه عند جمهور الفقهاء ، ويتوقّف انتقاله على القبض عند الحنفيّة . وفي العاريّة ينتقل حقّ الانتفاع إلى المستعير انتقالاً مؤقّتاً ، وأمّا الوقف فقد اختلفوا في انتقال الملك وعدمه ، فعند الحنفيّة والشّافعيّة والمشهور من مذهب أحمد : أنّ الوقف يخرج عن ملك الواقف ويبقى على ملك اللّه تعالى ، وعند المالكيّة وهو رواية عن أحمد أنّه يبقى على ملك صاحبه واستدلّوا بما روي « عن عمر رضي الله عنه لمّا وقف أسهماً له بخيبر قال له النّبيّ عليه الصلاة والسلام : حبّس أصلها » فاستنبطوا من ذلك النّصّ بقاء الموقوف على ملك واقفه ، وبالجملة فإنّ التّبرّع ينتج أثراً شرعيّاً ، وهو انتقال الملك في العين أو المنفعة من المتبرّع إلى المتبرّع له إذا تمّ العقد بشروطه .
وفي المسألة تفصيلات واختلاف يرجع إليها في ( عاريّة . هبة . وقف . وصيّة . إلخ ) .
ما ينتهي به التّبرّع :
9 - انتهاء التّبرّع قد يكون ببطلانه ، وقد يكون بغير فعل من أحد ، وقد يكون بفعل التّبرّع أو غيره . والأصل في التّبرّع عدم انتهائه لما فيه من البرّ والمعروف ، باستثناء الإعارة لأنّها مؤقّتة . وباستعراض أقوال الفقهاء في انتهاء التّبرّع يتبيّن أنّ الانتهاء يتّسع في بعض أنواع التّبرّع ، ويضيق في بعضها الآخر ، ومن ناحية أخرى فقد يكون إنهاء بعض التّبرّعات غير ممكن كالوقف عند جمهور الفقهاء ، وقد يكون أمراً حتميّاً كالإعارة .
وتفصيل ما يتعلّق بكلّ نوع من التّبرّعات ينظر في مصطلحه .
تبرّك *
التّعريف :
1 - التّبرّك لغةً : طلب البركة ، والبركة هي : النّماء والزّيادة ، والتّبريك : الدّعاء للإنسان بالبركة . وبارك اللّه الشّيء وبارك فيه وعليه : وضع فيه البركة ، وفي التّنزيل : { وهذا كتابٌ أَنزلْناه مبارَك } وتبرّكت به تيمّنت به . قال الرّاغب الأصفهانيّ : البركة ثبوت الخير الإلهيّ في الشّيء . قال تعالى : { ولو أنَّ أهلَ القرى آمنوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنا عليهم بركاتٍ من السّماء والأرض } { وهذا ذِكْر مبارك أنزلناه } تنبيهاً على ما يفيض به من الخيرات الإلهيّة . وعلى هذا فالمعنى الاصطلاحيّ للتّبرّك هو : طلب ثبوت الخير الإلهيّ في الشّيء .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّوسّل :
2 - التّوسّل لغةً : التّقرّب . يقال : توسّل العبد إلى ربّه بوسيلة إذا تقرّب إليه بعمل .
وفي التّنزيل : { وابْتَغُوا إليه الوسيلةَ } .
ب - الشّفاعة :
3 - الشّفاعة : لغةً من مادّة شفع ، ويقال : استشفعت به : طلبت منه الشّفاعة . وقال الرّاغب الأصفهانيّ : الشّفاعة الانضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه ، وشفّع وتشفّع : طلب الشّفاعة ، والشّفاعة : كلام الشّفيع للملك في حاجة يسألها لغيره ، والشّافع : الطّالب لغيره ، وشفع إليه في معنى : طلب إليه قضاء حاجة المشفوع له .
وفي الاصطلاح : الضّراعة والسّؤال في التّجاوز عن ذنوب المشفوع له أو قضاء حاجته .
ج - الاستغاثة :
4 - الاستغاثة لغةً : طلب الغوث ، وفي التّنزيل : { إذْ تستغيثون ربَّكم } وأغاثه إغاثةً : إذا أعانة ونصره ، فهو مغيث ، وأغاثهم اللّه برحمته : كشف شدّتهم .
الحكم التّكليفيّ :
التّبرّك مشروع في الجملة على التّفصيل التّالي :
- 1 - التّبرّك بالبسملة والحَمْدَلَة :
5 - ذهب بعض أهل العلم إلى سنّيّة ابتداء كلّ أمر ذي بال يهتمّ به شرعاً - بحيث لا يكون محرّماً لذاته ، ولا مكروهاً لذاته ، ولا من سفاسف الأمور ومحقّراتها - بالبسملة والحمدلة ، كلّ في موضعه على سبيل التّبرّك .
وجرى العلماء في افتتاح كلماتهم وخطبهم ومؤلّفاتهم وكلّ أعمالهم المهمّة بالبسملة عملاً بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللّه فهو أبتر أو أقطع أو أجذم » وفي رواية أخرى : « كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد للّه فهو أبتر أو أقطع أو أجذم » ومن هذا الباب الإتيان بالبسملة عند الأكل ، والشّرب ، والجماع ، والاغتسال ، والوضوء ، والتّلاوة ، والتّيمّم ، والرّكوب والنّزول وما إلى ذلك .
- 2 - التّبرّك بآثار النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
6 - اتّفق العلماء على مشروعيّة التّبرّك بآثار النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأورد علماء السّيرة والشّمائل والحديث أخباراً كثيرةً تمثّل تبرّك الصّحابة الكرام رضي الله عنهم بأنواع متعدّدة من آثاره صلى الله عليه وسلم نجملها فيما يأتي :
أ - في وضوئه :
7 - « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه » ، لفرط حرصهم على التّبرّك بما مسّه صلى الله عليه وسلم ببدنه الشّريف ، وكان من لم يصب من وضوئه يأخذ من بلل يد صاحبه .
ب - في ريقه ونخامته :
8 - « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يبصق بصاقاً ولا يتنخّم نخامةً إلاّ تلقّوها ، وأخذوها من الهواء ، ووقعت في كفّ رجل منهم ، فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم ، ومسحوا بها جلودهم وأعضاءهم تبرّكاً بها » . « وكان يتفل في أفواه الأطفال ، ويمجّ ريقه في الأيادي ، وكان يمضغ الطّعام فيمجّه في فم الشّخص » ، « وكان الصّحابة يأتون بأطفالهم ليحنّكهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجاء البركة » .
ج - في دمه صلى الله عليه وسلم :
9 - ثبت أنّ بعض الصّحابة شربوا دمه صلى الله عليه وسلم على سبيل التّبرّك ، فعن عبد اللّه بن الزّبير رضي الله عنه « أنّه أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم ، فلمّا فرغ قال : يا عبد اللّه اذهب بهذا الدّم فأهرقه حيث لا يراك أحد فشربه ، فلمّا رجع ، قال : يا عبد اللّه ما صنعت ؟ قال : جعلته في أخفى مكان علمت أنّه مخفيّ عن النّاس ، قال : لعلّك شربته ؟ قلت : نعم . قال : ويل للنّاس منك ، وويل لك من النّاس » فكانوا يرون أنّ القوّة الّتي به من ذلك الدّم . وفي رواية « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له : من خالط دمه دمي لم تمسّه النّار » .
د - في شعره صلى الله عليه وسلم :
10 - « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوزّع شعره بين الصّحابة عندما يحلق رأسه الشّريف » ، وكان الصّحابة رضي الله عنهم يحرصون على أن يحصّلوا شيئاً من شعره صلى الله عليه وسلم ويحافظون على ما يصل إلى أيديهم منه للتّبرّك به . فعن أنس رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتى منًى فأتى الجمرة فرماها ثمّ أتى منزله بمنًى ونحر ، ثمّ قال : للحلّاق : خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثمّ الأيسر ، ثمّ جعل يعطيه النّاس » .
وفي رواية : « لمّا رمى الجمرة ونحر نسكه وحلق ناول الحلّاق شقّه الأيمن ، فحلقه ، ثمّ دعا أبا طلحة الأنصاريّ رضي الله عنه فأعطاه إيّاه ، ثمّ ناوله الشّقّ الأيسر فقال : احلق ، فحلقه ، فأعطاه أبا طلحة ، فقال : اقسمه بين النّاس » . وفي رواية : « فبدأ بالشّقّ الأيمن فوزّعه الشّعرة والشّعرتين بين النّاس ، ثمّ قال بالأيسر فصنع به مثل ذلك » .
وروي « أنّ خالد بن الوليد رضي الله عنه : فقد قلنسوةً له يوم اليرموك ، فطلبها حتّى وجدها ، وقال : اعتمر رسول اللّه فحلق رأسه فابتدر النّاس جوانب شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة ، فلم أشهد قتالاً وهي معي إلاّ رزقت النّصر » .
وعن أنس رضي الله عنه قال : « لقد رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والحلّاق يحلقه وأطاف به أصحابه ، فما يريدون أن تقع شعرة إلاّ في يد رجل » .
هـ - في سؤره وطعامه صلى الله عليه وسلم :
11 - ثبت أنّ الصّحابة رضي الله عنهم كانوا يتنافسون في سؤره صلى الله عليه وسلم ليحوز كلّ واحد منهم البركة الّتي حلّت في الطّعام أو الشّراب من قبل الرّسول صلى الله عليه وسلم . فعن سهل بن سعد رضي الله عنه : « أنّ رسول اللّه أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام ، وعن يساره الأشياخ فقال للغلام : أتأذن لي أن أعطي هؤلاء ؟ فقال الغلام : - وهو ابن عبّاس رضي الله عنهما - : واللّه يا رسول اللّه لا أوثر بنصيبي منك أحداً ، فتلّه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في يده » .
وعن عميرة بنت مسعود رضي الله عنها : « أنّها دخلت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم هي وأخواتها يبايعنه ، وهنّ خمس ، فوجدته يأكل قديده ، فمضغ لهنّ قديدةً ، ثمّ ناولني القديدة ، فمضغتها كلّ واحدة قطعةً قطعةً ، فلقين اللّه وما وجد لأفواههنّ خلوف » . وفي حديث خنس بن عقيل : « سقاني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شربةً من سويق شرب أوّلها وشربت آخرها ، فما برحت أجد شبعها إذا جعت ، وريّها إذا عطشت ، وبردها إذا ظمئت » .
و - في أظافره صلى الله عليه وسلم :
12 - ثبت أنّه صلى الله عليه وسلم قلّم أظافره ، وقسمها بين النّاس للتّبرّك بها ، فقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله ، من حديث محمّد بن زيد أنّ أباه حدّثه : « أنّه شهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم على المنحر ورجلاً من قريش ، وهو يقسم أضاحيّ ، فلم يصبه منها شيء ولا صاحبه ، فحلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رأسه في ثوبه ، فأعطاه فقسم منه على رجال ، وقلّم أظافره فأعطاه صاحبه » . وفي رواية « ثمّ قلّم أظافره وقسمها بين النّاس » .
ز - في لباسه صلى الله عليه وسلم وأوانيه :
13 - ثبت كذلك أنّ الصّحابة رضي الله عنهم كانوا يحرصون على اقتناء ملابسه وأوانيه للتّبرّك بها والاستشفاء . فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما : « أنّها أخرجت جبّةً طيالسةً وقالت : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يلبسها فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها » . وفي رواية : « فنحن نغسلها نستشفي بها » .
وروي عن أبي محمّد الباجيّ قال : « كانت عندنا قصعة من قصاع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكنّا نجعل فيها الماء للمرضى ، يستشفون بها ، فيشفون بها » .
ح - في ما لمسه صلى الله عليه وسلم ومصلّاه :
14 - كان الصّحابة رضي الله عنهم يتبرّكون فيما تلمس يده الشّريفة صلى الله عليه وسلم . ومن ذلك « بركة يده فيما لمسه وغرسه لسلمان رضي الله عنه حين كاتبه مواليه على ثلثمائة ودية وهو صغار النّخل يغرسها لهم كلّها ، تعلّق وتطعم ، وعلى أربعين أوقيّة من ذهب ، فقام صلى الله عليه وسلم وغرسها له بيده ، إلاّ واحدةً غرسها غيره ، فأخذت كلّها إلاّ تلك الواحدة ، فقلعها النّبيّ صلى الله عليه وسلم وردّها فأخذت » وفي رواية : « فأطعم النّخل من عامه إلاّ الواحدة ، فقلعها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وغرسها فأطعمت من عامها ، وأعطاه مثل بيضة الدّجاجة من ذهب ، بعد أن أدارها على لسانه ، فوزن منها لمواليه أربعين أوقيّة ، وبقي عنده مثل ما أعطاهم » .
« ووضع يده الشّريفة صلى الله عليه وسلم على رأس حنظلة بن حذيم وبرّك عليه ، فكان حنظلة يؤتى بالرّجل قد ورم وجهه ، والشّاة قد ورم ضرعها ، فيوضع على موضع كفّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيذهب الورم » .
« وكان يؤتى إليه صلى الله عليه وسلم بالمرضى وأصحاب العاهات والمجانين فيمسح عليهم بيده الشّريفة صلى الله عليه وسلم فيزول ما بهم من مرض وجنون وعاهة » .
وكذلك كانوا يحرصون على أن يصلّي النّبيّ صلى الله عليه وسلم في مكان من بيوتهم ، ليتّخذوه مصلًّى لهم بعد ذلك ، وتحصل لهم بركة النّبيّ صلى الله عليه وسلم . فعن عتبان بن مالك رضي الله عنه - وهو ممّن شهد بدراً - قال : « كنت أصلّي لقومي بني سالم ، وكان يحول بيني وبينهم واد إذا جاءت الأمطار ، فيشقّ عليّ اجتيازه قبل مسجدهم ، فجئت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقلت له : إنّي أنكرت بصري ، وإنّ الوادي الّذي بيني وبين قومي يسيل إذا جاءت الأمطار فيشقّ عليّ اجتيازه ، فوددت أنّك تأتي فتصلّي في بيتي مكاناً أتّخذه مصلًّى ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : سأفعل إن شاء اللّه فغدا عليّ رسول اللّه وأبو بكر رضي الله عنه بعدما اشتدّ النّهار ، واستأذن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأذنت له ، فلم يجلس حتّى قال : أين تحبّ أن أصلّي من بيتك ؟ فأشرت له إلى المكان الّذي أحبّ أن يصلّي فيه ، فقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فكبّر وصففنا وراءه فصلّى ركعتين ثمّ سلّم ، وسلّمنا حين سلّم » .
- 3 - التّبرّك بماء زمزم :
15 - ذهب العلماء إلى سنّيّة شرب ماء زمزم لمطلوبه في الدّنيا والآخرة ، لأنّها مباركة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « ماء زمزم لما شرب له » .
- 4 - التّبرّك ببعض الأزمنة والأماكن في النّكاح :
16 - ذهب جمهور العلماء إلى استحباب مباشرة عقد النّكاح في المسجد ، وفي يوم الجمعة للتّبرّك بهما ، فقد قال الرّسول صلى الله عليه وسلم : « أعلنوا هذا النّكاح ، واجعلوه في المساجد ، واضربوا عليه بالدّفوف » .
تبسّط *
انظر : توسعة .
تبع *
انظر : تابع .
تبعّض *
انظر : تبعيض .
تبعة *
انظر : اتّباع ، ضمان .
تبعيض *
التّعريف :
1 - التّبعيض في اللّغة : التّجزئة ، وهو مصدر بعّض الشّيء تبعيضاً ، أي جعله أبعاضاً أي أجزاءً متمايزةً . وبعض الشّيء : جزؤه ، وهو طائفة منه سواء قلّت أو كثرت . ومنه : أخذوا ماله فبعّضوه ، أي : فرّقوه أجزاءً .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لكلمة التّبعيض عن هذا المعنى .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّفريق :
2 - التّفريق : مصدر فرّق الشّيء تفريقاً ، أي فصله أبعاضاً ، فيكون بمعنى التّبعيض والتّجزّؤ ، وهو ضدّ الجمع . وفرّقت بين الرّجلين فتفرّقا . قال ابن الأعرابيّ : فرّقت بين الكلامين فافترقا ، مخفّف ، وفرّقت بين العبدين فتفرّقا مثقّل ، فجعل المخفّف في المعاني ، والمثقّل في الأعيان . والّذي حكاه غيره أنّهما بمعنًى ، والتّثقيل للمبالغة .
ويأتي التّفريق بين الشّيئين بمعنى التّمييز بينهما .
الحكم التّكليفيّ :
3 - ليس للتّبعيض حكم عامّ جامع ، ولا يمكن اطّراده على حكم واحد ، ويختلف حكمه باختلاف ما يتعلّق به من العبادات ، والمعاملات والدّعاوى ، والجنايات ، وغيرها على ما سيأتي .
أهمّ القواعد الّتي تبنى عليها مسائل التّبعيض وأحكامها :
4 - تبنى أحكام التّبعيض من ناحية الجواز وعدمه على قواعد فقهيّة كثيرة في المذاهب المختلفة ، نجمل أهمّها فيما يأتي :
أ - قاعدة " ذكر بعض ما لا يتجزّأ كذكر كلّه " .
5- فإذا طلّق المرأة نصف تطليقة وقعت واحدة . أو طلّق نصف المرأة طلقت .
وللقاعدة فروع أخرى عند الحنفيّة . يأتي ذكر بعضها في مواضعها ، ونظيرها عند الشّافعيّة قاعدة " ما لا يقبل التّبعيض فاختيار بعضه كاختيار كلّه ، وإسقاط بعضه كإسقاط كلّه " .
ب - " ما جاز على البدل لا يدخله تبعيض في البدل والمبدل منه معاً " :
6- ولهذا قال الرّافعيّ في باب العدد : الواجب الواحد لا يتأدّى ببعض الأصل ، وبعض البدل كخصال الكفّارة ، وكالتّيمّم مع الوضوء ، أمّا في أحدهما فنعم ، كما لو وجد من الماء ما لا يكفيه ، فإنّه يستعمله ويتيمّم عن الباقي .
فهذا يجوز عند الشّافعيّة والحنابلة ، ولا يجوز عند الحنفيّة والمالكيّة . كما سيأتي بيانه .
ج - قاعدة " الميسور لا يسقط بالمعسور " .
7- قال ابن السّبكيّ : هي من أشهر القواعد المستنبطة من قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » ومن أمثلتها ما إذا قدر المصلّي على بعض الفاتحة لزمه قطعاً . وكما لو وجد بعض الصّاع من الفطرة لزمه إخراجه على الأصحّ ، ويخرج عن هذه القاعدة أمور منها : أنّه لو وجد المحدث الفاقد للماء ثلجاً أو برداً ، وتعذّرت إذابته فلا يجب مسح الرّأس به على المذهب ، وكما إذا وجد في الكفّارة المرتّبة بعض الرّقبة لا يجب قطعاً ، لأنّ الشّرع قصد تكميل العتق قطعاً . وسيأتي تفصيل هذه الأحكام .
أحكام التّبعيض :
التّبعيض في الطّهارة :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ التّبعيض يتأتّى في الطّهارة : فإن قطعت يد الشّخص من المرفق غسّل ما بقي من محلّ الفرض ، وكذلك كلّ عضو سقط بعضه يتعلّق الحكم بباقيه غسلاً ومسحاً ، طبقاً لقاعدة " الميسور لا يسقط بالمعسور " .
وإذا وجد الجنب ماءً يكفي غسل بعض أعضائه ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وابن المنذر ، وهو أحد قولي الشّافعيّ إلى أنّه يتيمّم ويتركه ، لأنّ هذا الماء لا يطهّره ، فلم يلزمه استعماله كالماء المستعمل ، ولما فيه من الجمع بين البدل والمبدل ، ولأنّ ما جاز على البدل لا يدخله تبعيض . وهو قول الحسن ، والزّهريّ ، وحمّاد .
وذهب الحنابلة ، وهو قول آخر للشّافعيّ إلى أنّه يلزمه استعماله ، ويتيمّم للباقي . وبه قال عبدة بن أبي لبابة ومعمر ، ونحوه قال عطاء . وأمّا إن وجد المحدث حدثاً أصغر بعض ما يكفيه من ماء فالحكم لا يختلف عند من لا يجوّز الجمع بين البدل والمبدل منه . وعند الشّافعيّة يجب استعماله على الأصحّ ، وهو وجه للحنابلة أيضاً ، لأنّه قدر على بعض الطّهارة بالماء فلزمه كالجنب ، وكما لو كان بعض بدنه صحيحاً وبعضه جريحاً .
ومأخذ من لا يراه من الحنابلة : إمّا أنّ الحدث الأصغر لا يتبعّض رفعه فلا يحصل به مقصوده ، أو أنّه يتبعّض لكنّه يبطل بالإخلال بالموالاة ، فلا يبقى له فائدة ، أو أنّ غسل بعض أعضاء المحدث غير مشروع ، بخلاف غسل بعض أعضاء الجنب .
وعلى هذا الخلاف الجريح والمريض إذا أمكن غسل بعض جسده دون بعض ، فقد قال أبو حنيفة ومالك : إن كان أكثر بدنه صحيحاً غسّل ولا تيمّم عليه ، وإن كان العكس تيمّم ولا غسل عليه ، لأنّ الجمع بين البدل والمبدل لا يجب كالصّيام والإطعام . ويلزمه غسل ما أمكنه ، والتّيمّم للباقي عند الحنابلة ، وبه قال الشّافعيّ .
9- وإذا توضّأ ومسح على خفّيه ، ثمّ خلعهما قبل انقضاء المدّة ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وهو قول للشّافعيّ ، ورواية عن أحمد : أنّه يجزئه غسل قدميه .
ومذهب الحنابلة ، وهو قول آخر للشّافعيّ : أنّه إذا خلع خفّيه قبل انقضاء المدّة بطل وضوءه ، وبه قال النّخعيّ والزّهريّ ومكحول والأوزاعيّ وإسحاق . وهذا الاختلاف مبنيّ على الاختلاف في وجوب الموالاة في الوضوء ، فمن أجاز التّفريق جوّز غسل القدمين لأنّ سائر أعضائه مغسولة ، ومن منع التّفريق أبطل وضوءه لفوات الموالاة .
ونزع أحد الخفّين كنزعهما في قول أكثر أهل العلم ، منهم : مالك والثّوريّ والأوزاعيّ وابن المبارك والشّافعيّ ، وأصحاب الرّأي ، والحنابلة . ويلزمه نزع الآخر . وقال الزّهريّ يغسل القدم الّتي نزع الخفّ منها ، ويمسح الآخر ، لأنّهما عضوان فأشبها الرّأس والقدم .
كما أنّه لا يجوز غسل إحدى الرّجلين والمسح على الأخرى ، لأنّ الشّارع خيّر المتوضّئ بين غسل الرّجلين والمسح على الخفّين ، لأنّه لا يجمع بين البدل والمبدل منه .
10 - وأمّا التّبعيض في مسح الرّأس : فقد اتّفق الفقهاء على وجوب مسح الرّأس واختلفوا في قدر الواجب : فذهب الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عن أحمد إلى أنّ المتوضّئ يجزئه مسح بعض الرّأس ، وإليه ذهب الحسن والثّوريّ والأوزاعيّ ، وقد نقل عن سلمة بن الأكوع أنّه كان يمسح مقدّم رأسه ، وابن عمر مسح اليافوخ .
وذهب المالكيّة ، وهو رواية عن أحمد إلى وجوب مسح جميعه في حقّ كلّ أحد ، إلاّ أنّ الظّاهر عن أحمد في حقّ الرّجل : وجوب الاستيعاب ، وأنّ المرأة يجزئها مسح مقدّم رأسها .وفي موضع المسح وبيان القدر المجزئ تفصيل ذكر في موطنه . ر : مصطلح ( وضوء ) .
التّبعيض في الصّلاة :
11 - ذهب الأئمّة الأربعة إلى جواز التّبعيض في بعض أفعال الصّلاة ، ومنها ما يلي :
إذا قدر المصلّي على بعض الفاتحة : فذهب المالكيّة والشّافعيّة ، والحنابلة إلى أنّه يلزمه ، والأصل في هذا الباب عند الشّافعيّة قاعدة " الميسور لا يسقط بالمعسور " أي عدم القدرة على الكلّ لا يسقط البعض المقدور عليه ، وعند الحنابلة قاعدة " من قدر على بعض العبادة ، فما هو جزء من العبادة - وهو عبادة مشروعة في نفسه - فيجب فعله عند تعذّر فعل الجميع بغير خلاف " .
وأمّا الحنفيّة فلا يتأتّى هذا عندهم ، لأنّ قراءة الفاتحة في الصّلاة لا تتعيّن ، وتجزئ آية من القرآن من أيّ موضع كان .
وإذا وجد المصلّي بعض ما يستر به العورة ، فذهب الأئمّة الأربعة إلى أنّه يلزمه قطعاً . وكذلك لو عجز عن الرّكوع والسّجود دون القيام " لزماه عند غير الحنفيّة ، وإذا لم يمكنه رفع اليدين في الصّلاة إلاّ بالزّيادة أو النّقصان أتى بالممكن ، للقواعد المذكورة ، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » .
التّبعيض في الزّكاة :
12 - من أتلف جزءاً من النّصاب قصداً للتّنقيص لتسقط عنه الزّكاة ، لم تسقط عند الإمام مالك والحنابلة ، وتؤخذ الزّكاة منه في آخر الحول إذا كان إبداله أو إتلافه عند قرب الوجوب ، ولو فعل ذلك في أوّل الحول لم تجب الزّكاة لأنّ ذلك ليس بمظنّة للفرار . وبه قال الأوزاعيّ ، وابن الماجشون ، وإسحاق وأبو عبيد . وقال الشّافعيّ وأبو حنيفة : تسقط عنه الزّكاة ، لأنّه نقص قبل تمام الحول ، فلم تجب فيه الزّكاة ، كما لو أتلفه لحاجته .
التّبعيض في الصّوم :
13 - لا يصحّ صيام بعض اليوم ، فمن قدر على صوم بعض اليوم لا يلزمه إمساكه ، لأنّه ليس بصوم شرعيّ . وأمّا من قدر على صوم بعض أيّام رمضان دون جميعه فإنّه يلزمه صوم ما قدر عليه ، لقوله تعالى : { فمنْ شَهِدَ منكم الشّهرَ فَلْيصمه ومن كان مريضاً أو على سَفَر فَعِدَّةٌ من أيّام أُخَر } .
التّبعيض في الحجّ :
أ - التّبعيض في الإحرام :
14 - اتّفق الفقهاء على أنّ التّبعيض لا يؤثّر في انعقاد الإحرام ، فإذا قال : أحرمت بنصف نسك ، انعقد بنسك كامل ، طبقاً لقاعدة : " المضاف للجزء كالمضاف للكلّ " وقاعدة : " ذكر بعض ما لا يتجزّأ كذكر كلّه " وكذلك قاعدة " ما لا يقبل التّبعيض يكون اختيار بعضه كاختيار كلّه ، وإسقاط بعضه كإسقاط كلّه " .
كما أجمع أهل العلم على أنّه لا فرق بين تغطية جميع الرّأس وتغطية بعضه ، وكذلك تغطية جميع الوجه بالنّسبة للمرأة ، وقلم جميع الأظفار أو بعضها ، وحلق جميع الرّأس ، أو بعضه ، فإنّ المحرم يمنع من تغطية بعض رأسه ، كما يمنع من تغطية جميعه ، وهكذا ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا تخمّروا رأسه » والمنهيّ عنه يحرم فعل بعضه . كذلك لما قال تعالى : { ولا تَحْلِقُوا رءوسَكم } حرم حلق بعضه . وإنّما الفرق فيما يترتّب على ذلك من دم وفدية . وانظر مصطلح ( إحرام وحجّ ) .
ب - التّبعيض في الطّواف :
15 - اتّفق الفقهاء على أنّ الطّواف إنّما شرع بجميع البيت ، وأنّ ترك بعض البيت في الطّواف مبطل له . وقال الحنفيّة : إن طاف داخل الحجر فعليه قضاء ما ترك ، فإن لم يفعل فعليه دم . أمّا التّبعيض في عدد أشواط الطّواف فلا يجوز نقصه عن سبعة كاملة خلافاً للحنفيّة القائلين : بأنّ الأشواط الأربعة ركن ، وما زاد عليها واجب .
وصرّح الشّافعيّة بأنّه لا بدّ في الطّواف أن يمرّ في الابتداء بجميع البدن على جميع الحجر الأسود ، فلو حاذاه ببعض بدنه ، وكان بعضه الآخر مجاوزاً إلى جانب الباب ففيه قولان عندهم : الجديد : أنّه لا يعتدّ بذلك الشّوط . والقديم : يعتدّ به .
وعند الحنابلة احتمالان ، وأمّا لو حاذى بجميع البدن بعض الحجر دون بعضه أجزأه ، كما يجزئه أن يستقبل في الصّلاة بجميع بدنه بعض الكعبة .
التّبعيض في النّذور :
16 - من نذر صلاة نصف ركعة أو صيام بعض يوم : فذهب الحنفيّة ما عدا محمّداً وزفر ، والمالكيّة ما عدا ابن الماجشون ، وهو وجه عند الشّافعيّة : إلى أنّه يجب تكميله ، والتّكميل في الصّوم يكون بصيام يوم كامل .
وفيه وجه ضعيف عند الشّافعيّة : أنّه يكفيه إمساك بعض يوم ، بناءً على أنّ النّذر ينزّل على أقلّ ما يصحّ من جنسه ، وأنّ إمساك بعض اليوم صوم . واختلفوا في الصّلاة أيضاً .
فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ، وهو رواية عن الحنابلة ، وقول عند الشّافعيّة : إلى أنّه لا يجزئه إلاّ ركعتان . ونقل الجرهديّ في شرح الفرائد البهيّة : أنّ هذا هو المعتمد والموافق للقاعدة ، وهي : ما لا يقبل التّبعيض فاختيار بعضه كاختيار كلّه ، وإسقاط بعضه كإسقاط كلّه . ولأنّ أقلّ الصّلاة الواجبة بالشّرع ركعتان ، فوجب حمل النّذر عليه .
وذهب المالكيّة ، وهو قول عند الحنابلة إلى أنّه يجزئه ركعة واحدة ، لأنّ أقلّ الصّلاة ركعة . وذهب الشّافعيّة في الأصحّ ، وابن الماجشون من المالكيّة ، ومحمّد وزفر من الحنفيّة إلى أنّه في هذه الحالة : أي إذا نذر صلاة نصف ركعة ، أو صيام بعض يوم لا ينعقد نذره ، فلا يلزمه شيء ولا يجب الوفاء به . ولتفصيل ذلك كلّه يرجع إلى مصطلح ( نذر ، أيمان ) .
التّبعيض في الكفّارة :
17 - اختلف الفقهاء في جواز التّبعيض في الكفّارة : فذهب المالكيّة والشّافعيّة ، وهو وجه عند الحنابلة : إلى أنّه لا يجوز تبعيض الكفّارة ، فلا يجوز أن يعتق نصف رقبة ويصوم شهراً ، ويصوم شهراً أو يطعم ثلاثين مسكيناً ، أو يكفّر عن يمينه بإطعام خمسة مساكين وكسوة خمسة ، لأنّ ما جاز فيه التّخيير لا يجوز فيه التّبعيض ، إلاّ أن يكون الحقّ لمعيّن ورضي تبعيضه ، والحقّ هنا للّه تعالى .
وذهب الحنفيّة ، وهو المشهور عند الحنابلة إلى جواز التّبعيض في الكفّارة .
قال الحنابلة : إن أطعم خمسة مساكين وكسا خمسةً مطلقاً جاز ، لأنّه أخرج من المنصوص عليه بعدّة الواجب ، فأجزأه كما لو أخرجه من جنس واحد .
وأمّا عند الحنفيّة فيجزئه ذلك عن الإطعام إن كان الإطعام أرخص من الكسوة ، وإن كان على العكس فلا يجوز . هذا في إطعام الإباحة ( التّمكين من التّناول دون التّزوّد ) أمّا إذا ملّكه الطّعام فيجوز ويقام مقام الكسوة .
التّبعيض في البيع :
18 - يجوز التّبعيض في البيع إذا لم يكن فيه ضرر يرجع على أحد المتبايعين في القبض والتّسليم ، أو لا يفضي إلى الجهالة والمنازعة ، ولا خلاف في هذا .
واختلف الفقهاء في الآثار الّتي تترتّب على وقوع التّبعيض ، وفيما يلي بيان ذلك :
يختلف حكم التّبعيض باختلاف كون العقد وقع على مثليّ كالمكيل ، أو الموزون ، أو المذروع ، أو قيميّ .
19 - فإن كان العقد قد وقع على مثليّ ( مكيل أو موزون ) ولم يكن في تبعيضه ضرر ، كمن باع صبرةً على أنّها مائة قفيز بمائة درهم ، وهي أقلّ أو أكثر .
فذهب الحنفيّة إلى أنّ للمشتري أن يأخذ الأقلّ بحصّته أو يفسخ ، وهو مذهب المالكيّة والشّافعيّة ، وأحد الوجهين عند الحنابلة ، لتفريق الصّفقة ، ولأنّه وجد المبيع ناقصاً فكان له الفسخ كغير الصّبرة ، وكنقصان الصّفة .
والوجه الثّاني للحنابلة : أنّه لا خيار له ، لأنّ نقصان القدر ليس بعيب في الباقي من الكيل بخلاف غيره . ثمّ التّخيير عند النّقصان في المثليّ عند الحنفيّة مقيّد بما إذا لم يقبض كلّ المبيع أو بعضه ، فإن قبض أي بعد العلم بالنّقص لا يخيّر ، بل يرجع بالنّقصان . وأيضاً هو مقيّد بعدم كونه مشاهداً للمبيع حيث ينتفي التّغرير .
وأمّا الموزون الّذي في تبعيضه ضرر ، كما لو باع لؤلؤةً على أنّها تزن مثقالاً فوجدها أكثر سلّمت للمشتري ، لأنّ الوزن فيما يضرّه التّبعيض وصف بمنزلة الذّرعان في الثّوب . وللتّفصيل ر : ( خيار ) .
20 - وإن كان العقد قد وقع على مذروع : كمن باع ثوباً على أنّه مائة ذراع مثلاً فبان أنّه أقلّ ، فعند الحنفيّة ، وفي قول للمالكيّة ، وهو قول أصحاب الشّافعيّ أيضاً : أخذ المشتري الأقلّ بكلّ الثّمن أو ترك ، وإن بان أكثر أخذ الأكثر قضاءً بلا خيار للبائع ، لأنّ الذّرع في القيميّات وصف لتعيّبه بالتّبعيض . بخلاف القدر في المثليّات من مكيل أو موزون ، والوصف لا يقابله شيء من الثّمن إلاّ إذا كان مقصوداً بتناول المبيع له ، كأن يقول في بيع المذروع : كلّ ذراع بدرهم .
والقول الثّاني عند المالكيّة : إن كان النّاقص يسيراً لزمه الباقي بما ينوبه من الثّمن ، وإن كان كثيراً كان مخيّراً في الباقي بين أخذه بما ينوبه أو ردّه .
وعند الحنابلة في صورة الزّيادة روايتان : إحداهما : البيع باطل ، والثّانية : البيع صحيح ، والزّيادة للبائع ، ويخيّر بين تسليم المبيع زائداً وبين تسليم المائة ، فإن رضي بتسليم الجميع فلا خيار للمشتري ، وإن أبى تسليمه زائداً ، فللمشتري الخيار بين الفسخ ، والأخذ بجميع الثّمن المسمّى وقسّط الزّائد .
وكذلك في صورة النّقصان أيضاً روايتان عند الحنابلة . إحداهما : البيع باطل ، والثّانية : البيع صحيح ، والمشتري بالخيار بين الفسخ والإمساك بقسطه من الثّمن .
وقال أصحاب الشّافعيّ : ليس له إمساكه إلاّ بكلّ الثّمن أو الفسخ ، بناءً على قولهم : إنّ المعيب ليس لمشتريه إلاّ الفسخ ، أو إمساكه بكلّ الثّمن .
التّبعيض في القيميّات :
21 - أمّا التّبعيض في الأعيان الأخرى فذكر صاحب روضة الطّالبين : أنّه لو باع جزءاً شائعاً من سيف أو إناء ونحوهما صحّ وصار مشتركاً ، ولو عيّن بعضه وباعه لم يصحّ ، لأنّ تسليمه لا يحصل إلاّ بقطعه ، وفيه نقص وتضييع للمال .
وكذلك لو باع جزءاً معيّناً من جدار أو أسطوانة ، فإن كان فوقه شيء لم يصحّ ، لأنّه لا يمكن تسليمه إلاّ بهدم ما فوقه ، وإن لم يكن فوقه شيء ، فإن كان قطعةً واحدةً تتلف كلّيّةً بالتّبعيض لم يجز ، وإن كانت لا تتلف جاز .
وقواعد المذاهب الأخرى تقضي بما ذهب إليه الشّافعيّة .
التّبعيض في خيار العيب :
22 - إذا اشترى شيئين صفقةً واحدةً فوجد بأحدهما عيباً ، وكانا ممّا ينقصهما التّفريق ، ففيه روايتان عند الحنابلة :
إحداهما : ليس له إلاّ ردّهما ، أو أخذ الأرش مع إمساكهما ، وهو ظاهر قول الشّافعيّ ، وقول أبي حنيفة فيما قبل القبض ، لما فيه من التّشقيص على البائع فلم يكن له ذلك . والثّانية : له ردّ المعيب وإمساك الصّحيح ، وهو قول أبي حنيفة فيما بعد القبض .
وذهب المالكيّة إلى جواز ردّ المعيب ، والرّجوع بحصّته من الثّمن ، إذا كان الثّمن عيناً أو مثليّاً ، فإن كان سلعةً فإنّه يرجع بما ينوب السّلعة المعيبة من قيمة السّلعة الّتي هي الثّمن ، لضرر الشّركة ، وهذا إذا لم تكن السّلعة المعيبة وجه الصّفقة . فإن كانت فليس للمشتري إلاّ ردّ الجميع أو الرّضى بالجميع .
التّبعيض في الشّفعة :
23 - قال ابن المنذر : أجمع كلّ من أحفظ عنه من أهل العلم على أنّ أحد الشّفيعين لو ترك شفعته ، لم يكن للآخر إلاّ أخذ الجميع أو ترك الجميع ، وليس له أخذ البعض ، وهذا قول مالك والشّافعيّ وأصحاب الرّأي ، لأنّ في أخذ البعض إضراراً بالمشتري بتبعيض الصّفقة عليه ، والضّرر لا يزال بالضّرر .
وكذا لو كان الشّفيع واحداً لم يجز له أخذ بعض المبيع لذلك . فإن فعل سقطت شفعته ، لأنّها لا تتبعّض ، فإذا سقط بعضها سقط جميعها كالقصاص . والأصل في هذا الباب عند الشّافعيّة قاعدة " ما لا يقبل التّبعيض يكون اختيار بعضه كاختيار كلّه ، وإسقاط بعضه كإسقاط كلّه " .
وقاعدة " ما جاز فيه التّخيير لا يجوز فيه التّبعيض " قال القاضي حسين في فتاويه : والشّفيع مخيّر بين الأخذ بالشّفعة ، والتّرك ، فلو أراد أخذ بعض الشّفعة فليس له ذلك . وكذلك إذا وجد الشّفيع بعض ثمن الشّقص لا يأخذ قسطه من المثمّن ( المبيع ) طبقاً لقاعدة " إنّ بعض المقدور عليه لا يجب قطعاً " .
ثمّ هذا كلّه إن كان المبيع بعضه غير متميّز عن البعض ، أمّا إن كان متميّزاً عن البعض ، بأن اشترى دارين صفقةً واحدةً ، فأراد الشّفيع أن يأخذ إحداهما دون الأخرى ، وكان شفيعاً لهما أو لإحداهما دون الأخرى . فاختلف الأئمّة على آراء وأقوال .موطنها كتاب ( الشّفعة ).
التّبعيض في السّلم :
24 - أجمع الفقهاء على وجوب تسليم رأس مال السّلم في مجلس العقد ، فلو تفرّقا قبل قبضه بطل العقد عندهم . وأمّا لو تفرّقا قبل قبض بعضه ، فعند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : يبطل فيما لم يقبض . وحكي ذلك عن ابن شبرمة ، والثّوريّ .
وأمّا الحكم في المقبوض ، فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه يصحّ بقسطه ، وعند الشّافعيّة طريقان ، وكلام الخرقيّ من الحنابلة يقتضي ألاّ يصحّ ، لقوله : ويقبض الثّمن كاملاً وقت السّلم قبل التّفرّق .
واشترط المالكيّة تسليم رأس المال في مجلس العقد ، فإن تأخّر بعضه انفسخ كلّه .
وأمّا التّبعيض في المسلم فيه بالإقالة في بعضه : فذهب الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عن أحمد إلى أنّه لا بأس بها ، لأنّ الإقالة مندوب إليها ، وكلّ معروف جاز في الجميع جاز في البعض كالإبراء . وروي ذلك عن ابن عبّاس وعطاء وطاوس وحميد بن عبد الرّحمن وعمرو بن دينار والحكم والثّوريّ . وذهب أحمد في رواية أخرى إلى أنّها لا تجوز .
ورويت كراهتها عن ابن عمر وسعيد بن المسيّب والحسن وابن سيرين والنّخعيّ ، وسعيد بن جبير ، وربيعة ، وابن أبي ليلى وإسحاق . وأمّا لو انقطع بعض المسلم فيه عند المحلّ ، والباقي مقبوض أو غير مقبوض ، ففيه خلاف وتفصيل ينظر في باب ( السّلم ) .
التّبعيض في القرض :
25 - اتّفق الفقهاء على جواز التّبعيض في الإقراض .
نقل ابن عابدين عن جامع الفصولين قوله : يحتمل أن يكون الإقراض بعد إفرازه أو قبله ، فإنّ قرض المشاع جائز بالإجماع .
وأمّا التّبعيض في إيفاء القرض كأن يشترط أن يوفيه أنقص ممّا أقرضه .
فذهب الحنابلة إلى أنّه لا يجوز ، سواء أكان ممّا يجري فيه الرّبا أم لا ، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشّافعيّ ، لأنّ القرض يقتضي المثل ، فشرط النّقصان يخالف مقتضاه ، فلم يجز كشرط الزّيادة . وفي الوجه الثّاني للشّافعيّة يجوز ، لأنّ القرض جعل للرّفق بالمستقرض ، وشرط النّقصان لا يخرجه عن موضوعه .
26 - وأمّا تعجيل بعض الدّين المؤجّل من قبل المدين في مقابل تنازل الغريم عن بعض الدّين ، فلا يجوز عند جمهور الفقهاء ، لكن إن تنازل المقروض بلا شرط ملفوظ أو ملحوظ عن بعض الحقّ فهو جائز . ر : مصطلح ( أجل ) ( ف :89 ) .
التّبعيض في الرّهن :
27 - ذهب المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة إلى جواز التّبعيض في الرّهن ، فيجوز رهن بعض المشاع عندهم ، رهنه عند شريكه أو غيره ، قبل القسمة أم لم يقبلها ، وسواء أكان الباقي من المشاع للرّاهن أم لغيره .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يصحّ رهن المشاع مطلقاً ، سواء أكان مقارناً كنصف دار ، أم طارئاً : كأن يرهن الجميع ثمّ يتفاسخا في البعض ، وفي رواية عن أبي يوسف أنّ الطّارئ لا يضرّ ، والصّحيح الأوّل ، وسواء أكان من شريكه أم غيره ، وسواء أكان ممّا يقسم أم لا . فالأصل عند الحنفيّة : أنّه لا يجوز رهن المشاع ، فلا يجوز التّبعيض فيه ، ويستثنى من هذا الأصل الصّور التّالية :
أ - إذا كانت عيناً بينهما ، رهناها عند رجل بدين له على كلّ واحد منهما رهناً واحداً .
ب - إذا ثبت الشّيوع فيه ضرورةً ، كما لو جاء بثوبين ، وقال : خذ أحدهما رهناً والآخر بضاعةً عندك ، فإنّ نصف كلّ منهما يصير رهناً بالدّين ، لأنّ أحدهما ليس بأولى من الآخر ، فيشيع الرّهن فيهما بالضّرورة ، فلا يضرّ .
28 - أمّا حقّ الوثيقة في الرّهن وهو الحبس للتّوثّق ، فلا يتبعّض بأداء بعض الدّين ، لأنّ الدّين يتعلّق بالرّهن جميعه ، فيصير محبوساً بكلّ الحقّ ، وبكلّ جزء منه ، لا ينفكّ منه شيء حتّى يقضي جميع الدّين ، سواء أكان ممّا يمكن قسمته أم لا يمكن .
قال ابن المنذر : أجمع كلّ من أحفظ عنه من أهل العلم على أنّ من رهن شيئاً بمال فأدّى بعض المال ، وأراد إخراج بعض الرّهن أنّ ذلك ليس له ، ولا يخرج شيء حتّى يوفيه آخر حقّه أو يبرئه من ذلك ، كذلك قال مالك ، والثّوريّ ، والشّافعيّ ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأصحاب الرّأي . لأنّ الرّهن وثيقة بحقّ فلا يزول إلاّ بزوال جميعه كالضّمان والشّهادة . وكذلك إن تلف بعض الرّهن وبقي بعضه فباقيه رهن بجميع الحقّ .
وفي الموضوع تفصيل ينظر في باب ( الرّهن ) .
التّبعيض في الصّلح :
29 - اتّفق الفقهاء على جواز التّبعيض في الصّلح ، فالصّلح مبناه على التّبعيض إذا وقع على جنس المدّعي وكان أقلّ منه ، وفي ذلك خلاف وتفصيل تبعاً لكون المدّعى عيناً أو ديناً ينظر في مصطلح : ( صلح ) .
التّبعيض في الهبة :
30 - اتّفق المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على جواز التّبعيض في الهبة مطلقاً ، وهو المذهب عند الحنفيّة فيما لا يقبل القسمة ، فتصحّ هبة المشاع عند الأئمّة الثّلاثة مطلقاً ، وعند الحنفيّة تصحّ هبة المشاع الّذي لا يمكن قسمته إلاّ بضرر ، بألاّ يبقى منتفعاً به بعد أن يقسم ، كبيت وحمّام صغيرين . وأمّا هبة المشاع الّذي يمكن قسمته بلا ضرر فلا تصحّ هبته مشاعاً ، ولو كان لشريكه ، وذلك لعدم تصوّر القبض الكامل . وقيل : يجوز لشريكه ، وهو المختار عندهم . وإن وهب واحد لاثنين شيئاً ممّا ينقسم يجوز عند الحنابلة ، وأبي يوسف ومحمّد من الحنفيّة ، وهو وجه للشّافعيّة أيضاً .
وذهب الإمام أبو حنيفة ، وهو وجه آخر للشّافعيّة إلى عدم جوازه .
وفي الموضوع فروعات كثيرة تفصيلها في باب الهبة من كتب الفقه .
التّبعيض في الوديعة :
31 - اتّفق الفقهاء على أنّ التّبعيض في الوديعة بإنفاق بعضها أو استهلاكه موجب للضّمان . واختلفوا في أخذ بعض الوديعة ، ثمّ ردّها أو ردّ مثلها .
فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ من استودع شيئاً فأخذ بعضه لزمه ضمان ما أخذه ، فإن ردّه أو مثله لم يزل الضّمان عنه . وقال مالك : لا ضمان عليه إذا ردّه أو مثله .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه إن لم ينفق ما أخذه وردّه لم يضمن ،وإن أنفقه ثمّ ردّه أو مثله ضمن.
التّبعيض في الوقف :
32 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة في ظاهر المذهب ، وأبو حنيفة وأبو يوسف إلى جواز التّبعيض في الوقف ، سواء فيما يقبل القسمة أو لا يقبلها ، فيجوز وقف المشاع كنصف دار . وذهب محمّد بن الحسن من الحنفيّة إلى عدم جواز وقف المشاع إذا كان ممّا يقبل القسمة ، وبناه على أصله في أنّ القبض شرط ، وهو لا يصحّ في المشاع .
وأمّا ما لا يقبلها كالحمّام والرّحى ، فيجوز وقفه مشاعاً عنده أيضاً ، إلاّ في المسجد والمقبرة ، لأنّ بقاء الشّركة يمنع الخلوص للّه تعالى . وينظر تفصيل ذلك في باب ( الوقف ) .
التّبعيض في الغصب :
33 - يرتّب الفقهاء على تبعيض المال المغصوب بتلف بعضه أو تعييبه أحكاماً مختلفةً : فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الجزء الغائب مضمون بقسطه من أقصى القيم من يوم الغصب إلى يوم التّلف ، والنّقص الحاصل بتفاوت السّعر في الباقي المردود غير مضمون عند الشّافعيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة فيما لا ينقصه التّبعيض ، وأمّا فيما ينقصه - كأن يكون ثوباً ينقصه القطع - فإنّه يلزمه أرش النّقص .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه إن تعيّب المال المغصوب باستهلاك بعضه كقطع يد الشّاة خيّر المالك بين ترك المغصوب للغاصب وأخذ قيمته ، وبين أن يأخذ المغصوب ويضمّنه النّقصان . بخلاف قطع طرف دابّة غير مأكولة إذا اختار ربّها أخذها ، لا يضمّنه شيئاً ، وإلاّ غرّمه كمال القيمة ، لأنّه فوّت جميع منافعها فصار كما لو قتلها .
وأمّا المالكيّة فقد فصّلوا الكلام في وجوب الضّمان في الجناية على بعض السّلعة المغصوبة : فالتّعدّي على بعض السّلعة المغصوبة إن فوّت المغصوب يضمن جميعه ، كقطع ذنب دابّة ذي هيبة ، أو أذنها ، وكذا مركوب كلّ من يعلم أنّ مثله لا يركب مثل ذلك ، ولا فرق بين المركوب والملبوس ، كقلنسوة القاضي وطيلسانه ، وإن لم يفوّته فإن كان التّعدّي يسيراً ، ولم يبطل الغرض منه لم يضمن بذلك ، وكذلك إذا كان التّعدّي كثيراً ، ولم يبطل الغرض المقصود منه ، فإنّ حكمه حكم اليسير .
وينظر تفصيل الكلام في هذا الموضوع في باب ( الغصب ) .
التّبعيض في القصاص :
34 - اتّفق الفقهاء على أنّ القصاص ممّا لا يتبعّض بالتّبعيض ، ثمّ اختلفوا في التّفاصيل : فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ مستحقّ القصاص إذا عفا عن بعض القاتل كان عفواً عن كلّه ، وكذا إذا عفا بعض الأولياء ، صحّ العفو ، وسقط القصاص كلّه ، ولم يبق لأحد إليه سبيل . وإليه ذهب عطاء والنّخعيّ ، والحكم ، وحمّاد ، والثّوريّ ، وروي معنى ذلك عن عمر وطاوس والشّعبيّ .
لما روى زيد بن وهب أنّ عمر أتي برجل قتل قتيلاً ، فجاء ورثة المقتول ليقتلوه ، فقالت امرأة المقتول ، وهي أخت القاتل : قد عفوت عن حقّي ، فقال عمر : " اللّه أكبر ، عتق القتيل . وفي رواية عن زيد قال : دخل رجل على امرأته ، فوجد عندها رجلاً فقتلها ، فاستعدى إخوتها عمر ، فقال بعض إخوتها : قد تصدّقت . فقضى لسائرهم بالدّية ".
وذهب المالكيّة إلى أنّ عفو بعض الورثة لا يسقط القود ، إلاّ أن يكون العافي مساوياً لمن بقي في الدّرجة أو أعلى منه ، فإن كان أنزل درجةً لم يسقط القود بعفوه . فإن انضاف إلى الدّرجة العليا الأنوثة كالبنات مع الأب أو الجدّ ، فلا عفو إلاّ باجتماع الجميع ، فإن انفرد الأبوان فلا حقّ للأمّ في عفو ولا قتل .
وذهب بعض أهل المدينة ، وقيل : هو رواية عن مالك إلى أنّ القصاص لا يسقط بعفو بعض الشّركاء ، لأنّ النّفس قد تؤخذ ببعض النّفس بدليل قتل الجماعة بالواحد .
التّبعيض في العفو عن القذف :
35 - اختلف الفقهاء في جوازه : فذهب الشّافعيّة في الأصحّ ، وهو المذهب عند الحنابلة ، والمتبادر من أقوال المالكيّة ( ما لم يبلغ الإمام ) إلى عدم جواز التّبعيض في حدّ القذف ، فإذا عفا بعض الورثة ، أو بعض مستحقّي حدّ القذف يكون لمن بقي استيفاء جميعه لأنّ المعرّة عنه لم تزل بعفو صاحبه ، وليس للعافي الطّلب به ، لأنّه قد أسقط حقّه . وكذلك بالعفو عن بعضه لا يسقط شيء منه .
ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة جواز التّبعيض ، ووجهه أنّ حدّ القذف جلدات معروفة العدد ، ولا ريب أنّ الشّخص لو عفا بعد جلد بعضها ، سقط ما بقي منها ، فكذلك إذا أسقط منها في الابتداء قدراً معلوماً ، وعلى هذا لو عفا بعض مستحقّي حدّ القذف عن حقّه يسقط نصيب العافي ، ويستوفى الباقي ، لأنّه متوزّع . وهناك وجه ثالث للشّافعيّة : أن يسقط جميع الحدّ كالقصاص . وأمّا الحنفيّة فلا يتأتّى عندهم هذا ، لأنّ الغالب في حدّ القذف عندهم حقّ اللّه ، فلا يسقط كلّه ولا بعضه بالعفو بعد ثبوته ، وكذا إذا عفا قبل الرّفع إلى القاضي .
تبعيض الصّداق :
36 - اتّفق الفقهاء على جواز أن يكون بعض الصّداق معجّلاً وبعضه مؤجّلاً ، لأنّه عوض في عقد معاوضة ، فجاز ذلك فيه كالثّمن . وانظر مصطلح ( أجل ، مهر ) .
وأمّا تنصيف الصّداق بالطّلاق قبل الدّخول والخلوة ، وكيفيّة ذلك ففيه أوجه وتفصيل يذكر في مواطنه ، وانظر مصطلح ( مهر ) .
التّبعيض في الطّلاق :
37 - اتّفق الفقهاء على أنّ الطّلاق لا يتبعّض ، وإليه ذهب الشّعبيّ والحارث العكليّ ، والزّهريّ ، وقتادة ، وأبو عبيد ، وأهل الحجاز ، والثّوريّ ، وأهل العراق ، وذلك لأنّ ذكر بعض ما لا يتبعّض ذكر لجميعه ، فذكر بعض الطّلاق كذكر كلّه ، وجزء الطّلقة ولو من ألف جزء تطليقة . وهذا الحكم ثابت سواء أبهم : بأن قال : أنت طالق بعض طلقة . أو بيّن فقال : أنت طالق نصف طلقة ، أو ربع طلقة ، وهكذا ، لأنّ ذكر ما لا يتبعّض ذكر لجميعه .
التّبعيض في المطلّقة :
38 - إذا أضاف الطّلاق إلى جزء منها : سواء أضافه إلى بعضها شائعاً وأبهم فقال : بعضك وجزؤك طالق . أو نصّ على جزء معلوم كالنّصف والرّبع ، أو أضافه إلى عضو : باطناً كان كالكبد والقلب ، أو ظاهراً كاليد والرّجل ، طلقت كلّها عند الأئمّة الثّلاثة وزفر من الحنفيّة . وأمّا الحنفيّة - ما عدا زفر - ففرّقوا بين إضافة الطّلاق إلى جملتها ، أو إلى ما يعبّر به عنها كالرّقبة ، أو العنق أو الرّوح ، أو البدن أو الجسد ، أو إلى جزء شائع كنصفها أو ثلثها ، وبين إضافته إلى ما يعبّر به عن الجملة كاليد والرّجل حيث تطلق في الحالة الأولى دون الثّانية . والتّبعيض في الطّلاق من فروع قاعدة " ما لا يقبل التّبعيض فاختيار بعضه كاختيار كلّه ، وإسقاط بعضه كإسقاط كلّه " .
التّبعيض في الوصيّة :
39 - اتّفق الفقهاء على جواز التّبعيض في الوصيّة ، إذا كانت الوصيّة بجزء شائع . كمن أوصى بجزء أو سهم من ماله ، فالبيان إلى الورثة يقال لهم : أعطوه شيئاً ، لأنّه مجهول يتناول القليل والكثير ، والوصيّة لا تمتنع بالجهالة ومثله الحظّ ، والشّقص ، والنّصيب ، والبعض ( لأنّ الوصيّة حقيقتها تصرّف المالك في جزء من حقوقه ) .
كذلك إن كانت الوصيّة بجزء معيّن : كمن أوصى بقطنه لرجل ، وبحبّه لآخر ، أو أوصى بلحم شاة معيّنة لرجل وبجلدها لآخر ، أو أوصى بحنطة في سنبلها لرجل ، وبالتّبن لآخر . جازت الوصيّة لهما ، وعلى الموصى لهما أن يدوسا الحبّ ، أو يسلخا الشّاة ، أو يحلجا القطن . ولو بانت الشّاة حيّةً فأجرة الذّبح على صاحب اللّحم خاصّةً ، لأنّ التّذكية لأجل اللّحم لا الجلد .
وفي المغني : إذا أوصى لرجل بخاتم ولآخر بفصّه صحّ ، وليس لواحد منهما الانتفاع به إلاّ بإذن صاحبه ، وأيّهما طلب قلع الفصّ من الخاتم أجيب إليه ، وأجبر الآخر عليه .
التّبعيض في العتق :
40 - من أعتق عبداً مملوكاً ، فإمّا أن يكون باقيه له أو لغيره :
ففي الحالة الأولى : ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد وأبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّ الإعتاق لا يتجزّأ ولا يتبعّض بالتّبعيض ، لأنّ من خصائصه السّراية ، فمن أعتق بعض مملوك له ، فإنّه يسري العتق إلى باقيه .
وكذلك من أعتق جزءاً معيّناً كرأسه أو ظهره أو بطنه ، أو جزءاً مشاعاً كنصفه ، أو جزءاً من ألف جزء ، عتق الرّقيق كلّه . وذهب أبو حنيفة إلى أنّ الإعتاق يتجزّأ ، سواء كان باقيه له ، أو كان مشتركاً بينه وبين غيره ، وسواء كان المعتق معسراً أو موسراً .
41 - وفي الحالة الثّانية : وهي ما إذا كان العبد مشتركاً ، وأعتق أحد الشّريكين حصّته أو بعضها ، فاختلف الفقهاء تبعاً لكون المعتق موسراً أو معسراً :
فروي عن ابن مسعود وعليّ وابن عبّاس رضي الله عنهم : عتق ما عتق ويبقى الباقي رقيقاً . وبه قال البتّيّ : واستدلّ بما روى ابن التّلب عن أبيه « أنّ رجلاً أعتق نصيباً له في مملوك فلم يضمنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم » .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة ، وهو ظاهر المذهب عند الحنابلة إلى أنّ المعتق إن كان موسراً عتق كلّه ، وعليه قيمة باقيه لشريكه ، وإن كان معسراً عتق نصيبه فقط ولا يسري إلى باقيه ولو أيسر بعده . لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من أعتق شقصاً له من عبد أو شركاً ، أو قال : نصيباً ، وكان له ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل فهو عتيق ، وإلاّ فقد عتق منه ما عتق » .
وهذا قول إسحاق ، وأبي عبيد وابن المنذر وابن جرير .
وذهب أبو يوسف ومحمّد ، وهو رواية عن أحمد إلى أنّه ليس للشّريك إلاّ الضّمان مع اليسار والسّعاية مع الإعسار ، وهو قول ابن شبرمة ، وابن أبي ليلى ، والأوزاعيّ . لما روى أبو هريرة قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من أعتق شقيصاً له في عبد مملوك فعليه أن يعتقه كلّه إن كان له مال ، وإلاّ استسعى العبد غير مشقوق عليه » .
وقال أبو حنيفة : إن كان المعتق موسراً فشريكه بالخيار ، إن شاء أعتق وإن شاء ضمّن المعتق قيمة نصيبه ، إذا لم يكن بإذنه ، فإن كان بإذن الشّريك فلا ضمان عليه له ، وإن شاء استسعى العبد .
وقال بعضهم : يعتق كلّه ، وليس للشّريك إلاّ الضّمان، وهو منقول عن زفر وبشر المريسيّ .
تبعيّة *
التّعريف :
1 - التّبعيّة : كون الشّيء مرتبطاً بغيره بحيث لا ينفكّ عنه .
والتّابع : هو التّالي الّذي يتبع غيره ، كالجزء من الكلّ ، والمشروط للشّرط .
ولا يخرج الاستعمال الاصطلاحيّ عن الاستعمال اللّغويّ .
أقسام التّبعيّة :
التّبعيّة قسمان :
2 - القسم الأوّل : ما اتّصل بالمتبوع فيلحق به . لتعذّر انفراده عنه . ومن أمثلة هذا القسم : ذكاة الجنين فإنّها تحصل بذكاة أمّه تبعاً لها ، عند الجمهور والصّاحبين من الحنفيّة ، خلافاً للإمام أبي حنيفة . وذلك مشروط وتفصيل ينظر في مصطلح : ( ذبائح ) .
ومن أمثلة هذا القسم أيضاً : الحمل ، فإنّه لا يفرد في البيع ، بل يتبع الأمّ بلا خلاف .
3 - القسم الثّاني : ما انفصل عن متبوعه والتحق به .
ومن أمثلة هذا القسم : الصّبيّ إذا أسر معه أحد أبويه ، وهذه المسألة على ثلاثة أحوال :
الأولى : أن يسبى الصّبيّ منفرداً عن أبويه ، فيصير مسلماً إجماعاً ، لأنّ الدّين إنّما يثبت له تبعاً ، وقد انقطعت بتبعيّته لأبويه لانقطاعه عنهما .
الثّانية : أن يسبى مع أبويه ، فإنّه يكون على دينهما ( تبعاً ) وبهذا قال أبو حنيفة ، ومالك والشّافعيّ ، وأحمد .
الثّالثة : أن يسبى مع أحد أبويه ، فإنّه يتبعه عند أبي حنيفة والشّافعيّ .
وقال مالك : إن سبي مع أبيه يتبعه ، وإن سبي مع أمّه فهو مسلم ، لأنّه لا يتبعها في النّسب ، فكذلك في الدّين .
وقال الحنابلة : من سبي من أولاد الكفّار مع أحد أبويه فإنّه يحكم بإسلامه .
ومن أمثلته أيضاً : ولد المسلم ، فإنّه يتبعه في الإسلام ، وإن كانت أمّه كافرةً اتّفاقاً .
أحكام التّبعيّة :
4 - التّبعيّة يتعلّق بها جملة من الأحكام ، ترجع كلّها إلى قاعدة فقهيّة واحدة ، وهي ( التّابع تابع ) ومعنى كون التّابع تابعاً : هو أنّ ما كان تبعاً لغيره في الوجود لا ينفرد بالحكم ، بل يدخل في الحكم مع متبوعه ، فإذا بيع حيوان في بطنه جنين دخل الجنين في البيع تبعاً لأمّه ، ولا يجوز إفراده بالبيع ، ومثل هذا الصّوف على الغنم ، واللّبن في الضّرع . ومن ذلك ما لو كان التّابع شيئاً لا يقبل الانفكاك عن متبوعه ، بأن كان في حكم الجزء ، كالمفتاح من القفل ، فإنّه يدخل في البيع تبعاً له ، أو كان شيئاً جرى في عرف البلد أنّه من مشتملاته ، فإنّه يدخل في البيع من غير ذكر .
فمثلاً بيع الدّار يدخل فيه المطبخ ، وفي بيع حديقة زيتون تدخل أشجار الزّيتون .
هذا ، وقد فرّع الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة على قاعدة : ( أنّ التّابع تابع ) عدداً من القواعد ذكرها الزّركشيّ في المنثور ، والسّيوطيّ وابن نجيم في كتابيهما الأشباه والنّظائر ، وقد أشار إليها القرافيّ في الفروق في الفرق التّاسع والتّسعين بعد المائة ، الّذي فرّق فيه بين قاعدة ما يتبع العقد عرفاً وما لا يتبعه . وتلك القواعد الفرعيّة هي :
أ - التّابع لا يفرد بالحكم :
5 - المراد بالتّابع الّذي لا يفرد بالحكم عن متبوعه هو الّذي لا يوجد مستقلّاً بنفسه ، بل يكون وجوده تبعاً لوجود متبوعه ، بأن يكون جزءاً أو كالجزء منه ، فحينئذ لا يصلح أن يكون محلّاً مستقلّاً في العقد ليتعلّق به الحكم ، كالجنين في بطن الحيوان ، فإنّه لا يصحّ بيعه منفرداً عن أمّه ، وكحقّ الشّرب فإنّه لا يصحّ بيعه منفرداً عن الأرض .
وكمن باع داراً بحقوقها ، فإنّ البيع يتناول أرضها وبناءها وما هو متّصل بها ممّا هو من مصلحتها ، كالأبواب المنصوبة ، دون غيره ممّا ليس من مصالحها ، كالكنز والأحجار المدفونة ، لأنّ ذلك مودع فيها للنّقل عنها ، فأشبه الفرش والسّتور .
واستثنى الفقهاء من ذلك صوراً يستقلّ التّابع فيها بالحكم عن متبوعه ، ومن تلك الصّور : إفراد الحمل بالوصيّة دون أمّه بشرط أن يولد حيّاً . لأقلّ من ستّة أشهر ، وهذا القدر مجمع عليه ، وأمّا إن أتت به لأكثر من ستّة أشهر ، ففيه تفصيل وخلاف يرجع إليه في مصطلح ( وصيّة ، ثبوت النّسب ، والميراث ) .
ب - من ملك شيئاً ملك ما هو من ضروراته :
6 - تتناول هذه القاعدة الأصول الّتي تدخل في البيع والشّراء من غير ذكر ، وتلك الأصول تدخل تحت أصلين :
الأوّل : كلّ ما كان في الدّار من بناء وغيره يتناوله اسم البيع عرفاً ، مثل ملحقات الدّار كالمطبخ والحجارة المثبّتة في الأرض والدّار لا المدفونة .
الثّاني : ما كان متّصلاً اتّصال قرار ، كالشّجر فإنّه يدخل في بيع الأرض عند الحنفيّة والمالكيّة بلا ذكر ، وعلى أحد الوجهين عند الحنابلة ، وهو أيضاً نصّ الشّافعيّ في البيع ، ونصّ في الرّهن على عدم الدّخول فيما لو رهن الأرض وأطلق .
وأمّا الأصحاب فلهم فيما نصّ عليه الإمام الشّافعيّ في البيع والرّهن طرق ، أصحّها عند جمهور أصحاب الشّافعيّ : تقرير النّصّين ( أي دخول الشّجر والبناء في البيع عند الإطلاق ، وعدم دخولها في الرّهن ) . والثّاني : فيهما قولان ، والثّالث : القطع بعدم الدّخول فيهما ، قاله ابن سريج ، واختاره الإمام والغزاليّ .
ج - التّابع يسقط بسقوط المتبوع :
7 - هذه القاعدة ذكرها الزّركشيّ في المنثور والسّيوطيّ وابن نجيم في كتابيهما .
ومرادهم بالتّابع الّذي يسقط بسقوط متبوعه ذلك التّابع الّذي يتبع غيره في الوجود ، ومن الفروع الّتي تذكرها كتب القواعد لهذه القاعدة : أنّ من فاتته صلاة في أيّام الجنون ، وقيل بعدم وجوب القضاء ، فإنّه لا يستحبّ له قضاء سننها الرّاتبة ، لأنّ الفرض سقط فكذا تابعه . ومن فاته الحجّ بعدم الوقوف فتحلّل بأفعال العمرة ، فلا يأتي بالرّمي والمبيت ، لأنّهما تابعان للوقوف وقد سقط .
وممّا خرج عن هذه القاعدة : الأخرس العاجز عن التّلفّظ بالتّكبير ، فإنّه يلزمه تحريك لسانه ، عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وعند القاضي من الحنابلة ، ولا يلزمه ذلك عند المالكيّة وعند الحنابلة على الصّحيح ، بل تكفيه النّيّة ، ويكبّر بقلبه ، لأنّ تحريك اللّسان للعاجز عن النّطق عبث كما قال الحنابلة ، بل قال ابن تيميّة : ولو قيل ببطلان الصّلاة بذلك لكان أقوى .
وممّا خرج عنها أيضاً : إمرار الموسى على رأس الأقرع للتّحلّل بالحلق ، فإنّه واجب على المختار عند الحنفيّة ، وواجب أيضاً عند المالكيّة ، لأنّ الحلق عبادة تتعلّق بالشّعر فتنتقل إلى البشرة عند عدمه ، وقال الشّافعيّة بالنّدب ، والحنابلة بالاستحباب .
وممّا خرج عنها في غير العبادات : ما لو أقرّ أحد الورثة بوارث ثالث مشارك لهما في الميراث لم يثبت النّسب بالإجماع ، لأنّ النّسب لا يتبعّض فلا يمكن إثباته في حقّ المقرّ دون المنكر ، ولا يمكن إثباته في حقّهما ، لأنّ أحدهما منكر ، ولم توجد شهادة يثبت بها النّسب ، ولكنّه يشارك المقرّ في الميراث في قول أكثر أهل العلم ، لأنّه أقرّ بسبب مال لم يحكم ببطلانه ، فلزمه المال . هذا ، وذكر السّيوطيّ وابن نجيم قاعدةً أخرى قريبةً من هذه القاعدة ، وهي قولهم ( الفرع يسقط إذا سقط الأصل ) وجاء في شرح المجلّة : أنّ هذه القاعدة مطّردة في المحسوسات والمعقولات . فالشّيء الّذي يكون وجوده أصلاً لوجود شيء آخر يتبعه في الوجود ، يكون ذلك فرعاً مبتنياً عليه ، كالشّجرة إذا ذوت ذوى ثمرها ، وكالإيمان باللّه تعالى أصل وجميع الأعمال فروعه ، فإذا سقط الإيمان - والعياذ باللّه تعالى - حبطت الأعمال ، لأنّ اعتبارها مبنيّ عليه .
ومن فروعها قولهم : إذا برئ الأصيل برئ الضّامن ، أي الكفيل لأنّه فرعه بخلاف العكس . وقد يثبت الفرع وإن لم يثبت الأصل ، كما لو ادّعى الزّوج الخلع ، وأنكرت الزّوجة ، ثبتت البينونة بلا خلاف ، لأنّه مقرّ بما يوجبها ، وإن لم يثبت المال الّذي هو الأصل .
د - يغتفر في التّوابع ما لا يغتفر في غيرها :
8 - هذه القاعدة ذكرها السّيوطيّ وابن نجيم ، وقريب منها قولهم : يغتفر في الشّيء ضمناً ما لا يغتفر فيه قصداً ، وقولهم : يغتفر في الثّواني ما لا يغتفر في الأوائل ، وقولهم : أوائل العقود تؤكّد بما لا يؤكّد بها أواخرها ، وإنّما اغتفر في ذلك لأنّه قد يكون للشّيء قصداً شروط مانعة ، وإذا ثبت ضمناً أو تبعاً لشيء آخر يكون ثبوته ضرورة ثبوته لمتبوعه أو ما هو في ضمنه .
ومن فروع هذه القاعدة : أنّ النّسب لا يثبت ابتداءً بشهادة النّساء ، أمّا لو شهدن بالولادة على الفراش يثبت النّسب تبعاً ، حتّى لو كانت الشّاهدة في الولادة القابلة وحدها .
وممّا خرج عن هذه القاعدة ممّا هو عكسها : أنّ الفاسق يجوز تقليده القضاء إذا ظنّ صدقه ، لكن إذا قلّد عدل ففسق في أثناء قضائه استحقّ العزل ، وهو ظاهر مذهب الحنفيّة ، وقيل : إنّه ينعزل بفسقه ، لأنّ عدالته في معنى المشروطة ، فقد جاز تقليده ابتداءً ولم يجز انتهاءً في ولايته ، فلمّا زالت عدالته زالت ولايته .
وذكر المالكيّة في هذه المسألة : أنّ غير العدل لا يصحّ قضاؤه ولا ينفذ حكمه ، لكن قال مالك : لا أرى خصال القضاة تجتمع اليوم في أحد ، فإن اجتمع منها خصلتان في واحد وهي العلم والورع ولّي . وقال القرافيّ : إن لم يوجد عدل ولّي أمثل الموجودين .
وأمّا الشّافعيّة والحنابلة فلا يصحّ عندهم تولية الفاسق القضاء .
وعند الشّافعيّة : إن تعذّر جمع الشّروط في رجل فولّى سلطان له شوكة فاسقاً نفذ قضاؤه للضّرورة ، لئلاّ تتعطّل مصالح النّاس .
وقال العزّ بن عبد السّلام : لمّا كان تصرّف القضاة أعمّ من تصرّف الأوصياء ( الّذين يشترط فيهم العدالة ) وأخصّ من تصرّف الأئمّة ( وفي اشتراط العدالة فيهم اختلاف ) اختلف في إلحاقهم بالأئمّة ، فمنهم من ألحقهم بالأئمّة ، لأنّ تصرّفهم أعمّ من تصرّف الأوصياء ، ومنهم من ألحقهم بالأوصياء ، لأنّ تصرّفهم أخصّ من تصرّف الأئمّة .
هـ – التّابع لا يتقدّم على المتبوع :
9 - من فروع هذه القاعدة : أنّه لا يصحّ تقدّم المأموم على إمامه في تكبيرة الافتتاح ، ولا في غيرها من الأركان ، لحديث : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به ، فإذا كبّر فكبّروا ... » إلخ الحديث .
و - التّابع لا يكون له تابع :
10 - من فروع هذه القاعدة : لو قطع شخص الأصابع وحدها في جناية وجبت الدّية ، فإن قطع اليد من الكوع لم يلزمه أكثر من الدّية ، ويجعل الكفّ تبعاً للأصابع ، وإن قطع زيادةً على ذلك لم يجعل تبعاً ، بل يلزمه للزّيادة حكومة عدل على قدرها ، لأنّ التّابع لا يكون له تابع . وممّا خرج عنها توكيل الوكيل غيره دون الرّجوع إلى موكّله ، فقد ذكر الحنفيّة أنّ للوكيل أن يوكّل في حقوق العقد فيما ترجع الحقوق فيه إليه ، لأنّه أصيل فيها ، فله أن يوكّل فيها بلا إذن موكّله .
وفرّق المالكيّة بين الوكيل المفوّض وغير المفوّض ، وذكروا أنّ الوكيل المفوّض له أن يوكّل على الأظهر ، وأمّا غير المفوّض فليس له أن يوكّل فيما وكّل فيه بلا إذن ، إلاّ في حالتين : إحداهما : ألاّ يليق الفعل به .
والثّانية : أن يكثر بحيث يتعذّر عليه القيام به وحده .
وذكر الشّافعيّة : أنّ الوكيل لو وكّل فيما وكّل فيه ، وسكت عنه موكّله ، نظر : إن كان أمراً يتأتّى له الإتيان به ، لم يجز أن يوكّل فيه ، وإن لم يتأتّ منه ، لكونه لا يحسنه ، أو لا يليق بمنصبه ، فله التّوكيل على الصّحيح ، لأنّ المقصود من مثله الاستنابة .
والمذهب الّذي عليه الأصحاب عند الحنابلة أنّ الوكيل لا يجوز له أن يوكّل فيما يتولّى مثله بنفسه ، ونقل عن الإمام أحمد الجواز . وفي المسألة تفصيل ينظر في مصطلح : ( وكالة ) .
ز - العبرة بنيّة المتبوع لا التّابع :
11 - فمن كان تابعاً لغيره ، كالزّوجة التّابعة لزوجها ، والجنديّ التّابع لقائده ، فإنّ المعتبر في السّفر الّذي يبيح لهما القصر والفطر نيّة المتبوع دون التّابع ، لأنّ نيّة المتبوع تنسحب على التّابع ، فيعطى حكمه ، فتتبع المرأة زوجها ، والجنديّ قائده ، هذا عند الحنفيّة ، والحنابلة وأمّا الشّافعيّة : فهم كالحنفيّة والحنابلة في جعلهم نيّة الزّوجة تابعةً لنيّة الزّوج ، وخالفوهم في نيّة الجنديّ فلم يجعلوها تابعةً لنيّة الأمير ، لأنّه ليس تحت يده وقهره .
وأمّا المالكيّة فلم يعرضوا لهذه المسألة فيما . اطّلع عليه من مراجع .
ح - ما دخل في البيع تبعاً لا حصّة له من الثّمن :
12 - وذلك كالأوصاف الّتي تدخل في البيع بلا ذكر ، كبناء وشجر في الأرض ، وأطراف في الحيوان ، وجودة في الكيليّ والوزنيّ ، فإنّ هذه الأوصاف لا يقابلها شيء من الثّمن قبل القبض ، كما في جامع الفصولين ، أو إلاّ إذا ورد عليها القبض كما في شرح الإسبيجابيّ . وقد وضع محمّد رحمه الله أصلاً لهذا ، وهو : كلّ شيء إذا بعته وحده لا يجوز بيعه ، وإذا بعته مع غيره جاز ، فإذا استحقّ ذلك الشّيء قبل القبض ، كان المشتري بالخيار إن شاء أخذ الباقي بجميع الثّمن ، وإن شاء ترك .
وكلّ شيء إذا بعته وحده جاز بيعه ، فإذا بعته مع غيره فاستحقّ ، كان له حصّة من الثّمن . والحاصل أنّ ما يدخل في البيع تبعاً إذا استحقّ بعد القبض كان له حصّة من الثّمن ، فيرجع على البائع بحصّته ، وإن استحقّ قبل القبض ، فإن كان لا يجوز بيعه وحده كالشّرب . فلا حصّة له من الثّمن ، فلا يرجع بشيء ، بل يخيّر بين الأخذ بكلّ الثّمن أو التّرك ، وإن جاز بيعه وحده كالشّجر كان له حصّة من الثّمن ، فيرجع بها على البائع .
ثمّ إنّ محلّ دخول التّابع في البيع ما لم يذكر ، فإن ذكر كان مبيعاً قصداً ، حتّى لو فات قبل القبض بآفة سماويّة تسقط حصّته من الثّمن . وللتّفصيل ينظر مصطلح ( بيع ) .
ط - التّابع مضمون بالاعتداء :
13 - من فروع هذه القاعدة أنّ من جنى على امرأة حامل فأسقطت ففيه الغرّة .
ومن ذلك منافع المغصوب وغلّته ، فإنّها مضمونة على الغاصب تبعاً للمغصوب عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة خلافاً للحنفيّة .
تَبْغ *
التّعريف :
1 - التّبغ ( بتاء مفتوحة ) لفظ أجنبيّ دخل العربيّة دون تغيير ، وقد أقرّه مجمع اللّغة العربيّة . وهو نبات من الفصيلة الباذنجانيّة يستعمل تدخيناً وسعوطاً ومضغاً ، ومنه نوع يزرع للزّينة ، وهو من أصل أمريكيّ ، ولم يعرفه العرب القدماء .
ومن أسمائه : الدّخان ، والتُتُن ، والتّنباك .
لكنّ الغالب إطلاق هذا الأخير على نوع خاصّ من التّبغ كثيف يدخّن بالنّارجيلة لا باللّفائف .
2 - وممّا يشبه التّبغ في التّدخين والإحراق : الطّبّاق ، وهو نبات عشبيّ معمّر من فصيلة المركّبات الأنبوبيّة الزّهر ، وهو معروف عند العرب ، خلافاً للتّبغ ، والطّبّاق : لفظ معرّب . وفي المعجم الوسيط : الطّبّاق : الدّخان ، يدخّن ورقه مفروماً أو ملفوفاً .
3 - وقال الفقهاء عن الدّخّان : إنّه حدث في أواخر القرن العاشر الهجريّ وأوائل القرن الحادي عشر ، وأوّل من جلبه لأرض الرّوم ( أي الأتراك العثمانيّين ) الإنكليز ، ولأرض المغرب يهوديّ زعم أنّه حكيم ، ثمّ جلب إلى مصر ، والحجاز، والهند، وغالب بلاد الإسلام . الأحكام المتعلّقة بالتّبغ :
حكم استعماله :
4 - منذ ظهور الدّخّان - وهو الاسم المشهور للتّبغ - والفقهاء يختلفون في حكم استعماله ، بسبب الاختلاف في تحقّق الضّرر من استعماله ، وفي الأدلّة الّتي تنطبق عليه ، قياساً على غيره ، إذ لا نصّ في شأنه . فقال بعضهم : إنّه حرام ، وقال آخرون : إنّه مباح ، وقال غيرهم : إنّه مكروه .
وبكلّ حكم من هذه الأحكام أفتى فريق من كلّ مذهب ، وبيان ذلك فيما يلي :
القائلون بتحريمه وأدلّتهم :
5 - ذهب إلى القول بتحريم شرب الدّخّان من الحنفيّة : الشّيخ الشرنبلالي ، والمسيريّ ، وصاحب الدّرّ المنتقى ، واستظهر ابن عابدين أنّه مكروه تحريماً عند الشّيخ عبد الرّحمن العماديّ . وقال بتحريمه من المالكيّة : سالم السّنهوريّ ، وإبراهيم اللّقانيّ ، ومحمّد بن عبد الكريم الفكّون ، وخالد بن أحمد ، وابن حمدون وغيرهم .
ومن الشّافعيّة : نجم الدّين الغزّيّ ، والقليوبيّ ، وابن علّان ، وغيرهم .
ومن الحنابلة الشّيخ أحمد البهوتيّ ، وبعض العلماء النّجديّين .
ومن هؤلاء جميعاً من ألّف في تحريمه كاللّقانيّ والقليوبيّ ومحمّد بن عبد الكريم الفكّون ، وابن علّان . واستدلّ القائلون بالحرمة بما يأتي :
6 - أ - أنّ الدّخّان يسكر في ابتداء تعاطيه إسكاراً سريعاً بغيبة تامّة ، ثمّ لا يزال في كلّ مرّة ينقص شيئاً فشيئاً حتّى يطول الأمد جدّاً ، فيصير لا يحسّ به ، لكنّه يجد نشوةً وطرباً أحسن عنده من السّكر . أو أنّ المراد بالإسكار : مطلق المغطّي للعقل وإن لم يكن معه الشّدّة المطربة ، ولا ريب أنّها حاصلة لمن يتعاطاه أوّل مرّة . وهو على هذا يكون نجساً ، ويحدّ شاربه ، ويحرم منه القليل والكثير .
7- ب - إن قيل : إنّه لا يسكر ، فهو يحدث تفتيراً وخدراً لشاربه ، فيشارك أوّليّة الخمر في نشوته ، وقد قالت أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن كلّ مسكر ومفتّر » قال العلماء : المفتّر : ما يحدث الفتور والخدر في الأطراف وصيرورتها إلى وهن وانكسار ، ويكفي حديث أمّ سلمة حجّةً ، ودليلاً على تحريمه .
ولكنّه على هذا لا يكون نجساً ولا يحدّ شاربه ، ويحرم القليل منه كالكثير خشية الوقوع في التّأثير ، إذ الغالب وقوعه بأدنى شيء منها ، وحفظ العقول من الكلّيّات الخمس المجمع عليها عند أهل الملل .
8- ج - أنّه يترتّب على شربه الضّرر في البدن والعقل والمال ، فهو يفسد القلب ، ويضعف القوى ، ويغيّر اللّون بالصّفرة ، ويتولّد من تكاثف دخّانه في الجوف الأمراض والعلل ، كالسّعال المؤدّي لمرض السّلّ ، وتكراره يسوّد ما يتعلّق به ، وتتولّد منه الحرارة ، فتكون داءً مزمناً مهلكاً ، فيشمله قوله تعالى : { ولا تَقْتُلُوا أنفسَكم } وهو يسدّ مجاري العروق ، فيتعطّل وصول الغذاء منها إلى أعماق البدن ، فيموت مستعمله فجأةً .
ثمّ قالوا : والأطبّاء مجمعون على أنّه مضرّ ، قال الشّيخ عليش : أخبر بعض مخالطي الإنكليز أنّهم ما جلبوا الدّخّان لبلاد الإسلام إلاّ بعد إجماع أطبّائهم على منعهم من ملازمته ، وأمرهم بالاقتصار على اليسير الّذي لا يضرّ ، لتشريحهم رجلاً مات باحتراق كبده وهو ملازمه ، فوجدوه سارياً في عروقه وعصبه ، ومسوّداً مخّ عظامه ، وقلبه مثل إسفنجة يابسة ، فمنعوهم من مداومته ، وأمروهم ببيعه للمسلمين لإضرارهم ... قال الشّيخ عليش : فلو لم يكن فيه إلاّ هذا لكان باعثاً للعقل على اجتنابه ، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « الحلال بيّن والحرام بيّن ، وبينهما مشتبهات لا يعلمهنّ كثير من النّاس ، فمن اتّقى الشّبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشّبهات وقع في الحرام ، كالرّاعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه » . هذا وفي المراجع الحديثة ما يثبت ضرر التّدخين .
9- د - في التّدخين إسراف وتبذير وضياع للمال ، قال الشّيخ عليش : لو سئل الفقهاء - الّذين قالوا : السّفه الموجب للحجر تبذير المال في اللّذّات والشّهوات - عن ملازم استعمال الدّخّان ، لمّا توقّفوا في وجوب الحجر عليه وسفهه ، وانظر إلى ما يترتّب على إضاعة الأموال فيه من التّضييق على الفقراء والمساكين ، وحرمانهم من الصّدقة عليهم بشيء ممّا أفسده الدّخّان على المترفّهين به ، وسماحة أنفسهم بدفعها للكفّار المحاربين أعداء الدّين ، ومنعها من الإعانة بها على مصالح المسلمين وسدّ خلّة المحتاجين .
10 - هـ - صدر أمر سلطانيّ من الخليفة العثمانيّ في وقته - بناءً على فتاوى علماء عصره - بمنع استعمال الدّخّان ومعاقبة شاربيه ، وحرق ما وجد منه . فيعتبر من وجوه تحريمه : الخروج عن طاعة السّلطان ، فإنّ امتثال أمره واجب في غير ما أجمع على تحريمه ، ومخالفته محرّمة .
11 - و- رائحة الدّخّان منتنة مؤذية ، وكلّ رائحة مؤذية فهي ممنوعة ، والدّخّان أشدّ من البصل والثّوم في الرّائحة ، وقد ورد منع من تناولهما من دخول المسجد ، وفرّق بين الرّائحة المنتنة والرّائحة الكريهة ، والبصل والثّوم ريحهما مكروه وليس منتناً ، والدّخّان ريحه منتن .
12 - ز - من زعم استعماله تداوياً لم يستعمله استعمال الأدوية ، وخرج به إلى حدّ التّفكّه والتّلذّذ ، وادّعى التّداوي تلبيساً وتستّراً حتّى وصل به إلى أغراض باطنة من العبث واللّهو والإسطال ، ومذهب الحنفيّة حرمته ، وعرّفوا العبث : بأنّه فعل لغير غرض صحيح ، والسّفه : بأنّه فعل لا غرض فيه أصلاً واللّعب : فعل فيه لذّة . وممّن صرّح بحرمة العبث في غير الصّلاة صاحب كتاب الاحتساب متمسّكاً بقول اللّه سبحانه وتعالى : { أفَحَسِبْتُم أنّما خلقناكم عَبَثَاً } وصاحب الكافي متمسّكاً بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « كلّ شيء يلهو به الرّجل باطل إلاّ رمية الرّجل بقوسه ، وتأديبه فرسه ، وملاعبته امرأته ، فإنّهنّ من الحقّ » . القائلون بإباحته وأدلّتهم :
13 - ذهب إلى القول بإباحة شرب الدّخّان من الحنفيّة : الشّيخ عبد الغنيّ النّابلسيّ ، وقد ألّف في إباحته رسالةً سمّاها ( الصّلح بين الإخوان في إباحة شرب الدّخّان ) ومنهم صاحب الدّرّ المختار ، وابن عابدين ، والشّيخ محمّد العبّاسيّ المهديّ صاحب الفتاوى المهديّة ، والحمويّ شارح الأشباه والنّظائر .
ومن المالكيّة : عليّ الأجهوريّ ، وله رسالة في إباحته سمّاها ( غاية البيان لحلّ شرب ما لا يغيّب العقل من الدّخّان ) ونقل فيها الإفتاء بحلّه عمّن يعتمد عليه من أئمّة المذاهب الأربعة ، وتابعه على الحلّ أكثر المتأخّرين من المالكيّة ، ومنهم : الدّسوقيّ ، والصّاويّ ، والأمير ، وصاحب تهذيب الفروق . ومن الشّافعيّة : الحفنيّ ، والحلبيّ ، والرّشيديّ ، والشبراملسي ، والبابليّ ، وعبد القادر بن محمّد بن يحيى الحسينيّ الطّبريّ المكّيّ ، وله رسالة سمّاها ( رفع الاشتباك عن تناول التّنباك ) . ومن الحنابلة : الكرميّ صاحب دليل الطّالب ، وله رسالة في ذلك سمّاها ( البرهان في شأن شرب الدّخّان ) . كذلك قال الشّوكانيّ بإباحته .
وقد استدلّ القائلون بإباحته بما يأتي :
14 - أ - أنّه لم يثبت إسكاره ولا تخديره ، ولا إضراره ( عند أصحاب هذا الرّأي ) وقد عرف ذلك بعد اشتهاره ، ومعرفة النّاس به ، فدعوى أنّه يسكر أو يخدّر غير صحيحة ، فإنّ الإسكار غيبوبة العقل مع حركة الأعضاء ، والتّخدير غيبوبة العقل مع فتور الأعضاء ، وكلاهما لا يحصل لشاربه . نعم من لم يعتده يحصل له إذا شربه نوع غشيان . وهذا لا يوجب التّحريم . كذا قال الشّيخ حسن الشّطّيّ وغيره .
وقال الشّيخ عليّ الأجهوريّ : الفتور الّذي يحصل لمبتدئ شربه ليس من تغييب العقل في شيء ، وإن سلم أنّه ممّا يغيّب العقل فليس من المسكر قطعاً ، لأنّ المسكر يكون معه نشوة وفرح ، والدّخّان ليس كذلك ، وحينئذ فيجوز استعماله لمن لا يغيّب عقله ، وهذا يختلف باختلاف الأمزجة ، والقلّة والكثرة ، فقد يغيّب عقل شخص ولا يغيّب عقل آخر ، وقد يغيّب من استعمال الكثير دون القليل .
15 - ب - الأصل في الأشياء الإباحة حتّى يرد نصّ بالتّحريم ، فيكون في حدّ ذاته مباحاً ، جرياً على قواعد الشّرع وعموماته ، الّتي يندرج تحتها حيث كان حادثاً غير موجود زمن الشّارع ، ولم يوجد فيه نصّ بخصوصه ، ولم يرد فيه نصّ في القرآن أو السّنّة ، فهو ممّا عفا اللّه عنه ، وليس الاحتياط في الافتراء على اللّه تعالى بإثبات الحرمة أو الكراهة اللّذين لا بدّ لهما من دليل ، بل في القول بالإباحة الّتي هي الأصل ، وقد توقّف النّبيّ صلى الله عليه وسلم - مع أنّه هو المشرّع في تحريم الخمر أمّ الخبائث - حتّى نزل عليه النّصّ القطعيّ ، فالّذي ينبغي للإنسان إذا سئل عنه أن يقول هو مباح ، لكنّ رائحته تستكرهها الطّباع ، فهو مكروه طبعاً لا شرعاً .
16 - ج - إنّ فرض إضراره لبعض النّاس فهو أمر عارض لا لذاته ، ويحرم على من يضرّه دون غيره ، ولا يلزم تحريمه على كلّ أحد ، فإنّ العسل يضرّ بعض النّاس ، وربّما أمرضهم ، مع أنّه شفاء بالنّصّ القطعيّ .
17 - د - صرف المال في المباحات على هذا الوجه ليس بسرف ، لأنّ الإسراف هو التّبذير ، وفسّر ابن مسعود التّبذير بأنّه إنفاق المال في غير حقّه ، فإذا كان الإنفاق في حقّه ولو مباحاً فليس بسرف ، ودعوى أنّه إسراف فهذا غير خاصّ بالدّخّان .
18 - هـ - اتّفق المحقّقون على أنّ تحكيم العقل والرّأي بلا مستند شرعيّ باطل ، إذ ليس الصّلاح بتحريمه ، وإنّما الصّلاح والدّين المحافظة بالاتّباع للأحكام الواردة بلا تغيير ولا تبديل ، وهل الطّعن في أكثر النّاس من أهل الإيمان والدّين ، والحكم عليهم بالفسق والطّغيان بسبب شربهم الدّخّان ، وفي العامّة من هذه الأمّة فضلاً عن الخاصّة ، صلاح أم فساد ؟
19 - و - حرّر ابن عابدين أنّه لا يجب تقليد من أفتى بحرمة شرب الدّخّان ، لأنّ فتواهم إن كانت عن اجتهاد فاجتهادهم ليس بثابت ، لعدم توافر شروط الاجتهاد ، وإن كانت عن تقليد لمجتهد آخر ، فليس بثابت كذلك لأنّه لم ينقل ما يدلّ على ذلك ، فكيف ساغ لهم الفتوى وكيف يجب تقليدهم ؟ . ثمّ قال : والحقّ في إفتاء التّحليل والتّحريم في هذا الزّمان التّمسّك بالأصلين اللّذين ذكرهما البيضاويّ في الأصول ، ووصفهما بأنّهما نافعان في الشّرع .
الأوّل : أنّ الأصل في المنافع : الإباحة ، والآيات الدّالّة على ذلك كثيرة .
الثّاني : أنّ الأصل في المضارّ : التّحريم والمنع لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » . ثمّ قال : وبالجملة إن ثبت في هذا الدّخّان إضرار صرف عن المنافع فيجوز الإفتاء بتحريمه ، وإن لم يثبت إضراره فالأصل الحلّ . مع أنّ الإفتاء بحلّه فيه دفع الحرج عن المسلمين ، فإنّ أكثرهم يبتلون بتناوله ، فتحليله أيسر من تحريمه ، فإثبات حرمته أمر عسير لا يكاد يوجد له نصير . نعم لو أضرّ ببعض الطّبائع فهو عليه حرام ، ولو نفع ببعض وقصد التّداوي فهو مرغوب .
قال ابن عابدين : كذا أجاب الشّيخ محيي الدّين أحمد بن محيي الدّين بن حيدر الكرديّ الجزريّ رحمه الله تعالى . وفي تهذيب الفروق : من عافاه اللّه من شربه واستعماله بوجه من الوجوه ، لا ينبغي أن يحمل النّاس على مختاره ، فيدخل عليهم شغباً في أنفسهم وحيرةً في دينهم ، إذ من شرط التّغيير لأمر ما أن يكون متّفقاً على إنكاره .
القائلون بالكراهة وأدلّتهم :
20 - ذهب إلى القول بكراهة شرب الدّخّان من الحنفيّة : ابن عابدين ، وأبو السّعود ، واللّكنويّ . ومن المالكيّة : الشّيخ يوسف الصّفتيّ . ومن الشّافعيّة : الشّروانيّ .
ومن الحنابلة : البهوتيّ ، والرّحيبانيّ ، وأحمد بن محمّد المنقور التّميميّ .
واستدلّوا بما يأتي :
21 - أ - كراهة رائحته ، فيكره قياساً على البصل النّيء والثّوم والكرّات ونحوها .
22 - ب - عدم ثبوت أدلّة التّحريم ، فهي تورث الشّكّ ، ولا يحرم شيء بمجرّد الشّكّ ، فيقتصر على الكراهة لما أورده القائلون بالحرمة .
حكم شرب الدّخّان في المساجد ومجالس القرآن والعلم والمحافل :
23 - لا يجوز شرب الدّخّان في المساجد باتّفاق ، سواء قيل بإباحته أو كراهته أو تحريمه ، قياساً على منع أكل الثّوم والبصل في المساجد ، ومنع آكلهما من دخول المساجد حتّى تزول رائحة فمه ، وذلك لكراهة رائحة الثّوم والبصل ، فيتأذّى الملائكة والمصلّون منها ، ويلحق الدّخّان بهما لكراهة رائحته - والمساجد إنّما بنيت لعبادة اللّه ، فيجب تجنيبها المستقذرات والرّوائح الكريهة - فعن جابر رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من أكل البصل والثّوم والكرّات فلا يقربنّ مسجدنا ، فإنّ الملائكة تتأذّى ممّا يتأذّى منه بنو آدم » . قال ابن عابدين : يمنع في المسجد أكل نحو ثوم وبصل ونحوه ممّا له رائحة كريهة ، للحديث الصّحيح في النّهي عن قربان آكل الثّوم والبصل المسجد قال الإمام العينيّ في شرحه على صحيح البخاريّ : قلت : علّة النّهي أذى الملائكة وأذى المسلمين .
قال ابن عابدين : ويلحق بما نصّ عليه في الحديث : كلّ ما له رائحة كريهة مأكولاً أو غيره . ونقل ابن عابدين عن الطّحطاويّ : إنّ الدّخّان ملحق بالبصل والثّوم في هذا الحكم .
وقال الشّيخ عليش المالكيّ : لا شكّ في تحريم شرب الدّخّان في المساجد والمحافل لأنّ له رائحةً كريهةً ، ونقل عن مجموع الأمير في باب الجمعة : أنّه يحرم تعاطي ما له رائحة كريهة في المسجد والمحافل . وفي الشّروانيّ على تحفة المحتاج : يمنع من دخول المسجد ذو الرّائحة الكريهة ، كآكل البصل والثّوم ، ومنه ريح الدّخّان المشهور الآن .
24 - كذلك لا يجوز لشارب الدّخّان دخول المسجد حتّى تزول الرّائحة من فمه ، قياساً على منع آكل الثّوم والبصل من دخول المسجد حتّى تزول الرّائحة .
واعتبر الفقهاء أنّ وجود الرّائحة الكريهة ، عذر في التّخلّف عن الجمعة والجماعة ، إذا لم يفعل ذلك قصداً لإسقاط الجماعة . ولا يختصّ المنع بالمساجد ، بل إنّه يشمل مجامع الصّلاة غير المساجد ، كمصلّى العيد والجنائز ونحوها من مجامع العبادات ، وكذا مجامع العلم والذّكر ومجالس قراءة القرآن ونحوها .
25 - هذا مع اختلاف الفقهاء في منع من في فمه رائحة الدّخّان من دخول المسجد ، أو مجامع العبادات ، ومجالس القرآن ، فحرّمه الحنفيّة والمالكيّة ، وكرهه الشّافعيّة والحنابلة . كذلك اختلف الفقهاء بالنّسبة للمجامع الّتي ليست للصّلاة أو الذّكر أو قراءة القرآن . وذلك كالولائم ومجالس القضاء . فأفتى بإباحته في مجالس القضاء الشّيخ محمّد مهديّ العبّاسيّ الحنفيّ شيخ الأزهر ومفتي الدّيار المصريّة .
وقال الشّيخ عليش المالكيّ : يحرم تعاطيه في المحافل . وكرهه الشّافعيّة والحنابلة .
26 - أمّا الأسواق ونحوها ، فقد قال الإمام النّوويّ : يلحق بالثّوم والبصل والكرّات كلّ ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها ، وقاس العلماء على المساجد مجامع العبادات ومجامع العلم والذّكر والولائم ونحوها . ثمّ قال : ولا يلتحق بها الأسواق ونحوها . .
حكم بيع الدّخّان وزراعته :
27 - كان الاختلاف بين الفقهاء بالنّسبة للدّخّان هو في بيان حكم شربه ، هل هو حرام أو مباح أو مكروه ، وكان التّعرّض لبيان حكم بيعه أو زراعته قليلاً .
على أنّه يمكن أن يقال في الجملة : إنّ الّذين حرّموه يستتبع ذلك عندهم حرمة بيعه وزراعته ، والّذين أباحوه يباح عندهم بيعه وزراعته . يقول الشّيخ عليش من المالكيّة : الحاصل أنّ الدّخّان في شربه خلاف بالحلّ والحرمة ، فالورع عدم شربه ، وبيعه وسيلةً لشربه ، فيعطى حكمه . ونورد فيما يلي ما أمكن العثور عليه من أقوال في ذلك :
28 - من الحنفيّة نقل ابن عابدين عن الشرنبلالي : أنّه يمنع من بيع الدّخّان ،
ومن المالكيّة ، ذكر الشّيخ عليش : ما يفيد جواز زراعته وبيعه ، فقد سئل في الدّخّان الّذي يشرب في القصبة ، والّذي يستنشق به ، هل كلّ منهما متموّل ؟ فإذا أتلف شخص شيئاً من أحدهما مملوكاً لغيره يكون عليه الضّمان ، أو كيف الحال ؟ . فأجاب : نعم كلّ منهما متموّل ، لأنّه طاهر فيه منفعة شرعيّة لمن اختلّت طبيعته باستعماله وصار له كالدّواء ، فكلّ منهما كسائر العقاقير الّتي يتداوى بها من العلل ، ولا يرتاب عاقل متشرّع في أنّها متموّلة ، فكذلك هذان ، كيف والانتفاع على الوجه المذكور والتّنافس حاصلان بالمشاهدة .
فإذا أتلف شخص شيئاً من أحدهما مملوكاً لغيره كان عليه الضّمان ، وقد أفتى بعض المتأخّرين بجواز بيع مغيّب العقل بلا نشوة ، لمن يستعمل منه القدر اليسير الّذي لا يغيّب عقله ، واستظهر فتواه سيّدي إبراهيم اللّقانيّ .
كذلك سئل الشّيخ عليش : عن رجل تعدّى على بصل لآخر أو جزر أو خسّ أو دخّان أو مطلق زرع قبل بدوّ صلاحه ، فماذا يلزمه ؟ وهل يعتبر وقت الحصاد ، أو ما يقوله أهل المعرفة ؟ وإن كان بعد بدوّ الصّلاح فما الحكم ؟ فأجاب : إن تعدّى على الزّرع قبل بدوّ الصّلاح أغرم قيمته يوم التّعدّي على الرّجاء والخوف ، وإن تأخّر الحكم عليه بالغرم حتّى رجع الزّرع لحاله سقطت عنه القيمة ويؤدّب المفسد ، وإن تعدّى بعد بدوّ الصّلاح أغرم قيمته يوم التّعدّي على البتّ . ومن الشّافعيّة : جاء في حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج : يصحّ بيع الدّخّان المعروف في زماننا ، لأنّه طاهر منتفع به أي عند بعض النّاس . وجاء في حاشية الشّروانيّ على تحفة المحتاج ما ملخّصه جواز بيعه . للخلاف في حرمته ولانتفاع بعض النّاس به . كما إذا كان يعلم الضّرر بتركه ، وحينئذ فيصحّ بيعه . ولم نعثر على نصّ في مذهب الحنابلة ، لكن جاء في كشّاف القناع ما يمكن أن يستفاد منه جواز بيعه قياساً . قال : السّمّ من الحشائش والنّبات ، إن كان لا ينتفع به ، أو كان يقتل قليله ، لم يجز بيعه ، وإن انتفع به وأمكن التّداوي بيسيره جاز بيعه ، لما فيه من النّفع المباح .
حكم الدّخّان من حيث الطّهارة والنّجاسة :
29 - صرّح المالكيّة والشّافعيّة بطهارة الدّخّان . قال الدّردير : من الطّاهر الجماد ، ويشمل النّبات بأنواعه ، قال الصّاويّ : ومن ذلك الدّخّان وفي نهاية المحتاج قال الشبراملسي في الحاشية : يصحّ بيع الدّخّان المعروف في زماننا ، لأنّه طاهر منتفع به . وورد مثل ذلك في حاشية الجمل وحاشية الشّروانيّ وحاشية القليوبيّ .
هذا وقد ذكر القرافيّ في الفرق الأربعين : " قاعدة المسكرات والمرقّدات والمفسدات " ( تنبيه ) تنفرد المسكرات عن المرقّدات والمفسدات بثلاثة أحكام : الحدّ ، والتّنجيس ، وتحريم اليسير . والمرقّدات والمفسدات لا حدّ فيها ولا نجاسة ، فمن صلّى بالبنج معه أو الأفيون لم تبطل صلاته إجماعاً . هذا وبعض من حرّم الدّخّان وعلّل حرمته بالإسكار فهي عنده نجسة قياساً على الخمر . ولم نعثر على نصّ في مذهب الحنفيّة ، إلاّ أنّ قواعدهم تدلّ على أنّ الدّخّان طاهر ، فقد قال ابن عابدين : الأشربة الجامدة كالبنج والأفيون لم نر أحداً قال بنجاستها ، ولا يلزم من الحرمة نجاسته ، كالسّمّ القاتل ، فإنّه حرام مع أنّه طاهر . كذلك لم نعثر على نصّ في مذهب الحنابلة ، إلاّ أنّه جاء في نيل المآرب : المسكر غير المائع طاهر .
تفطير الصّائم بشرب الدّخّان :
30 - اتّفق الفقهاء على أنّ شرب الدّخّان المعروف أثناء الصّوم يفسد الصّيام لأنّه من المفطرات ، كذلك يفسد الصّوم لو أدخل الدّخّان حلقه من غير شرب ، بل باستنشاق له عمداً ، أمّا إذا وصل إلى حلقه بدون قصد ، كأن كان يخالط من يشربه فدخل الدّخان حلقه دون قصد ، فلا يفسد به الصّوم ، إذا لا يمكن الاحتزاز من ذلك .
وعند الحنفيّة والمالكيّة : إن تعمّد ذلك فعليه القضاء والكفّارة .
وعند الشّافعيّة والحنابلة عليه القضاء فقط ، إذ الكفّارة عندهم تكون بالجماع فقط في نهار رمضان . وكذلك يفطر الصّائم بمضغ الدّخّان أو نشوقه ، لأنّه نوع من أنواع التّكييف ، ويصل طعمه للحلق ، ويتكيّف به الدّماغ مثل تكيّفه بالدّخّان الّذي يمصّ بالعود .
وهذا ما صرّح به المالكيّة ، وقواعد المذاهب الأخرى لا تأباه .
حقّ الزّوج في منع زوجته من شرب الدّخّان :
31 - يرى جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة وأحد وجهين عند الشّافعيّة والحنابلة ) أنّ للزّوج منع زوجته من كلّ ما له رائحة كريهة ، كالبصل والثّوم ، ومن ذلك شرب الدّخّان المعروف ، لأنّ رائحته تمنع كمال الاستمتاع ، خصوصاً إذا كان الزّوج لا يشربه .
والوجه الثّاني عند الشّافعيّة والحنابلة : أنّه ليس له منعها من ذلك لأنّه لا يمنع الوطء .
التّبغ في نفقة الزّوجة :
32 - يرى بعض الشّافعيّة والحنابلة أنّ الزّوجة إن اعتادت شرب الدّخّان تفكّهاً وجب على الزّوج توفيره لها ضمن حقّها في النّفقة .
ويرى الحنفيّة أنّه لا يلزمه ذلك وإن تضرّرت بتركه ، قال ابن عابدين : لأنّ ذلك إن كان من قبيل الدّواء أو من قبيل التّفكّه ، فكلّ من الدّواء والتّفكّه لا يلزمه .
ولم يصرّح المالكيّة بذلك ، إلاّ أنّ قواعدهم كالحنفيّة في أنّ الدّواء والتّفكّه لا يلزم الزّوج .
حكم التّداوي بالتّبغ :
33 - من القواعد العامّة الّتي أجمع عليها الفقهاء أنّ الأشياء المحرّمة النّجسة المنصوص عليها كالخمر لا يجوز التّداوي بها . أمّا ما لا نصّ فيه فإنّه يختلف باختلاف اجتهاد الفقهاء . فمن قال بنجاسة الدّخّان وأنّه يسكر كالخمر لا يجوز عنده التّداوي به .
لكنّه عند جمهور الفقهاء طاهر ويجوز التّداوي به ، كما يؤخذ ذلك من نصوصهم . وهذا إذا كان يمكن التّداوي به .
قال الشّيخ عليش المالكيّ : الدّخان متموّل ، لأنّه طاهر فيه منفعة شرعيّة لمن اختلّت طبيعته باستعماله وصار له كالدّواء ، فهو كسائر العقاقير الّتي يتداوى بها من العلل .
إمامة شارب الدّخّان :
34 - نقل ابن عابدين عن الشّيخ العماديّ أنّه يكره الاقتداء بالمعروف بأكل الرّبا ، أو شيء من المحرّمات ، أو يداوم الإصرار على شيء من المكروهات ، كالدّخّان المبتدع في هذا الزّمان .
تبكير *
التّعريف :
1 - التّبكير : مصدر بكّر بالتّشديد ، وأصله من الخروج بُكْرة أوّل النّهار ، ويكون أيضاً بمعنى : التّعجيل والإسراع أيّ وقت كان ، يقال : بكّر بالصّلاة أي : صلّاها لأوّل وقتها ، ويقال : بكّروا بصلاة المغرب أي : صلّوها عند سقوط القرص ، وكلّ من أسرع إلى شيء فقد بكّر إليه . ولم يخرج الفقهاء في استعمالهم عن هذين المعنيين .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّغليس :
2 - التّغليس في صلاة الفجر : فعلها أوّل طلوع الفجر قبل انتشار الضّوء .
ب - الإسفار :
3 - الإسفار معناه : الوضوح والظّهور ، يقال : أسفر الصّبح : انكشف وأضاء ، والإسفار بصلاة الصّبح في عرف الفقهاء هو : فعلها عند انتشار ضوء الفجر .
الحكم التّكليفيّ :
4 - التّبكير بأداء العبادات في أوّل أوقاتها مستحبّ لتحصيل الفضل والثّواب ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن أفضل الأعمال - قال : « الصّلاة في أوّل وقتها » وهذا على الجملة عند الفقهاء .
5- ويستثنى من هذا الحكم ما نصّ على تأخيره لسبب ، كالإبراد بصلاة الظّهر في وقت الحرّ ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا اشتدّ الحرّ فأبردوا بالصّلاة » .
كذلك استثنى الحنابلة والحنفيّة صلاة العشاء ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لولا أن أشقّ على المؤمنين لأمرتهم بتأخير العشاء » وهو أيضاً قول عند المالكيّة والشّافعيّة ، وزاد الحنفيّة صلاة العصر .
6- أمّا التّبكير بمعنى الخروج أوّل النّهار فهو وارد في صلاة الجمعة والعيدين . فقد استحبّ التّبكير لهما من أوّل النّهار الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من غسّل يوم الجمعة واغتسل ، وبكّر وابتكر كان له بكلّ خطوة يخطوها أجر سنة ، صيامها وقيامها » وقال الإمام مالك : لا يستحبّ التّبكير خشية الرّياء .
التّبكير لطلب الرّزق :
7 - يستحبّ التّبكير بطلب الرّزق والتّجارة فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « باكروا للغدوّ في طلب الرّزق ، فإنّ الغدوّ بركة ونجاح » . قال ابن العربيّ : يروى عن ابن عبّاس وغيره أنّ ما بعد صلاة الصّبح وقت يقسم اللّه فيه الرّزق بين العباد ، وثبت أنّه وقت ينادي فيه الملك : « اللّهمّ أعط منفقاً خلفاً ، وأعط ممسكاً تلفاً » . وهو وقت ابتداء الحرص ونشاط النّفس وراحة البدن وصفاء الخاطر ، فيقسم لأجل ذلك كلّه وأمثاله .
التّبكير بالتّعليم :
8 - ينبغي التّبكير بتعليم الصّبيان ما فرض اللّه على العباد من قول وفعل ، لكي يأتي عليهم البلوغ وقد تمكّن ذلك في قلوبهم ، وسكنت إليه أنفسهم ، وأنست بما يعلمون به من ذلك جوارحهم . وقد قال النّوويّ : الصّحيح أنّه يجب على الآباء والأمّهات تعليم الأولاد الصّغار ما سيتعيّن عليهم بعد البلوغ من : الطّهارة ، والصّلاة ، والصّوم ، وتحريم الزّنى واللّواط والسّرقة وشرب المسكر ، والكذب ، ونحوها .
واستدلّ على ذلك بقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا قوا أنفسَكم وأهليكم ناراً } قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ومجاهد وقتادة : معناه علّموهم ما ينجون به من النّار .
وتعليم الصّبيان يردّ العذاب الواقع بإرادة اللّه تعالى عن آبائهم ، أو عمّن تسبّب في تعليمهم ، أو عن معلّمهم ، أو عنهم فيما يستقبل ، أو عن المجموع ، أو يردّ العذاب عموماً .
تبليغ *
التّعريف :
1 - التّبليغ : مصدر بلّغ ، أي : أوصل ، يقال بلّغه السّلام : إذا أوصله . وبلغ الكتاب بلوغاً : وصل .
والتّبليغ في الاصطلاح أخصّ من ذلك ، إذ يراد به : الإعلام والإخبار ، لأنّه إيصال الخبر . والتّبليغ يكون شفاهاً وبالرّسالة والكتابة .
وأغلب تبليغ الرّسل كان مشافهةً . والتّبليغ بالرّسالة : أن يرسل شخص رسولاً إلى رجل ، ويقول للرّسول مثلاً : إنّي بعت عبدي هذا من فلان الغائب بكذا ، فاذهب إليه ، وقل له : إنّ فلاناً أرسلني إليك ، وقال لي : قل له : إنّي قد بعت عبدي هذا من فلان بكذا ، فإن ذهب الرّسول وبلّغ الرّسالة ، فقال المشتري في مجلسه ذلك : قبلت ، انعقد البيع ، لأنّ الرّسول سفير ومعبّر عن كلام المرسل ، ناقل كلامه إلى المرسل إليه ، فكأنّه حضر بنفسه فأوجب البيع ، وقبل الآخر في المجلس . فالرّسالة بعض وسائل التّبليغ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الكتابة :
2 - الكتابة هي : أن يكتب الرّجل إلى رجل إنّي بعت منك فرسي - ويصفه - بمبلغ كذا ، فبلغ الكتاب المرسل إليه ، فقال في مجلسه : اشتريت ، تمّ البيع . لأنّ خطاب الغائب كتابه ، فكأنّه حضر بنفسه وخاطب بالإيجاب وقبل الآخر في المجلس ، فالكتابة أيضاً أخصّ من التّبليغ .
الحكم التّكليفيّ :
تبليغ الرّسالات :
3 - أوجب اللّه على رسله تبليغ رسالاته إلى من أرسلوا إليهم ، لئلاّ يكون لهم على اللّه حجّة ، قال تعالى : { رُسُلاً مبشِّرين ومنذِرين لئلاّ يكون للنّاس على اللّه حُجّةٌ بعد الرّسُل } وقال تعالى : { يا أيّها الرّسول بلِّغْ ما أُنزل إليك من ربّك ، وإن لم تفعل فما بلّغتَ رسالته ، واللّه يَعْصِمُك من النّاس } . قال ابن عبّاس : المعنى بلّغ جميع ما أنزل إليك من ربّك ، فإن كتمت شيئاً منه فما بلّغت رسالته . وهذا تأديب للنّبيّ صلى الله عليه وسلم وتأديب لحملة العلم من أمّته ألاّ يكتموا شيئاً من أمر شريعته .
وفي صحيح مسلم عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : « من حدّثك أنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي فقد كذب ، واللّه تعالى يقول : { يا أيّها الرّسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك وإنْ لم تفعل فما بلّغت رسالته } »
وعن أبي جحيفة قلت لعليّ رضي الله عنه : « هل عندكم شيء من الوحي ما ليس في القرآن ؟ فقال : لا . والّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة ، إلاّ فهماً يعطيه اللّه رجلاً في القرآن ، وما في هذه الصّحيفة ، قلت : وما في هذه الصّحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وألاّ يقتل مسلم بكافر » .
تبليغ الدّعوة الإسلاميّة :
4 - تبليغ الدّعوة الإسلاميّة لغير المسلمين واجب على الكفاية ، فقد أرسل الرّسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك غير المسلمين يدعوهم إلى الإسلام ، فكتب إلى المقوقس وغيره ، وجرى على ذلك أصحابه .
التّبليغ خلف الإمام :
5 - من سنن الصّلاة جهر الإمام بالتّكبير والتّسميع والسّلام بقدر الحاجة ليسمّع المأمومين ، فإن زاد على الحاجة زيادةً كبيرةً كره .
والتّكبير للإعلام بالدّخول في الصّلاة والانتقال فيها يكون من الإمام ، فإن كان صوته لا يبلغ من وراءه فينبغي التّبليغ عنه من أحد المأمومين ، والمراد من التّكبير ما يشمل تكبيرة الإحرام وغيرها . وقال ابن قدامة : يستحبّ للإمام أن يجهر بالتّكبير ، بحيث يسمع المأمومون ليكبّروا ، فإنّهم لا يجوز لهم التّكبير إلاّ بعد تكبيره ، فإن لم يمكنه إسماعهم جهر بعض المأمومين ليسمعهم ، أو ليسمع من لا يسمع الإمام . لما روى جابر رضي الله عنه قال : « صلّى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفه ، فإذا كبّر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كبّر أبو بكر ليسمعنا » وفي كلّ مذهب تفصيل :
فعند الحنفيّة والشّافعيّة : أنّ الإمام إذا كبّر للافتتاح فلا بدّ لصحّة صلاته من قصده بالتّكبير الإحرام بالصّلاة ، وإلاّ فلا صلاة له إذا قصد الإعلام فقط . فإن جمع بين الأمرين بأن قصد الإحرام والإعلام فذلك هو المطلوب منه شرعاً . وكذلك المبلّغ إذا قصد التّبليغ فقط خالياً عن قصد الإحرام فلا صلاة له ، ولا لمن يصلّي بتبليغه في هذه الحالة ، لأنّه اقتدى بمن لم يدخل في الصّلاة . فإن قصد بتكبيره الإحرام مع التّبليغ للمصلّين ، فذلك هو المقصود منه شرعاً . ووجهه : أنّ تكبيرة الإحرام شرط أو ركن ، فلا بدّ في تحقّقها من قصد الإحرام أي الدّخول في الصّلاة .
وأمّا التّسميع من الإمام ، والتّحميد من المبلّغ ، وتكبيرات الانتقالات منهما ، إذا قصد بما ذكر الإعلام فقط ، فلا فساد للصّلاة . والفرق أنّ قصد الإعلام غير مفسد ، كما لو سبّح ليعلم غيره أنّه في الصّلاة . ولمّا كان المطلوب هو التّكبير على قصد الذّكر والإعلام ، فإذاً محض قصد الإعلام فكأنّه لم يذكر ، وعدم الذّكر في غير التّحريمة غير مفسد .
وعند المالكيّة أنّه يجوز اتّخاذ شخص معيّن ليسمع النّاس ، وتصحّ صلاته ، ولو قصد بتكبيره وتحميده مجرّد إسماع المأمومين .
وعندهم أنّه يصحّ أن يكون المسمع ( المبلّغ ) صبيّاً أو امرأةً أو محدثاً ، وذلك مبنيّ على أنّ المسمع علامة على صلاة الإمام ، وذلك هو اختيار المازريّ واللّقانيّ . وفي رأي : أنّ المسمع نائب ووكيل عن الإمام ، فلا يجوز له التّسميع حتّى يستوفي شرائط الإمام .
وعند الحنابلة : أنّه يستحبّ الجهر من الإمام ليسمع المأمومين انتقالاته في الصّلاة ، كالجهر بتكبيرة الإحرام ، فإن لم يجهر الإمام بحيث يسمع الجميع استحبّ لبعض المأمومين رفع صوته ليسمعهم .
تبليغ السّلام :
6 - أجمع العلماء على أنّ الابتداء بالسّلام سنّة مرغّب فيها ، وردّه فريضة لقوله تعالى :
{ وإذا حُيِّيتم بتحيّةٍ فحَيُّوا بأحسنَ منها أو ردُّوها }
فقد أمر اللّه بالتّحيّة بأحسن منها أو بالرّدّ . والأمر للوجوب ما لم يصرفه صارف ، والظّاهر أنّ الحكم كذلك في المكاتبة ، أو بالطّلب إلى رسول تبليغ السّلام ، كما ينبغي لمن تحمّل السّلام أن يبلّغه . « قالت عائشة رضي الله عنها : وعليه السّلام ورحمة اللّه حين أخبرها النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ جبريل عليه السلام يقرأ عليها السّلام » .
قال القرطبيّ : وفي حديث عائشة من الفقه أنّ الرّجل إذا أرسل إلى رجل بسلامه ، فعليه أن يردّ كما يردّ عليه إذا شافهه . « وجاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إنّ أبي يقرئك السّلام . فقال وعليك السّلام ، وعلى أبيك السّلام » .
تبليغ الوالي عن الجناة المستترين :
7 - المنصوص عليه في المذاهب أنّ ما لم يظهر من المحظورات ، فليس لأحد - محتسباً كان أو غيره - أن يتجسّس عنها ، ولا أن يهتك الأستار ، فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر اللّه تعالى ، فإنّه من يُبْدِ لنا صفحته نقم عليه كتاب اللّه تعالى » .
وأمّا عند الظّهور ففيه تفصيل ينظر في مصطلح ( تجسّس وشهادة ) .
تبنّي *
التّعريف :
1 - التّبنّي : اتّخاذ الشّخص ولد غيره ابناً له ، وكان الرّجل في الجاهليّة يتبنّى الرّجل ، فيجعله كالابن المولود له ، ويدعوه إليه النّاس ، ويرث ميراث الأولاد .
وغلب في استعمال العرب لفظ ( ادّعاء ) على التّبنّي ، إذا جاء في مثل ( ادّعى فلان فلاناً ) ومنه ( الدّعيّ ) وهو المتبنّي ، قال اللّه تعالى : { وما جَعَلَ أَدْعِيَاءَكم أبناءَكم } .
ولا يخرج استعمال الفقهاء للفظ التّبنّي عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستلحاق :
2 - ألحق القائف الولد بأبيه : أخبر أنّه ابنه لشبه بينهما يظهر له ، واستلحقت الشّيء : ادّعيته ، وفي القاموس : استلحق فلاناً : ادّعاه ، والاستلحاق يختصّ بالأب وحده ، وهو الإقرار بالنّسب عند الحنفيّة ، ولا يقع الاستلحاق إلاّ على مجهول النّسب .
فالاستلحاق لا يكون إلاّ بالنّسبة لمجهول النّسب ، في حين أنّ التّبنّي يكون بالنّسبة لكلّ من مجهول النّسب ومعلوم النّسب ، وتفصيل ذلك في مصطلح : ( استلحاق ) .
ب - البنوّة :
3 - الابن : الذّكر من الأولاد ، والاسم : البنوّة .
وفي اصطلاح الفقهاء : يطلق الابن على الابن الصّلبيّ من نسب حقيقيّ ، فتكون البنوّة من نسب أصليّ ، ويطلق الابن على ابن الابن وإن نزل مجازاً .
فالفرق بين البنوّة والتّبنّي : أنّ البنوّة ترجع إلى النّسب الأصليّ ، أمّا التّبنّي فهو ادّعاء الرّجل أو المرأة من ليس ولداً لهما . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( بنوّة ) .
ج - الإقرار بالنّسب :
4 - إقرار الأب أو الأمّ بالبنوّة دون ذكر السّبب مع عدم إلحاق الضّرر أو العار بالولد ، هو الإقرار بالنّسب المباشر . فالإقرار تصحيح للنّسب بعد أن كان مجهولاً .
أمّا التّبنّي فيكون لمجهول النّسب ومعلومه ، والتّبنّي قد أبطله الإسلام ، أمّا الإقرار بالنّسب فقائم ولا يصحّ الرّجوع فيه ، ولا يجوز نفيه بعد صدوره . انظر مصطلح : ( إقرار ) .
د - اللّقيط :
5 - ادّعاء اللّقيط شكل من أشكال الإقرار بالنّسب ، واللّقيط هو الصّغير الّذي وجد في مكان يصعب فيه التّعرّف على أبويه . أمّا التّبنّي فيكون لمجهول النّسب كما يكون لمعلوم النّسب ، وادّعاء اللّقيط في الحقيقة ردّ إلى نسب حقيقيّ في الظّاهر ، ولا يحمل التّبنّي هذا المعنى .
الحكم التّكليفيّ :
6 - حرّم الإسلام التّبنّي ، وأبطل كلّ آثاره ، وذلك بقوله تعالى : { وما جعل أدعياءَكم أبناءَكم ذلكم قولُكم بأفواهِكم واللّهُ يقولُ الحقَّ وهو يهدي السّبيلَ } ، وقوله تعالى : { ادْعوهم لآبائِهم } .
وقد كان التّبنّي معروفاً عند العرب في الجاهليّة وبعد الإسلام ، فكان الرّجل في الجاهليّة إذا أعجبه من الرّجل جلده وظرفه ضمّه إلى نفسه ، وجعل له نصيب ابن من أولاده في الميراث ، وكان ينسب إليه فيقال : فلان بن فلان . وقد « تبنّى الرّسول صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة قبل أن يشرّفه اللّه بالرّسالة ، وكان يدعى زيد بن محمّد ، واستمرّ الأمر على ذلك إلى أن نزل قول اللّه تعالى : { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } إلى قوله : { وكان اللّه غفوراً رحيماً } وبذلك أبطل اللّه نظام التّبنّي » ، وأمر من تبنّى أحداً ألاّ ينسبه إلى نفسه ، وإنّما ينسبه إلى أبيه إن كان له أب معروف ، فإن جهل أبوه دعي ( مولًى ) ( وأخاً في الدّين ) وبذلك منع النّاس من تغيير الحقائق ، وصينت حقوق الورثة من الضّياع أو الانتقاص .
تَبْوِئة *
التّعريف :
1 - التّبوئة في اللّغة : مصدر بوّأ ، بمعنى أسكن ، يقال : بوّأته داراً : أي أسكنته إيّاها . والمُبَوَّأُ المنزل الملزوم ، ومنه : بوّأه اللّه منزلاً : أي ألزمه إيّاه وأسكنه ، ومنه قوله تعالى : { ولقد بَوَّأنَا بني إسرائيلَ مُبَوَّأ صِدْقٍ } ومنه أيضاً حديث : « من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النّار ... » . وهي في الاصطلاح : أن يخلّي المولى بين الأمة وبين زوجها ويدفعها إليه ولا يستخدمها . أمّا إذا كانت تذهب وتجيء وتخدم مولاها فلا يكون ذلك تبوئةً . ولمعرفة أحكامها تنظر مباحث ( النّكاح ) من كتب الفقه وانظر أيضاً مصطلح ( رقّ ) .
تبيع *
التّعريف :
1 - التّبيع في اللّغة : ولد البقر في السّنة الأولى ، ويسمّى تبيعاً لأنّه يتبع أمّه ، والأنثى تبيعة ، وجمع المذكّر أتبعة ، وجمع الأنثى تباع .
وفي الاصطلاح : لا يخرج معنى تبيع ، وتبيعة عمّا ورد في اللّغة ، وهذا عند الحنفيّة والحنابلة ، والمعتمد عند الشّافعيّة . وعند المالكيّة : ما أوفى سنتين ودخل في الثّالثة .
الحكم الإجماليّ :
2 - أجمع الفقهاء على أنّ التّبيع يكون واجباً في نصاب البقر إذا بلغت ثلاثين ، لحديث معاذ رضي الله عنه قال : « بعثني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أصدق أهل اليمن ، فأمرني أن آخذ من البقر من كلّ ثلاثين تبيعاً ... » إلخ .
ووجوب التّبيع فيما زاد عن الثّلاثين تفصيله في مصطلح ( زكاة ) .
تبييت *
التّعريف :
1 - التّبييت لغةً : مصدر بيّت الأمر إذا دبّره ليلاً ، وبيّت النّيّة على الأمر : إذا عزم عليه ليلاً فهي مبيّتة بالفتح . وبيّت العدوّ : أي داهمه ليلاً . وفي التّنزيل العزيز { إذْ يُبَيِّتُون ما لا يرضى من القولِ } وفي السّيرة : « هذا أمر بُيِّتَ بليل » .
والتّبييت في الاصطلاح بمعناه اللّغويّ ، والبيات اسم المصدر ، ومنه قوله تعالى : { أَفَأمِنَ أهلُ القرى أن يأتيَهم بَأسُنا بَيَاتَاً وهم نائمون } .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإغارة :
2 - يطلق العرب البيات أو التّبييت على الإغارة على العدوّ ليلاً .
وفي التّنزيل : { قالوا تقاسَمُوا باللّه لَنُبَيِّتَنَّهُ وأهلَه ثمّ لنقولَنّ لوليّه ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أهلِه وإنّا لصادقون } فالفرق بين تبييت العدوّ وبين الإغارة عليه : أنّ الإغارة مطلقة ، إذ تكون ليلاً أو نهاراً ، أمّا التّبييت فهو في اللّيل .
ب - البيتوتة :
3 - البيتوتة : مصدر بات ، ومعناها الفعل باللّيل ، فهو بهذا المعنى أعمّ من البيات ، ويندر استعمالها بمعنى النّوم ليلاً .
ويستعملها الفقهاء أحياناً في آثار القسم بين الزّوجات ، وبهذا المعنى يخالف البيات .
حكم التّبييت :
أوّلاً : تبييت العدوّ :
4 - تبييت العدوّ جائز لمن يجوز قتالهم ، وهم الكفّار الّذين بلغتهم الدّعوة ورفضوها ، ولم يقبلوا دفع الجزية ، ولم يكن بيننا وبينهم عقد ذمّة ولا هدنة .
قال أحمد رحمه الله : لا بأس بالبيات ، وهل غزو الرّوم إلاّ البيات ؟ قال : ولا نعلم أحداً كره تبييت العدوّ . وعن الصّعب بن جثّامة قال : « سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسأل عن أهل الدّيار من المشركين : نبيّتهم فنصيب من نسائهم وذراريّهم فقال : هم منهم » فإن قيل : قد نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن قتل النّساء والذّرّيّة . قلنا : هذا محمول على التّعمّد لقتلهم . والجمع بينهما ممكن بحمل النّهي على التّعمّد ، والإباحة على ما عداه . والمسألة فيها تفريعات فيما إذا كان مع الكفّار مسلم وقتل ، تنظر في : ( الجهاد والدّيات ) . فإن بيّت الإمام أو أمير الجيش قبل الدّعوة أثم ، لقوله تعالى : { فانْبِذْ إليهم على سَوَاء } . واختلف الفقهاء في ضمان من يقتل منهم بالتّبييت : فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه لا يضمن ، لأنّه لا إيمان له ، ولا أمان ، فلم يضمن .
وذهب بعض الشّافعيّة إلى أنّه يضمن بالدّية والكفّارة ، ونقل ذلك عن الشّافعيّ .
ويرى بعض الفقهاء : أنّ أهل الكتاب والمجوس لا تجب دعوتهم قبل القتال ، لأنّ الدّعوة قد بلغتهم ، ولأنّ كتبهم قد بشّرت بالرّسالة المحمّديّة . ويدعى عبدة الأوثان قبل أن يحاربوا .
5- أمّا من بلغتهم الدّعوة ، فتستحبّ الدّعوة قبل التّبييت مبالغةً في الإنذار ، وليعلموا أنّنا نقاتلهم على الدّين لا على سلب الأموال وسبي الذّراريّ ، وقد ثبت « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أمر عليّاً حين أعطاه الرّاية يوم خيبر وبعثه إلى قتالهم أن يدعوهم » ، وهم ممّن بلغتهم الدّعوة . ويجوز بياتهم بغير دعاء ، لأنّه صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أنّه أغار على بني المصطلق ليلاً وهم غافلون » . « وعهد إلى أسامة أن يغير على أبنى صباحاً » . « وسئل عن المشركين يبيّتون ، فيصاب من نسائهم وذراريّهم فقال : هم منهم » . وكانوا جميعاً ممّن بلغتهم الدّعوة وإلاّ لم يبيّتوا للأدلّة السّابقة .
ثانياً : تبييت النّيّة في صوم رمضان :
6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى وجوب تبييت النّيّة في صوم رمضان ما بين غروب الشّمس إلى طلوع الفجر الثّاني . وذهب أبو حنيفة إلى أنّه يستحبّ التّبييت ، لكن تجزئ النّيّة نهاراً إلى الزّوال ، وفي ذلك تفصيل ينظر في : ( الصّوم ، والنّيّة ) .
مواطن البحث :
7 - يذكر الفقهاء التّبييت في كتاب : ( السّيرة ، والجهاد ) .
تتابع *
التّعريف :
1 - من معاني التّتابع في اللّغة : الموالاة . يقال تابع فلان بين الصّلاة وبين القراءة : إذا والى بينهما ، ففعل هذا على أثر هذا بلا مهلة بينهما . وتتابعت الأشياء : تبع بعضها بعضاً . وتابع بين الأمور متابعةً وتباعاً : واتر ووالى . ولا يخرج معناه الاصطلاحيّ عن ذلك .
الحكم الإجماليّ :
2 - التّتابع يكون في صوم الكفّارات ، ويكون في الاعتكاف ، ويكون في الوضوء والغسل ، ويسمّى غالباً ( الموالاة ) وتنظر أحكامه في ( الوضوء والغسل ) .
التّتابع في الصّوم في كفّارة اليمين :
3 - إذا لم يجد الحانث في يمينه ما يكفّر به عنها ، من إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة أو عجز عن ذلك ، كان عليه أن ينتقل إلى الصّوم ، فيصوم ثلاثة أيّام . والأصل في ذلك قول اللّه تبارك وتعالى : { لا يؤاخِذُكم اللّهُ باللَّغْوِ في أيمانِكم ولكنْ يؤاخِذُكم بما عَقَّدْتُم الأيمانَ فكفّارتُه إطعامُ عَشَرَةِ مساكينَ من أوسطِ ما تُطْعمون أهليكم أو كِسْوتهم أو تحريرُ رَقبةٍ فمن لم يَجِدْ فصيامُ ثلاثةِ أيّامٍ ذلك كفّارةُ أيمانِكم إذا حَلَفْتُم } .
واختلف الفقهاء في التّتابع ، فذهب الحنفيّة وهو الأصحّ عند الحنابلة ، وهو قول للشّافعيّة : إلى وجوب التّتابع ، للقراءة الشّاذّة لابن مسعود فصيام ثلاثة أيّام متتابعات . وذهب المالكيّة - وهو قول للشّافعيّة - إلى جواز صومها متتابعةً أو متفرّقةً . ر : ( كفّارة اليمين ) .
التّتابع في الصّوم في كفّارة الظّهار :
4 - يأتي الصّوم في المرتبة الثّانية بعد العتق في كفّارة الظّهار ، كما في قوله تعالى : { والّذينَ يُظَاهِرُون من نسائِهم ثمّ يَعُودونَ لِمَا قالوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْل أنْ يَتَماسَّا ذلكمْ تُوعظونَ به واللّهُ بما تعملونَ خبيرٌ . فمنْ لم يَجِدْ فصيامُ شهرين مُتَتَابعين من قبلِ أن يَتَمَاسَّا فمنْ لم يستطعْ فإطعامُ ستّينَ مِسْكيناً ذلك لِتُؤمنوا باللّهِ ورسولِهِ وتلك حدودُ اللّهِ وللكافرينَ عذابٌ أليمٌ } . فإن لم يجد المظاهر ما يعتق كما في الآية الأولى انتقل إلى الصّيام ، فيصوم شهرين متتابعين كما في صدر الآية الثّانية ، ليس فيهما رمضان ، ويوما العيد ، وأيّام التّشريق ، وذلك من قبل أن يتماسّا . فإن جامعها في الشّهرين ليلاً أو نهاراً عامداً أو ناسياً بعذر أو بغير عذر استقبل ، لقوله تعالى : { مِنْ قبلِ أنْ يَتَمَاسَّا } .
وبهذا أخذ الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة والحنابلة في وجوب التّتابع ، إلاّ أنّ الشّافعيّة قالوا : إذا جامعها ليلاً قبل أن يكفّر يأثم ولا يبطل التّتابع . ر : ( كفّارة الظّهار ) .
التّتابع في الصّوم في كفّارة الفطر في نهار رمضان :
5 - تجب الكفّارة بالجماع في نهار رمضان باتّفاق . وتجب بالأكل أو الشّرب عمداً عند الحنفيّة والمالكيّة ، والكفّارة تكون بالعتق أو الصّوم أو الإطعام .
وتأتي مرتبة الصّوم بعد العتق عند الحنفيّة والشّافعيّة وجمهور الحنابلة ، وفي رواية عن أحمد أنّها على التّخيير بين العتق والصّيام والإطعام وبأيّها كفّر أجزأه ، وهذا بناءً على أنّ أو للتّخيير لما روى أبو هريرة « أنّ رجلاً أفطر في رمضان ، فأمره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يكفّر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستّين مسكيناً » .
وعند المالكيّة كفّارته على التّخيير أيضاً ، ولكنّهم فضّلوا الإطعام على العتق فجعلوه أوّلاً ، لأنّه أكثر نفعاً لتعدّيه لأفراد كثيرة ، وفضّلوا العتق على الصّوم ، لأنّ نفعه متعدّ للغير دون الصّوم ، فالصّوم عندهم في المرتبة الثّالثة .
وسواء كان هذا أو ذاك ، فإنّ صوم كفّارة الفطر في رمضان شهران متتابعان عند الأئمّة الأربعة . لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : « بينما نحن جلوس عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل ، فقال : يا رسول اللّه : هلكت ، قال : ما لك ؟ قال : وقعت على امرأتي وأنا صائم . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : هل تجد رقبةً تعتقها ؟ قال : لا . قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا . قال : فهل تجد إطعام ستّين مسكيناً ؟ قال : لا . قال : فمكث النّبيّ صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك ، أُتِيَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر - والعرق : المكتل - قال : أين السّائل ؟ فقال : أنا . قال : خذ هذا فتصدّق به . فقال الرّجل : على أفقر منّي يا رسول اللّه ؟ فواللّه ما بين لابَتَيْها - يريد الحرّتين - أهلُ بيت أفقر من أهل بيتي . فضحك النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى بدت أنيابه ، ثمّ قال : أَطْعِمْه أهلَكَ » .
الصّوم في كفّارة القتل :
6 - يأتي في المرتبة الثّانية بعد العجز عن العتق ، كما في قوله تعالى : { ومنْ قتلَ مُؤْمناً خَطَأً فتحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أهلِهِ إلاّ أنْ يَصَّدَّقُوا } إلى قوله تعالى : { فمنْ لمْ يجدْ فصيامُ شَهْرينِ متتابعينِ تَوْبَةً من اللّهِ وكانَ اللّهُ عليماً حكيماً } .
فالتّتابع في صيام هذين الشّهرين واجب اتّفاقاً . ر : ( كفّارة القتل ) .
التّتابع في صوم النّذر :
7 - إن نذر أن يصوم أيّاماً ، أو شهراً ، أو سنةً ، ولم يعيّن ، وشرط التّتابع لزمه اتّفاقاً ، وكذا لو نذر أن يصوم شهراً معيّناً كرجب ، أو سنة معيّنة ، لزمه التّتابع في صيامها كذلك . أمّا لو نذر شهراً ، أو سنةً غير معيّنين ، ولم يشترط التّتابع ، فقد ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عند الحنابلة إلى : أنّه لا يلزمه التّتابع ، وفي رواية أخرى عند الحنابلة يلزمه التّتابع ، وروي عن أحمد كذلك فيمن قال : للّه عليّ أن أصوم عشرة أيّام : يصومها متتابعةً . وانظر للتّفصيل مصطلح : ( نذر ) .
التّتابع في الاعتكاف :
8 - مذهب الحنفيّة : أنّ من أوجب على نفسه اعتكاف أيّام ، بأن قال : عشرة أيّام مثلاً ، لزمه اعتكافها بلياليها متتابعةً ، وإن لم يشترط التّتابع ، لأنّ مبنى الاعتكاف على التّتابع . وكذا لو قال : شهراً ، ولم ينوه بعينه ، لزمه متتابعاً ليله ونهاره ، يفتتحه متى شاء بالعدد ، لا هلاليّاً ، وإن عيّن شهراً يعتبر الشّهر بالهلال ، وإن فرّق الاعتكاف استأنفه متتابعاً . وقال زفر في نذر اعتكاف شهر : إن شاء فرّق الاعتكاف وإن شاء تابعه . وإن نوى الأيّام خاصّةً أي دون اللّيل صحّت نيّته ، لأنّ حقيقة اليوم بياض النّهار .
وعند المالكيّة كذلك ، يلزم تتابع الاعتكاف المنذور فيما إذا كان مطلقاً ، أي غير مقيّد بتتابع ولا عدمه . وأنّ من نذر اعتكاف شهر أو ثلاثين يوماً فلا يفرّق ذلك . وهذا بخلاف من نذر أن يصوم شهراً أو أيّاماً ، فإنّه لا يلزمه التّتابع في ذلك .
والفرق : أنّ الصّوم إنّما يؤدّى في النّهار دون اللّيل فكيفما فعل أصاب ، متتابعاً أو مفرّقاً . والاعتكاف يستغرق الزّمانين اللّيل والنّهار ، فكان حكمه يقتضي التّتابع .
والمراد بالمطلق : الّذي لم يشترط في التّتابع لفظاً ، ولم يحصل فيه نيّة التّتابع ، ولا نيّة عدمه . فإن حصل فيه نيّة أحدهما عمل بها . ويلزم المعتكف ما نواه من تتابع أو تفريق وقت الشّروع ، وهو حين دخوله فيه ، ولا يلزمه بنيّته فقط ، لأنّ النّيّة بمجرّدها لا توجب شيئاً .
والشّافعيّة قالوا : إنّ من نذر أن يعتكف شهراً فإن عيّن شهراً لزمه اعتكافه متتابعاً ليلاً ونهاراً ، سواء كان الشّهر تامّاً أو ناقصاً ، لأنّ الشّهر عبارة عمّا بين الهلالين ، تمّ أو نقص . وإن نذر اعتكاف نهار الشّهر لزمه النّهار دون اللّيل ، لأنّه خصّ النّهار فلم يلزمه الاعتكاف باللّيل ، فإن فاته الشّهر ولم يعتكف فيه لزمه قضاؤه ، ويجوز أن يقضيه متتابعاً ومتفرّقاً ، لأنّ التّتابع في أدائه بحكم الوقت ، فإذا فات سقط التّتابع في صوم رمضان . وإن نذر أن يعتكف متتابعاً لزمه قضاؤه متتابعاً ، لأنّ التّتابع هنا بحكم النّذر ، فلم يسقط بفوات الوقت .
وإن نذر اعتكاف شهر غير معيّن ، واعتكف شهراً بالأهلّة أجزأه ، تمّ الشّهر أو نقص ، لأنّ اسم الشّهر يقع عليه ، وإن اعتكف شهراً بالعدد لزمه ثلاثون يوماً ، لأنّ الشّهر بالعدد ثلاثون يوماً . فإنّ شرط التّتابع لزمه متتابعاً ، لقوله صلى الله عليه وسلم « مَنْ نَذَرَ وسمّى فعليه الوفاء بما سمّى » وإن شرط أن يكون متفرّقاً جاز أن يكون متفرّقاً ومتتابعاً ، لأنّ المتتابع أفضل من المتفرّق ، وإن أطلق النّذر جاز متفرّقاً ومتتابعاً ، كما لو نذر صوم شهر .
أمّا الحنابلة فقد ذهبوا إلى أنّ من نذر اعتكاف أيّام متتابعة يصومها فأفطر يوماً أفسد تتابعه ، ووجب عليه الاستئناف ، لإخلاله بالإتيان بما نذره على صفته .
وإن نذر اعتكاف شهر لزمه شهر بالأهلّة أو ثلاثون يوماً ، والتّتابع فيه على وجهين : أحدهما لا يلزمه ، والثّاني يلزمه ، وقال القاضي : يلزمه التّتابع قولاً واحداً ، لأنّه معنًى يحصل في اللّيل والنّهار ، فإذا أطلقه اقتضى التّتابع . ر : ( اعتكاف ) .
ما يقطع التّتابع في صيام الكفّارات :
ينقطع التّتابع في صوم الكفّارة بأمور ذكرها الفقهاء وهي :
أ - الفطر بإكراه أو نسيان ونحوهما :
9 - يرى الحنفيّة أنّ الإفطار بعذر أو بغير عذر يقطع التّتابع ، باستثناء عذر المرأة في الحيض ، ولم يفرّقوا في ذلك بين عذر المرض أو غيره ، وهو يتناول الإكراه .
وأمّا لو أكل ناسياً في كفّارة الظّهار فقد ذكر صاحب الفتاوى الهنديّة : أنّه لا يضرّ .
ولا يجزئ عن الكفّارة صيام تسعة وخمسين يوماً بغير اعتبار الأهلّة ، أمّا إذا صام شهرين باعتبار الأهلّة ، فإنّ صومه يصحّ حتّى ولو كان ثمانيةً وخمسين يوماً .
ويرى المالكيّة أنّ الفطر بالإكراه بمؤلم من قتل أو ضرب لا يقطع التّتابع ، ولا يقطعه أيضاً فطر من ظنّ بقاء اللّيل ، أو غروب الشّمس بخلاف الشّكّ في غروب الشّمس فإنّه يقطعه ، وكذا لا يقطع التّتابع عندهم فطر من صام تسعةً وخمسين يوماً ، ثمّ أصبح مفطراً ظانّاً الكمال . ولا يقطع التّتابع عندهم الأكل والشّرب ناسياً على المشهور ، ولا يقطعه جماع غير المظاهر منها نهاراً نسياناً ، أو ليلاً ولو عمداً .
وذكر الشّافعيّة : أنّ الإكراه على الأكل يبطل التّتابع ، بناءً على أنّ الإكراه عليه يبطل الصّوم على القول به ، لأنّه سبب نادر . هذا هو المذهب في الصّورتين ، كما جاء في الرّوضة ، وبه قطع الجمهور ، وجعلهما ابن كجّ كالمرض ، وكذا إذا استنشق فوصل الماء إلى دماغه ، ففي انقطاع التّتابع الخلاف ، بناءً على القول بأنّه يفطر ، وقال النّوويّ : لو أوجر الطّعام مكرهاً لم يفطر ولم ينقطع تتابعه ، قطع به الأصحاب في كلّ الطّرق .
وذكر الحنابلة أنّ التّتابع لا يقطع بالفطر بسبب الإكراه أو الخطأ أو النّسيان على الصّحيح من المذهب ، لحديث : « إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » لا إن أفطر لجهل فإنّه لا يعذر به ، وأمّا الّذي أفطر خطأً كمن ظنّ بقاء اللّيل أو الغروب فبان خلافه فلا ينقطع تتابع صيامه ، وأمّا الّذي أفطر على ظنّ تمام الشّهرين فبان خلافه فإنّه ينقطع تتابع صيامه ، أو ظنّ أنّ الواجب شهر واحد فأفطر ، أو أفطر ناسياً لوجوب التّتابع ، أو أفطر لغير عذر انقطع تتابع صيامه لقطعه إيّاه ، ولا يعذر بالجهل .
ب - الحيض والنّفاس :
10 - اتّفق الفقهاء على أنّ الحيض لا يقطع التّتابع في الكفّارة الّتي توجب صيام شهرين على المرأة ، ككفّارة القتل ، لأنّه لا بدّ منه فيهما ، ولأنّها لا يد لها فيه ، ولأنّه ينافي الصّوم ، وفي تأخير التّكفير إلى سنّ اليأس خطر ، إلاّ أنّ المتولّي من الشّافعيّة قال : إنّ المرأة إذا كانت لها عادة في الطّهر تسع صوم الكفّارة فصامت في غيرها ، أي في وقت يحدث فيه الحيض ، فإنّه يقطع التّتابع .
وأمّا تتابع صوم أيّام كفّارة اليمين ، فإنّ الحيض يقطعه ، بناءً على وجوب التّتابع فيها كما ذكر الحنفيّة ، والشّافعيّة على أحد القولين في وجوب تتابعها ، لقلّة أيّامها ، بخلاف الشّهرين . هذا ، وذكر النّوويّ في الرّوضة : أنّنا إذا أوجبنا التّتابع في كفّارة اليمين فحاضت في أثنائها ، ففي انقطاع تتابعها القولان في الفطر بالمرض في الشّهرين ، ويشبه أن يكون فيه طريق جازم بانقطاع التّتابع .
11 - أمّا النّفاس فإنّه يقطع التّتابع في صوم الكفّارة عند الحنفيّة ، وعلى مقابل الصّحيح الّذي حكاه أبو الفرج السّرخسيّ من الشّافعيّة لندرته ، ولإمكانها اختيار شهرين خاليين منه . وذهب المالكيّة والشّافعيّة على الصّحيح ، والحنابلة إلى : أنّ النّفاس لا يقطع التّتابع ، قياساً على الحيض ، ولأنّها لا يد لها فيه .
ت - دخول رمضان والعيدين وأيّام التّشريق :
12 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ دخول شهر رمضان وعيد الفطر أو عيد الأضحى وأيّام التّشريق يقطع صوم الكفّارة لوجوب صوم رمضان وحرمة صوم الباقي ، ولأنّ في استطاعته أن يجد شهرين ليس فيهما ما ذكر ، وهذا أيضاً هو ما ذهب إليه الشّافعيّة في صوم غير الأسير . وأمّا الأسير إذا صام باجتهاده ، فدخل عليه رمضان أو العيد قبل تمام الشّهرين ، ففي انقطاع تتابعه الخلاف في انقطاعه بإفطار المريض .
وأمّا المالكيّة فذكروا : أنّ تعمّد فطر يوم العيد يقطع تتابع صوم الكفّارة ، كما إذا تعمّد صوم ذي القعدة وذي الحجّة عن كفّارة ظهاره مع علمه بدخول العيد في أثنائه . بخلاف ما إذا جهله فإنّه لا يقطع ، كما إذا ظنّ أنّ شهر ذي الحجّة هو المحرّم ، فصامه مع ما بعده ظانّاً أنّه صفر ، فبان خلافه .
وجهل دخول رمضان عندهم كجهل العيد على الأرجح عند ابن يونس ، والمراد بجهل العيد كما في الخرشيّ : جهله في كونه يأتي في الكفّارة ، لا جهل حكمه ، خلافاً لأبي الحسن ، حيث ذكر أنّ المراد بالجهل جهل الحكم وهو أظهر . ومثل العيد عندهم اليومان بعده . وأمّا ثالث أيّام التّشريق فإنّ صومه يجزئ ، وفطره يقطع التّتابع اتّفاقاً ، كما جاء في الخرشيّ . وأمّا الحنابلة فذهبوا إلى أنّ صوم الكفّارة لا يقطع بذلك مطلقاً ، لوجوب صوم رمضان بإيجاب الشّرع ، ولأنّ فطر العيدين وأيّام التّشريق واجب أيضاً بإيجاب الشّرع ، أي إنّ ذلك الزّمن منعه الشّرع من صومه كاللّيل .
ث - السّفر :
13 - السّفر عند الحنفيّة والمالكيّة ، وقول عند الشّافعيّة : يقطع التّتابع إن أفطر فيه ، لأنّ الإفطار عندهم بعذر أو بغير عذر يقطعه . والقول الآخر للشّافعيّة : أنّه كالمرض .
والسّفر الّذي يباح فيه الفطر لا يقطع التّتابع عند الحنابلة .
ج – فطر الحامل والمرضع :
14 - فطر الحامل والمرضع عند الشّافعيّة ، كما جاء في الرّوضة خوفاً على الولد . قيل : هو كالمرض ، وقيل : يقطع قطعاً ، لأنّه فعل اختياريّ .
وأمّا الحنابلة فيرون أنّ فطر الحامل والمرضع خوفاً على أنفسهما أو ولديهما لا يقطع التّتابع ، لأنّه فطر أبيح لعذر عن غير جهتهما ، فأشبه المرض . وما ذهب إليه الحنفيّة - من أنّ الفطر بعذر أو بغير عذر يقطع التّتابع - والمالكيّة - من القول بقطعه بكلّ فعل اختياريّ ، كالسّفر مثلاً - مقتضاه قطع التّتابع بفطرهما خوفاً على أنفسهما أو ولديهما .
ح - المرض :
15 - المرض يقطع تتابع صوم الكفّارة عند الحنفيّة ، وعند الشّافعيّة في الأظهر ، وهو الجديد ، لأنّ الحنفيّة لم يفرّقوا بين الفطر بعذر مرض أو غيره في قطع التّتابع ، باستثناء المرأة في الحيض ، ولأنّ المرض كما ذكر الشّافعيّة لا ينافي الصّوم ، وإنّما قطعه باختياره . وذهب الشّافعيّة في القديم إلى أنّ المرض لا يقطع تتابع صوم الكفّارة ، لأنّه لا يزيد على أصل وجوب صوم رمضان ، وهو يسقط بالمرض . وهذا أيضاً هو ما ذهب إليه الحنابلة ، وإن كان المرض غير مخوف ، لأنّه لا يد له فيه كالحيض ، ومثله الجنون والإغماء .
خ - نسيان النّيّة في بعض اللّيالي :
16 - ذهب الشّافعيّة إلى أنّ نسيان النّيّة في بعض اللّيالي يقطع التّتابع كتركها عمداً ، ولا يجعل النّسيان عذراً في ترك المأمور به ، وهذا بناءً على وجوب اشتراطها في كلّ ليلة ، على مقابل الأصحّ عندهم . أمّا لو صام أيّاماً من الشّهرين ، ثمّ شكّ بعد فراغه من صوم يوم ، هل نوى فيه أم لا ؟ لم يلزمه الاستئناف على الصّحيح كما قال النّوويّ ، ولا أثر للشّكّ بعد الفراغ من اليوم ، ذكره الرّويانيّ في كتاب الحيض في مسائل المتحيّرة .
د - الوطء :
17 - اتّفق الفقهاء على أنّ المظاهر إذا وطئ من ظاهر منها في النّهار عامداً ، فإنّ فعله هذا يقطع التّتابع ، وأمّا إذا وطئها في اللّيل عامداً أو ناسياً ، أو وطئها في النّهار ناسياً ، ففيه الخلاف . فذهب أبو حنيفة ومحمّد إلى أنّ المظاهر إذا جامع الّتي ظاهر منها باللّيل عامداً أو بالنّهار ناسياً ، فإنّ ذلك يقطع التّتابع ، لأنّ الشّرط في الصّوم أن يكون خالياً من المسيس ، وقال أبو يوسف : إنّ التّتابع لا يقطع بذلك إذ لا يفسد به الصّوم ، وهو وإن كان تقديمه على المسيس شرطاً ، فإنّ فيما ذهبنا إليه تقديم البعض ، وفيما قلتم تأخير الكلّ عنه . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ وطء المظاهر منها يقطع التّتابع مطلقاً ، سواء أكان باللّيل أم بالنّهار ، وسواء أكان عالماً أو ناسياً أم جاهلاً أم غالطاً ، أو بعذر يبيح الفطر كسفر ، لقوله تعالى : { مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَماسَّا } .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ وطأه باللّيل لا يقطع التّتابع ، ويعتبر عاصياً . هذا ، ووطء غير المظاهر منها في النّهار عامداً يقطع التّتابع ، كما صرّح به صاحب العناية من الحنفيّة ، بخلاف ما لو وطئها باللّيل عامداً ، أو ناسياً ، أو بالنّهار ناسياً فإنّ ذلك لا يقطع التّتابع ، كما صرّح به الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، لأنّ ذلك غير محرّم عليه .
ومثل ذلك ما لو وطئها بسبب عذر يبيح الفطر كما صرّح به الحنابلة .
ذ - قضاء ما لم ينقطع به التّتابع :
18 - قال المالكيّة : إنّ تتابع صوم الكفّارة يقطعه تأخير قضاء الأيّام الّتي أفطرها في صيامه ، والّتي يجب عليه أن يقضيها متّصلةً بصيامه ، فإن أخّر قضاءها انقطع تتابع الصّوم . وشبّهوا ذلك بمن نسي شيئاً من فرائض الوضوء أو الغسل ، ثمّ تذكّره أثناءه فلم يغسله ، أي لم يأت به حين تذكّره فإنّه يبتدئ الطّهارة ، نسي ذلك أم تعمّده . بخلاف نسيان النّجاسة بعد تذكّرها قبل الصّلاة فإنّه لا يؤثّر لخفّتها .
ولم نجد لغير المالكيّة تصريحاً في هذه المسألة .
تترّس *
التّعريف :
1 - التّترّس في اللّغة : التّستّر بالتّرس ، والاحتماء به والتّوقّي به . وكذلك التّتريس ، يقال : تترّس بالتّرس ، أي توقّى وتستّر به . كما في حديث أنس بن مالك قال : « كان أبو طلحة يتترّس مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم بترس واحد » ويقال أيضاً : تترّس بالشّيء جعله كالتّرس وتستّر به ، ومنه : تترّس الكفّار بأسارى المسلمين وصبيانهم أثناء الحرب .
ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ عن هذا المعنى .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّحصّن :
2 - من معاني التّحصّن : الاحتماء بالحصن ، يقال : تحصّن العدوّ : إذا دخل الحصن واحتمى به ، فالتّحصّن نوع من التّستّر والتّوقّي أثناء الحرب .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز رمي الكفّار إذا تترّسوا بالمسلمين وأساراهم أثناء القتال أو حصارهم من قبل المسلمين ، إذا دعت الضّرورة إلى ذلك ، بأن كان في الكفّ عن قتالهم انهزام للمسلمين ، والخوف على استئصال قاعدة الإسلام . ويقصد بالرّمي الكفّار .
ولكن إذا لم تدع ضرورة إلى رميهم لكون الحرب غير قائمة ، أو لإمكان القدرة عليهم بدونه ، فلا يجوز رميهم عند الشّافعيّة والحنابلة ، وهو قول الحسن بن زياد من الحنفيّة .
ويجوز عند الحنفيّة - ما عدا الحسن بن زياد - لأنّ في الرّمي دفع الضّرر العامّ بالدّفع عن مجتمع الإسلام ، إلاّ أنّه على الرّامي ألاّ يقصد بالرّمي إلاّ الكفّار .
وذهب المالكيّة إلى أنّهم يقاتلون ، ولا يقصدون المتترّس بهم ، إلاّ إذا كان في عدم رمي المتترّس بهم خوف على أكثر الجيش المقاتلين للكفّار ، فتسقط حرمة التّرس ، سواء أكان عدد المسلمين المتترّس بهم أكثر من المجاهدين أم أقلّ ، وكذلك لو تترّسوا بالصّفّ ، وكان في ترك قتالهم انهزام للمسلمين .
وعلى هذا فإن أصيب أحد من المسلمين نتيجة الرّمي وقتل ، وعلم القاتل ، فلا دية ولا كفّارة عند الحنفيّة ، لأنّ الجهاد فرض ، والغرامات لا تقرن بالفرائض ، خلافاً للحسن بن زياد ، فإنّه يقول بوجوب الدّية والكفّارة .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ فيه الكفّارة قولاً واحداً . أمّا الدّية ففيها عنهم قولان .
فعند الشّافعيّة : إن علمه الرّامي مسلماً ، وكان يمكن توقّيه والرّمي إلى غيره لزمته الدّية ، وإن لم يتأتّ رمي الكفّار إلاّ برمي المسلم فلا .
وكذلك عند الحنابلة : تجب الدّية في رواية لأنّه قتل مؤمناً خطأً ، وفي رواية أخرى : لا دية لأنّه قتل في دار الحرب برمي مباح .
4 - وإن تترّس الكفّار بذراريّهم ونسائهم فيجوز رميهم مطلقاً عند الحنفيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة ، ويقصد بالرّمي المقاتلين ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رماهم بالمنجنيق ومعهم النّساء والصّبيان » . ولا فرق في جواز الرّمي بين ما إذا كانت الحرب ملتحمةً وما إذا كانت غير ملتحمة ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحيّن بالرّمي حال التحام الحرب . وذهب المالكيّة والشّافعيّة : إلى أنّه لا يجوز رميهم ، إلاّ إذا دعت الضّرورة ويتركون عند عدم الضّرورة ، ويكون ترك القتال عند عدم الضّرورة واجباً في الأظهر عند الشّافعيّة ، لكنّ المعتمد ما جاء في الرّوضة وهو : جوازه مع الكراهة .
وقد فصّل الفقهاء أحكام التّترّس في باب الجهاد : عند الحديث عن كيفيّة القتال ، وبيان المكروهات والمحرّمات والمندوبات في الغزو .
تتريب *
التّعريف :
1 - التّتريب : مصدر ترّب ، يقال : ترّبت الشّيء تتريباً فتترّب ، أي لطّخته فتلطّخ بالتّراب . وأتربت الشّيء : جعلت عليه التّراب ، وترّبت الكتاب تتريباً ، وترّبت القرطاس فأنا أترّبه ، أي أضع عليه التّراب ليمتصّ ما زاد من الحبر .
وعلى هذا ، فتتريب الشّيء لغةً واصطلاحاً : جعل التّراب عليه .
الحكم الإجماليّ :
2 - استعمال التّراب في التّطهير من نجاسة الكلب :
التّراب الطّاهر قد يستعمل في التّطهير ، كما إذا ولغ الكلب في إناء ، فإنّه كي يطهر هذا الإناء يجب غسله سبعاً إحداهنّ بالتّراب ، هذا عند الحنابلة والشّافعيّة ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا وَلَغَ الكلبُ في إناء أحدكم فَلْيغسله سبعاً » متّفق عليه ، زاد مسلم « أولاهنّ بالتّراب » . ولما روى عبد اللّه بن مغفّل أنّه عليه الصلاة والسلام قال : « إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرّات ، وعَفِّروه الثّامنةَ بالتّراب » .
والمستحبّ أن يجعل التّراب في الغسلة الأولى ، لموافقته لفظ الخبر ، أو ليأتي الماء عليه بعده فينظّفه . ومتى غسل به أجزأه ، لأنّه روي في حديث : « إحداهنّ بالتّراب » وفي حديث : « أولاهنّ » وفي حديث : « في الثّامنة » فيدلّ على أنّ محلّ التّراب من الغسلات غير مقصود . فإن جعل مكان التّراب غيره من الأشنان والصّابون ونحوهما ، أو غسله غسلةً ثامنةً ، فالأصحّ أنّه لا يجزئ ، لأنّه طهارة أمر فيها بالتّراب تعبّداً ، ولذا لم يقم غيره مقامه . ولبعض الحنابلة : يجوز العدول عن التّراب إلى غيره عند عدم التّراب ، أو إفساد المحلّ المغسول به . فأمّا مع وجوده وعدم الضّرر فلا . وهذا قول ابن حامد .
وعند المالكيّة : يندب غسل الإناء سبعاً بولوغ الكلب فيه ، بأن يدخل فمه في الماء ويحرّك لسانه فيه ، ولا تتريب مع الغسل بأن يجعل في الأولى ، أو الأخيرة ، أو إحداهنّ . لأنّ التّتريب لم يثبت في كلّ الرّوايات ، وإنّما ثبت في بعضها ، وذلك البعض الّذي ثبت فيه ، وقع فيه اضطراب . وللحنفيّة قول بغسله ثلاثاً ، لحديث « يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثاً » . وقولٌ بغسله ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً . لما روى الدّارقطنيّ عن الأعرج عن أبي هريرة « عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الكلب ، يلغ في الإناء أنّه يغسله ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً » وورد في حاشية الطّحطاويّ على مراقي الفلاح : يندب التّسبيع وكون إحداهنّ بالتّراب .
تتن *
انظر : تبغ .
تثاؤب *
التّعريف :
1 - التّثاؤب : ( بالمدّ ) : فترة تعتري الشّخص فيفتح عندها فمه .
والمعنى الاصطلاحيّ في هذا لا يخرج عن المعنى اللّغويّ .
حكمه التّكليفيّ :
2 - صرّح العلماء بكراهة التّثاؤب . فمن اعتراه ذلك ، فليكظمه ، وليردّه قدر الطّاقة . لقوله صلى الله عليه وسلم : « فليردّه ما استطاع » كأن يطبق شفتيه أو نحو ذلك . فإذا لم يستطع وضع يده على فمه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا تثاءب أحدكم فلْيُمْسك بيده على فمه ، فإنّ الشّيطانَ يَدْخُلُ » ويقوم مقام اليد كلّ ما يستر الفم كخرقة أو ثوب ممّا يحصل به المقصود . ثمّ يخفض صوته ولا يعوي ، لما رواه ابن ماجه من طريق عبد اللّه بن سعيد المقبريّ عن أبيه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه ، ولا يعوي ، فإنّ الشّيطان يضحك منه » ثمّ يمسك عن التّمطّي والتّلوّي الّذي يصاحب بعض النّاس ، لأنّه من الشّيطان . وقد روي : « أنّه صلى الله عليه وسلم كان لا يتمطّى ، لأنّه من الشّيطان » .
التّثاؤب في الصّلاة :
3 - التّثاؤب في الصّلاة مكروه ، لخبر مسلم : « إذا تثاءب أحدكم في الصّلاة فليكظمه ما استطاع ، فإنّ الشّيطان يدخل منه » ، وهذا إذا أمكن دفعه ، فإذا لم يمكن دفعه فلا كراهة ، ويغطّي فمه بيده اليسرى ، وقيل : بإحدى يديه . وهو رأي الحنفيّة والشّافعيّة . ولا شيء فيه عند المالكيّة والحنابلة ، ويندب كظم التّثاؤب في الصّلاة ما استطاع ، فإذا لم يستطع وضع يده على فمه للحديث .
التّثاؤب في قراءة القرآن :
4 - ذكر الفقهاء من آداب قراءة القرآن ألاّ يقرأ القرآن في حال شغل قلبه وعطشه ونعاسه ، وأن يغتنم أوقات نشاطه ، وإذا تثاءب ينبغي أن يمسك عن القراءة حتّى ينقضي التّثاؤب ، ثمّ يقرأ ، لئلاّ يتغيّر نظم قراءته ، قال مجاهد : وهو حسن ويدلّ عليه ما ثبت عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فمه ، فإنّ الشّيطان يدخل » .
تثبّت *
التّعريف :
1 - التّثبّت لغةً : هو التّأنّي في الأمر والرّأي .
واصطلاحاً : تفريغ الوسع والجهد لمعرفة حقيقة الحال المراد .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّحرّي :
2 - التّحرّي لغةً : القصد والطّلب .
واصطلاحاً : طلب الشّيء بغالب الرّأي عند تعذّر الوقوف على الحقيقة .
الحكم الإجماليّ :
للتّثبّت أحكام كثيرة منها :
أ - التّثبّت من استقبال القبلة في الصّلاة :
3 - لا خلاف في أنّ من شروط صحّة الصّلاة استقبال القبلة ، لقوله تعالى : { فولِّ وجهَك شطرَ المسجد الحرام وحيثما كنتم فوَلُّوا وجوهَكم شطرَه } ( أي جهته ) ويستثنى من ذلك أحوال لا يشترط فيها الاستقبال ، كصلاة الخوف ، والمصلوب ، والغريق ، ونفل السّفر المباح وغيرها . ( ر : استقبال القبلة ) .
ب - التّثبّت في شهادة الشّهود :
4 - ينبغي للقاضي أن يتثبّت في شهادة الشّهود ، وذلك بالسّؤال عنهم سرّاً أو علانيةً ، وهذا إذا لم يعلم بعدالتهم ، لأنّ القاضي مأمور بالتّفحّص عن العدالة . ( ر : تزكية ) .
ج - التّثبّت من رؤية هلال شهر رمضان :
5 - يستحبّ التّثبّت من رؤية هلال شهر رمضان ليلة الثّلاثين من شعبان لتحديد بدئه ، ويكون ذلك بأحد أمرين :
الأوّل : رؤية هلاله ، إذا كانت السّماء خاليةً ممّا يمنع الرّؤية من غيم أو غبار ونحوهما . الثّاني : إكمال شعبان ثلاثين يوماً ، إذا كانت السّماء غير خالية ممّا ذكر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غبّي عليكم فأكملوا عدّةَ شعبان ثلاثين » وبهذا أخذ الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهي رواية عن أحمد .
وخالف الحنابلة في حال الغيم ، فأوجبوا اعتبار شعبان تسعةً وعشرين ، وأوجبوا صيام يوم الثّلاثين على أنّه من أوّل رمضان ، عملاً بلفظ آخر ورد في حديث آخر وهو : « لا تصوموا حتّى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتّى تروه ، فإن غمّ عليكم فاقدروا له »
أي : احتاطوا له بالصّوم . ( ر : أهلّة ) .
د - التّثبّت من كلام الفسّاق :
6 - يجب التّثبّت ممّا يأتي به الفسّاق من أنباء ، لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبيّنوا أنْ تصيبوا قوماً بِجَهالة فَتُصبحوا على ما فعلتم نادمين } وقد قرئ { فتثبّتوا } بدلاً من{ تبيّنوا } والمراد بالتّبيّن : التّثبّت ، قيل : إنّ هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة ، وسبب ذلك ما رواه سعيد عن قتادة : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة مصدّقاً إلى بني المصطلق ، فلمّا أبصروه أقبلوا نحوه ، فهابهم ، فرجع إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره أنّهم قد ارتدّوا عن الإسلام ، فبعث نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يتثبّت ولا يعجل . فانطلق خالد حتّى أتاهم ليلاً ، فبعث عيونه فلمّا جاءوا أخبروا خالداً أنّهم متمسّكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلمّا أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحّة ما ذكر عيونه ، فعاد إلى نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فنزلت الآية » ، وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « التّأنّي من اللّه ، والعجلة من الشّيطان » .
تثليث *
التّعريف :
1 - التّثليث : مصدر ثلّث ، ويختلف معناه في اللّغة باختلاف مواضع استعماله ، يقال : ثلّث الشّيء : جزّأه وقسّمه ثلاثة أقسام ، وثلّث الزّرع : سقاه الثّالثة ، وثلّث الشّراب : طبخه حتّى ذهب ثلثه أو ثلثاه ، وثلّث الاثنين : صيّرهما ثلاثةً بنفسه . أمّا في اصطلاح الفقهاء : فيطلقونه على تكرار الأمر ثلاث مرّات ، وعلى العصير الّذي ذهب بالطّبخ ثلثه أو ثلثاه .
الحكم الإجماليّ :
يختلف حكم التّثليث باختلاف مواطنه على النّحو التّالي :
أ - التّثليث في الوضوء :
2 - يسنّ التّثليث في الوضوء عند الأئمّة الثّلاثة ، وهو رواية عن المالكيّة ، وذلك بتكرار غسل الوجه واليدين والرّجلين إلى ثلاث مرّات مستوعبات . وهو مستحبّ في المشهور من مذهب المالكيّة . وقيل : الغسلة الثّانية سنّة ، والثّالثة فضيلة ، وقيل : العكس . أمّا الرّجلان ففي تثليث غسلهما في الوضوء عند المالكيّة قولان مشهوران :
الأوّل : أنّ الرّجلين كالوجه واليدين ، فتغسل كلّ واحدة ثلاثاً وهو المعتمد .
والقول الثّاني : أنّ فرض الرّجلين في الوضوء الإنقاء من غير تحديد .
ولا يسنّ التّثليث في مسح الرّأس عند الحنفيّة ، وفي الصّحيح من مذهب الحنابلة ، وأمّا عند المالكيّة فقيل : ردّ اليدين ثالثةً في مسح الرّأس لا فضيلة فيه ، وذهب أكثر علمائهم إلى أنّ ردّ اليدين ثالثةً فضيلة إذا كان في اليدين بلل ، ولا يستأنف الماء للثّانية ولا للثّالثة .
وذهب الشّافعيّة ، والحنابلة في رواية إلى أنّ التّثليث يسنّ في مسح الرّأس ، بل يسنّ التّثليث عند الشّافعيّة في المسح على الجبيرة ، والعمامة ، وفي السّواك ، والتّسمية ، وكذا في باقي السّنن إلاّ في المسح على الخفّ ، وكذا تثليث النّيّة في قول لبعض الشّافعيّة . وذهب ابن سيرين إلى مسح الرّأس مرّتين .
والأصل فيما ذكر ، ما رواه ابن عبّاس رضي الله عنهما ، قال : « توضّأ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مرّةً مرّةً » أخرجه البخاريّ . وروى عثمان رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « توضّأ ثلاثاً ثلاثاً » .
ثمّ الزّيادة على الثّلاث المستوعبة مع اعتقاد سنّيّة الثّلاث لا بأس بها عند الحنفيّة في رواية . والصّحيح عند الأئمّة الثّلاثة ، وهو رواية عن الحنفيّة : أنّها تكره .
ب - التّثليث في الغسل :
3 - يسنّ التّثليث في الغسل عند الأئمّة الثّلاثة كالوضوء ، فيغسل رأسه ثلاثاً ، ثمّ شقّه الأيمن ثلاثاً ، ثمّ شقّه الأيسر ثلاثاً .
وذهب المالكيّة إلى أنّ التّثليث مستحبّ في الغسل ، وإن لم تكف الثّلاث زاد إلى الكفاية . والأصل في هذا الباب ، ما روته عائشة رضي الله تعالى عنها « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ثلاثاً ، وتوضّأ وضوءه للصّلاة ، ثمّ يخلّل شعره بيده ، حتّى إذا ظنّ أنّه قد روى بشرته أفاض الماء عليه ثلاث مرّات ، ثمّ غسل سائر جسده » .
ج - التّثليث في غسل الميّت :
4 - يستحبّ التّثليث في غسل الميّت عند الأئمّة الثّلاثة ، ويسنّ عند الحنفيّة ، واتّفقوا على جواز الزّيادة عليه ، لأنّ المقصود في غسل الميّت النّظافة والإنقاء ، فإن لم يحصل التّنظيف بالغسلات الثّلاث زيد عليها حتّى يحصل ، مع جعل الغسلات وتراً .
والأصل فيما ذكر ، خبر الشّيخين : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لغاسلات ابنته زينب رضي الله تعالى عنها : ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها ، واغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً ، أو أكثر من ذلك إن رأيتنّ ذلك بماء وسدر ، واجعلن في الآخرة كافوراً ، أو شيئاً من كافور » . وكذا يستحبّ التّثليث ، وتجوز الزّيادة عليه عند جمهور الفقهاء في تجمير الميّت وكفن الميّت ، والميّت عند موته ، وسريره الّذي يوضع فيه .
والأصل فيما ذكر ، ما روي عنه عليه الصلاة والسلام « إذا أجمرتم الميّت فأجمروه ثلاثاً » . وفي لفظ « فأوتروا » . وفي لفظ البيهقيّ : « جمِّروا كفن الميّت ثلاثاً » .
د - التّثليث في الاستجمار والاستبراء :
5 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الواجب في الاستجمار الإنقاء دون العدد . ومعنى الإنقاء هنا هو إزالة عين النّجاسة وبلّتها ، بحيث يخرج الحجر نقيّاً ، وليس عليه أثر إلاّ شيئاً يسيراً . وأمّا التّثليث فمستحبّ عندهم وإن حصل الإنقاء باثنين ، بينما يشترط الشّافعيّة والحنابلة في الاستجمار أمرين : الإنقاء وإكمال الثّلاثة ، أيّهما وجد دون صاحبه لم يكف ، والحجر الكبير الّذي له ثلاث شعب يقوم مقام ثلاثة أحجار .
كذلك قال جمهور الفقهاء : بأنّه يستحبّ نتر الذّكر ثلاثاً بعد البول لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاثاً » .
وتفصيل أحكام الاستجمار والاستبراء في مصطلحي ( استنجاء ) و( استبراء ) .
هذا ، ويستحبّ التّثليث عند جمهور الحنفيّة في غسل النّجاسات غير المرئيّة ، وكذلك إزالة النّجاسات المرئيّة عند بعض الحنفيّة ، وهو رواية عن الحنابلة .
وأمّا المالكيّة والشّافعيّة ، والحنابلة في رواية فلا يشترطون العدد فيما سوى نجاسة ولوغ الكلب . ونجاسة الخنزير كنجاسة الكلب في ذلك عند الشّافعيّة والحنابلة .
هـ – التّثليث في تسبيحات الرّكوع والسّجود :
6 – يسنّ التّثليث عند الأئمّة الثّلاثة في تسبيح الرّكوع ، وهو " سبحان ربّي العظيم " . وتسبيح السّجود ، وهو " سبحان ربّي الأعلى " . وتستحبّ عندهم الزّيادة على الثّلاث بعد أن يختم على وتر ، خمس ، أو سبع ، أو تسع عند الحنفيّة والحنابلة ، أو إحدى عشرة عند الشّافعيّة . هذا إذا كان منفرداً ، وأمّا الإمام فلا ينبغي له أن يطوّل على وجه يملّ القوم ، وعند الشّافعيّة تكره للإمام الزّيادة على الثّلاث .
والأصل في هذا ما رواه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه : سبحان ربّي العظيم ثلاثاً فقد تمّ ركوعه ، وذلك أدناه . ومن قال في سجوده : سبحان ربّي الأعلى ثلاثاً فقد تمّ سجوده ، وذلك أدناه » . وأمّا عند المالكيّة فيندب التّسبيح في الرّكوع والسّجود بأيّ لفظ كان ، ولم يحدّوا فيه حدّاً ، ولا دعاءً مخصوصاً .
و - التّثليث في الاستئذان :
7 - إذا استأذن شخص على آخر وظنّ أنّه لم يسمع ، فاتّفق الفقهاء على جواز التّثليث ، ويسنّ عدم الزّيادة على الثّلاث عند الأئمّة الثّلاثة .
وقال الإمام مالك : له الزّيادة على الثّلاث حتّى يتحقّق من سماعه .
وأمّا إذا استأذن فتحقّق أنّه لم يسمع ، فاتّفقوا على جواز الزّيادة على الثّلاث وتكرير الاستئذان حتّى يتحقّق إسماعه .
تثنية *
التّعريف :
1 - التّثنية في اللّغة مصدر : ثنّى ، يقال : ثنّيت الشّيء : إذا جعلته اثنين ، ويأتي أيضاً بمعنى الضّمّ ، فإذا فعل الرّجل أمراً ثمّ ضمّ إليه آخر قيل : ثنّى بالأمر الثّاني .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ للفظ تثنية عمّا ورد في اللّغة .
مواطن البحث :
2 - وردت التّثنية في الأذان ، والإقامة ، وفي صلاة النّفل ، ومنها الرّواتب مع الفرائض ، وفي صلاة اللّيل ، لخبر : « صلاة اللّيل مثنى مثنى » . وفي العقيقة للذّكر ، والشّهادة في أغلب الأمور كالنّكاح ، والطّلاق ، والإسلام ، والموت ، وتفصيل كلّ في موطنه .
تثويب *
التّعريف :
1 - التّثويب : مصدر ثوّب يثوب ، وثلاثيّه ثاب يثوب ، بمعنى : رجع ، ومنه قوله تعالى : { وإذْ جعلْنا البيتَ مَثابةً للنّاس وأَمْناً } أي مكاناً يرجعون إليه . ومنه قولهم : ثاب إلى فلان عقله : أي رجع . ومنه أيضاً : الثّواب ، لأنّ منفعة عمل الشّخص تعود إليه .
والتّثويب : بمعنى ترجيع الصّوت وترديده ، ومنه التّثويب في الأذان .
والتّثويب في الاصطلاح : العود إلى الإعلام بالصّلاة بعد الإعلام الأوّل بنحو : " الصّلاة خير من النّوم " أو " الصّلاة الصّلاة " أو " الصّلاة حاضرة " أو نحو ذلك بأيّ لسان كان ، وقد كانت تسمّى تثويباً في العهد النّبويّ وعهد الصّحابة . لأنّ فيه تكريراً لمعنى الحيعلتين ، أو لأنّه لمّا حثّ على الصّلاة بقوله : حيّ على الصّلاة ، ثمّ قال : حيّ على الفلاح ، عاد إلى الحثّ على الصّلاة بقوله : " الصّلاة خير من النّوم " .
وللتّثويب عند الفقهاء ثلاثة إطلاقات :
أ - التّثويب القديم ، أو التّثويب الأوّل ، وهو : زيادة " الصّلاة خير من النّوم " في أذان الفجر .
ب - التّثويب المحدث وهو : زيادة حيّ على الصّلاة ، حيّ على الفلاح ، أو عبارة أخرى . حسب ما تعارفه أهل كلّ بلدة بين الأذان والإقامة .
ج - ما كان يختصّ به بعض من يقوم بأمور المسلمين ومصالحهم من تكليف شخص بإعلامهم بوقت الصّلاة ، فذلك الإعلام أو النّداء يطلق عليه أيضاً ( تثويب ) .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - النّداء :
2 - النّداء بمعنى : الدّعاء ورفع الصّوت بما له معنًى .
ب - الدّعاء :
3 - الدّعاء بمعنى : الطّلب ، ويكون برفع الصّوت وخفضه ، كما يقال : دعوته من بعيد ، ودعوت اللّه في نفسي . فهو أعمّ من النّداء والتّثويب .
ج - التّرجيع :
4 - يقال : رجّع في أذانه إذا أتى بالشّهادتين مرّةً خفضاً ومرّةً رفعاً ، فالتّثويب والتّرجيع يتّفقان في العود والتّكرير ، ولكنّهما يختلفان في أنّ محلّ التّثويب وهو قول المؤذّن : " الصّلاة خير من النّوم " في أذان الفجر عند أكثر الفقهاء ، أمّا التّرجيع بمعنى تكرار الشّهادتين فذلك في الأذان لجميع الصّلوات عند من يقول به .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
5 - يختلف الحكم الإجماليّ للتّثويب باختلاف إطلاقاته وباختلاف أوقات الصّلاة .
أمّا التّثويب في القديم ، أو التّثويب الأوّل ، وهو زيادة عبارة : " الصّلاة خير من النّوم " مرّتين بعد الحيعلتين في أذان الفجر أو بعده ( على الأصحّ عند بعض الحنفيّة ) فسنّة عند جميع الفقهاء ، وجائزة في العشاء عند بعض الحنفيّة وبعض الشّافعيّة .
وأجازه بعض الشّافعيّة في جميع الأوقات .
أمّا عند المالكيّة والحنابلة فمكروه في غير الفجر ، وهو المذهب عند الحنفيّة والشّافعيّة .
التّثويب في أذان الفجر :
6 - من المقرّر عند الفقهاء - عدا أبي حنيفة ومحمّد بن الحسن - أنّ المشروع للفجر أذانان : أحدهما قبل وقتها والثّاني عند وقتها . وقد قال النّوويّ : ظاهر إطلاق الأصحاب أنّه يشرع في كلّ أذان للصّبح سواء ما قبل الفجر وبعده . وقال البغويّ في التّهذيب : إن ثوّب في الأذان الأوّل لم يثوّب في الثّاني في أصحّ الوجهين . ومن مراجعة كتب بقيّة الفقهاء القائلين بمشروعيّة أذانين للفجر تبيّن أنّهم لم يصرّحوا بأنّ التّثويب يشرع في الأذان الأوّل أو الثّاني أو في كليهما ، فالظّاهر أنّه يكون في الأذانين كما استظهر النّوويّ .
7- وأمّا التّثويب المحدث وهو الّذي استحدثه علماء الكوفة من الحنفيّة ، وهو زيادة عبارة " حيّ على الصّلاة ، حيّ على الفلاح مرّتين " بين الأذان والإقامة في الفجر أو زيادة عبارة بحسب ما يتعارفه أهل كلّ بلدة بالتّنحنح أو " الصّلاة الصّلاة " أو " قامت ، قامت " أو غير ذلك فمستحسن عند متقدّمي الحنفيّة في الفجر فقط ، إلاّ أنّ المتأخّرين منهم استحسنوه في الصّلوات كلّها . وأمّا تخصيص من يقوم بأمور المسلمين ومصالحهم كالإمام ونحوه بتكليف شخص ليقوم بإعلامه بوقت الصّلاة فجائز عند أبي يوسف من الحنفيّة ، وهو قول للشّافعيّة وبعض المالكيّة ، وكذلك عند الحنابلة إن لم يكن الإمام ونحوه قد سمع الأذان وكرهه محمّد بن الحسن وبعض المالكيّة .
تجارة *
التّعريف :
1 - التّجارة في اللّغة والاصطلاح : هي تقليب المال ، أي بالبيع والشّراء لغرض الرّبح . وهي في الأصل : مصدر دالّ على المهنة ، وفعله تجر يتجر تجراً وتجارةً .
دليل مشروعيّة التّجارة :
2 - الأصل في التّجارة : قوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالَكم بينكم بالباطلِ إلاّ أن تكونَ تجارةً عن تراضٍ منكم } وقوله تعالى : { فإذا قُضيتِ الصّلاةُ فانتشروا في الأرضِ وابْتَغُوا من فضلِ اللّهِ } . وقوله صلى الله عليه وسلم : « التّاجرُ الأمينُ الصّدوقُ مع النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء » .
3 - وأجمع المسلمون على جواز التّجارة في الجملة ، وتقتضيه الحكمة ، لأنّ النّاس يحتاج بعضهم إلى ما في أيدي بعض ، وهذه سنّة الحياة ، وتشريع التّجارة وتجويزها هو الطّريق إلى وصول كلّ واحد منهم إلى غرضه ، ودفع حاجته .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - البيع :
4 - البيع : مبادلة مال بمال تمليكاً وتملّكاً . أمّا التّجارة فهي : عبارة عن شراء الشّخص شيئاً ليبيعه بالرّبح . فالفرق بينهما قصد الاسترباح في التّجارة ، سواء تحقّق أم لا .
ب - السّمسرة :
5 - السّمسرة لغةً : هي التّجارة ، قال الخطّابيّ : السّمسار لفظ أعجميّ ، وكان كثير ممّن يعالج البيع والشّراء فيهم عجماً ، فتلقّوا هذا الاسم عنهم ، « فغيّره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى التّجارة الّتي هي من الأسماء العربيّة » .
والسّمسرة اصطلاحاً : هي التّوسّط بين البائع والمشتري ، والسّمسار هو : الّذي يدخل بين البائع والمشتري متوسّطاً لإمضاء البيع ، وهو المسمّى الدّلّال ، لأنّه يدلّ المشتري على السّلع ، ويدلّ البائع على الأثمان .
الحكم التّكليفيّ :
6 - التّجارة من المهن المعيشيّة ، الّتي يمارسها الإنسان بغرض الكسب ، وهو كسب مشروع لأنّه يسدّ حاجات المجتمع فتدخل أصالةً في دائرة الإباحة ، وقد تطرأ عليها سائر الأحكام التّكليفيّة : كالوجوب ، والحرمة ، والكراهة إلخ . حسب الظّروف والملابسات الّتي تصادفها . ويعني الفقهاء بالأحكام المتّصلة بالتّجارة ( بالإضافة إلى كتب الفقه الأساسيّة ) بما يوردونه في كتب الحسبة ، وكتب الآداب الشّرعيّة وكتب الفتاوى ، وخصّها بعضهم بالتّأليف كالسّرخسيّ في كتابه " الاكتساب في الرّزق المستطاب " وأبو بكر الخلّال في " كتاب التّجارة " . وقد استحدثت أوضاع وتنظيمات تجاريّة يعرف حكمها ممّا وضعه الفقهاء من قواعد عامّة وما تعرّضوا إليه من أحكام .
كما يتناول الفقهاء بعض أحكام خاصّة بمال التّجارة في باب زكاة العروض ، كوجوب الزّكاة فيما لا تجب فيه زكاة لو لم يكن للتّجارة ، كالبزّ والعقارات ، وتغيّر النّوع المخرج وقدره فيما كان زكويّاً من المال في الأصل إذا صار للتّجارة ، كالنّعم والمعشّرات . وترد بعض أحكام للتّجارة في المضاربة والشّركات الأخرى .
فضل التّجارة :
7 - التّجارة من أفضل طرق الكسب ، وأشرفها إذا توقّى التّاجر طرق الكسب الحرام والتزم بآدابها . جاء في الأثر : « سئل النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أيّ الكسب أطيب ؟ فقال : عمل الرّجل بيده وكلّ بيع مبرور » قال الشّرقاويّ في حاشيته : قوله : « وكلّ بيع مبرور » إشارةً إلى التّجارة .
المحظورات في التّجارة :
8 - يحرم في التّجارة جميع أنواع الغشّ والخداع ، وترويج السّلعة باليمين الكاذبة . فعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه أنّه قال : « خرجت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المصلّى ، فرأى النّاس يتبايعون فقال : يا معشر التّجّار فاستجابوا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه ، فقال : إنّ التّجّار يبعثون يوم القيامة فجّاراً ، إلاّ من اتّقى اللّه وبرّ وصَدَقَ » .
وعن أبي ذرّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « ثلاثة لا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، ولا يزكّيهم ، ولهم عذاب أليم ، قلت : من هم يا رسول اللّه ؟ فقد خسروا وخابوا : قال : المنّان ، والمسبل إزاره ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب » .
9- ومن المحظورات تلقّي الجلب : وهو أن يستقبل الحضريّ البدويّ ، قبل وصوله إلى السّوق ليشتري منه سلعته بأقلّ من الثّمن ، والتّفصيل في مصطلح ( تلقّي الرّكبان ) .
10 - ومنها الاحتكار : لحديث : « الجالب مرزوق ، والمحتكر ملعون » . وحديث : « لا يحتكر إلاّ خاطئ » وللتّفصيل ينظر مصطلح ( احتكار ) .
11 - ومنها : سَوْم المرء على سوم أخيه : وهو أن يتفاوض المتبايعان في ثمن السّلعة ، ويتقارب الانعقاد ، فيجيء آخر يريد أن يشتري تلك السّلعة ويخرجها من يد الأوّل بزيادة على ذلك الثّمن .
12 - ومنها : المتاجرة مع العدوّ بما فيه تقويتهم على حربنا كالسّلاح والحديد ، ولو بعد صلح ، لأنّه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك . ويجوز المتاجرة معهم بغير ذلك ، إذا لم يكن المسلمون في حاجة إليه .
آداب التّجارة :
13 - من آداب التّجارة : السّماحة في المعاملة ، واستعمال معالي الأخلاق ، وترك المشاحة والتّضييق على النّاس بالمطالبة .
والآثار الواردة في ذلك كثيرة ، منها حديث جابر بن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « رحم اللّه رجلاً سَمْحاً إذا باع ، وإذا اشترى ، وإذا اقتضى » وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « غفر اللّه لرجل كان قبلكم سَهْلاً إذا باع ، سَهْلاً إذا اشترى ، سَهْلاً إذا اقتضى » .
14 - ومن آدابها : ترك الشّبهات كالاتّجار في سوق يختلط الحرام فيه بالحلال ، وكالتّعامل مع من أكثر ماله حرام ، لحديث : « الحلال بَيّنٌ ، والحرام بيّن ، وبَيْنَ ذلك أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من النّاس : أمن الحلال هي أم من الحرام ؟ ، فمن تركها فقد استبرأ لدينه وعرضه » .
15 - ومنها : تحرّي الصّدق والأمانة . جاء في الأثر « التّاجر الأمين الصّدوق مع النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء » .
16 - ومنها : التّصدّق من مال التّجارة لحديث : « إنّ الشّيطان والإثم يحضران البيع ، فشوبوا بيعكم بالصّدقة ، فإنّها تطفئ غضب الرّبّ » .
17 - ومنها : التّبكير بالتّجارة . روى صخر الغامديّ قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اللّهمّ بارك لأمّتي في بكورها » وقيل : إنّ صخراً كان رجلاً تاجراً ، وكان إذا بعث تجّاره بعثهم أوّل النّهار ، فأثرى وكثر ماله .
وجوب الزّكاة في مال التّجارة :
18 - تجب الزّكاة في مال التّجارة . ومال التّجارة : كلّ ما قصد الاتّجار به عند اكتساب الملك بمعاوضة إذا حال عليه الحول ، وبه قال فقهاء المدينة السّبعة ، والحسن وجابر بن ميمون وطاوس والثّوريّ والنّخعيّ ، والأوزاعيّ وأبو عبيد وإسحاق ، وأصحاب الرّأي ، والشّافعيّ في القول الجديد .
وفصّل المالكيّة بين التّاجر المدير ( وهو من يبيع بالسّعر الواقع ويخلف بغيره ، كأرباب الحوانيت ) فإنّه يزكّي كلّ حول ، وبين التّاجر المحتكر وهو من يرصد بعرض التّجارة السّوق لترتفع الأثمان . فهذا لا زكاة على تجارته إلاّ بالتّنضيض ( تحوّل السّلعة إلى نقد ) ولو بقيت عنده سنين .
واستدلّ الجمهور بحديث : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : يأمرنا أن نخرج الصّدقة ممّا نعدّه للبيع » . وخبر : « وفي البزّ صدقة » . ولا خلاف في أنّها لا تجب في عينه ، فثبت أنّها تجب في قيمته ، ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ الحول والنّصاب معتبران في وجوب زكاة التّجارة . وانظر للتّفصيل مصطلح : ( زكاة ) زكاة عروض التّجارة .
تجديد *
التّعريف :
1- التّجديد في اللّغة مصدر : جدّد ، والجديد : خلاف القديم . ومنه : جدّد وضوءه ، أو عهده أو ثوبه : أي صيّره جديداً . والاصطلاح الشّرعيّ لا يخرج عن هذا المعنى .
الحكم التّكليفيّ :
2- يختلف حكم التّجديد باختلاف موضعه : فتجديد الوضوء سنّة عند جمهور الفقهاء ، أو مستحبّ على اختلاف اصطلاحاتهم . وعن أحمد روايتان : أصحّهما توافق الجمهور ، والأخرى أنّه لا فضل فيه .
واشترط الشّافعيّة للاستحباب : أن يصلّي بالأوّل صلاةً ولو ركعتين ، فإن لم يصلّ به صلاةً فلا يسنّ التّجديد ، فإن خالف وفعل لم يصحّ وضوءه ، لأنّه غير مطلوب .
ويشترط الأحناف أن يفصل بين الوضوءين بمجلس أو صلاة ، فإن لم يفصل بذلك كره ، ونقل عن بعضهم مشروعيّة التّجديد ، وإن لم يفصل بصلاة أو مجلس .
واشترط المالكيّة لاستحباب التّجديد أن يفعل بالأوّل عبادةً : كالطّواف أو الصّلاة ، ودليل مشروعيّته حديث : « من توضّأ على طهر كتب له عشر حسنات » وقد كان الخلفاء يتوضّئون لكلّ صلاة ، وكان عليّ رضي الله عنه يفعله ويتلو قوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا قمتم إلى الصّلاة فاغْسِلُوا وجوهَكم ... } الآية ولأنّه كان يجب الوضوء في أوّل الإسلام لكلّ صلاة فنسخ وجوبه ، وبقي أصل الطّلب ر : مصطلح ( وضوء ) .
تجديد الماء لمسح الأذنين :
3 - ذهب الشّافعيّ إلى أنّ تجديد الماء لمسح الأذنين سنّة ، ولا تحصل السّنّة إلاّ به ، وهو الصّحيح عند كلّ من الحنابلة والمالكيّة .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ السّنّة هي : مسحهما بماء الرّأس في المشهور من المذهب .
تجديد العصابة والحشو للاستحاضة :
4 - ذهب الشّافعيّة في الأصحّ عندهم إلى أنّه يجب على المستحاضة تجديد العصابة والحشو عند كلّ صلاة ، قياساً على الوضوء ، وقيل : لا تجب عليها ، لأنّه لا معنى لإزالة النّجاسة مع استمرارها ، وهذا إذا لم يظهر الدّم على جوانب العصابة ، ولم تزل العصابة عن محلّها . أمّا إذا ظهر الدّم على جوانب العصابة أو زالت عن محلّها ، فإنّه يجب التّجديد قولاً واحداً عندهم .
وعند الحنابلة : لا يلزمها إعادة شدّ العصابة وغسل الدّم لكلّ صلاة ، إذا لم تفرّط في الشّدّ . وصرّح بعض فقهاء الحنفيّة باستحباب الحشو أو العصابة في المستحاضة وغيرها من أصحاب الأعذار تقليلاً للنّجاسة ، ولم ينصّوا على مسألة التّجديد ، ومقتضاه عدم وجوبه لعدم وجوب أصل العصابة . ولم نجد للمالكيّة تصريحاً بهذه المسألة .
تجديد نكاح المرتدّة :
5 - ذهب الجمهور إلى أنّ المرأة إذا ارتدّت ، ولم ترجع إلى الإسلام بعد الاستتابة تقتل ، وقال الحنفيّة : لا تقتل ، بل تحبس إلى أن تموت .
وذهب بعض فقهاء الحنفيّة إلى أنّه إذا ارتدّت المرأة المتزوّجة ، تجبر على الإسلام وتجديد النّكاح مع زوجها ، ولو بغير رضاها ، إذا رغب زوجها في ذلك . ولا يجوز لها إذا رجعت إلى الإسلام أن تتزوّج غيره ، ولكلّ قاض أن يجدّد النّكاح بمهر يسير . والتّفصيل في مصطلح ( ردّة ) .
وإذا ارتدّ أحد الزّوجين عن الإسلام بعد الدّخول انفسخ النّكاح من حين الرّدّة عند الحنفيّة والمالكيّة ، فإن عاد المرتدّ منهما إلى الإسلام ، وكانت العدّة قائمةً وجب تجديد العقد . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ النّكاح موقوف إلى انقضاء العدّة ، فإن عاد المرتدّ منهما إلى الإسلام ، وهي في العدّة فهما على النّكاح الأوّل . وإن لم يعد انفسخ النّكاح من حين الرّدّة ، وتبدأ العدّة منذ الرّدّة . وتفصيل ذلك في مصطلح ( ردّة ) .
تجرّد *
انظر : عورة .
تجربة *
التّعريف :
1- التّجربة : مصدر جرّبت ، ومعناه : الاختبار . يقال : جرّبت الشّيء تجريباً وتجربةً ، أي : اختبرته مرّةً بعد أخرى . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ .
الحكم الإجماليّ :
2 - أثر المرض في إباحة الفطر عند خوف زيادته بالتّجربة :
يجوز الفطر لمريض خاف زيادة مرضه بالتّجربة ، ولو كانت من غير المريض عند اتّحاد المرض . أمّا حكم الصّحيح الّذي يخاف المرض لو صام ، وضابط المرض المبيح للفطر، فينظر في مصطلح : ( صوم ).
تجربة المبيع في مدّة الخيار :
3 - يجوز تجربة المبيع في مدّة الخيار ، وهي تختلف باختلاف السّلعة ، وإليك بعض أنواعها :
أ - تجربة الثّوب :
4 - يجوز تجربة الثّوب في مدّة الخيار لمعرفة طوله وعرضه ، ولا يعتبر ذلك إجازةً عند جمهور الفقهاء ، إلاّ أنّ الحنفيّة صرّحوا بأنّ المشتري إذا لبس الثّوب مرّةً ، ثمّ لبسه ثانياً لمعرفة الطّول والعرض يسقط خياره ، لأنّه لا حاجة إلى تكرار اللّبس في الثّوب ، لحصول المقصود باللّبس مرّةً واحدةً .
وأمّا عند المالكيّة : فتجري في لبس الثّوب في مدّة الخيار ستّ عشرة صورةً ، حاصلها جواز لبس الثّوب بغية التّجربة والاختيار في بعض تلك الصّور بشروط ذكروها .
ولتفصيل الموضوع يرجع إلى مصطلح ( خيار الشّرط ) .
ب - تجربة الدّار :
5 - إذا كان المبيع داراً فسكنها المشتري في مدّة الخيار ، أو أسكنها غيره ، بأجر أو بغير أجر ، يسقط خياره ، لأنّه دليل اختيار الملك أو تقريره ، فكان إجازة دلالة عند الحنفيّة . وصرّح المالكيّة بأنّه يجوز للمشتري في مدّة الخيار أن يسكن الدّار المشتراة تيسيراً لتجربتها واختبارها ، حسب تفصيل يأتي في مصطلح ( خيار الشّرط ) .
ويؤخذ ممّا أورده الشّافعيّة والحنابلة : أنّ للمشتري بالخيار التّصرّف بما تحصل به تجربة المبيع ، فله تجربة الثّوب أو الدّار ولا يعتبر بذلك إجازةً .
ج - تجربة الدّابّة :
6 - يرى الفقهاء جواز تجربة الدّابّة في مدّة الخيار للنّظر في سيرها وقوّتها ، على خلاف وتفصيل في كيفيّة التّجربة والمدّة الّتي يمكن تجريب الدّابّة فيها يرجع إليه في موطنه ، وفي مصطلح ( خيار الشّرط ) .
تجربة الصّبيّ لمعرفة رشده :
7 - يجرّب الصّبيّ لمعرفة رشده ، ويكون ذلك بتفويضه في التّصرّفات الّتي يتصرّف فيها أمثاله . فإن كان من أولاد التّجّار فوّض إليه البيع والشّراء ، فإذا تكرّر منه فلم يغبن ، ولم يضيّع ما في يديه ، فهو رشيد .
ويجرّب ولد الزّارع بالزّراعة والنّفقة على القائمين بمصالح الزّرع من حرث وحصد وحفظ ، كما يجرّب ولد المحترف بما يتعلّق بحرفة أبيه وأقاربه .
ويرى أبو حنيفة وزفر والنّخعيّ عدم تجربة الشّخص الّذي بلغ غير رشيد ، إذا أكمل الخامسة والعشرين من عمره ، فيجب عندهم إعطاؤه ماله ولو لم يصر رشيداً ، لأنّ منعه من ماله هو للتّأديب ، فإذا لم يتأدّب - وقد بلغ سنّاً يمكن أن يكون فيه جدّاً - فلا يبقى أمل في تأديبه . وللفقهاء في معنى الرّشد ووقت تجربة الصّبيّ لمعرفة رشده آراء وخلافات تنظر في مصطلحات : ( حجر ، رشد ، وسفه ) .
تجربة القائف لمعرفة كفاءته :
8 - يشترط في القائف - عند من يرى العمل بقوله في ثبوت النّسب - أن يكون مجرّباً في الإصابة ، لخبر : « لا حكيم إلاّ ذو تجربة » ولأنّ القيافة أمر علميّ ، فلا بدّ من العلم بمعرفة القائف له ، وذلك لا يعرف بغير التّجربة .
ومن طرق تجربة القائف لمعرفة كفاءته : أن يعرض عليه ولد في نسوة ، ليس فيهنّ أمّه ثلاث مرّات ، ثمّ في نسوة هي فيهنّ ، فإذا أصاب في الكلّ فهو مجرّب .
وتجدر الإشارة إلى أنّ الحنفيّة لا يجيزون العمل بقول القائف مطلقاً ، ومن ثمّ لم يشترطوا شروطاً لاعتبار قول القافة دليلاً يعتمد عليه في الحكم .
وتنظر التّفاصيل المتعلّقة بالموضوع في مصطلح : ( قيافة ) .
تجربة أهل الخبرة :
9 - يشترط في أهل الخبرة الّذين يعمل بقولهم في المنازعات : أن تثبت خبرتهم بتجارب مناسبة كالطّبيب والمهندس ونحوهما .
تجزّؤ *
انظر : تبعيض .
تجسّس *
التّعريف :
1 - التّجسّس لغةً : تتبّع الأخبار ، يقال : جسّ الأخبار وتجسّسها : إذا تتبّعها ، ومنه الجاسوس ، لأنّه يتتبّع الأخبار ويفحص عن بواطن الأمور ، ثمّ استعير لنظر العين .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنيّ اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّحسّس :
2 - التّحسّس هو : طلب الخبر ، يقال : رجل حسّاس للأخبار أي : كثير العلم بها ، وأصل الإحساس : الإبصار ، ومنه قوله تعالى : { هل تُحِسُّ منهم مِنْ أَحَدٍ } أي : هل ترى ، ثمّ استعمل في الوجدان والعلم بأيّ حاسّة كانت ، وقد قرئ قوله تعالى : { ولا تَجَسَّسُوا } بالحاء { ولا تحسّسوا } قال الزّمخشريّ : والمعنيان متقاربان ، وقيل : إنّ التّجسّس غالباً يطلق على الشّرّ ، وأمّا التّحسّس فيكون غالباً في الخير .
ب - التّرصّد :
3 - التّرصّد : القعود على الطّريق ، ومنه الرّصديّ : الّذي يقعد على الطّريق ينظر النّاس ليأخذ شيئاً من أموالهم ظلماً وعدواناً . فيجتمع التّجسّس والتّرصّد في أنّ كلّاً منهما تتبّع أخبار النّاس ، غير أنّ التّجسّس يكون بالتّتبّع والسّعي لتحصيل الأخبار ولو بالسّماع أو الانتقال ، أمّا التّرصّد فهو العقود والانتظار والتّرقّب .
ج - التّنصّت :
4 - التّنصّت هو : التّسمّع . يقال : أنصت إنصاتاً أي : استمع ، ونصت له أي : سكت مستمعاً ، فهو أعمّ من التّجسّس ، لأنّ التّنصّت يكون سرّاً وعلانيةً .
حكم التّجسّس التّكليفيّ :
5 - التّجسّس تعتريه أحكام ثلاثة : الحرمة والوجوب والإباحة .
فالتّجسّس على المسلمين في الأصل حرام منهيّ عنه ، لقوله تعالى : { ولا تجسّسوا } لأنّ فيه تتبّع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عمّا ستروه . وقد قال صلى الله عليه وسلم : « يا معشر مَنْ آمن بلسانه ولم يدخل الإيمانُ إلى قلبه لا تتبّعوا عوراتِ المسلمين . فإنّ من تتبّعَ عوراتِ المسلمين تتبّع اللّهُ عورتَه حتّى يفضحه ولو في جوف بيته » .
قال ابن وهب : والسّتر واجب إلاّ عن الإمام والوالي وأحد الشّهود الأربعة في الزّنى .
وقد يكون التّجسّس واجباً ، فقد نقل عن ابن الماجشون أنّه قال : اللّصوص وقطّاع الطّريق أرى أن يطلبوا في مظانّهم ويعان عليهم حتّى يقتلوا أو ينفوا من الأرض بالهرب .
وطلبهم لا يكون إلاّ بالتّجسّس عليهم وتتبّع أخبارهم .
ويباح في الحرب بين المسلمين وغيرهم بعث الجواسيس لتعرف أخبار جيش الكفّار من عدد وعتاد وأين يقيمون وما إلى ذلك . وكذلك يباح التّجسّس إذا رفع إلى الحاكم أنّ في بيت فلان خمراً ، فإن شهد على ذلك شهود كشف عن حال صاحب البيت ، فإن كان مشهوراً بما شهد عليه أخذ ، وإن كان مستوراً فلا يكشف عنه . وقد سئل الإمام مالك عن الشّرطيّ يأتيه رجل يدعوه إلى ناس في بيت اجتمعوا فيه على شراب ، فقال : إن كان في بيت لا يعلم ذلك منه فلا يتتبّعه ، وإن كان معلوماً بذلك يتتبّعه . وللمحتسب أن يكشف على مرتكبي المعاصي ، لأنّ قاعدة ولاية الحسبة : الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر .
التّجسّس على المسلمين في الحرب :
6 - الجاسوس على المسلمين إمّا أن يكون مسلماً أو ذمّيّاً أو من أهل الحرب ،" وقد أجاب أبو يوسف عن سؤال هارون الرّشيد فيما يتعلّق بالحكم فيهم فقال : وسألتَ يا أمير المؤمنين عن الجواسيس يوجدون وهم من أهل الذّمّة أو أهل الحرب أو من المسلمين . فإن كانوا من أهل الحرب أو من أهل الذّمّة ممّن يؤدّي الجزية من اليهود والنّصارى والمجوس فاضرب أعناقهم ، وإن كانوا من أهل الإسلام معروفين فأوجعهم عقوبةً ، وأطل حبسهم حتّى يحدثوا توبةً ".
وقال الإمام محمّد بن الحسن : وإذا وجد المسلمون رجلاً - ممّن يدّعي الإسلام - عيناً للمشركين على المسلمين يكتب إليهم بعوراتهم فأقرّ بذلك طوعاً فإنّه لا يقتل ، ولكنّ الإمام يوجعه عقوبةً . ثمّ قال : إنّ مثله لا يكون مسلماً حقيقةً ، ولكن لا يقتل لأنّه لم يترك ما به حكم بإسلامه فلا يخرج عن الإسلام في الظّاهر ما لم يترك ما به دخل في الإسلام ، ولأنّه إنّما حمله على ما فعل الطّمع ، لا خبث الاعتقاد ، وهذا أحسن الوجهين ، وبه أمرنا . قال اللّه تعالى : { الّذين يستمعون القولَ فيتَّبعون أَحْسَنَه } واستدلّ عليه بحديث « حاطب بن أبي بلتعة ، فإنّه كتب إلى قريش : أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يغزوكم فخذوا حذركم ، فأراد عمر رضي الله عنه قتله ، فقال الرّسول لعمر : مهلاً يا عمر ، فلعلّ اللّه قد اطّلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم » فلو كان بهذا كافراً مستوجباً للقتل ما تركه الرّسول صلى الله عليه وسلم بدريّاً كان أو غير بدريّ ، وكذلك لو لزمه القتل بهذا حدّاً ما تركه الرّسول صلى الله عليه وسلم وفيه نزل قوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تَتَّخِذُوا عدوّي وعدوَّكم أولياء } فقد سمّاه مؤمناً ، « وعليه دلّت قصّة أبي لبابة حين استشاره بنو قريظة ، فَأمَرَّ أصبعه على حلقه يخبرهم أنّهم لو نزلوا على حكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قتلهم » ، وفيه نزل قوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تَخُونوا اللّه والرّسولَ } . وكذلك لو فعل هذا ذمّيّ فإنّه يوجع عقوبةً ويستودع السّجن ، ولا يكون هذا نقضاً منه للعهد ، لأنّه لو فعله مسلم لم يكن به ناقضاً أمانه فإذا فعله ذمّيّ لا يكون ناقضاً أمانه أيضاً .
ألا ترى أنّه لو قطع الطّريق فقتل وأخذ المال لم يكن به ناقضاً للعهد ، وإن كان قطع الطّريق محاربةً للّه ورسوله بالنّصّ فهذا أولى .
وكذلك لو فعله مستأمن فإنّه لا يصير ناقضاً لأمانه بمنزلة ما لو قطع الطّريق ، إلاّ أنّه يوجع عقوبةً في جميع ذلك لأنّه ارتكب ما لا يحلّ له وقصد بفعله إلحاق الضّرر بالمسلمين .
فإن كان حين طلب الأمان قال له المسلمون : آمنّاك إن لم تكن عيناً للمشركين على المسلمين ، أو آمنّاك على أنّك إن أخبرت أهل الحرب بعورة المسلمين فلا أمان لك - والمسألة بحالها - فلا بأس بقتله ، لأنّ المعلّق بالشّرط يكون معدوماً قبل وجود الشّرط ، فقد علّق أمانه هاهنا بشرط ألاّ يكون عيناً ، فإن ظهر أنّه عين كان حربيّاً لا أمان له فلا بأس بقتله . وإن رأى الإمام أن يصلبه حتّى يعتبر به غيره فلا بأس بذلك ، وإن رأى أن يجعله فيئاً فلا بأس به أيضاً كغيره من الأسراء ، إلاّ أنّ الأولى أن يقتله هاهنا ليعتبر غيره .
فإن كان مكان الرّجل امرأة فلا بأس بقتلها أيضاً ، لأنّها قصدت إلحاق الضّرر بالمسلمين ، ولا بأس بقتل الحربيّة في هذه الحالة ، كما إذا قاتلت ، إلاّ أنّه يكره صلبها لأنّها عورة وستر العورة أولى .
وإن وجدوا غلاماً لم يبلغ ، بهذه الصّفة ، فإنّه يجعل فيئاً ولا يقتل ، لأنّه غير مخاطب ، فلا يكون فعله خيانةً يستوجب القتل بها ، بخلاف المرأة . وهو نظير الصّبيّ إذا قاتل فأخذ أسيراً لم يجز قتله بعد ذلك ، بخلاف المرأة إذا قاتلت فأخذت أسيرةً فإنّه يجوز قتلها .
والشّيخ الّذي لا قتال عنده ولكنّه صحيح العقل بمنزلة المرأة في ذلك لكونه مخاطباً .
وإن جحد المستأمن أن يكون فعل ذلك ، وقال : الكتاب الّذي وجدوه معه إنّما وجده في الطّريق وأخذه ، فليس ينبغي للمسلمين أن يقتلوه من غير حجّة ، لأنّه آمن باعتبار الظّاهر ، فما لم يثبت عليه ما ينفي أمانه كان حرام القتل . فإن هدّدوه بضرب أو قيد أو حبس حتّى أقرّ بأنّه عين فإقراره هذا ليس بشيء ، لأنّه مكره ، وإقرار المكره باطل سواء أكان الإكراه بالحبس أم بالقتل ، ولا يظهر كونه عيناً إلاّ بأن يقرّ به عن طوع ، أو شهد عليه شاهدان بذلك ، ويقبل عليه بذلك شهادة أهل الذّمّة وأهل الحرب ، لأنّه حربيّ فينا وإن كان مستأمناً ، وشهادة أهل الحرب حجّة على الحربيّ .
وإن وجد الإمام مع مسلم أو ذمّيّ أو مستأمن كتاباً فيه خطّه وهو معروف ، إلى ملك أهل الحرب يخبر فيه بعورات المسلمين فإنّ الإمام يحبسه ، ولا يضربه بهذا القدر ، لأنّ الكتاب محتمل فلعلّه مفتعل ، والخطّ يشبه الخطّ ، فلا يكون له أن يضربه بمثل هذا المحتمل ، ولكن يحبسه نظراً للمسلمين حتّى يتبيّن له أمره : فإن لم يتبيّن خلّى سبيله ، وردّ المستأمن إلى دار الحرب ، ولم يدعه ليقيم بعد هذا في دار الإسلام يوماً واحداً ، لأنّ الرّيبة في أمره قد تمكّنت وتطهير دار الإسلام من مثله من باب إماطة الأذى فهو أولى .
7- مذهب المالكيّة : أنّ الجاسوس المستأمن يقتل ، وقال سحنون في المسلم يكتب لأهل الحرب بأخبار المسلمين : يقتل ولا يستتاب ولا دية لورثته كالمحارب . وقيل : يجلد نكالاً ويطال حبسه وينفى من الموضع الّذي كان فيه ، وقيل : يقتل إلاّ أن يتوب ، وقيل : إلاّ أن يعذر بجهل . وقيل : يقتل إن كان معتاداً لذلك ، وإن كانت فلتةً ضرب ونكّل .
وقد جاء في القرطبيّ في تفسير قوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوَّكم أولياء } ما يأتي : من كثر تطلّعه على عورات المسلمين وينبّه عليهم ويعرف عددهم بأخبارهم لم يكن كافراً بذلك ، إذا كان فعله لغرض دنيويّ واعتقاده على ذلك سليم ، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتّخاذ اليد ولم ينو الرّدّة عن الدّين . وإذا قلنا : لا يكون بذلك كافراً فهل يقتل بذلك حدّاً أم لا ؟ اختلف النّاس فيه ، فقال مالك وابن القاسم وأشهب : يجتهد في ذلك الإمام . وقال عبد الملك : إذا كانت عادته ذلك قتل لأنّه جاسوس . وقد قال مالك : يقتل الجاسوس – وهو صحيح – لإضراره بالمسلمين وسعيه بالفساد في الأرض ، ولعلّ ابن الماجشون إنّما اتّخذ التّكرار في هذا لأنّ حاطباً أخذ في أوّل فعله .
فإن كان الجاسوس كافراً ، فقال الأوزاعيّ : يكون نقضاً لعهده ، وقال أصبغ : الجاسوس الحربيّ يقتل ، والجاسوس المسلم والذّمّيّ يعاقبان إلاّ إن تظاهرا على الإسلام فيقتلان ، وقد روي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتي بعين للمشركين اسمه فرات بن حيّان فأمر به أن يقتل ، فصاح : يا معشر الأنصار أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه فأمر به النّبيّ صلى الله عليه وسلم وخلّى سبيله . ثمّ قال : إنّ منكم من أكله إلى إيمانه ، منهم فرات بن حيّان » .
8- ومذهب الشّافعيّ وطائفة : أنّ الجاسوس المسلم يعزّر ولا يجوز قتله .
وإن كان ذا هيئة ( أي ماض كريم في خدمة الإسلام ) عفي عنه لحديث حاطب ، وعندهم أنّه لا ينتقض عهد الذّمّيّ بالدّلالة على عورات المسلمين ، ولو شرط عليهم في عهد الأمان ذلك في الأصحّ ، وفي غيره ينتقض بالشّرط .
9- وعند الحنابلة : أنّه ينتقض عهد أهل الذّمّة بأشياء ومنها : تجسّس أو آوى جاسوساً ، لما فيه من الضّرر على المسلمين .
وممّا تقدّم يتبيّن أنّ الجاسوس الحربيّ مباح الدّم يقتل على أيّ حال عند الجميع ، أمّا الذّمّيّ والمستأمن فقال أبو يوسف وبعض المالكيّة والحنابلة : إنّه يقتل .
وللشّافعيّة أقوال أصحّها أنّه لا ينتقض عهد الذّمّيّ بالدّلالة على عورات المسلمين ، لأنّه لا يخلّ بمقصود العقد . وأمّا الجاسوس المسلم فإنّه يعزّر ولا يقتل عند أبي يوسف ومحمّد وبعض المالكيّة والمشهور عند الشّافعيّة ، وعند الحنابلة أنّه يقتل .
التّجسّس على الكفّار :
10 - التّجسّس على الكفّار في الحرب لمعرفة عددهم وعددهم وما معهم من سلاح وغير ذلك مشروع ، ودليل ذلك « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق صلّى هويّاً من اللّيل ، ثمّ التفت فقال : من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم - يشترط له النّبيّ أن يرجع - أدخله اللّه الجنّة قال راوي الحديث حذيفة : فما قام رجل ، ثمّ صلّى إلى .. أن قال ذلك ثلاث مرّات فما قام رجل من شدّة الخوف وشدّة البرد وشدّة الجوع ، فلمّا لم يقم أحد دعاني أي دعا الرّسول صلى الله عليه وسلم حذيفة فلم يكن لي بدّ من القيام حين دعاني ، فقال الرّسول : يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يفعلون ، ولا تُحْدِثَنَّ شيئاً حتّى تأتينا قال فذهبت فدخلت في القوم ، والرّيح وجنود اللّه عزّ وجلّ تفعل بهم ما تفعل ، لا تقرّ لهم قدر ولا نار ولا بناء ، فقام أبو سفيان فقال : يا معشر قريش لينظر كلّ امرئ من جليسه ، قال حذيفة : فأخذت بيد الرّجل الّذي إلى جنبي فقلت : من أنت ؟ قال : أنا فلان بن فلان ، ثمّ قال أبو سفيان : يا معشر قريش إنّكم واللّه ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخفّ ، وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الّذي نكره ... » إلخ فهذا دليل جواز التّجسّس على الكفّار في الحرب .
تجسّس الحاكم على رعيّته :
11 - سبق أنّ الأصل تحريم التّجسّس على المسلمين لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظّنّ إنّ بعض الظّنّ إثم ولا تجسّسوا }
ويتأكّد ذلك في حقّ وليّ الأمر لورود نصوص خاصّة تنهي أولياء الأمور عن تتبّع عورات النّاس ، منها ما رواه معاوية « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له : إنّك إن اتّبعت عورات النّاس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم » فقال أبو الدّرداء : كلمة سمعها معاوية من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نفعه اللّه بها . وعن أبي أمامة مرفوعاً إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم « إنّ الأمير إذا ابتغى الرّيبة في النّاس أفسدهم » .
ولكنّ للحاكم أن يتجسّس على رعيّته إذا كان في ترك التّجسّس انتهاك حرمة يفوت استدراكها ، مثل أن يخبره من يثق بصدقه أنّ رجلاً خلا برجل ليقتله ، أو امرأة ليزني بها ، فيجوز له في هذه الحال أن يتجسّس ويقدم على الكشف والبحث حذراً من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات ، وهكذا لو عرف ذلك قوم من المتطوّعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار .
أمّا ما كان دون ذلك في الرّيبة فلا يجوز التّجسّس عليه ولا كشف الأستار عنه ." وقد حكي أنّ عمر دخل على قوم يتعاقرون على شراب ويوقدون في أخصاص فقال : نهيتكم عن المعاقرة فعاقرتم ، ونهيتكم عن الإيقاد في الأخصاص فأوقدتم . فقالوا : يا أمير المؤمنين قد نهى اللّه عن التّجسّس فتجسّست ، وعن الدّخول بغير إذن فدخلت . فقال : هاتان بهاتين وانصرف ولم يعرض لهم ".
وقد اختلفت الرّواية عن الإمام أحمد فيما ستر من المنكر مع العلم به هل ينكر ؟ فروى ابن منصور وعبد اللّه في المنكر يكون مغطًّى ، مثل طنبور ومسكر وأمثاله فقال : إذا كان مغطًّى لا يكسر . ونقل عنه أنّه يكسر . فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتهم أنكره خارج الدّار ، ولم يهجم بالدّخول عليهم ، وليس عليه أن يكشف عمّا سواه من الباطن ، وقد نقل عن مهنّا الأنباريّ عن أحمد أنّه سمع صوت طبل في جواره ، فقام إليهم من مجلسه ، فأرسل إليهم ونهاهم .
وقال في رواية محمّد بن أبي حرب في الرّجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه قال : يأمره ، فإن لم يقبل جمع عليه الجيران ويهوّل عليه . وقال الجصّاص عند قوله تعالى : { ولا تجسّسوا } نهى اللّه تعالى عن سوء الظّنّ بالمسلم الّذي ظاهره العدالة والسّتر ، ثمّ قال : نهى اللّه تعالى عن التّجسّس ، بل أمر بالسّتر على أهل المعاصي ما لم يظهر منهم إصرار . ثمّ روي أنّ ابن مسعود قيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمراً ، فقال عبد اللّه : إنّا قد نهينا عن التّجسّس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به .
تجسّس المحتسب :
12 - المحتسب هو من يأمر بالمعروف إذا ظهر تركه وينهى عن المنكر إذا ظهر فعله . قال تعالى : { وَلْتكن منكم أمّةٌ يدْعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ويَنْهون عن المنكر } وهذا وإن صحّ من كلّ مسلم لكنّ المحتسب متعيّن عليه بحكم ولايته ، لكنّ غيره فرض عليه على سبيل الكفاية . وما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسّس عنها ولا أن يهتك الأستار حذراً من الاستتار بها فقد قال صلى الله عليه وسلم : « اجتنبوا هذه القاذورة الّتي نهى اللّه عنها ، فمن ألمّ فليستتر بستر اللّه » .
فإن غلب على الظّنّ استتار قوم بها لأمارات دلّت وآثار ظهرت فذلك ضربان :
أحدهما : أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق به أنّ رجلاً خلا بامرأة ليزني بها أو رجل ليقتله ، فيجوز له في مثل هذه الحال أن يتجسّس ويقدم على الكشف والبحث حذراً من فوات ما لا يستدرك من ارتكاب المحارم وفعل المحظورات . والضّرب الثّاني : ما خرج عن هذا الحدّ وقصر عن حدّ هذه الرّتبة ، فلا يجوز التّجسّس عليه ولا كشف الأستار عنه كما تقدّم .
عقاب التّجسّس على البيوت :
13 - روى مسلم عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من اطّلع في بيت قوم من غير إذنهم حلّ لهم أن يفقئوا عينه »
وقد اختلف العلماء في تأويله ، فقال بعضهم : هو على ظاهره ، فيحلّ لمن اطّلع عليه أن يفقأ عين المطّلع حال الاطّلاع ، ولا ضمان ، وهذا مذهب الشّافعيّة والحنابلة .
وقال المالكيّة والحنفيّة : ليس هذا على ظاهره ، فإن فقأ فعليه الضّمان ، والخبر منسوخ ، وكان قبل نزول قوله تعالى : { وإنْ عاقبتم فعاقِبُوا بمثلِ ما عُوْقِبْتُمْ به } ويحتمل أن يكون خرج على وجه الوعيد لا على وجه الحتم ، والخبر إذا كان مخالفاً لكتاب اللّه تعالى لا يجوز العمل به . وقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتكلّم بالكلام في الظّاهر ، وهو يريد شيئاً آخر ، كما جاء في الخبر « أنّ عبّاس بن مرداس لمّا مدحه قال لبلال : قم فاقطع لسانه » وإنّما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئاً ولم يرد به القطع في الحقيقة .
وهذا أيضاً يحتمل أن يكون ذكر فقء العين والمراد : أن يعمل به عملاً حتّى لا ينظر بعد ذلك في بيت غيره . وفي تبصرة الحكّام : ولو نظر من كوّة أو من باب ففقأ عينه صاحب الدّار ضمن ، لأنّه قادر على زجره ودفعه بالأخفّ ، ولو قصد زجره بذلك فأصاب عينه ولم يقصد فقأها ففي ضمانه خلاف .
وأمّا عند الحنفيّة : فإن لم يمكن دفع المطّلع إلاّ بفقء عينه ففقأها لا ضمان ، وإن أمكن بدون فقء عينه ففقأها فعليه الضّمان . أمّا إذا تجسّس وانصرف فليس للمطَّلع عليه أن يفقأ عينه اتّفاقاً . وينظر للتّفصيل : ( دفع الصّائل ) . أمّا عقوبة المتجسّس فهي التّعزير ، إذ ليس في ذلك حدّ معيّن ، والتّعزير يختلف والمرجع في تقديره إلى الإمام ( ر : تعزير ) .
تجشّؤ *
انظر : طعام .
تجمّل *
انظر : تزيّن .
تجميل *
انظر : تغيير .
تجهيز *
التّعريف :
1 - التّجهيز لغةً : تهيئة ما يحتاج إليه . يقال : جهّزت المسافر : إذا هيّأت له جهاز سفره . ويطلق أيضاً على تجهيز العروس والميّت والغزاة ، ويقال : جهّزت على الجريح - بالتّثقيل - إذا أتممت عليه وأسرعت قتله ، وذلك للمبالغة ( ومثله أجهزت ) وفعله من باب نفع ، ويأتي على وزن أفعل . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإعداد :
2 - الإعداد : التّهيئة والإحضار . فالتّجهيز أعمّ من الإعداد ، لأنّ التّجهيز يشمل الإعداد وغيره .
ب - التّزويد :
3 - التّزويد : مصدر زوّدته أعطيته زاداً ، فهو أخصّ من التّجهيز . لأنّ التّجهيز يكون بالطّعام وغيره ، أمّا التّزويد فهو بإعداد الزّاد أو إعطائه .
الأحكام المتعلّقة بالتّجهيز :
ويتكلّم الفقهاء في تجهيز العروس والمجاهدين والميّت ، على من يجب ، والحكم فيه ، ومقداره ، وبيان ذلك فيما يأتي :
تجهيز العروس :
4 - مذهب الشّافعيّ : عدم إجبار المرأة على الجهاز ، وهو المفهوم من نصوص الحنابلة ، فلا تجبر هي ولا غيرها على التّجهيز ، فقد جاء في منتهى الإرادات : وتملك زوجة بعقد جميع المسمّى ، ولها نماء معيّن كدار والتّصرّف فيه .
أمّا الحنفيّة : فقد نقل الحصكفيّ عن الزّاهديّ في القنية : أنّه لو زفّت الزّوجة إلى الزّوج بلا جهاز يليق به فله مطالبة الأب بالنّقد . وزاد في البحر عن المنتقى : إلاّ إذا سكت طويلاً فلا خصومة له . لكن في النّهر عن البزّازيّة : الصّحيح أنّه لا يرجع على الأب بشيء ، لأنّ المال في النّكاح غير مقصود . ومفهوم هذا أنّ الأب هو الّذي يجهّز ، لكنّ هذا إذا كان هو الّذي قبض المهر ، فإن كانت الزّوجة هي الّتي قبضته فهي الّتي تطالب به على القول بوجوب الجهاز ، وهو بحسب العرف والعادة .
وقال المالكيّة : إذا قبضت الحالّ من صداقها قبل بناء الزّوج بها فإنّه يلزمها أن تتجهّز به على العادة من حضر أو بدو ، حتّى لو كان العرف شراء دار لزمها ذلك ، ولا يلزمها أن تتجهّز بأزيد منه . ومثل حالّ الصّداق ما إذا عجّل لها المؤجّل وكان نقداً .
وإن تأخّر القبض عن البناء لم يلزمها التّجهيز سواء أكان حالّاً أم حلّ ، إلاّ لشرط أو عرف . ( أي فإنّه يلزمها التّجهيز للشّرط أو العرف ) .
تجهيز الغزاة :
5 - يجب على المسلمين أن لا يعطّلوا الجهاد في سبيل اللّه ، وأن يجهّزوا لذلك الغزاة بما يلزمهم من عدّة وعتاد وزاد ، لقول اللّه تعالى : { وأَنْفِقُوا في سبيلِ اللّهِ ولا تُلقوا بأيديكم إلى التَّهْلُكَةِ } وقوله عزّ وجلّ : { وأَعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوّةٍ ومن رِباطِ الخيلِ تُرْهبون به عدوَّ اللّه وعدوَّكم وآخَرين من دونهم لا تَعْلَمُونهم اللّهُ يَعْلَمهم وما تُنفقوا من شيء في سبيلِ اللّه يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تُظْلمون }
وتجهيز الغزاة واجب المسلمين جميعاً ، حكّاماً ومحكومين ، وهو من أعظم القرب لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من جهّز غازياً في سبيل اللّه فقد غزا » ومن المصادر الّتي يمكن تجهيز الغزاة منها : الزّكاة من صنف ( سبيل اللّه ) .
وقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الغزاة يعطون من الزّكاة مطلقاً ، ولو كانوا أغنياء . لكنّ المالكيّة قيّدوه بأن يكون المعطون ممّن يجب عليهم الجهاد .
وقيّده الشّافعيّة بألاّ تكون أسماؤهم في ديوان الجند . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الغازي يعطى من الزّكاة إذا كان من منقطعي الغزاة ، وهم الّذين عجزوا عن الالتحاق بجيش الإسلام لفقرهم .
وسبب اختلافهم في هذا هو اختلافهم في تفسير قوله تعالى في مصارف الصّدقات : { وفي سبيل اللّه } وفي ذلك تفصيل يرجع إليه في مصطلح ( زكاة ) .
تجهيز الميّت :
6 - يجب تجهيز الميّت ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر به ، ولأنّ سترته واجبة في الحياة ، فهي واجبة كذلك بالكفن في الممات .
واتّفق الفقهاء على أنّ تجهيز الميّت فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين . ونفقات التّجهيز تكون من تركة الميّت إن ترك مالاً ، وتقدّم على ديونه ووصيّته وإرثه ، إلاّ أعيان التّركة الّتي تعلّق بها حقّ للغير ، كعين الرّهن والمبيع ونحوهما . فإن لم يكن له مال ، وجب تجهيزه على من تجب عليه نفقته في حال حياته ، فإن لم يوجد أحد من هؤلاء ، وجب تجهيزه في بيت مال المسلمين إن وجد ، فإن لم يوجد أو كان موجوداً ولم يمكن الأخذ فتجهيزه على المسلمين فرض كفاية .
ولا يجب على الزّوجة تجهيز زوجها المتوفّى عنها بلا خلاف . وفي وجوب تجهيز الزّوج لزوجته المتوفّاة ، خلاف يرجع إليه مع تفصيل البحث في مصطلح : ( جنائز ) .
تجهيل *
التّعريف :
1- من معاني التّجهيل في اللّغة : النّسبة إلى الجهل . يقال : جهّلت فلاناً : إذا قلت : إنّه جاهل . والجهل : نقيض العلم . ويكون الجهل أيضاً نقيض الحلم ، يقال : جهل فلان على فلان : إذا سفه عليه وأخطأ .
يقال : جهّل فلان جهلاً وجهالةً ، والجهالة : أن تفعل فعلاً بغير علم .
وفي الاصطلاح : أن لا يبيّن الأمين قبل موته حال ما بيده للغير من وديعة ، أو لقطة ، أو مال يتيم ونحوه ، وكان يعلم أنّ وارثه لا يعلمها ، مات وهو على ذلك .
الحكم الإجماليّ :
2 - التّجهيل قد يرد على الوديعة ، وهي المال الّذي يوضع عند شخص ليحفظه . وهي أمانة نزل في شأنها قول اللّه تبارك وتعالى : { إنَّ اللّهَ يأمرُكم أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهلِها } قيل : « نزلت في عثمان بن طلحة الحجبيّ الدّاريّ قبل إسلامه ، كان سادن الكعبة يوم الفتح ، فلمّا دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم مكّة أغلق عثمان باب الكعبة وامتنع من إعطاء مفتاحها ، زاعماً أنّه لو علم أنّه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما منعه ، فلوى عليّ رضي الله عنه يده ، وأخذه منه ، وفتح الباب ودخل صلى الله عليه وسلم الكعبة . فلمّا خرج سأله العبّاس رضي الله عنه أن يعطيه المفتاح لتجتمع له السّدانة مع السّقاية ، فأنزل اللّه تعالى الآية . فأمر صلى الله عليه وسلم عليّاً أن يردّه إلى عثمان ويعتذر إليه ، فقال له : أكرهتَ وآذيتَ ثمّ جئتَ ترفق ؟ فقال له : لقد أنزل اللّه في شأنك قرآناً وقرأ عليه الآية فأسلم ، فجاء جبريل عليه السلام فقال : ما دام هذا البيت فإنّ المفتاح والسّدانة في أولاد عثمان » .
3 - وقد جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم السّدانة في أولاده إلى يوم القيامة ، حيث قال :
« خذوها خالدةً تالدةً لا ينزعها منكم إلاّ ظالم » والمراد من الآية جميع الأمانات فيجب على من كانت عنده أمانة - وديعةً كانت أو غيرها - أن يبيّن أمرها حتّى لا يفاجئه الموت ولم يعيّن صاحبها ، فتضيع عليه ، ويكون مسئولاً عن تجهيلها .
قال ابن عبّاس : ولم يرخّص اللّه لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة ، أي يحبسها عن صاحبها عند طلبها . وروي عنه عليه الصلاة والسلام « أنّه كانت عنده ودائع ، فلمّا أراد الهجرة أودعها عند أمّ أيمن ، وأمر عليّاً أن يردّها على أهلها » .
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « ليس على المستودع ضمان ما لم يتعدّ » .
4 - وقد عظّم اللّه تعالى أمر الأمانة تعظيماً بليغاً وأكّده تأكيداً شديداً فقال عزّ وجلّ { إنّا عَرَضْنَا الأمانةَ على السّمواتِ والأرضِ والجبالِ فَأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأَشْفَقْنَ منها وحمَلَها الإنسانُ إنّه كان ظَلُوماً جَهُولاً } أي بمشقّتها الّتي لا تتناهى بها . وإذا كانت الوديعة أمانةً كانت غير مضمونة بالهلاك مطلقاً ، ما لم يكن المودع مفرّطاً أو متعدّياً ، ومن التّعدّي التّجهيل عن قصد .
قال في البزّازيّة : والمودع إنّما يضمن بالتّجهيل إذا لم يعرف الوارث الوديعة .
أمّا إذا علم الوارث الوديعة ، والمودع يعلم أنّ الوارث يعلم ، ومات ولم يبيّن لم يضمن . ولو قال الوارث : أنا علمتها ، وأنكر الطّالب علم الوارث بها لتصير مضمونةً بالتّجهيل ينظر ، إن فسّرها الوارث وقال : هي كذا وكذا ، وهلكت صدّق . ومعنى ضمانها صيرورتها ديناً في تركته .
5- وفي حاشية ابن عابدين : قال في مجمع الفتاوى : المودع والمضارب والمستعير والمستبضع وكلّ من كان المال بيده أمانةً إذا مات قبل البيان ، ولم تعرف الأمانة بعينها ، فإنّ المال يكون ديناً عليه في تركته ، لأنّه صار مستهلكاً للوديعة بالتّجهيل . ومعنى موته مجهّلاً : أن لا يبيّن حال الأمانة كما في الأشباه .
وقد سئل الشّيخ عمر بن نجيم عمّا لو قال المريض : عندي ورقة في الحانوت لفلان ضمّنها دراهم لا أعرف قدرها ، فمات ولم توجد . فأجاب : بأنّه من التّجهيل ، لقوله في البدائع : هو أن يموت قبل البيان ولم تعرف الأمانة بعينها .
6- ومن الأمانات الرّهن ، إذا مات المرتهن مجهّلاً يضمن قيمة الرّهن في تركته ، وكذا الوكيل إذا مات مجهّلاً ما قبضه .
وقد نصّت المادّة 801 من المجلّة على أنّه : ( إذا مات المستودع ووجدت الوديعة عيناً في تركته يكون أمانةً في يد وارثه ، فيردّها لصاحبها . وأمّا إذا لم توجد عيناً في تركته : فإن أثبت الوارث أنّ المستودع قد بيّن حال الوديعة في حياته ، كأن قال : رددت الوديعة لصاحبها ، أو قال : ضاعت بلا تعدّ ، فلا يلزم الضّمان . وكذا لو قال الوارث : نحن نعرف الوديعة ، وفسّرها ببيان أوصافها ، ثمّ قال : إنّها هلكت أو ضاعت بعد وفاة المستودع صدّق بيمينه ولا ضمان حينئذ ، وإذا مات المستودع بدون أن يبيّن حال الوديعة يكون مجهّلاً ، فتؤخذ الوديعة من تركته كسائر ديونه ، وكذا لو قال الوارث : نحن نعرف الوديعة بدون أن يفسّرها ويصفها ، لا يعتبر قوله : إنّها ضاعت . وبهذه الصّورة إذا لم يثبت أنّها ضاعت يلزم الضّمان من التّركة ) .
7- وقد ورد في الأشباه والنّظائر لابن نجيم : الأمانات تنقلب مضمونةً بالموت عن تجهيل إلاّ في ثلاث : النّاظر إذا مات مجهّلاً غلّات الوقف ، والقاضي إذا مات مجهّلاً أموال اليتامى عند من أودعها . والسّلطان إذا أودع بعض الغنيمة عند الغازي ثمّ مات ولم يبيّن عند من أودعها . هكذا في فتاوى قاضي خان في باب الوقف ، وفي الخلاصة في باب الوديعة وذكرها الولوالجيّ وذكر من الصّور الثّلاث : أحد الشّريكين المتفاوضين إذا مات ولم يبيّن حال المال الّذي في يده ، ولم يذكره للقاضي ، فصار المستثنى أربعةً .
وزاد ( أي صاحب الأشباه ) عليها مسائل :
الأولى الوصيّ إذا مات مجهّلاً فلا ضمان عليه كما في جامع الفصولين .
الثّانية : الأب إذا مات مجهّلاً مال ابنه ذكره فيها أيضاً .
الثّالثة : إذا مات الوارث مجهّلاً ما أودع عند موته .
الرّابعة : إذا مات مجهّلاً لما ألقته الرّيح في بيته .
الخامسة : إذا مات مجهّلاً لما وضعه مالكه في بيته بغير علمه .
السّادسة : إذا مات الصّبيّ مجهّلاً لما أودع عنده محجوراً . وهذه الثّلاث في تلخيص الجامع الكبير للخلّاطيّ فصار المستثنى عشرةً . ومعنى موته مجهّلاً : أن لا يبيّن حال الأمانة وكان يعلم أنّ وارثه لا يعلمها ، فإن بيّنها وقال في حياته : رددتها فلا تجهيل إن برهن الوارث على مقالته ، وإلاّ لم يقبل قوله ، وإن كان يعلم أنّ وارثه يعلمها فلا تجهيل .
وعند الشّافعيّة : إذا توفّي المودع ولديه وديعة ، ولم يردّها لصاحبها قبل موته ، ولم يوص بها ، أي لم يعلم بها من يقوم بردّها بعد موته من قاض أو أمين أو وارث ضمنها إن تمكّن من ردّها أو الإيصاء بها ولم يفعل ، بخلاف ما إذا لم يتمكّن ، كأن مات فجأةً أو قتل غيلةً أو سافر بها ، لعجزه عن ذلك ومحلّ ذلك في غير القاضي . أمّا القاضي إذا مات ولم يوجد مال اليتيم في تركته فلا يضمنه وإن لم يوص به ، لأنّه أمين الشّرع ، بخلاف سائر الأمناء ولعموم ولايته . ولا أثر لكتابة المودع على شيء : هذا وديعة فلان مثلاً ، أو في أوراقه : عندي لفلان كذا إلاّ إذا أقرّ به أو قامت به بيّنة أو أقرّ به الوارث .
والمالكيّة كذلك في الضّمان ، وزادوا طول الزّمن ، حيث قالوا : تضمن الوديعة بموت المودع إذا لم يوص بها ولم توجد في تركته ، فتؤخذ من تركته ، لاحتمال أنّه تسلّفها ، إلاّ أن يطول الزّمن من يوم الإيداع لعشر سنين فلا ضمان ، ويحمل على أنّه ردّها لربّها . ومحلّ كون العشر السّنين طوالاً إذا لم تكن الوديعة ببيّنة مقصودة للتّوثّق ، وإلاّ فلا يسقط الضّمان ، ولو زاد على العشرة أخذها ربّها إن ثبت بكتابة عليها أنّها له بخطّ المودع أو المودع . ويرى الحنابلة : أنّه إذا مات المودع وعنده وديعة ولا تتميّز من ماله فصاحبها غريم بها ، فإن كان عليه دين سواها فهي والدّين سواء .
8- هذا ولا تثبت الوديعة إلاّ بإقرار سابق من الميّت أو ورثته أو ببيّنة تشهد بها ، وإن وجد عليها مكتوباً وديعةً لم يكن حجّةً عليهم ، لجواز أن يكون الظّرف كانت فيه وديعة قبل هذا ، أو كانت وديعةً لمورّثهم عند غيره ، أو كانت وديعةً فابتاعها . وكذلك لو وجد في أوراق أبيه أنّ لفلان عندي وديعةً لم يلزمه بذلك ، لجواز أن يكون قد ردّها ونسي الضّرب على ما كتب أو غير ذلك .
وتفصيل ذلك يرجع إليه في ( إبضاع ، رهن ، عاريّة ، مضاربة ، وديعة ووقف ) .
تجويد *
التّعريف :
1- التّجويد لغةً : تصيير الشّيء جيّداً . والجيّد : ضدّ الرّديء ، يقال : جوّد فلان كذا : أي فعله جيّداً ، وجوّد القراءة : أي أتى بها بريئةً من الرّداءة في النّطق .
واصطلاحاً : إعطاء كلّ حرف حقّه ومستحقّه . والمراد بحقّ الحرف : الصّفة الذّاتيّة الثّابتة له كالشّدّة والاستعلاء ، والمراد بمستحقّ الحرف : ما ينشأ عن تلك الصّفات الذّاتيّة اللّازمة كالتّفخيم ، فإنّه ناشئ عن كلّ من الاستعلاء والتّكرير ، لأنّه يكون في الحرف حال سكونه وتحريكه بالفتح والضّمّ فقط ، ولا يكون في حال الكسر . وهذا كلّه بعد إخراج كلّ حرف من مخرجه . واعتبره بعضهم غير داخل في تعريف التّجويد ، لأنّه مطلوب لحصول أصل القراءة ، لكن قال الشّيخ عليّ القاريّ : ولا يخفى أنّ إخراج الحرف من مخرجه أيضاً داخل في تعريف التّجويد ، كما صرّح به ابن الجزريّ في كتاب التّمهيد ، أي لأنّ المعرّف هو القراءة المجوّدة ، وليس مطلق القراءة ، وتجويد القراءة لا يكون إلاّ بإخراج كلّ حرف من مخرجه . قال ابن الجزريّ : التّجويد : إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها مراتبها ، وردّ الحرف إلى مخرجه وأصله وإلحاقه بنظيره ، وتصحيح لفظه وتلطيف النّطق به على حال صيغته وكمال هيئته ، من غير إسراف ولا تعسّف ولا إفراط ولا تكلّف .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّلاوة ، والأداء ، والقراءة :
2 - التّلاوة اصطلاحاً : قراءة القرآن متتابعاً كالأجزاء والأسداس .
أمّا الأداء فهو : الأخذ عن الشّيوخ بالسّماع منهم أو القراءة بحضرتهم .
وأمّا القراءة فهي أعمّ من التّلاوة والأداء .
ولا يخفى أنّ التّجويد أمر زائد على هذه الألفاظ الثّلاثة ، فهو أخصّ منها جميعها .
ب - التّرتيل :
3 - التّرتيل لغةً : مصدر رتّل ، يقال : رتّل فلان كلامه : إذا أتبع بعضه بعضاً على مكث وتفهّم من غير عجل .
واصطلاحاً : هو رعاية مخارج الحروف وحفظ الوقوف . وروي نحوه عن عليّ رضي الله عنه حيث قال : التّرتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف .
فالفرق بينه وبين التّجويد : أنّ التّرتيل وسيلة من وسائل التّجويد ، وأنّ التّجويد يشمل ما يتّصل بالصّفات الذّاتيّة للحروف ، وما يلزم عن تلك الصّفات ، أمّا التّرتيل فيقتصر على رعاية مخارج الحروف وضبط الوقوف لعدم الخلط بين الحروف في القراءة السّريعة ، ولذلك أطلق العلماء ( التّرتيل ) على مرتبة من مراتب القراءة من حيث إتمام المخارج والمدود ، وهو يأتي بعد مرتبة ( التّحقيق ) وأدنى منهما مرتبة وسطى تسمّى ( التّدوير ) ثمّ ( الحدر ) وهو المرتبة الأخيرة .
الحكم الإجماليّ :
4 - لا خلاف في أنّ الاشتغال بعلم التّجويد فرض كفاية .
أمّا العمل به ، فقد ذهب المتقدّمون من علماء القراءات والتّجويد إلى أنّ الأخذ بجميع أصول التّجويد واجب يأثم تاركه ، سواء أكان متعلّقاً بحفظ الحروف - ممّا يغيّر مبناها أو يفسد معناها - أم تعلّق بغير ذلك ممّا أورده العلماء في كتب التّجويد ، كالإدغام ونحوه .
قال محمّد بن الجزريّ في النّشر نقلاً عن الإمام نصر الشّيرازيّ : حسن الأداء فرض في القراءة ، ويجب على القارئ أن يتلو القرآن حقّ تلاوته .
وذهب المتأخّرون إلى التّفصيل بين ما هو واجب شرعيّ من مسائل التّجويد ، وهو ما يؤدّي تركه إلى تغيير المبنى أو فساد المعنى ، وبين ما هو واجب صناعيّ أي أوجبه أهل ذلك العلم لتمام إتقان القراءة ، وهو ما ذكره العلماء في كتب التّجويد من مسائل ليست كذلك ، كالإدغام والإخفاء إلخ . فهذا النّوع لا يأثم تاركه عندهم .
قال الشّيخ عليّ القاريّ بعد بيانه أنّ مخارج الحروف وصفاتها ، ومتعلّقاتها معتبرة في لغة العرب : فينبغي أن تراعى جميع قواعدهم وجوباً فيما يتغيّر به المبنى ويفسد المعنى ، واستحباباً فيما يحسن به اللّفظ ويستحسن به النّطق حال الأداء . ثمّ قال عن اللّحن الخفيّ الّذي لا يعرفه إلاّ مهرة القرّاء : لا يتصوّر أن يكون فرض عين يترتّب العقاب على قارئه لما فيه من حرج عظيم . ولما قال محمّد بن الجزريّ في منظومته في التّجويد ، وفي الطّيّبة أيضاً : والأخذ بالتّجويد حتمٌ لازمُ مَنْ لم يجوِّد القُرآن آثِمُ
قال ابنه أحمد في شرحها : ذلك واجب على من يقدر عليه ، ثمّ قال : لأنّ اللّه تعالى أنزل به كتابه المجيد ، ووصل من نبيّه صلى الله عليه وسلم متواتراً بالتّجويد .
وكرّر أحمد بن محمّد بن الجزريّ هذا التّقييد بالقدرة أكثر من مرّة . ويدلّ لذلك الحديث الّذي رواه الشّيخان عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « الماهرُ بالقرآنِ مع السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ ، والّذي يقرأُ القرآنَ ويُتَعْتِعُ فيه ، وهو عليه شاقٌّ له أجرانِ » وقد اعتبر ابن غازيّ في شرحه للجزريّة من الواجب الصّناعيّ : كلّ ما كان من مسائل الخلاف من الوجوه المختارة لكلّ قارئ من القرّاء المشهورين ، حيث يرى بعضهم التّفخيم ويرى غيره التّرقيق في موطن واحد ، فهذا لا يأثم تاركه ، ولا يتّصف بالفسق . وكذلك ما كان من جهة الوقف ، فإنّه لا يجب على القارئ الوقف على محلّ معيّن بحيث لو تركه يأثم ، ولا يحرم الوقف على كلمة بعينها إلاّ إذا كانت موهمةً وقصدها ، فإن اعتقد المعنى الموهم للكفر كفر - والعياذ باللّه - كأن وقف على قوله تعالى : { إنّ اللّه لا يستحي } دون قوله : { أن يضرب مثلاً ما } . أو على قوله : { وما من إله } دون { إلاّ اللّه } . أمّا قول علماء القراءة : الوقف على هذا واجب ، أو لازم ، أو حرام ، أو لا يحلّ ، أو نحو ذلك من الألفاظ الدّالّة على الوجوب أو التّحريم فلا يراد منه ما هو مقرّر عند الفقهاء ، ممّا يثاب على فعله ، ويعاقب على تركه ، أو عكسه ، بل المراد : أنّه ينبغي للقارئ أن يقف عليه لمعنًى يستفاد من الوقف عليه ، أو لئلاّ يتوهّم من الوصل تغيير المعنى المقصود ، أو لا ينبغي الوقف عليه ولا الابتداء بما بعده ، لما يتوهّم من تغيير المعنى أو رداءة التّلفّظ ونحو ذلك . وقولهم : لا يوقف على كذا ، معناه : أنّه لا يحسن الوقف عليه صناعةً ، وليس معناه أنّ الوقف عليه حرام أو مكروه ، بل خلاف الأولى ، إلاّ إن تعمّد قاصداً المعنى الموهم . ثمّ تطرّق ابن غازيّ إلى حكم تعلّم التّجويد بالنّسبة لمريد القراءة ، فقرّر عدم وجوب ذلك على من أخذ القراءة على شيخ متقن ، ولم يتطرّق اللّحن إليه ، من غير معرفة علميّة بمسائله ، وكذلك عدم وجوب تعلّمه على العربيّ الفصيح الّذي لا يتطرّق اللّحن إليه ، بأن كان طبعه على القراءة بالتّجويد ، فإنّ تعلّم هذين للأحكام أمر صناعيّ . أمّا من أخلّ بشيء من الأحكام المجمع عليها ، أو لم يكن عربيّاً فصيحاً ، فلا بدّ في حقّه من تعلّم الأحكام والأخذ بمقتضاها من أفواه المشايخ .
قال الإمام الجَزَريّ في النّشر : ولا شكّ أنّ الأمّة كما هم متعبّدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده ، كذلك هم متعبّدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصّفة المتلقّاة من أئمّة القراءة والمتّصلة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم .
ما يتناوله التّجويد من أمور :
5 - التّجويد علم من علوم القرآن ، ولكنّه يتميّز عن غيره من تلك العلوم المتّصلة بالقرآن بأنّه يحتاج إليه الخاصّة والعامّة ، لحاجتهم إلى تلاوة كتاب اللّه تعالى كما أنزل ، حسبما نقل عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وهو إمّا أن يحصل بالتّعلّم لمسائله ، أو يؤخذ بالتّلقّي من أفواه العلماء ، ولا بدّ في الحالين من التّمرين والتّكرار .
قال أبو عمرو الدّانيّ : ليس بين التّجويد وتركه إلاّ رياضة لمن تدبّره بفكه . وقال أحمد بن الجزريّ : لا أعلم سبباً لبلوغ نهاية الإتقان والتّجويد ووصول غاية التّصحيح والتّسديد مثل رياضة الألسن والتّكرار على اللّفظ المتلقّى من فم المحسن .
ويشتمل علم التّجويد على أبحاث كثيرة أهمّها :
أ - مخارج الحروف ، للتّوصّل إلى إخراج كلّ حرف من مخرجه الصّحيح .
ب - صفات الحروف ، من جهر وهمس مع معرفة الحروف المشتركة في الصّفة .
ج - التّفخيم والتّرقيق وما يتّصل بذلك من أحكام لبعض الحروف كالرّاء واللّام .
د - أحوال النّون السّاكنة والتّنوين والميم السّاكنة .
هـ - المدّ والقصر وأنواع المدّ .
و - الوقف والابتداء والقطع وما يتّصل بذلك من أحكام .
ز - أحكام الابتداء بالقراءة ، من تعوّذ وبسملة وأحكام ختم القرآن وآداب التّلاوة .
وموطن تفصيل ذلك هو كتب علم التّجويد ، وكذلك كتب القراءات في آخر أبحاثها كما في منظومة حرز الأماني للشّاطبيّ ، أو في أوائلها كما في " الطّيّبة " لمحمّد بن الجزريّ ، وفي بعض المطوّلات من كتب علوم القرآن كالبرهان للزّركشيّ ، والإتقان للسّيوطيّ .
ما يخلّ بالتّجويد ، وحكمه :
6 - يقع الإخلال بالتّجويد إمّا في أداء الحروف ، وإمّا فيما يلابس القراءة من التّغييرات الصّوتيّة المخالفة لكيفيّة النّطق المأثورة .
فالنّوع الأوّل يسمّى ( اللّحن ) أي الخطأ والميل عن الصّواب ، وهو نوعان : جليّ وخفيّ . واللّحن الجليّ : خطأ يطرأ على الألفاظ فيخلّ بعرف القراءة ، سواء أخلّ بالمعنى أم لم يخلّ . وسمّي جليّاً لأنّه يخلّ إخلالاً ظاهراً يشترك في معرفته علماء القرآن وغيرهم ، وهو يكون في مبنى الكلمة كتبديل حرف بآخر ، أو في حركتها بتبديلها إلى حركة أخرى أو سكون ، سواء أتغيّر المعنى بالخطأ فيها أم لم يتغيّر . وهذا النّوع يحرم على من هو قادر على تلافيه ، سواء أوهم خلل المعنى أو اقتضى تغيير الإعراب .
وأمّا اللّحن الخفيّ : فهو خطأ يطرأ على اللّفظ ، فيخلّ بعرف القراءة ولا يخلّ بالمعنى . وسمّي خفيّاً لأنّه يختصّ بمعرفته علماء القرآن وأهل التّجويد . وهو يكون في صفات الحروف ، وهذا اللّحن الخفيّ قسمان :
أحدهما : لا يعرفه إلاّ علماء القراءة كترك الإخفاء ، وهو ليس بفرض عين يترتّب عليه عقاب كما سبق ، بل فيه خوف العتاب والتّهديد .
والثّاني : لا يعرفه إلاّ مهرة القرّاء كتكرير الرّاءات وتغليظ اللّامات في غير محلّها ، ومراعاة مثل هذا مستحبّة تحسن في حال الأداء .
وأمّا النّوع الثّاني من الإخلال فهو ما يحصل من الزّيادة والنّقص عن الحدّ المنقول من أوضاع التّلاوة ، سواء في أداء الحرف أو الحركة عند القراءة ، وسبب الإخلال القراءة بالألحان المطربة المرجّعة كترجيع الغناء ، وهو ممنوع لما فيه من إخراج التّلاوة عن أوضاعها الصّحيحة ، وتشبيه القرآن بالأغاني الّتي يقصد بها الطّرب .
واستدلّوا لمنع ذلك بحديث عابس رضي الله عنه قال : إنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « بادروا بالموت ستّاً : إمرة السّفهاء ، وكثرة الشّرط ، وبيع الحكم ، واستخفافاً بالدّم ، وقطيعة الرّحم ، ونَشْواً يتّخذون القرآن مزامير يقدّمونه يغنّيهم ، وإن كان أقلّ منهم فقهاً » . قال الشّيخ زكريّا الأنصاريّ : والمراد بلحون العرب : القراءة بالطّبع والسّليقة كما جبلوا عليه من غير زيادة ولا نقص ، والمراد بلحون أهل الفسق والكبائر : الأنغام المستفادة من علم الموسيقى ، والأمر في الخبر محمول على النّدب ، والنّهي على الكراهة إن حصلت المحافظة على صحّة ألفاظ الحروف ، وإلاّ فعلى التّحريم .
قال الرّافعيّ : المكروه أن يفرّط في المدّ وفي إشباع الحركات ، حتّى يتولّد من الفتحة ألف ومن الضّمّة واو ... إلخ قال النّوويّ : الصّحيح أنّ الإفراط على الوجه المذكور حرام يفسق به القارئ ويأثم به المستمع ، لأنّه عدل به عن منهجه القويم ، وهذا مراد الشّافعيّ بالكراهة . وقد أورد علماء التّجويد نماذج من ذلك ، فمنها ما يسمّى بالتّرقيص ، والتّحزين ، والتّرعيد ، والتّحريف ، والقراءة باللّين والرّخاوة في الحروف ، والنّقر بالحروف وتقطيعها ... إلخ . وتفصيل المراد بذلك في مراجعه ، ومنها شروح الجزريّة ، ونهاية القول المفيد ، وقد أورد أبياتاً في ذلك من منظومة للإمام علم الدّين السّخاويّ ، ثمّ نقل عن شرحها قوله : فكلّ حرف له ميزان يعرف به مقدار حقيقته ، وذلك الميزان هو مخرجه وصفته ، وإذا خرج عن مخرجه معطًى ما له من الصّفات على وجه العدل في ذلك من غير إفراط ولا تفريط فقد وزن بميزانه ، وهذا هو حقيقة التّجويد . وسبيل ذلك التّلقّي من أفواه القرّاء المتقنين .
تحالف *
انظر : حلف .
تحبيس *
انظر : وقف .
تحجير *
التّعريف :
1 - التّحجير أو الاحتجار لغةً واصطلاحاً : منع الغير من الإحياء بوضع علامة كحجر أو غيره على الجوانب الأربعة ، وهو يفيد الاختصاص لا التّمليك .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأرض المحجّرة - من الأراضي الخربة - لا يجوز إحياؤها ، لأنّ من حجّرها أولى بالانتفاع بها من غيره ، فإن أهملها فللفقهاء تفصيلات .
فالحنفيّة والمالكيّة وضعوا مدّةً قصوى للاختصاص الحاصل بالتّحجير ، وهي ثلاث سنوات ، وهذا هو الحكم ديانةً ، أمّا قضاءً فإذا أحياها غيره قبل مضيّ هذه المدّة ملكها ، وهذا هو الحكم عند الحنفيّة ، فإن لم يقم بتعميرها أخذها الإمام ودفعها إلى غيره ، لقول عمر رضي الله عنه :" ليس لمتحجّر بعد ثلاث سنين حقّ ".
وذهب الشّافعيّة ، وهو وجه عند الحنابلة إلى أنّه إذا أهمل المتحجّر إحياء الأرض مدّةً غير طويلة عرفاً ، وجاء من يحييها فإنّ الحقّ للمتحجّر .
والوجه الآخر للحنابلة : أنّ التّحجير بلا عمل لا يفيد ، وأنّ الحقّ لمن أحيا تلك الأرض . وسبق التّفصيل في مصطلح ( إحياء الموات ج 2 /16 ) .
تحديد *
التّعريف :
1 - التّحديد لغةً : مصدر حدّد ، وأصل الحدّ : المنع والفصل بين الشّيئين ، يقال : حدّدت الدّار تحديداً : إذا ميّزتها من مجاوراتها بذكر نهاياتها .
وفي اصطلاح الفقهاء : تحديد الشّيء عبارة عن ذكر حدوده ، ويستعمل غالباً في العقار ، كما يقولون : إن ادّعى عقاراً حدّده ، أي ذكر المدّعي حدوده .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّعيين :
2 - تعيين الشّيء : تخصيصه من الجملة ، يقال : عيّنت النّيّة إذا نويت صوماً معيّناً ، ومنه خيار التّعيين ، وهو أن يشتري أحد الشّيئين أو الثّلاثة على أن يعيّنه في خلال ثلاثة أيّام . ب - التّقدير :
3 - التّقدير من القدر ، وقدر الشّيء ومقداره : مقياسه ، فالتّقدير : وضع قدر للشّيء أو قياسه ، أو التّروّي والتّفكير في تسوية أمر وتهيئته ، ومنه : تقدير القاضي العقوبة الرّادعة في التّعزير بحيث تتناسب مع الجريمة والمجرم .
الحكم الإجماليّ :
4 - تحديد المعقود عليه في العقود الواردة على العقار بحيث تنتفي الجهالة شرط لصحّة العقد . وتحديد المدّعي شرط لصحّة الدّعوى إذا كان عقاراً ، لأنّ العقار لا يمكن إحضاره فتعذّر تعريفه بالإشارة ، فيعرف بالحدود ، فيذكر المدّعي الحدود الأربعة ، ويذكر أسماء أصحاب الحدود وأنسابهم ، ويذكر المحلّة والبلد ، وإلاّ لا تصحّ الدّعوى .
وتفصيله في مصطلح : ( دعوى ) .
مواطن البحث :
يذكر الفقهاء تحديد المدّعي في كتاب الدّعوى ، وتحديد المعقود عليه في البيع والإجارة ونحوها .
تحرّف *
التّعريف :
1 - من معاني التّحرّف في اللّغة : الميل ، والعدول عن الشّيء . يقال : حرّف عن الشّيء يحرّف حرفاً وتحرّف : عدل ، وإذا مال الإنسان عن شيء يقال : تحرّف .
واصطلاحاً : يطلق على التّحرّف في القتال بمعنى ترك الموقف إلى موقف أصلح للقتال منه ، حسب ما يقتضيه الحال ، أو للتّوجّه إلى قتال طائفة أخرى أهمّ من هؤلاء ، أو مستطرداً لقتال عدوّه بطلب عورة له يمكنه إصابتها ، فيكرّ عليه .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - إذا التقى جيش المسلمين والكفّار وكان عدد الكفّار مثلي المسلمين أو أقلّ يحرم الفرار والانصراف إلاّ متحرّفاً لقتال ، فيجوز له الانصراف بقصد التّحرّف ، لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا لَقِيتُم الّذين كفروا زَحْفاً فلا تُوَلُّوهم الأَدْبارَ ، ومن يُوَلِّهم يَوْمَئِذٍ دُبُرَه إلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أو مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فقد باءَ بِغَضَبٍ من اللّه ومَأْواه جهنّمُ وبئسَ المصيرُ } . والمتحرّف هو من ينصرف من جهة إلى أخرى حسبما يقتضيه الحال ، فله أن ينتقل من مكان ضيّق إلى مكان أرحب منه ، ليتبعه العدوّ إلى متّسع سهل للقتال ، أو من موضع مكشوف إلى موضع آخر غير مكشوف ليكمن فيه ويهجم ، أو عن محلّه لأصون منه عن نحو ريح أو شمس أو عطش ، أو يفرّ بين أيديهم لتنتقض صفوفهم ويجد فيهم فرصةً ، أو ليستند إلى جبل ونحو ذلك ممّا جرت به عادة أهل الحرب ، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنّه كان يوماً في خطبته إذ قال : " يا سارية بن زنيم الجبل " ، وكان قد بعث سارية إلى ناحية العراق لغزوهم ، فلمّا قدم ذلك الجيش أخبروا أنّهم لاقوا عدوّهم يوم جمعة ، فظهر عليهم ، فسمعوا صوت عمر فتحيّزوا إلى الجبل ، فنجوا من عدوّهم فانتصروا عليهم . والتّحرّف جائز بلا خلاف بين جمهور الفقهاء ، ولكنّ المالكيّة أجازوه لغير أمير الجيش والإمام . أمّا هما فليس لهما التّحرّف ، لما يحصل بسبب ذلك من الخلل والمفسدة . والتّفصيل موطنه مصطلح : ( جهاد ) .
تحرّي *
التّعريف :
1 - التّحرّي في اللّغة : القصد والابتغاء ، كقول القائل : أتحرّى مسرّتك ، أي أطلب مرضاتك ، ومنه قوله تعالى : { فأولئك تَحَرَّوا رَشَداً } أي قصدوا طريق الحقّ وتوخّوه . ومنه حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر ... » الحديث . أي اعتنوا بطلبها . وفي الاصطلاح : بذل المجهود في طلب المقصود ، أو طلب الشّيء بغالب الظّنّ عند عدم الوقوف على حقيقته .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاجتهاد :
2 - الاجتهاد والتّحرّي لفظان متقاربا المعنى ، ومعناهما : بذل المجهود في طلب المقصود ، إلاّ أنّ لفظ الاجتهاد صار في عرف العلماء مخصوصاً ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشّريعة ، وبذل المجهود في تعرّف حكم الحادثة من الدّليل .
أمّا التّحرّي فقد يكون بدليل ، وقد يكون بمجرّد شهادة القلب من غير أمارة . فكلّ اجتهاد تحرّ ، وليس كلّ تحرّ اجتهاد .
ب - التّوخّي :
3 - التّوخّي مأخوذ من الوخى ، بمعنى القصد ، فالتّحرّي والتّوخّي سواء ، إلاّ أنّ لفظ التّوخّي يستعمل في المعاملات . كما قال صلى الله عليه وسلم للرّجلين اللّذين اختصما في المواريث : « اذهبا وتوخّيا ، واستهما ، وليحلل كلّ واحد منكما صاحبه » .
وأمّا التّحرّي فيستعمل غالباً في العبادات . كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا شكّ أحدكم في الصّلاة فليتحرّ الصّواب » .
ج - الظّنّ :
4 - الظّنّ : هو إدراك الطّرف الرّاجح مع احتمال النّقيض ، ففي الظّنّ يكون ترجيح أحد الأمرين على الآخر ، فإن كان بغير دليل فهو مذموم ، ويكون التّرجيح في التّحرّي بغالب الرّأي ، وهو دليل يتوصّل به إلى طرف العلم وإن كان لا يتوصّل به إلى ما يوجب حقيقة العلم ، وقد يستعمل الظّنّ بمعنى اليقين كقوله تعالى : { الّذين يظنّون أنّهم ملاقو ربّهم } .
د - الشّكّ :
5 - الشّكّ : تردّد بين احتمالين مستويين ، أي من غير رجحان لأحدهما على الآخر عند الشّاكّ . فالتّحرّي وسيلة لإزالة الشّكّ .
الحكم التّكليفيّ :
6 - التّحرّي مشروع والعمل به جائز ، والدّليل على ذلك الكتاب والسّنّة والمعقول : أمّا الكتاب : فقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا جاءكم المؤمناتُ مهاجراتٍ فامتحنوهنّ اللّه أعلمُ بإِيمانهنّ فإِن عَلِمْتُموهنَّ مُؤْمنات فلا تَرْجعوهنّ إلى الكفّار } .
وذلك يكون بالتّحرّي وغالب الرّأي ، وأطلق عليه العلم .
وأمّا السّنّة : فالحديثان السّابقان عند الكلام عن التّوخّي .
وأمّا ما يدلّ عليه من المعقول : فهو أنّ الاجتهاد في الأحكام الشّرعيّة جائز للعمل به ، وذلك عمل بغالب الرّأي ، ثمّ جعل مدركاً من مدارك أحكام الشّرع ، وإن كانت الأحكام لا تثبت به ابتداءً ، فكذلك التّحرّي مدرك من مدارك التّوصّل إلى أداء العبادات وإن كانت العبادة لا تثبت به ابتداءً .
هذا ، والتّحرّي في أحكام الشّرع ورد في مواضع كثيرة ، ويختلف حكمه باختلاف مواطنه : أوّلاً : التّحرّي لمعرفة الطّاهر من غيره حالة الاختلاط :
أ - اختلاط الأواني :
7 - إذا اختلطت الأواني الّتي فيها ماء طاهر بالأواني الّتي فيها ماء نجس ، واشتبه الأمر ، ولم يكن معه ماء طاهر سوى ذلك ، ولا يعرف الطّاهر من النّجس :
فإن كانت الغلبة للأواني الطّاهرة ، يتحرّى عند الحنفيّة وبعض الحنابلة ، لأنّ الحكم للغالب ، وباعتبار الغالب لزمه استعمال الماء الطّاهر ، وإصابته بتحرّيه مأمولة ، ولأنّ جهة الإباحة قد ترجّحت . وإن كانت الغلبة للأواني النّجسة أو كانا متساويين ، فليس له أن يتحرّى إلاّ للشّرب حالة الضّرورة ، إذ لا بديل له ، بخلاف الوضوء فإنّ له بديلاً .
وظاهر كلام أحمد وأكثر أصحابه عدم جواز التّحرّي ، وإن كثر عدد الأواني الطّاهرة .
وعند الشّافعيّة يجوز التّحرّي في الحالين ، فيتوضّأ بالأغلب ، لأنّه شرط للصّلاة ، فجاز التّحرّي من أجله كالقبلة .
وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا كان عنده ثلاثة أوان نجسة أو متنجّسة واثنان طهوران ، واشتبهت هذه بهذه ، فإنّه يتوضّأ ثلاثة وضوآت من ثلاثة أوان عدد الأواني النّجسة ، ويتوضّأ وضوءاً رابعاً من إناء رابع ، ويصلّي بكلّ وضوء صلاةً .
وحكى ابن الماجشون من المالكيّة قولاً آخر ، وهو أنّه يتوضّأ من كلّ واحد من الأواني وضوءاً ويصلّي به . والتّفصيل في مصطلح ( اشتباه ) .
ب - اختلاط الثّياب :
8 - إذا اشتبهت على الشّخص ثياب طاهرة بنجسة ، وتعذّر التّمييز بينها ، وليس معه ثوب طاهر بيقين غيرها ، ولا ما يغسلها به ، ولا يعرف الطّاهر من النّجس ، واحتاج إلى الصّلاة ، فإنّه يتحرّى عند الحنفيّة ، وهو المشهور عند المالكيّة والشّافعيّة ما عدا المزنيّ ، ويصلّي في الّذي يقع تحرّيه على أنّه طاهر ، سواء أكانت الغلبة للثّياب النّجسة أم الطّاهرة ، أو كانا متساويين . وقال الحنابلة ، وابن الماجشون من المالكيّة : لا يجوز التّحرّي ، ويصلّي في ثياب منها بعدد النّجس منها ، ويزيد صلاةً في ثوب آخر .
وقال ابن عقيل من الحنابلة : يتحرّى في أصحّ الوجهين دفعاً للمشقّة .
وقال أبو ثور والمزنيّ : لا يصلّي في شيء منها ، كقولهما في الأواني .
ج - اختلاط المذكّاة بالميتة :
9 - إذا اختلطت المذكّاة بالميتة ، فذهب الحنفيّة إلى أنّه يجوز التّحرّي في حالة الاضطرار مطلقاً ، أي سواء أكانت الغلبة للمذكّاة أم للميتة أو تساويا .
وفي حالة الاختيار لا يجوز التّحرّي إلاّ إذا كانت الغلبة للحلال .
وأمّا الأئمّة الثّلاثة فلا يجوز عندهم التّحرّي مطلقاً في هذا المجال .
د - التّحرّي في الحيض :
10 - إذا نسيت امرأة عدد أيّام حيضها وموضعها ، واشتبه عليها حالها في الحيض والطّهر فالمتبادر من أقوال جمهور الفقهاء أنّ عليها أن تتحرّى ، فإن وقع أكبر رأيها على أنّها حائض أعطيت حكمه ، وإن وقع أكبر رأيها على أنّها طاهرة أعطيت حكم الطّاهرات ، لأنّ غلبة الظّنّ من الأدلّة الشّرعيّة .
وأمّا إذا تحيّرت ولم يغلب على ظنّها شيء ، فهي المتحيّرة أو المضلّة ، فعليها الأخذ بالأحوط في الأحكام . ولتفصيل أحكامها يرجع إلى مصطلح ( حيض ، استحاضة ) .
ثانياً : معرفة القبلة بالاستدلال والتّحرّي :
11 - إنّ المصلّي إذا كان قادراً على استقبال القبلة ، وكان بمكّة وفي حال مشاهدة الكعبة ومعاينته لها ، فلا خلاف بين الفقهاء في أنّ عليه التّوجّه إلى عين الكعبة ، ومقابلة ذاتها . وإن كان نائياً عن الكعبة غائباً عنها : فذهب الحنفيّة إلى أنّه يكفيه استقبال جهة الكعبة باجتهاد ، وليس عليه إصابة العين ، وهو الأظهر عند المالكيّة والحنابلة ، وهو قول للشّافعيّ .
والأظهر عند الشّافعيّة ، وهو قول للمالكيّة ، ورواية عن الحنابلة : أنّه تلزمه إصابة العين . ولا يجوز الاجتهاد عند جمهور الفقهاء مع وجود محاريب الصّحابة ، وكذلك محاريب المسلمين الّتي تكرّرت الصّلوات إليها .
كما أنّه لا يجوز الاجتهاد إذا كان بحضرته من يسأله من أهل المكان العالم بها ، بشرط كونه مقبول الشّهادة ، فالذّمّيّ والجاهل والفاسق والصّبيّ لا يعتدّ بإخباره في هذا المجال .
فإذا عجز المصلّي عن إصابة عين الكعبة والتّوجّه إلى جهتها استدلالاً بالمحاريب المنصوبة القديمة ، أو سؤال من هو عالم بالقبلة ، ممّن تقبل شهادته من أهل المكان : فإن كان من أهل الاجتهاد في أمر القبلة ، فعليه الاجتهاد . والمجتهد في القبلة هو : العالم بأدلّتها وهي : النّجوم ، والشّمس ، والقمر ، والرّياح ، والجبال ، والأنهار وغير ذلك من الوسائل والمعالم ، وإن كان جاهلاً بأحكام الشّرع . فإنّ كلّ من علم بأدلّة شيء كان من المجتهدين فيه ، وإن جهل غيره . وإن كان غير عالم بأدلّتها ، أو كان أعمى فهو مقلّد وإن علم غيرها . فالمصلّي القادر على الاجتهاد إن صلّى بغير اجتهاد ، فالمتبادر من أقوال جمهور الفقهاء أنّه لا تجوز صلاته ، وإن وقعت إلى القبلة ، وكذلك إذا أدّاه الاجتهاد إلى جهة فصلّى إلى غيرها ، ثمّ تبيّن أنّه صلّى إلى الكعبة ، فصلاته باطلة عند الأئمّة الأربعة ، لتركه الواجب ، كما لو صلّى ظانّاً أنّه محدث ثمّ تبيّن أنّه متطهّر . ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلح : ( استقبال ) .
12 - من عجز عن معرفة القبلة بالاستدلال ، بأن خفيت عليه الأدلّة لحبس أو غيم ، أو التبست عليه أو تعارضت ، ولم يكن هناك من يخبره اختلف الفقهاء في ذلك ، فذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو المعتمد عند المالكيّة : إلى أنّ عليه التّحرّي وتصحّ صلاته ، لأنّ التّكليف بحسب الوسع والإمكان ، وليس في وسعه إلاّ التّحرّي . والمشهور عند الشّافعيّة أنّه يصلّي كيف كان لحرمة الوقت ، سواء أكان في الوقت سعة أم لا ، ويقضي لندرة حصول ذلك . والأصل في هذا الباب ما روي عن عامر بن ربيعة أنّه قال : « كنّا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة ، فلم ندر أين القبلة ، فصلّى كلّ رجل منّا على خياله ، فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فنزل قول اللّه تعالى : { فأينما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجهُ اللّه } » وقال عليّ رضي الله تعالى عنه :" قبلة المتحرّي جهة قصده ".
ثالثاً : التّحرّي في الصّلاة :
13 - من شكّ في الصّلاة فلا يدري كم صلّى ، فعند الحنفيّة إن كان يعرض له الشّكّ كثيراً في الصّلاة ، وكان له رأي تحرّى ، وبنى على أكبر رأيه ، لقوله عليه الصلاة والسلام :
« من شكّ في الصّلاة فليتحرّ الصّواب » .
وعند المالكيّة يبني على الأقلّ ، ويأتي بما شكّ فيه مطلقاً .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا شكّ في أثناء الصّلاة فعليه الأخذ بالأقلّ ، ويسجد للسّهو . ولو شكّ بعد السّلام فقولان عندهم :
أحدهما : أن يقوم إلى التّدارك ، كأنّه لم يسلّم .
والثّاني : أنّه لا يعتبر بعد الفراغ لما فيه من العسر .
وأمّا الحنابلة فيفرّقون بين الإمام والمنفرد في المشهور من مذهبهم . فمن كان إماماً وشكّ فلم يدر كم صلّى تحرّى وبنى على غالب ظنّه ، وأمّا المنفرد فيبني على اليقين ( الأقلّ ) ، وفي رواية يبني على غالب ظنّه كالإمام ، هذا إذا كان له رأي ، أمّا إذا استوى عنده الأمران بنى على اليقين إماماً كان أو منفرداً .
رابعاً : التّحرّي في الصّوم :
14 - من كان محبوساً أو كان في بعض النّواحي النّائية عن الأمصار ، أو بدار حرب بحيث لا يمكنه التّعرّف على الأشهر بالخبر واشتبه عليه شهر رمضان : فقد اتّفق الفقهاء على أنّه يجب عليه التّحرّي والاجتهاد في معرفة شهر رمضان ، لأنّه أمكنه تأدية فرض بالتّحرّي والاجتهاد ، فلزمه كاستقبال القبلة .
فإذا غلب على ظنّه عن أمارة تقوم في نفسه دخول شهر رمضان صامه ، ثمّ إن تبيّن أنّه أصاب شهر رمضان ، أو لم ينكشف له الحال أجزأه في قول عامّة الفقهاء ، لأنّه أدّى فرضه بالاجتهاد ، وأدرك ما هو المقصود بالتّحرّي .
وإن تبيّن أنّه صام شهراً قبله ، فذهب الأئمّة الثّلاثة ، والشّافعيّة في الصّحيح من المذهب أنّه لا يجزئه ، لأنّه أدّى العبادة قبل وجود سبب وجوبها فلم تجزئه كمن صلّى قبل الوقت . وعند الشّافعيّة قول في القديم في حالة تبيّن الأمر بعد رمضان أنّه يجزئ ، لأنّه عبادة تفعل في السّنة مرّةً ، فجاز أن يسقط فرضها بالفعل قبل الوقت عند الخطأ .
أمّا إن تبيّن أنّه صام شهراً بعده ، جاز عند جمهور الفقهاء ، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ، وذلك بشرطين : إكمال العدّة ، وتبييت النّيّة لشهر رمضان ، لأنّه قضاء ، وفي القضاء يعتبر هذان الشّرطان ، وفي قول للشّافعيّة أنّه أداء للعذر ، لأنّ العذر قد يجعل غير الوقت وقتاً كما في الجمع بين الصّلاتين .
وعلى هذا فإن كان الشّهر الّذي صامه ناقصاً ، ورمضان الّذي صامه النّاس تامّاً ، صام يوماً ، لأنّ صوم شهر آخر بعده يكون قضاءً ، والقضاء يكون على قدر الفائت .
وعلى القول الثّاني للشّافعيّة - بأنّه يقع أداءً - يجزئه ولو صامه ناقصاً وصام النّاس رمضان تامّاً ، لأنّ الشّهر يقع ما بين الهلالين . وكذلك إن وافق بعض رمضان دون بعض ، فما وافق رمضان أو بعده أجزأه ، وما وافق قبله لم يجزئه .
وأمّا إن ظنّ أنّ الشّهر لم يدخل فصام لم يجزئه ، ولو أصاب ، وكذا لو شكّ في دخوله ولم يغلب على ظنّه دخوله . وإن صام من اشتبهت عليه الأشهر بلا اجتهاد وهو قادر عليه ، وبلا تحرّ ، لا يجزئه كمن خفيت عليه القبلة .
ومن شكّ في الغروب في يوم غيم ولم يتحرّ لا يحلّ له الفطر ، لأنّ الأصل بقاء النّهار .
خامساً : التّحرّي في معرفة مستحقّي الزّكاة :
15 - من شكّ في حال من يدفع له الزّكاة لزمه التّحرّي : فإن وقع في أكبر رأيه أنّه فقير دفع إليه ، فإذا ظهر أنّه فقير أو لم يظهر من حاله شيء جاز بالاتّفاق ، وإن ظهر أنّه كان غنيّاً فكذلك في قول أبي حنيفة ومحمّد ، وهو قول أبي يوسف الأوّل ، وفي قوله الآخر تلزمه الإعادة ، وهو قول للشّافعيّ .
وعند المالكيّة : إن دفع الزّكاة باجتهاد لغير مستحقّ في الواقع كغنيّ ، أو كافر مع ظنّه أنّه مستحقّ ، لم تجزه . أمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فروايتان : إحداهما يجزئه ، والأخرى لا يجزئه . ولمعرفة تفصيل أحكام ذلك يرجع إلى مصطلح : ( زكاة ) .
سادساً : التّحرّي بين الأقيسة المتعارضة :
16 - إذا وقع التّعارض بين القياسين ، ولم يكن هناك دليل لترجيح أحدهما على الآخر ، ولم يقع اختياره على أحدهما بالعمل به ، فيجب التّحرّي ، خلافاً للإمام الشّافعيّ ، فإنّه يقول : لا يجب التّحرّي ، بل للمجتهد أن يعمل بأيّهما شاء ، وعلى هذا الخلاف ، التّحرّي في قول صحابيّين عند من يقول بحجّيّة قول الصّحابيّ ، والتّفصيل في الملحق الأصوليّ .
مواطن البحث :
17 - ورد ذكر التّحرّي في فصول كثيرة من كتب الفقه منها : كتاب الصّلاة عند الكلام عن استقبال القبلة ، وسجدة السّهو ، وأبواب الحيض والطّهارة ، والصّوم ، وخصّص صاحب المبسوط للتّحرّي كتاباً مستقلّاً بعنوان ( كتاب التّحرّي ) ، كما أنّه يرجع لتفصيل أحكامه إلى مصطلحات ( استقبال ، واستحاضة ، واشتباه ) .
تحريش *
التّعريف :
1 - التّحريش في اللّغة : إغراء الإنسان أو الحيوان ليقع بقرنه ، أي نظيره . يقال : حرّش بين القوم إذا أفسد بينهم ، وأغرى بعضهم ببعض .
قال الجوهريّ : التّحريش : الإغراء بين القوم ، أو البهائم ، كالكلاب والثّيران وغيرهما ، بتهييج بعضها على بعض ، ففي التّحريش تسليط للمحرّش على غيره . ويقال في تسليط الكلب المعلّم نحوه على الصّيد : إشلاء .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ للتّحريش عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّحريض :
2 - التّحريض : الحثّ على القتال وغيره ، وهو يكون في الخير والشّرّ ، ويغلب استعماله فيما يكون الحثّ فيه لطرف ، أمّا التّحريش فيكون فيه الحثّ لطرفين .
الحكم التّكليفيّ :
3 - التّحريش بين النّاس بقصد الإفساد حرام ، لأنّه وسيلة لإفساد ذات البين ، واللّه لا يحبّ الفساد . ومن صور التّحريش : النّميمة . قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ألا أخبركم بأفضلَ من درجةِ الصّيام والصّلاة والصّدقة ؟ قالوا : بلى . قال : صلاح ذات البَيْن ، فإنّ فساد ذات البين هي الحالقة » أمّا تحريش الحيوان - بمعنى الإغراء والتّسليط والإرسال بقصد الصّيد - فمباح كإرسال الكلب المعلّم ، وما في معناه من الحيوانات .
ولا خلاف بين الفقهاء في حرمة التّحريش بين البهائم ، بتحريض بعضها على بعض وتهييجه عليه ، لأنّه سفه ويؤدّي إلى حصول الأذى للحيوان ، وربّما أدّى إلى إتلافه بدون غرض مشروع .
وجاء في الأثر : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن التّحريش بين البهائم » . ويحرم التّحريش بين المسلمين بقصد الإفساد وإثارة الفتنة بينهم . وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ الشّيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب ، ولكن في التّحريش بينهم » . أمّا الإغراء على فعل مشروع فيسمّى تحريضاً ، ومنه التّحريض على ركوب الخيل ، والتّدرّب على الرّمي ، وفنون القتال وهو جائز .
وقال بعض الفقهاء : إنّه مستحبّ . وتفصيله في ( تحريض ) .
تحريض *
التّعريف :
1 - التّحريض في اللّغة : التّحضيض والحثّ على القتال وغيره والإحماء عليه . وجاء في التّنزيل : { فقاتلْ في سبيلِ اللّه لا تُكَلَّفُ إلاّ نفسَك وحرِّض المؤمنين } .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
وقريب من التّحريض الحثّ والتّحريش والإغراء والتّهييج .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّثبيط :
2 - التّثبّط مصدر ثبّطه عن الأمر تثبيطاً : شغله عنه وعوَّقه . ونحوه التّخذيل ، وهو : حمل أنصار الشّخص على ترك عونه وتثبيطه عن نصرته . فالتّثبيط ضدّ التّحريض .
ب - الإرجاف :
3 - الإرجاف مصدر : أرجف في الشّيء : خاض فيه ، وأرجف القوم : إذا خاضوا في الأخبار السّيّئة وذكر الفتن . قال اللّه تعالى : { والمرْجِفون في المدينة } وهم الّذي يولّدون الأخبار الكاذبة الّتي يكون معها اضطراب في النّاس .
فالإرجاف وسيلة من وسائل التّثبيط الّذي هو ضدّ التّحريض .
ج - التّحريش :
4 - التّحريش : إغراء الإنسان أو الحيوان ليقع بقرنه أي نظيره . ولا يكون استعماله إلاّ في الشّرّ ، وهو فيما يكون الحثّ فيه لطرفين . أمّا التّحريض فيكون الحثّ فيه لطرف .
الحكم التّكليفيّ :
5 - يختلف حكم التّحريض باختلاف موضوعه :
فالتّحريض على القتال في الجهاد مأمور به ، وكذلك التّحريض على البرّ والإحسان ، كإطعام المساكين والأيتام . والتّحريض في الفساد ، وأنواع المنكر حرام .
وتحريض السّبع الضّاري ، والكلب العقور على إنسان معصوم الدّم أو مال محترم حرام وموجب للضّمان ، بتفصيل يأتي .
تحريض المجاهدين على القتال :
6 - يسنّ للإمام والأمير إذا جهّز جيشاً أو سريّةً للخروج إلى الجهاد أن يحرّضهم على القتال وعلى الصّبر والثّبات . لقوله تعالى : { فقاتلْ في سبيلِ اللّه لا تُكَلَّفُ إلاّ نفسَك وحرِّض المؤمنين } وقوله تعالى : { يا أيّها النّبيّ حرِّض المؤمنينَ على القتالِ }
وتفصيله في باب الجهاد .
التّحريض على المسابقة :
7 - يسنّ تحريض الرّجال على المسابقة والمناضلة وركوب الخيل . ويجوز للإمام أن يدفع العوض من بيت المال ، ومن ماله الخاصّ ، كما يجوز للأفراد أيضاً أن يدفعوه ، لأنّه بذل في طاعة ، ويثاب عليه . لأنّ ذلك من الإعداد الّذي أمر اللّه به في قوله عزّ من قائل : { وأَعِدُّوا لهم ما استطعتم من قُوَّةٍ ومن رِباطِ الخيلِ }
ولخبر : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج يوماً على قوم يتناضلون فقال : ارموا بني إسماعيل فإنّ أباكم كان رامياً » ولخبر : « ألا إنّ القوّة الرّمي ، ألا إنّ القوّة الرّمي » ، ولخبر : { إنّ اللّه يدخل الجنّة بالسّهم الواحد ثلاثةً : صانعه يحتسب في صنعه الخير ، والرّامي به ، ومنبّله » إلخ . والتّفصيل في ( السّباق ) .
تحريض الحيوان :
8 - إذا حرّض حيواناً فجنى على إنسان فعليه الضّمان لتسبّبه ، هذا رأي المالكيّة والحنابلة . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا كان في موضع واسع كالصّحراء فقتله فلا ضمان ، لأنّه لم يلجئه إلى قتله ، والّذي وجد منه ليس بمهلك . أمّا إذا كان في موضع ضيّق ، أو كان الحيوان ضارياً شديد العدو لا يتأتّى الهرب منه في الصّحراء ، وجب عليه الضّمان إذا قتل في الحال . وعند الأحناف : لا يضمن . والتّفصيل في ( الجنايات ) .
تحريض المحرم كلباً على صيد :
9 - إذا حرّض محرم كلباً على صيد ضمن ، كحلال في الحرم بجامع التّسبّب فيهما . والتّفصيل في ( الإحرام ) .
تحريف *
التّعريف :
1 - التّحريف لغةً : مصدر حرّف الشّيء : إذا جعله على جانب ، أو أخذ من جانبه شيئاً ، وتحريف الكلام عن مواضعه تغييره والعدول به عن جهته ، ومنه قوله تعالى في اليهود :
{ يُحرِّفونَ الكَلِمَ عن مَوَاضِعه } أي يغيّرونه .
والتّحريف في الاصطلاح : التّغيير في الكلمة بتبديل في حركاتها ، كالفلك والفلك ، والخلق والخلق . أو تبديل حرف بحرف ، سواء اشتبها في الخطّ أم لا ، أو كلمة بكلمة نحو ( سرى بالقوم ) ( وسرى في القوم ) أو بالزّيادة في الكلام أو النّقص منه ، أو حمله على غير المراد منه . وخصّه بعضهم في علم أصول الحديث بتبديل الكلمة بكلمة أخرى تشابهها في الخطّ والنّقط ، وتخالفها في الحركات ، كتبديل الخلق بالخلق ، والقدم بالقدم ، وهذا اصطلاح ابن حجر على ظاهر ما في نخبة الفكر وشرحها ، جعله مقابلاً للتّصحيف .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّصحيف :
2 - التّصحيف هو تغيير اللّفظ حتّى يتغيّر المعنى المراد ، وأصله الخطأ ، يقال : صحّفه فتصحّف ، أي غيّره فتغيّر حتّى التبس .
والتّصحيف في الاصطلاح اختلف فيه على قولين : قيل : هو كلّ تغيير في الكلمة سواء بسبب اختلاف النّقط أو الشّكل أو بتبديل حرف بحرف أو كلمة بكلمة ، وهذا الّذي جرى عليه اصطلاح أغلب المحدّثين قبل ابن حجر ، منهم الخطيب في الكفاية ، والحاكم في معرفة علوم الحديث ، والنّوويّ في التّقريب ، وابن الصّلاح وغيرهم . وهو بهذا المعنى قريب من التّحريف ، إلاّ أنّ التّحريف أشمل ، إذ يدخل فيه تغيير المعنى مع بقاء اللّفظ على حاله . فيكون التّصحيف هو التّحريف في نقط الكلمة أو شكلها أو حروفها . وما سوى ذلك فهو التّحريف في المعنى .
أمّا ابن حجر ومن تابعه فقد ذهبوا إلى أنّ التّصحيف خاصّ بتبديل الكلمة بكلمة أخرى تشابهها في الخطّ وتخالفها في النّقط ، وهو اصطلاح العسكريّ في كتابه ( شرح التّصحيف والتّحريف ) وذلك كتبديل الغدر بالعذر ، والخطب بالحطب .
وإنّما سمّي هذا النّوع من التّحريف تصحيفاً لأنّ الآخذ عن الصّحيفة قد لا يمكنه التّفريق بين الكلمة المرادة والكلمة الّتي تلتبس بها لمشابهتها في الصّورة ، بخلاف الآخذ من أفواه أهل العلم . وكان هذا الالتباس كثيراً قبل اختراع النّقط في القرن الثّاني الهجريّ ، وقلّ بعده ، إلاّ أنّه لم ينعدم حتّى عند من يلتزم به ، لأنّ النّقط قد تسقط ، وقد تنتقل عن مكانها ، فيحصل الالتباس .
ب - التّزوير :
3 - الزّور لغةً : الكذب ، والتّزوير : تزيين الكذب .
واصطلاحاً : كلّ قول أو عمل يراد به تزيين الباطل حتّى يظنّ أنّه حقّ ، سواء أكان ذلك في القول كشهادة الزّور ، أم الفعل كمحاكاة الخطوط أو النّقود بقصد إثبات الباطل . فالفرق بينه وبين التّحريف أنّ التّزوير يحدث به تغيير مقصود ، أمّا التّحريف فقد يتغيّر به الواقع وقد لا يتغيّر ، وقد يكون التّحريف مقصوداً أو غير مقصود ، ففيهما عموم وخصوص .
أنواع التّحريف والتّصحيف :
4 - التّحريف إمّا لفظيّ وإمّا معنويّ : فاللّفظيّ يكون في السّند ، كما صحّف الطّبريّ اسم عتبة بن النّدّر فقال فيه : ابن البذر . ويكون في المتن كما صحّف ابن لهيعة حديث « احتجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المسجد » فقال فيه « احتجم في المسجد » .
وينقسم اللّفظيّ قسمين : أوّلهما : ما يحسّ بالبصر ، كما سبق .
وثانيهما : ما يحسّ بالسّمع ، نحو حديث لعاصم الأحول رواه بعضهم فقال " واصل الأحدب " فذكر الدّارقطنيّ أنّه من تصحيف السّمع ، لا من تصحيف البصر ، كأنّه ذهب - واللّه أعلم - إلى أنّ ذلك لا يشتبه من حيث الكتابة وإنّما أخطأ فيه السّمع ممّن رواه كذلك .
وأمّا التّحريف المعنويّ : فهو ما يقع في المعنى بحمل اللّفظ على غير المراد منه بتأويل فاسد ، قصداً أو بدون قصد . ومن أمثلته : ما رواه محمّد بن المثنّى العنزيّ ، حدّث بحديث « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى إلى عَنَزة » . فقال : نحن قوم لنا شرف ، صلّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلينا . وإنّما العنزة هنا : حربة نصبت بين يديه فصلّى إليها ، وليس المراد قبيلة عنزة . قال ابن الصّلاح : وأظرف من هذا أنّ أعرابيّاً زعم أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلّى نصبت بين يديه شاة . أي صحّفها إلى عنزة بإسكان النّون .
حكم التّحريف والتّصحيف :
التّحريف إمّا أن يقصد به كتاب اللّه تعالى ، أو الأحاديث النّبويّة ، أو غيرهما من الكلام :
أ - التّحريف لكلام اللّه تعالى :
5 - ضمن اللّه تعالى أن يحفظ كتابه من التّبديل والتّحريف في ألفاظه ومبانيه حتّى يبقى إلى يوم القيامة كما أنزل ، قال تعالى : { إنّا نحن نَزّلْنا الذِكْر وإنّا له لحافظون } فعزل الشّياطين عن استماعه ، ورجمهم عند البعثة بالشّهب ، وجعل القرآن { في صُحُفٍ مكرَّمة مرفوعةٍ مطهَّرة بأَيْدي سَفَرةٍ كرامٍ بَرَرَةٍ } ولم يجعل اللّه تعالى لأحد من خلقه أن يبدّل كلامه أو يغيّر فيه ، قال اللّه تعالى : { وإذا تُتْلى عليهم آياتُنا بَيِّنات قال الّذين لا يَرْجون لِقاءَنا ائْتِ بقُرْآنٍ غيرِ هذا أو بَدِّلْه قل ما يكون لي أَنْ أُبَدِّلَه من تِلْقَاء نفسي إنْ أَتَّبِعُ إلاّ ما يُوحى إليَّ }
ودعت الشّريعة المسلمين إلى حفظ القرآن وتلاوته وضبطه ، فقامت الأمّة الإسلاميّة بذلك خير قيام ، بحيث أمن أن يتبدّل منه شيء ، ولو بدّل أحد حرفاً واحداً منه لوجد العشرات بل المئات من المسلمين كباراً وصغاراً ممّن يبيّنون ذلك التّحريف ، وينفون ذلك التّبديل .
وقد قصّ اللّه تعالى في كتابه ما فعله أهل الكتاب ، من تحريف لما لديهم من الكتب السّماويّة بالزّيادة أو الحذف أو التّغيير ، فقال : { وإنَّ منهم لَفَريقاً يَلْوُون ألسنَتَهم بالكتابِ لِتَحْسَبوه من الكتابِ وَمَا هو منَ الكتابِ ويقولون هوَ مِنْ عندِ اللّهِ وما هو من عندِ اللّهِ } وقال : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤمنوا لكم وقد كان فريقٌ منهم يسمعونَ كلامَ اللّهِ ثمّ يُحَرِّفونه من بعد ما عَقَلوه وهم يعلمون } وقال : { فَبِما نَقْضِهم ميثاقَهم لَعَنَّاهم وجعلنا قلوبَهم قاسيةً يُحَرِّفُون الكَلِمَ عن مواضِعه } وقال : { ومن الّذين هادُوا سَمَّاعون لِلْكَذب سَمَّاعون لِقَوْم آخرين لمْ يَأْتوك يحرِّفون الكَلِمَ مِنْ بعد مواضعه } .
ولأجل الأمن من أيّ تحريف أو تغيير في كلام اللّه تعالى التزم جمهور علماء الأمّة رسم خطّ المصحف العثمانيّ دون تغيير فيه ، مهما تغيّر اصطلاح الكتابة في العصور اللّاحقة .
قال الزّركشيّ : ولم يكن ذلك منهم كيف اتّفق ، بل على أمر عندهم قد تحقّق .
وقال أبو البقاء في كتاب اللّباب : ذهب جماعة من أهل اللّغة إلى كتابة الكلمة على لفظها ، إلاّ في خطّ المصحف ، فإنّهم اتّبعوا في ذلك ما وجدوه في المصحف الإمام .
وقال أشهب : سئل مالك رحمه الله : هل تكتب المصحف على ما أخذه النّاس من الهجاء ؟ فقال : لا ، إلاّ على الكتبة الأولى . رواه الدّانيّ ، ثمّ قال : ولا مخالف له من علماء الأمّة ، وقال الإمام أحمد : تحرم مخالفة خطّ مصحف عثمان " أي رسمه " في ياء أو واو أو ألف أو غير ذلك ، وقال أبو عبيد : اتّباع حروف المصحف عندنا كالسّنّة القائمة الّتي لا يجوز لأحد أن يتعدّاها إلاّ أنّ للإمام الشّوكانيّ في ذلك رأياً مخالفاً بيّنه في تفسيره عند قوله تعالى : { الّذين يَأْكلون الرِّبَوا } من سورة البقرة : قال : وقد كتبوه في المصحف بالواو ، وهذا مجرّد اصطلاح لا يلزم المشي عليه ، فإنّ هذه النّقوش الكتابيّة أمور اصطلاحيّة لا يشاحّ في مثلها ، إلاّ فيما كان يدلّ به على الحرف الّذي كان في أصل الكلمة ونحوه . قال : وعلى كلّ حال فرسم الكلمة وحمل نقشها الكتابيّ على ما يقتضيه اللّفظ بها هو الأولى أمّا التّغيير في القراءة بما يخرج عن رسم المصحف فلا يجوز أيضاً بوجه من الوجوه ، ولا يجوز التّغيير عمّا صحّت به الرّواية من الوجوه ولو احتملها رسم المصحف الإمام .
ويحصل الأمن من تحريف ألفاظ القرآن بالتّلقّي من أفواه القرّاء العالمين بالقراءة ، ولا ينبغي الاكتفاء بتعلّمها بمجرّد النّظر في المصحف .
أمّا تغيير المعنى بتفسير القرآن على غير الوجه المراد به ، فهو نوع شديد من التّحريف . وقد علم أنّ الواجب تفسير القرآن إمّا بالقرآن ، وإمّا بالسّنّة الصّحيحة ، وإمّا بمقتضى لسان العرب للعالمين به . وأمّا تفسيره بمجرّد الرّأي فلا يجوز ذلك شرعاً ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ »
وإذا كان التّحريف لموافقة الهوى وتأييده كان فاعله أشدّ ضلالاً وإضلالاً ، فإنّ الإيمان بكتاب اللّه يقتضي أن يتّخذ الكتاب متبوعاً ، يأتمر المؤمنون بأمره ويقفون عند نهيه ، لا أن يجعل تابعاً للأهواء كما اتّخذته بعض الفرق الضّالّة .
هذا فيما قد يصنعه المفسّر من التّغيير والتّحريف للمعنى عن عمد ، وأمّا التّفسير المغيّر ، خطأ ، فإنّه ينبغي أن يحذر منه فلا يتصدّى للتّفسير إلاّ عالم بالقرآن عالم بالسّنن والعربيّة ، قد تعلّم أصول التّفسير ، وعرف ناسخ القرآن من منسوخه ، وعرف العموم والخصوص ونحو ذلك ممّا لا بدّ منه للمفسّر .
ب - التّحريف والتّصحيف للأحاديث النّبويّة :
حكم التّصحيف :
6 - يقول المحدّثون : إنّه لا يجوز على الصّحيح تعمّد تغيير صورة الحديث متناً أو إسناداً ، إلاّ لعالم بمدلولات الألفاظ ، عالم بما يحيل المعنى ، فله أن يغيّر على أن يتجنّب تحويل المعنى . والتّصحيف المقصود نوع من الرّواية بالمعنى .
أمّا ما يقع من التّصحيف والتّحريف على سبيل الخطأ ، فإنّ من وقع في روايته أشياء من ذلك فاحشة ، فيقال فيه : إنّه سيّئ الضّبط ، ويترك حديثه فلا يؤخذ به ، نقل أبو أحمد العسكريّ عن عبد اللّه بن الزّبير الحميديّ أنّ الغفلة الّتي يردّ بها حديث الرّجل الرّضا الّذي لا يعرف الكذب هي أن يكون في كتابه غلط ، فيقال له في ذلك ، فيحدّث بما قالوه ويغيّر في كتابه بقولهم ، لا يعرف فرق ما بين ذلك ، أو يصحّف تصحيفاً فاحشاً يقلب المعنى لا يعقل ذلك . ونقل عن يحيى بن معين أنّه قال : من حدّثك وهو لا يفرّق بين الخطأ والصّواب فليس بأهل أن يؤخذ عنه . على أنّ ما يقع من ذلك على سبيل النّدرة أو القلّة - ولا يكون فاحشاً - فلا يقدح في الرّاوي ، قال الإمام أحمد : ومن يعرى عن الخطأ والتّصحيف ؟
أمّا الحديث الّذي يقع فيه التّصحيف ، فما كان منه في المتن فهو قريب من الوضع ، وما كان في السّند فإنّه يصيّره ضعيفاً بذلك السّند .
إصلاح التّصحيف :
7 - في مقدّمة ابن الصّلاح ، والباعث الحثيث : إذا لحن الشّيخ فالصّواب أن يرويه عنه السّامع على الصّواب ، وهو محكيّ عن الأوزاعيّ وابن المبارك والجمهور .
وحكي عن ابن سيرين أنّه يرويه كما سمعه ملحوناً . قال ابن الصّلاح : وهذا غلوّ في مذهب اتّباع اللّفظ . وقال القاضي عياض : الّذي استمرّ عليه العمل أن ينقلوا الرّواية كما وصلت إليهم ولا يغيّروا في كتبهم ، كما وقع في الصّحيحين والموطّأ ، لكنّ أهل المعرفة ينبّهون على ذلك في الحواشي . ومنهم من جسر على تغيير الكتب وإصلاحها .
والأولى سدّ باب التّغيير والإصلاح ، لئلاّ يجسر على ذلك من لا يحسنه .
وعن عبد اللّه بن الإمام أحمد أنّ أباه كان يصلح الخطأ الفاحش ، ويسكت عن الخفيّ السّهل . وقال ابن كثير : ومن النّاس من إذا سمع الحديث ملحوناً عن الشّيخ ترك روايته ، لأنّه إن اتّبعه فالنّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن في كلامه ، وإن رواه عنه على الصّواب فلم يسمعه منه كذلك .
التّصحيف والتّحريف لغير القرآن والحديث :
8 - التّصحيف والتّحريف المتعمّد في الوثائق والسّجلّات ونحو ذلك نوع من التّزوير ، وحكمه التّحريم إن أسقط به حقّاً لغيره ، أو أثبت لنفسه أو غيره من الحقّ ما ليس له ، أو ألحق بأحد من النّاس ضرراً بغير حقّ . ومن فعله يستحقّ التّعزير . ( ر : تزوير ) .
توقّي التّحريف والتّصحيف :
9 - بيّن أهل الحديث الطّرق الّتي يتوقّى بها التّحريف والتّصحيف ، ومن ذلك :
أوّلاً : أخذ العلم من أفواه العارفين به المتقنين له ، فإنّ التّصحيف كثيراً ما ينشأ عن تشابه الحروف في الصّورة ، فتقرأ الكلمة على أكثر من وجه ، فإن أخذها الرّاوي عن فم الشّيخ أخذها على الوجه الصّحيح .
ثانياً : كتابة العلم المرويّ وضبط المكتوب لئلاّ يختلط بغيره . وذلك لأنّ الاعتماد على الذّاكرة وحدها لا يكفي ، وقد قال بعض السّلف : قيّدوا العلم بالكتاب .
ثالثاً : استكمال نقط الإعجام في الكتاب ، لتفرّق بين الحروف المتشابهة كالباء والتّاء والثّاء والنّون والياء ، وكالفاء والقاف . واستعمال الضّبط بالشّكل حيث يخشى التّحريف ، وربّما احتيج إلى الضّبط بالكلمات ، كقولهم " البرّ : بكسر الباء الموحّدة والرّاء المهملة » .
رابعاً : إتقان علوم اللّغة ، فإنّها كثيراً ما تكشف التّحريف والتّصحيف .
وقد أفرد العلماء لبيان ضبط ما يقبل أن يدخل التّحريف والتّصحيف في كتب العلم من الحديث وأسماء رجال الأسانيد وغيرها كتباً خاصّةً ، إذا قرأها طالب العلم أمن الغلط والتّحريف . وأفردوا كتباً أخرى لبيان ما وقع فعلاً من الأوهام في كتب الحديث وغيره وحذّروا في تآليفهم في علم أصول الحديث من التّصحيف ، وذكروا أمثلةً ممّا وقع منه كثيرةً يحصل بها التّنبّه للمزالق في هذا الباب . كما حذّروا من أن يروي الشّيخ حديثه بقراءة اللّحّان والمصحّف . وبيّنوا الطّرق الّتي استقرّت عندهم باستقراء ما ورد عن أئمّة الشّأن لكيفيّة ضبط الرّواية والسّماع والنّقل من الكتب ، وكتابة التّسميع ، والمقابلة بالأصول ، وضوابط الرّواية بالمعنى وغير ذلك ممّا يتحقّق به ضبط الرّواية لئلاّ يتحرّف الحديث عن وضعه الّذي كان عليه ، سواء في اللّفظ أو في المعنى .
وممّن تكلّم في ضبط الكلام المكتوب لئلاّ يدخله التّحريف المتكلّمون في أصول الفتيا ، فقالوا : لا ينبغي إذا ضاق موضع الفتيا في رقعة الجواب أن يكتب الجواب في رقعة أخرى خوفاً من الحيلة عليه ، ولهذا ينبغي أن يكون كلامه متّصلاً حتّى آخر سطر في الرّقعة ، فلا يدع فرجةً خوفاً من أن يثبت السّائل فيها غرضاً له ضارّاً . وقالوا : إن رأى المفتي في ورقة السّؤال بياضاً في أثناء بعض الأسطر أو في آخرها خطّ عليه وشغله ، لأنّه ربّما قصد المفتي أحد بسوء ، فكتب في ذلك البياض بعد فتياه ما يفسدها . وينبغي أن يكتب الجواب بخطّ واضح وسط ، ويقارب سطوره وأقلامه وخطّه لئلاّ يزوّر أحد عليه .
وهذا كما لا يخفى ينطبق على كتابة الوثائق والشّهادات وسائر ما تثبت به الحقوق .
تحريق *
انظر : إحراق .
تحريم *
التّعريف :
1- التّحريم في اللّغة : خلاف التّحليل وضدّه . والحرام : نقيض الحلال . يقال : حرم عليه الشّيء حرمةً وحراماً . والحرام : ما حرّم اللّه . والمحرّم : الحرام .
والمحارم : ما حرّم اللّه . وأحرم بالحجّ أو العمرة أو بهما : إذا دخل في الإحرام بالإهلال ، فيحرم عليه به ما كان حلالاً من قبل كالصّيد والنّساء ، فيتجنّب الأشياء الّتي منعه الشّرع منها كالطّيب والنّكاح والصّيد وغير ذلك .
والأصل فيه المنع ، فكأنّ المحرم ممتنع من هذه الأشياء ، ومنه حديث الصّلاة : « تحريمها التّكبير » فكأنّ المصلّي بالتّكبير والدّخول في الصّلاة صار ممنوعاً من الكلام والأفعال الخارجة عن كلام الصّلاة وأفعالها ، فقيل للتّكبير : تحريم لمنعه المصلّي من ذلك .
والإحرام أيضاً بمعنى التّحريم . يقال : أحرمه وحرّمه بمعنًى . وهو في اصطلاح الأصوليّين : خطاب اللّه المقتضي الكفّ عن الفعل اقتضاءً جازماً ، بأن لم يجوّز فعله .
هذا في اصطلاح المتكلّمين من أهل الأصول ، أمّا أصوليّون الحنفيّة فيعرّفونه : بأنّه طلب الكفّ عن الفعل بدليل قطعيّ . كما في قوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إنَّما الخمرُ والميْسِرُ والأنصابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عملِ الشّيطانِ فاجْتنبوه لعلَّكم تفلحون } . فقد ثبت التّحريم والأمر بالكفّ بالنّصّ القرآنيّ القاطع . وكتحريم الرّبا في قوله تعالى : { وحرَّمَ الرِّبا } . وأورد البركيّ في تعريفاته الفقهيّة تعريف التّحريم فقال : هو جعل الشّيء محرّماً .
وإنّما خصّت التّكبيرة الأولى في الصّلاة بالتّحريمة ، لأنّها تحرّم الأمور المباحة قبل الشّروع في الصّلاة دون سائر التّكبيرات .
هذا وللتّحريم إطلاق آخر حين يصدر من غير الشّارع ، كتحريم الزّوج زوجته على نفسه ، أو تحريم بعض المباحات بيمين أو بغيرها ، ومعناه هنا : المنع .
الألفاظ ذات الصّلة :
الكراهة :
2 - الكراهة ، والكراهية : خطاب الشّارع المقتضي الكفّ عن الفعل اقتضاءً غير جازم . كالنّهي في حديث الصّحيحين « إذا دخل أحدُكم المسجدَ فلا يجلس حتّى يصلّي ركعتين » وفي حديث ابن ماجه وغيره « لا تصلّوا في أَعْطان الإِبل فإنّها خُلِقَتْ من الشّياطين » .
والتّحريم وكراهة التّحريم : يتشاركان في استحقاق العقاب بترك الكفّ ، ويفترقان في أنّ التّحريم : ما تيقّن الكفّ عنه بدليل قطعيّ . والمكروه ما ترجّح الكفّ عنه بدليل ظنّيّ .
وفي مراقي الفلاح : المكروه : ما كان النّهي فيه بظنّيّ . وهو قسمان : مكروه تنزيهاً وهو ما كان إلى الحلّ أقرب ، ومكروه تحريماً وهو ما كان إلى الحرام أقرب . فالفعل إن تضمّن ترك واجب فمكروه تحريماً ، وإن تضمّن ترك سنّة فمكروه تنزيهاً ، لكن تتفاوت كراهته في الشّدّة والقرب من التّحريم بحسب تأكّد السّنّة .
الحكم الإجماليّ :
تحريم الشّارع يرجع في تفصيله إلى المصطلح الأصوليّ .
أمّا تحريم المكلّف ما هو حلال فيتعلّق به ما يلي من الأحكام :
أوّلاً - تحريم الزّوجة :
3 - من قال لزوجته : أنت عليّ حرام يسأل عن نيّته . فإن قال : أردت الكذب ، فهو كما قال ، لأنّه نوى حقيقة كلامه . وقيل : لا يصدّق في القضاء ، لأنّه يمين ظاهراً ، لأنّ تحريم الحلال يمين بالنّصّ ، وهو قول اللّه تبارك وتعالى : { يا أيّها النّبيّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أحلَّ اللّهُ لك } إلى قوله : { قد فرضَ اللّهُ لكم تَحِلَّةَ أيمانِكم } فلا يصدّق في القضاء في نيّته خلاف الظّاهر وهذا هو الصّواب على ما عليه العمل والفتوى . وإن قال : أردت الطّلاق ، فهي تطليقة بائنة ، إلاّ أن ينوي الثّلاث . وإن قال : أردت الظّهار فهو ظهار ، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف . وقال محمّد : ليس بظهار ، لانعدام التّشبيه بالمحرّمة وهو الرّكن فيه . ولهما أنّه أطلق الحرمة ، وفي الظّهار نوع حرمة ، والمطلق يحتمل المقيّد .
وإن قال : أردت التّحريم أو لم أرد به شيئاً ، فهو يمين يصير به مولياً . وصرف بعض الحنفيّة لفظة التّحريم إلى الطّلاق من غير نيّة بحكم العرف ، لأنّ العادة جرت فيما بين النّاس في زماننا أنّهم يريدون بهذا اللّفظ الطّلاق . قال بذلك أبو اللّيث .
وإن قال لها : أنا عليك حرام وينوي الطّلاق : فهي طالق .
وإن قال لها : أنت عليّ حرام كظهر أمّي ونوى به طلاقاً أو إيلاءً : لم يكن إلاّ ظهاراً عند أبي حنيفة ، وقالا : هو على ما نوى لأنّ التّحريم يحتمل كلّ ذلك ، غير أنّ عند محمّد إذا نوى الطّلاق لا يكون ظهاراً ، وعند أبي يوسف يكونان جميعاً ، ولأبي حنيفة أنّه صريح في الظّهار فلا يحتمل غيره .
أمّا إذا كان بلفظ الظّهار صريحاً كأن قال لها : أنت عليّ كظهر أمّي ، فلا ينصرف لغير الظّهار ، وبه حرمت عليه ، فلا يحلّ له وطؤها ولا مسّها ولا تقبيلها ، حتّى يكفّر عن ظهاره لقوله تعالى : { والّذين يُظَاهِرونَ من نسائِهم ثمَّ يَعُودونَ لِمَا قالوا فتحريرُ رقَبَةٍ من قبلِ أنْ يَتَماسّا } إلى قوله : { فمنْ لم يجدْ فصيامُ شهرين متتابعين من قبل أنْ يتماسّا فمنْ لم يستطع فإطعامُ ستِّينَ مسكيناً } . فإن وطئها قبل أن يكفّر استغفر اللّه تعالى ولا شيء عليه غير الكفّارة الأولى ، ولا يعود حتّى يكفّر ، لقوله عليه الصلاة والسلام للّذي واقع في ظهاره قبل الكفّارة : « فاعتزلها حتّى تكفّر عنك » ولو كان شيء آخر واجباً لنبّه عليه .
ولو قال : أنت عليّ حرام كأمّي يحتمل الطّلاق والظّهار . فإن قال : أردت الظّهار أو الطّلاق فهو على ما نوى ، لأنّه يحتمل الوجهين : الظّهار لمكان التّشبيه ، والطّلاق لمكان التّحريم . وإن لم تكن له نيّة : فعلى قول أبي يوسف إيلاء ، وعلى قول محمّد ظهار . هذا وتحريم الزّوجة بأربعة طرق : الطّلاق ، والإيلاء ، واللّعان ، والظّهار . وهذا ما قال به الحنفيّة .
4 - وعند المالكيّة : لو قال لزوجته : أنت عليّ حرام فهو البتات ( البينونة الكبرى ) .
ولو قال لها : أنت عليّ ككلّ شيء حرّمه الكتاب ، فإنّه حرّم الميتة والدّم ولحم الخنزير ، فهو بمنزلة ما لو قال لها : أنت كالميتة والدّم ، فيلزمه البتات ، وهو مذهب ابن القاسم وابن نافع . وفي المدوّنة : قال ربيعة : من قال : أنت مثل كلّ شيء حرّمه الكتاب ، فهو مظاهر ، وهو قول ابن الماجشون .
5- وقال الشّافعيّة : إذا قال لزوجته : أنت عليّ حرام أو حرمتك ، ونوى طلاقاً أو ظهاراً حصل المنويّ ، وهم كالحنفيّة ، والحنابلة في المشهور عن أحمد فيما إذا نوى الطّلاق يكون طلاقاً إلاّ أنّه يكون رجعيّاً . فإن نوى عدداً فإنّه يقع ما نواه وهم كرأي أبي حنيفة إذا نوى الظّهار يكون ظهاراً عندهم ، كما هو ظهار عنده .
فإن نواهما : أي الطّلاق والظّهار معاً تخيّر وثبت ما اختاره منهما . وقيل : الواقع طلاق لأنّه أقوى بإزالته الملك ، وقيل : ظهار ، لأنّ الأصل بقاء النّكاح ، ولا يثبتان جميعاً لأنّ الطّلاق يزيل النّكاح ، والظّهار يستدعي بقاءه .
وإن نوى تحريم عينها أو فرجها أو وطئها لم تحرم عليه ، وعليه كفّارة يمين .
إن أطلق قوله : أنت عليّ حرام ولم ينو شيئاً فقولان :
أظهرهما : وجوب الكفّارة . وقوله : أنت عليّ حرام صريح في لزوم الكفّارة .
والثّاني : لا شيء عليه ، وهذا اللّفظ كناية في لزوم الكفّارة .
وإن قال لها : أنت عليّ حرام . أنت عليّ حرام ونوى التّحريم . فإن قال ذلك في مجلس أو قاله في مجالس ونوى التّأكيد فعليه كفّارة واحدة . وإن قاله في مجالس ونوى الاستئناف تعدّدت الكفّارة على الأصحّ ، وقيل : عليه كفّارة فقط . وإن أطلق فقولان . ولو قال : أنت عليّ حرام كالميتة والدّم والخمر والخنزير ، وقال : أردت الطّلاق أو الظّهار صدّق ، وإن نوى التّحريم لزمته الكفّارة ، وإن أطلق فظاهر النّصّ أنّه كالحرام فيكون على الخلاف .
6- وعند الحنابلة : إذا قال لزوجته : أنت عليّ حرام وأطلق ، فهو ظهار ، لأنّه تحريم للزّوجة بغير طلاق ، فوجب به كفّارة الظّهار ، كما لو قال : أنت عليّ حرام كظهر أمّي .
وإن نوى غير الظّهار ، فعن أحمد في رواية جماعة : أنّه ظهار ، نوى الطّلاق أو لم ينوه . وقيل : إذا نوى بقوله : أنت عليّ حرام اليمين كان يميناً ، وعليه كفّارة يمين . فعن ابن عبّاس رضي الله عنهما : إذا حرّم الرّجل عليه امرأته فهي يمين يكفّرها . وقال : { لقد كان لكمْ في رسولِ اللّهِ أسوةٌ حسنةٌ } ولأنّ اللّه تعالى قال : { يا أيّها النّبيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحلَّ اللّهُ لك تبتغي مَرضاةَ أزواجكَ واللّهُ غفورٌ رحيمٌ قد فَرضَ اللّهُ لكم تَحِلَّةَ أيمانِكم } فجعل الحرام يميناً . وإن قال : أعني بأنت عليّ حرام الطّلاق فهو طلاق ، وهو المشهور عن أحمد . وإن نوى به ثلاثاً فهي ثلاث ، لأنّه أتى في تفسيره للتّحريم بالألف واللّام الّتي للاستغراق ، فيدخل فيه الطّلاق كلّه . وإن قال : أعني به طلاقاً فهو واحدة ، لأنّه ذكره منكّراً فيكون طلاقاً واحداً . وإن قال : أنت عليّ كظهر أمّي ونوى به الطّلاق لم يكن طلاقاً ، لأنّه صريح في الظّهار ، ولا ينصرف إلى غيره ، فلم يصحّ كنايةً في الطّلاق ، كما لا يكون الطّلاق كناية الظّهار .
وإن قال : أنت عليّ كالميتة والدّم ، ونوى به الطّلاق كان طلاقاً ، ويقع به من عدد الطّلاق ما نواه ، وإن لم ينو شيئاً وقعت واحدة .
وإن نوى الظّهار : وهو أن يقصد تحريمها عليه مع بقاء نكاحها ، احتمل أن يكون ظهاراً ، واحتمل أن لا يكون ظهاراً . وإن نوى اليمين : وهو أن يريد بذلك ترك وطئها لا تحريمها ولا طلاقها فهو يمين . وإن لم ينو شيئاً لم يكن طلاقاً ، لأنّه ليس بصريح في الطّلاق ولا نواه به . وهل يكون ظهاراً أو يميناً ؟ على وجهين . أحدهما يكون ظهاراً ، والثّاني يكون يميناً .
7- وإن نوى بقوله : أنت عليّ حرام الظّهار فهو ظهار على ما قاله به جمهور الفقهاء ( أبو حنيفة وأبو يوسف والشّافعيّ وأحمد ) وإن نوى به الطّلاق فهو طلاق ، وإن أطلق ففيه روايتان : إحداهما هو ظهار ، والأخرى يمين .
وإن قال : أنت عليّ حرام ، ونوى الطّلاق والظّهار معاً كان ظهاراً ولم يكن طلاقاً ، لأنّ اللّفظ الواحد لا يكون ظهاراً وطلاقاً ، والظّهار أولى بهذا اللّفظ ، فينصرف إليه ، وعند بعض أصحاب الشّافعيّ يتخيّر ، فيقال له : اختر أيّهما شئت كما سبق القول .
ولا خلاف بين عامّة الفقهاء في أنّه يحرم على المظاهر وطء امرأته قبل التّكفير عن ظهاره ، على نحو ما سبق بيانه .
ثانياً : تحريم الحلال :
8 - الأصل في الأشياء الإباحة حتّى يقوم الدّليل على تحريمها ، وبه قال الشّافعيّة وبعض الحنفيّة ومنهم الكرخيّ ويعضّد هذا قوله صلى الله عليه وسلم : « ما أحلّ اللّه فهو حلال ، وما حرّم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من اللّه عافيته ، فإنّ اللّه لم يكن لينسى شيئاً » وروى الطّبرانيّ من حديث أبي ثعلبة : « إنّ اللّه فرض فرائض فلا تضيّعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها ، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها » وفي لفظ « وسكت عن كثير من غير نسيان فلا تتكلّفوها رحمةً لكم فاقبلوها » وروى التّرمذيّ وابن ماجه من حديث سلمان رضي الله عنه « أنّه صلى الله عليه وسلم سئل عن الجبن والسّمن والغذاء فقال : الحلال ما أحلّ اللّه في كتابه ، والحرام ما حرّم اللّه في كتابه ، وما سكت عنه فهو ممّا عفا عنه » .
وقد نزل في تحريم الحلال قول اللّه تبارك وتعالى : { يا أيّها النّبيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أحلَّ اللّهُ لكَ } إلى قوله سبحانه { قد فَرَضَ اللّهُ لكم تَحِلَّةَ أَيمانِكم } ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش رضي الله عنه فيشرب عندها عسلاً . قال : فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيّتنا ما دخل عليها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلْتقل : إنّي أجد منك ريحَ مغافير . أكلتَ مغافير ؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك . فقال : بلْ شربتُ عَسَلاً عند زينبَ بنت جحش ، ولن أعود له فنزل قوله تعالى : { لِمَ تحرّمُ ما أحلَّ اللّهُ لكَ } إلى قوله : { إن تتوبا } لعائشة وحفصة » .
وفي قول : إنّ الّتي حرّمها هي مارية القبطيّة ، فقد روى الهيثم بن كليب عن عمر رضي الله عنه قال : « قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لحفصة رضي الله عنها : لا تخبري أحداً وإنّ أمّ إبراهيم يعني مارية عليّ حرام ، فقالت : أتحرّم ما أحلّ اللّه لك ؟ قال : فواللّه لا أقربها ، قال : فلم يقربها حتّى أخبرت عائشة . قال : فأنزل اللّه تعالى : { قد فرضَ اللّهُ لكم تَحِلَّةَ أيمانِكم } » . وقد روى ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال : « حرّم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمّ إبراهيم فقال : أنت عليّ حرام ، واللّه لا آتينك فأنزل اللّه عزّ وجلّ في ذلك { يا أيّها النّبيُّ لِمَ تُحرّمُ ما أحلَّ اللّهُ لكَ } » . فهذه روايات وردت في سبب نزول هذه الآية . والتّحريم الوارد فيها يمين تلزم به كفّارة يمين ، لقول اللّه تبارك وتعالى : { قد فرضَ اللّهُ لكم تَحِلَّةَ أيمانِكم } وليس تحريماً لما أحلّ اللّه ، لأنّ ما لم يحرّمه اللّه ليس لأحد أن يحرّمه ، ولا أن يصير بتحريمه حراماً ، ولم يثبت عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال لما أحلّه اللّه : هو عليّ حرام . وإنّما امتنع من مارية ليمين تقدّمت منه ، وهو قوله « واللّه لا أقربها » فقيل له : { لِمَ تُحرّمُ ما أحلَّ اللّهُ لكَ } أي لم تمتنع منه بسبب اليمين ، يعني أقدمْ عليه وكفِّرْ . قال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس : إذا حرّم الرّجل عليه امرأته فإنّما هي يمين يكفّرها .
وتفصيل ذلك كلّه يرجع إليه في مصطلح ( أيمان ) وفي أبواب الطّلاق والظّهار والإيلاء .
تحريمة *
انظر : تكبيرة الإحرام .
تحسين *
التّعريف :
1 - التّحسين لغةً : التّزيين ، ومثله التّجميل . قال الجوهريّ : حسّنت الشّيء تحسيناً : زيّنته . وقال الرّاغب الأصفهانيّ : الحسن أكثر ما يقال في تعارف العامّة في المستحسن بالبصر ، وأكثر ما جاء في القرآن الكريم في المستحسن من جهة البصيرة .
فأهل اللّغة لم يفرّقوا بين " زيّنت الشّيء " و " حسّنته " ، وجعلوا الجميع معنًى واحداً . والتّحسين في الاصطلاح لا يخرج عن معناه اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّجويد :
2 - التّجويد : مصدر جوّد الشّيء ، بمعنى جعله جيّداً .
وفي الاصطلاح : إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها ، وردّ الحرف إلى مخرجه وأصله ، وتلطيف النّطق به على كمال هيئته من غير إسراف ولا تعسّف ولا إفراط ولا تكلّف . فالتّحسين أعمّ من التّجويد لاختصاص التّجويد بالقراءة .
ب - التّحلية :
3 - يقال : تحلّت المرأة : إذا لبست الحليّ أو اتّخذته ، وحلّيتها بالتّشديد تحليةً : ألبستها الحليّ أو اتّخذته لها لتلبسه . وحلّيت السّويق : جعلت فيه شيئاً حلواً حتّى حلا .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ . والتّحسين أعمّ من التّحلية ، فقد يحسن الشّيء بغير تحليته ، كما يحسن الطّعام بتمليحه لا بتحليته .
ج - التّقبيح :
4 - التّقبيح : جعل الشّيء قبيحاً ، أو نسبته إلى القبح . وهو ضدّ التّحسين .
مصدر التّحسين والتّقبيح :
5 - التّحسين والتّقبيح يطلقان بثلاثة اعتبارات :
الأوّل : باعتبار ملاءمة الطّبع ومنافرته ، كقولنا : ريح الورد حسن ، وريح الجيفة قبيح . الثّاني : باعتباره صفة كمال أو صفة نقص ، كقولنا : العلم حسن ، والجهل قبيح . وهذان النّوعان مصدرهما : العقل من غير توقّف على الشّرع ، لا يعلم في ذلك خلاف .
والثّالث : باعتبار الثّواب والعقاب الشّرعيّين ، وهذا قد اختلف فيه : فذهب الأشاعرة إلى أنّ مصدره الشّرع ، والعقل لا يحسّن ولا يقبّح ، ولا يوجب ولا يحرّم . وقال الماتريديّة : إنّ العقل يحسّن ويقبّح ، وردّوا الحسن والقبح الشّرعيّين إلى الملاءمة والمنافرة .
وذهب المعتزلة إلى أنّ العقل يحسّن ويقبّح ، ويوجب ويحرّم ، وفي ذلك تفصيل محلّه الملحق الأصوليّ .
التّحسينيّات :
6 - بحث مقاصد الشّريعة من أبحاث أصول الفقه ، ويذكر علماء الأصول أنّ مقاصد الشّريعة لا تعدو ثلاثة أقسام : الأوّل : ضروريّة ، والثّاني : حاجيّة ، والثّالث : تحسينيّة . فالضّروريّة : هي الّتي لا بدّ منها لقيام مصالح الدّين والدّنيا ، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدّنيا على استقامة ، بل على فساد وتهارج وفوت حياة ، وفي الآخرة يكون فوات النّعيم ، والرّجوع بالخسران المبين .
أمّا الحاجيّة : فهي ما يفتقر إليها من حيث التّوسعة ورفع الضّيق المؤدّي في الغالب إلى الحرج والمشقّة اللّاحقة بفوت المطلوب ، فإذا لم تراع دخل على المكلّفين - على الجملة - الحرج والمشقّة دون اختلال شيء من الضّروريّات الخمسة .
وأمّا التّحسينيّة : فهي الأخذ بما يليق من محاسن العادات ، ويجمع ذلك مكارم الأخلاق ، والآداب الشّرعيّة . وتفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ .
حكم التّحسين في الفقه الإسلاميّ :
7 - التّحسين مطلوب في الجملة إذا خلصت فيه النّيّة وأريد به الخير ، ومكروه أو محرّم إذا لم تخلص فيه النّيّة أو كان سبباً للوقوع في الحرام ولم يرد به الخير .
ويختلف حكمه باعتبار موضوعه . وإليك بعض الأمثلة :
تحسين الهيئة :
8 - يندب تحسين الهيئة العامّة من غير مبالغة ، وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك . وممّا قال في هذا : « أصلحوا رحالكم ، وأصلحوا لباسكم حتّى تكونوا كأنّكم شامة في النّاس ، فإنّ اللّه لا يحبّ الفحش ولا التّفحّش » . ويندب تحسين اللّحية والشّاربين ، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها » . وفي صحيح مسلم « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : جُزّوا الشّواربَ وأَرْخوا اللّحى ، خالفوا المجوسَ » .
9- وتحسين وجه المرأة يكون بتنقيته من الشّعر النّابت في غير أماكنه ، فيستحبّ لها إزالته عند الحنفيّة . وإذا أمرها الزّوج بإزالته وجب عليها ذلك عند الشّافعيّة . فقد روت امرأة بن أبي الصّقر : « أنّها كانت عند عائشة رضي الله عنها ، فسألتها امرأة فقالت : يا أمّ المؤمنين إنّ في وجهي شعرات أفأنتفهنّ ، أتزيّن بذلك لزوجي ؟ فقالت عائشة : أميطي عنك الأذى ، وتصنعي لزوجك كما تصنعين للزّيارة ، وإن أمرك فأطيعيه ، وإن أقسم عليك فأبرّيه ، ولا تأذني في بيته لمن يكره » .
وقال المالكيّة : يجب على المرأة إزالة الشّعر الّذي في إزالته جمال لها ، كشعر اللّحية إن نبت لها . ويجب عليها إبقاء ما في بقائه جمال لها ، فيحرم عليها حلق شعر رأسها .
ومنع من ذلك الحنابلة ، ورخّصوا بإزالته بالموسى .
ومن وجوه التّحسّن للهيئة : قطع الأعضاء الزّائدة في البدن كالسّنّ الزّائدة ، والأصبع الزّائدة ، والكفّ الزّائدة ، لما فيها من التّشويه . ويقاس على ذلك سائر التّشوّهات في البدن ، ويشترط في ذلك أن تكون السّلامة هي الغالبة في إزالته .
وتحسين الأسنان : يكون بالتّداوي والاستياك والتّفليج ( ويراجع حكمه في مصطلح تفليج ) ، والسّواك مستحبّ على كلّ حال .
10 - ويتأكّد تحسين المرأة هيئتها للزّوج ، وتحسين الزّوج هيئته للزّوجة .
كما يتأكّد تحسين الهيئة للخروج إلى الجمعة والعيدين وللأذان .
تحسين اللّباس :
11 - يستحبّ تحسين اللّباس بما لا يخرج عن العرف ، ولا يخرج عن السّنّة ، لما رواه أبو الأحوص « أنّ أباه أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو أشعث سيّئ الهيئة ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أما لك مالٌ ؟ قال : مِنْ كلٍّ قد آتاني اللّه عزّ وجلّ ، قال : فإنّ اللّه عزّ وجلّ إذا أنعم على عبد نعمةً أحبّ أن ترى عليه » ويكون تحسين اللّباس بما يلي :
أ - أن يكون نظيفاً ، فقد « رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجلاً شعثاً فقال : أما كان يجد هذا ما يسكّن به شعره ، ورأى آخر عليه ثياب وسخة فقال : أما كان هذا يجد ما يغسل به ثوبه » .
ب - أن لا يكون واسعاً سعةً تخرج عن حدّ الاحتياج ، لما في ذلك من الإسراف ، فقد كره الإمام مالك للرّجل سعة الثّوب وطوله ، قال ابن القاسم : بلغني أنّ عمر بن الخطّاب قطع كمّ رجل إلى قدر أصابع كفّه ، ثمّ أعطاه فضل ذلك ، وقال له : خذ هذا واجعله في حاجتك .
ج - أن يكون منسّقاً مرتّباً على ما يقتضيه العرف ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « أصلحوا رحالَكم وأصلحوا لباسَكم ، حتّى تكونوا كأنّكم شَامَةٌ في النّاس ، فإِنَّ اللّه لا يحبّ الفحشَ ولا التّفحّشَ » . ويتأكّد تحسين الثّوب للخروج للجمع والأعياد والجماعات .
كما يتأكّد تحسين الثّوب للعلماء خاصّةً .
تحسين الأفنية :
12 - يسنّ تحسين الأفنية والبيوت بتنظيفها وترتيبها ، عملاً بما رواه عامر بن سعد عن أبيه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه طيّب يحبّ الطّيّب ، نظيف يحبّ النّظافة ، كريم يحبّ الكرم ، جوّاد يحبّ الجود ، فنظّفوا أفنيتكم ولا تَشَبَّهوا باليهود » .
تحسين الخروج إلى المسجد :
13 - يكون تحسين الخروج إلى المسجد بما يلي :
أ - إخلاص النّيّة للخروج إلى المسجد ، وعدم خلطها بنيّة أخرى كالتّمشّي ونحوه .
ب - أن يزيد على نيّة الخروج لأداء الفريضة في المسجد نيّة الاعتكاف فيه .
ج - الخروج إلى المسجد بغير ثياب المهنة ، لقوله تعالى : { يا بَني آدمَ خُذُوا زينَتَكم عند كلِّ مسجِدٍ } .
د - الدّخول إلى المسجد برجله اليمنى .
تحسين اللّقاء والسّلام وردّه :
14 - يندب تحسين لقاء المسلم ، وتحسين السّلام والرّدّ عليه ، لقوله تعالى : { وإذا حُيِّيتُم بتحيّةٍ فَحَيُّوا بأحسنَ منها أو رُدُّوها } وتحسين ردّ السّلام يكون بقول : " وعليكم السّلام ورحمة اللّه وبركاته " .
تحسين الصّوت :
15- تحسين الصّوت هو : التّرنّم والتّغنّي الّذي لا يصاحبه ترديد الصّوت بالحروف ، ولا تغيير الكلمات عن وجهها ، مع التزام قواعد التّجويد . ويندب تحسين الصّوت في القرآن ، وفي الأذان ، لأنّه يجذب النّاس إليهما ، ويحبّبهم بهما ، ويشرح صدورهم لهما .
أمّا التّطريب والتّلحين والتّغنّي - بمعنى الغناء - والقصر والزّيادة بالتّمطيط فهو محرّم . وقد اتّفق الفقهاء على استحباب أن يكون المؤذّن حسن الصّوت ، « لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اختار أبا محذورة مؤذّناً ، لحسن صوته » .
تحسين المرأة صوتها بحضرة الأجانب :
16 - على المرأة إذا تكلّمت بحضرة الرّجال الأجانب أن تتكلّم بصوت طبيعيّ ليس فيه تكلّف ولا تقطيع ولا تليين ، لقوله تعالى : { يا نساءَ النَّبيِّ لَسْتُنَّ كأحدٍ من النِّساءِ إنْ اتَّقَيْتُنَّ فلا تَخْضَعْنَ بالقولِ فَيَطْمَعَ الّذي في قلبِه مَرَضٌ وقُلْنَ قَولاً معروفاً } .
قال ابن كثير : هذه آداب أمر اللّه تعالى بها نساء النّبيّ صلى الله عليه وسلم ونساء الأمّة تبع لهنّ في ذلك .
قال القرطبيّ في تفسيره { فلا تَخْضَعْنَ بالقولِ } أي لا تلنّ القول ، أمرهنّ أن يكون قولهنّ جزلاً ، وكلامهنّ فصلاً ، ولا يكون على وجه يظهر في القلب علاقةً بما يظهر عليه من اللّين.
تحسين المشية :
17 - على الإنسان أن يمشي المشية المتعارفة المعتادة ، أمّا المشية المصطنعة الملفتة للأنظار فمنهيّ عنها ، ومنعها في حقّ النّساء آكد من منعها في حقّ الرّجال ، لأنّ أمر المرأة مبنيّ على السّتر قال تعالى : { ولا يَضْرِبْنَ بأرجلِهنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ منْ زِينتهنَّ } قال القرطبيّ : من فعل منهنّ ذلك فرحاً بحليّهنّ فهو مكروه ، ومن فعل منهنّ تبرّجاً وتعرّضاً للرّجال فهو حرام مذموم . وكذلك من ضرب بنعله من الرّجال ، مَنْ فعل ذلك تعجّباً حرم ، فإنّ العُجْب كبيرة ، وإن فعل ذلك تبرّجاً لم يجز .
وأحسن المشي مشي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد ورد أنّه كان إذا مشى تكفّأ ، وكان أسرع النّاس مشيةً ، وأحسنها وأسكنها وهي المرادة بقوله تعالى : { وعبادُ الرّحمنِ الّذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً } .
قال غير واحد من السّلف : يعني بسكينة ووقار من غير تكبّر ولا تماوت .
تحسين الخلق :
18 - تحسين الخلق مطلوب شرعاً . قال اللّه تعالى : { ولا تَمْشِ في الأرضِ مَرَحاً إنَّكَ لنْ تخرقَ الأرضَ ولنْ تَبْلُغَ الجبالَ طُولاً } وقال جلّ شأنه : { يا أيّها الّذينَ آمنوا لا يَسخرْ قومٌ منْ قومٍ عسى أنْ يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ منْ نساءٍ عسى أنْ يَكُنَّ خيراً منهنَّ ولا تَلْمِزُوا أَنفسَكم ولا تَنَابَزُوا بالألقابِ بئسَ الاسمُ الفُسوقُ بعدَ الإِيمانِ ومن لم يَتُبْ فأولئك هم الظّالمون يا أيّها الّذين آمنوا اجْتَنِبُوا كثيراً منَ الظَّنِّ إنَّ بعضَ الظَّنِّ إثمٌ ولا تَجَسَّسُوا ولا يغتبْ بعضُكم بعضاً أَيُحِبُّ أحدُكم أنْ يأكلَ لَحْمَ أخيه مَيْتَاً فَكَرِهْتُمُوه واتّقوا اللّهَ إنَّ اللّهَ توّابٌ رحيمٌ } إلى غير ذلك من الآيات الموجبة لحسن الخلق ، وقد وصف اللّه رسوله بقوله : { وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عظيمٍ } .
ويتناسب تحسين الخلق مع عظم الحقّ ، فمن كان حقّه عليك أكبر كان تحسين الأخلاق معه أوجب ، ولذلك حرّم اللّه تعالى على الإنسان أن يتأفّف لأحد والديه ، لعظيم حقّهما على الولد ، قال تعالى : { فلا تَقُلْ لهما أُفٍّ ولا تَنْهَرْهما وقلْ لهما قولاً كريماً } . قال البهوتيّ : يستحبّ لكلّ من الزّوجين تحسين الخلق لصاحبه والرّفق به واحتمال أذاه ، وفي حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « اسْتوصُوا بالنّساءِ خيراً ، فإِنَّ المرأةَ خُلِقَتْ من ضِلعٍ ».
تحسين الظّنّ :
أ - تحسين الظّنّ باللّه تعالى :
19 - يجب على المؤمن أن يحسن الظّنّ باللّه تعالى ، وأكثر ما يجب أن يكون إحساناً للظّنّ باللّه عند نزول المصائب وعند الموت ، قال الحطّاب : نُدبَ للمحتضَر تحسين الظّنّ باللّه تعالى ، وتحسين الظّنّ باللّه وإن كان يتأكّد عند الموت وفي المرض ، إلاّ أنّه ينبغي للمكلّف أن يكون دائماً حسن الظّنّ باللّه ، ففي صحيح مسلم : « لا يموتنّ أحدكم إلاّ وهو يحسن الظّنّ باللّه » .
ب - تحسين الظّنّ بالمسلمين :
20 - على المسلم أن يحسن الظّنّ بالمسلمين ، حتّى إذا ما أخطأ أحدهم عفا عنه وصفح والْتَمَسَ له العذر . ومع إحسانه الظّنّ بالمسلمين ما دام لهم وجه ، عليه أن يتّهم نفسه ولا يحسن الظّنّ بها ، لأنّ ذلك أبعد عن الغرور ، وأسلم للقلب عن أمراض القلوب ، قال ابن الحاجّ في المدخل : إذا خرج المرء إلى الصّلاة فليحذر أن يخطر له في نفسه أنّه خير من أحد من إخوانه من المسلمين ، فيقع في البليّة العظمى ، بل يخرج محسن الظّنّ بإخوانه المسلمين ، مسيء الظّنّ بنفسه ، فيتّهم نفسه في فعل الخير .
تحسين الخطّ :
21 - حسن الخطّ عصمة للقارئ من الخطأ في قراءته ، وكلّما كان الكلام أكثر حرمةً كان تحسين الخطّ فيه ألزم ، لأنّ الخطأ فيه أفحش ، وعلى هذا فتحسين الخطّ بكتابة القرآن الكريم ألزم شيء ، ثمّ يتلوه تحسين الخطّ بكتابة سنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمّ بالآثار المرويّة عن الصّحابة والتّابعين ، ثمّ بالأحكام الشّرعيّة وهكذا ..
والأصل في ذلك « قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما : يا معاوية ألق الدّواة ، وحرّف القلم ، وانصب الباء ، وفرّق السّين ، ولا تعوّر الميم ، وحسّن اللّه ، ومدّ الرّحمن ، وجوّد الرّحيم » .
تحسين المخطوبة :
22 - لا تمنع المرأة المخطوبة من تحسين هيئتها ولبسها عند رؤية الخاطب لها من غير ستر عيب ولا تدليس ولا سرف .
تحسين المصحف :
23 - تحسين المصحف مندوب ، ويكون ذلك بتحسين خطّه ، وتعشيره ، وكتابة أسماء سوره في أوّل كلّ سورة وعدد آياتها ، وتشكيله وتنقيطه ، وعلامات وقوفه ، وتجليده . وتفصيل ذلك في الكلام عن المصحف .
تحسين الذّبح :
24 - اتّفق الفقهاء على ندب تحسين ذبح الحيوان تحسيناً يؤدّي إلى إراحة الحيوان المذبوح بقدر المستطاع ، فاستحبّوا أن يحدّ الشّفرة قبل الذّبح . وكرهوا الذّبح بآلة كالّة ، لما في الذّبح بها من تعذيب للحيوان ولحديث شدّاد بن أوس رضي الله عنه : « ثِنْتانِ حفظتُهما عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : إنَّ اللّهَ كتبَ الإِحسانَ على كلّ شيء ، فإِذا قَتَلتُم فَأحسِنُوا القِتْلَةَ ، وإذا ذبحتُم فأحْسِنُوا الذِّبْحَةَ ، ولْيُحِدَّ أحدُكم شفرتَه ولْيُرِحْ ذبيحتَه » . ويندب عدم شحذ السّكّين أمام الذّبيحة ، ولا ذبح واحدة أمام أخرى ، كما يندب عرض الماء عليها قبل ذبحها . وأن يكون الذّبح في العنق لما قصر عنقه ، وفي اللّبّة لما طال عنقه كالإبل والنّعام والإوزّ لأنّه أسهل لخروج الرّوح .
وإمرار السّكّين على الذّبيحة برفق وتحامل يسير ذهاباً إياباً . وأن لا يكون الذّبح من القفا ، وأن لا يقطع أعمق من الودجين والحلقوم ، ولا يكسر العنق ، ولا يقطع شيئاً منها قبل أن تزهق نفسها . وكذلك يندب تحسين القتل في القصاص أو الحدّ ، للحديث المتقدّم .
تحسين المبيع :
25 - يعتبر تحسين المبيع مباحاً ما لم يكن فيه ستر عيب ، أو تغرير للمشتري ، أو تحسين مؤقّت لا يلبث أن يزول ، فإذا ظهر العيب الّذي أخفي بالتّحسين ثبت للمشتري خيار العيب . وتفصيل ذلك في ( بيع ، غرر ، خيار العيب ) .
تحسين المطالبة بالدّين :
26 - يندب تحسين المطالبة بالدّين ، ويكون تحسينها :
بالسّماحة بالمطالبة : لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « رحم اللّه رجلاً سمحاً إذا باع ، وإذا اشترى ، وإذا اقتضى » . وأن تكون المطالبة في وقت يظنّ فيه اليسر : فقد قدم سعيد بن عامر بن حذيم على عمر بن الخطّاب فلمّا أتاه علاه عمر بالدّرّة ، فقال سعيد : يا أمير المؤمنين سبق سيلُك مطرَك ، إن تعاقبْ نَصْبر ، وإنْ تعفُ نَشْكر ، وإنْ تَسْتعتب نعتب ، فقال عمر : ما على المسلم إلاّ هذا ، ما لكَ تُبْطئ بالخراج ؟ قال سعيد : أمرتنا أن لا نزيد الفلّاحين على أربعة دنانير ، فلسنا نزيدهم على ذلك ، ولكنّا نؤخّرهم إلى غلّاتهم ، فقال عمر : لا عزلتك ما حييتُ .
تحسين الميّت والكفن والقبر :
27 - يندب تحسين هيئة الميّت ، ففي تبيين الحقائق : فإذا ماتَ شدّ لحياه ، وغمّضت عيناه ، لأنّ فيه تحسينه ، إذ لو ترك على حاله لبقي فظيع المنظر ، ثمّ يغسّل .
28 - ويستحبّ تحسين كفن الميّت ، لأنّ الكفن للميّت بمثابة اللّباس للحيّ ، ولما رواه جابر رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « إذا كفّن أحدكم أخاه فليحسن كفنه » . ويكون تحسين الكفن بثلاثة أمور : تحسين ذات الكفن ، وتحسين صفة الكفن ، وتحسين وضعه على الميّت .
أ - أمّا تحسين ذات الكفن : فقد صرّح المالكيّة بأنّ الميّت يكفّن بمثل ما كان يلبسه في الجمع والأعياد في حياته - وهو يلبس لها أحسن ثيابه - ويقضى بذلك عند اختلاف الورثة فيه ، إن لم يكن عليه دين .
ب - أمّا تحسين صفة الكفن : فإنّه يستحبّ البياض في الكفن لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعاً : « البسوا من ثيابكم البياض ، فإنّها من خير ثيابكم ، وكفّنوا بها موتاكم » والجديد أفضل من القديم ، على خلاف في ذلك بين الفقهاء .
ج - أمّا تحسين كيفيّة الكفن : فيتمثّل بأن تجعل أحسن اللّفائف بحيث تظهر للنّاس ، فيظهر حسن الكفن .
29 - ويندب تحسين القبر ، ويكون تحسينه بما يلي :
أ - حفره لحداً إن أمكن ، وبناء اللّحد ، وأفضل ما يبنى به اللّحد اللّبن ، ثمّ الألواح ، ثمّ القرميد ، ثمّ القصب .
ب - أن يكون عمقه بقدر قامة - وهي ما يقرب من ثلاثة أذراع - وأن يكون واسعاً بحيث لا يضيق بالميّت .
ج - فرش أرضه بالرّمل إن كانت الأرض صخريّةً أو كان هناك سبب آخر لذلك .
د - أن يعلو عن الأرض مقدار شبر ، ويكون مسطّحاً أو مسنّماً على خلاف بين الفقهاء فيما هو الأفضل .
هـ - أن يعلّم عند رأس الميّت بحجر .
وليس من المستحسن - بل هو مكروه - تجصيص القبور وتطيينها والبناء عليها .
تحسينيّات *
التّعريف :
1 - التّحسينيّات في اللّغة : مأخوذة من مادّة الحسن ، والحسن في اللّغة بالضّمّ : الجمال . وجاء في الصّحاح أنّه ضدّ القبح . والتّحسين : التّزيين .
وأمّا التّحسينيّات في اصطلاح الأصوليّين : فهي ما لا تدعو إليها ضرورة ولا حاجة ، ولكن تقع موقع التّحسين والتّيسير ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات .
ومن أمثلتها : تحريم الخبائث من القاذورات والسّباع حثّاً على مكارم الأخلاق .
ومن أمثلتها أيضاً : اعتبار الوليّ في النّكاح صيانةً للمرأة عن مباشرة العقد ، لكونه مشعراً بتوقان نفسها إلى الرّجال ، فلا يليق ذلك بالمروءة ، ففوّض ذلك إلى الوليّ حملاً للخلق على أحسن المناهج .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الضّروريّات :
2 - الضّروريّات يعرف معناها في اللّغة من معنى مادّة ضرّ ، والضّرّ في اللّغة : خلاف النّفع ، وضرّه وضارّه معناهما واحد ، والاسم الضّرر . وقال الأزهريّ : كلّ ما كان سوء حال وفقراً وشدّةً في بدن فهو ضرّ بالضّمّ ، وما كان ضدّ النّفع فهو بفتحها .
وأمّا عند الأصوليّين : فهي الأمور الّتي لا بدّ منها في قيام مصالح الدّين والدّنيا ، وهي حفظ الدّين ، والعقل ، والنّسل ، والمال ، والنّفس .
وهي أقوى مراتب المصالح بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدّنيا على استقامة ، بل على فساد وتهارج وفوت حياة ، وفي الأخرى فوت النّجاة والنّعيم والرّجوع بالخسران المبين . ومن هنا يتبيّن الفرق بين الضّروريّات والتحسينيات ، إذ التّحسينيّات هي الأخذ بما يليق من محاسن العادات ، وتجنّب الأحوال المدنّسات الّتي تأنفها العقول الرّاجحة .
ب – الحاجيّات :
3 - يعرف معناها في اللّغة من معنى الحاجة ، وهي : الاحتياج . وأمّا عند الأصوليّين : فهي الّتي يحتاج إليها ، ولكنّها لا تصل إلى حدّ الضّرورة ، فإذا لم تراع دخل على المكلّفين على الجملة الحرج والمشقّة ، ولكنّه لا يبلغ مبلغ الفساد العاديّ المتوقّع في المصالح العامّة . وتأتي في المرتبة الثّانية بعد الضّروريّات ، أمّا التّحسينيّات فتأتي في المرتبة الثّالثة .
أقسام التّحسينيّات :
4 - تنقسم التّحسينيّات إلى قسمين :
الأوّل : ما كان غير معارض للقواعد الشّرعيّة ، كتحريم تناول القاذورات ، فإنّ نفرة الطّباع منها معنًى يناسب حرمة تناولها حثّاً على مكارم الأخلاق .
الثّاني : ما كان معارضاً للقواعد كالكتابة ، فإنّها غير محتاج إليها ، إذ لو منعت ما ضرّ ، لكنّها مستحسنة في العادة للتّوسّل بها إلى فكّ الرّقبة من الرّقّ ، وهي خارمة لقاعدة امتناع بيع الشّخص بعض ماله ببعض آخر ، إذ ما يحصّله المكاتب في قوّة ملك السّيّد له بأن يعجّز نفسه .
الأحكام الإجماليّة :
أ - المحافظة عليها :
5 - التّحسينيّات من الأمور الّتي قصد الشّارع المحافظة عليها ، لأنّها وإن كانت أدنى مراتب المصالح إلاّ أنّها مكمّلة للحاجيّات الّتي هي أعلى منها في المنزلة ، والحاجيّات بدورها مكمّلة للضّروريّات الّتي هي أصل لهما ، وأيضاً فإنّ ترك التّحسينيّات يؤدّي في النّهاية إلى ترك الضّروريّات ، لأنّ المتجرّئ على ترك الأخفّ بالإخلال به معرّض للتّجرّؤ على ما سواه ، ولذلك لو اقتصر المصلّي على ما هو فرض في الصّلاة لم يكن في صلاته ما يستحسن . وأيضاً فإنّ التّحسينات بالنّسبة للحاجيّات - الّتي هي آكد منها - كالنّفل بالنّسبة إلى ما هو فرض ، وكذا الحاجيّات مع الضّروريّات ، فستر العورة واستقبال القبلة بالنّسبة إلى أصل الصّلاة كالمندوب إليه ، والمندوب إليه بالجزء ينتهض أن يصير واجباً بالكلّ ، فالإخلال بالمندوب مطلقاً يشبه الإخلال بركن من أركان الواجب .
ب - تعارض التّحسينيّات مع غيرها :
6 - التّحسينيّات وإن كانت مكمّلةً للحاجيّات الّتي هي أصل لها ، إلاّ أنّه يشترط في المحافظة عليها باعتبارها مكمّلةً : ألاّ تعود على أصلها بالإبطال ، فإذا كانت المحافظة عليها تؤدّي إلى ترك ما هو أعلى منها فإنّها تترك ، ومثل ذلك الحاجيّات مع الضّروريّات ، لأنّ كلّ تكملة يفضي اعتبارها إلى إبطال أصلها لا يلتفت إليها لوجهين :
أحدهما : أنّ في إبطال الأصل إبطال التّكملة ، لأنّ التّكملة مع ما كمّلته كالصّفة مع الموصوف ، فإذا كان اعتبار الصّفة يؤدّي إلى ارتفاع الموصوف لزم من ذلك ارتفاع الصّفة أيضاً ، فاعتبار هذه التّكملة على هذا الوجه مؤدّ إلى عدم اعتبارها ، وهذا محال لا يتصوّر ، وإذا لم يتصوّر لم تعتبر التّكملة ، واعتبر الأصل من غير مزيد .
الثّاني : أنّا لو قدّرنا تقديراً أنّ المصلحة التّكميليّة تحصل مع فوات المصلحة الأصليّة ، لكان حصول الأصليّة أولى لما بينهما من التّفاوت . وبيان ذلك أنّ حفظ النّفس مهمّ كلّيّ ، وحفظ المروآت مستحسن ، فحرمت النّجاسات حفظاً للمروآت ، وإجراءً لأهل المروآت على محاسن العادات ، فإن دعت الضّرورة إلى إحياء النّفس بتناول النّجس كان تناوله أولى .
هذا وقد ذكر الشّيخ عزّ الدّين بن عبد السّلام في قواعده : أنّ المصالح إذا تعارضت حصّلت العليا منها ، واجتنبت الدّنيا منها فإنّ الأطبّاء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما ، ويجلبون أعلى السّلامتين والصّحّتين ولا يبالون بفوات أدناهما ، فإنّ الطّبّ كالشّرع ، وضع لجلب مصالح السّلامة والعافية ، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام ، ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك ولجلب ما أمكن جلبه من ذلك ، فإن تعذّر درء الجميع أو جلب الجميع ، فإن تساوت الرّتب تخيّر ، وإن تفاوتت استعمل التّرجيح عند عرفانه والتّوقّف عند الجهل به .
ج - الاحتجاج بها :
7 - ذكر الغزاليّ في المستصفى : أنّه لا يجوز الحكم بالتحسينيات بمجرّدها إن لم تعتضد بشهادة أصل ، إلاّ أنّها قد تجري مجرى وضع الضّرورات ، فلا يبعد أن يؤدّي إليها اجتهاد مجتهد ، فحينئذ إن لم يشهد الشّرع برأي فهو كالاستحسان فإن اعتضد بأصل فذاك قياس ومثل التّحسينيّات في هذا الحاجيّات . وتفصيله في الملحق الأصوليّ .
تحصّن *
التّعريف :
1 - من معاني التّحصّن في اللّغة والاصطلاح : الدّخول في الحصن والاحتماء به ، وفي القاموس : الحصن ، كلّ موضع حصين لا يتوصّل إلى ما في جوفه ، وفي المصباح : هو المكان الّذي لا يقدر عليه لارتفاعه ، والجمع حصون . وحصّن القرية تحصيناً بنى حولها ما يحصّنها من سور أو نحوه .
ويستعمل التّحصّن أيضاً بمعنى : التّعفّف عن الرّيب ، ومنه قيل للمتعفّفة ( حصان ) .
قال اللّه تعالى : { ولا تُكْرِهوا فتياتِكم على البِغَاءِ إنْ أرَدْنَ تَحَصُّناً ... }
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - التّحصّن من الكفّار المحاربين - إن جاءوا لقتال المسلمين - جائز شرعاً ، سواء أكان المسلمون في الحصن أقلّ من نصف الكفّار أو أكثر ، وذلك ليلحقهم مدد وقوّة من بلاد المسلمين المجاورة ليشدّوا أزرهم ، فيكثر عددهم ويخشاهم عدوّهم ، ولا يلحق المسلمين بتحصّنهم إثم الفرار من الزّحف ، لأنّ الإثم منوط بمن فرّ بعد لقاء المحاربين غير متحرّف لقتال ، ولا متحيّزاً إلى فئة ، وإن لقوهم خارج الحصن فلهم التّحيّز إلى الحصن ، لأنّه بمنزلة التّحرّف للقتال أو التّحيّز إلى فئة ، وهذا بلا خلاف .
وإن كان الكفّار المحاربون في بلادهم مستقرّين غير قاصدين الحرب ، فحينئذ ينبغي للمسلمين أن يحتاطوا بإحكام الحصون والخنادق وشحنها بمكافئين لهم ، وتقليد ذلك للمؤتمنين من المسلمين والمشهورين بالشّجاعة . والتّفصيل موطنه مصطلح : ( جهاد ) .
3 - ويجوز أيضاً للمسلمين التّحصّن بالخنادق كما « فعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق حينما جاء الأحزاب لقتاله حول المدينة » . وإليه يشير قوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمَنُوا اذْكُروا نعمةَ اللّهِ عليكم إذْ جاءَتْكم جنودٌ فأَرْسَلنا عليهم ريحاً وجُنُوداً لم تَرَوْها ، وكان اللّهُ بما تعملون بصيراً . إذْ جاءوكم مِنْ فوقِكم ومِنْ أسفلَ منكم وإذْ زَاغَتِ الأبصارُ وبلغتِ القلوبُ الحناجِرَ وتَظُنّونَ باللّهِ الظّنُوْنَا } وقد « شارك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق بنفسه مع أصحابه » .
4 - ومثل التّحصّن بالحصون والخنادق : التّحصّن بكلّ ما يحمي المسلمين من مفاجأة العدوّ لهم من الوسائل الّتي تتنوّع بحسب أنواع الخطر . وهذا يختلف باختلاف العصور والأمكنة .
تحصين *
انظر : إحصان ، جهاد .
تحقّق *
انظر : تثبّت .
تحقير *
التّعريف :
1 - من معاني التّحقير في اللّغة : الإذلال والامتهان والتّصغير . وهو مصدر حقّر ، والمحقّرات : الصّغائر . ويقال : هذا الأمر محقرة بك : أي حقارة .
والحقير : الصّغير الذّليل . تقول : حقّر حقارةً ، وحقّره واحتقره واستحقره : إذا استصغره ورآه حقيراً . وحقّره : صيّره حقيراً ، أو نسبه إلى الحقارة . وحَقُر الشّيء حقارةً : هان قدره فلا يعبأ به ، فهو حقير . وهو في الاصطلاح لا يخرج عن هذا .
الحكم الإجماليّ :
للتّحقير أحكام تعتريه :
2 - فتارةً يكون حراماً منهيّاً عنه : كما في تحقير المسلم للمسلم استخفافاً به وسخريةً منه وامتهاناً لكرامته . وفي هذا قول اللّه تبارك وتعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا يسخرْ قومٌ مِنْ قومٍ عسى أنْ يكونُوا خيراً منهم ، ولا نساءٌ مِنْ نساءٍ عسى أنْ يَكُنَّ خيراً منهنَّ ، ولا تَلْمِزُوا أنفسَكم ولا تَنَابَزُوا بالألقابِ بئسَ الاسمُ الفُسوقُ بعدَ الإِيمانِ ومَنْ لم يتُبْ فأولئك هم الظّالمون } ونحوها من الآيات . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا تَحَاسدوا ولا تَنَاجشوا ولا تَبَاغضوا ولا تدابروا ، ولا يَبِعْ بعضُكم على بيعِ بعض ، وكونوا عبادَ اللّهِ إخواناً المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقّره التّقوى هاهنا . ويشير إلى صدره ثلاث مرّات بحسب امرئ من الشّرِّ أنْ يحقِرَ أخاه المسلمَ . كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ دمُه ومالُه وعرضُه » .
وفيه عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقالُ ذرّةٍ من كِبْر . فقال رجل : إنَّ الرّجلَ يحبّ أن يكون ثوبُه حسناً ونعلُه حسنةً . قال : إنَّ اللّهَ جميلٌ يحبّ الجمال . الكبر بَطَر الحقِّ وغَمْطُ النّاس » وفي رواية « وغمص النّاس » ، وبطر الحقّ : هو دفعه وإبطاله ، والغمط والغمص معناهما واحد ، وهو : الاحتقار .
قال القرطبيّ في تفسير قوله تعالى : { بئس الاسمُ الفسوقُ بعدَ الإِيمان } قيل معناه : من لقّب أخاه أو سخر به فهو فاسق . قال ابن حجر الهيتميّ : السّخرية : الاستحقار والاستهانة والتّنبيه على العيوب والنّقائص يوم يضحك منه ، وقد يكون بالمحاكاة بالفعل أو القول أو الإشارة أو الإيماء ، أو الضّحك على كلامه إذا تخبّط فيه أو غلط ، أو على صنعته ، أو قبيح صورته .
فمن ارتكب شيئاً من التّحقير ممّا هو ممنوع كان قد ارتكب محرّماً يعزّر عليه شرعاً تأديباً له . وهذا التّعزير مفوّض إلى رأي الإمام ، وفق ما يراه في حدود المصلحة وطبقاً للشّرع ، كما هو مبيّن في مصطلح ( تعزير ) ، لأنّ المقصود منه الزّجر ، وأحوال النّاس فيه مختلفة ، فلكلّ ما يناسبه منه . وهذا إن قصد بهذه الأمور التّحقير . أمّا إن قصد التّعليم أو التّنبيه على الخطأ أو نحو ذلك - ولم يقصد تحقيراً - فلا بأس به ، فيعرف قصده من قرائن الأحوال .
3 - هذا وقد يصل التّحقير المحرّم إلى أن يكون ردّةً ، وذاك إذا حقّر شيئاً من شعائر الإسلام ، كتحقير الصّلاة والأذان والمسجد والمصحف ونحو ذلك ، قال اللّه تعالى في وصف المنافقين { ولئنْ سألتَهم لَيقولُنَّ إنّما كنَّا نخوضُ ونلعبُ قل أباللّهِ وآياتِه ورسولِه كنتم تستهزئون . لا تعتذروا قد كفرتمْ بعدَ إيمانكم } ، وقال تعالى فيهم أيضاً : { وإذا ناديتمْ إلى الصّلاةِ اتَّخذوها هُزُواً وَلَعِبَاً } . ونقل في فتح العليّ لمالك : أنّ رجلاً كان يزدري الصّلاة ، وربّما ازدرى المصلّين وشهد عليه ملأ كثير من النّاس ، منهم من زكّى ومنهم من لم يزكّ . فمن حمله على الازدراء بالمصلّين لقلّة اعتقاده فيهم فهو من سباب المسلم ، فيلزمه الأدب على قدر اجتهاد الحاكم . ومن يحمله على ازدراء العبادة فالأصوب أنّه ردّة ، لإظهاره إيّاه وشهرته به ، لا زندقة ، ويجري عليه أحكام المرتدّ .
4 - وقد يكون التّحقير واجباً : كما هو الحال فيمن فرضت عليه الجزية من أهل الكتاب . لقوله تعالى : { قاتِلوا الّذينَ لا يُؤْمنون باللّهِ ولا باليومِ الآخرِ ولا يُحرِّمون ما حَرَّمَ اللّهُ ورسولُه ولا يَدِينونَ دينَ الحقِّ من الّذين أُوتوا الكتابَ حتّى يُعْطُوا الجِزيةَ عن يَدٍ وهم صاغرون } أي ذليلون حقيرون مهانون . وقد اختلف الفقهاء فيما يحصل به الصّغار عند إعطائهم الجزية . انظر مصطلح ( أهل الذّمّة ، وجزية ) .
التّعزير بما فيه تحقير :
5 - من ضروب التّعزير : التّوبيخ ، وهو نوع من التّحقير . واستدلّ الفقهاء على مشروعيّة التّوبيخ في التّعزير بالسّنّة فقد ، « روى أبو ذرّ رضي الله عنه أنّه سابّ رجلاً فعيّره بأمّه ، فقال الرّسول صلى الله عليه وسلم يا أبا ذرّ : أَعَيَّرْتَه بأمِّه ؟ إنّك امرؤ فيك جاهليّةٌ » .
« وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته » .
وقد فسّر النّيل من العرض بأن يقال له مثلاً : يا ظالم . يا معتدي . وهذا نوع من التّعزير بالقول ، وقد جاء في تبصرة الحكّام لابن فرحون : وأمّا التّعزير بالقول فدليله ما ثبت في سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب فقال : اضربوه فقال أبو هريرة فمنّا الضّارب بيده ، ومنّا الضّارب بنعله ، والضّارب بثوبه » . وفي رواية « بكّتوه فأقبلوا عليه يقولون : ما اتّقيت اللّه ؟ ما خشيت اللّه ؟ ما استحييت من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم » ؟
وهذا التّبكيت من التّعزير بالقول . ( ر : تعزير ) .
6- قد يكون التّحقير بالفعل : كما هو الحال في تجريس شاهد الزّور ، فإنّ تجريسه هو إسماع النّاس به ، وهو تشهير ، وإذا كان تشهيراً كان تعزيراً . فقد ورد في التتارخانية في التّشهير بشاهد الزّور : قال أبو حنيفة في المشهور : يطاف به ويشهر ولا يضرب ، وفي السّراجيّة : وعليه الفتوى . وفي جامع العتّابيّ : التّشهير أن يطاف به في البلد وينادى عليه في كلّ محلّة : إنّ هذا شاهد الزّور فلا تشهدوه . وذكر الخصّاف في كتابه أنّه يشهر على قولهما بغير الضّرب ، والّذي روي عن عمر أنّه كان يسخّم وجهه فتأويله عند السّرخسيّ أنّه بطريق السّياسة إذا رأى المصلحة ، وعند الشّيخ الإمام أنّه التّفضيح والتّشهير ، فإنّه يسمّى سواداً . ونقل عن شريح رحمه الله أنّه كان يبعث بشاهد الزّور إلى سوقه إن كان سوقيّاً ، وإلى قومه إن كان غير سوقيّ بعد العصر أجمع ما كانوا ، ويقول آخذه : إنّ شريحاً يقرأ عليكم السّلام ويقول : إنّا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه وحذّروا النّاس منه .
تحقيق المناط *
التّعريف :
1 - حقّق الأمر : تيقّنه أو جعله ثابتاً لازماً . والمناط : موضع التّعليق .
ومناط الحكم عند الأصوليّين : علّته وسببه . وتحقيق المناط عند الأصوليّين : هو النّظر والاجتهاد في معرفة وجود العلّة في آحاد الصّور ، بعد معرفة تلك العلّة بنصّ أو إجماع أو استنباط ، فإثبات وجود العلّة في مسألة معيّنة بالنّظر والاجتهاد هو تحقيق المناط .
فمثال ما إذا كانت العلّة معروفةً بالنّصّ : جهة القبلة ، فإنّها مناط وجوب استقبالها ، وهي معروفة بالنّصّ ، وهو قوله تعالى : { وحيثما كُنتم فَوَلُّوا وجوهَكم شَطْرَهُ } وأمّا كون جهة ما هي جهة القبلة في حالة الاشتباه فمظنون بالاجتهاد والنّظر في الأمارات .
ومثال ما إذا كانت العلّة معلومةً بالإجماع : العدالة ، فإنّها مناط وجوب قبول الشّهادة ، وهي معلومة بالإجماع ، وأمّا كون هذا الشّخص عدلاً فمظنون بالاجتهاد .
ومثال ما إذا كانت العلّة مظنونةً بالاستنباط : الشّدّة المطربة ، فإنّها مناط تحريم الشّرب في الخمر ، فالنّظر في معرفتها في النّبيذ هو تحقيق المناط ، وسمّي تحقيق المناط ، لأنّ المناط وهو الوصف علم أنّه مناط ، وبقي النّظر في تحقيق وجوده في الصّورة المعيّنة .
الحكم الإجماليّ :
2 - تحقيق المناط مسلك من مسالك العلّة ، والأخذ به متّفق عليه . وقد يعتبر تحقيق المناط من قياس العلّة . وقال الغزاليّ : هذا النّوع من الاجتهاد لا خلاف فيه بين الأمّة ، والقياس مختلف فيه ، فكيف يكون هذا قياساً ؟ . وتحقيق المناط يحتاج إليه المجتهد والقاضي والمفتي في تطبيق علّة الحكم على آحاد الوقائع . وينظر تفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ .
تحكيم *
التّعريف :
1 - التّحكيم في اللّغة : مصدر حكّمه في الأمر والشّيء ، أي : جعله حكماً ، وفوّض الحكم إليه . وفي التّنزيل العزيز : { فلا وربِّك لا يُؤْمنونَ حتّى يُحَكِّمُوك فيما شَجَرَ بينهم } .
وحكّمه بينهم : أمره أن يحكم بينهم . فهو حكم ، ومحكّم .
وأمّا الحديث الشّريف : « إنّ الجنّة للمحكَّمين » فالمراد به الّذين يقعون في يد العدوّ ، فيخيّرون بين الشّرك والقتل ، فيختارون القتل ثباتاً على الإسلام .
وفي المجاز : حكّمت السّفيه تحكيماً : إذا أخذت على يده ، أو بصّرته ما هو عليه . ومنه قول النّخعيّ رحمه الله تعالى : حكّم اليتيم كما تحكّم ولدك . أي : امنعه من الفساد كما تمنع ولدك وقيل : أراد حكمه في ماله إذا صلح كما تحكّم ولدك .
ومن معاني التّحكيم في اللّغة : الحكم . يقال : قضى بين الخصمين ، وقضى له ، وقضى عليه . وفي الاصطلاح : التّحكيم : تولية الخصمين حاكماً يحكم بينهما . وفي مجلّة الأحكام العدليّة : التّحكيم عبارة عن اتّخاذ الخصمين حاكماً برضاهما لفصل خصومتهما ودعواهما . ويقال لذلك : حكم بفتحتين ، ومحكّم بضمّ الميم ، وفتح الحاء ، وتشديد الكاف المفتوحة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - القضاء :
2 - من معانيه في اللّغة : الحكم ، وهو في اصطلاح الفقهاء : تبيين الحكم الشّرعيّ والإلزام به ، وفصل الخصومة .
وعلى هذا فكلّ من التّحكيم والقضاء وسيلة لفضّ النّزاع بين النّاس وتحديد صاحب الحقّ ، ولهذا اشترط الفقهاء في كلّ منهما صفات متماثلةً . كما سنرى بعد قليل .
إلاّ أنّ بينهما فوارق جوهريّةً تتجلّى في أنّ القضاء هو الأصل في هذا المقام ، وأنّ التّحكيم فرع ، وأنّ القاضي هو صاحب ولاية عامّة ، فلا يخرج عن سلطة القضاء أحد ، ولا يستثنى من اختصاصه موضوع . أمّا تولية الحكم فتكون من القاضي أو من الخصمين وفق الشّروط والقيود الّتي توضع له ، مع ملاحظة أنّ هناك أموراً ليست محلّاً للتّحكيم ، كما سنرى .
ب - الإصلاح :
3 - الإصلاح في اللّغة : نقيض الإفساد . يقال : أصلح : إذا أتى بالخير والصّواب . وأصلح في عمله ، أو أمره : أتى بما هو صالح نافع . وأصلح الشّيء : أزال فساده .
وأصلح بينهما ، أو ذات بينهما ، أو ما بينهما : أزال ما بينهما من عداوة ونزاع برضا الطّرفين . وفي ، القرآن المجيد : { وإنْ طائفتانِ من المؤمنينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بينَهما ، فإنْ بَغَتْ إحداهُما على الأخرى فقاتِلوا الّتي تبغي حتّى تَفِيء إلى أمرِ اللّهِ ، فإنْ فاءَتْ فأصلِحوا بينهما بالعدلِ وأَقْسِطُوا إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المقسِطِين } .
فالإصلاح والتّحكيم يفضّ بهما النّزاع ، غير أنّ الحكم لا بدّ فيه من تولية من القاضي أو الخصمين ، والإصلاح يكون الاختيار فيه من الطّرفين أو من متبرّع به .
الحكم التّكليفيّ :
التّحكيم مشروع . وقد دلّ على ذلك الكتاب والسّنّة والإجماع .
4 - أمّا الكتاب الكريم فقوله تعالى : { وإنْ خِفْتُم شِقَاقَ بينهما فابْعَثُوا حَكَمَاً من أهلِه وحَكَمَاً من أهلِها ، إنْ يُرِيدا إصلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بينهما } .
قال القرطبيّ : إنّ هذه الآية دليل إثبات التّحكيم .
5- وأمّا السّنّة المطهّرة ، « فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رضي بتحكيم سعد بن معاذ رضي الله عنه في أمر اليهود من بني قريظة ، حين جنحوا إلى ذلك ورضوا بالنّزول على حكمه » . « وإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رضي بتحكيم الأعور بن بشامة في أمر بني العنبر ، حين انتهبوا أموال الزّكاة » .
وفي الحديث الشّريف « أنّ أبا شريح هانئ بن يزيد رضي الله عنه لمّا وفد إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مع قومه ، سمعهم يكنّونه بأبي الحكم . فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّ اللّه هو الحَكَم . وإليه الحُكْمُ ، فلم تكنّى أبا الحكم ؟ فقال : إنّ قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني ، فحكمت بينهم ، فرضي كلا الفريقين . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ما أحسن هذا . فما لك من الولد ؟ قال : لي شريح ، ومسلم ، وعبد اللّه . قال : فما أكبرهم ؟ قلت : شريح . قال : أنت أبو شريح . ودعا له ولولده » .
6- أمّا الإجماع ، فقد كان بين عمر وأبيّ بن كعب رضي الله عنهما منازعة في نخل ، فحكّما بينهما زيد بن ثابت رضي الله عنه .
واختلف عمر مع رجل في أمر فرس اشتراها عمر بشرط السّوم ، فتحاكما إلى شريح .
كما تحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم رضي الله عنهم ، ولم يكن زيد ولا شريح ولا جبير من القضاة . وقد وقع مثل ذلك لجمع من كبار الصّحابة ، ولم ينكره أحد فكان إجماعاً .
7- وبناءً على ذلك ذهب الفقهاء إلى جواز التّحكيم . إلاّ أنّ من الحنفيّة من امتنع عن الفتوى بذلك ، وحجّته : أنّ السّلف إنّما يختارون للحكم من كان عالماً صالحاً ديّناً ، فيحكم بما يعلمه من أحكام الشّرع ، أو بما أدّى إليه اجتهاد المجتهدين . فلو قيل بصحّة التّحكيم اليوم لتجاسر العوامّ ، ومن كان في حكمهم إلى تحكيم أمثالهم ، فيحكم الحكم بجهله بغير ما شرع اللّه تعالى من الأحكام ، وهذا مفسدة عظيمة ، ولذلك أفتوا بمنعه .
وقال أصبغ من المالكيّة : لا أحبّ ذلك ، فإن وقع مضى . ومنهم من لم يجزه ابتداءً .
ومن الشّافعيّة من قال بعدم الجواز ، ومنهم من قال بالجواز إذا لم يكن في البلد قاض . ومنهم من قال بجوازه في المال فقط . ومهما يكن فإنّ جواز التّحكيم هو ظاهر مذهب الحنفيّة والأصحّ عندهم ، والأظهر عند جمهور الشّافعيّة . وهو مذهب الحنابلة .
أمّا المالكيّة : فظاهر كلامهم نفاذه بعد الوقوع .
8- وطرفا التّحكيم هما الخصمان اللّذان اتّفقا على فضّ النّزاع به فيما بينهما ، وكلّ منهما يسمّى المحكّم بتشديد الكاف المكسورة .
وقد يكون الخصمان اثنين ، وقد يكونان أكثر من ذلك .
9- والشّرط في طرفي التّحكيم الأهليّة الصّحيحة للتّعاقد الّتي قوامها العقل ، إذ بدونها لا يصحّ العقد . ولا يجوز لوكيلٍ التّحكيمُ من غير إذن موكّله ، وكذلك الصّغيرُ المأذون له في التّجارة من غير إذن وليّه ، ولا يجوز التّحكيم من عامل المضاربة إلاّ بإذن المالك ، ولا من الوليّ والوصيّ والمحجور عليه بالإفلاس إذا كان ذلك يضرّ بالقاصر أو بالغرماء .
شروط المحكَّم :
10 - أ - أن يكون معلوماً . فلو حكّم الخصمان أوّل من دخل المسجد مثلاً لم يجز بالإجماع ، لما فيه من الجهالة ، إلاّ إذا رضوا به بعد العلم ، فيكون حينئذ تحكيماً لمعلوم .
11 - ب - أن يكون أهلاً لولاية القضاء .
وعلى ذلك اتّفاق المذاهب الأربعة ، على خلاف فيما بينها في تحديد عناصر تلك الأهليّة . والمراد بأهليّة القضاء هنا : الأهليّة المطلقة للقضاء ، لا في خصوص الواقعة موضوع النّزاع . وفي قول للشّافعيّة : إنّ هذا الشّرط يمكن الاستغناء عنه عندما لا يوجد الأهل لذلك . ومنهم من قال بعدم اشتراطه مطلقاً ، ومنهم من قيّد جواز التّحكيم بعدم وجود قاض ، وقيل : يتقيّد بالمال دون القصاص والنّكاح ، أي إثبات عقد النّكاح .
وفي قول للحنابلة : إنّ المحكّم لا تشترط فيه كلّ صفات القاضي .
وثمّة أحكام تفصيليّة لهذا الشّرط يرجع إليها في مبحث ( دعوى ) ( وقضاء ) .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ أهليّة القضاء يجب أن تكون متحقّقةً في المحكّم من وقت التّحكيم إلى وقت الحكم . ومن ذلك : أنّه يشترط في المحكّم : الإسلام ، إن كان حكماً بين مسلمين ، وكان أحدهما مسلماً ، أمّا إذا كانا غير مسلمين يشترط إسلام المحكّم . وعلّة ذلك أنّ غير المسلم أهل للشّهادة بين غير المسلمين ، فيكون تراضي الخصمين عليه كتولية السّلطان إيّاه . ومعلوم أنّ ولاية غير المسلم الحكم بين غير المسلمين صحيحة . وكذلك التّحكيم .
ولو كانا غير مسلمين ، وحكّما غير مسلم جاز . فإن أسلم أحد الخصمين قبل الحكم لم ينفذ حكم الحكم على المسلم ، وينفذ له . وقيل : لا ينفذ له أيضاً .
12 - أمّا المرتدّ فتحكيمه عند أبي حنيفة رضي الله عنه موقوف ، فإن عاد إلى الإسلام صحّ ، وإلاّ بطل . وعند أبي يوسف ومحمّد جائز في كلّ حال . وعلى ذلك فلو حكّم مسلم ومرتدّ رجلاً ، فحكم بينهما ، ثمّ قتل المرتدّ ، أو لحق بدار الحرب ، لم يجز حكمه عليهما .
13 - ورتّبوا على ذلك آثاراً تظهر في بعض الصّور التّفريعيّة ... من ذلك أنّ الخصمين لو حكّما صبيّاً فبلغ ، أو غير مسلم فأسلم ، ثمّ حكم ، لم ينفذ حكمه .
ولو حكّما مسلماً ، ثمّ ارتدّ لم ينفذ حكمه أيضاً ، وكان في ردّته عزله . فإذا عاد إلى الإسلام فلا بدّ من تحكيم جديد . ولو عمي المحكّم ، ثمّ ذهب العمى ، وحكم لم يجز حكمه .
أمّا إن سافر أو مرض أو أغمي عليه ، ثمّ قدم من سفره أو برئ وحكم جاز ، لأنّ ذلك لا يقدح بأهليّة القضاء . ولو أنّ حكماً غير مسلم ، حكّمه غير المسلمين ، ثمّ أسلم قبل الحكم ، فهو على حكومته ، لأنّ تحكيم غير المسلمين للمسلم جائز ونافذ . ولو أنّ أحد الخصمين وكّل الحكم بالخصومة فقبل ، خرج عن الحكومة على قول أبي يوسف ، ولم يخرج عنها على قول الإمام ومحمّد . وقد قال بعض العلماء : إنّه يخرج عنها في قول الكلّ .
14 - ج - أن لا يكون بين المحكّم وأحد الخصمين قرابة تمنع من الشّهادة . وإذا اشترى المحكّم الشّيء الّذي اختصما إليه فيه ، أو اشتراه ابنه أو أحد ممّن لا تجوز شهادته له ، فقد خرج من الحكومة . وإن حكَّم الخصم خصمه ، فحكم لنفسه ، أو عليها جاز تحكيمه ابتداءً ، ومضى حكمه إن لم يكن جَوْراً بيّناً ، وهو مذهب الحنفيّة والحنابلة .
أمّا المالكيّة فلهم في ذلك ثلاثة أقوال :
القول الأوّل : أنّه يجوز مطلقاً ، سواء أكان الخصم الحكم قاضياً أم غيره .
الثّاني : أنّه لا يجوز مطلقاً للتّهمة .
الثّالث : التّفرقة بين أن يكون المحكّم قاضياً أو غيره ، فإن كان الخصم المحكّم قاضياً لم يجز ، إن لم يكن قاضياً جاز . والقول الأوّل هو المعتمد ، وبه أخذ الحنابلة .
محلّ التّحكيم :
اختلف الفقهاء فيما يصلح أن يكون محلّاً للتّحكيم .
15 - فعند الحنفيّة لا يجوز التّحكيم في الحدود الواجبة حقّاً للّه تعالى باتّفاق الرّوايات . وحجّتهم : أنّ استيفاء عقوبتها ممّا يستقلّ به وليّ الأمر . وأنّ حُكْم المحكّم ليس بحجّة في حقّ غير الخصوم ، فكان فيه شبهة . والحدود تدرأ بالشّبهات .
وما اختاره السّرخسيّ من جواز التّحكيم في حدّ القذف فضعيف .
لأنّ الغالب فيه حقّ اللّه تعالى ، فالأصحّ في المذهب عدم جواز التّحكيم في الحدود كلّها .
16 - أمّا القصاص ، فقد روي عن أبي حنيفة أنّه لا يجوز التّحكيم فيه .
واختاره الخصّاف ، وهو الصّحيح من المذهب ، لأنّ التّحكيم بمنزلة الصّلح .
والإنسان لا يملك دمه حتّى يجعله موضعاً للصّلح . وما روي من جوازه في القصاص قياساً على غيره من الحقوق فضعيف روايةً ودرايةً ، لأنّ القصاص ليس حقّاً محضاً للإنسان - وإن كان الغالب فيه حقّه - وله شبه بالحدود في بعض المسائل .
17 - ولا يصحّ التّحكيم في ما يجب من الدّية على العاقلة ، لأنّه لا ولاية للحكمين على العاقلة ، ولا يمكنهما الحكم على القاتل وحده بالدّية ، لمخالفته حكم الشّرع الّذي لم يوجب ديةً على القاتل وحده دون العاقلة ، إلاّ في مواضع محدّدة - كما لو أقرّ بالقتل خطأً - وللتّفصيل انظر مصطلح ( دية ، عاقلة ) .
أمّا في تلك المواضع المحدّدة ، فإنّ التّحكيم جائز ونافذ .
18 - وليس للحَكَم أن يحكم في اللّعان كما ذكر البرجنديّ ، وإن توقّف فيه ابن نجيم .
وعلّة ذلك أنّ اللّعان يقوم مقام الحدّ . وأمّا فيما عدا ما ذكر آنفاً ، فإنّ التّحكيم جائز ونافذ . وليس للمحكّم الحبس ، إلاّ ما نقل عن صدر الشّريعة من جوازه .
19 - وأمّا المالكيّة ، فإنّ التّحكيم عندهم جائز إلاّ في ثلاثة عشر موضعاً هي :
الرّشد ، وضدّه ، والوصيّة ، والحبس ( الوقف ) ، وأمر الغائب ، والنّسب ، والولاء ، والحدّ ، والقصاص ، ومال اليتيم ، والطّلاق ، والعتق ، واللّعان . لأنّ هذه ممّا يختصّ بها القضاء . وسبب ذلك أنّ هذه الأمور إمّا حقوق يتعلّق بها حقّ اللّه تعالى ، كالحدّ والقتل والطّلاق ، أو حقوق لغير المتحاكمين ، كالنّسب ، واللّعان . وقد وضع ابن عرفة حدّاً لما يجوز فيه التّحكيم . فقال : ظاهر الرّوايات أنّه يجوز التّحكيم فيما يصحّ لأحدهما ترك حقّه فيه .
وقال اللّخميّ وغيره : إنّما يصحّ في الأموال ، وما في معناها .
20 - وأمّا الشّافعيّة فإنّ التّحكيم عندهم لا يجوز في حدود اللّه تعالى . إذ ليس فيها طالب معيّن ، وعلى هذا المذهب . ولو حكّم خصمان رجلاً في غير حدّ اللّه تعالى جاز مطلقاً بشرط أهليّة القضاء . وفي قول : لا يجوز . وقيل : بشرط عدم وجود قاض بالبلد .
وقيل : يختصّ التّحكيم بالأموال دون القصاص والنّكاح ونحوهما .
21 - وأمّا الحنابلة : فقد اختلفوا فيما يجوز فيه التّحكيم .
ففي ظاهر كلام أحمد أنّ التّحكيم يجوز في كلّ ما يمكن أن يعرض على القاضي من خصومات ، كما قال أبو الخطّاب ، يستوي في ذلك المال والقصاص والحدّ والنّكاح واللّعان وغيرها ، حتّى مع وجود قاض ، لأنّه كالقاضي ولا فرق . وقال القاضي أبو يعلى بجواز التّحكيم في الأموال خاصّةً . وأمّا النّكاح والقصاص والحدّ فلا يجوز فيها التّحكيم ، لأنّها مبنيّة على الاحتياط ، فلا بدّ من عرضها على القضاء للحكم .
شروط التّحكيم :
يشترط في التّحكيم ما يأتي :
22 - أ - قيام نزاع ، وخصومة حول حقّ من الحقوق .
وهذا الشّرط يستدعي حُكْماً قيام طرفين متشاكسين ، كلّ يدّعي حقّاً له قبل الآخر .
23 - ب - تراضي طرفي الخصومة على قبول حكمه ، أمّا المعيّن من قبل القاضي فلا يشترط رضاهما به ، لأنّه نائب عن القاضي .
ولا يشترط عند الحنفيّة تقدّم رضى الخصمين عن التّحكيم ، بل لو رضيا بحكمه بعد صدوره جاز . وعند الشّافعيّة : لا بدّ من تقدّم التّراضي .
24 - ج - اتّفاق المتخاصمين والحكم على قبول مهمّة التّحكيم ... ومجمل هذين الاتّفاقين يشكل ركن التّحكيم ، الّذي هو : لفظه الدّالّ عليه مع قبول الآخر .
وهذا الرّكن قد يظهر صراحةً . كما لو قال الخصمان : حكّمناك بيننا . أو قال لهما : أحكم بينكما ، فقبلا . وقد يظهر دلالةً ... فلو اصطلح الخصمان على رجل بينهما ، ولم يعلماه بذلك ، ولكنّهما اختصما إليه ، فحكم بينهما ، جاز .
وإن لم يقبل الحكم ، لم يجز حكمه إلاّ بتجديد التّحكيم .
وللخصمين أن يقيّدا التّحكيم بشرط ... فلو حكّماه على أن يحكم بينهما في يومه ، أو في مجلسه وجب ذلك . ولو حكّماه على أن يستفتي فلاناً ، ثمّ يقضي بينهما بما قال جاز .
ولو حكّما رجلين ، فحكم أحدهما ، لم يجز ، ولا بدّ من اتّفاقهما على المحكوم به .
فلو اختلفا لم يجز . وكذلك لو اتّفقا على تحكيم رجل معيّن . فليس له أن يفوّض غيره بالتّحكيم . لأنّ الخصمين لم يرضيا بتحكيم غيره .
ولو فوّض ، وحكم الثّاني بغير رضاهما ، فأجاز الأوّل حكمه ، لم يجز لأنّ الإذن منه في الابتداء لا يصحّ ، فكذا في الانتهاء ، ولا بدّ من إجازة الخصمين بعد الحكم . وقيل : ينبغي أن يجوز ، كالوكيل الأوّل إذا أجاز بيع الوكيل الثّاني .
إلاّ أنّ تعليق التّحكيم على شرط ، كما لو قالا لعبد : إذا أعتقت فاحكم بيننا ، وإضافته إلى وقت ، كما لو قالا لرجل : جعلناك حكماً غداً ، أو قالا : رأس الشّهر ... كلّ ذلك لا يجوز في قول أبي يوسف خلافاً لمحمّد . والفتوى على القول الأوّل .
25 - وليس للخصمين أن يتّفقا على محكّم ليس أهلاً للتّحكيم .
ولو حكم غير المسلم بين مسلمين ، فأجازا حكمه ، لم يجز ، كما لو حكّماه في الابتداء .
26 - ولا يحتاج الاتّفاق على التّحكيم لشهود تشهد على الخصمين بأنّهما قد حكّما الحَكَم . إلاّ أنّه ينبغي الإشهاد خوف الجحود .
ولهذا ثمرة عمليّة : إذ لو أنّ الخصمين حكّما الحكم ، فحكم بينهما ، فأنكر المحكوم عليه منهما أنّه حكّمه ، لم يقبل قول الحكم أنّ الجاحد حكّمه إلاّ ببيّنة .
27 - ويجب أن يستمرّ الاتّفاق على التّحكيم حتّى صدور الحكم ، إذ أنّ رجوع أحد الخصمين عن التّحكيم قبل صدور الحكم يلغي التّحكيم ، كما سنرى .
فلو قال الحكم لأحدهما : أقررت عندي ، أو قامت عندي بيّنة عليك بكذا ، وقد ألزمتك ، وحكمت بهذا ، فأنكر المقضيّ عليه الإقرار أو البيّنة لم يلتفت لقوله ، ومضى القضاء . لأنّ ولاية المحكّم قائمة . وهو في هذه الحالة كالقاضي . أمّا إن قال ذلك بعد أن عزله الخصم ، فإنّ قوله وحكمه لا يعتدّ به ، كالحكم الّذي يصدره القاضي بعد عزله .
28 - د - الإشهاد على الحكم ، وليس هذا شرطاً لصحّة التّحكيم ، وإنّما هو شرط لقبول قول الحكم عند الإنكار ، ولا بدّ من الإشهاد في مجلس الحكم .
طريق الحكم :
29- طريق كل شيء ما يوصل إليه ، حكماً كان أو غيره . وعليه فإن طريق الحكم :مايثبت به الحق موضوع النزاع والخصومة . وهذا لا يكون إلا بالنية ، أو الإقرار ، أو النكول عن حلف اليمين . يستوي في هذا حكم الحكم ، وحكم القاضي .
فإن قام الحكم على ذلك كان حجة موافقة للشرع . وإلا كان باطلاً .
ويبدو أن الحكَم لا يقضي بعلمه . وأما كتاب المحكَّم إلى القاضي ، وكتاب القاضي إليه فغير جائز ، إلا برضى الخصمين ، خلافاً للحنابلة الذين ذهبوا إلى جوازه ونفاذه .
الرّجوع عن التّحكيم :
30 - حقّ الرّجوع عن التّحكيم فرع من صفة التّحكيم الجوازيّة ... ولكنّ هذا الحقّ ليس مطلقاً .
31 - فقد ذهب الحنفيّة ، وسحنون من المالكيّة إلى أنّ لكلّ خصم أن يرجع عن التّحكيم قبل صدور الحكم ، ولا حاجة لاتّفاق الخصمين على ذلك . فإن رجع كان في ذلك عزل للمحكَّم . أمّا بعد صدور الحكم ، فليس لأحد حقّ الرّجوع عن التّحكيم ، ولا عزل المحكّم ، فإن رجع بعد الحكم لم يبطل الحكم ، لأنّه صدر عن ولاية شرعيّة للمحكّم ، كالقاضي الّذي يصدر حكمه ، ثمّ يعزله السّلطان .
وعلى هذا : فإن اتّفق رجلان على حكم يحكم بينهما في عدد من الدّعاوى ، فقضى على أحدهما في بعضهما ، ثمّ رجع المحكوم عليه عن تحكيم هذا الحكم ، فإنّ القضاء الأوّل نافذ ، ليس للحكم أن يحكم فيما بقي ، فإن حكم لا ينفذ .
وإن قال الحكم لأحد الخصمين : قامت عندي الحجّة بصحّة ما ادّعى عليك من الحقّ ، فعزله هذا الخصم ، ثمّ حكم عليه الحكم بعد ذلك لا ينفذ حكمه عليه .
32 - وعند المالكيّة : لا يشترط دوام رضا الخصمين إلى حين صدور الحكم . بل لو أقاما البيّنة عند الحكم ، ثمّ بدا لأحدهما أن يرجع عن التّحكيم قبل الحكم . تعيّن على الحكم أن يقضي ، وجاز حكمه . وقال أصبغ : لكلّ واحد منهما الرّجوع ما لم تبدأ الخصومة أمام الحكم ، فإن بدأت تعيّن عليهما المضيّ فيها حتّى النّهاية .
وقال ابن الماجشون : ليس لأحدهما الرّجوع ولو قبل بدء الخصومة .
33 - وعند الشّافعيّة : يجوز الرّجوع قبل صدور الحكم ، ولو بعد إقامة البيّنة . وعليه المذهب . وقيل بعدم جواز ذلك . أمّا بعد الحكم فلا يشترط رضا الخصم به كحكم القاضي . وقيل : يشترط ، لأنّ رضاهما معتبر في أصل التّحكيم ، فكذا في لزوم الحكم . والأظهر الأوّل. 34 - وعند الحنابلة : لكلّ من الخصمين أن يرجع عن التّحكيم قبل الشّروع في الحكم .
أمّا بعد الشّروع فيه ، وقيل تمامه ، ففي الرّجوع قولان :
أحدهما : له الرّجوع لأنّ الحكم لم يتمّ ، أشبه قبل الشّروع .
والثّاني : ليس له ذلك ، لأنّه يؤدّي إلى أنّ كلّ واحد منهما إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه رجع فبطل مقصوده . فإن صدر الحكم نفذ .
أثر التّحكيم :
35 - يراد بأثر التّحكيم : ما يترتّب عليه من نتائج .
وهذا الأثر يتمثّل في لزوم الحكم ونفاذه ، كما يتمثّل في إمكان نقضه من قبل القضاء .
أوّلاً : لزوم الحكم ونفاذه :
36 - متى أصدر الحكم حكمه ، أصبح هذا الحكم ملزماً للخصمين المتنازعين ، وتعيّن إنفاذه دون أن يتوقّف ذلك على رضا الخصمين ، وعلى ذلك الفقهاء . وحكمه في ذلك كحكم القاضي . وليس للحكم أن يرجع عن حكمه ، فلو رجع عن حكمه ، وقضى للآخر لم يصحّ قضاؤه ، لأنّ الحكومة قد تمّت بالقضاء الأوّل ، فكان القضاء الثّاني باطلاً .
37 - ولكنّ هذا الإلزام الّذي يتّصف به حكم الحكم ينحصر في الخصمين فقط ، ولا يتعدّى إلى غيرهما ، ذلك لأنّه صدر بحقّهما عن ولاية شرعيّة نشأت من اتّفاقهما على اختيار الحَكَم للحكم فيما بينهما من نزاع وخصومة . ولا ولاية لأيّ منهما على غيره ، فلا يسري أثر حكم الحكم على غيرهما .
38 - وتطبيقاً لهذا المبدأ ، فلو حكّم الخصمان رجلاً في عيب البيع فقضى الحكم بردّه ، لم يكن للبائع حقّ بردّه على بائعه ، إلاّ أن يرضى البائع الأوّل والثّاني والمشتري بتحكيمه ، فحينئذ يردّه على البائع الأوّل . وكذلك لو أنّ رجلاً ادّعى على آخر ألف درهم ، ونازعه في ذلك ، فادّعى أنّ فلاناً الغائب قد ضمنها له عن هذا الرّجل ، فحكّما بينهما رجلاً ، والكفيل غائب . فأقام المدّعي بيّنةً على المال ، وعلى الكفالة ، فحكم الحكم بالمال وبالكفالة ، صحّ الحكم في حقّ الدّائن والمدين ولم يصحّ بالكفالة ، ولا على الكفيل .
وإن حضر الكفيل ، والمكفول غائب ، فتراضى الطّالب والكفيل ، فحكم المحكّم بذلك كان الحكم جائزاً ، ونافذاً بحقّ الكفيل دون المكفول .
ولم يشذّ عن هذا المبدأ غير مسألة واحدة نصّ عليها الحنفيّة ، هي : ما لو حكّم أحد الشّريكين وغريمه رجلاً فحكم بينهما ، وألزم الشّريك شيئاً من المال المشترك نفذ هذا الحكم ، وتعدّى إلى الشّريك الغائب ، لأنّ حكمه بمنزلة الصّلح في حقّ الشّريك الغائب . والصّلح من صنيع التّجّار . فكان كلّ واحد من الشّريكين راضياً بالصّلح ، وما في معناه ...
وبعبارة أخرى فإنّ العرف بين التّجّار قد جعل التّحكيم من أحد الشّركاء كأنّه تحكيم من سائر الشّركاء . ولهذا لزم الحكم ، ونفذ في حقّهم جميعاً .
ثانياً : نقض الحكم :
39 - قد يرضى الخصمان بالحكم ، فيعملان على تنفيذه .. وقد يرى أحدهما رفعه إلى القضاء لمصلحة يراها .
أمّا الشّافعيّة ، والحنابلة ، فعندهم أنّ القاضي إذا رفع إليه حكم المحكّم لم ينقضه إلاّ بما ينقض به قضاء غيره من القضاة .
أمّا عند الحنفيّة فإذا رفع حكم المحكّم إلى القاضي نظر فيه ، فإن وجده موافقاً مذهبه أخذ به وأمضاه ، لأنّه لا جدوى من نقضه ، ثمّ إبرامه .
وفائدة هذا الإمضاء : أن لا يكون لقاض آخر يرى خلافه نقضه إذا رفع إليه ، لأنّ إمضاءه بمنزلة قضائه ابتداءً . أمّا إن وجده خلاف مذهبه أبطله ، وأوجب عدم العمل بمقتضاه ، وإن كان ممّا يختلف فيه الفقهاء . وهذا الإبطال ليس على سبيل اللّزوم ، بل هو على سبيل الجواز ، إن شاء القاضي أبطله ، وإن شاء أمضاه وأنفذه .
40 - ويجب أن تكون هذه الإجازة من القاضي بعد حكم المحكّم . وعليه فلو حكّما رجلاً ، فأجاز القاضي حكومته قبل أن يحكم ، ثمّ حكم بخلاف رأي القاضي لم يجز ، لأنّ القاضي أجاز المعدوم . وإجازة الشّيء قبل وجوده باطلة ، فصار كأنّه لم يجز .
ولكنّ السّرخسيّ قال : هذا الجواب صحيح فيما إذا لم يكن القاضي مأذوناً في استخلاف غيره . وأمّا إذا كان مأذوناً في الاستخلاف فيجب أن تجوز إجازته . وتجعل إجازة القاضي بمنزلة استخلافه إيّاه في الحكم بينهما ، فلا يكون له أن يبطل حكمه بعد ذلك .
وإن حكّما رجلاً ، فحكم بينهما ، ثمّ حكّما آخر ، فقضى بحكم آخر ، ثمّ رفع الحكمان إلى القاضي ، فإنّه ينفذ حكم الموافق لرأيه . هذا كلّه عند الحنفيّة . أمّا المالكيّة فعندهم أنّ القاضي لا ينقض حكم المحكّم إلاّ إذا كان جوراً بيّناً . سواء أكان موافقاً لرأي القاضي ، أم مخالفاً له . وقالوا بأنّ هذا لم يختلف فيه أهل العلم ، وبه قال ابن أبي ليلى .
انعزال الحَكَم :
41 - ينعزل الحكم بكلّ سبب من الأسباب الأتيّة :
أ - العزل : لكلّ من الطّرفين عزل المحكّم قبل الحكم ، إلاّ إذا كان المحكّم قد وافق عليه القاضي ، فليس لهما عزله ، لأنّ القاضي استخلفه .
ب - انتهاء الوقت المحدّد للتّحكيم قبل صدور الحكم .
ج - خروجه عن أهليّة التّحكيم .
د - صدور الحكم .
تحلّل *
التّعريف :
1 - التّحلّل ثلاثيّة من حلّ . وأصل معنى ( حلّ ) في اللّغة : فتح الشّيء وفكّ العقدة ، ويكون بفعل الإنسان ما يخرج به من الحرمة ، ويختلف باختلاف موضعه ، فإن كان من إحرام فهو الخروج منه بالطّريق الموضوع له شرعاً ، وإن كان من يمين فيخرج منها بالبرّ أو الكفّارة بشرطها ، وإن كان التّحلّل من الصّلاة فيكون بالسّلام ، وتفصيله في باب الصّلاة .
ولا يخرج استعماله شرعاً عن ذلك .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
التّحلّل من الإحرام :
والمراد به : الخروج من الإحرام . وحلّ ما كان محظوراً على المحرم قسمان :
أ - التّحلّل الأصغر ، ويسمّى أيضاً : التّحلّل الأوّل :
2 - ويكون عند الشّافعيّة والحنابلة بفعل أمرين من ثلاثة : رمي جمرة العقبة ، والنّحر ، والحلق أو التّقصير . ويباح بهذا التّحلّل لبس الثّياب وكلّ شيء ما عدا النّساء ( بالإجماع ) والطّيب عند البعض ، والصّيد عند المالكيّة .
أمّا الحنفيّة فيحصل التّحلّل الأصغر عندهم برمي الجمرة والحلق والتّقصير ، فإذا فعل ذلك حلّ له كلّ شيء إلاّ النّساء . وما ورد في بعض كتب الحنفيّة من استثناء الطّيب والصّيد أيضاً ضعيف . هذا ، ويجب الذّبح بين الرّمي والحلق للمتمتّع والقارن لمن قدر على ذلك ، لأنّ التّرتيب واجب بين هذه النّسك عند الحنفيّة .
والأصل في هذا الخلاف ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : « كنت أطيّب النّبيَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم ، ويومَ النّحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك » . وقد جاء في بعض الأحاديث أنّه إذا رمى جمرة العقبة فقد حلّ له كلّ شيء إلاّ النّساء والطّيب ، لما أخرجه مالك في الموطّأ عن عمر رضي الله عنه أنّه خطب النّاس بعرفة ، وعلّمهم أمر الحجّ ، وقال لهم فيما قال : « إذا جئتم منًى فمن رمى الجمرة فقد حلّ له ما حرم على الحاجّ إلاّ النّساء والطّيب » .
وأمّا ما ذهب إليه مالك من تحريم الصّيد أيضاً : فإنّه أخذ بعموم قوله تعالى : { لا تَقْتُلوا الصّيدَ وأنتم حُرُمٌ } ووجه الاستدلال بالآية أنّ الحاجّ يعتبر محرماً ما لم يطف طواف الإفاضة . وأمّا دليل إباحة لبس الثّياب وكلّ شيء بعد رمي جمرة العقبة ، فهو حديث : « إذا رميتم الجمرة فقد حلّ كلّ شيء إلاّ النّساء » ، وحديث عائشة السّابق .
ب - التّحلّل الأكبر - ويسمّى أيضاً التّحلّل الثّاني :
3 - هذا التّحلّل هو الّذي يباح به جميع محظورات الإحرام دون استثناء ، ويبدأ الوقت الّذي تصحّ أفعال التّحلّل الأكبر فيه عند الحنفيّة والمالكيّة من طلوع فجر يوم النّحر ، ويحصل عندهما بطواف الإفاضة - بشرط الحلق أو التّقصير - هنا باتّفاقهما ، فلو أفاض ولم يحلق لم يتحلّل حتّى يحلق عند الحنفيّة والمالكيّة .
وزاد المالكيّة أن يكون الطّواف مسبوقاً بالسّعي ، وإلاّ لا يحلّ به حتّى يسعى ، لأنّ السّعي ركن عند المالكيّة ، وقال الحنفيّة : لا مدخل للسّعي في التّحلّل ، لأنّه واجب مستقلّ ، ونهاية وقت التّحلّل الأكبر بحسب ما يتحلّل به عندهما ، وهو الطّواف ، وهو لا يفوت .
وعند الشّافعيّة والحنابلة يبدأ وقت التّحلّل الأكبر من منتصف ليلة النّحر ، ويحصل التّحلّل الأكبر عندهما باستكمال أفعال التّحلّل الّتي ذكرت ، وهي : ثلاثة على القول بأنّ الحلق نسك ، واثنان على القول الآخر غير المشهور أنّه ليس بنسك ، ونهاية التّحلّل الأكبر عند الشّافعيّة والحنابلة بحسب ما يتحلّل به عندهما إن توقّف التّحلّل الأكبر على الطّواف أو الحلق أو السّعي ، أمّا الرّمي فإنّه مؤقّت بغروب شمس آخر أيّام التّشريق ، فإذا توقّف عليه التّحلّل ولم يرم حتّى آخر أيّام التّشريق فات وقت الرّمي بالكلّيّة ، فيحلّ عند الحنابلة بمجرّد فوات الوقت ، وإن بقي عليه الفداء مقابل ذلك ، وهذا قول عند الشّافعيّة ، لكنّ الأصحّ عندهم أنّه بفوات وقت الرّمي ينتقل التّحلّل إلى كفّارته ، فلا يحلّ حتّى يؤدّيها .
وحصول التّحلّل الأكبر باستكمال الأفعال الثّلاثة : رمي جمرة العقبة ، والحلق ، وطواف الإفاضة المسبوق بالسّعي محلّ اتّفاق الفقهاء ، وبه تباح جميع محظورات الإحرام بالإجماع.
التّحلّل من إحرام العمرة :
4 - اتّفق جمهور الفقهاء على أنّ للعمرة بعد أدائها تحلّلاً واحداً تباح به للمحرم جميع محظورات الإحرام ، ويحصل هذا التّحلّل بالحلق أو التّقصير باتّفاق المذاهب ، والتّفصيل في مصطلح ( عمرة ) .
التّحلّل من اليمين :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّ اليمين المنعقدة المؤكّدة للحثّ أو المنع تنحلّ بفعل ما يوجب الحنث ، وهو المخالفة لما انعقدت عليه اليمين ، وذلك إمّا بفعل ما حلف على ألاّ يفعله ، وإمّا بترك ما حلف على فعله ، إذا علم أنّه قد تراخى عن فعل ما حلف على فعله إلى وقت ليس يمكنه فيه فعله ، وذلك في اليمين بالتّرك المطلق ، مثل أن يحلف : لتأكلن هذا الرّغيف ، فيأكله غيره . أو إلى وقت هو غير الوقت الّذي اشترط وجود الفعل فيه ، وذلك في الفعل المشترط فعله في زمان محدّد ، مثل أن يقول : واللّه لأفعلن اليوم كذا ، فإنّه إذا انقضى النّهار ولم يفعل حنث ضرورةً ، واتّفقوا على أنّ الكفّارة في الأيمان هي الأربعة الأنواع الواردة في قوله تعالى : { لا يؤاخذُكم اللّهُ باللَّغوِ في أَيْمانِكم ولكنْ يُؤاخِذكم بما عَقَّدْتُم الأيمانَ فكفَّارتُه إطعامُ عَشَرَةِ مساكينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أهليكم أو كِسْوَتُهم أو تحريرُ رَقَبَةٍ فمنْ لم يَجِدْ فَصِيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ ذلك كفَّارةُ أيمانِكم إذا حَلَفْتُم } .
وجمهور الفقهاء على أنّ الحالف إذا حنث مخيّر بين الثّلاثة الأول أي : الإطعام أو الكسوة أو العتق ، وأنّه لا يجوز له الصّيام إلاّ إذا عجز عن الثّلاثة ، لقوله تعالى : { فمَنْ لمْ يَجِدْ فصيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ } . والتّفصيل موطنه مصطلح ( أيمان ) .
والتّحلّل في اليمين : الاستثناء منها بقوله : إن شاء اللّه ، واختلف العلماء في الاستثناء أيشترط اتّصاله أو لا يشترط ؟ والتّفصيل موطنه مصطلح ( أيمان ، طلاق ) .
تحليق *
التّعريف :
1 - من معاني التّحليق في اللّغة : الاستدارة وجعل الشّيء كالحلقة .
ومن معانيه أيضاً : إزالة الشّعر ، يقال : حلق رأسه يحلقه حلقاً ، وتحلاقاً : أزال شعره ، كحلّقه واحتلقه . ومنه قوله تعالى : { محلِّقينَ رءوسَكم } ، وفي الحديث : « اللّهمّ اغفر للمحلِّقين » والتّحليق خلاف التّقصير ، وهو : الأخذ من الشّعر بالمقصّ . وخلاف النّتف ، وهو : نزع الشّعر من أصوله . ويرد في اصطلاح الفقهاء بالمعنيين المذكورين .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
التّحليق بمعنى الاستدارة في التّشهّد :
2 - يرد التّحليق بمعنى : الاستدارة في التّشهّد في الصّلاة ، سواء التّشهّد الأوّل أو الأخير . وصفته : أن يقبض المصلّي الخنصر والبنصر من يده اليمنى ، ويحلق بإبهامه مع الوسطى ويشير بالسّبّابة - وهي الأصبع الّتي تلي الإبهام - عند لفظ الجلالة رافعاً لها وهذا عند الحنابلة ، وهو القول الثّاني عند الشّافعيّة ، وقول للحنفيّة ، وقالوا : إنّه المفتى به . والتّحليق على الوجه المذكور سنّة .
وذكر عند المالكيّة : أنّ من مندوبات الصّلاة أن يعقد المصلّي في تشهّده من أصابع يده اليمنى الخنصر والبنصر والوسطى وهي موضوعة على فخذها الأيمن ، وأطرافها على اللّحمة الّتي تحت الإبهام على صفة تسعة ، وأن يمدّ السّبّابة والإبهام ، والإبهام بجانبها على الوسطى ممدودة على صورة العشرين ، فتكون الهيئة صفة التّسعة والعشرين ، وهذا هو قول الأكثر ، وندب أن يحرّك السّبّابة يميناً وشمالاً تحرّكاً وسطاً في جميع التّشهّد . ولم يسمّوا ذلك تحليقاً . والتّفصيل موطنه مصطلح : ( تشهّد ) .
التّحليق بمعنى إزالة الشّعر :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّ الحلق من المحظورات المتعلّقة ببدن الحرم ، لقوله تعالى : { ولا تَحْلِقُوا رءوسَكم حتّى يَبْلُغَ الهديُ مَحِلَّه فَمَنْ كان منكم مريضاً أو به أَذَى منْ رأسِه فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ } فيحظر على المحرم حلق رأسه أو رأس محرم غيره ، وقليل الشّعر كذلك يحظر حلقه أو قطعه ، وإن حلق المحرم شعره أثناء إحرامه فعليه الفدية للنّصّ . والحلق للتّحلّل من الإحرام أفضل من التّقصير .
روي عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال :
« اللّهمّ ارحم المحلّقين ، قالوا : والمقصّرين يا رسول اللّه ، قال : اللّهمّ ارحم المحلِّقين ، قالوا : والمقصِّرين يا رسول اللّه ، قال : والمقصّرين » .
وفي دعاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للمحلّقين ثلاثاً ، وللمقصّرين مرّةً دليل على أنّ الحلق في الحجّ والعمرة أفضل من التّقصير ، هذا إذا كان محرماً بالعمرة وحدها من غير إرادة تمتّع ، فإن كان متمتّعاً ، وأراد التّحلّل من عمرته ، فالأفضل له التّقصير ، ليتوفّر الحلق للتّحلّل من الحجّ .
وأجمع أهل العلم على أنّ التّقصير يجزئ عن الرّجال ، وأنّ النّساء سنّتهنّ التّقصير ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « ليس على النّساء حَلْق ، إنّما عليهنّ التّقصير » ، ولا خلاف في أنّ حلق الرّأس في الحجّ نسك . والحلق - أو التّقصير - في ذاته واجب إذا كان على الرّأس شعر ، أمّا إذا لم يكن على رأسه شعر - كالأقرع ومن برأسه قروح - فإنّه يجب إمرار الموسى على رأسه عند الحنفيّة والمالكيّة ، واستحبّ ذلك الشّافعيّة والحنابلة . وبعد فراغ الحلق يقول : اللّه أكبر ثلاث مرّات ، اللّهمّ هذه ناصيتي بيدك ، فاجعل لي كلّ شعرة نوراً يوم القيامة ، واغفر لي ذنبي يا واسع المغفرة .
والتّفصيل موطنه مصطلح : ( إحرام ) ( حلق ) .
تحليل *
التّعريف :
1 - التّحليل لغةً ضدّ التّحريم ، وأصل الفعل ( حلّ ) ويتعدّى بالهمزة والتّضعيف ، فيقال : أحللته . ومنه { أحلَّ اللّهُ البيعَ } أي أباحه وخيّر في الفعل والتّرك ، واسم الفاعل : محلّ ومحلّل . والتّحليل في الشّرع هو : حكم اللّه تعالى بأنّ فعلاً ما هو حلال . قال ابن وهب : قال مالك : لم يكن من فتيا النّاس أن يقولوا : هذا حلال وهذا حرام ، ولكن يقولون : إيّاكم كذا وكذا ، ولم أكن لأصنع هذا . قال القرطبيّ : ومعنى هذا : أنّ التّحليل والتّحريم إنّما هو للّه عزّ وجلّ ، وليس لأحد أن يقول أو يصرّح بهذا في عين من الأعيان ، إلاّ أن يكون البارئ تعالى يخبر بذلك عنه . ثمّ قال : وقد يقوى الدّليل على التّحريم عند المجتهد ، فلا بأس عند ذلك أن يقول ذلك ، كما يقول : إنّ الرّبا حرام في غير الأعيان السّتّة .
وقد يطلق التّحليل ويراد منه العفو عن مظلمة ، ويطلق التّحليل ويراد منه : تحليل المطلّقة ثلاثاً لمطلّقها .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإباحة :
2 - الإباحة في اللّغة : الإحلال ، وفي الاصطلاح الأصوليّ : هي خطاب اللّه تعالى لمتعلّق بأفعال المكلّفين تخييراً من غير بدل . وعند الفقهاء : الإذن بإتيان الفعل حسب مشيئة الفاعل في حدود الإذن . وقد تطلق الإباحة على ما قابل الحظر ، شمل الفرض والإيجاب والنّدب . والإباحة فيها تخيير ، أمّا الحلّ فإنّه أعمّ من ذلك شرعاً . ر : ( إباحة ) .
تحليل الحرام :
3 - المراد به : جعل الحرام حلالاً ، كتحليل الرّبا ، فذلك افتراء على اللّه وكذب توعّد اللّه عليه بقوله : { ولا تَقُولوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكم الكَذِبَ هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لِتَفْتَرُوا على اللّهِ الكَذِبَ ، إنَّ الّذين يَفْتَرونَ على اللّهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحون } .
التّحليل من الدّيون وغيرها :
4 - التّحليل من الدّين : إخراج الدّين منه . وأمّا التّحلّل فهو : طلب الخروج من المظالم ، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « مَنْ كانتْ له مَظْلَمَةٌ لأخيه من عرضه أو شيء فَلْيَتَحَلَّلْه منه اليومَ قبلَ أنْ لا يكونَ دينارٌ ولا درهمٌ » . والتّحليل قد يكون بمقابل وبغيره :
فالّذي بمقابل : كالزّوجة تريد أن تختلع من زوجها ، فتعطيه مالاً ليخلعها . والأصل في ذلك قوله تعالى : { ولا يَحِلُّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتُموهنّ شيئاً إلاّ أنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حدودَ اللّهِ فإِنْ خِفتم ألاّ يقيما حدودَ اللّهِ فلا جُنَاحَ عليهما فيما افتدتْ به } .
وقد يكون التّحليل بلا مقابل ، وأصل ذلك قوله تعالى : { وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهنَّ نِحْلَةً فإِنْ طِبْنَ لكم عن شيء منه نَفْسَاً فَكُلُوه هنيئاً مَريئاً } .
فقد دلّت الآية على جواز هبة المرأة للمهر ، وهو دين .
التّحليل من التّبعات والحقوق غير الماليّة للحيّ والميّت :
5 - من أخطأ في حقّ أخيه المسلم ، فإنّه يجب عليه أن يتوب إلى اللّه عن ذنبه .
وقال العلماء : إنّ للتّوبة شروطاً منها : أن يَبْرأ التّائبُ من حقّ المعتدى عليه ، فإن كان مالاً ردّه إليه ، إن كان حدّ قذف ونحوه مكّنه منه ، أو طلب عفوه ، وإن كان غيبةً استحلّه منها . ( ر : توبة ) .
نكاح المحلّل :
6 - ذهب الفقهاء إلى أنّ من طلّق زوجته طلقةً رجعيّةً أو طلقتين رجعيّتين جاز له إرجاعها في العدّة . وإذا كان الطّلاق بائناً بينونةً صغرًى ، فحكم ما دون الثّلاث من الواحدة البائنة والثّنتين البائنتين هو نقصان عدد الطّلاق وزوال ملك الاستمتاع ، حتّى لا يجوز وطؤها إلاّ بنكاح جديد ، ويجوز نكاحها من غير أن تتزوّج بزوج آخر ، لأنّ ما دون الثّلاث - وإن كان بائناً - فإنّه يوجب زوال ملك الاستمتاع ، لا زوال حلّ المحلّيّة .
أمّا إذا طلّق زوجته ثلاثاً ، فإنّ الحكم الأصليّ للطّلقات الثّلاث هو زوال ملك الاستمتاع وزوال حلّ المحلّيّة أيضاً ، حتّى لا يجوز له نكاحها قبل التّزوّج بزوج آخر ، لقوله تعالى : { فإِنْ طَلَّقَها فلا تَحِلُّ له مِنْ بَعْدُ حتَّى تَنْكِحَ زوجاً غيرَه } . بعد قوله تعالى : { الطَّلاقُ مرَّتان } . وإنّما تنتهي الحرمة وتحلّ للزّوج الأوّل بشروط :
أ - النّكاح :
7 - أوّل شروط التّحليل : النّكاح ، لقوله تعالى : { حتّى تَنْكِحَ زَوْجَاً غيرَه } فقد نفى حلّ المرأة لمطلّقها ثلاثاً ، وحدّ النّفي إلى غاية التّزوّج بزوج آخر . والحكم المحدود إلى غاية لا ينتهي قبل وجود الغاية ، فلا تنتهي الحرمة قبل التّزوّج ، فلا تحلّ للزّوج الأوّل قبله ضرورةً . وعلى هذا يخرج ما إذا وطئها إنسان بالزّنى أو بشبهة أنّها لا تحلّ لزوجها لعدم النّكاح .
ب - صحّة النّكاح :
8 - يشترط في النّكاح الثّاني لكي تحلّ المرأة للأوّل : أن يكون صحيحاً ، ولا تحلّ للأوّل إذا كان النّكاح فاسداً ، حتّى لو دخل بها ، لأنّ النّكاح الفاسد ليس بنكاح حقيقةً ، ومطلق النّكاح ينصرف إلى ما هو نكاح حقيقةً . ولو كان النّكاح الثّاني مختلفاً في فساده ، ودخل بها ، لا تحلّ للأوّل عند من يقول بفساده لا قلنا .
ج - الوطء في الفرج :
9 - ذهب الجمهور إلى أنّه يشترط مع صحّة الزّواج : أن يطأها الزّوج الثّاني في الفرج ، فلو وطئها دون الفرج ، أو في الدّبر لم تحلّ للأوّل ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم علّق الحلّ على ذوق العسيلة منهما . فقال لامرأة رفاعة القرظيّ : « أتريدين أن تَرجعي إلى رفاعة ؟ لا ، حتّى تَذُوقي عُسَيْلَتَه وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك » .
ولا يحصل هذا إلاّ بالوطء في الفرج . وقال سعيد بن المسيّب : تحلّ بنفس العقد ، لحمله النّكاح في الآية على العقد دون الجماع ، وعامّة العلماء حملوا الآية على الجماع .
وأدنى الوطء تغييب الحشفة في الفرج ، لأنّ أحكام الوطء تتعلّق به ، وذلك بشرط الانتشار لأنّ الحكم يتعلّق بذوق العسيلة ، ولا تعقل من غير انتشار .
ولم يشترط الإنزال من الفقهاء إلاّ الحسن البصريّ ، فإنّه قال : لا تحلّ إلاّ بوطء وإنزال . واختلفوا فيما إذا وقع الوطء في وقت غير مباح كحيض أو نفاس ، هل يحلّ المرأة أم لا ؟ ذهب أبو حنيفة والشّافعيّ والثّوريّ والأوزاعيّ إلى أنّ الوطء يحلّ المرأة ، وإن وقع في وقت غير مباح كحيض أو نفاس ، سواء أكان الواطئ بالغاً عاقلاً أم صبيّاً مراهقاً أم مجنوناً ، لأنّ وطء الصّبيّ والمجنون يتعلّق به أحكام النّكاح ، من المهر والتّحريم ، كوطء البالغ العاقل . والحنابلة كالجمهور في أنّ وطء المجنون يحلّ المرأة كالعاقل . وكذلك الصّغيرة الّتي يجامع مثلها ، إذا طلّقها زوجها ثلاثاً ، ودخل بها الزّوج الثّاني ، حلّت للأوّل ، لأنّ وطأها يتعلّق به أحكام الوطء من المهر والتّحريم ، كوطء البالغة .
وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه يشترط أن يكون الوطء حلالاً ( مباحاً ) ، لأنّ الوطء غير المباح حرام لحقّ اللّه تعالى ، فلم يحصل به الإحلال كوطء المرتدّة . وبناءً على هذا : فلا تحلّ المرأة لزوجها الأوّل إذا جامعها زوجها الثّاني في صوم أو حجّ أو حيض أو اعتكاف . كما اشترط المالكيّة أن يكون الواطئ بالغاً ، واشترط الحنابلة أن يكون له اثنتا عشرة سنةً ، لأنّ من دون البلوغ أو من دون الثّانية عشرة لا يمكنه المجامعة .
وأمّا الذّمّيّة ، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ وطء زوجها الذّمّيّ يحلّها للأوّل ، لأنّ النّصرانيّ زوج . ولا يحلّها عند مالك وربيعة وابن القاسم .
الزّواج بشرط التّحليل :
10 - من تزوّج مطلّقةً ثلاثاً بشرط صريح في العقد على أن يحلّها لزوجها الأوّل فهو حرام عند الجمهور ، مكروه تحريماً عند الحنفيّة ، لحديث ابن مسعود : « لَعَنَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلَّل له » . ولقوله صلى الله عليه وسلم : « ألا أُخبركم بالتَّيْس المستعار ؟ قالوا : بلى يا رسول اللّه . قال : هو المحلِّل . لعن اللّهُ والملِّل المحلَّل له » .
والنّهي يدلّ على فساد المنهيّ عنه .
وقد صرّح الجمهور ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف من الحنفيّة ) بفساد هذا النّكاح للحديثين السّابقين ، ولأنّ النّكاح بشرط الإحلال في معنى النّكاح المؤقّت ، وشرط التّأقيت في النّكاح يفسده ، وما دام النّكاح فاسداً فلا يقع به التّحليل ، ويؤيّد هذا قول عمر رضي الله عنه :" واللّه لا أوتى بمحلّل ومحلّل له إلاّ رجمتهما ".
وذهب أبو حنيفة وزفر إلى أنّ النّكاح صحيح ، وتحلّ للأوّل بعد أن يطلّقها الثّاني وتنتهي عدّتها . ويكره للثّاني والأوّل ، لأنّ عمومات النّكاح تقتضي الجواز من غير فصل بين ما إذا شرط فيه الإحلال أو لا . فكان النّكاح بهذا الشّرط نكاحاً صحيحاً ، فيدخل تحت قوله تعالى : { حتّى تنكح زوجاً غيرَه } فتنتهي الحرمة عند وجوده ، إلاّ أنّه كره النّكاح لهذا الشّرط لغيره ، وهو أنّه شرط ينافي المقصود من النّكاح وهو السّكن والتّوالد والتّعفّف ، لأنّ ذلك يقف على البقاء والدّوام على النّكاح . وقال محمّد : النّكاح الثّاني صحيح ، ولا تحلّ للأوّل ، لأنّ النّكاح عقد مؤبّد ، فكان شرط الإحلال استعجال ما أخّره اللّه تعالى لغرض الحلّ ، فيبطل الشّرط ويبقى النّكاح صحيحاً ، لكن لا يحصل به الغرض .
الزّواج بقصد التّحليل :
11 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ الزّواج بقصد التّحليل - من غير شرط في العقد - صحيح مع الكراهة عند الشّافعيّة ، وتحلّ المرأة بوطء الزّوج الثّاني للأوّل ، لأنّ النّيّة بمجرّدها في المعاملات غير معتبرة ، فوقع الزّواج صحيحاً لتوافر شرائط الصّحّة في العقد ، وتحلّ للأوّل ، كما لو نويا التّأقيت وسائر المعاني الفاسدة .
وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ الزّواج بقصد التّحليل - ولو بدون شرط في العقد - باطل ، وذلك بأن تواطأ العاقدان على شيء ممّا ذكر قبل العقد ، ثمّ عقد الزّواج بذلك القصد ، ولا تحلّ المرأة به لزوجها الأوّل ، عملاً بقاعدة سدّ الذّرائع . ولحديث : « لعن اللّه المحلِّل والمحلَّل له » .
هدم طلقات الأوّل بالزّواج الثّاني :
12 - اتّفق الفقهاء على أنّ الزّوج الثّاني يهدم طلاق الزّوج الأوّل إذا كان ثلاثاً ، واختلفوا في أنّ الزّوج الثّاني هل يهدم ما دون الثّلاث ؟ وذلك كما إذا تزوّجت قبل الطّلقة الثّالثة ، ثمّ طلقت منه ، ثمّ رجعت إلى زوجها الأوّل . فذهب الجمهور ( مالك والشّافعيّ وأحمد ومحمّد بن الحسن ) إلى أنّه لا يهدم ، لأنّ هذا شيء يخصّ الثّالثة بالشّرع ، فلا يهدم ما دونها . وذهب أبو حنيفة إلى أنّه يهدم ما دون الثّلاث ، لأنّه لمّا هدم الثّلاث فهو أحرى أن يهدم ما دونها ، وبه قال ابن عمر وابن عبّاس وعطاء والنّخعيّ .
تحلية *
التّعريف :
1 - التّحلية لغةً : إلباس المرأة الحليّ ، أو اتّخاذه لها لتلبسه . ويقال : تحلّت المرأة : لبست الحليّ أو اتّخذته . وحلّيتها بالتّشديد : ألبستها الحليّ ، أو اتّخذته لها لتلبسه . والتّحلية لا تخرج في معناها الشّرعيّ عن هذا التّعريف .
الألفاظ ذات الصّلة :
تزيين :
2 - التّزيين من الزّينة ، والزّينة اسم جامع لكلّ شيء يتزيّن به . فالتّزيّن أعمّ من التّحلية ، لتناوله ما ليس حليةً كالاكتحال وتسريح الشّعر والاختضاب .
الحكم التّكليفيّ :
3 - يختلف حكم التّحلية بحسب الأحوال .
فقد تكون التّحلية واجبةً كستر العورة ، وتزيّن الزّوجة لزوجها متى طلب منها ذلك .
وقد تكون مستحبّةً كتحلّي الرّجل للجمعة والعيدين ومجامع النّاس ولقاء الوفود وخضاب الشّيب للرّجل والمرأة بصفرة أو حمرة كما هو عند الحنفيّة .
وقد تكون مكروهةً كلبس المعصفر والمزعفر للرّجال كما هو عند الحنفيّة ، وخضاب الرّجل يديه ورجليه للتّشبّه بالنّساء عندهم أيضاً .
وقد تكون حراماً كتحلّي الرّجال بحلية النّساء ، وتحلّي النّساء بحلية الرّجال ، وكتحلّي الرّجال بالذّهب .
الإسراف في التّحلية :
4 - التّحلية المباحة أو المستحبّة إذا أسرف فيها تصبح محظورةً ، وقد تصل إلى مرتبة التّحريم . والإسراف : هو مجاوزة حدّ الاستواء ، فتارةً يكون بمجاوزة الحلال إلى الحرام ، وتارةً يكون بمجاوزة الحدّ في الإنفاق ، فيكون ممّن قال اللّه تعالى فيهم { إنَّ المبذِّرِين كانوا إِخْوانَ الشَّياطينِ } والإسراف وضدّه من الإقتار مذمومان ، والاستواء هو التّوسّط قال اللّه تعالى : { والّذين إذا أَنفقوا لم يُسْرفوا ولم يَقْتُروا وكان بين ذلك قَوَاماً } .
تحلية المحدَّة :
5 - المحدّة من النّساء هي : المرأة الّتي تترك الزّينة والحليّ والطّيب بعد وفاة زوجها للعدّة ، والحداد تركها ذلك . وإحدادها في اصطلاح الفقهاء : امتناعها عن الزّينة وما في معناها مدّةً مخصوصةً في أحوال مخصوصة حزناً على فراق زوجها ، سواء أكان بالموت - وهو بالإجماع - أم بالطّلاق البائن ، وهو مذهب الحنفيّة على خلاف .
6- وقد أجمع الفقهاء على أنّه يحرم على المحدّة أن تستعمل الذّهب بكلّ صوره ، فيلزمها نزعه حين تعلم بموت زوجها ، لا فرق في ذلك بين الأساور والدّمالج والخواتم ، ومثله الحليّ من الجواهر ، ويلحق به ما يتّخذ للحلية من غير الذّهب والفضّة كالعاج وغيره . وجوّز بعض الفقهاء لبس الحليّ من الفضّة ، ولكنّه قول مردود ، لعموم النّهي عن لبس الحليّ على المحدّة في قوله صلى الله عليه وسلم : « ولا الحليّ » ولأنّ الزّينة تحصل بالفضّة ، فحرم عليها لبسها والتّحلّي بها كالذّهب . وقصر الغزاليّ الإباحة على لبس الخاتم من الفضّة ، لأنّه ليس ممّا تختصّ النّساء بحلّه ، ويحرم عليها أن تتحلّى لتتعرّض للخطاب بأيّ وسيلة من الوسائل تلميحاً أو تصريحاً لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه النّسائيّ وأبو داود : « ولا تلبس المعصفر من الثّياب ولا الحليّ » .
التّحلّي في الإحرام :
7 - وهو إمّا أن يكون ممّن يريده بحجّ أو عمرة أو ممّن أحرم بهما فعلاً .
وتحلّي المرأة المحرمة بالذّهب وغيره من الحليّ مباح ، سواء أكان سواراً أم غيره ، لقول ابن عمر رضي الله عنهما « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم النّساء في إحرامهنّ عن القفّازين والنّقاب ، وما مسّ الورس والزّعفران من الثّياب ، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثّياب ، من معصفر أو خزّ أو حليّ » .
قال ابن قدامة : فأمّا الخلخال وما أشبهه من الحليّ مثل السّوار والدّملوج فظاهر كلام الخرقيّ : أنّه لا يجوز لبسه . وقد قال أحمد : المحرمة والمتوفّى عنها زوجها يتركان الطّيب والزّينة ، ولهما ما سوى ذلك ، وروي عن عطاء : أنّه كان يكره للمحرمة الحرير والحليّ . وكرهه الثّوريّ وأبو ثور . وروي عن قتادة أنّه كان لا يرى بأساً أن تلبس المرأة الخاتم والقرط وهي محرمة ، وكره السّوارين والدّملجين والخلخالين .
وظاهر مذهب أحمد : الرّخصة فيه . وهو قول ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما وأصحاب الرّأي . قال أحمد في رواية حنبل : تلبس المحرمة الحليّ والمعصفر . وقال عن نافع : كان نساء ابن عمر وبناته يلبسن الحليّ والمعصفر وهنّ محرمات لا ينكر ذلك عبد اللّه . وروى أحمد في المناسك عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : تلبس المحرمة ما تلبس وهي حلال من خزّها وقزّها وحليّها .
وقد ذكرنا حديث ابن عمر أنّه سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ولْتلبس بعد ذلك ما أَحبّت من ألوانِ الثّيابِ من معصفر أو خزّ أو حليّ » قال ابن المنذر : لا يجوز المنع منه بغير حجّة ، ويحمل كلام أحمد والخرقيّ في المنع على الكراهة لما فيه من الزّينة .
ولبس خاتم الفضّة للرّجال والنّساء جائز عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ولا يجوز عند المالكيّة للرّجل وفيه الفداء ، ويجوز للمرأة .
8- ومن التّحلّي في الإحرام أن يتطيّب في بدنه . وهو وإن كان من محظورات الإحرام ، لكنّه سنّ استعداداً له عند الجمهور ، وكره المالكيّة الإحرام بمطيّب ، وندبوه بغيره . والتّطيّب في ثوب الإحرام قبل الإحرام منعه الجمهور ، وأجازه الشّافعيّة في القول المعتمد عندهم . وأمّا بعد الإحرام فإنّ التّحلية بالطّيب وما في معناه هو من محظورات الإحرام ، وأمّا لبس المرأة حليّها في الإحرام فلا بأس به ما لم يكن فيه إغراء ر : ( إحرام ) .
تحمّل *
التّعريف :
1 - التّحمّل في اللّغة مصدر تحمّل الشّيء أي : حمله ، ولا يطلق إلاّ على ما في حمله كلفة ومشقّة ، يقال : رجل حمّال يحمل الكلّ عن النّاس .
وفي الأثر : « لا تحلّ المسألة إلاّ لثلاث منها : رجل تحمّل حمالةً عن قوم » .
وفي تسمية ما قد يطلب من الشّخص الشّهادة فيه تحمّلاً ، إشارةً إلى أنّ الشّهادة من أعلى الأمانات الّتي يحتاج حملها إلى كلفة ومشقّة . وفي الاصطلاح الشّرعيّ : التّحمّل : التزام أمر وجب على الغير ابتداءً باختياره ، أو قهراً من الشّرع .
حكمه التّكليفيّ :
2 - التّحمّل يختلف حكمه باختلاف مواضعه ، فهو في الشّهادة فرض كفاية ، وهو واجب عينيّ على العاقلة في دية الخطأ وشبه العمد .
أوّلاً - تحمّل الشّهادة :
3 - اتّفق المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ تحمّل الشّهادة فرض كفاية في غير الحدود ، كالنّكاح والإقرار بأنواعه ، وذلك للحاجة إلى الشّهادة ، ولتوقّف انعقاد النّكاح عليها ، لقوله تعالى : { ولا يَأْبَ الشّهداءُ إذا ما دُعُوا } وسمّوا شهداء باعتبار ما سيئول إليه أمرهم ، فإن قام بالتّحمّل العدد المعتبر في الشّهادة سقط الحرج عن الباقين ، وإلاّ أثموا جميعاً .
هذا إذا كانوا كثيرين ، فإن لم يكن إلاّ العدد اللّازم للشّهادة تعيّن عليهم .
الامتناع عن تحمّل الشّهادة :
4 - إذا دعي المكلّف إلى تحمّل شهادة في نكاح أو دين أو غيره لزمته الإجابة . وإن كانت عنده شهادة فدعي إلى أدائها لزمه ذلك . فإن قام بالفرض في التّحمّل أو الأداء اثنان سقط الإثم عن الجميع ، وإن امتنع الكلّ أثموا ، وإنّما يأثم الممتنع إذا لم يكن عليه ضرر ، وكانت شهادته تنفع ، فإن كان عليه ضرر في التّحمّل أو الأداء ، أو كان ممّن لا تقبل شهادته ، أو يحتاج إلى التّبذّل في التّزكية ونحوها لم يلزمه ، لقول اللّه تعالى : { ولا يُضَارَّ كاتِبٌ ولا شَهيدٌ } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا ضرر ولا ضِرار » ولأنّه لا يلزمه أن يضرّ بنفسه لنفع غيره ، وإذا كان ممّن لا تقبل شهادته لم يجب عليه ، لأنّ مقصود الشّهادة لا يحصل منه ، وهل يأثم بالامتناع إذا وجد غيره ممّن يقوم مقامه ؟ فيه وجهان للحنابلة : أحدهما : يأثم ، لأنّه قد تعيّن بدعائه ، ولأنّه منهيّ عن الامتناع بقوله : { ولا يَأْبَ الشُّهداءُ إذا ما دُعُوا } .
والثّاني : لا يأثم ، لأنّ غيره يقوم مقامه ، فلم يتعيّن في حقّه ، كما لو لم يدع إليها .
أخذ الأجرة على التّحمّل :
5 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى جواز أخذ الأجرة على التّحمّل قولاً واحداً في المذهبين ، إن كان التّحمّل فرض كفاية وفيه كلفة ، فإن لم يكن فيه كلفة فليس له أخذ الأجرة عليه . وإن تعيّن عليه التّحمّل ، كأن لم يوجد غيره ، فله أخذ الأجرة إن كان في التّحمّل كلفة على الأصحّ في المذهبين .
وقد اختلفت الأقوال عند الحنابلة في أخذ الأجرة على التّحمّل ، فلا يجوز أخذ الأجرة لمن تعيّن عليه ، وهو المذهب مطلقاً ، ولا لمن لم يتعيّن عليه في أصحّ الوجهين عندهم ، والوجه الثّاني : يجوز . وقيل : يجوز أخذ الأجرة للحاجة ، وقيل : يجوز مطلقاً .
أمّا الحنفيّة : فتحمّل الشّهادة - وكذلك أداؤها - يجب على الشّاهد إن لم يوجد غيره ، لأنّ ذلك يعتبر فرض عين ، ولا أجرة للشّاهد .
تحمّل الشّهادة على الشّهادة :
6 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز الشّهادة على الشّهادة في الأموال ، وما يقصد به المال ، والأنكحة ، والفسوخ ، والطّلاق ، والرّضاع ، والولادة ، وعيوب النّساء ، وحقوق اللّه عدا الحدود كالزّكاة ، ووقف المساجد والجهات العامّة .
واختلفوا في القصاص وحدّ القذف . فذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه يجوز التّحمّل في القصاص وحدّ القذف ، لأنّه حقّ آدميّ ، وهو مبنيّ على المنازعة ، ولا يسقط بالرّجوع عن الإقرار به ، ولا يستحبّ السّتر ، فأشبه الأموال .
وعند الحنفيّة والحنابلة لا يجوز التّحمّل في القصاص وحدّ القذف ، لأنّ كلّاً منهما عقوبة بدنيّة تدرأ بالشّبهات ، وتبنى على الإسقاط ، فأشبهت الحدود .
وهناك شروط لتحمّل الشّهادة على الشّهادة تنظر في مصطلح : ( شهادة ) .
ثانياً - تحمّل العاقلة عن الجاني دية الخطأ ، وشبه العمد :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّ العاقلة تتحمّل دية الخطأ . ثمّ اختلفوا على من تجب أوّلاً . فذهب الجمهور ، وهو الأصحّ والمعتمد عند الشّافعيّة : إلى أنّ دية الخطأ تلزم الجاني ابتداءً ، ثمّ تتحمّلها عنه العاقلة . والقول الآخر للشّافعيّة : تجب ابتداءً على العاقلة .
وكذلك دية شبه العمد عند الأئمّة الثّلاثة : أبي حنيفة والشّافعيّ وأحمد . أمّا مالك فلا يثبت شبه العمد في القتل أصلاً . واستدلّوا لذلك بقضاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالدّية على العاقلة . في الحديث المتّفق عليه ، وهو : « أنّ امرأتين اقتتلتا ، فحذفت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها ، فقضى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ دية جنينها غرّة عبد أو أمة ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها » . وكان قتلها شبه عمد ، فثبوت ذلك في الخطأ أولى . أمّا جهات العاقلة وترتيبهم في التّحمّل فيرجع فيه إلى مصطلح : ( عاقلة ) .
ثالثاً - تحمّل الإمام عن المأموم :
8 - لا تجب القراءة على المأموم خلف الإمام ، ويتحمّلها عنه الإمام ، سواء أكان مسبوقاً أم غير مسبوق عند الأئمّة : أبي حنيفة ومالك وأحمد ، على خلاف بينهم في حكم قراءته خلف الإمام ، من كراهة القراءة عند الحنفيّة سرّاً وجهراً ، وعند المالكيّة جهراً ، واستحبابها عند الحنابلة .
وعند الشّافعيّة : يتحمّل الإمام عن المأموم قراءة الفاتحة إذا كان مسبوقاً ، فأدرك الإمام في الرّكوع ، أو في القيام بقدر لا يتّسع لقراءة الفاتحة ، كما يتحمّل عنه سهوه في حال اقتدائه. أمّا غير المسبوق فلا يتحمّل عنه الإمام القراءة ، وتجب عليه على تفصيل يعرف في مصطلح : ( قراءة ) . وممّا يتحمّله الإمام عن المأموم أيضاً : سجود السّهو ، وسجود التّلاوة ، والسّترة ، لأنّ سترة الإمام سترة لمن خلفه .
مواطن البحث :
9 - يذكر التّحمّل عند الفقهاء في الشّهادات والدّية ، وتحمّل الإمام خطأ المأمومين ، وتحمّل الحديث .
تحميد *
التّعريف :
1 - التّحميد في اللّغة : كثرة الثّناء بالمحامد الحسنة ، وهو أبلغ من الحمد . والتّحميد في الإطلاق الشّرعيّ يراد به كثرة الثّناء على اللّه تعالى ، لأنّه هو مستحقّ الحمد على الحقيقة . والأحسن التّحميد بسورة الفاتحة ، وبما يثنى عليه في الصّلاة بقوله : سبحانك اللّهمّ وبحمدك .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الشّكر :
2 - الشّكر في اللّغة : الثّناء على المحسن بما قدّم لغيره من معروف .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك . والشّكر كما يكون باللّسان يكون باليد والقلب . والشّكر مجازاة للمحسن على إحسانه ، وقد يوضع الحمد مكان الشّكر ، تقول : حمدته على شجاعته ، يعني أثنيت على شجاعته ، كما تقول : شكرته على شجاعته ، وهما متقاربان ، إلاّ أنّ الحمد أعمّ ، لأنّك تحمد على الصّفات ولا تشكر ، وذلك يدلّ على الفرق .
ب - المدح :
3 - المدح من معانيه في اللّغة : الثّناء الحسن تقول : مدحته مدحاً من باب نفع : أثنيت عليه بما فيه من الصّفات الجميلة ، خلقيّةً كانت أو اختياريّةً . والمدح في الاصطلاح : هو الثّناء باللّسان على الجميل الاختياريّ قصداً . ولهذا كان المدح أعمّ من الحمد .
الحكم الإجماليّ :
4 - مواطن التّحميد في حياة الإنسان متعدّدة . فهو مطالب به عرفاناً منه بنعم اللّه تعالى وثناءً عليه بما هو أهله ، على ما أولاه من نعم لا حصر لها ، قال تعالى : { وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ لا تُحْصُوها } فلا طاقة على عدّها ، ولا قدرة على حصرها لكثرتها ، كالسّمع والبصر وغير ذلك من العافية والرّزق ، وهي نعم منه سبحانه ، ولذا هيّأ للإنسان من الأسباب ما يعينه على القيام بحمده والثّناء عليه بما هو أهله .
والتّحميد تارةً يكون واجباً كما في خطبة الجمعة . وتارةً يكون سنّةً مؤكّدةً كما هو بعد العطاس . وتارةً يكون مندوباً كما في خطبة النّكاح ، وفي ابتداء الدّعاء ، وفي ابتداء كلّ أمر ذي بال ، وبعد كلّ أكل وشرب ونحو ذلك . وتارةً يكون مكروهاً كما في الأماكن المستقذرة . وتارةً يكون حراماً كما في الفرح بالمعصية . وتفصيل ذلك كما يأتي :
التّحميد في خطبتي الجمعة :
5 - التّحميد في خطبتي الجمعة مطلوب شرعاً ، على خلاف بين الفقهاء في فرضيّته أو ندبه . والبداءة به فيهما مستحبّة ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : « كلّ كلام لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم » ، ولما روى جابر رضي الله عنه « أنَّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يخطب النّاس يحمد اللّه ويثني عليه بما هو أهله » .
والتّفصيل في ( صلاة الجمعة ) .
التّحميد في خطبة النّكاح :
6 - يستحبّ التّحميد في خطبة النّكاح قبل إجراء العقد ، لما ورد فيها من لفظه عليه الصلاة والسلام : « الحمد للّه نحمده ، ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا ، من يهده اللّه فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله { يا أيّها النّاسُ اتَّقُوا ربَّكم الّذي خَلَقَكم منْ نفسٍ واحدةٍ وَخَلَقَ منها زوجَها وَبثَّ منهما رِجَالاً كثيراً ونساءً واتَّقُوا اللّهَ الّذي تَسَاءلُونَ به والأرحامَ إنَّ اللّهَ كان عليكم رَقِيباً } { يا أيّها الّذين آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حقَّ تُقَاتِه ولا تَمُوتُنَّ إلاّ وأَنْتُم مسلمونَ } { يا أيّها الّذين آمنوا اتَّقُوا اللّهَ وقُولُوا قولاً سَديداً يُصْلِحْ لكم أعمالَكم ويَغْفِرْ لكم ذنوبَكم ومن يُطِعِ اللّهَ ورسولَه فقد فازَ فوزاً عظيماً } » .
التّحميد في افتتاح الصّلاة :
7 - التّحميد في افتتاح الصّلاة - وهو المعبّر عنه بدعاء الاستفتاح - سنّة : فقد « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصّلاة كبّر ، ثمّ رفع يديه حتّى يحاذي بإبهاميه أذنيه ، ثمّ يقول : سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك » وذلك متّفق عليه بين الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
والتّحميد عند استواء الرّفع من الرّكوع في الصّلاة واجب عند الحنابلة ، لما روى الدّارقطنيّ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لبريدة رضي الله عنه : يا بريدة إذا رفعت رأسك من الرّكوع فقل : سمع اللّه لمن حمده ، ربّنا ولك الحمد » وسنّة عند الحنفيّة والشّافعيّة للمأموم والمنفرد ، فإنّهما يجمعان بين التّسميع والتّحميد ، ويكتفي المأموم بالتّحميد اتّفاقاً للأمر به ، لما روى أنس وأبو هريرة رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : إذا قال الإمام : سمع اللّه لمن حمده ، فقولوا : ربّنا ولك الحمد » ولما في صحيح البخاريّ عن رفاعة بن رافع الزّرقيّ رضي الله عنه قال : « كنّا يوماً نصلّي وراء النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلمّا رفع رأسه من الرّكعة قال : سمع اللّه لمن حمده فقال رجل وراءه : ربّنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه . فلمّا انصرف قال : من المتكلّم ؟ قال : أنا . قال : رأيت بضعةً وثلاثين ملكاً يبتدرونها . أيّهم يكتبها أوّل » .
وهذا التّحميد بعد قول الإمام أو قول الفرد : سمع اللّه لمن حمده ، مندوب عند المالكيّة .
التّحميد لمن فرغ من الصّلاة عقيب التّسليم :
8 - هو مستحبّ عند الشّافعيّة . لما روى ابن الزّبير رضي الله عنهما « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يهلّل في إثر كلّ صلاة فيقول : لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كلّ شيء قدير ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه ، ولا نعبد إلاّ إيّاه ، وله النّعمة ، وله الفضل ، وله الثّناء الحسن ، لا إله إلاّ اللّه ، مخلصين له الدّين ولو كره الكافرون » .
وسنّة عند الحنفيّة والحنابلة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من سبّح اللّه في دبر كلّ صلاة ثلاثاً وثلاثين ، وحمد اللّه ثلاثاً وثلاثين ، وكبّر اللّه ثلاثاً وثلاثين ، فتلك تسعة وتسعون ، وقال في تمام المائة : لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كلّ شيء قدير ، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر » .
ويسنّ عندهم أن يقول بعد ذلك : « اللّهمّ أعِنّي على ذِكْرك وشُكرك وحُسْنِ عبادتِك » ويختم ذلك بقوله : « سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد للّه ربّ العالمين » وزاد الحنابلة على ما استدلّوا به الحديث الّذي استدلّ به الشّافعيّة . والأولى البدء بالتّسبيح لأنّه من باب التّخلية ، ثمّ التّحميد لأنّه من باب التّحلية ، ثمّ التّكبير لأنّه تعظيم .
التّحميد في صلاة العيدين بعد التّحريمة :
9 - هو سنّة عند الحنفيّة للإمام والمؤتمّ ، فيثني ويحمد مستفتحاً " سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك " وذلك مقدّم على تكبيرات الزّوائد .
وهو سنّة بين التّكبيرات عند الحنابلة ، فيقول بينها : اللّه أكبر كبيراً ، والحمد للّه كثيراً ، وسبحان اللّه بكرةً وأصيلاً ، وصلّى اللّه على محمّد النّبيّ وآله وسلّم تسليماً كثيراً .
لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : « سألت ابن مسعود رضي الله عنه عمّا يقوله بين تكبيرات العيد ؟ قال : يحمد اللّه ويثني عليه ويصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ يدعو ويكبّر » .
التّحميد في صلاة الاستسقاء وصلاة الجنازة :
10 - التّحميد في خطبة صلاة الاستسقاء سنّة عند الشّافعيّة والحنابلة ، ومستحبّ عند الحنفيّة والمالكيّة . وهو صلاة الجنازة بعد التّكبيرة الأولى سنّة عند الحنفيّة . فيقول المصلّي : سبحانك اللّهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك .
التّحميد في تكبيرات التّشريق :
11 - التّحميد في تكبيرات التّشريق سنّة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، فيقول كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « اللّه أكبر اللّه أكبر ، لا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر وللّه الحمد » . وقد روي أنّه صلى الله عليه وسلم « قال على الصّفا : اللّه أكبر . اللّه أكبر . اللّه أكبر . اللّه أكبر كبيراً والحمد للّه كثيراً ، وسبحان اللّه بكرةً وأصيلاً ، لا إله إلاّ اللّه ولا نعبد إلاّ إيّاه ، مخلصين له الدّين ولو كره الكافرون ، لا إله إلاّ اللّه وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده . لا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر » . والجمع بين التّكبير والتّهليل والتّحميد في أيّام التّشريق أفضل وأحسن عند المالكيّة ، فيقول إن أراد الجمع : اللّه أكبر ، اللّه أكبر ، لا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر . اللّه أكبر ، وللّه الحمد . وقد روي عن مالك هذا .
التّحميد للعاطس في غير صلاة :
12 - اتّفق العلماء على أنّه يسنّ للعاطس إذا عطس أن يحمد اللّه ، فيقول عقبه : الحمد للّه . ولو قال : الحمد للّه ربّ العالمين ، أو الحمد للّه على كلّ حال كان أفضل ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا عطس أحدكم فليقل : الحمد للّه . وليقل له أخوه أو صاحبه : يرحمك اللّه » وعنه رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا عطس أحدكم فليقل : الحمد للّه على كلّ حال » وعن أنس رضي الله عنه قال : « عطس رجلان عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فشَمَّتَ أحدَهما ، ولم يشمّت الآخر . فقال الّذي لم يشمّته : عطس فلان فشمَّتَّه ، وعطستُ فلم تُشَمِّتْني ؟ فقال : هذا حمد اللّه تعالى ، وإنّك لم تحمد اللّه تعالى » . وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : { إذا عطس أحدكم فحمد اللّه تعالى فشمّتوه ، فإن لم يحمد اللّه فلا تشمّتوه } .
التّحميد للخارج من الخلاء بعد قضاء حاجته :
13 - وهو مندوب عند المالكيّة والشّافعيّة ، وسنّة عند الحنفيّة والحنابلة ، فيقول : « غفرانك » « الحمد للّه الّذي أذهب عنّي الأذى وعافاني » .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما ما قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء يقول : الحمد للّه الّذي أذاقني لذّته ، وأبقى في قوّته ، وأذهب عنّي أذاه » .
التّحميد لمن أكل أو شرب :
14 - هو مستحبّ لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشّربة فيحمده عليها » .
ولما رواه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أكل أو شرب قال : الحمد للّه الّذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين » وروى معاذ بن أنس الجهنيّ رضي الله عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من أكل طعاماً فقال : الحمد للّه الّذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول منّي ولا قوّة غفر له ما تقدّم من ذنبه » . ولما روى أبو أيّوب خالد بن زيد الأنصاريّ رضي الله عنه قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أكل أو شرب قال : الحمد للّه الّذي أطعم وسقى وسوّغه وجعل له مخرجاً » . ولما روى عبد الرّحمن بن جبير التّابعيّ « أنّه حدّثه رجل خدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثماني سنوات أنّه كان يسمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قرّب إليه طعاماً يقول : بسم اللّه . فإذا فرغ من طعامه قال : اللّهمّ أطعمتَ وسقيتَ وأغنيتَ وأقنيتَ وهديتَ وأحسنتَ ، فلك الحمد على ما أعطيت » .
التّحميد لمن سمع بشارةً تسرّه ، أو تجدّدت له نعمة ، أو اندفعت عنه نقمة ظاهرة :
15 - يستحبّ للشّخص أن يحمده سبحانه ، ويثني عليه بما هو أهله ، وفي هذا قول اللّه تبارك وتعالى : { الحمد للّه الّذي أذهب عنّا الحَزَن } وهو ما يقوله أهل الجنّة .
وفي قصّة داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام { وقالا الحمد للّه الّذي فَضَّلَنا على كثير من عباده المؤمنين } . وقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { الحمد للّه الّذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق } . وفي صحيح البخاريّ أنّ عمر رضي الله عنه أرسل ابنه عبد اللّه إلى عائشة رضي الله عنها يستأذنها أن يدفن مع صاحبيه . فلمّا أقبل عبد اللّه قال عمر : ما لديك ؟ قال : الّذي تحبّ يا أمير المؤمنين ، أذنت . قال : الحمد للّه ، ما كان شيء أهمّ إليّ من ذلك . وعن أبي هريرة رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتي ليلة أسري به بقدحين من خمر ولبن ، فنظر إليهما ، فأخذ اللّبن ، فقال له جبريل عليه السلام : الحمد للّه الّذي هداك للفطرة ، لو أخذت الخمر غَوَتْ أمّتك » .
التّحميد للقائم من المجلس :
16 - التّحميد للقائم من المجلس مستحبّ . فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من جلس في مجلس فَكَثُر فيه لَغَطُه فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلاّ أنت ، أستغفرك وأتوب إليك إلاّ غفر له ما كان في مجلسه ذلك » .
التّحميد في أعمال الحجّ :
17 - التّحميد في أعمال الحجّ مستحبّ ، وممّا أثر من صيغه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عند الملتَزَم قوله : « اللّهمّ لك الحمد حمداً يوافي نعمك ، ويكافئ مزيدك ، أحمدك بجميع محامدك ، ما علمت منها وما لم أعلم وعلى كلّ حال . اللّهمّ صلّ وسلّم على محمّد وعلى آل محمّد . اللّهمّ أعذني من الشّيطان الرّجيم ، وأعذني من كلّ سوء ، وقنّعني بما رزقتني ، وبارك لي فيه . اللّهمّ اجعلني من أكرم وفدك عليك ، وألزمني سبيل الاستقامة حتّى ألقاك يا ربّ العالمين » .
التّحميد لمن لبس ثوباً جديداً :
18 - التّحميد لمن لبس ثوباً جديداً مستحبّ . فعن معاذ بن أنس أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من لبس ثوباً جديداً فقال : الحمد للّه الّذي كساني هذا ، ورزقنيه من غير حول منّي ولا قوّة غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه » .
التّحميد لمن استيقظ من نومه :
19 - التّحميد لمن استيقظ من نومه مستحبّ . فقد « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول إذا استيقظ : الحمد للّه الّذي أحيانا بعد ما أماتنا ، وإليه النّشور » .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا استيقظ أحدكم فليقل : الحمد للّه الّذي ردّ عليّ روحي ، وعافاني في جسدي ، وأذن لي بذكره » .
وعن عائشة رضي الله عنها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ما من عبد يقول عند ردّ اللّه تعالى روحه : لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كلّ شيء قدير إلاّ غفر اللّه تعالى له ذنوبه ، ولو كانت مثل زبد البحر » .
التّحميد لمن يأوي إلى فراشه :
20 - التّحميد لمن يأوي إلى فراشه للنّوم مستحبّ . « فعن عليّ رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له ولفاطمة رضي الله عنهما : إذا أويتما إلى فراشكما ، أو إذا أخذتما مضاجعكما فكبّرا ثلاثاً وثلاثين ، وسبّحا ثلاثاً وثلاثين ، واحمدا ثلاثاً وثلاثين » وفي رواية التّسبيح « أربعاً وثلاثين » . وفي رواية التّكبير « أربعاً وثلاثين » .
قال عليّ فما تركته منذ سمعته من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
التّحميد لمن يشرع في الوضوء ، ولمن فرغ منه :
21 - التّحميد في الوضوء مستحبّ . فيقول المتوضّئ بعد التّسمية : الحمد للّه الّذي جعل الماء طهوراً . وروي عن السّلف ، وقيل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في لفظها : « باسم اللّه العظيم ، والحمد للّه على دين الإسلام » .
والتّحميد لمن فرغ من الوضوء مستحبّ . فيقول بعد الفراغ منه : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله . اللّهمّ اجعلني من التّوّابين ، واجعلني من المتطهّرين . سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلاّ أنت ، أستغفرك وأتوب إليك . وقال صلى الله عليه وسلم : « من توضّأ فأسبغ الوضوء ثمّ قال عند فراغه من وضوئه : سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلاّ أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ختم عليها بخاتم فوضعت تحت العرش ، فلم يكسر إلى يوم القيامة » .
التّحميد للمسئول عن حاله :
22 - والتّحميد للمسئول عن حاله مستحبّ . ففي صحيح البخاريّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما « أنّ عليّاً رضي الله عنه خرج من عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في وجعه الّذي توفّي فيه ، فقال النّاس : يا أبا حسن : كيف أصبح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : أصبح بحمد اللّه تعالى بارئاً » .
23 - كذلك التّحميد لمن رأى مبتلًى بمرض أو غيره مستحبّ . فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من رأى مبتلًى فقال : الحمد للّه الّذي عافاني ممّا ابتلاك به ، وفضّلني على كثير ممّن خلق تفضيلاً ، لم يصبه ذلك البلاء » .
قال النّوويّ : قال العلماء : ينبغي أن يقول هذا الذّكر سرّاً بحيث يسمع نفسه ، ولا يَسْمعه المبتلى لئلاّ يتألّم قلبه بذلك ، إلاّ أن تكون بليّته معصيةً فلا بأس أن يسمعه ذلك إن لم يخف من ذلك مفسدةً .
24- كذلك التّحميد لمن دخل السّوق مستحبّ . فعن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من دخل السّوق فقال : لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت ، بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير ، كتب اللّه له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيّئة ، ورفع له ألف ألف درجة » .
التّحميد لمن عطس في الصّلاة :
25 - التّحميد لمن عطس في الصّلاة مكروه إذا جهر به عند الحنفيّة والحنابلة ، ولا بأس به إن أسرّ به في نفسه من غير تلفّظ . وحرام عند الشّافعيّة ، لما روى معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال : « بينما أنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الصّلاة إذ عطس رجل من القوم فقلت : يرحمك اللّه ، فحدّقني القوم بأبصارهم . فقلت : واثكل أمّاه ما لكم تنظرون إليّ ؟ فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم ، فلمّا انصرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دعاني ، بأبي وأمّي هو ، ما رأيت معلّماً أحسن تعليماً منه ، واللّه ما ضربني صلى الله عليه وسلم ولا كهرني ثمّ قال : إنّ صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميّين ، إنّما هي التّسبيح والتّكبير وقراءة القرآن » . هذا ويكره التّحميد لمن يقضي حاجته في الخلاء وعطس ، إلاّ أن يكون ذلك في نفسه من غير تلفّظ به بلسانه ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كرهتُ أن أذكر اللّه تعالى إلاّ على طهر » .
تحنيك *
التّعريف :
1 - من معاني التّحنيك في اللّغة : أن يدلّك بالتّمر حنك الصّبيّ من داخل فيه ، بعد أن يلين . والتّعريف الاصطلاحيّ يشتمل على هذا المعنى وعلى غيره ، كتحنيك الميّت وغيره .
2 - فتحنيك الميّت هو : إدارة الخرقة تحت الحنك وتحت الذّقن . وتفصيله في ( الجنائز ) .
3 - وتحنيك الوضوء هو : مسح ما تحت الحنك والذّقن في الوضوء .
وتفصيله في ( الوضوء ) .
4- وتحنيك العمامة ( ويسمّى التّلحّي ) هو : إدارة العمامة من تحت الحنك كوراً أو كورين .
تحنيك المولود :
حكمه التّكليفيّ :
5 - التّحنيك مستحبّ للمولود ، لما في الصّحيحين من حديث أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنهما قال : « ولد لي غلام فأتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسمّاه إبراهيم وحنّكه بتمرة » .
6- ويتولّى تحنيك الصّبيّ رجل أو امرأة ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أنّه كان يؤتى بالصّبيان فيبرّك عليهم ويحنّكهم » .
وأورد ابن القيّم أنّ أحمد بن حنبل ولد له مولود فأمر امرأةً بتحنيكه .
7- ويحنّك المولود بتمر ، لما ورد « عن أسماء رضي الله عنها أنّها حملت بعبد اللّه بن الزّبير رضي الله عنهما قالت : خرجت وأنا مُتِمّ ، فأتيت المدينة ، فنزلت بقباء ، فولدته بقباء ، ثمّ أتيت به النّبيّ صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره ، ثمّ دعا بتمرة فمضغها ثمّ تفل في فيه ، فكان أوّل شيء دخل جوفه ريق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمّ حنّكه بتمرة ، ثمّ دعا له وبرّك عليه » . فإن لم يتيسّر تمر فرطب ، وإلاّ فشيء حلو ، وعسل نحل أولى من غيره ، ثمّ ما لم تمسّه النّار كما في نظيره ممّا يفطر الصّائم .
8- ويحنّك الغلام غداة يولد ، قال ابن حجر : وقيّد بالغداة اتّباعاً للفظ الخبر ، والغداة تطلق ويراد بها الوقت هنا . وينبغي عند التّحنيك أن يفتح المحنّك فم الصّبيّ ، حتّى تنزل حلاوة التّمر أو نحوه إلى جوفه .
التّحنيك في العمامة :
9 - تحنيك العمامة أن يدار منها تحت الحنك كور أو كوران ، ويسنّ تحنيكها عند المالكيّة والحنابلة ، ومحصّل الكلام في ذلك عندهم : أنّ العمامة بغير تحنيك ولا عذبة بدعة مكروهة ، فإن وجدا فهو الأكمل وهو السّنّة ، وإن وجد أحدهما فقد خرج من المكروه ، واختلفوا في وجه الكراهة ، فقيل لمخالفة السّنّة .
ولا يسنّ تحنيك العمامة عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وتسنّ العذبة لا غير .
تحوّل *
التّعريف :
1 - التّحوّل في اللّغة مصدر تحوّل ، ومعناه : التّنقّل من موضع إلى آخر ، ومن معانيه أيضاً : الزّوال ، كما يقال : تحوّل عن الشّيء أي : زال عنه إلى غيره .
وكذلك : التّغيّر والتّبدّل . والتّحويل مصدر حوّل ، وهو : النّقل ، فالتّحوّل مطاوع وأثر للتّحويل . ويقصد الفقهاء بالتّحوّل ما يقصد به في اللّغة .
الألفاظ ذات الصّلة :
الاستحالة :
2 - من معاني الاستحالة لغةً : تغيّر الشّيء عن طبعه ووصفه ، أو عدم الإمكان . فالاستحالة قد تكون بمعنى التّحوّل ، كاستحالة الأعيان النّجسة من العذرة والخمر والخنزير وتحوّلها عن أعيانها وتغيّر أوصافها ، وذلك بالاحتراق ، أو بالتّخليل ، أو بالوقوع في شيء ، كما سيأتي تفصيله .
أحكام التّحوّل :
للتّحوّل أحكام تعتريه ، وهي تختلف باختلاف مواطنها ، أهمّها ما يلي :
أ - تحوّل العين وأثره في الطّهارة والحلّ :
3 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وهو رواية عن أحمد إلى : أنّ نجس العين يطهر بالاستحالة ، فرماد النّجس لا يكون نجساً ، ولا يعتبر نجساً ملح كان حماراً أو خنزيراً أو غيرهما ، ولا نجس وقع في بئر فصار طيناً ، وكذلك الخمر إذا صارت خلّاً سواء بنفسها أو بفعل إنسان أو غيره ، لانقلاب العين ، ولأنّ الشّرع رتّب وصف النّجاسة على تلك الحقيقة ، فينتفي بانتقائها . فإذا صار العظم واللّحم ملحاً أخذا حكم الملح ، لأنّ الملح غير العظم واللّحم .
ونظائر ذلك في الشّرع كثيرة منها : العلقة فإنّها نجسة ، فإذا تحوّلت إلى المضغة تطهر ، والعصير طاهر فإذا تحوّل خمراً ينجس .
فيتبيّن من هذا : أنّ استحالة العين تستتبع زوال الوصف المرتّب عليها .
والأصل عند الشّافعيّة ، والحنابلة في ظاهر المذهب : أنّ نجس العين لا يطهر بالاستحالة ، فالكلب أو غيره يلقى في الملّاحة فيصير ملحاً ، والدّخان المتصاعد من وقود النّجاسة ، وكذلك البخار المتصاعد منها إذا اجتمعت منه نداوة على جسم صقيل ، ثمّ قطّر ، نجس .
4 - ثمّ استثنوا من ذلك الخمر إذا انقلبت بنفسها خلّاً فتطهر بالتّخلّل ، لأنّ علّة النّجاسة الإسكار وقد زالت ، ولأنّ العصير لا يتخلّل إلاّ بعد التّخمّر غالباً ، فلو لم يحكم بالطّهارة تعذّر الحصول على الخلّ ، وهو حلال بالإجماع .
وأمّا إن خلّلت بطرح شيء فيها بفعل إنسان فلا تطهر عندهم .
وصرّح الشّافعيّة بأنّها لو تخلّلت بإلقاء الرّيح فلا تطهر عندهم أيضاً ، سواء أكان له دخل في التّخليل كبصل وخبز حارّ ، أم لا كحصاة . وكذلك لا فرق بين أن تكون العين الملقاة طاهرةً أو نجسةً . وفي الموضوع تفصيل أكثر يرجع فيه إلى مصطلح : ( تخليل واستحالة ) .
ب - تطهير الجلد بالدّباغ :
5 - لا خلاف بين الفقهاء في نجاسة جلد الميتة قبل الدّباغ ، وإنّما اختلفوا في طهارته بعده على اتّجاهات كثيرة . وفي الموضوع فروع كثيرة وخلاف بين المذاهب ، فصّله الفقهاء عند الكلام عن النّجاسة وكيفيّة تطهيرها ، ويراجع فيه أيضاً مصطلح : ( دباغة ) .
ج - تحوّل الوصف أو الحالة :
تحوّل الماء الرّاكد إلى الماء الجاري :
6 - المختار عند الحنفيّة أنّ الماء النّجس الرّاكد إذا تحوّل إلى جار يطهر بمجرّد جريانه ، والجاري ما يعدّه النّاس جارياً بأن يدخل الماء من جانب ويخرج من جانب آخر حال دخوله ، وإن قلّ الخارج ، لأنّه صار جارياً حقيقةً ، وبخروج بعضه وقع الشّكّ في بقاء النّجاسة ، فلا تبقى مع الشّكّ . وفيه قولان ضعيفان عند الحنفيّة .
الأوّل : لا يطهر بمجرّد التّحوّل ، بل لا بدّ من خروج قدر ما فيه .
والثّاني : لا بدّ من خروج ثلاثة أمثاله .
ويظهر الفرق بين القول المختار والقولين الآخرين في : أنّ الخارج من الحوض يكون طاهراً بمجرّد خروجه ، بناءً على القول المختار . ولا يكون طاهراً قبل الحكم بطهارة الماء الرّاكد على القولين الآخرين . وعلى هذا الخلاف : البئر وحوض الحمّام والأواني .
وأمّا المالكيّة فعندهم يتحوّل الماء الكثير النّجس طهوراً بزوال التّغيّر ، سواء أكان بصبّ ماء مطلق عليه ، قليل أو كثير ، أو ماء مضاف مقيّد انتفت نجاسته ، أم بإلقاء شيء فيه كتراب أو طين ، ولم يظهر فيه أحد أوصاف ما ألقي فيه .
لأنّ تنجّسه إنّما كان لأجل التّغيّر وقد زال ، والحكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً ، كالخمر إذا صارت خلّاً ، وفي تغيّره بنفسه ، أو بنزح بعضه قولان .
ومذهب الشّافعيّة : أنّ الماء إذا بلغ قلّتين لا ينجس بملاقاة نجس ، لحديث « إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَثَ » أي لا يقبل النّجس . هذا ما لم يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه فينجس لحديث : « إنّ الماء طَهورٌ لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونَه أو طعمَه أو ريحَه » .
فإن تغيّر وصف من هذه الأوصاف تنجّس ، فإن زال تغيّره بنفسه أو بماء انضمّ إليه طهر . وما دون القلّتين ينجس بالملاقاة ، فإن بلغهما بماء ولا تغيّر به فطهور .
ولو كوثر بإيراد طهور فلم يبلغ قلّتين لم يطهر . وقيل : هو طاهر لا طهور .
وعند الحنابلة : يختلف تطهير الماء المتنجّس بالمكاثرة باختلاف أحوال ثلاث للماء : أن يكون دون القلّتين ، أو وفق القلّتين ، أو زائداً عنهما .
- 1 - فإن كان دون القلّتين فتطهيره بالمكاثرة بماء آخر .
فإن اجتمع نجس إلى نجس ، فالكلّ نجس وإن كثر ، لأنّ اجتماع النّجس إلى النّجس لا يتولّد بينهما طاهر ، كالمتولّد بين الكلب والخنزير ، ويتخرّج أن يطهر إذا زال التّغيّر وبلغ القلّتين ، لحديث : « إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل الخبث » وحديث : « إنّ الماء طهور لا ينجّسه شيء إلاّ ماء غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » . وجميع النّجاسات في هذا سواء ، إلاّ بول الآدميّين وعذرتهم المائعة ، فإنّ أكثر الرّوايات عن أحمد أنّها تنجّس الماء الكثير ، إلاّ أن يبلغ حدّاً لا يمكن نزحه كالغدران ، فذلك الّذي لا ينجّسه شيء .
- 2 - فإن كان وفق القلّتين : وإن كان غير متغيّر فيطهر بالمكاثرة المذكورة .
وإن كان متغيّراً يطهر بالمكاثرة إذا أزالت التّغيّر ، أو بتركه حتّى يزول تغيّره بطول المكث . - 3 - وإن كان أكثر من القلّتين : فإن كان نجساً بغير التّغيّر فلا طريق إلى تطهيره بغير المكاثرة . وإن كان نجساً متغيّراً بالنّجاسة فتطهيره إمّا بالمكاثرة ، أو زوال تغيّره بمكثه ، أو أن ينزح منه ما يزول به التّغيّر ، ويبقى بعد ذلك قلّتان فصاعداً .
وفي الموضوع تفصيل يرجع إليه في مصطلح : ( طهارة ) .
التّحوّل إلى القبلة أو عنها :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّ المصلّي إذا كان معايناً للكعبة ، ففرضه الصّلاة إلى عينها بجميع بدنه ، بأن لا يخرج شيء منه عن الكعبة ولو عضواً ، فلو تحوّل بغير عذر إلى جهة أخرى بطلت صلاته . وأمّا في تحويل الوجه : فذهب الحنفيّة إلى أنّه لو انحرف وجهه عن عين الكعبة انحرافاً لا تزول فيه المقابلة بالكلّيّة ، جاز مع الكراهة .
وأمّا تحويل الصّدر عن القبلة بغير عذر فمفسد للصّلاة . وعند المالكيّة والحنابلة : من التفت بجسده كلّه عن القبلة لم تفسد صلاته ، إن بقيت قدماه إلى القبلة .
ويرى الشّافعيّة أنّ التّحوّل إلى جهة أخرى عامداً مبطل للصّلاة ، وإن فعله ناسياً لم تبطل . وفي الموضوع خلاف وتفصيل يرجع فيه إلى مصطلح : ( استقبال ) .
التّحوّل من القيام إلى القعود في الصّلاة :
8 - التّحوّل من القيام إلى القعود ، ومنه إلى الاستلقاء أو الاضطجاع من فروع قاعدة :
" المشقّة تجلب التّيسير " والأصل فيها قوله تعالى : { يُريدُ اللّهُ بكم اليُسْرَ ولا يُريدُ بكم العُسْر } وقوله تعالى : { وما جَعَلَ عليكم في الدّينِ من حَرَجٍ } ، ولذلك أجمع أهل العلم على أنّ من لا يطيق القيام ، وتعذّر عليه قبل الصّلاة أو أثناءها حقيقةً أو حكماً ، بأن خاف زيادة مرض ، أو بطء برئه ، أو دوران رأسه ، أو وجد لقيامه ألماً شديداً ونحوه ، له أن يصلّي جالساً ، وإن لم يستطع أومأ مستلقياً ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : صلّ قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جَنْب » زاد النّسائيّ : « فإن لم تستطع فمستلقياً » . ويزاد في النّافلة : أنّ له التّحوّل من القيام إلى القعود بلا عذر .
وفي الموضوع تفصيل يرجع فيه إلى كتاب الصّلاة عند الكلام في صلاة المريض .
تحوّل المقيم إلى مسافر وعكسه :
أ - تحوّل المقيم إلى مسافر :
9 - يصير المقيم مسافراً بأحد أمرين :
أوّلهما : إذا جاوز بيوت مقامه ، وجاوز ما اتّصل به من توابع البلد بنيّة السّفر ، قاصداً المسافة الّتي يتحقّق بها السّفر الّذي تتغيّر به الأحكام . والمعتبر في النّيّة نيّة المتبوع لا التّابع ، حتّى تصير الزّوجة مسافرةً بنيّة الزّوج ، والجنديّ بنيّة القائد ، وكلّ من لزمه طاعة غيره كالسّلطان وأمير الجيش .
ثانيهما : إذا أنشأ السّير بعد الإقامة . ولتفصيل الموضوع يرجع إلى ( صلاة المسافر ) .
ب - تحوّل المسافر إلى مقيم :
10 - يصير المسافر مقيماً بأحد الأمور التّالية :
الأوّل : العود إلى الوطن الأصليّ ، ولو لم ينو الإقامة فيه .
والضّبط فيه : أن يعود إلى الموضع الّذي شرط الفقهاء مفارقته في إنشاء السّفر منه . الثّاني : الوصول إلى الموضع الّذي يسافر إليه ، إذا عزم على الإقامة فيه القدر المانع من التّرخّص ، وكان صالحاً للإقامة . والمدّة المانعة من التّرخّص خلافيّة يرجع فيها إلى ( صلاة المسافر ) .
الثّالث : إذا تزوّج المسافر ببلد ، وإن لم يتّخذه وطناً ، ولم ينو الإقامة .
الرّابع : نيّة الإقامة في الطّريق : ولا بدّ فيه من أربعة أشياء : نيّة الإقامة ، ونيّة مدّة الإقامة ، واتّحاد المكان ، وصلاحيّته للإقامة .
وأمّا المفازة ونحوها ففي انقطاع السّفر بنيّة الإقامة فيها خلاف وتفصيل ينظر في ( صلاة المسافر ) .
الخامس : الإقامة بطريق التّبعيّة : وهو أن يصير الأصل مقيماً ، فيصير التّبع أيضاً مقيماً ، بإقامة الأصل .
التّحوّل عن الواجب إلى البدل :
الكلام على التّحوّل عن الواجب إلى البدل يكون في مواضع منها :
أ - الزّكاة :
11 - ذهب الحنفيّة إلى جواز التّحوّل عن الواجب إلى البدل في الزّكاة ، وإليه ذهب الأوزاعيّ والثّوريّ ، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصريّ .
فيجوز للمالك أن يدفع العين أو القيمة من النّقدين والعروض وغير ذلك ، ولو مع وجود المنصوص عليه ، لقوله تعالى : { خُذْ من أموالِهم صَدَقَةً } .
نصّ على أنّ المراد بالمأخوذ ( صدقةً ) وكلّ جنس يأخذه فهو صدقة . ولقول معاذ لأهل اليمن حين بعثه النّبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم : « ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصّدقة مكان الشّعير والذّرة ، أهون عليكم وخير لأصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وكان يأتي به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا ينكر عليه » .
والفقه فيه : أنّ المقصود إيصال الرّزق الموعود إلى الفقير ، ودفع حاجة المسكين ، وهو يحصل بالقيمة أيضاً . قال عليه الصلاة والسلام : « إنّ اللّه تعالى فرض على الأغنياء قوت الفقراء ، وسمّاه زكاةً » .
وفي اعتبار القيمة هل تدفع القيمة يوم الأداء أم يوم الوجوب ؟ خلاف يرجع فيه إلى موطنه. وأمّا عند المالكيّة والحنابلة : فيجوز التّحوّل عن الواجب إلى البدل في الدّنانير والدّراهم فقط ، فيجوز للمزكّي أن يخرج في زكاة الدّنانير دراهم بقيمتها ، ويخرج عن الفضّة ذهباً بقيمته ، قلّت القيمة أو كثرت ، لأنّ ذلك معاوضة في حقّه ، فكانت بالقيمة كسائر المعاوضات ، وهما كجنس واحد . ولم يجز ذلك الشّافعيّة .
وأمّا في المواشي : فعند الحنفيّة جائز ، بناءً على قاعدتهم بجواز القيمة في كلّ شيء .
وهو الصّحيح عند الشّافعيّة . ويكره عند المالكيّة التّحوّل عن الواجب إلى البدل ، لما في ذلك من معنى الرّجوع في الصّدقة ، ولئلاّ تكون القيمة أقلّ ممّا عليه ، فيكون قد بخس الفقراء حقّهم ، إلاّ إذا أجبر السّاعي المزكّي على أن يأخذ منه دراهم فيما وجب عليه من صدقته ، فيجزئ عنه ، إذا كان فيه وفاء بقيمة ما وجب عليه ، وكان عند محلّها .
وفي وجه عند الشّافعيّة : لا يجزئ إن نقصت قيمته عن قيمة الشّاة . ووجه ثالث : أنّه إن كانت الإبل مراضاً ، أو قليلة القيمة لعيب أجزأ البعير النّاقص عن قيمة الشّاة ، وإن كانت صحاحاً سليمةً لم يجزئ النّاقص . وفي الموضوع تفصيل يرجع إليه في ( الزّكاة ) .
وأمّا الحنابلة فلا يجوز عندهم التّحوّل في الماشية من جنس إلى آخر ولا إلى القيمة .
ب - زكاة الفطر :
12 - التّحوّل عن العين إلى القيمة في صدقة الفطر لا يجوز عند المالكيّة والشّافعيّة ، وكذلك في ظاهر المذهب عند الحنابلة . ويجوز عند الحنفيّة .
وأمّا التّحوّل من جنس إلى آخر من أجناس الأقوات ، أو التّحوّل من الأدنى إلى الأعلى وعكسه ففيه خلاف وتفصيل ينظر في ( زكاة الفطر ) .
ج - العشور :
13 - ذهب المالكيّة والحنابلة إلى عدم جواز التّحوّل عن الواجب إلى البدل في العشور . وذهب الحنفيّة إلى جواز التّحوّل عن الواجب إلى البدل في العشور ، وذلك للأدلّة الّتي سبق ذكرها ، وكذلك يجوز التّحوّل من الواجب إلى الأعلى فقط عند الشّافعيّة إذا كانت الحبوب والثّمار نوعاً واحداً .
وإن اختلفت الأنواع : أخذ الواجب من كلّ نوع بالحصّة إن لم يتعسّر ، فإن عسر أخذ الواجب من كلّ نوع بأن كثرت ، وقلّ ثمرها ففيه أوجه :
الوجه الأوّل ، وهو الصّحيح : أنّه يخرج من الوسط رعايةً للجانبين .
والثّاني : يؤخذ من كلّ نوع بقسطه .
والثّالث : من الغالب ، وقيل : يؤخذ الوسط قطعاً .
وفي الموضوع تفصيل ينظر في مصطلح : ( عشر ) .
د - الكفّارات :
14 - ذهب الجمهور إلى أنّه لا يجوز التّحوّل عن الواجب المنصوص عليه إلى غيره في الكفّارات ، فإن كان معيّناً تعيّن ، وإن كان مخيّراً تخيّر في الخصال الّتي نصّ عليها الشّارع. ويرى الحنفيّة جواز التّحوّل عن الواجب إن كان ماليّاً إلى البدل في الكفّارات .
وفي ذلك خلاف وتفصيل ينظر إليه في مصطلح : ( كفّارات ) .
هـ - النّذور :
15 - المذهب عند المالكيّة والحنابلة ، وهو الوجه الصّحيح لدى الشّافعيّة : أنّ من نذر نذراً معيّناً وغير مطلق فعليه إخراجه ممّا عيّنه ، ولا يجوز العدول عن المعيّن إلى غيره بدلاً أو قيمةً . وفي ذلك خلاف وتفصيل ينظر في ( النّذر ) .
ويرى الحنفيّة جواز ذلك مطلقاً ، كما يجوز عندهم العدول عن الواجب إلى القيمة في النّذور ، واستثنوا نذر العتق والهدي والأضحيّة .
تحوّل فريضة الصّوم إلى فدية :
16 - اتّفق عامّة الفقهاء على أنّ الشّيخ الهرم الّذي لا يطيق الصّوم ، أو تلحقه به مشقّة شديدة لا صوم عليه ، واختلفوا في وجوب الفدية عليه :
فذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ، وقول غير مشهور عند المالكيّة : إلى أنّه تجب عليه الفدية .
ويرى المالكيّة في المشهور من المذهب ، وهو غير الأظهر عند الشّافعيّة : أنّه لا فدية عليه . وفي وجوب الفدية على الحامل والمرضع خافت على نفسها أو ولدها ، والمريض الّذي لا يرجى برؤه خلاف وتفصيل ، يرجع فيه إلى مصطلح : ( صوم وفدية ) .
تحوّل العقد الّذي لم تستكمل شرائطه إلى عقد آخر :
17 - ذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو الأظهر من المذهب عند الشّافعيّة : إلى أنّ الهبة إذا كانت بشرط العوض يصحّ العقد ويتحوّل إلى بيع ، فيثبت فيه الخيار والشّفعة ، ويلزم قبل القبض ، ويردّ بالعيب وخيار الرّؤية .
وفي قول للشّافعيّة : يبطل العقد ، لأنّه شرط في الهبة ما ينافي مقتضاها .
وذهب المالكيّة إلى : أنّ هبة الثّواب بيع ابتداءً ، ولذا لا تبطل بموت الواهب قبل حيازة الهبة ، ولا يجوز أن يثاب عن الذّهب فضّةً أو العكس ، لما يلزم عليه من الصّرف المؤخّر ، ما لم يحدث التّقابض في المجلس . وفي كون العوض معلوماً أو مجهولاً ، وكذلك في كونها بيعاً ابتداءً أو انتهاءً تفصيل يرجع فيه إلى مصطلح : ( هبة ) .
ولتحوّل العقد الّذي لم تستكمل شرائطه إلى عقد آخر أمثلة أخرى منها : تحوّل المضاربة الصّحيحة إلى وكالة بالنّسبة لتصرّفات المضارب ، ولذلك يرى جمهور الفقهاء في الجملة : أنّ تصرّفات المضارب منوطة بالمصلحة كالوكيل .
وإلى شركة إن ربح المضارب ، وإلى إجارة فاسدة إن فسدت .
ومنها : تحوّل السّلم إلى بيع مطلقاً ، إذا كان المسلم فيه عيناً في قول عند الشّافعيّة . وإلى هبة لو قال : بعت بلا ثمن ، والأظهر البطلان .
ومنها : تحوّل الاستصناع سلماً إذا ضرب فيه الأجل عند بعض الحنفيّة ، حتّى تعتبر فيه شرائط السّلم . وفي كلّ من الأمثلة المتقدّمة خلاف وتفصيل ينظر في مصطلحات ( عقد ، وسلم ، ومضاربة ، وشركة ، واستصناع ) .
تحوّل العقد الموقوف إلى نافذ :
18 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وهو قول للشّافعيّة ، ورواية عند الحنابلة : إلى أنّ بيع الفضوليّ ينعقد موقوفاً على إجازة المالك ، فإذا أجازه المالك أصبح نافذاً ، وإلاّ فلا ، وإليه ذهب إسحاق بن راهويه .
وذهب الشّافعيّة في القول الجديد ، وهو رواية أخرى عند الحنابلة إلى : أنّ هذا البيع باطل ويجب ردّه ، وإليه ذهب أبو ثور وابن المنذر . وقد فصّل القائلون بانعقاد بيع الفضوليّ الكلام حوله ، ويرجع فيه إلى مصطلحات : ( عقد ، وموقوف ، وفضوليّ ) .
تحوّل الدّين الآجل إلى حالّ :
يتحوّل الدّين الآجل إلى حالّ في مواطن منها :
أ - الموت :
19 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عند الحنابلة : إلى أنّ الدّين الآجل يتحوّل بالموت إلى حالّ ، لانعدام ذمّة الميّت وتعذّر المطالبة . وبه قال الشّعبيّ والنّخعيّ ، والثّوريّ . وذهب الحنابلة في رواية أخرى : إلى أنّه لا يحلّ إذا وثّقه الورثة ، وهو قول ابن سيرين وعبد اللّه بن الحسن وإسحاق وأبي عبيد أيضاً . وفي لحاق المرتدّ بدار الحرب هل يتقرّر موته ، وتثبت الأحكام المتعلّقة به ؟ خلاف بين الفقهاء ينظر في مواطنه من كتب الفقه ، ومصطلح : ( ردّة ) . ومصطلح أجل ( ف :95 ج 2 ) .
ب - التّفليس :
20 - المتبادر من أقوال أبي يوسف ومحمّد من الحنفيّة القائلين بجواز الحجر للإفلاس ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ، والمذهب عند الحنابلة : أنّ الدّين المؤجّل لا يحلّ بالتّفليس ، لأنّ الأجل حقّ للمفلّس فلا يسقط بفلسه ، كسائر حقوقه ، ولأنّه لا يوجب حلول ماله ، فلا يوجب حلول ما عليه .
وأمّا عند أبي حنيفة فلا يتأتّى هذا ، لأنّه لا يجوز عنده الحجر على الحرّ العاقل البالغ بسبب الدّين . وذهب المالكيّة ، وكذلك الشّافعيّة في قول ، وهو رواية عند الحنابلة ذكرها أبو الخطّاب إلى : أنّ من حجر عليه لإفلاسه يتحوّل دينه الآجل إلى حالّ ، لأنّ التّفليس يتعلّق به الدّين بالمال ، فيسقط الأجل كالموت . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( حجر ) .
تحوّل الوقف عند انقطاع الموقوف عليه :
21 - ذهب عامّة الفقهاء إلى أنّ التّأبيد شرط في الوقف ، وأنّ الوقف الّذي لا خلاف في صحّته : ما كان معلوم الابتداء والانتهاء غير منقطع ، مثل أن يجعل نهايته إلى جهة لا تنقطع ، كأن يجعل آخره على المساكين ، أو طائفة منهم ، فإنّه يمتنع بحكم العادة انقراضهم . واختلفوا فيما لو انقطع الموقوف عليهم : فذهب أبو يوسف والمالكيّة ، وهو قول عند الشّافعيّة ، ورأي للحنابلة : إلى أنّه يرجع إلى الواقف ، أو إلى ورثته ، إلاّ أن يقول : صدقة موقوفة ينفق منها على فلان ، وعلى فلان فإذا انقرض المسمّى كانت للفقراء والمساكين . والأظهر عند الشّافعيّة ، والمذهب عند الحنابلة : أنّه يبقى وقفاً ، وينصرف إلى أقرب النّاس إلى الواقف . وهناك أقوال أخرى عند الشّافعيّة في مصرف هذا النّوع من الوقف .
ويرجع إلى تفصيل الموضوع في مصطلح : ( وقف ) .
تحوّل الملكيّة العامّة من الإباحة إلى الملكيّة الخاصّة وعكسه :
22 - قد تتحوّل الملكيّة من العامّة إلى الخاصّة بأيّ سبب من أسباب التّملّك ، كالإقطاع من أراضي بيت المال .
فللإمام أن يعطي الأرض من بيت المال على وجه التّمليك ، كما يعطي المال حيث رأى المصلحة ، إذ لا فرق بين الأرض والمال في الدّفع للمستحقّ . وراجع مصطلح : ( إقطاع ) . ويتحوّل الملك الخاصّ إلى العامّ إذا مات عنه أربابه ، ولم يستحقّه وارثه بفرض ولا تعصيب ، فينتقل إلى بيت المال ميراثاً لكافّة المسلمين . وذكر أبو يعلى أنّه ينتقل إلى بيت المال مصروفاً في مصالح المسلمين ، لا على طريق الميراث .
ويتحوّل الملك الخاصّ إلى عامّ ، في نحو البيت المملوك إذا احتيج إليه للمسجد ، أو توسعة الطّريق ، أو للمقبرة ونحوها من مصالح المسلمين ، بشرط التّعويض .
تحوّل الولاية في عقد النّكاح :
23 - تتحوّل الولاية من الوليّ الأقرب إلى الوليّ الأبعد في مواطن منها :
- إذا فقد الوليّ الأقرب ، وكذلك إذا أسر أو حبس .
فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ الولاية تتحوّل من الوليّ الأقرب إلى الأبعد .
وأمّا الشّافعيّة فالولاية عندهم تنتقل إلى الحاكم .
- ومنها غيبة الوليّ ، فإذا غاب الوليّ غيبةً منقطعةً تنتقل الولاية من الأقرب إلى الأبعد عند الحنفيّة والحنابلة . وعند المالكيّة تنتقل إلى الحاكم ، لأنّ الحاكم وليّ الغائب . وكذلك عند الشّافعيّة ، إلاّ إذا حكم القاضي بموت الوليّ الأقرب وقسّم ماله بين ورثته ، فتنتقل عندهم إلى الأبعد . ومنها : العضل ، وهو : منع الوليّ مولّيته من زواج الكفء . فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عن أحمد : إلى أنّ الوليّ الأقرب إذا عضلها انتقلت الولاية إلى السّلطان ، وهو اختيار أبي بكر رضي الله عنه . وذكر ذلك عن عثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنه وشريح . وذهب الحنابلة في المنصوص من المذهب إلى أنّها تنتقل إلى الأبعد . وانظر لتفصيل ذلك والخلاف فيه مصطلح : ( ولاية النّكاح ) .
تحوّل حقّ الحضانة :
24 - الأصل في الحضانة أنّ الأمّ أولى النّاس بحضانة الطّفل إذا كملت الشّروط ، لما روى عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما « أنّ امرأةً قالت : يا رسول اللّه ، إنّ ابني هذا كان بطني له وِعاءً ، وثديي له سِقاءً ، وحجري له حِواءً ، وإنّ أباه طلّقني ، وأراد أن ينزعه منّي ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أنت أحقّ به ما لم تَنْكحي » .
فإن لم تكن الأمّ من أهل الحضانة لفقدان جميع الشّروط فيها أو بعضها ، أو امتنعت من الحضانة ، فهي كالمعدومة ، وتنتقل الحضانة إلى من يليها ، وهكذا تتحوّل من الأقرب إلى الأبعد في الاستحقاق . على تفصيل ينظر في مصطلح : ( حضانة ) .
تحوّل المعتدّة من عدّة الطّلاق إلى عدّة الوفاة :
25 - إذا مات الزّوج والمرأة في عدّة طلاقه ، فإن كان الطّلاق رجعيّاً سقطت عنها عدّة الطّلاق ، وانتقلت إلى عدّة الوفاة ، أي أربعة أشهر وعشرة أيّام من حين الوفاة ، بلا خلاف. قال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك ، وذلك لأنّ المطلّقة رجعيّاً زوجة يلحقها طلاقه ، وينالها ميراثه ، فعليها أن تعتدّ عدّة الوفاة .
وإذا مات مطلّق البائن ، وهي في العدّة ، وكان الطّلاق في حال صحّته ، أو طلّقها بطلبها ، بنت على مدّة الطّلاق ، وهذا بالاتّفاق . أمّا إذا طلّقها في مرض موته بغير طلب منها ، فهذه خلافيّة : فذهب أبو حنيفة وأحمد والثّوريّ ومحمّد بن الحسن إلى أنّها تعتدّ بأبعد الأجلين احتياطاً لشبهة قيام الزّوجيّة ، باعتبار إرثها منه . وذهب مالك والشّافعيّ وأبو عبيد وأبو يوسف وابن المنذر إلى أنّها تبني على عدّة الطّلاق لانقطاع الزّوجيّة من كلّ وجه .
تحوّل العدّة من الأشهر إلى الأقراء وعكسه :
أ - تحوّل العدّة من الأشهر إلى الأقراء :
26 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الصّغيرة الّتي لم تحض ، وكذلك البالغة الّتي لم تحض ، إذا اعتدّت ببعض الأشهر ، فحاضت قبل انقضاء عدّتها ، أنّ عدّتها تتحوّل من الأشهر إلى الأقراء ، وذلك لأنّ الشّهور بدل عن الأقراء ، وقد ثبتت القدرة على المبدل ، والقدرة على المبدل ، قبل حصول المقصود بالبدل تبطل حكم البدل كالقدرة على الوضوء في حقّ المتيمّم ، فيبطل حكم الأشهر ، وتنتقل عدّتها إلى الأقراء .
وكذا الآيسة إذا اعتدّت ببعض الأشهر ، ثمّ رأت الدّم ، فتتحوّل عدّتها إلى الأقراء عند بعض الحنفيّة ، وذلك على الرّواية الّتي لم يقدّروا فيها للإياس سنّاً معيّنةً . وكذلك عند الشّافعيّة . وأمّا عند المالكيّة : فإذا رأت الدّم بعد الخمسين وقبل السّبعين - وكذلك عند الحنابلة بعد الخمسين وقبل السّتّين - يكون دماً مشكوكاً فيه يرجع فيه إلى النّساء .
إلاّ أنّ ابن قدامة من الحنابلة قال : إنّ المرأة إن رأت الدّم بعد الخمسين على العادة الّتي كانت تراه فيها ، فهو حيض على الصّحيح . وذهب الحنفيّة على الرّواية الّتي وقّتوا للإياس فيها وقتاً : إلى أنّ ما رأته من الدّم بعدها ليس بحيض في ظاهر المذهب ، إلاّ إذا كان دماً خالصاً فحيض ، حتّى يبطل به الاعتداد بالأشهر .
ولتفصيل الموضوع يرجع إلى مصطلحي : ( إياس ، وعدّة ) .
27 - وأمّا من انقطع حيضها بعد أن رأت الدّم ، وقبل أن تبلغ سنّ اليأس - وهي المرتابة - فذهب جميع الفقهاء إلى أنّه إذا كان انقطاع الدّم بسبب معروف كرضاع ونفاس أو مرض يرجى برؤه ، فإنّها تصبر حتّى تحيض ، فتعتدّ بالأقراء ، أو تبلغ سنّ اليأس ، فتعتدّ بالأشهر بعد سنّ اليأس ، ولا عبرة بطول مدّة الانتظار ، لأنّ الاعتداد بالأشهر جُعل بعد اليأس بالنّصّ ، فلم يجز الاعتداد بالأشهر قبله .
أمّا من انقطع حيضها لا لعلّة تعرف . فذهب المالكيّة ، وهو قول للشّافعيّ في القديم ، وهو المذهب عند الحنابلة : إلى أنّها تتربّص تسعة أشهر ، ثمّ تعتدّ بثلاثة أشهر ، فهذه سنة . وعلّلوه بأنّ الأغلب في مدّة الحمل تسعة أشهر ، فإذا مضت تبيّنت براءة الرّحم ، فتعتدّ بالأشهر ، وهو مرويّ عن الحسن البصريّ أيضاً ، وقضى به عمر بمحضر من الصّحابة رضي الله عنهم أجمعين . وروي عن الشّافعيّ في القديم أيضاً أنّها تتربّص ستّة أشهر ثمّ ثلاثةً ، وروي عنه أيضاً في القديم : أنّها تتربّص أربع سنين ثمّ تعتدّ بثلاثة أشهر .
تحوّل الأرض العشريّة إلى خراجيّة والعكس :
28 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الأرض الخراجيّة لا تصير عشريّةً أصلاً ، وكذلك لا تتحوّل الأرض العشريّة إلى خراجيّة . وذهب أبو حنيفة وزفر إلى أنّ الأرض العشريّة تتحوّل إلى خراجيّة إذا اشتراها ذمّيّ .
وفي كتاب الخراج لأبي يوسف : للإمام أن يصيّر الأرض العشريّة خراجيّةً ، والخراجيّة عشريّةً ، إلاّ ما كان من أرض الحجاز والمدينة ومكّة واليمن ، فإنّ هنالك لا يقع خراج ، فلا يحلّ للإمام أن يغيّر ذلك ، ولا يحوّله عمّا جرى عليه أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وحكمه . ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلحات : ( أرض ، وعشر ، وخراج ) .
تحوّل المستأمن إلى ذمّيّ :
29 - ذهب جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إلى أنّ غير المسلم لا يمكّن من الإقامة سنةً في دار الإسلام ، فإذا أقام فيها سنةً أو أكثر تفرض عليه الجزية ، ويصير بعدها ذمّيّاً . وظاهر المتون في المذهب الحنفيّ أنّ قول الإمام : إن أقمت سنةً أو أقلّ من ذلك وضعنا عليك الجزية ، شرط لصيرورته ذمّيّاً ، فعلى هذا لو أقام سنةً ، أو أكثر من غير أن يقول الإمام له ذلك لا يصير ذمّيّاً .
وكذلك يتحوّل المستأمن إلى ذمّيّ بالتّبعيّة : كما لو دخل مع امرأته ، ومعهما أولاد صغار وكبار ، فصار ذمّيّاً ، فالصّغار تبع له بخلاف الكبار . وتترتّب على صيرورة المستأمن ذمّيّاً أحكام عدّة ، يرجع لتفصيلها إلى مصطلحي : ( أهل الذّمّة ، ومستأمن ) .
تحوّل المستأمن إلى حربيّ :
30 - يرى جمهور الفقهاء أنّ المستأمن يصير حربيّاً بأمور :
- إذا لحق بدار الحرب ، ولو بغير بلده بنيّة الإقامة ، فإن دخل تاجراً أو رسولاً أو متنزّهاً ، أو لحاجة يقضيها ، ثمّ يعود إلى دار الإسلام ، فهو على أمانه في نفسه وماله .
- وإذا نقض الأمان : كأن يقاتل عامّة المسلمين أو يغلب على قرية أو حصن لأجل حربنا ، أو يقدم على عمل مخالف لمقتضى الأمان ، انتقض عهده وصار حربيّاً . وفيما ينتقض به الأمان والعهد خلاف وتفصيل ينظر في مصطلحي : ( أهل الحرب ومستأمن ) .
تحوّل الذّمّيّ إلى حربيّ :
31 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الذّمّيّ يتحوّل إلى حربيّ باللّحاق بدار الحرب مختاراً طائعاً والإقامة فيها ، أو بنقض عهد ذمّته ، فيحلّ دمه وماله . وفي محاربته جوازاً أو وجوباً - بعد بلوغ مأمنه - خلاف بينهم ، وكذلك فيما ينتقض به عقد الذّمّة تفصيل ينظر في مصطلحي : ( أهل الحرب ، وأهل الذّمّة ) .
تحوّل الحربيّ إلى مستأمن :
32 - يصير الحربيّ مستأمناً بالحصول على أمان ممّن له حقّ إعطاء الأمان ، على خلاف بين الفقهاء ذكر في مواطنه من كتب الفقه ، وانظر أيضاً مصطلحي : ( أمان ، ومستأمن ) .
تحوّل دار الإسلام إلى دار الحرب وعكسه :
33 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه متى ارتدّ أهل بلد وجرت فيه أحكامهم صارت الدّار دار حرب ، وعلى الإمام قتالهم بعد الإنذار والإعذار ، لأنّ أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه قاتل أهل الرّدّة بجماعة الصّحابة .
34 - وذهب أبو حنيفة إلى أنّ دار الإسلام لا تصير دار حرب إلاّ بأمور ثلاثة :
أ - أن تجري فيها أحكام أهل الشّرك على الاشتهار ، وأن لا يحكم فيها بحكم أهل الإسلام ، أمّا لو أجريت أحكام المسلمين ، وأحكام أهل الشّرك ، فلا تكون دار حرب .
ب - أن تكون متاخمةً ( أي مجاورةً ) لدار الحرب ، بأن لا تتخلّل بينهما بلدة من بلاد الإسلام .
ج - أن لا يبقى فيها مسلم أو ذمّيّ آمناً بالأمان الأوّل الّذي كان ثابتاً قبل استيلاء الكفّار ، للمسلم بإسلامه ، وللذّمّيّ بعقد الذّمّة . وأمّا أبو يوسف ومحمّد فيقولان بشرط واحد لا غير ، وهو : إظهار حكم الكفر ، وهو القياس . وتترتّب على دار الرّدّة أحكام ، اختلف الفقهاء فيها ، تنظر في مظانّها ، وفي مصطلح : ( ردّة ) .
35 - وتتحوّل دار الحرب إلى إسلام بإجراء أحكام أهل الإسلام فيها كجمعة وعيد ، وإن بقي فيها كافر أصليّ ، وإن لم تتّصل بدار الإسلام .
التّحوّل من دين إلى آخر :
36 - التّحوّل من دين إلى آخر ثلاثة أقسام :
القسم الأوّل : التّحوّل من دين باطل إلى دين باطل ، وهو على ثلاثة أضرب : لأنّه إمّا أن يكون مِنْ دين يُقَرُّ أهله عليه إلى ما يقرّ أهله عليه ، كتهوّد نصرانيّ أو عكسه .
وإمّا أن يكون ممّا يقرّ عليه إلى ما لا يقرّ عليه ، كانتقال يهوديّ أو نصرانيّ إلى الوثنيّة . وإمّا أن يكون ممّا لا يقرّ عليه إلى ما يقرّ عليه ، كتهوّد وثنيّ أو تنصّره .
ففي هذه الحالات هل يقرّ على ما انتقل إليه بالجزية أم لا ؟ خلاف وتفصيل ينظر في مواطنه من كتب الفقه ، وانظر أيضاً مصطلحي : ( تبديل ، وردّة ) .
القسم الثّاني : التّحوّل من دين الإسلام إلى باطل ، وهو ردّة المسلم - والعياذ باللّه - فلا يقبل منه إلاّ الإسلام . وتفصيله في مصطلح : ( ردّة ) .
والقسم الثّالث : التّحوّل من دين باطل إلى الإسلام ، فتترتّب عليه أحكام مختلفة تنظر في مظانّها من كتب الفقه ، وفي المصطلحات الخاصّة ، وينظر أيضاً مصطلحي : ( تبديل ، إسلام ) .
تحويل *
التّعريف :
1 - التّحويل لغةً : مصدر حوّل الشّيء ، وتدور معانيه على النّقل والتّغيير والتّبديل .
وحوّلته تحويلاً : نقلته من موضع إلى موضع ، وحوّلت الرّداء : نقلت كلّ طرف إلى موضع الآخر .
والحَوالة : بالفتح مأخوذة من النّقل ، فتقول : أحلته بدينه أي : نقلته إلى ذمّة أخرى .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن معانيه اللّغويّة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - النّقل :
2 - النّقل : تحويل الشّيء من موضع إلى موضع ، والأصل فيه النّقل من مكان إلى مكان . وقد يستعمل في الأمور المعنويّة ، كالنّقل من صفة إلى صفة ، وكنقل اللّفظ من الاستعمال الحقيقيّ إلى الاستعمال المجازيّ .
ب - التّبديل والإبدال والتّغيير :
3 - وهي أن يجعل مكان الشّيء شيء آخر ، أو تحوّل صفته إلى صفة أخرى .
ومن هنا يتبيّن أنّ هذه الألفاظ متقاربة في المعنى ، إلاّ أنّ التّحويل لا يستعمل في تبديل ذات بذات أخرى .
أحكام التّحويل :
أ - تحويل النّيّة في الوضوء :
4 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ النّيّة من فروض الوضوء .
وذهب الحنابلة إلى أنّها شرط في صحّته .
وذهب الحنفيّة إلى أنّها سنّة مؤكّدة ، وليست شرطاً في صحّة الوضوء ، وإنّما هي شرط في وقوعه عبادةً . فمن حيث الجملة إذا حوّل النّيّة في الوضوء من نيّة رفع الحدث إلى نيّة التّبرّد أو التّنظّف ، فلا أثر لذلك في إفساد الوضوء عند الحنفيّة ، لعدم اعتبارهم النّيّة فرضاً . وإنّما يظهر أثر التّحويل في عدم اعتبار الوضوء عبادةً ، وفي هذا يقول ابن عابدين : الصّلاة تصحّ عندنا بالوضوء ، ولو لم يكن منويّاً ، وإنّما تسنّ النّيّة في الوضوء ليكون عبادةً ، فإنّه بدونها لا يسمّى عبادةً مأموراً بها .. وإن صحّت به الصّلاة .
فالوضوء مع النّيّة أو بدونها أو مع تحويلها صحيح باعتباره شرطاً لصحّة الصّلاة ، وإن كان لا يصحّ عبادة بدون النّيّة أو مع تحويلها .
أمّا المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : فيظهر أثر تحويل النّيّة عندهم في إفساد الوضوء وعدم اعتباره شرعاً من حيث الجملة . وفي ذلك تفصيل : فعند المالكيّة : رفض النّيّة في أثناء الوضوء لا يضرّ ، إذا رجع وكمّله بالنّيّة الأولى على الفور ، بأن ينوي رفع الحدث - على الرّاجح عندهم - أمّا إذا لم يكمّله أو كمّله بنيّة أخرى كنيّة التّبرّد أو التّنظيف ، فإنّه يبطل بلا خلاف ، وكذلك لو أكمله بالنّيّة الأولى ، ولكن بعد طول فصل ، فإنّه يبطل .
وعند الشّافعيّة : من نوى نيّةً صحيحةً ثمّ نوى بغسل الرّجل - مثلاً - التّبرّد أو التّنظّف فله حالان :
الحالة الأولى : أن لا تحضره نيّة الوضوء في حال غسل الرّجل ، ففيه وجهان :
الوجه الأوّل ، وهو الصّحيح : أنّه لا يصحّ غسل الرّجلين .
والوجه الثّاني : أنّه يصحّ لبقاء حكم النّيّة الأولى .
الحالة الثّانية : أن تحضره نيّة الوضوء مع نيّة التّبرّد - كما لو نوى أوّل الطّهارة الوضوء مع التّبرّد - ففيه وجهان :
الوجه الأوّل ، وهو الصّحيح : أنّ الوضوء صحيح ، لأنّ نيّة رفع الحدث حاصلة .
الوجه الثّاني : لا يصحّ غسل الرّجلين ، وذلك لتشريكه بين قربة وغيرها .
وأمّا عند الحنابلة : فإنّ من غسل بعض أعضائه بنيّة الوضوء ، وغسل بعضها بنيّة التّبرّد ، فلا يصحّ إلاّ إذا أعاد فعل ما نوى به التّبرّد بنيّة الوضوء ، بشرط أن لا يفصل فصلاً طويلاً فيكون وضوءه صحيحاً ، وذلك لوجود النّيّة مع الموالاة .
فإن طال الفصل بحيث تفوت الموالاة بطل الوضوء لفواتها .
ب - تحويل النّيّة في الصّلاة :
5 - للفقهاء في أثر تحويل النّيّة تفصيل :
ذهب الحنفيّة إلى أنّ الصّلاة لا تبطل بنيّة الانتقال إلى غيرها ولا تتغيّر ، بل تبقى كما نواها قبل التّغيير ، ما لم يكبّر بنيّة مغايرة ، بأن يكبّر ناوياً النّفل بعد الشّروع في الفرض أو عكسه ، أو الاقتداء بعد الانفراد وعكسه ، أو الفائتة بعد الوقتيّة وعكسه .
ولا تفسد حينئذ إلاّ إن وقع تحويل النّيّة قبل الجلوس الأخير بمقدار التّشهّد ، فإن وقع بعده وقبيل السّلام لا تبطل . وعند المالكيّة : نقل النّيّة سهواً من فرض إلى فرض آخر أو إلى نفل سهواً ، دون طول قراءة ولا ركوع ، مغتفر .
قال ابن فرحون من المالكيّة : إنّ المصلّي إن حوّل نيّته من فرض إلى نفل ، فإن قصد بتحويل نيّته رفع الفريضة ورفضها بطلت ، وإن لم يقصد رفضها لم تكن نيّته الثّانية منافيةً للأولى . لأنّ النّفل مطلوب للشّارع ، ومطلق الطّلب موجود في الواجب ، فتصير نيّة النّفل مؤكّدةً لا مخصّصةً .
وعند الشّافعيّة : لو قلب المصلّي صلاته الّتي هو فيها صلاةً أخرى عالماً عامداً بطلت ، فإن كان له عذر صحّت صلاته ، وانقلبت نفلاً .
وذلك كظنّه دخول الوقت ، فأحرم بالفرض ، ثمّ تبيّن له عدم دخول الوقت فقلب صلاته نفلاً ، أو قلب صلاته المنفردة نفلاً ليدرك جماعةً . لكن لو قلبها نفلاً معيّناً كركعتي الضّحى لم تصحّ . أمّا إذا حوّل نيّته بلا سبب أو غرض صحيح فالأظهر عندهم بطلان الصّلاة .
وعند الحنابلة : أنّ بطلان الصّلاة مقيّد بما إذا حوّل نيّته من فرض إلى فرض ، وتنقلب في هذه الحال نفلاً . وإن انتقل من فرض إلى نفل فلا تبطل ، لكن تكره ، إلاّ إن كان الانتفال لغرض صحيح فلا تكره ، وفي رواية : أنّها لا تصحّ ، كمن أدرك جماعةً مشروعةً وهو منفرد ، فسلم من ركعتين ليدركها ، فإنّه يسنّ له أن يقلبها نفلاً ، وأن يسلّم من ركعتين ، لأنّ نيّة الفرض تضمّنت نيّة النّفل ، فإذا قطع نيّة الفرض بقيت نيّة النّفل .
ومن هذا التّفصيل يتبيّن اتّفاق الفقهاء على أنّ تحويل نيّة الصّلاة من نفل إلى فرض لا أثر له في نقلها ، وتظلّ نفلاً ، وذلك لأنّ فيه بناء القويّ على الضّعيف ، وهو غير صحيح .
ج - تحويل النّيّة في الصّوم :
6 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة : إلى أنّ صوم الفرض لا يبطل بنيّة الانتقال إلى النّفل ، ولا ينقلب نفلاً . وهذا عند الشّافعيّة على الأصحّ من وجهين في المذهب .
وعلى الوجه الآخر ، ينقلب نفلاً إذا كان في غير رمضان ، أمّا في رمضان فلا يقبل النّفل ، لأنّ شهر رمضان يتعيّن لصوم فرض رمضان ولا يصحّ فيه غيره .
ونصّ الشّافعيّة على ى أنّ من كان صائماً عن نذر ، فحوّل نيّته إلى كفّارة أو عكسه ، لا يحصل له الّذي انتقل إليه - بلا خلاف عندهم - لأنّ من شرط الكفّارة التّبييت من اللّيل .
أمّا الصّوم الّذي نواه أوّلاً فعلى وجهين : الأوّل : يبقى على ما كان ولا يبطل .
الثّاني : يبطل . ولا ينقلب نفلاً على الأظهر . ويقابله : أنّه ينقلب نفلاً إذا كان في غير رمضان . ولكلّ من المالكيّة والحنابلة تفصيل :
أمّا المالكيّة : فذهبوا إلى أنّ من تحوّلت نيّته إلى نافلة ، وهو في فريضة ، فإن فعل هذا عبثاً عمداً فلا خلاف - عندهم - أنّه يفسد صومه . أمّا إن فعله سهواً فخلاف في المذهب .
أمّا عند الحنابلة : فإن نوى خارج رمضان قضاءً ، ثمّ حوّل نيّة القضاء إلى النّفل بطل القضاء لقطعه نيّته ، ولم يصحّ نفلاً لعدم صحّة نفل من عليه قضاء رمضان قبل القضاء ، كذا في الإقناع ، وأمّا في الفروع والتّنقيح والمنتهى فيصحّ نفلاً ، وإن كان في صوم نذر أو كفّارة فقطع نيّته ثمّ نوى نفلاً صحّ .
ونصّ الحنابلة على أنّ من قلب نيّة القضاء إلى النّفل بطل القضاء ، وذلك لتردّده في نيّته أو قطعها ، ولم يصحّ النّفل لعدم صحّة نفل من عليه قضاء رمضان قبل القضاء .
د - تحويل المحتضر إلى القبلة :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّ تحويل المحتضر إلى القبلة مندوب ، وذلك بأن يوجّه إلى القبلة على شقّه الأيمن ، إلاّ إذا تعسّر ذلك لضيق الموضع ، أو لأيّ سبب آخر ، فيلقى على قفاه ، ورجلاه إلى القبلة . ودليل تحويله إلى القبلة : حديث أبي قتادة رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة سأل عن البراء بن معرور رضي الله عنه فقالوا : توفّي ، وأوصى بثلثه لك يا رسول اللّه ، وأوصى أن يوجّه إلى القبلة لمّا احتضر . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أصاب الفطرة ، وقد رددت ثلثه على ولده ، ثمّ ذهب فصلّى عليه ، وقال : اللّهمّ اغفر له ، وارحمه ، وأدخله جنّتك . وقد فعلت » .
هـ – تحويل الرّداء في الاستسقاء :
8 - ذهب الجمهور - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ومحمّد من الحنفيّة وهو المفتى به عندهم - إلى استحباب تحويل الرّداء في الاستسقاء ، وخالف أبو حنيفة ، فلا يحوّل الرّداء عنده في الاستسقاء . لأنّه دعاء لا صلاة فيه عنده . وعن أبي يوسف روايتان .
ومعنى تحويل الرّداء : أن يجعل ما على عاتقه الأيمن على عاتقه الأيسر ، وبالعكس .
وذهب الشّافعيّة - على القول الجديد الصّحيح عندهم - إلى استحباب التّنكيس كذلك . وهو : أن يجعل أعلى الرّداء أسفله وبالعكس ، خلافاً للمالكيّة والحنابلة فإنّهم لا يقولون بالتّنكيس. ومحلّ تحويل الرّداء عند التّوجّه إلى القبلة للدّعاء ، وهو عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أثناء الخطبة . وعند المالكيّة بعد الفراغ من الخطبتين . ودليل تحويل الرّداء من السّنّة : حديث عبد اللّه بن زيد رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج يستسقي ، فتوجّه إلى القبلة يدعو وحوّل رداءه ، ثمّ صلّى ركعتين جهر فيهما بالقراءة » .
وقد قيل : إنّ الحكمة من تحويل الرّداء التّفاؤل بتغيير الحال إلى الخصب والسّعة .
ويستحبّ تحويل الرّداء للإمام والمأمومين عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، خلافاً للحنفيّة فلا يحوّل رداءه إلاّ الإمام في القول المفتى به .
و - تحويل الدّين :
9 - عرّف الفقهاء الحوالة بالدّين تعريفات متقاربةً ، منها : تحوّل الحقّ من ذمّة إلى ذمّة أخرى في المطالبة . ومنها : نقل الدّين وتحويله من ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه . ومشروعيّتها ثابتة بالإجماع . ومستندها قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « مطل الغنيّ ظلم ، وإذا أحيل أحدكم على مليء فليتبع » .
ويظهر أثر الحوالة في نقل المال المحال به من ذمّة المحيل إلى ذمّة المحال عليه .
فيبرأ بالحوالة المحيل عن دين المحال ، ويبرأ المحال عليه عن دين المحيل ، ويتحوّل حقّ المحال إلى ذمّة المحال عليه ، هذا في الحوالة المقيّدة ، وهي الأغلب حيث يكون المحيل دائناً للمحال عليه . أمّا في الحوالة المطلقة ، وهي : إذا لم يكن المحيل دائنا للمحال عليه ، فإنّ البراءة تحصل للمحيل فقط . وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( حوالة ) .
تحيّز *
التّعريف :
1 - التّحيّز : من معانيه في اللّغة : الميل . ومنه قوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمَنوا إذا لَقِيتُم الّذين كَفَروا زَحْفاً فلا تُوَلُّوهمُ الأدبارَ ومن يُوَلِّهم يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاّ مُتَحرِّفَاً لقتال أو متحيِّزاً إلى فِئَةٍ } معناه أو مائلاً إلى جماعة من المسلمين ، ويقال : انحاز الرّجل إلى القوم بمعنى تحيّز إليهم .
وفي لسان العرب : انحاز القوم : تركوا مركزهم ومعركة قتالهم ومالوا إلى موضع آخر . وفي الاصطلاح : التّحيّز إلى فئة : أن يصير المقاتل إلى فئة من المسلمين ، ليكون معهم فيتقوّى بهم على عدوّهم ، وسواء بعدت المسافة أم قربت . فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « أنا فئة المسلمين »
وكانوا بمكان بعيد عنه . وقال عمر رضي الله عنه :" أنا فئة كلّ مسلم " وكان بالمدينة وجيوشه بمصر والشّام والعراق وخراسان . رواهما سعيد بن منصور .
وقال عمر :" رحم اللّه أبا عبيدة ، لو كان تحيّز إليّ لكنت له فئةً ".
الألفاظ ذات الصّلة :
التّحرّف :
2 - التّحرّف من معانيه في اللّغة : الميل والعدول . فإذا مال الإنسان عن شيء يقال : تحرّف وانحرف واحرورف . وقوله تعالى : { إلاّ متحرّفاً لقتال } أي مائلاً لأجل القتال لا مائلاً هزيمةً ، فإنّ ذلك معدود من مكايد الحرب ، لأنّه قد يكون لضيق المجال ، فلا يتمكّن من الجولان ، فينحرف للمكان المتّسع ، ليتمكّن من القتال .
والتّحرّف في الاصطلاح : أن ينتقل المقاتل إلى موضع يكون القتال فيه أمكن ، مثل أن ينتقل من مواجهة الشّمس أو الرّيح إلى استدبارهما ، أو من منخفض إلى علو أو عكسه ، أو من معطشة إلى موضع ماء ، أو ليجد فيهم فرصةً ، أو ليستند إلى جبل ، ونحو ذلك ممّا جرت به عادة أهل الحرب . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( تحرّف ) .
فالتّحيّز والتّحرّف يكونان فيما إذا التقى المسلمون والكفّار في الحرب ، والتحم جيشاهما ، فالمتحيّز إن وجد من نفسه أن لا قدرة له على مواجهة عدوّه والظّفر به لكثرة عدده وعدده ، إلاّ بأن يستنصر ويستنجد بغيره من فئات المسلمين ، فإنّه يباح له أن ينحاز إلى فئة منهم ، ليتقوّى بهم ، ويستطيع بذلك قهر العدوّ والظّفر به والنّصر عليه .
والمتحرّف لقتال إذا رأى أن يكيد لخصمه ويتغلّب عليه ، وأنّ السّبيل إلى النّيل منه والظّفر به والنّصر عليه ، إنّما في تغيير خططه ، سواء أكانت في تغيير المكان ، أم في التّراجع ليسحب العدوّ وراءه ، ويعاوده بالهجوم عليه إلى غير ذلك ، ممّا يطلق عليه ( الخدع الحربيّة ) فإنّه يباح له ذلك ، إذ الحرب خدعة . أمّا لغير ذلك فلا يحلّ لكلّ منهما .
الحكم الإجماليّ :
3 - التّحيّز مباح ، إذا استشعر المتحيّز عجزاً محوجاً إلى الاستنجاد بغيره من المسلمين ، وكان بقصد الانضمام إلى فئة ، أي جماعة من النّاس ، ليتقوّى بهم على محاربة عدوّهم وإيقاع الهزيمة به والنّصر عليه . فإذا انتفى ذلك يكون فراراً ، وهو حرام ، لقوله تعالى :
{ يا أيّها الّذين آمنوا إذا لَقِيتُم الّذين كفروا زَحْفَاً فلا تُوَلُّوهُم الأدبارَ ومَنْ يُوَلِّهم يومئذٍ دُبُرَه إلاّ مُتَحرِّفَاً لِقِتالٍ أو مُتَحيِّزاً إلى فئةٍ فقد باءَ بِغَضَبٍ من اللّهِ ومَأواه جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصيرُ } . فإذا التقى المسلمون والكفّار في الحرب والتحم الجيشان ، وجب على المسلمين كأصل عامّ أن يثبتوا في مواجهة عدوّهم ، وحرم عليهم أن يفرّوا ، لقوله تعالى : { فلا تولّوهم الأدبار } . وقوله سبحانه : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا لقيتُم فِئَةً فاثبتوا واذكروا اللّه كثيراً لعلّكم تفلحون } .
4 - وعدَّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم الفرار عند الزّحف من الكبائر في أحاديث كثيرة منها : ما أخرجه الشّيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « اجتنبوا السّبع الموبقات قالوا : يا رسول اللّه وما هنّ ؟ قال : الشّرك باللّه تعالى ، والسّحر ، وقتل النّفس الّتي حرّم اللّه تعالى إلاّ بالحقّ ، وأكل الرّبا ، وأكل مال اليتيم ، والتّولّي يوم الزّحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » .
فثبات المسلمين في مواجهة أعدائهم الكفرة وحرمة فرارهم من لقائهم واجب ، إذا كانوا في مثل عددهم أو على النّصف منهم أو أقلّ من ذلك ، لقوله تعالى : { فإنْ يَكُنْ منكم مائةٌ صابرةٌ يَغْلِبُوا مائتين وإن يكنْ منكم ألفٌ يغلبوا ألفين بإِذنِ اللّهِ واللّهُ مع الصّابرين } .
إلاّ إن كان ذلك بقصد تحيّزهم إلى فئة من المسلمين تناصرهم وتشدّ من أزرهم ويتقوّون بها على أعدائهم ، وسواء أكانت هذه الفئة قريبةً لهم أم بعيدةً عنهم ، لعموم قوله تعالى : { أو متحيّزاً إلى فئة } قال القاضي أبو يعلى : لو كانت الفئة بخراسان والفئة بالحجاز جاز التّحيّز إليها ، لحديث ابن عمر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّي فئة لكم » وكانوا بمكان بعيد عنه . وقال عمر : " أنا فئة لكلّ مسلم " وكان بالمدينة وجيوشه بالشّام والعراق وخراسان . وقال عمر :" رحم اللّه أبا عبيدة لو كان تحيّز إليّ لكنت له فئةً ".
5- فإن زاد الكفّار على مثلي عدد المسلمين فيباح للمسلمين أن ينسحبوا ، لأنّ اللّه تعالى لمّا أوجب على المائة مصابرة المائتين في قوله : { فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } دلّ على أنّه لا يجب عليهم مصابرة ما زاد على المائتين .
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال :" من فرّ من اثنين فقد فرّ ، ومن فرّ من ثلاثة فلَمْ يفرّ وفي رواية أخرى : " فما فرّ " إلاّ أنّه إن غلب على ظنّ المسلمين الظّفر بهم والنّصر عليهم ، فيلزمهم الثّبات إعلاءً لكلمة اللّه .
وإن غلب على ظنّهم الهلاك في البقاء والنّجاة في الانصراف فالأولى لهم الانصراف ، لقوله تعالى : { ولا تُلْقُوا بأيدِيْكم إلى التَّهْلُكَةِ } وإن ثبتوا جاز لأنّ لهم غرضاً في الشّهادة ، وحتّى لا ينكسر المسلمون ، ولأنّه يجوز أن يغلبوا الكفّار ، ففضل اللّه واسع ، وهذا ما عليه جمهور الفقهاء . وقال المالكيّة : إن بلغ المسلمون اثني عشر ألفاً حرم عليهم الفرار ، ولو كثر الكفّار جدّاً ، ما لم تختلف كلمتهم ، وما لم يكن بقصد التّحيّز لقتال .
تحيّة *
التّعريف :
1 - التّحيّة مصدر حيّاه يحيّيه تحيّةً ، أصله في اللّغة : الدّعاء بالحياة ، ومنه " التّحيّات للّه " أي البقاء ، وقيل : الملك ، ثمّ كثر حتّى استعمل في ما يحيّا به من سلام ونحوه ، وتحيّة اللّه الّتي جعلها في الدّنيا والآخرة لمؤمني عباده السّلام ، فقد شرع لهم إذا تلاقوا ودعا بعضهم لبعض بأجمع الدّعاء أن يقولوا : السّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته . قال اللّه تعالى : { وإذا حُيِّيتُم بِتحيّةٍ فحيّوا بأحسنَ منها أو رُدُّوها } .
واستعمل الفقهاء عبارة ( التّحيّة ) في غير السّلام لتحيّة المسجد .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - حكم التّحيّة النّدب بلا خلاف بين جمهور الفقهاء ، وهي تختلف في الأداء كما يلي :
أ - التّحيّة بين الأحياء :
3 - أجمع العلماء على أنّ الابتداء بالسّلام سنّة مرغّب فيها ، وردّه فريضة لقوله تعالى :
{ وإذا حُيِّيتُم بتحيّةٍ فَحَيُّوا بأحسنَ منها أو رُدُّوها } . وللتّفصيل ر : ( سلام ) .
ب - تحيّة الأموات :
4 - تحيّة من في القبور السّلام ، فإذا مرّ المسلم بالقبور أو زارها استحبّ أن يقول ما ورد وهو : « السّلام عليكم أهل الدّيار من المؤمنين والمسلمين ، وإنّا إن شاء اللّه بكم لَلاحقون ، نسأل اللّه لنا ولكم العافية » وفي حديث عائشة : « ويرحم اللّه المستقدمين منّا ، والمستأخرين » .
ج - تحيّة المسجد :
5 - يرى جمهور الفقهاء أنّه يسنّ لكلّ من يدخل مسجداً غير المسجد الحرام - يريد الجلوس به لا المرور فيه ، وكان متوضّئاً - أن يصلّي ركعتين أو أكثر قبل الجلوس . والأصل فيه حديث رواه أبو قتادة رضي الله عنه : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتّى يركع ركعتين » ومن لم يتمكّن منهما لحدث أو غيره يقول ندباً : سبحان اللّه ، والحمد للّه ، ولا إله إلاّ اللّه ، واللّه أكبر ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم . فإنّها تعدل ركعتين كما في الأذكار ، وهي الباقيات الصّالحات ، والقرض الحسن . ويسنّ لمن جلس قبل الصّلاة أن يقوم فيصلّي ، لما روى جابر رضي الله عنه قال : « جاء سليك الغطفانيّ ، ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخطب ، فقال : يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوّز فيهما » فإنّها لا تسقط بالجلوس .
كما أنّه لا خلاف بينهم في أنّ تحيّة المسجد تتأدّى بفرض أو نفل .
6- وأمّا إذا تكرّر دخوله ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة - إن قرب رجوعه له عرفاً - والشّافعيّة في قول مقابل الأصحّ عندهم : إلى أنّه تكفيه لكلّ يوم مرّةً .
والأصحّ عند الشّافعيّة تكرّر التّحيّة بتكرّر الدّخول على قرب كالبعد .
وإذا كانت المساجد متلاصقةً ، فتسنّ التّحيّة لكلّ واحد منها .
7 - وكذلك اختلف الفقهاء بالنّسبة لمن دخل المسجد والإمام يخطب : فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه يجلس ويكره له أن يركع ركعتين ، لقوله تعالى : { فاستمِعُوا له وأَنْصِتُوا } ، والصّلاة تفوّت الاستماع والإنصات ، فلا يجوز ترك الفرض لإقامة السّنّة ، وإليه ذهب شريح ، وابن سيرين والنّخعيّ وقتادة والثّوريّ واللّيث .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يركع ركعتين يوجز فيهما ، لحديث سليك الغطفانيّ المتقدّم . وبهذا قال الحسن وابن عيينة ومكحول وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر .
د - تحيّة الكعبة :
8 - إذا وصل المحرم مكّة ودخل المسجد ورأى البيت ، يرفع يديه ويقول : « اللّهمّ زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابةً ، وزد من شرّفه وعظّمه ممّن حجّه أو اعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً » . لحديث رواه الشّافعيّ والبيهقيّ ويقول : « اللّهمّ أنت السّلام ، ومنك السّلام فحيّنا ربّنا بالسّلام » . وعند الحنفيّة يقول ذلك ، ولكن لا يرفع يديه .
هـ – تحيّة المسجد الحرام :
9 – ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ تحيّة المسجد الحرام الطّواف للقادم لمكّة ، سواء كان تاجراً أو حاجّاً أو غيرهما ، لقول عائشة رضي الله عنها عنها : « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين قدم مكّة توضّأ ، ثمّ طاف بالبيت » وركعتا تحيّة المسجد الحرام تجزئ عنهما الرّكعتان بعد الطّواف .
إلاّ إذا كان للدّاخل فيه عذر مانع ، أو لم يرد الطّواف ، فيصلّي ركعتين إن لم يكن وقت كراهة . وإذا خاف فوات المكتوبة أو جماعتها ، أو الوتر ، أو سنّةً راتبةً قدّمها على الطّواف ، إلاّ أنّه لا تحصل بها تحيّة المسجد الحرام ، بخلاف سائر المساجد .
10 - وأمّا المكّيّ الّذي لم يؤمر بطواف ، ولم يدخله لأجل الطّواف ، بل للصّلاة أو لقراءة القرآن أو للعلم ، فتحيّة المسجد الحرام في حقّه الصّلاة ، كتحيّة سائر المساجد . ونصّ أحمد على أنّ الطّواف لغريب أفضل من الصّلاة في المسجد الحرام .
وعن ابن عبّاس : أنّ الطّواف لأهل العراق ، والصّلاة لأهل مكّة ، وإليه ذهب عطاء .
وينظر للتّفصيل مصطلح : ( طواف ) .
و - تحيّة المسجد النّبويّ :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّ من دخل المسجد النّبويّ يستحبّ له أن يقصد الرّوضة إن تيسّر له - وهي ما بين القبر والمنبر - ويصلّي ركعتين تحيّة المسجد بجنب المنبر ، لحديث جابر قال : « جاء سليك ... » ثمّ يأتي قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويقول : السّلام عليك يا رسول اللّه، ثمّ يسلّم على أبي بكر رضي الله عنه ، ثمّ على عمر رضي الله عنه .
حكم التّحيّة بغير السّلام للمسلم :
12 - ذهب عامّة العلماء إلى أنّ التّحيّة بغير السّلام للمسلم ، كنحو : صبّحك اللّه بالخير ، أو السّعادة ، أو طاب حماك ، أو قوّاك اللّه ، من الألفاظ الّتي يستعملها النّاس في العادة لا أصل لها ، ولا يجب الرّدّ على قائلها ، لكن لو دعا له مقابل ذلك كان حسناً .
13 - كما أنّ عامّة أهل العلم يرون أنّ الرّدّ على من حيّا بغير السّلام غير واجب ، سواء أكانت تحيّته بلفظ ، أم بإشارة بالإصبع ، أو الكفّ أو الرّأس ، إلاّ إشارة الأخرس أو الأصمّ ، فيجب الرّدّ بالإشارة مع اللّفظ ، ليحصل به الإفهام ، لأنّ إشارته قائمة مقام العبارة .
14 - وأمّا الرّدّ بغير السّلام على من ألقى السّلام ، فعامّة أهل العلم يرون أنّه لا يجزئ ، ولا يسقط الرّدّ الواجب ، لأنّه يجب أن يكون بالمثل . لقوله تعالى : { وإذا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بأَحْسَنَ منها أو رُدُّوها } .
حكم التّحيّة بالسّلام لغير المسلم :
15 - حكم التّحيّة لغير المسلم بالسّلام عليكم ممنوع على سبيل الحرمة أو الكراهة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تبدءوا اليهود ولا النّصارى بالسّلام ، وإذا سلّموا هم على مسلم قال في الرّدّ : وعليكم . ولا يزيد على هذا » .
16 - قال ابن القيّم : هذا كلّه إذا تحقّق أنّه قال : السّام عليكم ، أو شكّ فيما قال ، فلو تحقّق السّامع أنّ الذّمّيّ قال له : " سلام عليكم " لا شكّ فيه ، فهل له أن يقول : وعليك السّلام ، أو يقتصر على قوله : وعليك ؟ فالّذي تقتضيه الأدلّة الشّرعيّة وقواعد الشّريعة أن يقال له : وعليك السّلام ، فإنّ هذا من باب العدل ، واللّه يأمر بالعدل والإحسان ، وقد قال تعالى : { وإذا حُيِّيتُم بِتَحيّةٍ فَحَيُّوا بِأَحسنَ منها أو رُدُّوها } .
فندب إلى الفضل ، وأوجب العدل ، ولا ينافي هذا شيئاً من أحاديث الباب بوجه ما ، فإنّه صلى الله عليه وسلم إنّما أمر بالاقتصار على قول الرّادّ " وعليكم " ، بناءً على السّبب المذكور الّذي كانوا يعتمدونه في تحيّتهم ، وأشار إليه في حديث عائشة رضي الله عنها فقال « ألا ترينني قلت : وعليكم ، لمّا قالوا : السّام عليكم . ثمّ قال : إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم »
والاعتبار وإن كان لعموم اللّفظ فإنّما يعتبر عمومه في نظير المذكور لا فيما يخالفه . قال تعالى { وإذا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بما لمْ يُحَيِّكَ به اللّهُ ، ويقولونَ في أَنْفُسِهم لولا يُعَذِّبُنا اللّهُ بما نقولُ } فإذا زال هذا السّبب وقال الكتابيّ : سلام عليكم ورحمة اللّه ، فالعدل في التّحيّة يقتضي أن يردّ عليه نظير سلامه . وباللّه التّوفيق .
17 - وأمّا حكم التّحيّة بغير السّلام للكافر ، فيرى الحنفيّة والمالكيّة ، وبعض الشّافعيّة والحنابلة : أنّها مكروهة ما لم تكن لعذر ، أو غرض كحاجة أو جوار أو قرابة ، فإذا كانت لعذر فلا كراهة فيها .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة في الرّاجح عندهم ، إلى حرمة تحيّة الكفّار ولو بغير السّلام .
تخارج *
التّعريف :
1 - التّخارج في اللّغة : مصدر تخارج ، يقال : تخارج القوم : إذا أخرج كلّ واحد منهم نفقةً على قدر نفقة صاحبه . وتخارج الشّركاء : خرج كلّ واحد من شركته عن ملكه إلى صاحبه بالبيع . وفي الاصطلاح هو : أن يصطلح الورثة على إخراج بعضهم بشيء معلوم .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الصّلح :
2 - الصّلح لغةً : اسم للمصالحة الّتي هي المسالمة خلاف المخاصمة. واصطلاحاً : عقد وضع لرفع المنازعة . وهو أعمّ من التّخارج ، لأنّه يشمل المصالحة في الميراث وغيره .
ب - القسمة أو التّقاسم :
3 - القسمة لغةً ، اسم للاقتسام أو التّقسيم ، وتقاسموا الشّيء : قسموه بينهم ، وهو أن يأخذ كلّ واحد نصيبه . وشرعاً : جمع نصيب شائع في مكان معيّن .
والفرق بينهما أنّه في القسمة يأخذ جزءاً من المال المشترك ، أمّا في التّخارج فإنّ الوارث الّذي يخرج يأخذ شيئاً معلوماً ، سواء أكان من التّركة أم من غيرها .
الحكم التّكليفيّ :
4 - التّخارج جائز عند التّراضي ، والأصل في جوازه ما روي أنّ عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه طلّق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبيّة في مرض موته ، ثمّ مات وهي في العدّة ، فورّثها عثمان رضي الله تعالى عنه مع ثلاث نسوة أخر ، فصالحوها عن ربع ثُمُنها على ثلاثة وثمانين ألفاً . قيل من الدّنانير ، وقيل من الدّراهم .
حقيقة التّخارج :
5 - الأصل في التّخارج أنّه عقد صلح بين الورثة لإخراج أحدهم ، ولكنّه يعتبر عقد بيع إن كان البدل المصالح عليه شيئاً من غير التّركة .
ويعتبر عقد قسمة ومبادلة ، إن كان البدل المصالح عليه من مال التّركة ، وقد يكون هبةً أو إسقاطاً للبعض ، إن كان البدل المصالح عليه أقلّ من النّصيب المستحقّ . وهذا في الجملة . ويشترط في كلّ حالة شروطها الخاصّة .
من يملك التّخارج :
6 - التّخارج عقد صلح ، وهو في أغلب أحواله يعتبر من عقود المعاوضات ، ولذلك يشترط فيمن يملك التّخارج أهليّة التّعاقد ، وذلك بأن يكون عاقلاً غير محجور عليه ، فلا يصحّ التّخارج من الصّبيّ الّذي لا يميّز ، ولا من المجنون وأشباهه .
ويشترط أن يكون ذا إرادة ، لأنّ التّخارج مبناه على الرّضا . ( ر : إكراه ) .
ويشترط فيمن يملك التّخارج كذلك أن يكون مالكاً لما يتصرّف فيه . وفي تصرّف الفضوليّ خلاف بين من يجيزه موقوفاً على إجازة المالك ، وهم الحنفيّة والمالكيّة ، وبين من لا يجيزه ، وهم الشّافعيّة والحنابلة . وفي ذلك تفصيل موضعه مصطلح ( فضوليّ ) .
وقد يكون ملك التّصرّف بالوكالة ، وحينئذ يجب أن يقتصر التّصرّف على المأذون به للوكيل . ( ر : وكالة ) . وقد يكون ملك التّصرّف كذلك بالولاية الشّرعيّة كالوليّ والوصيّ ، وحينئذ يجب أن يقتصر تصرّفهما على ما فيه الحظّ للمولّى عليه . فقد نقل ابن فرحون عن مفيد الحكّام في الأب يصالح عن ابنته البكر ببعض حقّها من ميراث أو غير ذلك ، وحقّها بيّن لا خصام فيه ، أنّ صلحه غير جائز ، إذ لا نظر فيه ، أي لا مصلحة ، وترجع الابنة ببقيّته على من هو عليه . وينظر تفصيل ذلك في : ( وصاية ، ولاية ) .
شروط صحّة التّخارج :
للتّخارج شروط عامّة باعتباره عقد صلح ، وشروط خاصّة بصور التّخارج تختلف باختلاف الصّور ، وستذكر عند بيانها .
أمّا الشّروط العامّة فهي :
7 - أ - يشترط لصحّة التّخارج أن تكون التّركة - محلّ التّخارج - معلومةً ، إذ التّخارج في الغالب بيع في صورة صلح ، وبيع المجهول لا يجوز ، وكذا الصّلح عنه ، وذلك إذا أمكن الوصول إلى معرفة التّركة ، فإذا تعذّر الوصول إلى معرفتها جاز الصّلح عن المجهول ، كما إذا صالحت الزّوجة عن صداقها ، ولا علم لها ولا للورثة بمبلغه ، وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والإمام أحمد ، وبعض الحنابلة الّذين لا يجيزون الصّلح عن المجهول .
والمشهور عند الحنابلة جواز الصّلح عن المجهول مطلقاً ، سواء تعذّر علمه أو لم يتعذّر . ودليل الصّلح عن المجهول عند تعذّر العلم به : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لرجلين اختصما في مواريث درست : اقتسما وتوخّيا الحقّ ثمّ استهما ثمّ تحالاّ » .
أمّا عند الحنفيّة فلا يشترط أن تكون أعيان التّركة معلومةً فيما لا يحتاج إلى قبض ، لأنّه لا حاجة فيه إلى التّسليم ، وبيع ما لم يعلم قدره جائز ، كمن أقرّ بغصب شيء ، فباعه المقرّ له من المقرّ جاز وإن لم يعرفا قدره ، ولأنّ الجهالة هنا لا تفضي إلى المنازعة ، ودليل جواز ذلك أثر عثمان في تخارج تماضر امرأة عبد الرّحمن بن عوف .
8- ب - أن يكون البدل مالاً متقوّماً معلوماً منتفعاً به مقدوراً على تسليمه ، فلا يصحّ أن يكون البدل مجهولاً جنساً أو قدراً أو صفةً ، ولا أن يكون ممّا لا يصلح عوضاً في البيع . وهذا في الجملة ، إذ عند الحنفيّة والحنابلة : إذا كان العوض لا يحتاج إلى تسليم ، وكان لا سبيل إلى معرفته كالمختصمين في مواريث دارسة ، فإنّه يجوز مع الجهالة .
9- ج - التّقابض في المجلس فيما يعتبر صرفاً ، كالتّخارج عن أحد النّقدين بالآخر ، وكذا فيما إذا اتّفق المصالح عنه والمصالح عليه في علّة الرّبا .
وهذا باتّفاق في الأصل ، مع الاختلاف في التّفاصيل الّتي سترد عند ذكر صور التّخارج .
10 - د - توافر شروط بيع الدّين إذا كان للتّركة دين على الغير ، وهذا عند من يجيز بيع الدّين لغير من هو عليه كالمالكيّة والشّافعيّة ، أو يراعى استعمال الحيلة لجواز التّخارج كالإبراء أو الحوالة به كما يقول الحنفيّة ، وسيأتي تفصيل ذلك عند ذكر الصّور .
صور التّخارج :
لم ترد صور مفصّلة للتّخارج عند الشّافعيّة والحنابلة ، وإنّما ورد ذلك مفصّلاً عند الحنفيّة والمالكيّة مع الاختلاف في الاتّجاهات ،ولا تظهر هذه الاتّجاهات إلاّ بذكر كلّ مذهب على حدة.
صور التّخارج عند الحنفيّة :
11 - إذا تخارج الورثة مع أحدهم عن نصيبه في التّركة على شيء من المال يدفعونه له ، فلذلك صور تختلف بحسب نوع البدل الّذي يدفعونه ،وبحسب نوعيّة التّركة ، وذلك كما يلي :
أ - إذا كانت التّركة عقاراً أو عرضاً ، فأخرج الورثة أحدهم منها بمال أعطوه إيّاه ، جاز التّخارج سواء أكان ما أعطوه أقلّ من حصّته أم أكثر ، لأنّه أمكن تصحيحه بيعاً ، والبيع يصحّ بالقليل والكثير من الثّمن . ولا يصحّ جعله إبراءً ، لأنّ الإبراء من الأعيان غير المضمونة لا يصحّ . ولا يشترط معرفة مقدار حصّته من التّركة ، إذ الجهالة هنا لا تفسد البيع ، لأنّها لا تفضي إلى النّزاع ، لأنّ المبيع هنا لا يحتاج إلى تسليم .
ب - إذا كانت التّركة ذهباً فأعطوه فضّةً ، أو كانت فضّةً فأعطوه ذهباً جاز الصّلح أيضاً ، سواء أكان ما أعطوه أقلّ من نصيبه أم أكثر ، لأنّه بيع الجنس بخلاف الجنس ، فلا يعتبر التّساوي . لكن يشترط القبض في المجلس لكونه صَرْفاً .
غير أنّ الوارث الّذي في يده بقيّة التّركة إن كان جاحداً وجودها في يده يكتفي بذلك القبض ، لأنّه قبض ضمان فينوب عن قبض الصّلح .
والأصل في ذلك أنّه متى تجانس القبضان ، بأن يكون قبض أمانة أو قبض ضمان ناب أحدهما مناب الآخر ، أمّا إذا اختلفا فالمضمون ينوب عن غيره .
وإن كان الّذي في يده بقيّة التّركة مقرّاً ، فإنّه لا بدّ من تجديد القبض ، وهو الانتهاء إلى مكان يتمكّن من قبضه ، لأنّه قبض أمانة ، فلا ينوب عن قبض الصّلح .
ج - وإن كانت التّركة دراهم ودنانير ، وبدل الصّلح كذلك دراهم ودنانير ، جاز الصّلح كيفما كان ، صرفاً للجنس إلى خلاف جنسه كما في البيع ، لكن لا بدّ من القبض في المجلس لكونه صَرْفاً .
د - وإن كانت التّركة ذهباً وفضّةً وغير ذلك من العروض والعقار ، فصالحوه على أحد النّقدين فلا يجوز الصّلح ، إلاّ أن يكون ما أعطي له أكثر من حصّته من ذلك الجنس ، ليكون نصيبه بمثله ، والزّيادة تكون في مقابل حقّه من بقيّة التّركة احترازاً عن الرّبا ، ولا بدّ من التّقابض فيما يقابل نصيبه ، لأنّه صرف في هذا القدر .
فإن كان ما أعطوه مساوياً لنصيبه ، أو كان أقلّ من نصيبه بطل الصّلح لوجود الرّبا ، لأنّه إذا كان البدل مساوياً تبقى الزّيادة من غير جنس البدل خاليةً عن العوض ، فيكون رباً .
وإن كان البدل أقلّ من نصيبه تبقى الزّيادة من جنس ذلك ومن غير جنسه خاليةً عن العوض ، فيكون رباً . وتعذّر تجويزه بطريق المعاوضة للزوم الرّبا ، ولا يصحّ تجويزه بطريق الإبراء عن الباقي ، لأنّ الإبراء عن الأعيان باطل .
وكذلك يبطل التّخارج إن كان نصيبه مجهولاً لاحتمال الرّبا ، لأنّ الفساد على تقدير أن يكون البدل مساوياً له أو أقلّ ، فكان أرجح وأولى بالاعتبار .
ونقل عن الحاكم أبي الفضل أنّ الصّلح إنّما يبطل على أقلّ من نصيبه في مال الرّبا في حالة التّصادق ، أمّا في حالة التّناكر بأن أنكروا وراثته فالصّلح جائز ، لأنّه في حالة المناكرة يكون المدفوع لقطع المنازعة ولافتداء اليمين ، أو لحمله على أخذ عين الحقّ في قدر المأخوذ وإسقاط الحقّ في الباقي ، كما قالوا في الصّلح عن الدّين بأقلّ من جنسه .
هـ - ولو كانت التّركة ذهباً وفضّةً وغير ذلك من العروض والعقار فصالحوه على عرض جاز الصّلح مطلقاً ، سواء أكان ما أعطوه أقلّ من نصيبه أو أكثر .
و - إذا كانت أعيان التّركة مجهولةً والصّلح على المكيل أو الموزون ففيه اختلاف . قال المرغينانيّ : لا يجوز الصّلح لما فيه من احتمال الرّبا ، بأن يكون في التّركة مكيل أو موزون من جنسه ، فيكون في حقّه بيع المقدّر بجنسه جزافاً .
وقال الفقيه أبو جعفر : يجوز لاحتمال أن لا يكون في التّركة من ذلك الجنس ، وإن كان فيها فيحتمل أن يكون نصيبه من ذلك الجنس في التّركة أقلّ ممّا وقع عليه الصّلح فلا يلزم الرّبا ، واحتمال أن يكون نصيبه من ذلك أكثر ، أو مثل ما وقع عليه الصّلح هو احتمال الاحتمال ، ففيه شبهة الشّبهة وليست بمعتبرة .
وقول أبي جعفر هو الصّحيح على ما في الزّيلعيّ وفتاوى قاضي خان .
ز - وإن كانت أعيان التّركة مجهولةً ، وهي غير مكيل أو موزون في يد بقيّة الورثة ، وكان الصّلح على المكيل أو الموزون قيل : لا يجوز ، لأنّه بيع المجهول ، لأنّ المصالح باع نصيبه من التّركة وهو مجهول بما أخذ من المكيل والموزون .
والأصحّ أنّه يجوز ، لأنّ الجهالة هنا لا تفضي إلى المنازعة لعدم الحاجة إلى التّسليم ، لقيام التّركة في يدهم ، حتّى لو كانت في يد المصالح أو بعضها لم يجز الصّلح ، ما لم يعلم جميع ما في يده للحاجة إلى التّسليم .
صور التّخارج عند المالكيّة :
يفرّق المالكيّة بين أن يكون بدل التّخارج من نفس التّركة ، وبين أن يكون من غيرها .
أوّلاً : إذا كان بدل التّخارج من نفس التّركة :
12 - إذا كانت التّركة قد اشتملت على عرض وفضّة وذهب ، وصالح الورثة أحدهم عن إرثه . كزوجة مثلاً مات زوجها فصالحها الابن على ما يخصّها من التّركة ، فإنّ الصّلح يجوز في الحالات الآتية :
أ - إذا أخذت ذهباً من التّركة قدر حصّتها من ذهب التّركة أو أقلّ ، أو أخذت دراهم من التّركة قدر حصّتها من دراهم التّركة أو أقلّ ، وذلك كصلحها بعشرة دنانير أو أقلّ والذّهب ثمانون عند الفرع الوارث ، لأنّها أخذت حظّها ( أي : الثُّمُن ) من الدّنانير أو بعضه فيكون الباقي كأنّه هبة للورثة . ولكن يشترط أن يكون الذّهب الّذي أخذت منه حاضراً كلّه ، أو تكون الدّراهم حاضرةً كلّها إن أخذت منها ، وسواء حضر ما عدا ذلك من التّركة أم غاب ، لأنّ النّوع الّذي أخذت منه لو كان بعضه غائباً ترتّب على ذلك صورة ممنوعة ، وهي : اشتراط تعجيل الثّمن في بيع الشّيء الغائب بيعاً لازماً .
ب - إذا أخذت ذهباً من التّركة زائداً على حظّها ديناراً واحداً فقط . كصلحها بأحد عشر من الثّمانين الحاضرة ، لأنّها أخذت نصيبها من الدّنانير ، وباعت لباقي الورثة حظّها من الدّراهم والعرض بالدّينار الزّائد ، فجميع ما فيه من البيع والصّرف دينار ، لأنّه لا يجوز أن يجتمع البيع والصّرف في أكثر من دينار .
ولكن يشترط في هذه الحالة أن تكون التّركة كلّها من عرض ونقد حاضرةً .
ج - إذا صولحت بذهب من ذهب التّركة ، وكان ما أخذته يزيد عمّا يخصّها من الذّهب أكثر من دينار ، جاز هذا الصّلح إن قلّت الدّراهم الّتي تستحقّها عن صرف دينار ، أو قلّت قيمة العروض الّتي تستحقّها عن صرف دينار ، أو قلّت الدّراهم والعروض عن صرف دينار . وإنّما جاز في هذه الحالات لاجتماع البيع والصّرف في دينار واحد فقط ، لأنّه لا يجوز أن يجتمع البيع والصّرف في أكثر من دينار .
ويشترط أن تكون التّركة كلّها معلومةً وحاضرةً . فإن كانت الدّراهم وقيمة العروض أكثر من صرف دينار منع الصّلح حينئذ ، لأنّه يؤدّي إلى اجتماع البيع والصّرف في أكثر من دينار .
د - إذا صولحت بعرض من عروض التّركة جاز الصّلح مطلقاً ، سواء أكان ما أخذته قدر نصيبها أم أقلّ أم أكثر .
ثانياً : إذا كان بدل التّخارج من غير التّركة :
13 - إذا كان بدل التّخارج من غير التّركة فإنّ حكم الصّلح يختلف تبعاً لاختلاف الحالات وهي :
أ - إذا كانت التّركة عروضاً وفضّةً وذهباً ، وصالحها الورثة بذهب من غير ذهب التّركة ، أو بفضّة من غير فضّة التّركة ، فلا يجوز هذا الصّلح ، قلّ ما أخذته عن نصيبها أو كثر ، لأنّه بيع ذهب وفضّة وعرض بذهب أو فضّة ، وهذا ربا فضل ، وفيه ربا النّساء إن غابت التّركة كلّها أو بعضها ، لأنّ حكمه حكم النّقد إذا صاحبه النّقد .
ب - إذا كانت التّركة كما ذكر في الصّورة السّابقة ، وصالح الورثة الزّوجة بعرض من غير عرض التّركة جاز هذا الصّلح بشروط هي :
أن تكون التّركة كلّها معلومةً للمتصالحين ليكون الصّلح على معلوم ، وأن تكون التّركة جميعها حاضرةً حقيقةً في العين أو حكماً في العرض ، بأن كانت قريبة الغيبة بحيث يجوز النّقد فيه فهو في حكم الحاضر ، وأن يكون الصّلح عن إقرار ، وأن يقرّ المدين بما عليه إن كان في التّركة دين ، وأن يحضر وقت الصّلح إذ لو غاب لاحتمل إنكاره ، وأن يكون مكلّفاً .
ج - إذا كانت التّركة دراهم وعرضاً ، أو ذهباً وعرضاً ، جاز الصّلح بذهب من غير ذهب التّركة ، أو بفضّة من غير التّركة بشرط أن لا يجتمع البيع والصّرف في أكثر من دينار .
مذهب الشّافعيّة :
14 - يفرّق الشّافعيّة في تخارج الورثة بين ما إذا كان الصّلح بينهم عن إقرار أو عن إنكار ، فإن كان عن إقرار ، وكان البدل من غير المتصالح عليه كان بيعاً تثبت فيه أحكام البيع ، كاشتراط القبض إن اتّفق المصالح عنه والمصالح عليه في علّة الرّبا ، وكاشتراط التّساوي إذا كان جنساً ربويّاً وغير ذلك .
وإن جرى الصّلح على بعض المتصالح عنه فهو هبة للبعض ، وتثبت فيه أحكام الهبة .
هذا بالنّسبة للصّلح عن إقرار ، أمّا الصّلح عن إنكار فهو باطل عندهم ، لكنّهم يستثنون من بطلان الصّلح على الإنكار صلح الورثة فيما بينهم للضّرورة ، لكن يشترط أن يكون ما يعطى للمتصالح من نفس التّركة لا من غيرها ، ويستوي أن يكون التّصالح على تساو أو تفاوت .
مذهب الحنابلة :
15 - لم يذكر الحنابلة صوراً للتّخارج ، وهو يجري على قواعد الصّلح العامّة الّتي قد تكون بيعاً أو هبةً أو إبراءً .
ويجوز أن يكون البدل من جنس المتصالح عليه ومن غير جنسه ، فإن كان من جنس حقّه بقدره فهو استيفاء له ، وإن كان دونه فهو استيفاء لبعضه وترك للبعض الآخر : إمّا على سبيل الإبراء أو على سبيل الهبة .
وإن كان البدل من غير جنس المتصالح عليه كان بيعاً تجري فيه أحكام البيع ، وتراعى شروط الصّرف إن كان عن نقد بنقد وهكذا . ويشترط - إن كان الصّلح عن إنكار - أن لا يأخذ المتصالح من جنس حقّه أكثر ممّا يستحقّ ، لأنّ الزّائد لا مقابل له ، فيكون ظالماً بأخذه ، بخلاف ما إذا أخذ من غير جنسه ، لأنّه يكون بيعاً في حقّ المدّعي ، لاعتقاده أخذه عوضاً ، ويكون في حقّ المنكر بمنزلة الإبراء ، لأنّه دفع المال افتداءً ليمينه ورفعاً للضّرر عنه .
كون بعض التّركة ديناً قبل التّخارج :
لو كان بعض التّركة ديناً على النّاس وصالح الورثة أحدهم على أن يخرجوه من الدّين ويكون لهم ، فقد اختلف الفقهاء في جواز الصّلح حسب الاتّجاهات الآتية :
16 - فعند الحنفيّة الصّلح باطل في العين والدّين ، أمّا في الدّين فلأنّ فيه تمليك الدّين - وهو حصّة المصالح - من غير من عليه الدّين وهم الورثة ، وأمّا في العين فلأنّ الصّفقة واحدة ، سواء بيّن حصّة الدّين أو لم يبيّن عند أبي حنيفة ، وهو قول صاحبيه على الأصحّ . وقد ذكر الحنفيّة بعض الصّور لتصحيح هذا الصّلح وهي :
أ - أن يشترط الورثة أن يبرئ المصالح الغرماء من حصّته من الدّين ، لأنّه حينئذ يكون إسقاطاً ، أو هو تمليك الدّين ممّن عليه الدّين وهو جائز .
ب - أن يعجّل الورثة قضاء نصيب المصالح من الدّين متبرّعين ويحيلهم بحصّته .
وفي هذين الوجهين ضرر بقيّة الورثة ، لأنّ في الأولى لا يمكنهم الرّجوع على الغرماء بقدر المصالح به . وكذا في الثّانية ، لأنّ النّقد خير من النّسيئة .
17 - والحنابلة كالحنفيّة لا يجوز عندهم بيع الدّين لغير من عليه الدّين ، ولكن يصحّ إبراء الغريم منه أو الحوالة به عليه .
18 - أمّا عند المالكيّة : فإنّه يجوز بيع الدّين لغير من عليه الدّين بشروطه ، وعلى ذلك فإنّه يجوز الصّلح عن الدّين الّذي على الغير ، حيث يجوز بيع الدّين ، ويمتنع الصّلح عنه حيث يمتنع بيعه . فيجوز الصّلح عن الدّين إذا كان الدّين حيواناً أو عرضاً أو طعاماً من قرض ، وبشرط أن يكون المدين حاضراً ، وأن يكون مقرّاً بالدّين ، وأن يكون مكلّفاً ، ويمتنع في غير ما تقدّم .
19 - والأظهر عند الشّافعيّة - على ما جاء في مغني المحتاج - بطلان بيع الدّين لغير من عليه ، والمعتمد جواز بيعه لغير من عليه بشروطه ، بأن يكون المدين مليّاً مقرّاً والدّين حالّاً مستقرّاً . وقال النّوويّ : لو قال أحد الوارثين لصاحبه : صالحتك من نصيبي على هذا الثّوب ، فإن كانت التّركة ديوناً على غيره فهو بيع دين لغير من عليه ، وإن كان فيها عين ودين على الغير - ولم نجوّز بيع الدّين لغير من هو عليه - بطل الصّلح في الدّين ، وفي العين القولان في تفريق الصّفقة .
ولو مات شخص عن ابنين ، والتّركة ألفا درهم ومائة دينار ، وهي دين في ذمّة الغير ، فصالح أحدهما أخاه من الدّين على ألفي درهم جاز ، لأنّه إذا كان في الذّمّة فلا ضرورة إلى تقدير المعاوضة فيه ، فيجعل مستوفياً لأحد الألفين ومعتاضاً عن الدّنانير الألف الآخر .
ظهور دين على التّركة بعد التّخارج :
20 - الأصل أنّ الدّين يتعلّق بالتّركة ، ويقدّم سداده على تقسيم التّركة ، لقوله تعالى :
{ مِنْ بعدِ وَصيّةٍ يُوصَى بها أو دَيْنٍ } .
لكن الفقهاء يختلفون في وقت ابتداء ملكيّة الوارث للتّركة إذا كانت مدينةً . فعند الحنفيّة والمالكيّة لا تنتقل ملكيّة التّركة إلى الورثة إلاّ بعد سداد الدّين .
والصّحيح عند الشّافعيّة ، وإحدى الرّوايات عند الحنابلة . تنتقل ملكيّة التّركة للوارث قبل سداد الدّين مع تعلّق الدّين بها ، وهذا في الجملة .
وفائدة هذا الخلاف أنّ الغلّة الّتي تحدث من وقت الوفاة إلى وقت السّداد يتعلّق بها الدّين عند من يقول : إنّ التّركة لا تدخل في ملك الوارث مع تعلّق الدّين بها .
وتكون للوارث عند من يقول : إنّ التّركة تدخل في ملك الوارث ولو كانت مدينةً .
ومع هذا الاختلاف فإنّه إذا تصالح الورثة فيما بينهم ، وأخرجوا أحدهم ، واقتسموا التّركة ، ثمّ ظهر دين بعد الصّلح محيط بالتّركة ، فإنّه إذا قضى الورثة الدّين ، أو أبرأ الغرماء ، أو ضمن رجل بشرط أن لا يرجع على الورثة مضى الصّلح ولا يبطل .
وإن امتنع الورثة من الأداء ، ولم يضمن أحد ، ولم يبرئ الغرماء بطل الصّلح .
وهذا باتّفاق في الجملة . إذ في قول عند المالكيّة يقيّد البطلان بما إذا كان المقسوم مقوّماً . بخلاف ما لو كان عيناً أو مثليّاً . وينظر تفصيل ذلك في ( صلح - قسمة - دين - تركة ) .
ظهور دين للميّت بعد التّخارج :
21 - لو صالح الورثة أحدهم وخرج من بينهم ، ثمّ ظهر للميّت شيء ، فإمّا أن يكون عيناً وإمّا أن يكون ديناً : فإن كان عيناً فالأشهر أنّها لا تندرج تحت الصّلح الّذي تمّ بين الورثة . وإنّما تقسم بين الكلّ ، أي يكون هذا الّذي ظهر بين الكلّ . وتسمع الدّعوى بها على هذا . وقيل : تدخل في الصّلح فلا تسمع الدّعوى بها .
وكذا الحكم لو صدر بعد الصّلح إبراء عامّ ، ثمّ ظهر للمصالح عين ، فالأصحّ سماع الدّعوى بناءً على القول بعدم دخولها تحت الصّلح ، ولا تسمع بناءً على القول بدخولها .
وهذا إذا اعترف بقيّة الورثة بأنّ العين من التّركة ، وإلاّ فلا تسمع دعواه بعد الإبراء .
وإن كان ما ظهر في التّركة ديناً فعلى القول بعدم دخوله في الصّلح يصحّ الصّلح ويقسم الدّين بين الكلّ ، وعلى القول بالدّخول فالصّلح فاسد كما لو كان الدّين ظاهراً وقت الصّلح ، إلاّ أن يكون مخرجاً من الصّلح ، بأن وقع التّصريح بالصّلح عن غير الدّين من أعيان التّركة فلا يفسد الصّلح . وإن وقع الصّلح على جميع التّركة فسد كما لو كان الدّين ظاهراً وقت الصّلح ، هذا مذهب الحنفيّة وقواعد المذاهب الأخرى تساير ما قاله الحنفيّة في الجملة . وينظر تفصيل ذلك في ( صلح - إبراء - دعوى - قسمة ) .
كيفيّة تقسيم التّركة بعد التّخارج :
22 - إذا تصالح الورثة مع أحدهم على أن يترك حصّته لهم ، ويأخذ بدلها جزءاً معيّناً من التّركة ، فإنّ طريقة التّقسيم أن تصحّح المسألة باعتبار المصالح موجوداً بين الورثة ، ثمّ تطرح سهامه من التّصحيح ، ثمّ يقسم باقي التّركة على سهام الباقين من الورثة .
مثال ذلك : توفّيت امرأة عن زوج وأمّ وعمّ ، فمع وجود الزّوج تكون المسألة من ستّة ، للزّوج منها ثلاثة أسهم ، وللأمّ سهمان ، وللعمّ الباقي وهو سهم واحد . فإن صالح الزّوج عن نصيبه - الّذي هو النّصف - على ما في ذمّته للزّوجة من المهر على أن يخرج من التّركة ، فإنّ سهامه تسقط في نظير ما أخذ ، والباقي من التّركة - وهو ما عدا المهر - يقسم بين الأمّ والعمّ بقدر سهامهما من أصل المسألة فيكون للأمّ سهمان وللعمّ سهم .
ولا يجوز أن يجعل الزّوج كأنّه غير موجود ما دام قد خرج عن نصيبه ، لأنّه لو جعل كذلك وجعلت التّركة ما وراء المهر ، وتمّ التّقسيم على هذا الأساس ، لانقلب فرض الأمّ من ثلث أصل المال إلى ثلث ما بقي ، إذ يقسم الباقي بينهما أثلاثاً ، فيكون للأمّ سهم وللعمّ سهمان ، وهو خلاف الإجماع إذ حقّها ثلث الأصل ، أمّا إذا أدخلنا الزّوج كان للأمّ سهمان من السّتّة وللعمّ سهم واحد ، فيقسم الباقي بينهما على هذه الطّريقة فتكون مستوفيةً حقّها من الميراث . هذا إذا كان التّخارج على شيء من التّركة .
23 - أمّا إذا كان التّخارج على شيء من المال من غير التّركة ، فإنّ المتخارج يكون قد باع نصيبه من التّركة نظير الثّمن الّذي دفعه سائر الورثة من أموالهم الخاصّة ، لتخلص التّركة كلّها لهم .
24 - فإذا كان ما دفعه الورثة هو بنسبة سهام كلّ منهم ، فإنّ التّركة تقسم كما قسمت في الصّورة السّابقة ، وذلك بأن يعرف أصل المسألة والسّهام الّتي تخصّ كلّ وارث قبل التّخارج ، ثمّ تسقط حصّة المتخارج في نظير ما تخارج عليه وتقسم التّركة على باقي الورثة بقدر سهامهم من أصل المسألة ، ثمّ تقسم حصّة المتخارج بينهم بنسبة سهام كلّ منهم ، لأنّهم دفعوا البدل على هذه النّسبة .
وإذا كان ما دفعه الورثة بالتّساوي فإنّ حصّة الخارج تقسم بينهم بالتّساوي ، وذلك بعد أن يأخذ كلّ منهم نصيبه من التّركة بنسبة سهامه فيها على اعتبار أنّه لم يحصل تخارج من أحد . وإن كان ما دفعه الورثة متفاوتاً في القدر فإنّ حصّة الخارج تقسم بينهم على قدر هذا التّفاوت ، بعد أخذ كلّ منهم نصيبه من التّركة بنسبة سهامه .
25 - وإذا تخارج وارث مع وارث آخر على أن يترك له نصيبه ، فإنّ التّركة تقسم بين الورثة جميعاً على اعتبار أنّه لم يحصل تخارج ، ويئول نصيب المتخارج بعد ذلك لمن دفع له البدل .
تخارج الموصى له بشيء من التّركة :
26 - الموصى له بشيء من التّركة . يجوز أن يتخارج معه الورثة عن نصيبه الموصى له به . والحكم في ذلك كالحكم في تخارج الورثة مع أحدهم ، فيراعى فيه الشّروط الّتي سبق ذكرها في صور التّخارج ، من اعتبار كون البدل نقداً أو غيره ، وكونه أقلّ ممّا يستحقّ أو مساوياً أو أكثر ، واعتبار شروط الصّرف والتّحرّز عن الرّبا وغير ذلك من الشّروط .
وفي كيفيّة تخارج الورثة مع الموصى له يقول ابن عابدين : الموصى له بمبلغ من التّركة كوارث . وصورة ذلك : رجل أوصى لرجل بدار وترك ابناً وابنةً فصالح الابن والابنة الموصى له بالدّار على مائة درهم ، قال أبو يوسف : إن كانت المائة من مالهما غير الميراث كانت الدّار بينهما نصفين ، وإن صالحاه من المال الّذي ورثاه عن أبيهما كان المال بينهما أثلاثاً ، لأنّ المائة كانت بينهما أثلاثاً .
وذكر الخصّاف في الحيل : إن كان الصّلح عن إقرار كانت الدّار الموصى بها بينهما نصفين ، وإن كان الصّلح عن إنكار فعلى قدر الميراث . وعلى هذا بعض المشايخ . وكذلك الصّلح عن الميراث . كذا في قاضي خان وللتّفصيل ينظر ( صلح - قسمة - تركة ) .
تخاير *
التّعريف :
1 - التّخاير هو : اختيار المتعاقدين لزوم العقد في المجلس ، سواء أكان صريحاً أم ضمناً . أمّا الصّريح : فكقولهما بهذا اللّفظ : تخايرنا ، أو اخترنا إمضاء العقد ، أو ألزمناه ، أو أجزناه ، وما أشبهها ، لأنّ الخيار حقّهما ، فسقط بإسقاطهما . ومن صيغ ذلك أيضاً قولهما : أبطلنا الخيار . أو أفسدناه ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة . وأمّا الضّمنيّ : فكأن يتبايع العاقدان العوضين بعد قبضهما في المجلس ، لأنّ ذلك يتضمّن الرّضا بلزوم العقد الأوّل .
الحكم الإجماليّ ، ومواطن البحث :
2 - اتّفق الشّافعيّة ، والحنابلة في الأصحّ ، وابن حبيب من المالكيّة على أنّ كلّ عقد ثبت فيه خيار المجلس فإنّ الخيار ينقطع بالتّخاير ، وهذا لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
« المتبايعان بالخيار ما لم يتفرّقا ، أو يقول أحدهما للآخر : اختر » .
وينقطع الخيار بالتّخاير ، بأن يختارا لزوم العقد بهذا اللّفظ أو نحوه : كأمضيناه ، أو ألزمناه ، أو أجزناه . فلو اختار أحدهما لزومه سقط حقّه في الخيار وبقي الحقّ فيه للآخر .
ولو قال أحدهما للآخر : اختر سقط خياره لتضمّنه الرّضا باللّزوم ، ويدلّ عليه الحديث السّابق ، وبقي خيار الآخر ، ولو اختار أحدهما لزوم العقد والآخر فسخه قدّم الفسخ .
3 - ثمّ التّخاير في ابتداء العقد وبعده في المجلس واحد عند الحنابلة ، والتّخاير في ابتداء العقد أن يقول البائع : بعتك ولا خيار بيننا ، ويقبل الآخر على ذلك ، فلا يكون لهما خيار المجلس في هذه الحالة ، وأمّا عند الشّافعيّة فلو تبايعا بشرط نفي خيار المجلس فثلاثة أوجه : أصحّها : البيع باطل ، والثّاني : البيع صحيح ولا خيار ، والثّالث : البيع صحيح ، والخيار ثابت . وطالما أنّ التّخاير يرد على خيار المجلس ، فلا مجال للكلام عنه عند الحنفيّة ، والمالكيّة ما عدا ابن حبيب ، لأنّهم لا يرون جواز خيار المجلس ولا يقولون به .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( خيار المجلس ) وقد تحدّث الفقهاء عنه في كتاب البيوع عند الكلام عن الخيار .
تخبيب *
التّعريف :
1 - التّخبيب : مصدر خبّب ، ومعناه في اللّغة : إفساد الرّجل عبداً أو أمةً لغيره أو صديقاً على صديقه ، يقال : خبّبها فأفسدها . وخبّب فلان غلامي : أي خدعه . وأمّا الخَبّ : فمعناه الفساد والخبث والغشّ ، وهو ضدّ الغِرّ ، إذ الغرّ : هو الّذي لا يفطن للشّرّ بخلاف الخبّ . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإغراء :
2 - الإغراء في اللّغة : مصدر أغرى ، وأغري بالشّيء : أولع به ، يقال : أغريت الكلب بالصّيد ، وأغريت بينهم العداوة .
ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ عن هذا المعنى وهو أعمّ من التّخبيب .
ب - إفساد :
3 - الإفساد : مصدر أفسد ، وهو في اللّغة يقابل الإصلاح .
وأمّا في الاصطلاح ، فقد ذكر صاحب الكلّيّات أنّه : جعل الشّيء فاسداً خارجاً عمّا ينبغي أن يكون عليه وعن كونه منتفعاً به ، وفي الحقيقة : هو إخراج الشّيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح .
والإفساد أعمّ ، لأنّه يكون في الأمور المادّيّة والمعنويّة ، بخلاف التّخبيب لأنّه إفساد خاصّ .
ج - التّحريض :
4 - التّحريض : مصدر حرّض ، ومعناه : الحثّ على الشّيء والإحماء عليه ، ومنه قوله تعالى { يا أيّها النّبيّ حَرِّض المؤمنينَ على القتالِ } .
وهو أعمّ ، لأنّه يكون في الخير والشّرّ ، بخلاف التّخبيب فإنّه لا يكون إلاّ في الشّرّ .
الحكم التّكليفيّ :
5 - التّخبيب حرام ، لحديث « لن يدخل الجنّة خبّ ولا بخيل ولا منّان » ، وحديث « الفاجر خبّ لئيم » وحديث « من خبّب زوجة امرئ أو مملوكه فليس منّا » أي خدعه وأفسده ، ولما يترتّب عليه من الإفساد والإضرار . وتخبيب زوجة الغير خداعها وإفسادها ، أو تحسين الطّلاق إليها ليتزوّجها أو يزوّجها غيره ، ولفظ المملوك الوارد في الحديث يتناول الأمة .
حكم زواج المخَبّب بمن خبّبها :
6 - انفرد المالكيّة بذكرهم الحكم في هذه المسألة ، وصورتها : أن يفسد رجل زوجة رجل آخر ، بحيث يؤدّي ذلك الإفساد إلى طلاقها منه ، ثمّ يتزوّجها ذلك المفسد .
فقد ذكروا أنّ النّكاح يفسخ قبل الدّخول وبعده بلا خلاف عندهم ، وإنّما الخلاف عندهم في تأبيد تحريمها على ذلك المفسد أو عدم تأبيده ، فذكروا فيه قولين :
أحدهما وهو المشهور : أنّه لا يتأبّد ، فإذا عادت لزوجها الأوّل وطلّقها ، أو مات عنها جاز لذلك المفسد نكاحها .
الثّاني : أنّ التّحريم يتأبّد ، وقد ذكر هذا القول يوسف بن عمر كما جاء في شرح الزّرقانيّ ، وأفتى به غير واحد من المتأخّرين في فاس .
هذا ومع أنّ غير المالكيّة من الفقهاء لم يصرّحوا بحكم هذه المسألة ، إلاّ أنّ الحكم فيها وهو التّحريم معلوم ممّا سبق في الحديث المتقدّم .
عقوبة المخبِّب :
7 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المعصية الّتي لا حدّ فيها ولا كفّارة عقوبتها التّعزير بما يراه الإمام مناسباً ، وفعل المخبّب هذا لا يخرج عن كونه معصيةً لا حدّ فيها ولا كفّارةً .
وقد ذكر الحنفيّة أنّ من خدع امرأة رجل أو ابنته وهي صغيرة ، وزوّجها من رجل ، قال محمّد رحمه الله تعالى : أحبسه بهذا أبداً حتّى يردّها أو يموت . وذكر ابن نجيم أنّ هذا المخادع يحبس إلى أن يحدث توبةً أو يموت ، لأنّه ساع في الأرض بالفساد .
وذكر الحنابلة في ( القوّادة ) الّتي تفسد النّساء والرّجال ، أنّ أقلّ ما يجب عليها الضّرب البليغ ، وينبغي شهرة ذلك بحيث يستفيض في النّساء والرّجال لتُجْتَنَب .
وإذا أركبت القوّادة دابّةً وضمّت عليها ثيابها ، ليؤمن كشف عورتها ، ونودي عليها هذا جزاء من يفعل كذا وكذا ( أي يفسد النّساء والرّجال ) كان من أعظم المصالح ، قاله الشّيخ ( أي ابن قدامة ) ليشتهر ذلك ويظهر . وقال : لوليّ الأمر كصاحب الشّرطة أن يعرّف ضررها ، إمّا بحبسها أو بنقلها عن الجيران أو غير ذلك .
تختّم *
التّعريف :
1 - التّختّم مصدر تختّم ، يقال : تختّم بالخاتم أي لبسه ، وأصله الثّلاثيّ ختم .
ومن معاني الختم أيضاً : الأثر الحاصل عن النّقش ، ويتجوّز به في الاستيثاق من الشّيء والمنع منه ، اعتباراً لما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب .
وختم الشّيء : إنهاؤه ، ومنه : ختم القرآن وخاتم الرّسل ، ومنه قوله تعالى : { ما كانَ محمّدٌ أبا أحدٍ من رجالِكم ولكنْ رسولَ اللّهِ وخاتَمَ النّبيّين } أي : آخرهم ، لأنّه ختمت به النّبوّة والرّسالات . ومن المجاز : لبس الخاتم ، وهو حليّ للأصبع ، كالخاتم - بكسر التّاء - ويطلق على الخاتم أيضاً والخاتم والختم والخاتام والخيتام ، وثمّة ألفاظ أخرى مشتقّة من هذه المادّة بالمعنى نفسه ، وصل بعضهم بها إلى عشرة ألفاظ .
والخاتم من الحليّ كأنّه أوّل وهلة ختم به ، فدخل بذلك في باب الطّابع ، ثمّ كثر استعماله لذلك ، وإن أعدّ الخاتم لغير الطّبع . ولا يخرج استعمال الفقهاء للتّختّم عن معناه اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّزيّن :
2 - التّزيّن : مصدر تزيّن ، يقال : تزيّنت المرأة : أي لبست الزّينة أو اتّخذتها ، وتزيّنت الأرض بالنّبات : أي حسنت وبهجت ، والزّينة اسم جامع لما يتزيّن به ، ومعنى الزّينة عند الرّاغب : ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله لا في الدّنيا ولا في الآخرة ، وهي نفسيّة وبدنيّة وخارجيّة . والتّزيّن أعمّ من التّختّم ، لأنّه يكون بالتّختّم وبغيره .
ب - الفَتْخَة :
3 - الفتخة قريبة في المعنى والاستعمال من الخاتم ، فهي مثله من الحليّ ، وقد تعدّدت الأقوال في معناها . فقيل : هي خاتم كبير يكون في اليد والرّجل ، وقيل : هي كالخاتم أيّاً كان ، وقيل : هي خاتم يكون في اليد والرّجل بفصّ وبغير فصّ ، وقيل . هي حلقة تلبس في الأصبع كالخاتم ، وقيل : هي حلقة من فضّة لا فصّ فيها ، فإذا كان فيها فصّ فهي الخاتم ، وروي عن عائشة رضي الله عنها في تفسير قول اللّه تعالى : { ولا يُبْدِيْنَ زِينَتَهنَّ إلاّ ما ظَهَرَ منها } أنّها قالت : المراد بالزّينة في الآية القلب والفتخة ، وقالت : الفتخ : حلق من فضّة يكون في أصابع الرّجلين ، قال ابن برّيّ : حقيقة الفتخة أن تكون في أصابع الرّجلين . فيتّفق الخاتم والفتخة في أنّه يتزيّن بكلّ منهما ، ويختلفان في موضع لبس كلّ منهما ، وفي المادّة الّتي يصنع منها ، وفي شكله .
ج - التّسوّر :
4 - التّسوّر مصدر تسوّر ، ويأتي في اللّغة بمعنى العلوّ والتّسلّق ، يقال : تسوّرت الحائط إذا علوته وتسلّقته ، وبمعنى التّزيّن بالسّوار والتّحلّي به ، يقال : سوّرته أي ألبسته السّوار من الحليّ فتسوّر ، وفي الحديث : « أَيَسُرُّكَ أنْ يُسَوِّرَكَ اللّهُ بهما يومَ القيامةِ سوارين من نار » . فيتّفق التّختّم مع التّسوّر في أنّهما من الزّينة ، ويختلفان في الشّكل والصّنعة وموضع اللّبس .
د - التّدملج :
5 - التّدملج مصدر تدملج ، يقال : تدملج أي لبس الدّملج - بفتح اللام وضمّها - أو الدّملوج وهو المعضّد من الحليّ ، وهو ما يلبس في العضد ، ويقال أيضاً : ألقى عليه دماليجه . فالتّدملج كالتّختّم في أنّه يتزيّن بكلّ منهما ، غير أنّهما يختلفان في الشّكل والصّنعة وموضع اللّبس .
هـ - التّطوّق :
6 - التّطوّق مصدر تطوّق ، يقال : تطوّق أي لبس الطّوق ، وهو حليّ للعنق ، وكلّ شيء استدار فهو طوق ، كطوق الرّحى الّذي يدير القطب ونحو ذلك .
فالتّطوّق كالتّختّم في أنّه يتحلّى ويتزيّن بكلّ منهما ، لكنّهما يختلفان في الشّكل والصّنعة والموضع الّذي يلبس فيه كلّ منهما .
و - التّنطّق :
7 - التّنطّق مصدر تنطّق ، يقال : تنطّق الرّجل وانتطق أي لبس المنطق ، والمنطق والنّطاق والمنطقة : كلّ ما شددت به وسطك ، وقيل لأسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما ذات النّطاقين : لأنّها كانت تطارق ( أي تطابق ) نطاقاً على نطاق ، أو لأنّها شقّت نطاقها ليلة خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الغار ، فجعلت واحدةً لزاد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والأخرى حمّالةً له فالنّطاق كالخاتم في الإحاطة ، لكنّهما يختلفان مادّةً وشكلاً وحجماً وموضعاً .
الحكم التّكليفيّ :
يختلف الحكم التّكليفيّ للتّختّم باختلاف موضعه :
أوّلاً : التّختّم بالذّهب :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للنّساء التّختّم بالذّهب ، ويحرم على الرّجال ذلك ، لما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال « أُحِلَّ الذَّهبُ والحريرُ لإِناثِ أُمّتي ، وحُرِّمَ على ذكورِها » . واختلفوا في تختّم الصّبيّ بالذّهب :
فذهب المالكيّة - في الرّاجح عندهم - إلى أنّ تختّم الصّبيّ بالذّهب مكروه ، والكراهة على من ألبسه أو على وليّه ، ومقابل الرّاجح عند المالكيّة الحرمة .
ونصّ الحنابلة - وهو قول مرجوح للمالكيّة - على حرمة إلباس الصّبيّ الذّهب ، ومنه الخاتم . وأطلق الحنفيّة هنا الكراهة في التّحريم ، واستدلّوا بحديث جابر رضي الله عنه قال : « كنّا ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري » وذهب الشّافعيّة في المعتمد عندهم - وعبّر بعضهم بالأصحّ - إلى أنّ الصّبيّ غير البالغ مثل المرأة في جواز التّختّم بالذّهب ، وأنّ للوليّ تزيينه بالحليّ من الذّهب أو الفضّة ، ولو في غير يوم عيد .
ثانياً : التّختّم بالفضّة :
9 - اتّفق الفقهاء على جواز تختّم المرأة بالفضّة . وأمّا تختّم الرّجل بالفضّة فعلى التّفصيل الآتي : ذهب الحنفيّة إلى أنّه يجوز للرّجل التّختّم بالفضّة ، لما روي أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم اتّخذ خاتماً من ورق ، وكان في يده ، ثمّ كان في يد أبي بكر رضي الله عنه ، ثمّ كان في يد عمر رضي الله عنه ، ثمّ كان في يد عثمان رضي الله عنه ، حتّى وقع في بئر أريس . نقشه : محمّد رسول اللّه » . وقالوا : إنّ التّختّم سنّة لمن يحتاج إليه ، كالسّلطان والقاضي ومن في معناهما ، وتركه لغير السّلطان والقاضي وذي حاجة إليه أفضل .
وذهب المالكيّة إلى أنّه لا بأس بالخاتم من الفضّة ، فيجوز اتّخاذه ، بل يندب بشرط قصد الاقتداء برسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا يجوز لبسه عجباً .
وقال الشّافعيّة : يحلّ للرّجل الخاتم من الفضّة ، سواء من له ولاية وغيره ، فيجوز لكلّ لبسه ، بل يسنّ . وقال الحنابلة : يباح للذّكر الخاتم من الفضّة ، لأنّه صلى الله عليه وسلم « اتّخذ خاتماً من ورق » ، قال أحمد في خاتم الفضّة للرّجل : ليس به بأس ، واحتجّ بأنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان له خاتم ، وظاهر ما نقل عن أحمد أنّه لا فضل فيه . وجزم به في التّلخيص وغيره ، وقيل : يستحبّ ، قدّمه في الرّعاية . وقيل : يكره لقصد الزّينة . جزم به ابن تميم . وأمّا تختّم الصّبيّ بالفضّة فجائز عند الفقهاء .
ثالثاً : التّختّم بغير الذّهب والفضّة :
10 - ذهب المالكيّة - في المعتمد عندهم - والحنابلة إلى أنّ التّختّم بالحديد والنّحاس والرّصاص مكروه للرّجال والنّساء ، لما روي « أنّ رجلاً جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عليه خاتم شبه - نحاس أصفر - فقال له : إنّي أجد منك ريح الأصنام فطرحه . ثمّ جاء وعليه خاتم حديد فقال : ما لي أرى عليك حلية أهل النّار فطرحه . فقال : يا رسول اللّه : من أيّ شيء أتّخذه ؟ قال : اتّخذه من ورق ولا تتمّه مثقالاً » .
وقال المالكيّة : إنّ التّختّم بالجلد والعقيق والقصدير والخشب جائز للرّجال والنّساء .
وقال الحنابلة : إنّه يباح للرّجل والمرأة التّحلّي بالجوهر والزّمرّد والزّبرجد والياقوت والفيروز واللّؤلؤ ، أمّا العقيق فقيل : يستحبّ تختّمهما به ، وقيل : يباح التّختّم بالعقيق لما في رواية مهنّا ، وقد سئل الإمام أحمد : ما السّنّة ؟ يعني في التّختّم ، فأجاب بقوله : لم تكن خواتيم القوم إلاّ من الفضّة . قال صاحب كشّاف القناع : الدّملج في معنى الخاتم .
واختلف الحنفيّة في التّختّم بغير الذّهب والفضّة .
والحاصل كما قال ابن عابدين : أنّ التّختّم بالفضّة حلال للرّجال بالحديث ، وبالذّهب والحديد والصّفر حرام عليهم بالحديث ، وبالحجر حلال على اختيار شمس الأئمّة وقاضي خان أخذاً من قول الرّسول وفعله صلى الله عليه وسلم ، لأنّ حلّ العقيق لمّا ثبت بهما ثبت حلّ سائر الأحجار لعدم الفرق بين حجر وحجر ، وحرام على اختيار صاحب الهداية والكافي أخذاً من عبارة الجامع الصّغير : ولا يتختّم إلاّ بالفضّة . فإنّها يحتمل أن يكون القصر فيها بالإضافة إلى الذّهب ، ولا يخفى ما بين المأخذين من التّفاوت .
واختلف الشّافعيّة أيضاً في التّختّم بغير الذّهب والفضّة ، وقد ورد في المجموع طرف من هذا الخلاف ، وهو : قال صاحب الإبانة : يكره الخاتم من حديد أو شبه - نوع من النّحاس - وتابعه صاحب البيان ، وأضاف إليهما الخاتم من رصاص ، وقال صاحب التّتمّة : لا يكره الخاتم من حديد أو رصاص لحديث الواهبة نفسها ، ففيه قوله للّذي أراد تزوّجها : « انظر ولو خاتماً من حديد » .
وفي حاشية القليوبيّ : ولا بأس بلبس غير الفضّة من نحاس أو غيره .
رابعاً : موضع التّختّم :
11 - لم يختلف الفقهاء في موضع التّختّم بالنّسبة للمرأة ، لأنّه تزيّن في حقّها ، ولها أن تضع خاتمها في أصابع يديها أو رجليها أو حيث شاءت .
ولكنّ الفقهاء اختلفوا في موضع التّختّم للرّجل ، بل إنّ فقهاء بعض المذاهب اختلفوا فيما بينهم في ذلك : فذهب بعض الحنفيّة إلى أنّه ينبغي أن يكون تختّم الرّجل في خنصر يده اليسرى ، دون سائر أصابعه ، ودون اليمنى .
وذهب بعضهم إلى أنّه يجوز أن يجعل خاتمه في يده اليمنى ، وسوّى الفقيه أبو اللّيث في شرح الجامع الصّغير بين اليمين واليسار ، لأنّه قد اختلفت الرّوايات عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وقول بعضهم : إنّه في اليمين من علامات أهل البغي ليس بشيء ، لأنّ النّقل الصّحيح عن « رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينفي ذلك » .
والمختار عند مالك رحمه الله التّختّم في اليسار على جهة النّدب ، وجعل الخاتم في الخنصر ، وكان مالك يلبسه في يساره ، قال أبو بكر بن العربيّ في القبس شرح الموطّأ : صحّ عن
« رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه تختّم في يمينه وفي يساره ، واستقرّ الأكثر على أنّه كان يتختّم في يساره » ، فالتّختّم في اليمين مكروه ، ويتختّم في الخنصر ، لأنّه بذلك أتت السّنّة عنه صلى الله عليه وسلم والاقتداء به حسن . ولأنّ كونه في اليسار أبعد عن الإعجاب . وقال الشّافعيّة : يجوز للرّجل لبس خاتم الفضّة في خنصر يمينه ، وإن شاء في خنصر يساره ، كلاهما صحّ فعله عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لكنّ الصّحيح المشهور أنّه في اليمين أفضل لأنّه زينة ، واليمين أشرف .
وقال بعضهم : في اليسار أفضل . وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يتختّم في يساره ، وبإسناد حسن أنّ ابن عبّاس رضي الله عنهما تختّم في يمينه. وعند الشّافعيّة أنّ التّختّم في الوسطى والسّبّابة منهيّ عنه لما ورد عن عليّ رضي الله تعالى عنه قال : « نهاني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن أتختّم في أصبعي هذه أو هذه قال : فأومأ إلى الوسطى والّتي تليها » .
وقال الحنابلة : لبس الخاتم في خنصر اليسار أفضل من لبسه في خنصر اليمين ، نصّ عليه في رواية صالح ، وضعّف في رواية الأثرم وغيره التّختّم في اليمنى ، قال الدّارقطنيّ وغيره : المحفوظ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتختّم في يساره ، وأنّه إنّما كان في الخنصر لكونه طرفاً ، فهو أبعد عن الامتهان فيما تتناوله اليد ، ولأنّه لا يشغل اليد عمّا تتناوله . وعند الحنابلة أنّه يكره لبس الخاتم في سبّابة ووسطى للنّهي الصّحيح عن ذلك .
وظاهره لا يكره لبسه في الإبهام والبنصر ، وإن كان الخنصر أفضل اقتصاراً على النّصّ .
خامساً : وزن خاتم الرّجل :
12 - اختلف الفقهاء في الوزن المباح لخاتم الرّجل : فعند الحنفيّة ، قال الحصكفيّ : لا يزيد الرّجل خاتمه على مثقال . ورجّح ابن عابدين قول صاحب الذّخيرة أنّه لا يبلغ به المثقال ، واستدلّ بما روي أنّ « رجلاً سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم قائلاً : من أيّ شيء أتّخذه ؟ - يعني الخاتم - فقال صلى الله عليه وسلم : اتّخذه من ورق ، ولا تتمّه مثقالاً » .
وقال المالكيّة : يجوز للذّكر لبس خاتم الفضّة إن كان وزن درهمين شرعيّين أو أقلّ ، فإن زاد عن درهمين حرم .
ولم يحدّد الشّافعيّة وزناً للخاتم المباح ، قال الخطيب الشّربينيّ : لم يتعرّض الأصحاب لمقدار الخاتم المباح ، ولعلّهم اكتفوا فيه بالعرف ، أي عرف البلد وعادة أمثاله فيها ، فما خرج عن ذلك كان إسرافاً ... هذا هو المعتمد ، وإن قال الأذرعيّ : الصّواب ضبطه بدون مثقال ، لما في صحيح ابن حبّان وسنن أبي داود عن أبي هريرة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال للابس الخاتم الحديد : ما لي أرى عليك حلية أهل النّار فطرحه وقال : يا رسول اللّه من أيّ شيء أتّخذه ؟ قال : اتّخذه من ورق ولا تتمّه مثقالاً » قال : وليس في كلامهم ما يخالفه . وهذا لا ينافي ما ذكر لاحتمال أنّ ذلك كان عرف بلده وعادة أمثاله .
وقال الحنابلة : لا بأس بجعله مثقالاً فأكثر ، لأنّه لم يرد فيه تحديد ، ما لم يخرج عن العادة ، وإلاّ حرم ( قالوا ) لأنّ الأصل التّحريم ، وإنّما خرج المعتاد لفعله صلى الله عليه وسلم وفعل الصّحابة .
سادساً : عدد خواتم الرّجل :
13 - اختلف الفقهاء في حكم تعدّد خواتم الرّجل :
فنصّ المالكيّة على أنّه لا يباح للرّجل أكثر من خاتم واحد ، فإن تعدّد الخاتم حرم ولو كان في حدود الوزن المباح شرعاً .
واختلف فقهاء الشّافعيّة في تعدّد الخاتم ، ونقل صاحب مغني المحتاج جانباً من هذا الخلاف في قوله : وفي الرّوضة وأصلها : ولو اتّخذ الرّجل خواتيم كثيرةً ليلبس الواحد منها بعد الواحد جاز ، فظاهره الجواز في الاتّخاذ دون اللّبس ، وفيه خلاف مشهور ، والّذي ينبغي اعتماده فيه أنّه جائز ما لم يؤدّ إلى سرف .
وقال الحنابلة : لو اتّخذ الرّجل لنفسه عدّة خواتيم ، فالأظهر جوازه إن لم يخرج عن العادة ، والأظهر جواز لبس الرّجل خاتمين فأكثر جميعاً إن لم يخرج عن العادة .
ولم نجد كلاماً للحنفيّة في هذه المسألة .
سابعاً : النّقش على الخاتم :
14 - اتّفق الفقهاء على جواز النّقش على الخاتم ، وعلى أنّه يجوز نقش اسم صاحب الخاتم عليه ، واختلفوا في نقش لفظ الجلالة أو الذِّكْر :
فقال الحنفيّة والشّافعيّة : يجوز أن ينقش لفظ الجلالة أو ألفاظ الذّكر على الخاتم ، ولكنّه يجعله في كمّه إن دخل الخلاء ، وفي يمينه إذا استنجى .
وقال الحنابلة : يكره أن يكتب على الخاتم ذكر اللّه تعالى من القرآن أو غيره نصّاً ، قال إسحاق بن راهويه : لا يدخل الخلاء به ، وقال في الفروع : ولعلّ أحمد كرهه لذلك ، قال : ولم أجد للكراهة دليلاً سوى هذا ، وهي تفتقر إلى دليل والأصل عدمه . وقال الحنابلة أيضاً : يحرم أن ينقش عليه صورة حيوان ، ويحرم لبسه والصّورة عليه كالثّوب المصوّر ، ولم ير بعض الحنفيّة بأساً في نقش ذلك إذا كان صغيراً بحيث لا يبصر عن بعد .
ثامناً : فصّ الخاتم :
15 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى أنّه يجوز أن يكون لخاتم الرّجل المباح فصّ من مادّته الفضّيّة أو من مادّة أخرى على التّفصيل الآتي :
قال الحنفيّة : يجوز للرّجل أن يجعل فصّ خاتمه عقيقاً أو فيروزجاً أو ياقوتاً أو نحوه ، ولا بأس بسدّ ثقب الفصّ بمسمار الذّهب ليحفظ به الفصّ ، لأنّه قليل ، فأشبه العلم في الثّوب فلا يعدّ لابساً له ، ويجعل الرّجل فصّ خاتمه إلى بطن كفّه بخلاف النّساء ، لأنّه للزّينة في حقّهنّ دون الرّجال . وقال المالكيّة : لا بأس بالفضّة في حلية الخاتم ... ثمّ اختلفوا في الشّرح ، فقال بعضهم : تكون الحلية من الفضّة في خاتم من شيء جائز غير الحديد والنّحاس والرّصاص ، كالجلد والعود أو غير ذلك ممّا يجوز ، فيجعل الفصّ فيه .
وقال بعضهم : يكون الخاتم كلّه من الفضّة لما في صحيح مسلم : « كان خاتم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من ورق ، وكان فصّه حبشيّاً » أي كان صانعه حبشيّاً ، أو كان مصنوعاً كما يصنعه أهل الحبشة فلا ينافي رواية : أنّ فصّه منه .
وقال المالكيّة : لا يجوز للذّكر خاتم بعضه ذهب ولو قلّ .
وقالوا : يجعل فصّ الخاتم ممّا يلي الكفّ ، لأنّه بذلك أتت السّنّة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم والاقتداء به حسن ، فإذا أراد الاستنجاء خلعه كما يخلعه عند إرادة الخلاء .
وقال الشّافعيّة : يجوز الخاتم بفصّ وبغير فصّ ، وأضاف النّوويّ : ويجعل الفصّ من باطن كفّه أو ظاهرها ، وباطنها أفضل للأحاديث الصّحيحة فيه . وقال القليوبيّ : ويسنّ جعل فصّ الخاتم داخل الكفّ . وقال الحنابلة : للرّجل جعل فصّ خاتمه منه أو من غيره ، لأنّ في البخاريّ من حديث أنس رضي الله عنه « كان فصّه منه » ولمسلم « كان فصّه حبشيّاً » . وقالوا : يباح للذّكر من الذّهب فصّ خاتم إذا كان يسيراً ... اختاره أبو بكر عبد العزيز ومجد الدّين ابن تيميّة وتقيّ الدّين ابن تيميّة ، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد ، وإليه ميل ابن رجب ، قال في الإنصاف : وهو الصّواب وهو المذهب ، وفي الفتاوى المصريّة : يسير الذّهب التّابع لغيره كالطّراز ونحوه جائز في الأصحّ من مذهب الإمام أحمد .
واختار القاضي وأبو الخطّاب التّحريم ، وقطع به في شرح المنتهى في باب الآنية .
وقال الحنابلة : الأفضل أن يجعل الرّجل فصّ الخاتم ممّا يلي ظهر كفّه لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كان يفعل ذلك » وكان ابن عبّاس رضي الله عنهما وغيره يجعله ممّا يلي ظهر كفّه .
تاسعاً : تحريك الخاتم في الوضوء :
16 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجب في الوضوء تحريك الخاتم أثناء غسل اليد ، إن كان ضيّقاً ولا يعلم وصول ماء الوضوء إلى ما تحته ، فإن كان الخاتم واسعاً ، أو كان ضيّقاً وعلم وصول الماء إلى ما تحته فإنّ تحريكه لا يجب ، بل يكون مستحبّاً .
وذهب المالكيّة إلى أنّه لا يجب تحويل خاتم المتوضّئ من موضعه ولو كان ضيّقاً إن كان مأذوناً فيه ، وعلى المتوضّئ إزالة غير المأذون فيه إن كان يمنع وصول الماء للبشرة وإلاّ فلا ، وليس الحكم بإزالة ما يمنع وصول الماء للبشرة خاصّاً بالخاتم غير المأذون فيه ، بل هو عامّ في كلّ حائل كشمع وزفت ووسخ .
عاشراً : تحريك الخاتم في الغسل :
17 - قال جمهور الفقهاء : ممّا يتحقّق به الغسل المجزئ أن يعمّم بدنه بالغسل ، حتّى ما تحت خاتم ونحوه ، فيحرّكه ليتحقّق وصول الماء إلى ما تحته ، ولو كان الخاتم ضيّقاً لا يصل الماء إلى ما تحته نزعه وجوباً .
وقال المالكيّة : يجب غسل ظاهر الجسد في الغسل ، وأمّا الخاتم فلا يلزم تحريكه ، كالوضوء . كما نصّ عليه ابن الموّاز خلافاً لابن رشد .
حادي عشر : نزع الخاتم في التّيمّم :
18 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجب على من يريد التّيمّم نزع خاتمه ليصل التّراب إلى ما تحته عند المسح ، ولا يكفي تحريك الخاتم ، لأنّ التّراب كثيف لا يسري إلى ما تحت الخاتم بخلاف الماء في الوضوء . وقال الحنفيّة : يجب على المتيمّم أن يستوعب بالمسح وجهه ويديه فينزع الخاتم أو يحرّكه .
ثاني عشر : العبث بالخاتم في الصّلاة :
19 - ذهب الفقهاء إلى أنّ العبث في الصّلاة مكروه ، والعبث : هو كلّ فعل ليس بمفيد للمصلّي ، ومنه كفّه لثوبه وعبثه به وبجسده وبالحصى وبالخاتم ، وتفصيله والخلاف فيه ينظر في الصّلاة عند الكلام عن المكروهات والمبطلات .
ثالث عشر : التّختّم في الإحرام :
20 - اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ للمحرم التّختّم بخاتمه حال إحرامه ، لأنّ التّختّم ليس لبساً ولا تغطيةً ، وقد روي عن عبد اللّه بن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّه قال : أوثقوا عليكم نفقاتكم - أي بشدّ الهميان في الوسط وفيه كيس النّفقة - ورخّص في الخاتم والهميان للمحرم . وقال المالكيّة : يحرم على الرّجل المحرم لبس الخاتم في الإحرام ولو فضّةً زنته درهمان ، وفيه الفدية إن طال .
رابع عشر : زكاة الخاتم :
21 - اتّفق المالكيّة والشّافعيّة - في الأظهر عندهم - والحنابلة على أنّ الحلية المباحة - ومنها خاتم الذّهب أو الفضّة للمرأة ، وخاتم الفضّة المباح للرّجل - لا زكاة فيه ، لأنّه مصروف عن جهة النّماء إلى استعمال مباح ، فأشبه ثياب البذلة وعوامل الماشية .
وقال الحنفيّة ، وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة : في خاتم الفضّة المباح للرّجل الزّكاة - بشرط النّصاب - لأنّ الفضّة خلقت ثمناً ، فيزكّيها كيف كانت . وتفصيله في الزّكاة .
خامس عشر : دفن الخاتم مع الشّهيد وغيره :
22 - ينزع عن الميّت قبل دفنه ما عليه من الحلية من خاتم وغيره لأنّ دفنه مع الميّت إضاعة للمال ، وهو منهيّ عنه . أمّا الشّهيد فقد اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه ينزع عنه عند دفنه الجلد والسّلاح والفرو والحشو والخفّ والمنطقة والقلنسوة وكلّ ما لا يعتاد لبسه غالباً ، والخاتم مثل هذه بل أولى ، لحديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما :
« أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود ، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم » ولأنّ ما يترك على الشّهيد يترك ليكون كفناً ، والكفن ما يلبس للسّتر ، والخاتم لا يلبس للسّتر فينزع . وقال المالكيّة : ندب دفن الشّهيد بخفّ وقلنسوة ومنطقة قلّ ثمنها ، وبخاتم قلّ فصّه أي قيمته ، فلا ينزع إلاّ أن يكون نفيس الفصّ .
تخدير *
التّعريف :
1 - الخدر - بالتّحريك - استرخاء يغشى بعض الأعضاء أو الجسد كلّه . والخدر : الكسل والفتور . وخدّر العضو تخديراً : جعله خدراً ، وحقنه بمخدّر لإزالة إحساسه .
ويقال : خدّره الشّراب وخدّره المرض .
والمخدّر : مادّة تسبّب في الإنسان والحيوان فقدان الوعي بدرجات متفاوتة ، كالبنج والحشيش والأفيون ، والجمع مخدّرات ، وهي محدثة .
ولا يخرج استعمال الفقهاء للتّخدير عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّفتير :
2 - فتر عن العمل فتوراً : انكسرت حدّته ولان بعد شدّته ، ومنه : فتر الحرّ إذا انكسر ، فيكون التّفتير تكسيراً للحدة ، وتلييناً بعد الشّدّة .
وعلى هذا فالتّفتير أعمّ من التّخدير ، إذ التّخدير نوع من التّفتير .
ب - الإغماء :
3 - أغمي عليه : عرض له ما أفقده الحسّ والحركة . والإغماء : فتور غير أصليّ يزيل عمل القوى لا بمخدّر . فالتّخدير مباين للإغماء .
ج - الإسكار :
4 - أسكره الشّراب أزال عقله ، فالإسكار : إزالة الشّراب للعقل دون الحسّ والحركة ، فيكون التّخدير أعمّ من الإسكار . وهناك ألفاظ أخرى لها صلة بالتّخدير كالمفسد والمرقِّد . قال الحطّاب : فائدة تنفع الفقيه ، يعرف بها الفرق بين المسكر والمفسد والمرقد ، فالمسكر : ما غيّب العقل دون الحواسّ مع نشوة وفرح ، والمفسد : ما غيّب العقل دون الحواسّ لا مع نشوة وفرح كعسل البلادر ، والمرقد : ما غيّب العقل والحواسّ كالسيكران .
الحكم التّكليفيّ :
5 - المخدّرات أنواع متعدّدة تختلف لاختلاف أصولها المستخرجة منها .
وتناول المخدّرات كالحشيشة والأفيون والقاتّ والكوكايين والبنج والكفتة وجوزة الطّيب والبرش وغيرها بالمضغ أو التّدخين أو غيرهما ينتج عنه تغييب العقل ، وقد يؤدّي إلى الإدمان ، ممّا يسبّب تدهوراً في عقليّة المدمنين وصحّتهم ، وتغيّر الحال المعتدلة في الخلق والخلق . قال ابن تيميّة : كلّ ما يغيّب العقل فإنّه حرام ، وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب ، فإنّ تغييب العقل حرام بإجماع المسلمين ، أي إلاّ لغرض معتبر شرعاً .
6- وذهب جمهور الفقهاء إلى حرمة تناول المخدّرات الّتي تغشى العقل ، ولو كانت لا تحدث الشّدّة المطربة الّتي لا ينفكّ عنها المسكر المائع .
وكما أنّ ما أسكر كثيره حرم قليله من المائعات ، كذلك يحرم مطلقاً ما يخدّر من الأشياء الجامدة المضرّة بالعقل أو غيره من أعضاء الجسد . وذلك إذا تناول قدراً مضرّاً منها . دون ما يؤخذ منها من أجل المداواة ، لأنّ حرمتها ليست لعينها ، بل لضررها .
7- وعلى هذا يحرم تناول البنج والحشيشة والأفيون في غير حالة التّداوي ، لأنّ ذلك كلّه مفسد للعقل ، فيحدث لمتناوله فساداً ، ويصدّ عن ذكر اللّه وعن الصّلاة . لكن تحريم ذلك ليس لعينه بل لنتائجه .
8- ويحرم القدر المسكر المؤذي من جوزة الطّيب ، فإنّها مخدّرة ، لكن حرمتها دون حرمة الحشيشة .
9- وذهب الفقيه أبو بكر بن إبراهيم المقري الحرازيّ الشّافعيّ إلى تحريم القاتّ في مؤلّفه في تحريم القاتّ . حيث يقول : إنّي رأيت من أكلها الضّرر في بدني وديني فتركت لها ، فقد ذكر العلماء : أنّ المضرّات من أشهر المحرّمات ، فمن ضررها أنّ آكلها يرتاح ويطرب وتطيب نفسه ويذهب حزنه ، ثمّ يعتريه بعد ساعتين من أكله هموم متراكمة وغموم متزاحمة وسوء أخلاق . وكذلك ذهب الفقيه حمزة النّاشريّ إلى تحريمه واحتجّ بحديث أمّ سلمة رضي الله عنها « أنّه صلى الله عليه وسلم نهى عن كلّ مسكر ومفتر » .
أدلّة تحريم المخدّرات :
10 - الأصل في تحريمها ما رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بسند صحيح عن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت :« نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن كلّ مسكر ومفتر» . قال العلماء : المفتر : كلّ ما يورث الفتور والخدر في الأطراف . قال ابن حجر : وهذا الحديث فيه دليل على تحريم الحشيش بخصوصه ، فإنّها تسكر وتخدّر وتفتر .
وحكى القرافيّ وابن تيميّة الإجماع على تحريم الحشيشة ، قال ابن تيميّة : ومن استحلّها فقد كفر ، وإنّما لم تتكلّم فيها الأئمّة الأربعة رضي الله عنهم ، لأنّها لم تكن في زمنهم ، وإنّما ظهرت في آخر المائة السّادسة وأوّل المائة السّابعة حين ظهرت دولة التّتار .
طهارة المخدّرات ونجاستها :
11 - المخدّرات الجامدة كلّها عند جمهور الفقهاء طاهرة غير نجسة وإن حرم تعاطيها ، ولا تصير نجسةً بمجرّد إذابتها في الماء ولو قصد شربها ، لأنّ الحكم الفقهيّ أنّ نجاسة المسكرات مخصوصة بالمائعات منها ، وهي الخمر الّتي سمّيت رجساً في القرآن الكريم ، وما يلحق بها من سائر المسكرات المائعة .
بل قد حكى ابن دقيق العيد الإجماع على طهارة المخدّرات . على أنّ بعض الحنابلة رجّح الحكم بنجاسة هذه المخدّرات الجامدة . وتفصيل ذلك في موضوع النّجاسات .
علاج مدمني المخدّرات :
12 - سئل ابن حجر المكّيّ الشّافعيّ عمّن ابتلي بأكل الأفيون والحشيش ونحوهما ، وصار إن لم يأكل منه هلك . فأجاب : إن علم أنّه يهلك قطعاً حلّ له ، بل وجب ، لاضطراره إلى إبقاء روحه ، كالميتة للمضطرّ ، ويجب عليه التّدرّج في تقليل الكميّة الّتي يتناولها شيئاً فشيئاً ، حتّى يزول تولّع المعدة به من غير أن تشعر ، قال الرّمليّ من الحنفيّة : وقواعدنا لا تخالفه في ذلك .
بيع المخدّرات وضمان إتلافها :
13 - لمّا كانت المخدّرات طاهرةً - كما سبق تفصيل ذلك - وأنّها قد تنفع في التّداوي بها جاز بيعها للتّداوي عند جمهور الفقهاء ، وضمن متلفها ، واستثنى بعض الفقهاء الحشيشة ، فقالوا بحرمة بيعها كابن نجيم الحنفيّ ، وذلك لقيام المعصية بذاتها ، وذكر ابن الشّحنة أنّه يعاقب بائعها ، وصحّح ابن تيميّة نجاستها وأنّها كالخمر ، وبيع الخمر لا يصحّ فكذا الحشيشة عند الحنابلة ، وذهب بعض المالكيّة إلى ما ذهب إليه ابن تيميّة .
أمّا إذا كان بيعها لا لغرض شرعيّ كالتّداوي ، فقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى تحريم بيع المخدّرات لمن يعلم أو يظنّ تناوله لها على الوجه المحرّم ، ولا يضمن متلفها ، خلافاً للشّيخ أبي حامد - أي الإسفرايينيّ - ويفهم من كلام ابن عابدين في حاشيته أنّ البيع مكروه ويضمن متلفها .
تصرّفات متناول المخدّرات :
14 - إنّ متناول القدر المزيل للعقل من المخدّرات ، إمّا أن يكون للتّداوي أو لا ، فإن كان للتّداوي فإنّ تصرّفاته لا تصحّ عند جماهير الفقهاء .
أمّا إذا كان زوال العقل بتناول المخدّرات لا للتّداوي ، فإنّ الفقهاء مختلفون فيما يصحّ من تصرّفاته وما لا يصحّ . فذهب الحنفيّة إلى أنّ تصرّفاته صحيحة إذا استعمل الأفيون للّهو ، لكونه معصيةً ، واستثنى الحنفيّة الرّدّة والإقرار بالحدود والإشهاد على شهادة نفسه فإنّها لا تصحّ ، ومحلّ ذلك إذا كان لا يعرف الأرض من السّماء ، أمّا إذا كان يعرف ذلك فهو كالصّاحي ، فكفره صحيح ، وكذلك طلاقه وعتاقه وخلعه .
قال ابن عابدين في الحشيشة والسّكر بها : فلمّا ظهر من أمرها - أي الحشيشة - من الفساد كثير وفشا ، عاد مشايخ المذهبين - الحنفيّة والشّافعيّة - إلى تحريمها وأفتوا بوقوع الطّلاق بها . وزاد بعض الحنفيّة على ما تقدّم أنّ زوال العقل إذا كان بالبنج والأفيون ، وكان للتّداوي - أي على سبيل الجواز - أنّ الطّلاق يقع زجراً وعليه الفتوى .
وذهب المالكيّة إلى صحّة طلاقه وعتقه وتلزمه الحدود والجنايات على نفس ومال ، بخلاف عقوده من بيع وشراء وإجارة ونكاح وإقرارات فلا تصحّ ولا تلزم على المشهور . وذهب الشّافعيّة إلى صحّة جميع تصرّفاته ، لعصيانه بسبب زوال عقله ، فجعل كأنّه لم يزل . والصّحيح من مذهب الحنابلة أنّ تناول البنج ونحوه لغير حاجة - إذا زال العقل به كالمجنون - لا يقع طلاق من تناوله ، لأنّه لا لذّة فيه ، وفرّق الإمام أحمد بينه وبين السّكران فألحقه بالمجنون ، وقدّمه في " النّظم " " والفروع " وهو الظّاهر من كلام الخرقيّ فإنّه قال : وطلاق الزّائل العقل بلا سكر لا يقع . قال الزّركشيّ - من الحنابلة - وممّا يلحق بالبنج الحشيشة الخبيثة ، وأبو العبّاس ابن تيميّة يرى أنّ حكمها حكم الشّراب المسكر حتّى في إيجاب الحدّ ، وهو الصّحيح إن أسكرت ، أو أسكر كثيرها وإلاّ حرمت ، وعزّر فقط فيها .
تخبيب *
التّعريف :
1 - التّخبيب : مصدر خبّب ، ومعناه في اللّغة : إفساد الرّجل عبداً أو أمةً لغيره أو صديقاً على صديقه ، يقال : خبّبها فأفسدها . وخبّب فلان غلامي : أي خدعه . وأمّا الخَبّ : فمعناه الفساد والخبث والغشّ ، وهو ضدّ الغِرّ ، إذ الغرّ : هو الّذي لا يفطن للشّرّ بخلاف الخبّ . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإغراء :
2 - الإغراء في اللّغة : مصدر أغرى ، وأغري بالشّيء : أولع به ، يقال : أغريت الكلب بالصّيد ، وأغريت بينهم العداوة .
ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ عن هذا المعنى وهو أعمّ من التّخبيب .
ب - إفساد :
3 - الإفساد : مصدر أفسد ، وهو في اللّغة يقابل الإصلاح .
وأمّا في الاصطلاح ، فقد ذكر صاحب الكلّيّات أنّه : جعل الشّيء فاسداً خارجاً عمّا ينبغي أن يكون عليه وعن كونه منتفعاً به ، وفي الحقيقة : هو إخراج الشّيء عن حالة محمودة لا لغرض صحيح .
والإفساد أعمّ ، لأنّه يكون في الأمور المادّيّة والمعنويّة ، بخلاف التّخبيب لأنّه إفساد خاصّ .
ج - التّحريض :
4 - التّحريض : مصدر حرّض ، ومعناه : الحثّ على الشّيء والإحماء عليه ، ومنه قوله تعالى { يا أيّها النّبيّ حَرِّض المؤمنينَ على القتالِ } .
وهو أعمّ ، لأنّه يكون في الخير والشّرّ ، بخلاف التّخبيب فإنّه لا يكون إلاّ في الشّرّ .
الحكم التّكليفيّ :
5 - التّخبيب حرام ، لحديث « لن يدخل الجنّة خبّ ولا بخيل ولا منّان » ، وحديث « الفاجر خبّ لئيم » وحديث « من خبّب زوجة امرئ أو مملوكه فليس منّا » أي خدعه وأفسده ، ولما يترتّب عليه من الإفساد والإضرار . وتخبيب زوجة الغير خداعها وإفسادها ، أو تحسين الطّلاق إليها ليتزوّجها أو يزوّجها غيره ، ولفظ المملوك الوارد في الحديث يتناول الأمة .
حكم زواج المخَبّب بمن خبّبها :
6 - انفرد المالكيّة بذكرهم الحكم في هذه المسألة ، وصورتها : أن يفسد رجل زوجة رجل آخر ، بحيث يؤدّي ذلك الإفساد إلى طلاقها منه ، ثمّ يتزوّجها ذلك المفسد .
فقد ذكروا أنّ النّكاح يفسخ قبل الدّخول وبعده بلا خلاف عندهم ، وإنّما الخلاف عندهم في تأبيد تحريمها على ذلك المفسد أو عدم تأبيده ، فذكروا فيه قولين :
أحدهما وهو المشهور : أنّه لا يتأبّد ، فإذا عادت لزوجها الأوّل وطلّقها ، أو مات عنها جاز لذلك المفسد نكاحها .
الثّاني : أنّ التّحريم يتأبّد ، وقد ذكر هذا القول يوسف بن عمر كما جاء في شرح الزّرقانيّ ، وأفتى به غير واحد من المتأخّرين في فاس .
هذا ومع أنّ غير المالكيّة من الفقهاء لم يصرّحوا بحكم هذه المسألة ، إلاّ أنّ الحكم فيها وهو التّحريم معلوم ممّا سبق في الحديث المتقدّم .
عقوبة المخبِّب :
7 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المعصية الّتي لا حدّ فيها ولا كفّارة عقوبتها التّعزير بما يراه الإمام مناسباً ، وفعل المخبّب هذا لا يخرج عن كونه معصيةً لا حدّ فيها ولا كفّارةً .
وقد ذكر الحنفيّة أنّ من خدع امرأة رجل أو ابنته وهي صغيرة ، وزوّجها من رجل ، قال محمّد رحمه الله تعالى : أحبسه بهذا أبداً حتّى يردّها أو يموت . وذكر ابن نجيم أنّ هذا المخادع يحبس إلى أن يحدث توبةً أو يموت ، لأنّه ساع في الأرض بالفساد .
وذكر الحنابلة في ( القوّادة ) الّتي تفسد النّساء والرّجال ، أنّ أقلّ ما يجب عليها الضّرب البليغ ، وينبغي شهرة ذلك بحيث يستفيض في النّساء والرّجال لتُجْتَنَب .
وإذا أركبت القوّادة دابّةً وضمّت عليها ثيابها ، ليؤمن كشف عورتها ، ونودي عليها هذا جزاء من يفعل كذا وكذا ( أي يفسد النّساء والرّجال ) كان من أعظم المصالح ، قاله الشّيخ ( أي ابن قدامة ) ليشتهر ذلك ويظهر . وقال : لوليّ الأمر كصاحب الشّرطة أن يعرّف ضررها ، إمّا بحبسها أو بنقلها عن الجيران أو غير ذلك .
تختّم *
التّعريف :
1 - التّختّم مصدر تختّم ، يقال : تختّم بالخاتم أي لبسه ، وأصله الثّلاثيّ ختم .
ومن معاني الختم أيضاً : الأثر الحاصل عن النّقش ، ويتجوّز به في الاستيثاق من الشّيء والمنع منه ، اعتباراً لما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب .
وختم الشّيء : إنهاؤه ، ومنه : ختم القرآن وخاتم الرّسل ، ومنه قوله تعالى : { ما كانَ محمّدٌ أبا أحدٍ من رجالِكم ولكنْ رسولَ اللّهِ وخاتَمَ النّبيّين } أي : آخرهم ، لأنّه ختمت به النّبوّة والرّسالات . ومن المجاز : لبس الخاتم ، وهو حليّ للأصبع ، كالخاتم - بكسر التّاء - ويطلق على الخاتم أيضاً والخاتم والختم والخاتام والخيتام ، وثمّة ألفاظ أخرى مشتقّة من هذه المادّة بالمعنى نفسه ، وصل بعضهم بها إلى عشرة ألفاظ .
والخاتم من الحليّ كأنّه أوّل وهلة ختم به ، فدخل بذلك في باب الطّابع ، ثمّ كثر استعماله لذلك ، وإن أعدّ الخاتم لغير الطّبع . ولا يخرج استعمال الفقهاء للتّختّم عن معناه اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّزيّن :
2 - التّزيّن : مصدر تزيّن ، يقال : تزيّنت المرأة : أي لبست الزّينة أو اتّخذتها ، وتزيّنت الأرض بالنّبات : أي حسنت وبهجت ، والزّينة اسم جامع لما يتزيّن به ، ومعنى الزّينة عند الرّاغب : ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله لا في الدّنيا ولا في الآخرة ، وهي نفسيّة وبدنيّة وخارجيّة . والتّزيّن أعمّ من التّختّم ، لأنّه يكون بالتّختّم وبغيره .
ب - الفَتْخَة :
3 - الفتخة قريبة في المعنى والاستعمال من الخاتم ، فهي مثله من الحليّ ، وقد تعدّدت الأقوال في معناها . فقيل : هي خاتم كبير يكون في اليد والرّجل ، وقيل : هي كالخاتم أيّاً كان ، وقيل : هي خاتم يكون في اليد والرّجل بفصّ وبغير فصّ ، وقيل . هي حلقة تلبس في الأصبع كالخاتم ، وقيل : هي حلقة من فضّة لا فصّ فيها ، فإذا كان فيها فصّ فهي الخاتم ، وروي عن عائشة رضي الله عنها في تفسير قول اللّه تعالى : { ولا يُبْدِيْنَ زِينَتَهنَّ إلاّ ما ظَهَرَ منها } أنّها قالت : المراد بالزّينة في الآية القلب والفتخة ، وقالت : الفتخ : حلق من فضّة يكون في أصابع الرّجلين ، قال ابن برّيّ : حقيقة الفتخة أن تكون في أصابع الرّجلين . فيتّفق الخاتم والفتخة في أنّه يتزيّن بكلّ منهما ، ويختلفان في موضع لبس كلّ منهما ، وفي المادّة الّتي يصنع منها ، وفي شكله .
ج - التّسوّر :
4 - التّسوّر مصدر تسوّر ، ويأتي في اللّغة بمعنى العلوّ والتّسلّق ، يقال : تسوّرت الحائط إذا علوته وتسلّقته ، وبمعنى التّزيّن بالسّوار والتّحلّي به ، يقال : سوّرته أي ألبسته السّوار من الحليّ فتسوّر ، وفي الحديث : « أَيَسُرُّكَ أنْ يُسَوِّرَكَ اللّهُ بهما يومَ القيامةِ سوارين من نار » . فيتّفق التّختّم مع التّسوّر في أنّهما من الزّينة ، ويختلفان في الشّكل والصّنعة وموضع اللّبس .
د - التّدملج :
5 - التّدملج مصدر تدملج ، يقال : تدملج أي لبس الدّملج - بفتح اللام وضمّها - أو الدّملوج وهو المعضّد من الحليّ ، وهو ما يلبس في العضد ، ويقال أيضاً : ألقى عليه دماليجه . فالتّدملج كالتّختّم في أنّه يتزيّن بكلّ منهما ، غير أنّهما يختلفان في الشّكل والصّنعة وموضع اللّبس .
هـ - التّطوّق :
6 - التّطوّق مصدر تطوّق ، يقال : تطوّق أي لبس الطّوق ، وهو حليّ للعنق ، وكلّ شيء استدار فهو طوق ، كطوق الرّحى الّذي يدير القطب ونحو ذلك .
فالتّطوّق كالتّختّم في أنّه يتحلّى ويتزيّن بكلّ منهما ، لكنّهما يختلفان في الشّكل والصّنعة والموضع الّذي يلبس فيه كلّ منهما .
و - التّنطّق :
7 - التّنطّق مصدر تنطّق ، يقال : تنطّق الرّجل وانتطق أي لبس المنطق ، والمنطق والنّطاق والمنطقة : كلّ ما شددت به وسطك ، وقيل لأسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما ذات النّطاقين : لأنّها كانت تطارق ( أي تطابق ) نطاقاً على نطاق ، أو لأنّها شقّت نطاقها ليلة خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الغار ، فجعلت واحدةً لزاد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والأخرى حمّالةً له فالنّطاق كالخاتم في الإحاطة ، لكنّهما يختلفان مادّةً وشكلاً وحجماً وموضعاً .
الحكم التّكليفيّ :
يختلف الحكم التّكليفيّ للتّختّم باختلاف موضعه :
أوّلاً : التّختّم بالذّهب :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للنّساء التّختّم بالذّهب ، ويحرم على الرّجال ذلك ، لما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال « أُحِلَّ الذَّهبُ والحريرُ لإِناثِ أُمّتي ، وحُرِّمَ على ذكورِها » . واختلفوا في تختّم الصّبيّ بالذّهب :
فذهب المالكيّة - في الرّاجح عندهم - إلى أنّ تختّم الصّبيّ بالذّهب مكروه ، والكراهة على من ألبسه أو على وليّه ، ومقابل الرّاجح عند المالكيّة الحرمة .
ونصّ الحنابلة - وهو قول مرجوح للمالكيّة - على حرمة إلباس الصّبيّ الذّهب ، ومنه الخاتم . وأطلق الحنفيّة هنا الكراهة في التّحريم ، واستدلّوا بحديث جابر رضي الله عنه قال : « كنّا ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجواري » وذهب الشّافعيّة في المعتمد عندهم - وعبّر بعضهم بالأصحّ - إلى أنّ الصّبيّ غير البالغ مثل المرأة في جواز التّختّم بالذّهب ، وأنّ للوليّ تزيينه بالحليّ من الذّهب أو الفضّة ، ولو في غير يوم عيد .
ثانياً : التّختّم بالفضّة :
9 - اتّفق الفقهاء على جواز تختّم المرأة بالفضّة . وأمّا تختّم الرّجل بالفضّة فعلى التّفصيل الآتي : ذهب الحنفيّة إلى أنّه يجوز للرّجل التّختّم بالفضّة ، لما روي أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم اتّخذ خاتماً من ورق ، وكان في يده ، ثمّ كان في يد أبي بكر رضي الله عنه ، ثمّ كان في يد عمر رضي الله عنه ، ثمّ كان في يد عثمان رضي الله عنه ، حتّى وقع في بئر أريس . نقشه : محمّد رسول اللّه » . وقالوا : إنّ التّختّم سنّة لمن يحتاج إليه ، كالسّلطان والقاضي ومن في معناهما ، وتركه لغير السّلطان والقاضي وذي حاجة إليه أفضل .
وذهب المالكيّة إلى أنّه لا بأس بالخاتم من الفضّة ، فيجوز اتّخاذه ، بل يندب بشرط قصد الاقتداء برسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا يجوز لبسه عجباً .
وقال الشّافعيّة : يحلّ للرّجل الخاتم من الفضّة ، سواء من له ولاية وغيره ، فيجوز لكلّ لبسه ، بل يسنّ . وقال الحنابلة : يباح للذّكر الخاتم من الفضّة ، لأنّه صلى الله عليه وسلم « اتّخذ خاتماً من ورق » ، قال أحمد في خاتم الفضّة للرّجل : ليس به بأس ، واحتجّ بأنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان له خاتم ، وظاهر ما نقل عن أحمد أنّه لا فضل فيه . وجزم به في التّلخيص وغيره ، وقيل : يستحبّ ، قدّمه في الرّعاية . وقيل : يكره لقصد الزّينة . جزم به ابن تميم . وأمّا تختّم الصّبيّ بالفضّة فجائز عند الفقهاء .
ثالثاً : التّختّم بغير الذّهب والفضّة :
10 - ذهب المالكيّة - في المعتمد عندهم - والحنابلة إلى أنّ التّختّم بالحديد والنّحاس والرّصاص مكروه للرّجال والنّساء ، لما روي « أنّ رجلاً جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عليه خاتم شبه - نحاس أصفر - فقال له : إنّي أجد منك ريح الأصنام فطرحه . ثمّ جاء وعليه خاتم حديد فقال : ما لي أرى عليك حلية أهل النّار فطرحه . فقال : يا رسول اللّه : من أيّ شيء أتّخذه ؟ قال : اتّخذه من ورق ولا تتمّه مثقالاً » .
وقال المالكيّة : إنّ التّختّم بالجلد والعقيق والقصدير والخشب جائز للرّجال والنّساء .
وقال الحنابلة : إنّه يباح للرّجل والمرأة التّحلّي بالجوهر والزّمرّد والزّبرجد والياقوت والفيروز واللّؤلؤ ، أمّا العقيق فقيل : يستحبّ تختّمهما به ، وقيل : يباح التّختّم بالعقيق لما في رواية مهنّا ، وقد سئل الإمام أحمد : ما السّنّة ؟ يعني في التّختّم ، فأجاب بقوله : لم تكن خواتيم القوم إلاّ من الفضّة . قال صاحب كشّاف القناع : الدّملج في معنى الخاتم .
واختلف الحنفيّة في التّختّم بغير الذّهب والفضّة .
والحاصل كما قال ابن عابدين : أنّ التّختّم بالفضّة حلال للرّجال بالحديث ، وبالذّهب والحديد والصّفر حرام عليهم بالحديث ، وبالحجر حلال على اختيار شمس الأئمّة وقاضي خان أخذاً من قول الرّسول وفعله صلى الله عليه وسلم ، لأنّ حلّ العقيق لمّا ثبت بهما ثبت حلّ سائر الأحجار لعدم الفرق بين حجر وحجر ، وحرام على اختيار صاحب الهداية والكافي أخذاً من عبارة الجامع الصّغير : ولا يتختّم إلاّ بالفضّة . فإنّها يحتمل أن يكون القصر فيها بالإضافة إلى الذّهب ، ولا يخفى ما بين المأخذين من التّفاوت .
واختلف الشّافعيّة أيضاً في التّختّم بغير الذّهب والفضّة ، وقد ورد في المجموع طرف من هذا الخلاف ، وهو : قال صاحب الإبانة : يكره الخاتم من حديد أو شبه - نوع من النّحاس - وتابعه صاحب البيان ، وأضاف إليهما الخاتم من رصاص ، وقال صاحب التّتمّة : لا يكره الخاتم من حديد أو رصاص لحديث الواهبة نفسها ، ففيه قوله للّذي أراد تزوّجها : « انظر ولو خاتماً من حديد » .
وفي حاشية القليوبيّ : ولا بأس بلبس غير الفضّة من نحاس أو غيره .
رابعاً : موضع التّختّم :
11 - لم يختلف الفقهاء في موضع التّختّم بالنّسبة للمرأة ، لأنّه تزيّن في حقّها ، ولها أن تضع خاتمها في أصابع يديها أو رجليها أو حيث شاءت .
ولكنّ الفقهاء اختلفوا في موضع التّختّم للرّجل ، بل إنّ فقهاء بعض المذاهب اختلفوا فيما بينهم في ذلك : فذهب بعض الحنفيّة إلى أنّه ينبغي أن يكون تختّم الرّجل في خنصر يده اليسرى ، دون سائر أصابعه ، ودون اليمنى .
وذهب بعضهم إلى أنّه يجوز أن يجعل خاتمه في يده اليمنى ، وسوّى الفقيه أبو اللّيث في شرح الجامع الصّغير بين اليمين واليسار ، لأنّه قد اختلفت الرّوايات عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وقول بعضهم : إنّه في اليمين من علامات أهل البغي ليس بشيء ، لأنّ النّقل الصّحيح عن « رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينفي ذلك » .
والمختار عند مالك رحمه الله التّختّم في اليسار على جهة النّدب ، وجعل الخاتم في الخنصر ، وكان مالك يلبسه في يساره ، قال أبو بكر بن العربيّ في القبس شرح الموطّأ : صحّ عن
« رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه تختّم في يمينه وفي يساره ، واستقرّ الأكثر على أنّه كان يتختّم في يساره » ، فالتّختّم في اليمين مكروه ، ويتختّم في الخنصر ، لأنّه بذلك أتت السّنّة عنه صلى الله عليه وسلم والاقتداء به حسن . ولأنّ كونه في اليسار أبعد عن الإعجاب . وقال الشّافعيّة : يجوز للرّجل لبس خاتم الفضّة في خنصر يمينه ، وإن شاء في خنصر يساره ، كلاهما صحّ فعله عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لكنّ الصّحيح المشهور أنّه في اليمين أفضل لأنّه زينة ، واليمين أشرف .
وقال بعضهم : في اليسار أفضل . وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يتختّم في يساره ، وبإسناد حسن أنّ ابن عبّاس رضي الله عنهما تختّم في يمينه. وعند الشّافعيّة أنّ التّختّم في الوسطى والسّبّابة منهيّ عنه لما ورد عن عليّ رضي الله تعالى عنه قال : « نهاني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن أتختّم في أصبعي هذه أو هذه قال : فأومأ إلى الوسطى والّتي تليها » .
وقال الحنابلة : لبس الخاتم في خنصر اليسار أفضل من لبسه في خنصر اليمين ، نصّ عليه في رواية صالح ، وضعّف في رواية الأثرم وغيره التّختّم في اليمنى ، قال الدّارقطنيّ وغيره : المحفوظ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتختّم في يساره ، وأنّه إنّما كان في الخنصر لكونه طرفاً ، فهو أبعد عن الامتهان فيما تتناوله اليد ، ولأنّه لا يشغل اليد عمّا تتناوله . وعند الحنابلة أنّه يكره لبس الخاتم في سبّابة ووسطى للنّهي الصّحيح عن ذلك .
وظاهره لا يكره لبسه في الإبهام والبنصر ، وإن كان الخنصر أفضل اقتصاراً على النّصّ .
خامساً : وزن خاتم الرّجل :
12 - اختلف الفقهاء في الوزن المباح لخاتم الرّجل : فعند الحنفيّة ، قال الحصكفيّ : لا يزيد الرّجل خاتمه على مثقال . ورجّح ابن عابدين قول صاحب الذّخيرة أنّه لا يبلغ به المثقال ، واستدلّ بما روي أنّ « رجلاً سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم قائلاً : من أيّ شيء أتّخذه ؟ - يعني الخاتم - فقال صلى الله عليه وسلم : اتّخذه من ورق ، ولا تتمّه مثقالاً » .
وقال المالكيّة : يجوز للذّكر لبس خاتم الفضّة إن كان وزن درهمين شرعيّين أو أقلّ ، فإن زاد عن درهمين حرم .
ولم يحدّد الشّافعيّة وزناً للخاتم المباح ، قال الخطيب الشّربينيّ : لم يتعرّض الأصحاب لمقدار الخاتم المباح ، ولعلّهم اكتفوا فيه بالعرف ، أي عرف البلد وعادة أمثاله فيها ، فما خرج عن ذلك كان إسرافاً ... هذا هو المعتمد ، وإن قال الأذرعيّ : الصّواب ضبطه بدون مثقال ، لما في صحيح ابن حبّان وسنن أبي داود عن أبي هريرة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال للابس الخاتم الحديد : ما لي أرى عليك حلية أهل النّار فطرحه وقال : يا رسول اللّه من أيّ شيء أتّخذه ؟ قال : اتّخذه من ورق ولا تتمّه مثقالاً » قال : وليس في كلامهم ما يخالفه . وهذا لا ينافي ما ذكر لاحتمال أنّ ذلك كان عرف بلده وعادة أمثاله .
وقال الحنابلة : لا بأس بجعله مثقالاً فأكثر ، لأنّه لم يرد فيه تحديد ، ما لم يخرج عن العادة ، وإلاّ حرم ( قالوا ) لأنّ الأصل التّحريم ، وإنّما خرج المعتاد لفعله صلى الله عليه وسلم وفعل الصّحابة .
سادساً : عدد خواتم الرّجل :
13 - اختلف الفقهاء في حكم تعدّد خواتم الرّجل :
فنصّ المالكيّة على أنّه لا يباح للرّجل أكثر من خاتم واحد ، فإن تعدّد الخاتم حرم ولو كان في حدود الوزن المباح شرعاً .
واختلف فقهاء الشّافعيّة في تعدّد الخاتم ، ونقل صاحب مغني المحتاج جانباً من هذا الخلاف في قوله : وفي الرّوضة وأصلها : ولو اتّخذ الرّجل خواتيم كثيرةً ليلبس الواحد منها بعد الواحد جاز ، فظاهره الجواز في الاتّخاذ دون اللّبس ، وفيه خلاف مشهور ، والّذي ينبغي اعتماده فيه أنّه جائز ما لم يؤدّ إلى سرف .
وقال الحنابلة : لو اتّخذ الرّجل لنفسه عدّة خواتيم ، فالأظهر جوازه إن لم يخرج عن العادة ، والأظهر جواز لبس الرّجل خاتمين فأكثر جميعاً إن لم يخرج عن العادة .
ولم نجد كلاماً للحنفيّة في هذه المسألة .
سابعاً : النّقش على الخاتم :
14 - اتّفق الفقهاء على جواز النّقش على الخاتم ، وعلى أنّه يجوز نقش اسم صاحب الخاتم عليه ، واختلفوا في نقش لفظ الجلالة أو الذِّكْر :
فقال الحنفيّة والشّافعيّة : يجوز أن ينقش لفظ الجلالة أو ألفاظ الذّكر على الخاتم ، ولكنّه يجعله في كمّه إن دخل الخلاء ، وفي يمينه إذا استنجى .
وقال الحنابلة : يكره أن يكتب على الخاتم ذكر اللّه تعالى من القرآن أو غيره نصّاً ، قال إسحاق بن راهويه : لا يدخل الخلاء به ، وقال في الفروع : ولعلّ أحمد كرهه لذلك ، قال : ولم أجد للكراهة دليلاً سوى هذا ، وهي تفتقر إلى دليل والأصل عدمه . وقال الحنابلة أيضاً : يحرم أن ينقش عليه صورة حيوان ، ويحرم لبسه والصّورة عليه كالثّوب المصوّر ، ولم ير بعض الحنفيّة بأساً في نقش ذلك إذا كان صغيراً بحيث لا يبصر عن بعد .
ثامناً : فصّ الخاتم :
15 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى أنّه يجوز أن يكون لخاتم الرّجل المباح فصّ من مادّته الفضّيّة أو من مادّة أخرى على التّفصيل الآتي :
قال الحنفيّة : يجوز للرّجل أن يجعل فصّ خاتمه عقيقاً أو فيروزجاً أو ياقوتاً أو نحوه ، ولا بأس بسدّ ثقب الفصّ بمسمار الذّهب ليحفظ به الفصّ ، لأنّه قليل ، فأشبه العلم في الثّوب فلا يعدّ لابساً له ، ويجعل الرّجل فصّ خاتمه إلى بطن كفّه بخلاف النّساء ، لأنّه للزّينة في حقّهنّ دون الرّجال . وقال المالكيّة : لا بأس بالفضّة في حلية الخاتم ... ثمّ اختلفوا في الشّرح ، فقال بعضهم : تكون الحلية من الفضّة في خاتم من شيء جائز غير الحديد والنّحاس والرّصاص ، كالجلد والعود أو غير ذلك ممّا يجوز ، فيجعل الفصّ فيه .
وقال بعضهم : يكون الخاتم كلّه من الفضّة لما في صحيح مسلم : « كان خاتم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من ورق ، وكان فصّه حبشيّاً » أي كان صانعه حبشيّاً ، أو كان مصنوعاً كما يصنعه أهل الحبشة فلا ينافي رواية : أنّ فصّه منه .
وقال المالكيّة : لا يجوز للذّكر خاتم بعضه ذهب ولو قلّ .
وقالوا : يجعل فصّ الخاتم ممّا يلي الكفّ ، لأنّه بذلك أتت السّنّة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم والاقتداء به حسن ، فإذا أراد الاستنجاء خلعه كما يخلعه عند إرادة الخلاء .
وقال الشّافعيّة : يجوز الخاتم بفصّ وبغير فصّ ، وأضاف النّوويّ : ويجعل الفصّ من باطن كفّه أو ظاهرها ، وباطنها أفضل للأحاديث الصّحيحة فيه . وقال القليوبيّ : ويسنّ جعل فصّ الخاتم داخل الكفّ . وقال الحنابلة : للرّجل جعل فصّ خاتمه منه أو من غيره ، لأنّ في البخاريّ من حديث أنس رضي الله عنه « كان فصّه منه » ولمسلم « كان فصّه حبشيّاً » . وقالوا : يباح للذّكر من الذّهب فصّ خاتم إذا كان يسيراً ... اختاره أبو بكر عبد العزيز ومجد الدّين ابن تيميّة وتقيّ الدّين ابن تيميّة ، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد ، وإليه ميل ابن رجب ، قال في الإنصاف : وهو الصّواب وهو المذهب ، وفي الفتاوى المصريّة : يسير الذّهب التّابع لغيره كالطّراز ونحوه جائز في الأصحّ من مذهب الإمام أحمد .
واختار القاضي وأبو الخطّاب التّحريم ، وقطع به في شرح المنتهى في باب الآنية .
وقال الحنابلة : الأفضل أن يجعل الرّجل فصّ الخاتم ممّا يلي ظهر كفّه لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كان يفعل ذلك » وكان ابن عبّاس رضي الله عنهما وغيره يجعله ممّا يلي ظهر كفّه .
تاسعاً : تحريك الخاتم في الوضوء :
16 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجب في الوضوء تحريك الخاتم أثناء غسل اليد ، إن كان ضيّقاً ولا يعلم وصول ماء الوضوء إلى ما تحته ، فإن كان الخاتم واسعاً ، أو كان ضيّقاً وعلم وصول الماء إلى ما تحته فإنّ تحريكه لا يجب ، بل يكون مستحبّاً .
وذهب المالكيّة إلى أنّه لا يجب تحويل خاتم المتوضّئ من موضعه ولو كان ضيّقاً إن كان مأذوناً فيه ، وعلى المتوضّئ إزالة غير المأذون فيه إن كان يمنع وصول الماء للبشرة وإلاّ فلا ، وليس الحكم بإزالة ما يمنع وصول الماء للبشرة خاصّاً بالخاتم غير المأذون فيه ، بل هو عامّ في كلّ حائل كشمع وزفت ووسخ .
عاشراً : تحريك الخاتم في الغسل :
17 - قال جمهور الفقهاء : ممّا يتحقّق به الغسل المجزئ أن يعمّم بدنه بالغسل ، حتّى ما تحت خاتم ونحوه ، فيحرّكه ليتحقّق وصول الماء إلى ما تحته ، ولو كان الخاتم ضيّقاً لا يصل الماء إلى ما تحته نزعه وجوباً .
وقال المالكيّة : يجب غسل ظاهر الجسد في الغسل ، وأمّا الخاتم فلا يلزم تحريكه ، كالوضوء . كما نصّ عليه ابن الموّاز خلافاً لابن رشد .
حادي عشر : نزع الخاتم في التّيمّم :
18 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجب على من يريد التّيمّم نزع خاتمه ليصل التّراب إلى ما تحته عند المسح ، ولا يكفي تحريك الخاتم ، لأنّ التّراب كثيف لا يسري إلى ما تحت الخاتم بخلاف الماء في الوضوء . وقال الحنفيّة : يجب على المتيمّم أن يستوعب بالمسح وجهه ويديه فينزع الخاتم أو يحرّكه .
ثاني عشر : العبث بالخاتم في الصّلاة :
19 - ذهب الفقهاء إلى أنّ العبث في الصّلاة مكروه ، والعبث : هو كلّ فعل ليس بمفيد للمصلّي ، ومنه كفّه لثوبه وعبثه به وبجسده وبالحصى وبالخاتم ، وتفصيله والخلاف فيه ينظر في الصّلاة عند الكلام عن المكروهات والمبطلات .
ثالث عشر : التّختّم في الإحرام :
20 - اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ للمحرم التّختّم بخاتمه حال إحرامه ، لأنّ التّختّم ليس لبساً ولا تغطيةً ، وقد روي عن عبد اللّه بن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّه قال : أوثقوا عليكم نفقاتكم - أي بشدّ الهميان في الوسط وفيه كيس النّفقة - ورخّص في الخاتم والهميان للمحرم . وقال المالكيّة : يحرم على الرّجل المحرم لبس الخاتم في الإحرام ولو فضّةً زنته درهمان ، وفيه الفدية إن طال .
رابع عشر : زكاة الخاتم :
21 - اتّفق المالكيّة والشّافعيّة - في الأظهر عندهم - والحنابلة على أنّ الحلية المباحة - ومنها خاتم الذّهب أو الفضّة للمرأة ، وخاتم الفضّة المباح للرّجل - لا زكاة فيه ، لأنّه مصروف عن جهة النّماء إلى استعمال مباح ، فأشبه ثياب البذلة وعوامل الماشية .
وقال الحنفيّة ، وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة : في خاتم الفضّة المباح للرّجل الزّكاة - بشرط النّصاب - لأنّ الفضّة خلقت ثمناً ، فيزكّيها كيف كانت . وتفصيله في الزّكاة .
خامس عشر : دفن الخاتم مع الشّهيد وغيره :
22 - ينزع عن الميّت قبل دفنه ما عليه من الحلية من خاتم وغيره لأنّ دفنه مع الميّت إضاعة للمال ، وهو منهيّ عنه . أمّا الشّهيد فقد اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه ينزع عنه عند دفنه الجلد والسّلاح والفرو والحشو والخفّ والمنطقة والقلنسوة وكلّ ما لا يعتاد لبسه غالباً ، والخاتم مثل هذه بل أولى ، لحديث ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما :
« أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود ، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم » ولأنّ ما يترك على الشّهيد يترك ليكون كفناً ، والكفن ما يلبس للسّتر ، والخاتم لا يلبس للسّتر فينزع . وقال المالكيّة : ندب دفن الشّهيد بخفّ وقلنسوة ومنطقة قلّ ثمنها ، وبخاتم قلّ فصّه أي قيمته ، فلا ينزع إلاّ أن يكون نفيس الفصّ .
تخدير *
التّعريف :
1 - الخدر - بالتّحريك - استرخاء يغشى بعض الأعضاء أو الجسد كلّه . والخدر : الكسل والفتور . وخدّر العضو تخديراً : جعله خدراً ، وحقنه بمخدّر لإزالة إحساسه .
ويقال : خدّره الشّراب وخدّره المرض .
والمخدّر : مادّة تسبّب في الإنسان والحيوان فقدان الوعي بدرجات متفاوتة ، كالبنج والحشيش والأفيون ، والجمع مخدّرات ، وهي محدثة .
ولا يخرج استعمال الفقهاء للتّخدير عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّفتير :
2 - فتر عن العمل فتوراً : انكسرت حدّته ولان بعد شدّته ، ومنه : فتر الحرّ إذا انكسر ، فيكون التّفتير تكسيراً للحدة ، وتلييناً بعد الشّدّة .
وعلى هذا فالتّفتير أعمّ من التّخدير ، إذ التّخدير نوع من التّفتير .
ب - الإغماء :
3 - أغمي عليه : عرض له ما أفقده الحسّ والحركة . والإغماء : فتور غير أصليّ يزيل عمل القوى لا بمخدّر . فالتّخدير مباين للإغماء .
ج - الإسكار :
4 - أسكره الشّراب أزال عقله ، فالإسكار : إزالة الشّراب للعقل دون الحسّ والحركة ، فيكون التّخدير أعمّ من الإسكار . وهناك ألفاظ أخرى لها صلة بالتّخدير كالمفسد والمرقِّد . قال الحطّاب : فائدة تنفع الفقيه ، يعرف بها الفرق بين المسكر والمفسد والمرقد ، فالمسكر : ما غيّب العقل دون الحواسّ مع نشوة وفرح ، والمفسد : ما غيّب العقل دون الحواسّ لا مع نشوة وفرح كعسل البلادر ، والمرقد : ما غيّب العقل والحواسّ كالسيكران .
الحكم التّكليفيّ :
5 - المخدّرات أنواع متعدّدة تختلف لاختلاف أصولها المستخرجة منها .
وتناول المخدّرات كالحشيشة والأفيون والقاتّ والكوكايين والبنج والكفتة وجوزة الطّيب والبرش وغيرها بالمضغ أو التّدخين أو غيرهما ينتج عنه تغييب العقل ، وقد يؤدّي إلى الإدمان ، ممّا يسبّب تدهوراً في عقليّة المدمنين وصحّتهم ، وتغيّر الحال المعتدلة في الخلق والخلق . قال ابن تيميّة : كلّ ما يغيّب العقل فإنّه حرام ، وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب ، فإنّ تغييب العقل حرام بإجماع المسلمين ، أي إلاّ لغرض معتبر شرعاً .
6- وذهب جمهور الفقهاء إلى حرمة تناول المخدّرات الّتي تغشى العقل ، ولو كانت لا تحدث الشّدّة المطربة الّتي لا ينفكّ عنها المسكر المائع .
وكما أنّ ما أسكر كثيره حرم قليله من المائعات ، كذلك يحرم مطلقاً ما يخدّر من الأشياء الجامدة المضرّة بالعقل أو غيره من أعضاء الجسد . وذلك إذا تناول قدراً مضرّاً منها . دون ما يؤخذ منها من أجل المداواة ، لأنّ حرمتها ليست لعينها ، بل لضررها .
7- وعلى هذا يحرم تناول البنج والحشيشة والأفيون في غير حالة التّداوي ، لأنّ ذلك كلّه مفسد للعقل ، فيحدث لمتناوله فساداً ، ويصدّ عن ذكر اللّه وعن الصّلاة . لكن تحريم ذلك ليس لعينه بل لنتائجه .
8- ويحرم القدر المسكر المؤذي من جوزة الطّيب ، فإنّها مخدّرة ، لكن حرمتها دون حرمة الحشيشة .
9- وذهب الفقيه أبو بكر بن إبراهيم المقري الحرازيّ الشّافعيّ إلى تحريم القاتّ في مؤلّفه في تحريم القاتّ . حيث يقول : إنّي رأيت من أكلها الضّرر في بدني وديني فتركت لها ، فقد ذكر العلماء : أنّ المضرّات من أشهر المحرّمات ، فمن ضررها أنّ آكلها يرتاح ويطرب وتطيب نفسه ويذهب حزنه ، ثمّ يعتريه بعد ساعتين من أكله هموم متراكمة وغموم متزاحمة وسوء أخلاق . وكذلك ذهب الفقيه حمزة النّاشريّ إلى تحريمه واحتجّ بحديث أمّ سلمة رضي الله عنها « أنّه صلى الله عليه وسلم نهى عن كلّ مسكر ومفتر » .
أدلّة تحريم المخدّرات :
10 - الأصل في تحريمها ما رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بسند صحيح عن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت :« نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن كلّ مسكر ومفتر» . قال العلماء : المفتر : كلّ ما يورث الفتور والخدر في الأطراف . قال ابن حجر : وهذا الحديث فيه دليل على تحريم الحشيش بخصوصه ، فإنّها تسكر وتخدّر وتفتر .
وحكى القرافيّ وابن تيميّة الإجماع على تحريم الحشيشة ، قال ابن تيميّة : ومن استحلّها فقد كفر ، وإنّما لم تتكلّم فيها الأئمّة الأربعة رضي الله عنهم ، لأنّها لم تكن في زمنهم ، وإنّما ظهرت في آخر المائة السّادسة وأوّل المائة السّابعة حين ظهرت دولة التّتار .
طهارة المخدّرات ونجاستها :
11 - المخدّرات الجامدة كلّها عند جمهور الفقهاء طاهرة غير نجسة وإن حرم تعاطيها ، ولا تصير نجسةً بمجرّد إذابتها في الماء ولو قصد شربها ، لأنّ الحكم الفقهيّ أنّ نجاسة المسكرات مخصوصة بالمائعات منها ، وهي الخمر الّتي سمّيت رجساً في القرآن الكريم ، وما يلحق بها من سائر المسكرات المائعة .
بل قد حكى ابن دقيق العيد الإجماع على طهارة المخدّرات . على أنّ بعض الحنابلة رجّح الحكم بنجاسة هذه المخدّرات الجامدة . وتفصيل ذلك في موضوع النّجاسات .
علاج مدمني المخدّرات :
12 - سئل ابن حجر المكّيّ الشّافعيّ عمّن ابتلي بأكل الأفيون والحشيش ونحوهما ، وصار إن لم يأكل منه هلك . فأجاب : إن علم أنّه يهلك قطعاً حلّ له ، بل وجب ، لاضطراره إلى إبقاء روحه ، كالميتة للمضطرّ ، ويجب عليه التّدرّج في تقليل الكميّة الّتي يتناولها شيئاً فشيئاً ، حتّى يزول تولّع المعدة به من غير أن تشعر ، قال الرّمليّ من الحنفيّة : وقواعدنا لا تخالفه في ذلك .
بيع المخدّرات وضمان إتلافها :
13 - لمّا كانت المخدّرات طاهرةً - كما سبق تفصيل ذلك - وأنّها قد تنفع في التّداوي بها جاز بيعها للتّداوي عند جمهور الفقهاء ، وضمن متلفها ، واستثنى بعض الفقهاء الحشيشة ، فقالوا بحرمة بيعها كابن نجيم الحنفيّ ، وذلك لقيام المعصية بذاتها ، وذكر ابن الشّحنة أنّه يعاقب بائعها ، وصحّح ابن تيميّة نجاستها وأنّها كالخمر ، وبيع الخمر لا يصحّ فكذا الحشيشة عند الحنابلة ، وذهب بعض المالكيّة إلى ما ذهب إليه ابن تيميّة .
أمّا إذا كان بيعها لا لغرض شرعيّ كالتّداوي ، فقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى تحريم بيع المخدّرات لمن يعلم أو يظنّ تناوله لها على الوجه المحرّم ، ولا يضمن متلفها ، خلافاً للشّيخ أبي حامد - أي الإسفرايينيّ - ويفهم من كلام ابن عابدين في حاشيته أنّ البيع مكروه ويضمن متلفها .
تصرّفات متناول المخدّرات :
14 - إنّ متناول القدر المزيل للعقل من المخدّرات ، إمّا أن يكون للتّداوي أو لا ، فإن كان للتّداوي فإنّ تصرّفاته لا تصحّ عند جماهير الفقهاء .
أمّا إذا كان زوال العقل بتناول المخدّرات لا للتّداوي ، فإنّ الفقهاء مختلفون فيما يصحّ من تصرّفاته وما لا يصحّ . فذهب الحنفيّة إلى أنّ تصرّفاته صحيحة إذا استعمل الأفيون للّهو ، لكونه معصيةً ، واستثنى الحنفيّة الرّدّة والإقرار بالحدود والإشهاد على شهادة نفسه فإنّها لا تصحّ ، ومحلّ ذلك إذا كان لا يعرف الأرض من السّماء ، أمّا إذا كان يعرف ذلك فهو كالصّاحي ، فكفره صحيح ، وكذلك طلاقه وعتاقه وخلعه .
قال ابن عابدين في الحشيشة والسّكر بها : فلمّا ظهر من أمرها - أي الحشيشة - من الفساد كثير وفشا ، عاد مشايخ المذهبين - الحنفيّة والشّافعيّة - إلى تحريمها وأفتوا بوقوع الطّلاق بها . وزاد بعض الحنفيّة على ما تقدّم أنّ زوال العقل إذا كان بالبنج والأفيون ، وكان للتّداوي - أي على سبيل الجواز - أنّ الطّلاق يقع زجراً وعليه الفتوى .
وذهب المالكيّة إلى صحّة طلاقه وعتقه وتلزمه الحدود والجنايات على نفس ومال ، بخلاف عقوده من بيع وشراء وإجارة ونكاح وإقرارات فلا تصحّ ولا تلزم على المشهور . وذهب الشّافعيّة إلى صحّة جميع تصرّفاته ، لعصيانه بسبب زوال عقله ، فجعل كأنّه لم يزل . والصّحيح من مذهب الحنابلة أنّ تناول البنج ونحوه لغير حاجة - إذا زال العقل به كالمجنون - لا يقع طلاق من تناوله ، لأنّه لا لذّة فيه ، وفرّق الإمام أحمد بينه وبين السّكران فألحقه بالمجنون ، وقدّمه في " النّظم " " والفروع " وهو الظّاهر من كلام الخرقيّ فإنّه قال : وطلاق الزّائل العقل بلا سكر لا يقع . قال الزّركشيّ - من الحنابلة - وممّا يلحق بالبنج الحشيشة الخبيثة ، وأبو العبّاس ابن تيميّة يرى أنّ حكمها حكم الشّراب المسكر حتّى في إيجاب الحدّ ، وهو الصّحيح إن أسكرت ، أو أسكر كثيرها وإلاّ حرمت ، وعزّر فقط فيها .
عقوبة متناول المخدّرات :
15 - اتّفق الفقهاء على أنّ متناول المخدّرات للتّداوي ولو زال عقله لا عقوبة عليه ، من حدّ أو تعزير . أمّا إذا تناول القدر المزيل للعقل بدون عذر فإنّه لا حدّ عليه أيضاً عند جماهير العلماء - إلاّ ما ذهب إليه ابن تيميّة في إيجاب الحدّ على من سكر من الحشيشة ، مفرّقاً بينها وبين سائر المخدّرات . بأنّ الحشيشة تشتهى وتطلب بخلاف البنج ، فالحكم عنده منوط باشتهاء النّفس . واتّفق الفقهاء أيضاً على تعزير متناول المخدّرات بدون عذر ، لكن ذهب الشّافعيّة إلى أنّ الأفيون وغيره إذا أذيب واشتدّ وقذف بالزّبد ، فإنّه يلحق بالخمر في النّجاسة والحدّ ، كالخبز إذا أذيب وصار كذلك ، بل أولى . وقيّد الشّافعيّة عقوبة متناول المخدّرات بما إذا لم يصل إلى حالة تلجئه إلى ذلك كما سبق ، فإن وصل إلى تلك الحالة لا يعزّر ، بل يجب عليه الإقلاع عنه إمّا باستعمال ضدّه أو تقليله تدريجيّاً .
تخذيل *
التّعريف :
1 - التّخذيل لغةً : حمل الرّجل على خذلان صاحبه ، وتثبيطه عن نصرته ، يقال : خذلته تخذيلاً : حملته على الفشل وترك القتال .
واصطلاحاً : صدّ النّاس عن الغزو وتزهيدهم في الخروج إليه .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - يحرم تخذيل المجاهدين عن الجهاد بأيّ وسيلة حصل من قول أو فعل . قال اللّه تعالى في ذمّ المخذّلين : { قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ المُعَوِّقين منكم والقائلينَ لإِخوانِهم هَلُمَّ إلينا ولا يَأْتُونَ البَأْسَ إلاّ قَلِيلاً } . وقال أيضاً في شأن المنافقين : { فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهم خِلافَ رسولِ اللّهِ وكَرِهُوا أنْ يُجَاهِدُوا بأموالِهم وأَنفسِهم في سبيلِ اللّهِ وقالوا لا تَنْفِروا في الحَرِّ قلْ نارُ جهنَّمَ أشدُّ حَرَّاً لو كانوا يَفْقَهُون } .
استصحاب المخذّل والمرجف :
3 - لا يستصحب الأمير معه مخذّلاً ، وهو الّذي يثبّط النّاس عن الغزو ويزهّدهم في الخروج إلى القتال والجهاد ، مثل أن يقول : الحرّ أو البرد شديد ، والمشقّة شديدة ، ولا تؤمن هزيمة هذا الجيش وأشباه هذا . ولا مرجفاً وهو الّذي يقول : قد هلكت سريّة المسلمين ، وما لهم مدد ولا طاقة لهم بالكفّار ، والكفّار لهم قوّة ومدد وصبر ، ولا يثبت لهم أحد ونحو هذا ، ولا من يعين على المسلمين بالتّجسّس للكفّار وإطلاعهم على عورات المسلمين ومكاتبتهم بأخبارهم ودلالتهم على عوراتهم أو إيواء جواسيسهم ، ولا من يوقع العداوة بين المسلمين ويسعى بالفساد ، لقوله تعالى : { ولو أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعدُّوا له عُدَّةً ولكن كَرِهَ اللّهُ انْبِعَاثَهم فَثَبَّطَهم وقيل اقعُدُوا مع القَاعِدين لو خَرَجُوا فيكم ما زَادُوكم إلاّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكم يَبْغُونَكم الفِتْنَةَ } ولأنّ هؤلاء مضرّة على المسلمين فيلزمه منعهم ، وإن خرج معه أحد هؤلاء لم يسهم له ولم يرضخ وإن أظهر عون المسلمين ، لأنّه يحتمل أن يكون أظهره نفاقاً وقد ظهر دليله ، فيكون مجرّد ضرر فلا يستحقّ ممّا غنموا شيئاً .
وإن كان الأمير أحد هؤلاء لم يستحبّ الخروج معه ، لأنّه إذا منع خروج المخذّل ومن في حكمه تبعاً فمتبوعاً أولى ، ولأنّه لا تؤمن المضرّة على من صحبه .
تخريب *
انظر : جهاد .
تخريج المناط *
التّعريف :
1 - التّخريج والاستخراج بمعنًى واحد كالاستنباط والمناط : موضع التّعليق .
ومناط الحكم عند الأصوليّين : علّته .
وتخريج المناط هو : النّظر والاجتهاد في إثبات علّة الحكم ، إذا دلّ النّصّ أو الإجماع على الحكم دون علّته ، وذلك أن يستخرج المجتهد العلّة برأيه . كالاجتهاد في إثبات كون الشّدّة المطربة علّةً لتحريم شرب الخمر ، وكون القتل العمد العدوان علّةً لوجوب القصاص في المحدّد ، وكون الطّعم علّة ربا الفضل في البرّ ونحوه حتّى يقاس عليه كلّ ما سواه في علّته
الألفاظ ذات الصّلة :
المناسبة :
2 - وهي : تعيين العلّة بإبداء وجود العلاقة بين الوصف والحكم ، بحيث يدركه العقل السّليم مع السّلامة من القوادح . ويسمّى استخراج المناسبة : تخريج المناط .
وبذلك يكون تخريج المناط أعمّ من المناسبة ، إذ قد يكون باستخراج المناسبة أو بغيرها .
الحكم الإجماليّ :
3 - عدّ بعض الأصوليّين تخريج المناط مسلكاً من مسالك العلّة ، إذ هو اجتهاد في استخراجها ، لكنّه يعتبر في الرّتبة دون تحقيق المناط وتنقيحه .
ولذلك اختلف الأصوليّون في الأخذ به ، فأنكره أهل الظّاهر والشّيعة وطائفة من المعتزلة البغداديّين ، وقال الغزاليّ عنه : العلّة المستنبطة عندنا لا يجوز التّحكّم بها ، بل قد تعلم بالإيماء وإشارة النّصّ فتلحق بالمنصوص ، وقد تعلم بالسّبر .. إلخ ثمّ قال : وكلّ ذلك قريب من القسمين الأوّلين ( تحقيق المناط وتنقيحه ) والقسم الأوّل ( تحقيق المناط ) متّفق عليه ، والثّاني ( تنقيح المناط ) مسلّم من الأكثرين . وتفصيل ذلك ينظر في الملحق الأصوليّ .
تخصّر *
التّعريف :
1 - للتّخصّر في اللّغة معان ، منها : أنّه وضع اليد على الخصر ، ومثله الاختصار . والخصر من الإنسان : وسطه وهو المستدقّ فوق الوركين ، والجمع خصور ، مثل فلس وفلوس . والخصران والخاصرتان : معروفان .
والاختصار والتّخصّر : أن يضع الرّجل يده على خصره في الصّلاة أو غيرها من الاتّكاء على المخصرة ، وهي : ما يتوكّأ عليه من عصاً ونحوها . وفي رواية عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أنّه نهى أن يصلّي الرّجل مختصراً ومتخصّراً » .
قيل : هو من المخصرة ، وقيل : معناه أن يصلّي الرّجل وهو واضع يده على خاصرته ، وجاء في الحديث : « الاختصار في الصّلاة راحة أهل النّار » أي أنّه فعل اليهود في صلاتهم . وهم أهل النّار قال ابن منظور : ليس الرّاحة المنسوبة لأهل النّار هي راحتهم في النّار ، إذ لا راحة لهم فيها ، وإنّما هي راحتهم في صلاتهم في الدّنيا . يعني أنّه إذا وضع يده على خصره كأنّه استراح بذلك ، وسمّاهم أهل النّار لمصيرهم إليها ، لا لأنّ ذلك راحتهم في النّار . وهو : أي التّخصّر في الاصطلاح لا يخرج عن ذلك .
الحكم الإجماليّ :
2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ التّخصّر في الصّلاة مكروه ، أي تنزيهاً .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه مكروه تحريماً ، لمنافاته هيئة الصّلاة المأثورة ، والتّشبّه بالجبابرة ، وقد نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك . روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى أن يصلّي الرّجل مختصراً » وعنه رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الخصر في الصّلاة » والمراد وضع اليد على الخاصرة . وفي رواية : « نهى أن يصلّي الرّجل متخصّراً » - بتشديد الصّاد - وهو أن يضع يده على خاصرته - وهو يصلّي - ما لم تكن به حاجة تدعو إلى وضعها . فإن كان به عذر كمن وضع يده على خاصرته لوجع في جنبه أو تعب في قيام اللّيل ، فتخصّر ، جاز له ذلك في حدود ما تقتضي به الحاجة ، ويقدّر ذلك بقدرها .
وفيه ورد حديث : « المتخصّرون يوم القيامة على وجوههم النّور » . وقال ثعلب : أي المصلّون باللّيل ، فإذا تعبوا وضعوا أيديهم على خواصرهم . وتابعه صاحب القاموس ففسّر الحديث بغير ذلك . وروى أبو داود والنّسائيّ من طريق سعيد بن زياد قال : « صلّيت إلى جنب ابن عمر فوضعت يديّ على خاصرتيّ . فلمّا صلّى قال : هذا . الصّلب في الصّلاة ، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينهى عنه » .
وأمّا التّخصّر خارج الصّلاة فقد جاء في تنوير الأبصار وشرحه : أنّه مكروه تنزيهاً .
لأنّه فعل المتكبّرين ( ر : الصّلاة : مكروهات الصّلاة ) .
وأمّا الاختصار بمعنى الاتّكاء في الصّلاة على المخصرة أو غيرها فقد سبق تفصيل حكمه في مصطلح ( استناد ) .
الاتّكاء على المخصرة ونحوها في خطبة الجمعة :
3 - توكّؤ الخطيب على المخصرة في حال خطبة الجمعة مندوب عند المالكيّة ، وهو أيضاً من سنن الخطبة عند الشّافعيّة والحنابلة . ويجعلها بيمينه عند المالكيّة ، ويستحبّ عند الشّافعيّة أن يجعلها في يده اليسرى كعادة من يريد الضّرب بالسّيف والرّمي بالقوس ، ويشغل يده اليمنى بحرف المنبر .
وجاء في كشّاف القناع من كتب الحنابلة : أن يجعلها بإحدى يديه ، إلاّ أنّ صاحب الفروع ذكر أنّه يتوجّه باليسرى ويعتمد بالأخرى على حرف المنبر ، فإن لم يجد شيئاً يعتمد عليه ، فقد ذكر الشّافعيّة أنّه يجعل اليمنى على اليسرى أو يرسلهما ولا يعبث بهما .
وذهب الحنفيّة - كما جاء في الفتاوى الهنديّة - إلى كراهة اتّكاء الخطيب على قوس أو عصاً في أثناء الخطبة من يوم الجمعة ، وإنّما يتقلّد الخطيب السّيف في كلّ بلدة فتحت به . ومثل العصا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : القوس والسّيف ، والعصا أولى من القوس والسّيف عند المالكيّة ، والمراد بالقوس كما جاء في الدّسوقيّ قوس النّشاب ، وهي القوس العربيّة لطولها واستقامتها ، لا العجميّة لقصرها وعدم استقامتها .
واستدلّ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على ما ذهبوا إليه من اتّكاء الخطيب على المخصرة في حال الخطبة من يوم الجمعة بما رواه أبو داود عن الحكم بن حزن : قال : « وفدت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فشهدنا معه الجمعة ، فقام متوكّئاً على سيف أو قوس أو عصا مختصراً » . قال مالك : وذلك ممّا يستحبّ للأئمّة أصحاب المنابر أن يخطبوا يوم الجمعة ومعهم العصا ، يتوكّئون عليها في قيامهم ، وهو الّذي رأينا وسمعنا .
تخصيص *
التّعريف :
1 - تخصيص الإنسان بالشّيء : تفضيله به على غيره .
وفي اصطلاح جمهور الأصوليّين يطلق على : قصر العامّ على بعض ما يتناوله بدليل يدلّ على ذلك ، سواء أكان هذا الدّليل مستقلاً أم غير مستقلّ ، مقارناً أم غير مقارن .
وعند الحنفيّة : قصر العامّ على بعض أفراده بدليل مستقلّ مقارن ، فخرج الاستثناء والصّفة ونحوهما ، لأنّ القصر حصل فيما ذكر بدليل غير مستقلّ . وخرج النّسخ ، لأنّه قصر بدليل غير مقارن .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - النّسخ :
2 - النّسخ هو : الرّفع والإزالة .
وفي اصطلاح الأصوليّين : رفع الشّارع الحكم المتقدّم بحكم متأخّر بدليل يدلّ على ذلك . فالفرق بين النّسخ وبين التّخصيص : أنّ التّخصيص ليس فيه رفع للحكم ، وأمّا النّسخ فهو رفع الحكم بعد ثبوته . والتّخصيص قصر بدليل مقارن عند الحنفيّة ، والنّسخ فيه تراخ .
ب - التّقييد :
3 - التّقييد : تقليل شيوع اللّفظ المطلق باقترانه بلفظ آخر يدلّ على تقييده بشرط أو صفة أو حال أو نحو ذلك . ومثاله لفظ " رجل " إذا اقترن بلفظ " مؤمن " مثلاً ، وقيل : رجل مؤمن ، فإنّ لفظ " رجل " مطلق وهو شائع ومنتشر في كلّ ما يصدق عليه معناه ، وهو أي ذكر بالغ من نوع الإنسان ، مؤمناً كان أو غير مؤمن ، ولمّا اقترن به لفظ " مؤمن " قلّل من شيوعه وانتشاره ، وجعله مقصوراً على من كان مؤمناً دون غيره .
فالتّقييد إنّما يكون للألفاظ المطلقة ، ليقلّل من شيوعها وانتشارها فيما يصدق عليه معناها ، ويجعلها مقصورةً على ما يوجد فيه القيد دون ما عداه .
أمّا التّخصيص : فإنّه يكون في الألفاظ العامّة ، ليقلّل من شمولها ويقصرها على بعض ما يصدق عليه معناها دون بعضها الآخر .
ج - الاستثناء :
4 - الاستثناء : إخراج من متعدّد بإلاّ أو إحدى أخواتها . أو هو المنع من دخول بعض ما يتناوله صدر الكلام في حكمه بإلاّ أو إحدى أخواتها .
والاستثناء نوع من المخصّصات للعامّ عند جمهور الأصوليّين ، وليس مخصّصاً للعامّ عند الحنفيّة ، وإنّما هو قاصر للعامّ على بعض أفراده .
الحكم الإجماليّ :
5 - التّخصيص جائز عقلاً وواقع استقراءً ، ويجوز التّخصيص إلى واحد ، إذا لم يكن لفظ العامّ جمعاً ، وإلى أقلّ الجمع إذا كان جمعاً .
ويجوز التّخصيص بالعقل عند الحنفيّة كما يجوز باللّفظ .
واختلف الأصوليّون في أنّ العامّ بعد التّخصيص يبقى عامّاً في الباقي بطريق الحقيقة أم يصير مجازاً ؟ والأشبه أنّه حقيقة في البعض الباقي ، وهذا رأي الحنابلة وكثير من الحنفيّة والشّافعيّة ، وقيّده بعضهم بأن كان الباقي غير منحصر ، وبعضهم بقيود أخرى .
قال البزدويّ : من شرط في العامّ الاجتماع دون الاستغراق قال : إنّه يبقى حقيقةً في العموم بعد التّخصيص ، ومن قال : شرطه الاستيعاب والاستغراق قال : يصير مجازاً بعد التّخصيص ، وإن خصّ منه فرد واحد .
وهل يبقى العامّ حجّةً بعد التّخصيص أم لا ؟ قال أكثر الأصوليّين ، وهو الصّحيح في مذهب الحنفيّة : إنّ العامّ يبقى حجّةً بعد التّخصيص ، معلوماً كان المخصوص أو مجهولاً . وبعضهم قيّد حجّيّته بما إذا كان المخصوص معلوماً لا مجهولاً . وقال الكرخيّ : لا يبقى حجّةً أصلاً ، وهو قول أبي ثور من الشّافعيّة . وتفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ .
تخطّي الرّقاب*
التّعريف :
1 - يقال في اللّغة : تخطّى النّاس واختطاهم أي : جاوزهم . ويقال : تخطّيت رقاب النّاس إذا تجاوزتهم . قال ابن المنير : التّفرقة بين اثنين المنهيّ عنها بقوله صلى الله عليه وسلم : « فلم يفرِّق بين اثنين » تتناول القعود بينهما وإخراج أحدهما والقعود مكانه .
وقد يطلق على مجرّد التّخطّي . وفي التّخطّي زيادة رفع رجليه على رءوسهما أو أكتافهما ، وربّما تعلّق بثيابهما شيء ممّا في رجليه . ولا يخرج في معناه الاصطلاحيّ عن هذا .
حكمه الإجماليّ :
2 - لتخطّي الرّقاب أحكام تختلف باختلاف حالاته .
ففي الجمعة إمّا أن يكون المتخطّي هو الإمام أو غيره .
فإن كان المتخطّي هو الإمام ، ولم يكن له طريق إلاّ أن يتخطّى رقاب النّاس ليصل إلى مكانه ، جاز له ذلك بغير كراهة ، لأنّه موضع حاجة .
وإن كان غير الإمام : فعند الحنفيّة : إمّا أن يكون دخوله المسجد قبل أن يشرع الإمام في الخطبة أو بعد الشّروع فيها .
فإن كان قبله : فإنّه لا بأس بالتّخطّي إن كان لا يجد إلاّ فرجةً أمامه ، فيتخطّى إليها للضّرورة ، ما لم يؤذ بذلك أحداً ، لأنّه يندب للمسلم أن يتقدّم ويدنو من المحراب إذا لم يكن أثناء الخطبة ، ليتّسع المكان لمن يجيء بعده ، وينال فضل القرب من الإمام .
فإذا لم يفعل الأوّل ذلك فقد ضيّع المكان من غير عذر ، فكان للّذي جاء بعده أن يأخذ ذلك المكان وإن كان دخوله المسجد والإمام يخطب : فإنّ عليه أن يستقرّ في أوّل مكان يجده ، لأنّ مشيه في المسجد وتقدّمه في حالة الخطبة منهيّ عنه ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « فلم يفرّق بين اثنين » وقوله : « ولم يتخطّ رَقَبَةَ مسلم ، ولم يؤذ أحداً » وقوله « للّذي جاء يتخطّى رقاب النّاس : اجلس : فقد آذيت وآنيت » .
وعند المالكيّة يجوز لداخل المسجد أن يتخطّى الصّفوف لفرجة قبل جلوس الخطيب على المنبر ، ولا يجوز التّخطّي بعده ولو لفرجة .
وقد نصّ الحنفيّة والشّافعيّة على أنّه إن لم يكن للدّاخل موضع وبين يديه فرجة لا يصل إليها إلاّ بتخطّي رجل أو رجلين لم يكره له ذلك ، لأنّه يسير . وإن كان بين يديه خلق كثير ، فإن رجا إذا قاموا إلى الصّلاة أن يتقدّموا جلس حتّى يقوموا ، وإن لم يرج أن يتقدّموا جاز أن يتخطّى ليصل إلى الفرجة ، لأنّه موضع حاجة ، وهذه إحدى الرّوايتين عن أحمد ، وفي رواية أخرى أنّ للدّاخل إذا رأى فرجةً لا يصل إليها إلاّ بالتّخطّي جاز له ذلك .
3 - وإذا جلس في مكان ، ثمّ بدت له حاجة أو احتاج الوضوء فله الخروج ولو بالتّخطّي . « قال عقبة : صلّيت وراء النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر فسلّم ، ثمّ قام مسرعاً فتخطّى رقاب النّاس إلى بعض حجر نسائه ، فقال : ذكرت شيئاً من تِبْرٍ عندنا ، فكرهت أن يحبسني ، فأمرت بقسمته » فإذا قام من مجلسه ثمّ رجع إليه فهو أحقّ به ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من قام من مجلسه ثمّ رجع إليه فهو أحقّ به » وحكمه في التّخطّي إلى موضعه حكم من رأى بين يديه فرجةً على نحو ما مرّ .
4 - ويجوز التّخطّي بعد الخطبة وقبل الصّلاة ، ولو لغير فرجة ، كمشي بين الصّفوف ولو حال الخطبة . قال به المالكيّة . والتّخطّي للسّؤال كرهه الحنفيّة ، فلا يمرّ السّائل بين يدي المصلّي ، ولا يتخطّى رقاب النّاس ، ولا يسأل النّاس إلحافاً إلاّ إذا كان لأمر لا بدّ منه .
ويجوز تخطّي رقاب الّذين يجلسون على أبواب المساجد حيث لا حرمة لهم ، على ما هو المشهور عند الحنابلة .
5 - ويكره التّخطّي في غير الصّلاة من مجامع النّاس بلا أذًى ، فإن كان فيه أذًى حرم .
6 - ويحرم إقامة شخص ، ولو في غير المسجد ، ليجلس مكانه ، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقيم الرّجل الرّجل من مجلسه ، ثمّ يجلس فيه ولكن يقول تفسّحوا وتوسّعوا » وقال صلى الله عليه وسلم : « من سَبَق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له » وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرّجل من مجلسه ، ثمّ يجلس مكانه . فإن قعد واحد من النّاس في موضع من المسجد ، لا يجوز لغيره أن يقيمه حتّى يقعد مكانه ، لما روى مسلم عن أبي الزّبير عن جابر رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقيمنّ أحدكم أخاه يوم الجمعة ، ثمّ ليخالف إلى مقعده فيقعد فيه ، ولكن يقول : افسحوا » قال تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا قيل لكم تَفَسَّحُوا في المجالسِ فافْسَحُوا يَفْسَحِ اللّهُ لكم } فإن قام رجل وأجلسه مكانه باختياره جاز له أن يجلس .
وأمّا صاحب الموضع فإنّه إن كان الموضع الّذي ينتقل إليه مثل الأوّل في سماع كلام الإمام لم يكره له ذلك ، وإن كان الموضع الّذي انتقل إليه دون الّذي كان فيه في القرب من الإمام كره له ذلك ، لأنّه آثر غيره في القربة ، وفيه تفويت حظّه .
7 - وإذا أمر إنسان إنساناً أن يبكّر إلى الجامع فيأخذ له مكاناً يقعد فيه لا يكره ، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع ، لما روي أنّ ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة ، فيجلس له فيه ، فإذا جاء قام له منه .
تخفيف *
انظر : تيسير .
تخلّل *
انظر : تخليل .
تخلّي *
انظر : قضاء الحاجة .
تخليل *
التّعريف :
1 - التّخليل لغةً يأتي بمعان ، منها : تفريق شعر اللّحية وأصابع اليدين والرّجلين ، يقال : خلّل الرّجل لحيته : إذا أوصل الماء إلى خلالها ، وهو البشرة الّتي بين الشّعر .
وأصله من إدخال الشّيء في خلال الشّيء ، وهو وسطه . ويقال : خلّل الشّخص أسنانه تخليلاً : إذا أخرج ما يبقى من المأكول بينها . وخلّلت النّبيذ تخليلاً : جعلته خلاً .
ويستعمل الفقهاء كلمة التّخليل بهذه المعاني اللّغويّة .
أحكام التّخليل بأنواعه :
أوّلاً : التّخليل في الطّهارة :
أ - تخليل الأصابع في الوضوء والغسل :
2 - إيصال الماء بين أصابع اليدين والرّجلين بالتّخليل أو غيره من متمّمات الغسل ، فهو فرض في الوضوء والغسل عند جميع الفقهاء ، لقوله تعالى : { فاغْسِلُوا وجوهَكم وأَيدِيَكم إلى المَرَافِقِ وامْسَحُوا برءوسِكم وأرجلَكم إلى الكعبينِ } .
أمّا التّخليل بعد دخول الماء خلال الأصابع ، فعند جمهور الفقهاء " الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة " أنّ تخليل الأصابع في الوضوء سنّة ، « لقوله صلى الله عليه وسلم لِلَقِيط بن صبرة : أسبغ الوضوء ، وخلّل بين الأصابع » ، وقد صرّح الحنفيّة بأنّه سنّة مؤكّدة ، والحنابلة يرون أنّ التّخليل في أصابع الرّجلين آكد ، وعلّلوا استحباب التّخليل بأنّه أبلغ في إزالة الدّرن والوسخ من بين الأصابع .
وذهب المالكيّة في المشهور عندهم إلى وجوب التّخليل في أصابع اليدين واستحبابه في أصابع الرّجلين ، وقالوا : إنّما وجب تخليل أصابع اليدين دون أصابع الرّجلين لعدم شدّة التصاقها ، فأشبهت الأعضاء المستقلّة ، بخلاف أصابع الرّجلين لشدّة التصاقها ، فأشبه ما بينها الباطن . وفي القول الآخر عندهم : يجب التّخليل في الرّجلين كاليدين .
ومراد المالكيّة بوجوب التّخليل إيصال الماء للبشرة بالدّلك .
3 - وكذلك يسنّ تخليل أصابع اليدين والرّجلين في الغسل عند الحنفيّة ، وهو المفهوم من كلام الشّافعيّة والحنابلة ، حيث ذكروا في بيان الغسل الكامل المشتمل على الواجبات والسّنن أن يتوضّأ كاملاً قبل أن يحثو على رأسه ثلاثاً ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « ثمّ يتوضّأ كما يتوضّأ للصّلاة » وقد سبق أنّ تخليل الأصابع سنّة عندهم في الوضوء ،فكذلك في الغسل. وذهب المالكيّة في المعتمد عندهم إلى وجوب تخليل أصابع الرّجلين كأصابع اليدين في الغسل ،لأنّه يتأكّد فيه المبالغة على خلاف ما قالوا في الوضوء من استحباب تخليل أصابع الرّجلين.
ب - تخليل الأصابع في التّيمّم :
4 - لا خلاف بين فقهاء المذاهب في أنّ مسح الوجه واليدين فرض في التّيمّم ، لقوله تعالى : { فَامْسَحُوا بِوجُوهِكُم وأَيْدِيْكُم منه } .
كذلك يجب تعميم واستيعاب محلّ الفرض بغير خلاف بين المذاهب الأربعة ، ولهذا صرّحوا بوجوب نزع الخاتم والسّوار إذا كانا ضيّقين يخشى عدم وصول الغبار إلى ما تحتهما ، حتّى إنّ المالكيّة قالوا بوجوب نزع الخاتم ، ولو كان واسعاً ، وإلاّ كان حائلاً . وعلى ذلك يجب تخليل أصابع اليدين في التّيمّم إن لم يدخل بينها غبار ، أو لم تمسح باتّفاق الفقهاء .
أمّا تخليل أصابع اليدين بعد مسحهما ، فقد صرّح الشّافعيّة والحنابلة باستحبابه احتياطاً ، وهو عند الشّافعيّة إن فرّق أصابعه في الضّربتين ، فإن لم يفرّقها فيهما ، أو فرّقها في الأولى دون الثّانية وجب التّخليل . ويفهم من كلام الحنفيّة ما يوافق ما صرّح به الشّافعيّة والحنابلة ، حيث قيّد الحنفيّة وجوب التّخليل بعدم وصول الغبار إلى الأصابع .
وذهب المالكيّة في الرّاجح عندهم إلى أنّه يلزم تعميم يديه لكوعيه مع تخليل أصابعه مطلقاً .
كيفيّة تخليل الأصابع :
5 - صرّح الحنفيّة والشّافعيّة بأنّ تخليل أصابع اليدين يكون بالتّشبيك بينهما .
وقال المالكيّة والحنابلة : يدخل أصابع إحداهما بين أصابع الأخرى ، سواء أدخل من الظّاهر أو الباطن ، ولا يكرهون التّشبيك في الوضوء .
وقال بعض المالكيّة بكراهة التّشبيك ، مستدلّين بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا توضّأ أحدكم في بيته ، ثمّ أتى المسجد ، كان في صلاة حتّى يرجع ، فلا يفعل هكذا ، وشبّك بين أصابعه » .
أمّا تخليل أصابع الرّجل ، فيستحبّ فيه أن يبدأ بخنصر الرّجل اليمنى ، ويختم بخنصر الرّجل اليسرى ليحصل التّيامن ، وهو محلّ اتّفاق بين الفقهاء ، لحديث المستورد بن شدّاد قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم توضّأ فخلّل أصابع رجليه بخنصره » ولما ورد « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحبّ التّيامن في وضوئه » إلاّ أنّ الحنفيّة والحنابلة قالوا : التّخليل يكون بخنصر يده اليسرى ، لأنّها معدّة لإزالة الوسخ والدّرن من باطن رجليه ، لأنّه أبلغ . وقال الشّافعيّة : يكون بخنصر يده اليمنى أو اليسرى . وعند المالكيّة يكون بسبّابتيه .
ج - تخليل الشّعر :
- 1 - تخليل اللّحية :
6 - اللّحية الخفيفة - وهي الّتي تظهر البشرة تحتها ولا تسترها عن المخاطب - يجب غسل ظاهرها وإيصال الماء إلى ما تحتها في الوضوء والغسل ، ولا يكفي مجرّد تخليلها بغير خلاف ، وذلك لفرضيّة غسل الوجه بعموم الآية في قوله تعالى : { فَاغْسِلُوا وجُوهَكم
... الآية } . أمّا اللّحية الكثيفة - وهي الّتي لا تظهر البشرة تحتها - فيجب غسل ظاهرها ، ولو كانت مسترسلةً عند المالكيّة ، وهو المشهور عند الشّافعيّة ، وظاهر مذهب الحنابلة . وعند الحنفيّة - وهو قول آخر للشّافعيّة ، ورواية عند الحنابلة - أنّه لا يجب غسل ما استرسل من اللّحية ، لأنّه خارج عن دائرة الوجه ، فأشبه ما نزل من شعر الرّأس .
ولأنّ اللّه تعالى أمر بغسل الوجه ، وهو ما تحصل به المواجهة ، وفي اللّحية الكثيفة تحصل المواجهة بالشّعر الظّاهر .
أمّا باطنها فلا يجب غسله اتّفاقاً بين فقهاء المذاهب ، لما روى البخاريّ « أنّه صلى الله عليه وسلم توضّأ فغسل وجهه ، أخذ غرفةً من ماء فمضمض بها واستنشق ، ثمّ أخذ غرفةً من ماء فجعل بها هكذا : أضافها إلى يده الأخرى ، فغسل بها وجهه » وكانت لحيته الكريمة كثيفةً ، وبالغرفة الواحدة لا يصل الماء إلى باطنها غالباً ، ويعسر إيصال الماء إليه .
7- ويسنّ تخليل اللّحية الكثيفة عند الحنفيّة ، والشّافعيّة والحنابلة ، لما روي عن أنس رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا توضّأ أخذ كفّاً من ماءٍ تحتَ حنكِه فخلَّلَ به لحيتَه ، وقال : هكذا أمرني ربِّي » .
وعند المالكيّة في تخليل شعر اللّحية الكثيفة ثلاثة أقوال : الوجوب ، والكراهة والاستحباب ، أظهرها الكراهة لما في ذلك من التّعمّق .
8- أمّا في الغسل فلا يكفي مجرّد التّخليل ، بل يجب إيصال الماء إلى أصول شعر اللّحية ولو كثيفةً اتّفاقاً بين المذاهب ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « تحت كلّ شعرة جنابة ، فاغسلوا الشّعر وأنقوا البشرة » .
ولكي يتأكّد من وصول الماء إلى أصول الشّعر ويتجنّب الإسراف قالوا : يدخل المغتسل أصابعه العشر يروي بها أصول الشّعر ، ثمّ يفيض الماء ليكون أبعد عن الإسراف في الماء . ومن عبّر بوجوب تخليل اللّحية كالمالكيّة ، أراد بذلك أيضاً إيصال الماء إلى أصول الشّعر .
- 2 - تخليل شعر الرّأس :
9 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجب إرواء أصول شعر الرّأس في الغسل ، سواء كان الشّعر خفيفاً أو كثيفاً ، لما روت « أسماء رضي الله عنها أنّها سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن غسل الجنابة فقال : تأخذ إحداكنّ ماءَها وسدرتَها فتطهِّر فتحسن الطّهور ، ثمّ تصبّ على رأسها فتدلكه ، حتّى تبلغ شؤون رأسها ، ثمّ تفيض عليها الماء » ، وعن عليّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل به من النّار كذا وكذا » ، قال عليّ : فمن ثَمَّ عاديت شعري " وعلى ذلك فلا يجزي مجرّد تخليل الشّعر في الغسل عند الفقهاء .
وقد صرّح فقهاء المالكيّة بوجوب تخليل شعر الرّأس ولو كثيفاً ، للتّأكّد من وصول الماء إلى أصوله ، حيث قالوا : ويجب تخليل شعر ولو كثيفاً وضغث مضفوره - أي جمعه وتحريكه - ليعمّه بالماء ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة .
ولا يختلف حكم الشّعر بالنّسبة للمحرم وغير المحرم عند جمهور الفقهاء ، لكنّ المحرم يخلّل برفق لئلاّ يتساقط الشّعر . وقال الحنفيّة : يكره التّخليل للمحرم .
ثانياً : تخليل الأسنان :
10 - تنظيف الأسنان بالسّواك سنّة من سنن الفطرة ، وينظر تفصيله في مصطلح : ( استياك ) .
11 - أمّا تخليلها بعد الأكل بالخلال لإخراج ما بينها من الطّعام ، فقد ذكره الفقهاء في آداب الأكل . قال البهوتيّ الحنبليّ : يستحبّ أن يخلّل أسنانه إن علق بها شيء من الطّعام ، قال في المستوعب : روي عن ابن عمر رضي الله عنهما : ترك الخلال يوهن الأسنان . وروي : « تخلّلوا من الطّعام ، فإنّه ليس شيء أشدّ على الملكين أن يريا بين أسنان صاحبهما طعاماً وهو يصلّي » . قال الأطبّاء : وهو نافع أيضاً للّثة ومن تغيّر النّكهة .
ولا يخلّل أسنانه في أثناء الطّعام ، بل إذا فرغ . ومثله ما ذكر في كتب سائر المذاهب .
ما تخلّل به الأسنان :
12 - يسنّ التّخليل قبل السّواك وبعده ، ومن أثر الطّعام ، وكون الخلال من عود ، ويكره بالحديد ونحوه ، وبعود يضرّه كرمّان وآس ، ولا يخلّل بما يجهله لئلاّ يكون ممّا يضرّه ، وكذا ما يجرحه كما صرّح به الفقهاء .
ولا يجوز تخليل الأسنان أو الشّعر بآلة من الذّهب أو الفضّة ، وهذا باتّفاق المذاهب الأربعة ، وتفصيله في مصطلح : ( آنية ) .
واختلفت عبارات الفقهاء في جواز بلع ما يخرج من خلال الأسنان : فقال الشّافعيّة والحنابلة ، يلقي ما أخرجه الخلال ، ويكره أن يبتلعه ، وإن قلعه بلسانه لم يكره ابتلاعه كسائر ما بفمه . وقال المالكيّة : يجوز بلع ما بين الأسنان إلاّ لخلطه بدم ، فليس مجرّد التّغيّر يصيّره نجساً خلافاً لما قيل .
ثالثاً : تخليل الخمر :
13 - اتّفق الفقهاء على أنّ الخمر إذا تخلّلت بغير علاج ، بأن تغيّرت من المرارة إلى الحموضة وزالت أوصافها ، فإنّ ذلك الخلّ حلال طاهر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « نِعْمَ الأُدْمُ أو الإِدَامُ الخَلُّ » ، ولأنّ علّة النّجاسة والتّحريم الإسكار ، وقد زالت ، والحكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً .
وكذلك إذا تخلّلت بنقلها من شمس إلى ظلّ وعكسه عند جمهور الفقهاء: الحنفيّة والمالكيّة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ، وبه قال الحنابلة إذا كان النّقل لغير قصد التّخليل .
14 - واختلفوا في جواز تخليل الخمر بإلقاء شيء فيها ، كالخلّ والبصل والملح ونحوه . فقال الشّافعيّة والحنابلة ، وهو رواية ابن القاسم عن مالك : إنّه لا يحلّ تخليل الخمر بالعلاج ، ولا تطهر بذلك ، لحديث مسلم عن أنس رضي الله عنه قال : « سُئِلَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الخمرِ تُتَّخذُ خلاً ، قال : لا » .
« ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بإهراقها ». ولأنّ الخمر نجسة أمر اللّه تعالى باجتنابها ، وما يلقى في الخمر يتنجّس بأوّل الملاقاة ، وما يكون نجساً لا يفيد الطّهارة .
وصرّح الحنفيّة - وهو الرّاجح عند المالكيّة بجواز تخليل الخمر ، فتصير بعد التّخليل طاهرةً حلالاً عندهم ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « نِعْمَ الإِدَامُ الخَلُّ » فيتناول جميع أنواعها ، ولأنّ بالتّخليل إزالة الوصف المفسد وإثبات الصّلاح ، والإصلاح مباح كما في دبغ الجلد ، فإنّ الدّباغ يطهّره ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « أَيُّمَا إِهَاب دُبِغَ فقد طَهُرَ » .
وتفصيله في مصطلح : ( خمر ) .
تخلية *
التّعريف :
1 - التّخلية لغةً : مصدر خلّى ، ومن معانيها في اللّغة : التّرك والإعراض .
وفي اصطلاح الفقهاء : تمكين الشّخص من التّصرّف في الشّيء دون مانع . ففي البيع مثلاً إذا أذن البائع للمشتري في قبض المبيع مع عدم وجود المانع حصلت التّخلية ، ويعتبر المشتري قابضاً للمبيع مطلقاً .
وتستعمل التّخلية أحياناً بمعنى الإفراج ، كما يقولون : يحبس القاتل ولا يخلّى بكفيل .