الموسوعة الفقهية

طباعة الموضوع

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - القبض :
2 - قبض الشّيء : أخذه . واستعمله الفقهاء بمعنى حيازة الشّيء والتّمكّن من التّصرّف فيه ، فالفرق بين التّخلية والقبض من وجهين :
الأوّل : أنّ التّخلية نوع من القبض ، ويحصل القبض بأمور أخرى أيضاً ، كالتّناول باليد والنّقل ، وكذلك الإتلاف ، فإذا أتلف المشتري المبيع في يد البائع مثلاً صار قابضاً له . الثّاني : أنّ التّخلية تكون من قبل المعطي ، والقبض من قبل الآخذ ، فإذا خلّى البائع بين المبيع وبين المشتري برفع الحائل بينهما ، حصلت التّخلية من البائع والقبض من المشتري.
ب - التّسليم :
3 - تسليم الشّيء : إعطاؤه وجعله سالماً خالصاً ، يقال : سلّم الشّيء له أخلصه وأعطاه إيّاه ، فهو قريب من التّخلية في المعنى ، حتّى إنّ الأحناف قالوا : التّسليم عندنا هو التّخلية . والجمهور على أنّ التّخلية تسليم إذا كان المبيع عقاراً ، أمّا في المنقول فبحسبه أو بالعرف ، كما سيأتي . والأصل أنّ التّخلية نوع من أنواع التّسليم ، والقبض أثر لهما ، فالتّسليم قد يكون بالنّقل والتّحويل ، وقد يكون بالتّخلية ، فإذا باع داراً مثلاً ، وخلّى البائع بين المبيع وبين المشتري ، برفع الحائل بينهما على وجه يتمكّن من التّصرّف فيه ، أصبح البائع مسلّماً للمبيع والمشتري قابضاً له .
الأحكام الإجمالية للتخلية :
4 - التخلية القبض في العقار اتفاقاً ، وكذلك في بيع الثمر على الشجر عند الحنفية والشافعية ، خلافاً للمالكية والحنابلة .
أما تخلية ما يمكن نقله من الأعيان فاختلفوا فيها :
قال الحنفية ، وهو قول عند الشافعية ، ورواية عند الحنابلة : إن التخلية قبض حكماً مع القدرة عليه بلا كلفة ، وذلك يختلف بحسب اختلاف المبيع ، ففي نحو حنطة في بيت مثلاً دفع المفتاح إذا أمكنه الفتح بلا كلفة قبض ، وفي نحو بقر في مرعى بحيث يرى ويشار إليه قبض ، وفي نحو ثوب بحيث لو مدّ يده فتصل إليه قبض ، وفي نحو فرس أو طير في بيت يمكن أخذه منه بلا معين قبض .
واشترط الحنفية لا عتبار التخلية قبضاً أن يقول البائع : خليت بينك وبين المبيع ، فلو لم يقله ، أو كان بعيداً لم يصر قابضاً ، والمراد به الإذن بالقبض ، لا خصوص لفظ التخلية .
وقال الشافعية في المعتمد : إن ما ينقل في العادة ، كالأخشاب والحبوب ونحوها ، فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به ، وما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والثوب والكتاب فقبضه بالتناول . وهو ما ذهب إليه الحنابلة . فلا تكفي التخلية في المنقول عندهم .
وصرح المالكية بأن قبض العقار يكون بالتخلية للمشتري وتمكينه من التصرف فيه ، بتسليم مفاتيحه إن كانت ، وقبض غيره يكون حسب المتعارف بين الناس كحيازة الثوب واستلام مقود الدابة .
5 - وفي المواضع التي تعتبر التخلية فيها تسليماً وقبضاً ينتقل الضمان من ذمة المخلي إلى ذمة القابض ، وهو يتحمل الخسارة ، ففي عقد البيع مثلاً إذا حصل القبض بالتخلية بين المبيع والمشتري فالضمان على المشتري ، لأن ضمان المبيع بعد القبض على المشتري بالاتفاق . انظر مصطلح : ( ضمان ) .
وزاد المالكية أن الضمان يحصل في البيع الصحيح بمجرد العقد ، ولا يحتاج إلى القبض إلا في مواضع منها : بيع الغائب والبيع الفاسد والبيع بالخيار ، وبيع مافيه حق التوفية بالكيل أو الوزن أو العدد . وهناك عقود لا تتم إلا بالقبض ، كعقد الرهن والقرض والعارية والهبة ونحوها ، مع تفصيل في بعضها ، ففي هذه العقود إذا حصلت التخلية بشروطها ، واعتبرت قبضاً ، تم العقد وترتبت عليه آثاره .
وتفصيل هذه المسائل وما يتعلق بآثار القبض والتخلية ينظر في مصطلح : ( قبض ) .
مواطن البحث :
6 - بحث الفقهاء التخلية في عقد البيع في بحث كيفية تسليم المبيع ، وفي السلم والرهن والهبة وغيرها من العقود والتصرفات التي يذكر فيها حكم القبض فيما إذا كان موضوعها عقاراً أو منقولاً ، كما ذكرها بعضهم بمعنى الإفراج في بحث الجنايات وتخلية المحبوس بالكفالة . وبحث بعض الفقهاء تخلية الطريق بمعنى كون الطريق خالياً من مانع ، كعدو ونحوه ، في كتاب الحج .

تخميس *
التعريف :
1- التخميس في اللغة : جعل الشيء خمسة أخماس ، واشتهر استعمال هذا اللفظ عند الفقهاء في أخذ خمس الغنائم .
الحكم الإجمالي :
أ - تخميس الغنيمة :
2 - يجب على الإمام تخميس الغنيمة وتوزيع الأربعة الأخماس على الغانمين ، بعد إخراج الخمس ، لقوله تعالى : { واعْلَمُوا أَنّما غَنِمْتُم منْ شَيءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَه ولِلرَسُولِ ولِذِيْ القُرْبَى واليَتَامَى والمَسَاكِينِ وابنِ السَبِيْل } ، ولا يعلم خلاف بين الفقهاء في أن ما يعتبر غنيمة يخمس . وأما ما حكاه ابن كج وجهاً عند الشافعية من عدم تخميس الغنيمة إذا شرطه الإمام لضرورة ، فقد قال عنه النووي : شاذ وباطل .
وللفقهاء فيما يعتبر غنيمة وما لا يعتبر ، ومصرف خمس الغنيمة ، وكيفية قسمة الأربعة أخماس ، وشروط من يستحقها خلاف وتفصيل ينظر في : ( غنيمة ) .
ب - تخميس الفيء :
3 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة - وهو ظاهر مذهب الحنابلة - إلى أنّ الفيء لا يخمّس ، لقوله تعالى : { وَما أَفَاءَ اللّهُ على رَسُولِه منهم فَمَا أَوجَفْتُم عليه مِنْ خَيْلٍ ولا رِكَابٍ } فجعله كلّه لجميع المسلمين . قال عمر رضي الله عنه لمّا قرأ هذه الآية :" استوعبت المسلمين ، ولئن عشت ليأتينّ الرّاعي - وهو بسرو حمير - نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه ".
ويرى الشّافعيّة والخرقيّ من الحنابلة - وهو إحدى الرّوايتين عن الإمام أحمد - تخميس الفيء ، وصرف خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة .
وقال القاضي من الحنابلة : إنّ الفيء لأهل الجهاد خاصّةً دون غيرهم من الأعراب ومن لا يعدّ نفسه للجهاد ، لأنّ ذلك كان للنّبيّ صلى الله عليه وسلم لحصول النّصرة به ، فلمّا مات أعطي لمن يقوم مقامه في ذلك ، وهم المقاتلة دون غيرهم .
وللفقهاء في تعريف الفيء ومصرفه تفاصيل تنظر في ( فيء ) .
ج - تخميس الأرض المغنومة عنوةً :
4 - يرى الشّافعيّة - وهو قول للمالكيّة ، ورواية للحنابلة ذكرها أبو الخطّاب - تخميس الأرض الّتي فتحت عنوةً ، لأنّ الأرض غنيمة كسائر ما ظهر عليه الإمام من قليل أموال المشركين أو كثيره ، وحكم اللّه عزّ وجلّ في الغنيمة أن تخمّس .
وذهب الحنفيّة - وهو قول للمالكيّة - إلى أنّ الإمام مخيّر بين تخميس الأرض الّتي فتحت عنوةً وتقسيمها بين الغانمين ، كسائر المغنم بعد إخراج الخمس لجهاته ، « كما فعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بخيبر » ، وبين إقرار أهلها عليها ووضع الجزية عليهم وضرب الخراج على أراضيهم ، كما فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق بموافقة من الصّحابة ، وقال صاحب الدّرّ المختار : الأوّل أولى عند حاجة الغانمين .
قال ابن عابدين : إنّ ما فعله عمر إنّما فعله لأنّه كان هو الأصلح إذ ذاك ، كما يعلم من القصّة ، لا لكونه هو اللازم . كيف وقد « قسّم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أرض خيبر بين الغانمين » ، فعلم أنّ الإمام مخيّر في فعل ما هو الأصلح فيفعله .
وذهب المالكيّة على المشهور - وهو رواية عن الإمام أحمد - إلى أنّ الأرض المفتوحة عنوةً لا تخمّس ولا تقسم ، بل توقف ويصرف خراجها في مصالح المسلمين ، لأنّ الأئمّة بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقسموا أرضاً افتتحوها .
والمذهب عند الحنابلة أنّ الإمام يخيّر في الأرض المغنومة عنوةً ، بين قسمتها كمنقول ، وبين وقفها على المسلمين . قال ابن تيميّة : إذا قسّم الإمام الأرض بين الغانمين ، فمقتضى كلام المجد وغيره : أنّه يخمّسها حيث قالوا " كالمنقول " قال : وعموم كلام أحمد والقاضي وقصّة خيبر ، تدلّ على أنّها لا تخمّس ، لأنّها فيء وليست بغنيمة .
د - تخميس السَّلَب :
5 - إنّ السّلب لا يخمّس ، سواء أقال الإمام : من قتل قتيلاً فله سلبه ، أم لم يقله . لما روى عوف بن مالك وخالد بن الوليد رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى في السّلب للقاتل ، ولم يخمّس السّلب » . وبهذا قال الشّافعيّة على المشهور ، والحنابلة ، وهو قول الأوزاعيّ واللّيث وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ للإمام تنفيل السّلب قبل حصول الغنيمة في يد الغانمين ، ولا خمس فيما ينفّل ، لأنّ الخمس إنّما يجب في غنيمة مشتركة بين الغانمين ، والنّفل ما أخلصه الإمام لصاحبه وقطع شركة الأغيار عنه ، فلا يجب فيه الخمس .
ويرى المالكيّة أنّ السّلب من جملة النّفل ، يستحقّه كلّ من قتل قتيلاً بعد قول الإمام : من قتل قتيلاً فله سلبه ، ولا يعطيه الإمام إلاّ من الخمس على حسب اجتهاده ، لأنّ النّفل لا يكون إلاّ من الخمس ، أي لا من الأربعة الأخماس ، فكذا السّلب . أمّا إذا لم يجعل الإمام السّلب للقاتل ، فيرى الحنفيّة والمالكيّة - وهو قول الثّوريّ ، ورواية عن أحمد - أنّ القاتل لا يستحقّ سلب المقتول في هذه الحالة ، فهو من جملة الغنيمة ، بمعنى أنّ السّلب يخمّس ، فيدفع خمسه لأهل الخمس ، ثمّ يقسم باقيه كسائر المغنم ، القاتل وغيره في ذلك سواء .
وهناك قول آخر للشّافعيّة يقابل المشهور ، بتخميس السّلب ودفع خمسه لأهل الخمس باقيه للقاتل ، ثمّ تقسيم باقي الغنيمة . وللفقهاء في تعريف السّلب وشروط استحقاقه تفاصيل يرجع إليها في ( تنفيل ، وسلب ، وغنيمة ) .
هـ – تخميس الرّكاز :
6 - لا خلاف بين الفقهاء في تخميس الرّكاز بشروط ذكروها ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « العجماء جبار ، والبئر جبار ، والمعدن جبار ، وفي الرِّكاز الخمس » ولأنّه مال كافر مظهور عليه بالإسلام فوجب فيه الخمس كالغنيمة . وفي تعريف الرِّكاز وأنواعه وحكم كلّ نوع وشروط إخراج الخمس منه ومصرفه خلاف وتفصيل موطنه ( ركاز ، وزكاة ) .

تَخْمين *
انظر : خَرْص .

تخنّث *
التّعريف :
1 - التّخنّث في اللّغة بمعنى : التّثنّي والتّكسّر ، وتَخَنَّث الرّجل إذا فعل فعل المُخَنَّث .
وخنّث الرّجل كلامه : إذا شبّهه بكلام النّساء ليناً ورخامةً .
والتّخنّث اصطلاحاً كما يؤخذ من تعريف ابن عابدين للمخنّث : هو التّزيّي بزيّ النّساء والتّشبّه بهنّ في تليين الكلام عن اختيار ، أو الفعل المنكر . وقال صاحب الدّرّ : المخنّث بالفتح من يفعل الرّديء . وأمّا بالكسر فالمتكسّر المتليّن في أعضائه وكلامه وخلقه . ويفهم من القليوبيّ أنّه لا فرق بين الفتح والكسر في المعنى ، فهو عنده المتشبّه بحركات النّساء .
الحكم الإجماليّ :
2 - يحرم على الرّجال التّخنّث والتّشبّه بالنّساء في اللّباس والزّينة الّتي تختصّ بالنّساء ، وكذلك في الكلام والمشي ، لما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال : « لعن النّبيّ صلى الله عليه وسلم المخنّثين من الرّجال والمترجِّلات من النّساء » وفي رواية أخرى :
« لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المتشبّهين من الرّجال بالنّساء ، والمتشبّهات من النّساء بالرّجال » قال ابن حجر في الفتح : والنّهي مختصّ بمن تعمّد ذلك ، وأمّا من كان أصل خلقته ، فإنّما يؤمر بتكلّف تركه والإدمان على ذلك بالتّدريج ، فإن لم يفعل وتمادى دخله الذّمّ ، ولا سيّما إذا بدا منه ما يدلّ على الرّضا به ، وأمّا إطلاق من قال : إنّ المخنّث خلقةً لا يتّجه عليه الذّمّ ، فمحمول على ما إذا لم يقدر على ترك التّثنّي والتّكسّر في المشي والكلام بعد تعاطيه المعالجة لترك ذلك .
إمامة المخنّث :
3 - المخنّث بالخلقة ، وهو من يكون في كلامه لين وفي أعضائه تكسّر خلقةً ، ولم يشتهر بشيء من الأفعال الرّديئة لا يعتبر فاسقاً ، ولا يدخله الذّمّ واللّعنة الواردة في الأحاديث ، فتصحّ إمامته ، لكنّه يؤمر بتكلّف تركه والإدمان على ذلك بالتّدريج ، فإذا لم يقدر على تركه فليس عليه لوم . أمّا المتخلّق بخلق النّساء حركةً وهيئةً ، والّذي يتشبّه بهنّ في تليين الكلام وتكسّر الأعضاء عمداً ، فإنّ ذلك عادة قبيحة ومعصية ويعتبر فاعلها آثماً وفاسقاً .
والفاسق تكره إمامته عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عند المالكيّة .
وقال الحنابلة ، والمالكيّة في رواية أخرى ، ببطلان إمامة الفاسق ، كما هو مبيّن في مصطلح : ( إمامة ) . ونقل البخاريّ عن الزّهريّ قوله : لا نرى أن يصلّى خلف المخنّث إلاّ من ضرورة لا بدّ منها .
شهادة المخنّث :
4 - صرّح الحنفيّة أنّ المخنّث الّذي لا تقبل شهادته هو الّذي في كلامه لين وتكسّر ، إذا كان يتعمّد ذلك تشبّهاً بالنّساء . وأمّا إذا كان في كلامه لين ، وفي أعضائه تكسّر خلقةً ، ولم يشتهر بشيء من الأفعال الرّديئة ، فهو عدل مقبول الشّهادة .
واعتبر الشّافعيّة والحنابلة التّشبّه بالنّساء محرّماً تردّ به الشّهادة ، ولا يخفى أنّ المراد بالتّشبّه التّعمّد ، لا المشابهة الّتي تأتي طبعاً .
واعتبر المالكيّة المجون ممّا تردّ به الشّهادة ، ومن المجون التّخنّث .
وعليه تكون المذاهب متّفقةً في التّفصيل الّذي أورده الحنفيّة ، وتفصيله في ( شهادة ) .
نظر المخنّث للنّساء :
5 - المخنّث بالمعنى المتقدّم ، والّذي له أرب في النّساء ، لا خلاف في حرمة اطّلاعه على النّساء ونظره إليهنّ ، لأنّه فحل فاسق - كما قال ابن عابدين .
أمّا إذا كان مخنّثاً بالخلقة ، ولا إرب له في النّساء ، فقد صرّح المالكيّة والحنابلة وبعض الحنفيّة بأنّه يرخّص بترك مثله مع النّساء ، ولا بأس بنظره إليهنّ ، استدلالاً بقوله تعالى فيمن يحلّ لهم النّظر إلى النّساء ، ويحلّ للنّساء الظّهور أمامهم متزيّنات ، حيث عدّ منهم أمثال هؤلاء ، وهو { أو التَّابِعينَ غَيْرِ أُولي الإِرْبَةِ من الرِّجَالِ ...} .
وذهب الشّافعيّة وأكثر الحنفيّة إلى أنّ المخنّث - ولو كان لا إرب له في النّساء - لا يجوز نظره إلى النّساء ، وحكمه في هذا كالفحل : استدلالاً بحديث « لا يَدخلنَّ هؤلاءِ عليكنَّ » .
عقوبة المخنّث :
6 - المخنّث بالاختيار من غير ارتكاب الفعل القبيح معصية لا حدّ فيها ولا كفّارةً ، فعقوبته عقوبة تعزيريّة تناسب حالة المجرم وشدّة الجرم . وقد ورد « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عزّر المخنّثين بالنّفي ، فأمر بإخراجهم من المدينة ، وقال : أخرجوهم من بيوتكم » وكذلك فعل الصّحابة من بعده . أمّا إن صدر منه مع تخنّثه تمكين الغير من فعل الفاحشة به ، فقد اختلف في عقوبته ، فذهب كثير من الفقهاء إلى أنّه تطبّق عليه عقوبة الزّنى .
وذهب أبو حنيفة إلى أنّ عقوبته تعزيريّة قد تصل إلى القتل أو الإحراق أو الرّمي من شاهق جبل مع التّنكيس ، لأنّ المنقول عن الصّحابة اختلافهم في هذه العقوبة ، ويراجع في هذا مصطلح :( حدّ عقوبة ، تعزير ، ولواط ) .
مواطن البحث :
7 - يذكر الفقهاء أحكام التّخنّث في مباحث خيار العيب إذا كان العبد المبيع مخنّثاً ، ويذكرونها في بحث الشّهادة ، والنّكاح ، والنّظر إلى المرأة الأجنبيّة ، وفي مسائل اللّباس والزّينة وأبواب الحظر والإباحة ونحوها .

تخويف *
التّعريف :
1 - التّخويف مصدر من باب التّفعيل ، ومعناه في اللّغة : جعل الشّخص يخاف ، أو جعله بحالة يخاف النّاس . يقال : خوّفه تخويفاً : أي جعله يخاف ، أو صيّره بحال يخافه النّاس . وفي التّنزيل العزيز : { إِنَّمَا ذَلِكُم الشَّيْطَانُ يُخوِّفُ أَوْلِياءَه } أي يجعلكم تخافون أولياءه ، وقال ثعلب : معناه يخوّفكم بأوليائه .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
الإنذار :
2 - الإنذار هو : التّخويف مع إعلام موضع المخافة . فإذا خوّف الإنسان غيره وأعلمه حال ما يخوّفه به ، فقد أنذره . فالإنذار أخصّ من التّخويف .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
ما يكون التّخويف به إكراهاً :
أ - التّخويف بالقتل والضّرب والحبس :
3 - يرى الحنفيّة والمالكيّة - وهو رواية عند كلّ من الشّافعيّة والحنابلة - أنّ الإكراه يحصل بتخويف بقتل أو ضرب شديد أو حبس طويل .
أمّا التّخويف بالضّرب والحبس اليسيرين فيختلف باختلاف طبقات النّاس وأحوالهم ، فالتّخويف بضرب سوط أو حبس يوم في حقّ من لا يبالي ليس بإكراه ، إلاّ أنّ التّخويف بهما يعتبر إكراهاً في حقّ ذي جاه يعلم أنّه يستضرّ بهما ، كما يتضرّر واحد من أوساط النّاس بالضّرب الشّديد ، وذلك كالقاضي وعظيم البلد ، فإنّ مطلق القيد والحبس إكراه في حقّه . وقال القاضي من الحنابلة ، وهو وجه عند الشّافعيّة - حكاه الحنّاطيّ - أنّ الإكراه يحصل بالتّخويف بالقتل فقط .وهناك وجه آخر عند الشّافعيّة : أنّ التّخويف بالحبس لا يكون إكراهاً.
ب - التّخويف بأخذ المال وإتلافه :
4 - يرى الحنفيّة - وهو قول عند المالكيّة - حصول الإكراه بالتّخويف بأخذ المال ، إذا قال متغلّب لرجل : إمّا أن تبيعني هذه الدّار أو أدفعها إلى خصمك ، فباعها منه ، فهو بيع مكره . ويشترط القهستانيّ من الحنفيّة لحصول الإكراه - كما يفهم من سياق عبارة ردّ المحتار - كون التّخويف بإتلاف كلّ المال .
وقال الشّافعيّة في وجه - وهو المذهب عند الحنابلة ، وقول عند المالكيّة - إنّ الإكراه يحصل بأخذ المال الكثير بإتلافه . وهناك وجه عند الشّافعيّة - وهو أحد الأقوال الثّلاثة للمالكيّة - أنّ التّخويف بأخذ المال ليس إكراهاً .
وللفقهاء تفاصيل في معنى الإكراه وأنواعه وشروطه وأثره وما يكون التّخويف به إكراهاً تنظر في مواطنها من كتب الفقه ، وفي مصطلح ( إكراه ) .
القتل تخويفاً :
5 - لا خلاف بين الفقهاء في إمكان حصول القتل بالتّخويف . كمن شهر سيفاً في وجه إنسان ، أو دلاه من مكان شاهق فمات من روعته ، وكمن صاح في وجه إنسان فجأةً فمات منها ، وكمن رمى على شخص حيّةً فمات رعباً وما إلى ذلك .
وتنظر التّفاصيل المتعلّقة بأنواع القتل ، وصفة كلّ نوع ، وحكم القتل بالتّخويف في مختلف صوره في مصطلح ( قتل ) .
الإجهاض بسبب التّخويف :
6 - يرى الفقهاء وجوب الضّمان على من خوّف امرأةً فأجهضت بسبب التّخويف ، على خلاف وتفصيل في الإجهاض المعاقب عليه ، وعقوبة الإجهاض يرجع إليه في مصطلح ( إجهاض ) .

تخيير *
التّعريف :
1 - التّخيير لغةً : مصدر خيّر ، يقال خيّرته بين الشّيئين ، أي : فوّضت إليه الخيار ، وتخيّر الشّيء : اختاره ، والاختيار : الاصطفاء وطلب خير الأمرين ، وكذلك التّخيّر . والاستخارة : طلب الخيرة في الشّيء ، وخار اللّه لك أي : أعطاك ما هو خير لك .
والخيرة - بسكون الياء - الاسم منه .
وفي الاصطلاح : لا يخرج استعمال الفقهاء لمصطلح ( تخيير ) عن معناه اللّغويّ .
فهو عندهم : تفويض الأمر إلى اختيار المكلّف في انتقاء خصلة من خصال معيّنة شرعاً ، ويوكل إليه تعيين أحدها ، بشروط معلومة ، كتخييره بين خصال الكفّارة ، وتخييره بين القصاص والعفو ، وتخييره في جنس ما يخرج في الزّكاة ، وتخييره في فدية الحجّ ، وتخييره في التّصرّف في الأسرى ، وتخييره في حدّ المحارب ، وغيرها من الأحكام . والتّخيير بهذا دليل على سماحة الشّريعة ويسرها ومراعاتها لمصالح العباد فيما فوّضت إليهم اختياره ، ممّا يجلب النّفع لهم ويدفع الضّرّ عنهم .
التّخيير عند الأصوليّين :
2 - يتكلّم الأصوليّون على التّخيير في المباح ، والمندوب ، والواجب المخيّر ، والواجب الموسّع ، والنّهي على جهة التّخيير ، والرّخصة . وتفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإباحة :
3 - الإباحة في اللّغة : الإحلال ، يقال : أبحتك الشّيء أي : أحللته لك ، والمباح خلاف المحظور .
وفي اصطلاح الفقهاء : الإذن بالإتيان بالفعل حسب مشيئة الفاعل في حدود الإذن .
ب - التّفويض :
4 - التّفويض مصدر فوّض ، يقال : فوّض إليه الاختيار بين الشّيئين ، فاختار أحدهما ، ومنه تفويض الزّوج إلى زوجته طلاق نفسها أو بقاءها في عصمته .
أحكام التّخيير :
للتّخيير أحكام خاصّة في الشّريعة الإسلاميّة نبيّنها فيما يلي :
أوّلاً : تخيير المصلّي في أداء الصّلاة في الوقت الموسّع :
5 - اتّفق الفقهاء على القول بتخيير المصلّي في أداء الصّلاة في الوقت الموسّع ، وهو الوقت الّذي وكّل إيقاع الصّلاة فيه لاختيار المصلّي ، فإن شاء أوقعها في أوّله ، أو في وسطه ، أو في آخره ، ولا إثم عليه فيما يختار . وذهب بعض الفقهاء إلى القول بالإثم إن أخّر إلى وقت الكراهة في بعض الأوقات . وتفصيل ذلك في ( أوقات الصّلاة ) .
6- وتجب الصّلاة عند الجمهور بأوّل الوقت وجوباً موسّعاً ، بمعنى أنّه لا يأثم بتأخيرها . فلو أخّرها عازماً على فعلها من غير عذر ، فمات في أثناء الوقت لم يأثم ، لأنّه فعل ما يجوز له فعله ، إذ هو بالخيار في أداء الصّلاة في أيّ جزء من وقتها ، والموت ليس من فعله ، فلا يأثم بالتّخيّر . إلاّ أن يظنّ الموت ، ولم يؤدّ حتّى مات ، فإنّه يموت عاصياً .
وكذا إذا تخلّف ظنّه فلم يمت ، لأنّ الموسّع صار في حقّه مضيّقاً ، وانتفى بذلك اختياره .
فإن أخّرها غير عازم على الفعل أثم بالتّأخير ، وإن أخّرها بحيث لم يبق من الوقت ما يتّسع لجميع الصّلاة أثم أيضاً . وعند الحنفيّة أنّ الصّلاة لا تجب في أوّل الوقت على التّعيين ، وإنّما تجب في جزء من الوقت غير معيّن ، والتّعيين للمصلّي باختياره من حيث الفعل .
فإذا شرع في أوّل الوقت يجب في ذلك الوقت ، وكذا إذا شرع في وسطه أو آخره .
ومتى لم يعيّن بالفعل حتّى بقي من الوقت مقدار ما يسع الصّلاة يجب عليه تعيين ذلك الوقت للأداء فعلاً ، حتّى يأثم بترك التّعيين ، لأنّه لا خيار له في غيره .
7- ودليل التّخيير في أداء الصّلاة في الوقت الموسّع حديث جبريل - عليه السلام - الّذي يرويه ابن عبّاس - رضي الله عنهما - « عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : أَمَّنِي جبريل عند البيت مرّتين ، فصلّى الظّهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشّراك ، ثمّ صلّى العصر حين كان كلّ شيء مثل ظلّه ، ثمّ صلّى المغرب حين وجبت الشّمس وأفطر الصّائم ، ثمّ صلّى العشاء حين غاب الشّفق ، ثمّ صلّى الفجر حين برق الفجر وحرم الطّعام على الصّائم ، وصلّى المرّة الثّانية الظّهر حين كان ظلّ كلّ شيء مثله ، لوقت العصر بالأمس ، ثمّ صلّى العصر حين كان ظلّ كلّ شيء مثليه ، ثمّ صلّى المغرب لوقته الأوّل ، ثمّ صلّى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث اللّيل ، ثمّ صلّى الصّبح حين أسفرت الأرض ، ثمّ التفت إليّ جبريل وقال : يا محمّد هذا وقت الأنبياء من قبلك ، والوقت فيما بين هذين الوقتين » .
وفي حديث بريدة عن مسلم : « وقت صلاتكم بين ما رأيتم » .
ثانياً : التّخيير في نوع ما يجب إخراجه في الزّكاة
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ البقر إذا بلغت مائةً وعشرين يخيّر في أخذ زكاتها بين ثلاث مسنّات أو أربع تبيعات . والخيار في ذلك للسّاعي عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وللمالك عند الحنفيّة ، وهكذا كلّما أمكن أداء الواجب من الأتبعة أو المسنّات .
أمّا الإبل فإذا بلغت مائةً وإحدى وعشرين ، فعند المالكيّة زكاتها حقّتان أو ثلاث بنات لبون ، والخيار فيه للسّاعي .
فإن اختار السّاعي أحد الصّنفين ، وكان عند ربّ المال من الصّنف الآخر أفضل أجزأه ما أخذه السّاعي ، ولا يستحبّ له إخراج شيء زائد . وعند الشّافعيّة والحنابلة زكاتها ثلاث بنات لبون بلا تخيير . وعند الحنفيّة تستأنف الفريضة ، وتفصيل ذلك في مصطلح ( زكاة ) .
9- أمّا إذا ضمّت أنواعاً مختلفةً من جنس واحد لتكميل نصاب السّائمة ، كأن تضمّ العراب إلى البخاتيّ من الإبل ، والجواميس إلى البقر ، والضّأن إلى المعز من الغنم : فعند المالكيّة يخيّر السّاعي في الأخذ من أيّها شاء إذا تساوى النّوعان المضمومان ، وإذا لم يتساويا أخذ من الأكثر إذ الحكم للأغلب . وعند الشّافعيّة ثلاثة أقوال في المذهب :
أحدها : أنّه يؤخذ من الأغلب ، فإن استويا يؤخذ من الأغبط للمساكين على المذهب ، وذلك باعتبار القيمة ، كاجتماع الحقاق وبنات اللّبون .
والقول الثّاني : أنّه يؤخذ من الأعلى ، كما لو انقسمت إلى صحاح ومراض .
والقول الثّالث : أنّه يؤخذ من الوسط كما في الثّمار ، وهو مذهب الحنفيّة .
وعند الحنابلة أنّه يؤخذ من أحدهما على قدر قيمة المالين المزكّيين ، فإذا كان النّوعان سواءً ، وقيمة المخرج من أحدهما اثنا عشر ، والمخرج من الآخر خمسة عشر ، أخرج من أحدهما ما قيمته ثلاثة عشر ونصف .
10 - فإن اتّفق في نصاب فرضان ، كالمائتين من الإبل ، وهي نصاب خمس بنات لبون ونصاب أربع حقاق ، فيخيّر بينهما ، فإن شاء أخرج أربع حقاق ، وإن شاء أخرج خمس بنات لبون ، لحديث : « فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون » ، ولأنّه وجد ما يقتضي إخراج كلّ نوع منهما .
والخيار في هذا للمالك ، وهذا باتّفاق الفقهاء ، وللشّافعيّ في القديم أنّه تجب أربع حقاق ، لأنّه إذا أمكن تغيّر الفرض بالسّنّ ، لم يغيّر بالعدد .
ثالثاً : التّخيير في فدية الجناية على الإحرام في الحجّ
11 - اتّفق الفقهاء على أنّ المحرم إذا جنى على إحرامه بأن حلق شعره ، أو قلّم أظفاره ، أو تطيّب ، أو لبس مخيطاً ، أنّه تجب عليه الفدية وهي على التّخيير بين خصال ثلاث : فإمّا أن يهدي شاةً ، أو يطعم ستّة مساكين ، أو يصوم ثلاثة أيّام .
وتفصيل موجب الفدية تقدّم في مصطلح : ( إحرام ) .
12 - ودليل ذلك قوله تعالى : { فَمَنْ كانَ مِنْكم مَرِيْضَاً أو به أَذًى منْ رَأْسِه فَفِدْيَةٌ منْ صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُك } . ولحديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له : لعلّك آذاك هوامّ رأسك ، قال : نعم يا رسول اللّه ، فقال صلى الله عليه وسلم : احلق رأسك وصم ثلاثةً ، أو أطعم ستّة مساكين ، أو انسك شاةً » .
وقصر الحنفيّة التّخيير في الفدية على أصحاب الأعذار ، أمّا غير المعذور فيفدي بذبح شاة ، ولا خيار له في غيرها . ولم يفرّق الجمهور بينهما .
ودليل الحنفيّة على ما ذهبوا إليه ، أنّ الآية واردة في المعذور بدليل حديث كعب بن عجرة المفسّرة للآية ، فجاء في رواية : « قال : حملت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى ، أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى . أتجد شاةً ؟ فقلت : لا ، فقال : صم ثلاثة أيّام ، أو أطعم ستّة مساكين لكلّ مسكين نصف صاع » . فدلّ على أنّه كان معذوراً وحملت الآية عليه .
ودليل الجمهور ما تقدّم في الآية والحديث من التّخيير بلفظ " أو " .
13 - والحكم ثابت في غير المعذور بطريق التّنبيه تبعاً للمعذور ، لأنّ كلّ كفّارة ثبت التّخيير فيها مع العذر ثبت مع عدمه .
14 - كما يثبت التّخيير في كفّارة قتل الصّيد في الحرم .
ويخيّر فيه قاتله بين ثلاث خصال : فإمّا أن يهدي مثل ما قتله من النَّعَم لفقراء الحرم ، إن كان الصّيد له مثل من الإبل أو البقر أو الغنم . أو أن يقوّمه بالمال ، ويقوّم المال طعاماً ، ويتصدّق بالطّعام على الفقراء . وهذا مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، أمّا المالكيّة فذهبوا إلى أنّ الصّيد يقوّم ابتداءً بالطّعام ، ولو قوّمه بالمال ثمّ اشترى به طعاماً أجزأه . والخصلة الثّالثة الّتي يخيّر فيها قاتل الصّيد أن يصوم عن كلّ مدّ من الطّعام يوماً . ودليل الاتّفاق على التّخيير في كفّارة صيد الحرم قوله تعالى : { هَدْيَاً بَالِغَ الكعبَةِ أو كفّارةٌ طعامُ مساكين أو عَدْلُ ذلك صيامَاً } و" أو " تفيد التّخيير .
رابعاً : من أسلم على أكثر من أربع نسوة :
15 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة ومحمّد بن الحسن إلى تخيير من أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة ، أو أختان ، أو من لا يحلّ له الجمع بينهنّ بنسب أو رضاع ، فيخيّر في إمساك من أراد منهنّ ، بأن يمسك أربعاً أو أقلّ ، أو أن يمسك إحدى الأختين ، وهكذا . ويفسخ نكاحه ممّن سوى من اختارهنّ . وذلك لحديث قيس بن الحارث قال : « أسلمتُ وتحتي ثمان نسوة ، فأتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك ، فقال : اختر منهنّ أربعاً » . ولحديث محمّد بن سويد الثّقفيّ : « أنّ غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة ، فأسلمن معه ، فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يختار منهنّ أربعاً » .
وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنّ الكافر إذا أسلم وتحته خمس نسوة فصاعداً أو أختان بطل نكاحهنّ ، إن كان قد تزوّجهنّ بعقد واحد ، فإن كان قد رتّب فالآخر هو الّذي يبطل . ودليلهم على ما ذهبوا إليه أنّ هذه العقود فاسدة ، ولكنّا لا نتعرّض لهم ، لأنّا أمرنا بتركهم وما يدينون ، فإذا أسلموا بطلت الأنكحة الفاسدة .
16 - ومن أحكام التّخيير في هذا الباب وآثاره : أنّ الاختيار يحصل باللّفظ الصّريح كأن يقول : اخترت نكاح هؤلاء ، أو اخترت إمساكهنّ ، كما يحصل بأن يطلّق بعضهنّ ، لأنّ الطّلاق لا يكون إلاّ لزوجة . كما يحصل إذا وطئها ، وإذا وطئ الكلّ يتعيّن الأربع الأول للإمساك ، وما عداهنّ يتعيّن للتّرك .
وخالف الشّافعيّة في اعتبار الوطء اختياراً ، لأنّ الاختيار رهناً كالابتداء ، ولا يصحّ ابتداء النّكاح واستدامته إلاّ بالقول . وإذا لم يختر أجبر على الاختيار بالحبس أو بالتّعزير بالضّرب وغيره ، لأنّ الاختيار حقّ عليه ، فألزم بالخروج منه إن امتنع كسائر الحقوق .
وعن ابن أبي هريرة من الشّافعيّة أنّه لا يضرب مع الحبس ، بل يشدّد عليه الحبس ، فإن أصرّ عزّر ثانياً وثالثاً إلى أن يختار . وإذا حبس لا يعزّر على الفور . فلعلّه يؤخّر ليفكّر فيتخيّر بعد رويّة وإمعان نظر . ومدّة الإمهال ثلاثة أيّام . وليس للحاكم أن يختار على الممتنع ، لأنّ الحقّ لغير معيّن ، وهو اختيار رغبة ، فكان من حقّ الزّوج .
ومن الأحكام كذلك : أنّه إذا أسلم بعض زوجاته ، وليس البواقي كتابيّات ، فينحصر تخييره في المسلمات فقط ، وليس له أن يختار من لم يسلمن ، لعدم حلّهنّ له .
ومن الأحكام أنّه يلزم الزّوج النّفقة لجميعهنّ في مدّة التّخيير إلى أن يختار ، لأنّهنّ محبوسات لأجله ، وهنّ في حكم الزّوجات .
خامساً : تخيير الطّفل في الحضانة :
17 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى تخيير المحضون بين أبيه وأمّه إذا تنازعا فيه على ما يأتي من التّفصيل ، فيلحق بأيّهما اختار . فإن اتّفقا على أن يكون المحضون عند أحدهما جاز ، وعند الشّافعيّة يبقى التّخيير وإن أسقط أحدهما حقّه قبل التّخيير - خلافاً للماورديّ والرّويانيّ - ولا فرق في التّخيير بين الذّكر والأنثى .
وعند الحنابلة : يخيّر الغلام إذا بلغ سبع سنين عاقلاً ، لأنّها السّنّ الّتي أمر الشّرع فيها بمخاطبته بالصّلاة . وحدّه الشّافعيّة بالتّمييز بأن يأكل وحده ، ويشرب وحده ، ولم يعتبروا بلوغه السّابعة حدّاً ، فلو جاوز السّبع بلا تمييز بقي عند أمّه ، ولا فرق في هذا بين الذّكر والأنثى . وهذا يخالف في ظاهره ما ورد من أمره بالصّلاة إذا بلغ سبع سنين ، وعدم أمره بها قبل أن يبلغها وإن ميّز . والفرق بينهما أنّ في أمره بالصّلاة قبل السّبع مشقّةً ، فخفّف عنه ذلك . بخلاف الحضانة ، لأنّ المدار في التّخيير على معرفة ما فيه صلاح نفسه وعدمه ، فيقيّد بالتّمييز ، وإن لم يجاوز السّبع .
وفرّق الحنابلة بين الذّكر والأنثى ، فيخيّر الصّبيّ إذا بلغ سبع سنين ، أمّا البنت فتكون في حضانة والدها إذا تمّ لها سبع سنين ، حتّى سنّ البلوغ ، وبعد البلوغ تكون عند الأب أيضاً إلى الزّفاف وجوباً ، ولو تبرّعت الأمّ بحضانتها ، لأنّ الغرض من الحضانة الحفظ ، والأب أحفظ لها . ولأنّها تخطب منه ، فوجب أن تكون تحت نظره .
18 - والتّخيير في الحضانة مشروط بالسّلامة من الفساد ، فإذا علم أنّه يختار أحدهما ليمكّنه من الفساد ، ويكره الآخر لما سيلزمه به من أدب ، لم يعمل بمقتضى اختياره ، لأنّه مبنيّ على الشّهوة ، فيكون فيه إضاعة له .
كما أنّه مشروط بأن يظهر للحاكم معرفته بأسباب الاختيار .
19 - ودليل التّخيير ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال : « جاءت امرأة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّ زوجي يريد أن يذهب بابني ، وقد سقاني من بئر أبي عنبة ونفعني ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : هذا أبوك وهذه أمّك ، فخذ بيد أيّهما شئت ، فأخذ بيد أمّه ، فانطلقت به » وما ورد من قضاء عمر بذلك .
20 - ومن أحكام التّخيير : أنّه لو امتنع المختار من كفالة المحضون كفله الآخر ، فإن رجع الممتنع منها أعيد التّخيير . وإن امتنعا أي الأب والأمّ ، خيّر بين الجدّ والجدّة ، وإلاّ أجبر عليها من تلزمه نفقته ، لأنّها من جملة الكفالة .
21 - ومن أحكامه كذلك أنّ المميّز الّذي لا أب له يخيّر بين أمّ وإن علت وجدّ وإن علا ، عند فقد من هو أقرب منه ، أو قيام مانع به لوجود الولادة في الكلّ .
22 - ومن أحكامه كذلك أنّ المميّز إن اختار أحد الأبوين ، ثمّ اختار الآخر حوّل إليه ، لأنّه قد يظهر الأمر على خلاف ما ظنّه ، أو يتغيّر حال من اختاره أوّلاً .
إلاّ إذا ظهر أنّ سبب اختياره للآخر قلّة عقله ، فيجعل عند أمّه وإن بلغ ، كما قبل التّمييز .
23 - ومن الأحكام كذلك : أنّ المحضون إذا اختار أبويه معاً أقرع بينهما لانتفاء المرجّح . أمّا إذا لم يختر واحداً منهما ، فعند الشّافعيّة الأمّ أولى ، لأنّها أشفق واستصحاباً لما كان عليه . وعند الحنابلة : يقرع بينهما ، لأنّه لا أولويّة حينئذ لأحدهما ، وهو قول للشّافعيّة . فإذا اختار المحضون غير من قدّم بالقرعة ردّ إليه ، كما لو اختاره ابتداءً .
ولا يخيّر الغلام إذا كان أحد أبويه ليس من أهل الحضانة ، لأنّه غير أهل فيكون وجوده كعدمه ، ويتعيّن أن يكون الغلام عند الآخر . وإن اختار ابن سبع أباه ثمّ زال عقله ردّ إلى الأمّ ، لحاجته إلى من يتعهّده كالصّغير ، وبطل اختياره لأنّه لا حكم لكلامه .
أمّا الحنفيّة والمالكيّة فذهبوا إلى أنّه لا خيار للصّغير ذكراً كان أو أنثى ، وأنّ الأمّ أحقّ بهما. وعند الحنفيّة يبقى الصّبيّ عند أمّه إلى أن يستغني بنفسه ، بأن يأكل وحده ويشرب وحده ويستنجي وحده ويلبس وحده . وعند المالكيّة إلى البلوغ في المشهور من المذهب ، ويقابل المشهور ما قاله ابن شعبان : إنّ أمد الحضانة في الذّكر حتّى يبلغ عاقلاً غير زمن .
أمّا البنت فعند الحنفيّة تبقى حضانة أمّها إلى أن تحيض . وبعد البلوغ تحتاج إلى التّحصين والحفظ والأب فيه أقوى . وعن محمّد بن الحسن أنّ البنت تدفع إلى الأب إذا بلغت حدّ الشّهوة ، لتحقّق الحاجة إلى الصّيانة . أمّا عند المالكيّة فتبقى عند أمّها إلى أن يدخل بها زوجها ، لأنّها تحتاج إلى معرفة آداب النّساء ، والمرأة على ذلك أقدر .
24 - والعلّة في عدم تخيير المحضون عند الحنفيّة والمالكيّة هي : قصور عقله الدّاعي إلى قصور اختياره . فقد يختار من عنده الدّعة والتّخلية بينه وبين اللّعب ، فلا يتحقّق المقصود من الحضانة وهو النّظر في مصالح المحضون .
وما ورد من أحاديث تفيد تخيير الطّفل ، جاء فيها أنّ اختياره كان لدعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يهديه إلى الأصلح . كما جاء في حديث « رافع بن سنان أنّه أسلم ، وأبت امرأته أن تسلم فقالت : ابنتي وهي فطيم ، وقال رافع : ابنتي . فأقعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم الأمّ ناحيةً ، والأب ناحيةً ، وأقعد الصّبيّة ناحيةً وقال لهما : ادعواها فمالت الصّبيّة إلى أمّها ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم :" اللّهمّ اهدها " فمالت إلى أبيها فأخذها » .
وجاء في رواية أنّه ابنهما وليست بنتهما ، ولعلّهما قضيّتان مختلفتان .
كما يحمل ما ورد في تخيير الغلام على أنّه كان بالغاً ، بدليل أنّه كان يستسقي من بئر أبي عنبة ، ومن يكون دون البلوغ لا يرسل إلى الآبار للخوف عليه من السّقوط .
سادساً : تخيير الإمام في الأسرى :
25 - اتّفق الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة على تخيير إمام المسلمين في أسرى الحرب بين خمس خصال : فإمّا أن يسترقّهم ، وإمّا أن يقتلهم ، وإمّا أن يأخذ الجزية منهم ، وإمّا أن يطلب الفدية مقابل إعتاقهم سواء بالمال ، أو بمفاداتهم بأسرى المسلمين الّذين في أيدي الكفّار ، وإمّا أن يمنّ عليهم فيعتقهم . واستثنى الحنفيّة الخصلتين الأخيرتين ، وهما الفداء والمنّ ، فقالوا بعدم جواز المنّ ، وعدم جواز المفاداة بالمال في المشهور من المذهب ، أمّا المفاداة بأسرى المسلمين فلا يجوز في قول لأبي حنيفة ، وجائز في قول الصّاحبين ، وهو قول لأبي حنيفة كذلك . وفي المسألة تفصيلات يرجع إليها في بحث ( أسرى ) .
ودليل جواز أخذ الجزية قوله تعالى : { حتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عن يَدٍ وهم صَاغِرُون } .
وكذلك ما جاء أنّ عمر رضي الله عنه فعل ذلك في أهل السّواد .
26 - وما تقدّم من تخيير الإمام في الأسرى محلّه في الرّجال البالغين ، أمّا النّساء والصّبيان فلا خيار فيهم ، ولا يحكم فيهم إلاّ بالاسترقاق ، وحكمهم حكم سائر أموال الغنيمة . كما في سبايا هوازن وخيبر وبني المصطلق . وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنّه « نهى عن قتل النّساء والولدان » . وعند المالكيّة : للإمام الخيرة فيهم بين الاسترقاق والفداء . 27 - وتخيير الإمام بين هذه الخصال مقيّد بما يظهر له من المصلحة الرّاجحة في أحدها ، فيختار الأصلح للمسلمين من بينها . فإن كان الأسير ذا قوّة وشوكة فقتله هو المصلحة ، وإن كان ضعيفاً صاحب مال كانت المصلحة في أخذ الفدية منه ، وإن كان ممّن يرجى إسلامه فيمنّ عليه تقريباً وتأليفاً لقلبه على الإسلام . وإن تردّد نظر الإمام ورأيه في اختيار الأصلح ، فعند الحنابلة القتل أولى لما فيه من كفاية شرّهم .
وعند الشّافعيّة يحبسهم حتّى يظهر له الأصلح .
فالتّخيير في تصرّف الإمام في الأسرى مقيّد بالمصلحة بخلاف التّخيير في خصال الكفّارة ، إذ هو تخيير مطلق أبيح للحانث بموجبه أن يختار أيّ خصلة دون النّظر إلى المصلحة .
28 - أمّا إذا اختار الإمام خصلةً بعد الاجتهاد وتقليب وجوه المصالح ، ثمّ ظهر له بالاجتهاد أنّ المصلحة في غيرها ، فقد قال ابن حجر في تحفة المحتاج : الّذي يظهر لي في ذلك تفصيل لا بدّ منه أوّلاً : فإن كانت رقّاً لم يجز له الرّجوع عنها مطلقاً ، سواء استرقّهم لسبب أم لغير سبب ، وذلك لأنّ أهل الخمس ملكوهم بمجرّد ضرب الرّقّ ، فلم يملك إبطاله عليهم إلاّ برضا من دخلوا في ملكهم . وإن اختار القتل جاز له الرّجوع عنه تغليباً لحقن الدّماء ، كما في جواز رجوع المقرّ بالزّنى وسقوط القتل عنه ، بل إنّ الرّجوع عن قتل الأسير أولى ، لأنّه محض حقّ للّه تعالى ، أمّا حدّ الزّنا ففيه شائبة حقّ آدميّ .
أمّا إذا كان ما اختاره الإمام أوّلاً هو المنّ أو الفداء فلا يرجع عنه باجتهاد آخر ، لأنّه من قبيل نقض الاجتهاد بالاجتهاد من غير موجب ، كما أنّ الحاكم إذا اجتهد في قضيّة فلا ينقض اجتهاده باجتهاد آخر . أمّا إذا اختار أحدهما لسبب ، ثمّ زال ذلك السّبب ، وظهرت المصلحة في اختيار الثّاني لزمه العمل بما أدّاه إليه اجتهاده ثانياً ، وليس هذا من قبيل نقض الاجتهاد بالاجتهاد ، لأنّه انتقال إلى الاختيار الثّاني لزوال موجب الاختيار الأوّل . ويشترط في الاسترقاق والفداء اللّفظ الدّالّ على اختيارهما ، ولا يكفي مجرّد الفعل ، لأنّه لا يدلّ عليه دلالةً صريحةً . أمّا في غيرهما من الخصال ، فيكفي الفعل لدلالته الصّريحة على اختيارها .
سابعاً : تخيير الإمام في حدّ المحارب :
29 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ حدّ المحارب يختلف باختلاف الجناية ، فلكلّ جناية عقوبتها ، كما في قوله تعالى : { إنَّمَا جَزَاءُ الّذينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ ورَسُولَه وَيَسْعَونَ في الأرضِ فَسَادَاً أنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِم وأَرْجُلُهم منْ خِلافٍ أو يُنْفَوا منْ الأرضِ ذلك لهم خِزْيٌ في الدّنيا ولهم في الآخرةِ عذابٌ عظيمٌ } .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ الإمام مخيّر في بعض جنايات المحارب دون بعضها على تفصيل عندهم . وذهب المالكيّة إلى أنّ الإمام بالخيار في المحارب بين أربعة أمور :
أن يقتله بلا صلب ، أو أن يصلبه مع القتل ، أو أن ينفي الذّكر الحرّ البالغ العاقل في مكان بعيد ويسجن حتّى تظهر توبته أو يموت ، أو أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى .
وهذه الأربعة في حقّ الرّجال ، أمّا النّساء فلا يصلبن ولا ينفين ، وحدّهنّ القتل أو القطع . وتخيير الإمام بين هذه الأمور يكون على أساس المصلحة .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ثامناً : تخيير ملتقط اللّقطة بعد التّعريف بها :
30 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الملتقط مخيّر بين أن يتملّك ما التقطه وينتفع به ، أو يتصدّق به ، أو يحفظه أمانةً إلى أن يظهر صاحب اللّقطة فيدفعها إليه ، وهذا بعد التّعريف بها . وذهب الحنابلة والشّافعيّة في قول إلى أنّ الملتقط يملك ما التقطه حتماً - كالميراث - بمجرّد تمام التّعريف بها ، على التّفصيل المذكور في مصطلح : ( لقطة ) .
وفي الأصحّ عند الشّافعيّة ، وهو قول أبي الخطّاب من الحنابلة : أنّه لا يملك اللّقطة حتّى يختار التّملّك بلفظ صريح أو كناية مع النّيّة ، وفي وجه آخر عند الشّافعيّة : أنّه يملك بمجرّد النّيّة بعد التّعريف . ودليل التّملّك والانتفاع بمجرّد التّعريف ما جاء في روايات الحديث عن زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنه قال : « جاء أعرابيّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله عمّا يلتقطه فقال : عرّفها سنةً ، ثمّ اعرف عفاصها ووكاءها ، فإن جاء أحد يخبرك بها ، وإلاّ فاستنفقها » وفي أخرى : « وإلاّ فهي كسبيل مالك » وفي لفظ : « ثمّ كلها » وفي لفظ :
« فانتفع بها » وفي لفظ : « فشأنك بها »
31 - أمّا دليل أنّه لا يتملّك حتّى يختار فما ورد في حديث زيد بن خالد الجهنيّ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « فإن جاء صاحبها وإلاّ فشأنك بها » فجعله إلى اختياره ، ولأنّه تملّك ببدل فاعتبر فيه اختيار التّملّك كالملك بالبيع . وإنّما جاز للملتقط اختيار التّصدّق ، لأنّ فيه إيصالاً للحقّ إلى المستحقّ ، وهو واجب بقدر الإمكان ، فإمّا أن يكون بإيصال العين لصاحبها ، وإمّا أن يكون بإيصال العوض عند تعذّره ، وهو الثّواب على اعتبار إجازة صاحب اللّقطة التّصدّق بها . ولهذا كان له الخيار عند ظهوره بين إمضاء الصّدقة أو الرّجوع بالضّمان على الملتقط . وفي المسألة تفصيلات أخرى تنظر في ( لقطة ) .
تاسعاً : التّخيير في كفّارة اليمين :
32 - اتّفق الفقهاء على التّخيير في كفّارة اليمين بين أربع خصال : إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم ، أو عتق رقبة ، فإن لم يجد ما يكفّر به من هذه الثّلاثة - بأن عجز عن الإطعام والكسوة والعتق - صام ثلاثة أيّام .
فهي كفّارة على التّخيير في الثّلاثة الأولى ، وعلى التّرتيب بينها وبين الخصلة الرّابعة . والأصل في التّخيير في كفّارة اليمين قوله تعالى : { لا يُؤَاخِذُكُم اللّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُم ولكنْ يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدْتُم الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُه إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِين مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُم أو كِسْوَتُهم أو تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ . فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُم إذا حَلَفْتُم واحْفَظُوا أَيْمَانِكُم كذلك يُبَيِّنُ اللّهُ لكم آياتِه لعلَّكُم تَشْكُرُون } .
والمقصود بالتّخيير في كفّارة اليمين أنّ للمكفّر أن يأتي بأيّ خصلة شاء ، وأن ينتقل عنها إلى غيرها بحسب ما يراه ويميل إليه وما يراه الأسهل في حقّه ، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى ما خيّره إلاّ لطفاً به . وهذا ما يفترق به التّخيير في كفّارة اليمين عن التّخيير في حدّ المحارب والتّصرّف بالأسرى حيث قيّدا بالمصلحة .
عاشراً : التّخيير بين القصاص والدّية والعفو :
33 - أجمع الفقهاء على أنّ وليّ الدّم مخيّر في الجناية على النّفس بين ثلاث خصال : فإمّا أن يقتصّ من القاتل ، أو يعفو عنه إلى الدّية أو بعضها ، أو أن يصالحه على مال مقابل العفو ، أو يعفو عنه مطلقاً .
ودليل ذلك قوله تعالى : { يا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عليكم القِصَاصُ في القَتْلَى الحُرُّ بالحُرِّ والعَبْدُ بالعَبْدِ والأُنْثَى بالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ له منْ أَخِيه شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وأَدَاءٌ إليه بِإِحْسَانٍ ذلك تَخْفِيْفٌ منْ رَبِّكُم وَرَحْمَة } الآية ، وقوله تعالى : { وكَتَبْنَا عليهم فيها أَنَّ النَّفْسَ بالنَّفْسِ } إلى قوله { والجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ به فهو كَفَّارَةٌ له } الآية : أي كفّارة للعافي بصدقته على الجاني . وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من قُتِلَ له قتيلٌ فهو بخير النَّظَرَين : إمّا أن يودي ، وإمّا أن يقاد »
وعن أنس - رضي الله عنه - قال : « ما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلاّ أمر فيه بالعفو » . وفي الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال :
« إنّكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا الرّجل من هذيل ، وإنّي عاقله ، فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين : إمّا أن يقتلوا ، أو يأخذوا العقل » .
واختلف الفقهاء في توقّف تخيير وليّ الدّم في أخذ الدّية على رضا الجاني .
فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يجوز أن يعفو وليّ الدّم إلى الدّية إلاّ برضا الجاني ، وأنّه ليس لوليّ الدّم جبر الجاني على دفع الدّية إذا سلّم نفسه للقصاص . وذهب الشّافعيّة في الأظهر ، والحنابلة في المعتمد إلى أنّ موجب القتل العمد هو القود ، وأنّ الدّية بدل عنه عند سقوطه . فإذا عفا عن القصاص واختار الدّية وجبت دون توقّف على رضا الجاني . وهو قول أشهب من المالكيّة . وفي قول آخر للشّافعيّة ، وهو رواية عند الحنابلة أنّ موجب القتل العمد هو القصاص أو الدّية أحدهما لا بعينه ، ويتخيّر وليّ الدّم في تعيين أحدهما .
34 - أمّا دليل الحنفيّة والمالكيّة فيما ذهبوا إليه فهو ما ورد من نصوص توجب القصاص ، كقوله تعالى : { يا أيُّها الّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عليكم القِصَاصُ في القَتْلى } ممّا يعيّن القصاص. فهو إخبار عن كون القصاص هو الواجب ، وهذا يبطل القول بأنّ الدّية واجبة كذلك . ولمّا كان القتل لا يقابل بالجمع بين القصاص والدّية ، كان القصاص هو عين حقّ الوليّ ، والدّية بدل حقّه ، وليس لصاحب الحقّ أن يعدل من عين الحقّ إلى بدله من غير رضا من عليه الحقّ ، ولهذا لا يجوز اختيار الدّية من غير رضا القاتل .
وأمّا دليل الشّافعيّة والحنابلة فهو ما تقدّم من أدلّة جواز العفو إلى الدّية ، وقوله تعالى :
{ فَمَنْ عُفِيَ له منْ أخِيه شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وأَدَاءٌ إليه بِإِحْسَانٍ } فأوجب سبحانه على القاتل أداء الدّية إلى الوليّ مطلقاً عن شرط الرّضا ، دفعاً للهلاك عن نفسه .
ولمّا كان المقصود من تشريع القصاص والدّية هو الزّجر ، فكان ينبغي الجمع بينهما ، كما في شرب خمر الذّمّيّ ، إلاّ أنّه تعذّر الجمع ، لأنّ الدّية بدل النّفس ، وفي القصاص معنى البدليّة كما في قوله تعالى : { أنَّ النَّفْسَ بالنَّفْسِ } والباء تفيد البدليّة ، فيؤدّي إلى الجمع بين البدلين ، وهو غير جائز ، فخيّر وليّ الدّم بينهما .

تداخل *
التّعريف :
1 - التّداخل في اللّغة : تشابه الأمور والتباسها ودخول بعضها في بعض .
وفي الاصطلاح : دخول شيء في شيء آخر بلا زيادة حجم ومقدار . وتداخل العددين أن يعدّ أقلّهما الأكثر ، أي يفنيه ، مثل ثلاثة وتسعة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاندراج :
2 - الاندراج مصدر اندرج ، ومن معانيه في اللّغة : الانقراض . ويستعمله الفقهاء بمعنى دخول أمر في أمر آخر أعمّ منه ، كالحدث الأصغر مع الجنابة في الطّهارة .
ب - التّباين :
3 - معنى التّباين في اللّغة : التّهاجر والتّباعد . وفي الاصطلاح : عبارة عمّا إذا نسب أحد الشّيئين إلى الآخر لم يصدق أحدهما على شيء ممّا صدق عليه الآخر ، فإن لم يتصادقا على شيء أصلاً فبينهما التّباين الكلّيّ ، وإن صدقا في الجملة فبينهما التّباين الجزئيّ . كالحيوان والأبيض وبينهما العموم من وجه . والفرق بينه وبين التّداخل واضح ، إذ التّداخل إنّما يكون في الأمور المتشابهة والمتقاربة ، أمّا التّباين فيكون في الأمور المتفاوتة كلّيّاً أو جزئيّاً .
ج - التّماثل :
4 - التّماثل : مصدر تماثل ، ومادّة مثل في اللّغة تأتي بمعنى الشّبه ، وبمعنى نفس الشّيء وذاته. والفقهاء يستعملون التّماثل بمعنى التّساوي ، كما في تماثل العددين في مسائل الإرث.
د - التّوافق :
5 - معنى التّوافق في اللّغة : الاتّفاق والتّظاهر .
وتوافق العددين : ألاّ يعدّ أقلّهما الأكثر ، ولكن يعدّهما عدد ثالث ، كالثّمانية مع العشرين ، يعدّهما أربعة ، فهما متوافقان بالرّبع ، لأنّ العدد العادّ مخرج لجزء الوفق .
محلّ التّداخل :
6 - ذكر الحنفيّة أنّ التّداخل : إمّا أن يكون في الأسباب : وإمّا أن يكون في الأحكام . والأليق بالعبادات الأوّل ، وبالعقوبات الثّاني ، وذلك ما جاء في العناية : أنّ التّداخل في العبادات إذا كان في الحكم دون السّبب كانت الأسباب باقيةً على تعدّدها ، فيلزم وجود السّبب الموجب للعبادة بدون العبادة ، وفي ذلك ترك الاحتياط فيما يجب فيه الاحتياط ، فقلنا بتداخل الأسباب فيها ليكون جميعها بمنزلة سبب واحد ترتّب عليه حكمه إذا وجد دليل الجمع وهو اتّحاد المجلس ، وأمّا العقوبات فليس ممّا يحتاط فيها ، بل في درئها احتياط فيجعل التّداخل في الحكم ، ليكون عدم الحكم مع وجود الموجب مضافاً إلى عفو اللّه وكرمه ، فإنّه هو الموصوف بسبوغ العفو وكمال الكرم .
وفائدة ذلك تظهر فيما لو تلا آية سجدة في مكان فسجدها ، ثمّ تلاها فيه مرّات فإنّه يكفيه تلك الواقعة أوّلاً ، إذ لو لم يكن التّداخل في السّبب لكانت التّلاوة الّتي بعد السّجدة سبباً ، وحكمه قد تقدّم ، وذلك لا يجوز . وأمّا في العقوبات : فإنّه لو زنى ، ثمّ زنى ثانيةً قبل أن يحدّ الأولى ، فإنّ عليه حدّاً واحداً ، بخلاف ما لو زنى فحدّ ، ثمّ زنى فإنّه يحدّ ثانياً .
وذكر صاحب الفروق من المالكيّة أنّ التّداخل محلّه الأسباب لا الأحكام ، ولم يفرّق في ذلك بين الطّهارات والعبادات ، كالصّلاة والصّيام والكفّارات والحدود والأموال .
بل ذكر أنّ الحدود المتماثلة إن اختلفت أسبابها كالقذف وشرب الخمر ، أو تماثلت كالزّنى مراراً والسّرقة مراراً والشّرب مراراً قبل إقامة الحدّ عليه ، فإنّها من أولى الأسباب بالتّداخل ، لأنّ تكرّرها مهلك . ويظهر ممّا ذكره الحنابلة في الطّهارات وكفّارة الصّيام ، فيما لو تكرّر منه الجماع في يوم واحد قبل التّكفير ، وفي الحدود إن كانت من جنس واحد أو أجناس أنّ التّداخل عندهم أيضاً إنّما يكون في الأسباب دون الأحكام .
هذا ويظهر ممّا ذكره الزّركشيّ في المنثور أنّ التّداخل إنّما يكون في الأحكام دون الأسباب ، ولا فرق في ذلك بين العبادات والعقوبات والإتلافات .
آثار التّداخل الفقهيّة ومواطنه :
7 - ذكر القرافيّ في الفروق أنّ التّداخل وقع في الشّريعة في ستّة أبواب ، وهي الطّهارات والصّلوات والصّيام والكفّارات والحدود والأموال .
وذكر الزّركشيّ في المنثور أنّه يدخل في ضروب ، وهي : العبادات والعقوبات والإتلافات . وذكر السّيوطيّ وابن نجيم أنّه إذا اجتمع أمران من جنس واحد ، ولم يختلف مقصودهما ، دخل أحدهما في الآخر غالباً ، كالحدث مع الجنابة . هذا والتّداخل يذكره الفقهاء في الطّهارة والصّلاة والصّوم والحجّ ، والفدية والكفّارة والعدد ، والجناية على النّفس والأطراف والدّيات ، والحدود والجزية ، وفي حساب المواريث . وبيان ذلك فيما يلي :
أوّلاً - الطّهارات :
8 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من سنن الغسل : الوضوء قبله ، لأنّه صفة غسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة وميمونة رضي الله عنهما ونصّ حديث عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ، ثمّ يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ، ثمّ يتوضّأ وضوءه للصّلاة ، ثمّ يأخذ الماء ويدخل أصابعه في أصول الشّعر ، حتّى إذا رأى أن قد استبرأ ، حفن على رأسه ثلاث حثيات ، ثمّ أفاض على سائر جسده ، ثمّ غسل رجليه » .
هذا عن تحصيل السّنّة . أمّا الأجزاء فيرى الحنفيّة والمالكيّة أنّ الطّهارات كالوضوء والغسل إذا تكرّرت أسبابهما المختلفة كالحيض والجنابة ، أو المتماثلة كالجنابتين ، والملامستين ، فإنّ تلك الأسباب تتداخل ، فيكفي في الجنابتين ، أو في الحيض والجنابة ، أو في الجنابة والملامسة غسل واحد ، لا يحتاج بعده إلى وضوء ،لاندراج سببه في السّبب الموجب للغسل. وذكر الزّركشيّ في المنثور أنّ الفعلين في العبادات ، إن كانا في واجب ولم يختلفا في القصد ، تداخلا ، كغسل الحيض مع الجنابة ، فإذا أجنبت ثمّ حاضت ، كفى لهما غسل واحد .
هذا وقد ذكر الشّافعيّة والحنابلة في تداخل الوضوء والغسل إذا وجبا عليه - كما لو أحدث ثمّ أجنب أو عكسه - أربعة أوجه ، انفرد الشّافعيّة بأوّلها ، واتّفقوا مع الحنابلة في الباقي . أحدهما ، وهو المذهب عند الشّافعيّة ، وقد انفردوا فيه عن الحنابلة ، لكنّ ابن تيميّة اختاره : أنّه يكفيه الغسل ، نوى الوضوء معه أو لم ينوه ، غسل الأعضاء مرتّبةً أم لا ، لأنّهما طهارتان ، فتداخلتا .
والثّاني ، وذهب إليه أيضاً الحنابلة في إحدى الرّوايات عن أحمد ، وهو من مفردات المذهب عندهم : أنّه يجب عليه الوضوء والغسل ، لأنّهما حقّان مختلفان يجبان بسببين مختلفين ، فلم يدخل أحدهما في الآخر كحدّ الزّنى والسّرقة ، فإن نوى الوضوء دون الغسل أو عكسه ، فليس له غير ما نوى .
الثّالث ، واختاره أيضاً أبو بكر من الحنابلة ، وقطع به في المبهج : أنّه يأتي بخصائص الوضوء ، بأن يتوضّأ مرتّباً ، ثمّ يغسل سائر البدن ، لأنّهما متّفقان في الغسل ومختلفان في التّرتيب ، فما اتّفقا فيه تداخلا ، وما اختلفا فيه لم يتداخلا .
الرّابع ، وهو ما حكاه أبو حاتم القزوينيّ من الشّافعيّة ، وهو المذهب مطلقاً عند الحنابلة ، وعليه جماهير أصحابهم ، وقطع به كثير منهم : أنّهما يتداخلان في الأفعال دون النّيّة ، لأنّهما عبادتان متجانستان صغرى وكبرى ، فدخلت الصّغرى في الكبرى في الأفعال دون النّيّة ، كالحجّ والعمرة . هذا ، وجاء في الإنصاف عن الدّينوريّ في وجه حكاه : أنّه إن أحدث ثمّ أجنب فلا تداخل ، وجاء فيه أيضاً أنّ من أحدث ثمّ أجنب ، أو أجنب ثمّ أحدث يكفيه الغسل على الأصحّ ، وهو مماثل لما حكاه الشّافعيّة في الوجه الأوّل .
ثانياً : التّداخل في الصّلاة وله أمثلة :
أ - تداخل تحيّة المسجد وصلاة الفرض :
9 - ذكر ابن نجيم في الأشباه ، والقرافيّ في الفروق : أنّ تحيّة المسجد تدخل في صلاة الفرض مع تعدّد سببهما ، فإنّ سبب التّحيّة هو دخول المسجد ، وسبب الظّهر مثلاً هو الزّوال ، فيقوم سبب الزّوال مقام سبب الدّخول ، فيكتفي به .
وذكر الزّركشيّ في المنثور أنّ التّداخل في العبادات إن كان في مسنون ، وكان ذلك المسنون من جنس المفعول ، دخل تحته ، كتحيّة المسجد مع صلاة الفرض .
وذهب الحنابلة إلى أنّ تحيّة المسجد تدخل في الفرض والسّنّة الرّاتبة .
ب - تداخل سجود السّهو :
10 - جاء صريحاً في حاشية ابن عابدين - من كتب الحنفيّة - فيمن تكرّر سهوه بحيث أدّى ذلك إلى ترك جميع واجبات الصّلاة ، فإنّه لا يلزمه إلاّ سجدتان .
وقريب من ذلك ما جاء في المدوّنة من كتب المالكيّة فيمن نسي تكبيرةً أو تكبيرتين ، أو نسي " سمع اللّه لمن حمده " مرّةً أو مرّتين ، أو نسي التّشهّد أو التّشهّدين .
وجاء في المنثور والأشباه من كتب الشّافعيّة أنّ جبرانات الصّلاة تتداخل لاتّحاد الجنس ، فسجود السّهو وإن تعدّد سجدتان ، لأنّ القصد بسجود السّهو إرغام أنف الشّيطان ، وقد حصل بالسّجدتين آخر الصّلاة ، بخلاف جبرانات الإحرام فلا تتداخل ، لأنّ القصد جبر النّسك وهو لا يحصل إلاّ بالتّعدّد . وقال صاحب المغني : إذا سها سهوين أو أكثر من جنس كفاه سجدتان للجميع ، لا نعلم أحداً خالف فيه . وإن كان السّهو من جنسين ، فكذلك ، حكاه ابن المنذر قولاً لأحمد ، وهو قول أكثر أهل العلم ، منهم : النّخعيّ والثّوريّ ومالك واللّيث والشّافعيّ وأصحاب الرّأي . وذكر أبو بكر من الحنابلة فيه وجهين : أحدهما : ما ذكرنا . والثّاني : يسجد سجودين ، قال الأوزاعيّ وابن أبي حازم وعبد العزيز بن أبي سلمة : إذا كان عليه سجودان ، أحدهما قبل السّلام ، والآخر بعده سجدهما في محلّيهما ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لكلّ سهو سجدتان » . وهذان سهوان ، فلكلّ واحد منهما سجدتان ،ولأنّ كلّ سهو يقتضي سجوداً ، وإنّما تداخلا في الجنس الواحد لاتّفاقهما ، وهذان مختلفان.
ج - التّداخل في سجود التّلاوة :
11 - ذكر الحنفيّة أنّ سجدة التّلاوة مبناها على التّداخل دفعاً للحرج .
والتّداخل فيها تداخل في السّبب دون الحكم ، لأنّها عبادة ، فتنوب الواحدة عمّا قبلها وعمّا بعدها ، ولا يتكرّر وجوبها إلاّ باختلاف المجلس أو اختلاف التّلاوة ( أي الآية ) أو السّماع ، فمن تلا آيةً واحدةً في مجلس واحد مراراً تكفيه سجدة واحدة وأداء السّجدة بعد القراءة الأولى أولى . والأصل في ذلك ما روي « أنّ جبريل عليه السلام كان ينزل بالوحي فيقرأ آية السّجدة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يسمع ويتلقّن ، ثمّ يقرأ على أصحابه ، وكان لا يسجد إلاّ مرّةً واحدةً » .
وإن تلاها في غير الصّلاة فسجد ، ثمّ دخل في الصّلاة فتلاها فيها ، سجد أخرى . ولو لم يسجد أوّلاً كفته واحدة ، لأنّ الصّلاتيّة أقوى من غيرها ، فتستتبع غيرها وإن اختلف المجلس . ولو لم يسجد في الصّلاة سقطتا في الأصحّ .
وأمّا المالكيّة فقاعدة المذهب عندهم تكرير سجدة التّلاوة ، إن كرّر حزباً فيه سجدةً ، ولا تكفيه السّجدة الأولى ، لوجود المقتضي للسّجود ، باستثناء المعلّم والمتعلّم فقط عند الإمام مالك وابن القاسم ، واختاره المازريّ ، خلافاً لأصبغ وابن عبد الحكم القائلين بعدم السّجود عليهما ولا في أوّل مرّة .
ومحلّ الخلاف كما في حاشية الدّسوقيّ إذا حصل التّكرير لحزب فيه سجدة ، وأمّا قارئ القرآن بتمامه فإنّه يسجد جميع سجداته في غير الصّلاة وفي الصّلاة ، حتّى لو قرأه كلّه في ركعة واحدة ، سواء أكان معلّماً أم متعلّماً اتّفاقاً . وجاء في الرّوضة وغيرها من كتب الشّافعيّة : أنّه إذا قرأ آيات السّجدات في مكان واحد ، سجد لكلّ واحدة ، ومثل ذلك قراءته الآية الواحدة في مجلسين . فلو كرّر الآية الواحدة في المجلس الواحد نظر ، إن لم يسجد للمرّة الأولى كفاه سجود واحد ، وإن سجد للأولى فثلاثة أوجه : أصحّها يسجد مرّةً أخرى لتجدّد السّبب ، والثّاني تكفيه الأولى ، والثّالث إن طال الفصل سجد أخرى ، وإلاّ فتكفيه الأولى . ولو كرّر الآية الواحدة في الصّلاة ، فإن كان في ركعة فكالمجلس الواحد ، وإن كان في ركعتين فكالمجلسين . ولو قرأ مرّةً في الصّلاة ، ومرّةً خارجها في المجلس الواحد وسجد للأولى ، فلم ير النّوويّ فيه نصّاً للأصحاب ، وإطلاقهم يقتضي طرد الخلاف فيه .
وتذكر كتب الحنابلة أيضاً أنّ سجود التّلاوة يتكرّر بتكرّر التّلاوة ، حتّى في طواف مع قصر فصل . وذكر صاحب الإنصاف وجهين في إعادة سجود من قرأ بعد سجوده ، وكذا يتوجّه في تحيّة المسجد إن تكرّر دخوله .
وقال ابن تميم : وإن قرأ سجدةً فسجد ، ثمّ قرأها في الحال مرّةً أخرى ، لا لأجل السّجود ، فهل يعيد السّجود ؟ على وجهين . وقال القاضي في تخريجه : إن سجد في غير الصّلاة ثمّ صلّى فقرأها فيها أعاد السّجود ، وإن سجد في صلاة ثمّ قرأها في غير صلاة لم يسجد . وقال : إذا قرأ سجدةً في ركعة فسجد ، ثمّ قرأها في الثّانية ، فقيل يعيد السّجود ، وقيل لا .
ثالثاً : تداخل صوم رمضان وصوم الاعتكاف :
12 - من المقرّر عند المالكيّة والحنفيّة ، وفي رواية عن أحمد اشتراط الصّوم لصحّة الاعتكاف مطلقاً ، وبناءً على ذلك ذكر القرافيّ أنّ صوم الاعتكاف يدخل في صوم رمضان ، وذلك لأنّ الاعتكاف سبب لتوجّه الأمر بالصّوم ، ورؤية هلال رمضان هي سبب توجّه الأمر بصوم رمضان ، فيدخل السّبب الّذي هو الاعتكاف في السّبب الآخر وهو رؤية الهلال فيكتفي به ويتداخل الاعتكاف ورؤية الهلال .
رابعاً : تداخل الطّواف والسّعي للقارن :
13 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والإمام أحمد فيما اشتهر عنه إلى أنّ من قرن بين الحجّ والعمرة في إحرام واحد ، فإنّه يطوف لهما طوافاً واحداً ، ويسعى لهما سعياً واحداً ، وهو قول ابن عمر وجابر بن عبد اللّه رضي الله عنهم ، وبه قال عطاء بن أبي رباح والحسن ومجاهد وطاوس وإسحاق وأبو ثور ، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع فأهللنا بعمرة ... » . الحديث . وفيه :
« وأمّا الّذين جمعوا بين الحجّ والعمرة فإنّما طافوا طوافاً واحداً » . ولأنّ الحجّ والعمرة عبادتان من جنس واحد ، فإذا اجتمعتا دخلت أفعال الصّغرى في الكبرى كالطّهارتين .
وأيضاً فإنّ الجامع بينهما ناسك يكفيه حلق واحد ورمي واحد ، فكفاه طواف واحد وسعي واحد كالفرد . وذهب الحنفيّة والإمام أحمد في رواية أخرى لم تشتهر إلى أنّ عليه طوافين وسعيين ، وقد روي هذا القول عن عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما ، وبه قال الشّعبيّ وابن أبي ليلى مستدلّين بقوله تعالى : { وأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ للّه } وتمامهما أن يأتي بأفعالهما على الكمال بلا فرق بين القارن وغيره .
وبما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من جمع بين الحجّ والعمرة فعليه طوافان » ولأنّهما نسكان ، فكان لهما طوافان ، كما لو كانا منفردين . وأثر هذا الخلاف يظهر في القارن إذا قتل صيداً فإنّه يلزمه جزاء واحد عند القائلين بالتّداخل .
خامساً : تداخل الفدية :
14 - ذكر الحنفيّة والشّافعيّة أنّ الفدية تتداخل . وقد صرّح الحنفيّة بأنّ من قلّم أظافر يديه ورجليه في مجلس واحد ، وهو محرم ، فإنّ عليه دماً واحداً ، لأنّها من المحظورات ، لما فيه من قضاء التّفث ، وهي من نوع واحد ، فلا يزاد على دم واحد .
وإن كان قلّمها في مجالس ، فكذلك عند محمّد ، لأنّ مبناها على التّداخل ككفّارة الفطر . وعند أبي حنيفة وأبي يوسف يجب لكلّ يد دم ، ولكلّ رجل دم إذا تعدّد المجلس ، لأنّ الغالب في الفدية معنى العبادة فيتقيّد التّداخل باتّحاد المجلس كما في آية السّجدة ، ولأنّ هذه الأعضاء متباينة حقيقةً ، وإنّما جعلت الجناية - وهي تقليم الأظافر في مجلس واحد - جنايةً واحدةً في المعنى لاتّحاد المقصود وهو الرّفق .
وصرّح الشّافعيّة بمثل ذلك فيمن فعل شيئاً من مقدّمات الجماع ، وجامع بعده ، فقد ذكروا أنّ فدية المقدّمة تدخل في البدنة الواجبة جزاءً عن الجماع .
وقريب من ذلك ما ذكره الحنابلة فيمن حلق شعر رأسه وبدنه ، بأنّ عليه فديةً واحدةً في أصحّ الرّوايتين عن أحمد ، وهو الصّحيح من المذهب أيضاً ، لأنّ شعر الرّأس والبدن واحد ، وفي رواية أخرى عنه : إنّ لكلّ منهما حكماً منفرداً . وكذا لو لبس أو تطيّب في ثوبه وبدنه ففيه الرّوايتان والمنصوص عن أحمد أنّ عليه فديةً واحدةً .
وأمّا المالكيّة فإنّهم وإن لم يصرّحوا بتداخل الفدية ، إلاّ أنّهم أوردوا أربع صور تتّحد فيها الفدية وهي أن يظنّ الفاعل الإباحة :
أ - بأن يعتقد أنّه خرج من إحرامه فيفعل أموراً كلّ منها يوجب الفدية .
ب - أو يتعدّد موجبها من لبس وتطيّب وقلم أظفار وقتل دوابّ بفور .
ج - أو يتراخى ما بين الفعلين ، لكنّه عند الفعل الأوّل أو إرادته نوى تكرار الفعل الموجب لها .
د - أو يتراخى ما بين الفعلين ، إلاّ أنّه لم ينو التّكرار عند الفعل الأوّل منهما ، لكنّه قدّم ما نفعه أعمّ ، كتقديمه لبس الثّوب على لبس السّراويل .
وتفصيله في محظورات الحجّ من كتب الفقه .
سادساً : تداخل الكفّارات :
أ - تداخلها في إفساد صوم رمضان بالجماع :
15 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب كفّارة واحدة على من تكرّر منه الجماع في يوم واحد من أيّام رمضان ، لأنّ الفعل الثّاني لم يصادف صوماً ، وإنّما الخلاف بينهم فيمن تكرّر منه ذلك الفعل في يومين ، أو في رمضانين ، ولم يكفّر للأوّل ، فذهب محمّد من الحنفيّة ، والحنابلة في وجه ، والزّهريّ والأوزاعيّ إلى أنّه تكفيه كفّارة واحدة ، لأنّها جزاء عن جناية تكرّر سببها قبل استيفائها ، فتتداخل كالحدّ . وذهب الحنفيّة في ظاهر الرّواية الّذي اختاره بعضهم للفتوى وهو الصّحيح ، والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو أيضاً المذهب عند الحنابلة : إلى أنّ الكفّارة الواحدة لا تجزئه ، بل عليه كفّارتان ، لأنّ كلّ يوم عبادة منفردة ، فإذا وجبت الكفّارة بإفساده لم تتداخل كالعمرتين والحجّتين ، والتّفصيل في مصطلح : ( كفّارة ) .
ب - تداخل الكفّارات في الأيمان :
16 - لا خلاف في أنّ من حلف يميناً فحنث فيها وأدّى ما وجب عليه من الكفّارة ، أنّه لو حلف يميناً أخرى وحنث فيها تجب عليه كفّارة أخرى ، ولا تغني الكفّارة الأولى عن كفّارة الحنث في هذه اليمين الثّانية ، وإنّما الخلاف فيمن حلف أيماناً وحنث فيها . ثمّ أراد التّكفير ، هل تتداخل الكفّارات فتجزئه كفّارة واحدة ؟ أو لا تتداخل فيجب عليه لكلّ يمين كفّارة ؟ تتداخل الكفّارات على أحد القولين عند الحنفيّة ، وأحد الأقوال عند الحنابلة ، ولا تتداخل عند المالكيّة ولا الشّافعيّة ، وتفصيل ذلك في الكفّارات .
سابعاً : تداخل العدّتين :
17 - معنى التّداخل في العدد : أن تبتدئ المرأة عدّةً جديدةً وتندرج بقيّة العدّة الأولى في العدّة الثّانية ، والعدّتان إمّا أن تكونا من جنس واحد لرجل واحد أو رجلين ، وإمّا أن تكونا من جنسين كذلك أي لرجل واحد أو رجلين ، وعلى هذا فإنّ المرأة إذا لزمها عدّتان من جنس واحد ، وكانتا لرجل واحد ، فإنّهما تتداخلان عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة لاتّحادهما في الجنس والقصد . مثال ذلك : ما لو طلّق زوجته ثلاثاً ، ثمّ تزوّجها في العدّة ووطئها ، وقال : ظننت أنّها تحلّ لي . أو طلّقها بألفاظ الكناية ، فوطئها في العدّة ، فإنّ العدّتين تتداخلان ، فتعتدّ ثلاثة أقراء ابتداءً من الوطء الواقع في العدّة ، ويندرج ما بقي من العدّة الأولى في العدّة الثّانية . أمّا إذا كانتا لرجلين فإنّهما تتداخلان عند الحنفيّة ، لأنّ المقصود التّعرّف على فراغ الرّحم ، وقد حصل بالواحدة فتتداخلان .
ومثاله : المتوفّى عنها زوجها إذا وطئت بشبهة ، فهاتان عدّتان من رجلين ومن جنسين . ومثال العدّتين من جنس واحد ومن رجلين : المطلّقة إذا تزوّجت في عدّتها فوطئها الثّاني ، وفرّق بينهما ، تتداخلان وتعتدّ من بدء التّفريق ، ويندرج ما بقي من العدّة الأولى في العدّة الثّانية . وأمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فلا تتداخلان ، لأنّهما حقّان مقصودان لآدميّين ، فلم يتداخلا كالدّينين ، ولأنّ العدّة احتباس يستحقّه الرّجال على النّساء ، فلم يجز أن تكون المرأة المعتدّة في احتباس رجلين كاحتباس الزّوجة .
وأمّا إذا اختلفت العدّتان في الجنس ، وكانتا لرجلين ، فإنّهما تتداخلان أيضاً عند الحنفيّة ، لأنّ كلاً منهما أجل ، والآجال تتداخل .
ولا تداخل بينهما عند الشّافعيّة والحنابلة ، لأنّ كلاً منهما حقّ مقصود للآدميّ ، فعليها أن تعتدّ للأوّل لسبقه ، ثمّ تعتدّ للثّاني ، ولا تتقدّم عدّة الثّاني على عدّة الأوّل إلاّ بالحمل .
وإن كانتا من جنسين لشخص واحد تداخلتا أيضاً عند الحنفيّة ، وفي أصحّ الوجهين عند الشّافعيّة ، وفي أحد الوجهين عند الحنابلة ، لأنّهما لرجل واحد . ولا تداخل بينهما على مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة ، وعلى الوجه الثّاني عند الحنابلة لاختلافهما في الجنس .
وأمّا المالكيّة فقد لخصّ ابن جزيّ مذهبهم في تداخل العدد بقوله : فروع في تداخل العدّتين : الفرع الأوّل : من طلقت طلاقاً رجعيّاً ، ثمّ مات زوجها في العدّة انتقلت إلى عدّة الوفاة ، لأنّ الموت يهدم عدّة الرّجعيّ بخلاف البائن .
الفرع الثّاني : إن طلّقها رجعيّاً ثمّ ارتجعها في العدّة ، ثمّ طلّقها ، استأنفت العدّة من الطّلاق الثّاني ، سواء كان قد وطئها أم لا ، لأنّ الرّجعة تهدم العدّة ، ولو طلّقها ثانيةً في العدّة من غير رجعة بَنَتْ اتّفاقاً ، ولو طلّقها طلقةً ثانيةً ثمّ راجعها في العدّة أو بعدها ، ثمّ طلّقها قبل المسيس بَنَتْ على عدّتها الأولى ، ولو طلّقها بعد الدّخول استأنفت من الطّلاق الثّاني .
الفرع الثّالث : إذا تزوّجت في عدّتها من الطّلاق ، فدخل بها الثّاني ، ثمّ فرّق بينهما ، اعتدّت بقيّة عدّتها من الأوّل ، ثمّ اعتدّت من الثّاني ، وقيل : تعتدّ من الثّاني وتجزيها عنهما ، وإن كانت حاملاً فالوضع يجزي عن العدّتين اتّفاقاً . والتّفصيل في مصطلح : ( عدّة ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ثامناً : تداخل الجنايات على النّفس والأطراف :
18 - ذكر الحنفيّة أنّ الجنايات على النّفس والأطراف إذا تعدّدت ، كما لو قطع عضواً من أعضائه ، ثمّ قتله ، فإنّها لا تتداخل إلاّ في حالة اجتماع جنايتين على واحد ، ولم يتخلّلهما برء ، وصورها ستّ عشرة ، كما ذكر ابن نجيم في الأشباه ، لأنّه إذا قطع ثمّ قتل ، فإمّا أن يكونا عمدين أو خطأين ، أو أحدهما عمداً والآخر خطأً ، وكلّ من الأربعة إمّا على واحد أو اثنين ، وكلّ من الثّمانية . إمّا أن يكون الثّاني قبل البرء أو بعده .
وذكر المالكيّة أنّ الجناية على الطّرف تندرج في الجناية على النّفس ، أي في القصاص ، إن تعمّدها الجاني ، سواء أكان الطّرف للمقتول أم لغيره بأن قطع يد شخص عمداً ، وفقأ عين آخر عمداً ، فيقتل فقط ولا يقطع شيء من أطرافه ولا تفقأ عينه ، إن لم يقصد الجاني بجنايته على الطّرف مثلةً - أي تمثيلاً وتشويهاً - فإن قصدها فلا يندرج الطّرف في القتل ، فيقتصّ من الطّرف ، ثمّ يقتل .
أمّا إذا لم يتعمّد الجاني الجناية على الطّرف ، فإنّها لا تندرج في الجناية على النّفس ، كما لو قطع يد شخص خطأً ، ثمّ قتله عمداً عدواناً ، فإنّه يقتل به ، ودية اليد على عاقلته .
وذكر الشّافعيّة أنّ الجناية على النّفس والأطراف إذا اتّفقتا في العمد أو الخطأ ، وكانت الجناية على النّفس بعد اندمال الجناية على الطّرف وجبت دية الطّرف بلا خلاف . أمّا إذا كانت الجناية على النّفس قبل اندمال الجناية على الطّرف فوجهان ، أصحّهما : دخول الجناية على الطّرف في الجناية على النّفس ، بحيث لا يجب إلاّ ما يجب في النّفس كالسّراية . وثانيهما : عدم التّداخل بين الجنايتين ، خرّجه ابن سريج ، وبه قال الإصطخريّ ، واختاره إمام الحرمين . أمّا إذا كانت إحداهما عمداً والأخرى خطأً ، وقلنا بالتّداخل عند الاتّفاق ، فهنا وجهان : أحدهما التّداخل أيضاً . وأصحّهما : لا ، لاختلافهما .
والحنابلة يقولون : التّداخل في القصاص في إحدى الرّوايتين عن أحمد فيما لو جرح رجل رجلاً ، ثمّ قتله قبل اندمال جرحه ، واختار الوليّ القصاص ، فعلى هذه الرّواية ليس للوليّ إلاّ ضرب عنقه بالسّيف . لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا قَوَدَ إلاّ بالسّيفِ » ، وليس له جرحه أو قطع طرفه ، لأنّ القصاص أحد بدلي النّفس ، فدخل الطّرف في حكم الجملة كالدّية. والرّواية الثّانية : أنّ للوليّ أن يفعل بالجاني مثلما فعل ، لقوله تعالى : { وإنْ عَاقَبْتُم فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُم به } . أمّا إذا عفا الوليّ عن القصاص ، أو صار الأمر إلى الدّية لكون الفعل خطأً أو شبه عمد ، فالواجب حينئذ دية واحدة ، لأنّه قتل قبل استقرار الجرح ، فدخل أرش الجراحة في أرش النّفس والتّفصيل في مصطلح : ( جناية ) .
تاسعاً : تداخل الدّيات :
19 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الدّيات قد تتداخل ، فيدخل الأدنى منها في الأعلى ، ومن ذلك دخول دية الأعضاء والمنافع في دية النّفس ، ودخول أرش الموضحة المذهبة للعقل في دية العقل ، ودخول حكومة الثّدي في دية الحلمة إلى غير ذلك من الفروع .
والتّفصيل في مصطلح : ( دية ) .
عاشراً : تداخل الحدود :
20 - اتّفق الفقهاء على أنّ الحدود - كحدّ الزّنى والسّرقة والشّرب - إذا اتّفقت في الجنس والموجب أي الحدّ فإنّها تتداخل ، فمن زنى مراراً ، أو سرق مراراً ، أو شرب مراراً ، أقيم عليه حدّ واحد للزّنى المتكرّر ، وآخر للسّرقة المتكرّرة . وآخر للشّرب المتكرّر ، لأنّ ما تكرّر من هذه الأفعال هو من جنس ما سبقه ، فدخل تحته . ومثل ذلك حدّ القذف إذا قذف شخصاً واحداً مراراً ، أو قذف جماعةً بكلمة واحدة ، فإنّه يكتفي فيه بحدّ واحد اتّفاقاً ، بخلاف ما لو قذف جماعةً بكلمات ، أو خصّ كلّ واحد منهم بقذف .
واتّفق الفقهاء أيضاً على أنّ من زنى أو سرق أو شرب ، فأقيم عليه الحدّ ، ثمّ صدر منه أحد هذه الأفعال مرّةً أخرى ، فإنّه يحدّ ثانياً ، ولا يدخل تحت الفعل الّذي سبقه ، واتّفقوا أيضاً على عدم التّداخل بين هذه الأفعال عند اختلافها في الجنس والقدر الواجب فيها ، فمن زنى وسرق وشرب حدّ لكلّ فعل من هذه الأفعال ، لاختلافها في الجنس والقدر الواجب فيها ، فلا تتداخل . أمّا إذا اتّحدت في القدر الواجب واختلفت في الجنس ، كالقذف والشّرب مثلاً ، فلا تداخل بينها عند غير المالكيّة ، وأمّا عند المالكيّة فتتداخل ، لاتّفاقها في القدر الواجب فيها ، وهو الحدّ ، فإنّ الواجب في القذف ثمانون جلدةً وفي الشّرب أيضاً مثله ، فإذا أقيم عليه أحدهما سقط عنه الآخر . ولو لم يقصد عند إقامة الحدّ إلاّ واحداً فقط ، ثمّ ثبت أنّه شرب أو قذف ، فإنّه يكتفي بما ضرب له عمّا ثبت .
ومثل ذلك عندهم - أي المالكيّة - ما لو سرق وقطع يمين آخر ، فإنّه يكتفي فيه بحدّ واحد . وهذا كلّه إذا لم يكن في تلك الحدود القتل ، فإن كان فيها القتل ، فإنّه يكتفي به عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، لقول ابن مسعود : ما كانت حدود فيها قتل إلاّ أحاط القتل بذلك كلّه ، ولأنّ المقصود الزّجر وقد حصل . واستثنى المالكيّة من ذلك حدّ القذف ، فقد ذكروا أنّه لا يدخل في القتل ، بل لا بدّ من استيفائه قبله .
وأمّا الشّافعيّة فإنّهم لا يكتفون بالقتل ، ولم يقولوا بالتّداخل في هذه المسألة ، بل يقدّمون الأخفّ ثمّ الأخفّ ، فمن سرق وزنى وهو بكر ، وشرب ولزمه قتل بردّة ، أقيمت عليه الحدود الواجبة فيها بتقديم الأخفّ ثمّ الأخفّ .
الحادي عشر : تداخل الجزية :
21 - ذهب أبو حنيفة إلى أنّ الجزية تتداخل كما إذا اجتمع على الذّمّيّ جزية عامين ، فلا يؤخذ منه إلاّ جزية عام واحد ، لأنّ الجزية وجبت عقوبةً للّه تعالى تؤخذ من الذّمّيّ على وجه الإذلال . والعقوبات الواجبة للّه تعالى إذا اجتمعت ، وكانت من جنس واحد ، تداخلت كالحدود ، ولأنّها وجبت بدلاً عن القتل في حقّهم وعن النّصرة في حقّنا ، لكن في المستقبل لا في الماضي ، لأنّ القتل إنّما يستوفى لحراب قائم في الحال ، لا لحراب ماض ، وكذا النّصرة في المستقبل لأنّ الماضي وقعت الغُنْية عنه .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد إلى أنّها لا تتداخل ، ولا تسقط بمضيّ المدّة ، لأنّ مضيّ المدّة لا تأثير له في إسقاط الواجب كالدّيون .
وأمّا خراج الأرض فقيل على هذا الخلاف ، وقيل لا تداخل فيه بالاتّفاق .
وأمّا المالكيّة فإنّهم لم يصرّحوا بتداخل الجزية ، ولكن يفهم التّداخل من قول أبي الوليد ابن رشد : ومن اجتمعت عليه جزية سنين ، فإن كان ذلك لفراره بها أخذت منه لما مضى ، وإن كان لعسره لم تؤخذ منه ، ولا يطالب بها بعد غناه . والتّفصيل في مصطلح : ( جزية ) .
الثّاني عشر : تداخل العددين في حساب المواريث :
22 - العددان في حساب المواريث إمّا أن يكونا متماثلين ، وإمّا أن يكونا مختلفين .
وفي حال اختلافهما إمّا أن يفنى الأكثر بالأقلّ ، وإمّا أن يفنيهما عدد ثالث ، وإمّا أن لا يفنيهما إلاّ واحد ليس بعدد ، بل هو مبدؤه ، فهذه أربعة أقسام .
وقد وقع التّداخل في القسم الثّاني منها ، وهو ما إذا اختلفا وفني الأكثر بالأقلّ عند إسقاطه من الأكثر مرّتين فأكثر منهما ، فيقال حينئذ : إنّهما متداخلان ، كثلاثة مع ستّة أو تسعة أو خمسة عشر ، فإنّ السّتّة تفنى بإسقاط الثّلاثة مرّتين ، والتّسعة بإسقاطها ثلاث مرّات ، والخمسة عشر بإسقاطها خمس مرّات ، لأنّها خمسها ، وسمّيا متداخلين لدخول الأقلّ في الأكثر . وحكم الأعداد المتداخلة : أنّه يكتفى فيها بالأكبر ويجعل أصل المسألة .
أمّا في الأقسام الأخرى ، وهي الأوّل والثّالث والرّابع ، فلا تداخل بين العددين فيها ، لأنّ العددين إن كانا متماثلين - كما في القسم الأوّل - فإنّه يكتفى بأحدهما ، فيجعل أصلاً للمسألة كالثّلاثة والثّلاثة مخرجي الثّلث والثّلثين ، لأنّ حقيقة المتماثلين إذا سلّط أحدهما على الآخر أفناه مرّةً واحدةً . وإن كانا مختلفين ، ولا يفنيهما إلاّ عدد ثالث - وهو القسم الثّالث - فهما متوافقان ، ولا تداخل بينهما أيضاً ، لأنّ الإفناء حصل بغيرهما ، كأربعة وستّة بينهما موافقة بالنّصف ، لأنّك إذا سلّطت الأربعة على السّتّة يبقى منهما اثنان ، سلّطهما على الأربعة مرّتين تفنى بهما ، فقد حصل الإفناء باثنين وهو عدد غير الأربعة والسّتّة ، فهما متوافقان بجزء الاثنين وهو النّصف .
وحكم المتوافقين : أن تضرب وفق أحدهما في كامل الآخر ، والحاصل أصل المسألة .
وإن كانا مختلفين لا يفنى أكثرهما بأقلّهما ولا بعدد ثالث ، بأن لم يفنهما إلاّ الواحد كما في القسم الرّابع فهما متباينان ، ولا تداخل بينهما أيضاً كثلاثة وأربعة ، لأنّك إذا أسقطت الثّلاثة من الأربعة يبقى واحد ، فإذا سلّطته على الثّلاثة فنيت به . وحكم المتباينين أنّك تضرب أحد العددين في الآخر . والتّفصيل في باب حساب الفرائض ، وينظر مصطلح : ( إرث ) .

تدارك *
التّعريف :
1 - التّدارك : مصدر تدارك ، وثلاثيّه : درك ، ومصدره الدّرك بمعنى : اللّحاق والبلوغ . ومنه الاستدراك وللاستدراك في اللّغة استعمالان :
الأوّل : أن يتستدرك الشّيء بالشّيء .
الثّاني : أن يتلافى ما فرّط في الرّأي أو الأمر من الخطأ أو النّقص .
وللاستدراك في الاصطلاح معنيان أيضاً :
الأوّل ، للأصوليّين والنّحويّين : وهو رفع ما يتوهّم ثبوته ، أو إثبات ما يتوهّم نفيه .
والثّاني : يرد في كلام الفقهاء : وهو إصلاح ما حصل في القول أو العمل من خلل أو قصور أو فوات . وقد ورد في كلام الفقهاء التّعبير بالتّدارك في موضع الاستدراك ، الّذي هو بمعنى فعل الشّيء المتروك بعد محلّه ، سواء أترك سهواً أم عمداً ، ومن ذلك قول الرّمليّ : إذا سلّم الإمام من صلاة الجنازة ، تدارك المسبوق باقي التّكبيرات بأذكارها .
وقوله : لو نسي تكبيرات صلاة العيد فتذكّرها قبل ركوعه ، أو تعمّد تركها بالأولى - وشرع في القراءة وإن لم يتمّ فاتحته - فاتت في الجديد فلا يتداركها .
ومن ذلك أيضاً ما ذكره البهوتيّ ، من أنّه لو دفن الميّت قبل الغسل ، وقد أمكن غسله ، لزم نبشه ، وأن يخرج ويغسّل ، تداركاً لواجب غسله .
وعلى هذا يمكن تعريف التّدارك في الاصطلاح الفقهيّ بأنّه : فعل العبادة ، أو فعل جزئها إذا ترك المكلّف فعل ذلك في محلّه المقرّر شرعاً ما لم يفت .
وبالتّتبّع وجدنا الفقهاء لا يطلقون التّدارك إلاّ على ما كان استدراكاً في العبادة .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - منها القضاء والإعادة والاستدراك ، وكذلك الإصلاح في اصطلاح المالكيّة وقد سبق بيان معانيها ، والتّفريق بينها وبين التّدارك في مصطلح ( استدراك ) .
الحكم التّكليفيّ :
3 - الأصل أنّ تدارك ركن العبادة المفروضة فرض ، وذلك إن فات الرّكن لعذر - كنسيان أو جهل - مع القدرة عليه ، أو فعل على وجه غير مجزئ .
ولا يحصل الثّواب المرتّب على الرّكن مع تركه ، لعدم الامتثال .
ولا تصحّ العبادة إلاّ بالتّدارك . فإن لم يتدارك الرّكن في الوقت الّذي يمكن تداركه فيه فسدت العبادة ، ووجب الاستدراك باستئناف العبادة أو قضائها ، بحسب اختلاف الأحوال . وأمّا تدارك الواجبات والسّنن ففيه تفصيل . ويتّضح ذلك من الأمثلة المختلفة ،وبها يتبيّن الحكم .
التّدارك في الوضوء :
أ - التّدارك في أركان الوضوء :
4 - أركان الوضوء يتحتّم الإتيان بها ، فإن ترك غسل عضو من الثّلاثة أو جزءاً منه ، أو ترك مسح الرّأس ، فإنّه لا بدّ من تداركه ، بالإتيان بالفائت من غسل أو مسح ثمّ الإتيان بما بعده ، فمن نسي غسل اليدين ، وتذكّره بعد غسل الرّجلين ، لم يصحّ وضوءه حتّى يعيد غسل اليدين ويمسح برأسه ويغسل رجليه .
وهذا على قول من يجعل التّرتيب فرضاً في الوضوء ، وهم الشّافعيّة ، وعلى القول المقدّم عند الحنابلة . أمّا من أجازوا الوضوء دون ترتيب ، وهم الحنفيّة والمالكيّة ، فيجزئ عندهم التّدارك بغسل المتروك وحده . وإعادة ما بعده مستحبّ ، وليس واجباً .
ولو ترك غسل اليمنى من اليدين أو الرّجلين ، وتذكّره بعد غسل اليسرى ، أجزأه غسل اليمنى فقط ، ولا يلزمه غسل اليسرى اتّفاقاً ، لأنّهما بمنزلة عضو واحد .
وإنّما يجزئ التّدارك بالإتيان بالفائت وما بعده ، أو بالفائت وحده - على القولين المذكورين - إن لم تفت الموالاة عند من أوجبها ، فإن طال الفصل ، وفاتت الموالاة ، فلا بدّ من إعادة الوضوء كلّه . أمّا من لم يوجب الموالاة - وذلك مذهب الحنفيّة والشّافعيّة - فإنّه يجزئ عندهم التّدارك بغسل الفائت وحده . وفي المسألة تفصيلات يرجع إليها في ( وضوء ) .
ب - التّدارك في واجبات الوضوء :
5 - ليس للوضوء ولا للغسل واجبات عند بعض الفقهاء .
ومن واجبات الوضوء عند الحنابلة مثلاً التّسمية في أوّله - وليست ركناً في الوضوء عندهم - قالوا : وتسقط لو تركها سهواً . وإن ذكرها في أثناء الوضوء سمّى وبنى ، أي فلا يلزمه الاستئناف . قالوا : لأنّه لمّا عفي عنها مع السّهو في جملة الطّهارة ، ففي بعضها أولى . وهو المذهب خلافاً لما صحّحه في الإنصاف .
ج - التّدارك في سنن الوضوء :
6 - أمّا سنن الوضوء فقد صرّح المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بعدم مشروعيّة تداركها إذا فات محلّها . فيرى المالكيّة أنّ سنّة الوضوء يطالب بإعادتها لو نكّسها سهواً أو عمداً ، طال الوقت أو قصر . أمّا لو تركها بالكلّيّة عمداً أو سهواً - وذلك منحصر عندهم في المضمضة والاستنشاق ومسح الأذنين - قال الدّردير : يفعلها استناناً دون ما بعدها طال التّرك أو لا . وإنّما لم تجب إعادة ما بعده لندب ترتيب السّنن في نفسها ، أو مع الفرائض .
والمندوب - كما قال الدّسوقيّ - إذا فات لا يؤمر بفعله لعدم التّشديد فيه ، وإنّما يتداركها لما يستقبل من الصّلوات ، لا إن أراد مجرّد البقاء على طهارة ، إلاّ أن يكون بالقرب ، أي بحضرة الماء وقبل فراغه من الوضوء .
وكذلك عند الشّافعيّة : لو قدّم مؤخّراً ، كأن استنشق قبل المضمضة - وهما عندهم سنّتان - قال الرّمليّ : يحتسب ما بدأ به ، وفات ما كان محلّه قبله على الأصحّ في الرّوضة ، خلافاً لما في المجموع ، أي فلا يتداركه بعد ذلك ، وهذا قولهم في سنن الوضوء بصفة عامّة ، فيحسب منها ما أوقعه أوّلاً ، فكأنّه ترك غيره ، فلا يعتدّ بفعله بعد ذلك .
لكن في التّسمية في أوّل الوضوء - وهي سنّة عندهم - قالوا : إن تركها عمداً أو سهواً - أو في أوّل طعام أو شراب كذلك - يأتي بها في أثنائه تداركاً لما فاته ، فيقول : بسم اللّه أوّله وآخره ، ولا يأتي بها بعد فراغه من الوضوء ، بخلاف الأكل ، فإنّه يأتي بها بعده . وشبيه بهذا ما عند الحنفيّة . حيث قالوا : لو نسيها ، فسمّى في خلال الوضوء لا تحصل السّنّة ، بل المندوب ، فيأتي بها لئلاّ يخلو وضوءه منها . وأمّا في الطّعام فتحصل السّنّة في باقيه . وهل تكون التّسمية أثناءه استدراكاً لما فات ، فتحصل فيه ، أم لا تحصل ؟ .
قال شارح المنية : الأولى أنّها استدراك ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا أكل أحدكم فلْيذكر اسم اللّه تعالى ، فإن نسي أن يذكرَ اسمَ اللّه في أوّله فليقل : بسم اللّه أوّله وآخره » .وقال ابن عابدين : إذا قال في الوضوء بسم اللّه أوّله وآخره ، حصل استدراك السّنّة أيضاً، بدلالة النّصّ .
7- أمّا المضمضة والاستنشاق في الوضوء عند الحنابلة ففعلهما فرض ، لأنّ الفم والأنف من أجزاء الوجه ، وليسا من سنن الوضوء ، ولذا فلا يجب التّرتيب فيما بينهما .
ويجب أن يتدارك المضمضة بعد الاستنشاق ، أو بعد غسل الوجه ، وحتّى بعد غسل سائر الأعضاء ، إلاّ أنّه إن تذكّرهما بعد غسل اليدين تداركهما وغسل ما بعدهما كما تقدّم .
التّدارك في الغسل :
8 - التّرتيب والموالاة في الغسل غير واجبين عند جمهور الفقهاء .
وقال اللّيث : لا بدّ من الموالاة . واختلف فيه عن الإمام مالك ، والمقدّم عند أصحابه : وجوب الموالاة ، وفيه وجه لأصحاب الإمام الشّافعيّ . فعلى قول الجمهور : إذا توضّأ مع الغسل لم يلزم التّرتيب بين أعضاء الوضوء . من أجل ذلك فإنّه لو ترك غسل عضو أو لمعة من عضو ، سواء أكان في أعضاء الوضوء أم في غيرها ، تدارك المتروك وحده بعد ، طال الوقت أو قصر ، ولو غسل بدنه إلاّ أعضاء الوضوء تداركها ، ولم يجب التّرتيب بينها . ومن أجل ذلك قال الشّافعيّة : لو ترك الوضوء في الغسل ، أو المضمضة أو الاستنشاق كره له ، ويستحبّ له أن يأتي به ولو طال الفصل دون إعادة للغسل .
ويجب تداركهما عند الحنفيّة والحنابلة ، إذ هما واجبان في الغسل عندهم ، بخلافهما في الوضوء ، فهما فيه سنّة عند الحنفيّة ، وليسا بواجبين .
تدارك غسل الميّت :
9 - عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لو دفن الميّت دون غسل ، وقد أمكن غسله ، لزم نبشه وأن يخرج ويغسّل ، تداركاً لواجب غسله . أي ما لم يخش تغيّره ، كما صرّح به المالكيّة والشّافعيّة . وكذلك تكفينه والصّلاة عليه يجب تداركهما بنبشه . قال الدّردير : وتدورك ندباً بالحضرة - وهي ما قبل تسوية التّراب عليه - ومثال المخالفة الّتي تتدارك : تنكيس رجليه موضع رأسه ، أو وضعه غير مستقبل القبلة ، أو على ظهره ، وكترك الغسل ، أو الصّلاة عليه ، ودفن من أسلم بمقبرة الكفّار ، فيتدارك إن لم يخف عليه التّغيّر .
أمّا عند الحنفيّة : فلا ينبش الميّت إذا أهيل عليه التّراب لحقّ اللّه تعالى ، كما لو دفن دون غسل أو صلاة ، ويصلّى على قبره دون غسل .
التّدارك في الصّلاة :
10 - إذا ترك المصلّي شيئاً من صلاته ، أو فعله على وجه غير مجزئ ، فإنّ في مشروعيّة تداركه تفصيلاً :
أ - تدارك الأركان :
11 - إن كان المتروك ركناً ، وكان تركه عمداً ، بطلت صلاته حالاً لتلاعبه . وإن تركه سهواً أو شكّ في تركه وجب تداركه بفعله ، وإلاّ لم تصحّ الرّكعة الّتي ترك ركناً منها ، فإنّ الرّكن لا يسقط عمداً ولا سهواً ولا جهلاً ولا غلطاً ، ويعيد ما بعد المتروك لوجوب التّرتيب . وفي كيفيّة تداركه اختلاف وتفصيل بين أصحاب المذاهب يرجع إليه في ( أركان الصّلاة وسجود السّهو ) . وقد يشرع سجود السّهو مع تداركه ، على ما في سجود السّهو من الخلاف ، في كونه واجباً أو مستحبّاً على ما هو مفصّل في سجود السّهو .
ب - تدارك الواجبات :
12 - ليس عند المالكيّة والشّافعيّة واجبات للصّلاة غير الأركان .
وعند الحنفيّة واجبات الصّلاة لا تفسد الصّلاة بتركها ، بل يجب سجود السّهو إن كان تركه سهواً ، وتجب إعادتها إن كان عمداً مع الحكم بإجزاء الأولى .
أمّا عند الحنابلة : فواجبات الصّلاة - كالتّشهّد الأوّل ، والتّكبير للانتقال ، وتسبيح الرّكوع والسّجود - فإن ترك شيئاً من ذلك عمداً بطلت صلاته . وإن تركه سهواً ثمّ تذكّره ، فإنّه يجب تداركه ما لم يفت محلّه ، بانتقاله بعده إلى ركن مقصود ، إذ لا يعود بعده لواجب . فيرجع إلى تسبيح ركوع قبل اعتدال لا بعده ، ويرجع إلى التّشهّد الأوّل ما لم يشرع في قراءة الرّكعة الثّالثة . ثمّ إن فات محلّ الواجب - كما لو شرع في القراءة من ترك التّشهّد الأوّل - لم يجز الرّجوع إليه . وفي كلا الحالين يجب سجود السّهو .
ت - تدارك سنن الصّلاة :
13 - السّنن لا تبطل الصّلاة بتركها ولو عمداً ، ولا تجب الإعادة ، وإنّما حكم تركها : كراهة التّنزيه ، كما صرّح به الحنفيّة .
وعند المالكيّة : إن نسي سنّةً من سنن الصّلاة يستدركها ما لم يفت محلّها ، فلو ترك التّشهّد الأوسط ، وتذكّر قبل مفارقته الأرض بيديه وركبتيه ، يرجع للإتيان به ، وإلاّ فقد فات .
وأمّا السّجود للسّهو بترك سنّة ، فعندهم في ذلك تفصيلات يرجع إليها في( سجود السّهو ). والسّنن عند الشّافعيّة نوعان : نوع هو أبعاض يشرع سجود السّهو لتركها عمداً أو سهواً ، كالقنوت ، وقيامه ، والتّشهّد الأوّل ، وقعوده ،والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه. ونوع لا يشرع السّجود لتركه ، كأذكار الرّكوع والسّجود ، فإن سجد لشيء منها عامداً بطلت صلاته ، لأنّه زاد على الصّلاة من جنس أفعالها ما ليس منها ، إلاّ أن يعذر بجهله .
وعلى كلّ حال فلا يتدارك شيء من ذلك عندهم إذا فات محلّه ، كالاستفتاح إذا شرع في القراءة . وكذا عند الحنابلة لا تتدارك السّنن إذا فات محلّها ، كما إذا ترك الاستفتاح حتّى تعوّذ ، أو ترك التّعوّذ حتّى بسمل ، أو ترك البسملة حتّى شرع في القراءة ، أو ترك التّأمين حتّى شرع في السّورة . لكن إن لم يكن استعاذ في الأولى عمداً أو نسياناً يستعيذ في الرّكعة الثّانية . وليس ذلك من باب تدارك التّعوّذ الفائت ، ولكن إنّما يستعيذ للقراءة الثّانية .
وكما لا تتدارك السّنن إذا فات محلّها ، فكذلك لا يشرع السّجود لترك شيء منها سهواً أو عمداً ، قوليّةً كانت أو فعليّةً ، وإن سجد لذلك فلا بأس .
ث - تدارك المسبوق ما فاته من الصّلاة مع الجماعة :
14 - من جاء متأخّراً عن تكبيرة الإحرام ، فدخل مع الإمام ، لا يتدارك ما فاته من الرّكعة معه إن أدركه قبل الرّفع من الرّكوع ، فإن أدركه في الرّفع من الرّكوع أو بعد ذلك فاتته الرّكعة ووجب عليه تداركها .
وفي ذلك تفصيل وأحكام مختلفة تنظر في صلاة الجماعة ( صلاة المسبوق ) .
ج - تدارك سجود السّهو :
15 - لو نسي من سها في صلاته ، ثمّ انصرف من غير أن يسجد للسّهو حتّى سلّم ، ثمّ تذكّره عن قرب ، يتداركه . وفي ذلك خلاف وتفصيل ينظر في باب ( سجود السّهو ) .
ح - تدارك النّاسي للتّكبير في صلاة العيد :
16 - إذا نسي تكبيرات صلاة العيد حتّى شرع في القراءة ، فاتت فلا يتداركها في الرّكعة نفسها ، لأنّها سنّة فات محلّها ، كما لو نسي الاستفتاح أو التّعوّذ ، وهذا قول الشّافعيّة والحنابلة . ولأنّه إن أتى بالتّكبيرات ثمّ عاد إلى القراءة ، فقد ألغى القراءة الأولى ، وهي فرض يصحّ أن يعتدّ به ، وإن لم يعد إلى القراءة فقد حصلت التّكبيرات في غير محلّها .
لكن عند الشّافعيّة - كما قال الشبراملسي - يسنّ إذا نسي تكبيرات الرّكعة الأولى أن يتداركها في الرّكعة الثّانية مع تكبيراتها ، كما في قراءة سورة ( الجمعة ) في الرّكعة الأولى من صلاة الجمعة ، فإنّه إذا تركها فيها سنّ له أن يقرأها مع سورة ( المنافقون ) في الرّكعة الثّانية . وعند الحنفيّة : يتدارك التّكبيرات إذا نسيها ، سواء أذكرها أثناء القراءة أم بعد القراءة أثناء الرّكوع . فإن نسيها حتّى رفع رأسه من الرّكوع فاتت فلا يكبّر .
غير أنّه إن ذكر أثناء قراءة الفاتحة وبعدها ، قبل أن يضمّ إليها السّورة ، يعيد بعد التّكبير قراءة الفاتحة وجوباً ، وإن ذكر بعد ضمّ السّورة كبّر ولم يعد القراءة ، لأنّ القراءة تمّت فلا يحتمل النّقض . وقول المالكيّة في هذه المسألة قريب من قول الحنفيّة ، فإنّهم يقولون : إنّ ناسي التّكبير كلّاً أو بعضاً يكبّر حيث تذكّر في أثناء القراءة أو بعدها ما لم يركع . ويعيد القراءة استحباباً ، ويسجد للسّهو ، لأنّ القراءة الأولى وقعت في غير محلّها . فإن ركع قبل أن يتذكّر التّكبير تمادى لفوات محلّ التّدارك ، ولا يرجع للتّكبير ، فإن رجع فالظّاهر البطلان.
خ - تدارك المسبوق تكبيرات صلاة العيد :
17 - عند الحنفيّة يتدارك المسبوق ما فاته من تكبيرات صلاة العيد ، فيكبّر للافتتاح قائماً ، فإن أمكنه أن يأتي بالتّكبيرات ويدرك الرّكوع فعل ، وإن لم يمكنه ركع ، واشتغل بالتّكبيرات وهو راكع عند أبي حنيفة ومحمّد ، خلافاً لأبي يوسف ، وإن رفع الإمام رأسه سقط عنه ما بقي من التّكبير ، وإن أدركه بعد رفع رأسه قائماً لا يأتي بالتّكبير ، لأنّه يقضي الرّكعة مع تكبيراتها . وعند المالكيّة : يتداركها إن أدرك القراءة مع الإمام ، لا إذا أدركه راكعاً . ثمّ إن أدركه في أثناء التّكبيرات يتابع الإمام فيما أدركه معه ، ثمّ يأتي بما فاته .
ولا يكبّر ما فاته خلال تكبير الإمام . وإن أدركه في القراءة كبّر أثناء قراءة الإمام .
وعند الشّافعيّة في الجديد ، والحنابلة : إن حضر المأموم ، وقد سبقه الإمام بالتّكبيرات أو ببعضها ، لم يتدارك شيئاً ممّا فاته ، لأنّه ذكر مسنون فات محلّه .
وفي القديم عند الشّافعيّة يقضي ،لأنّ محلّه القيام وقد أدركه . قال الشّيرازيّ : وليس بشيء.
التّدارك في الحجّ :
أ - التّدارك في الإحرام :
18 - إن تجاوز الّذي يريد الحجّ الميقات دون أن يحرم ، فعليه دم إن أحرم من مكانه .
لكن إن تدارك ما فاته بالرّجوع إلى الميقات والإحرام منه فلا دم عليه .
وهذا باتّفاق إن رجع قبل أن يحرم ، أمّا إن أحرم من مكانه دون الميقات ، ثمّ رجع إليه ، فقد قيل : يستقرّ الدّم عليه ولا ينفعه التّدارك . وقيل : ينفعه .
وفي ذلك تفصيل وخلاف يرجع إليه في مصطلح ( إحرام ) .
ب - التّدارك في الطّواف :
19 - إن ترك جزءاً من الطّواف المشروع ، كما لو طاف داخل الحِجْر بعض طوافه ، لم يصحّ حتّى يأتي بما تركه ، قال الحنابلة وبعض الشّافعيّة : في وقت قريب ، لاشتراط الموالاة بين الطّوافات .
ولم يشترط البعض الموالاة ، وممّن قال ذلك : سائر الشّافعيّة ، بل هو عندهم مستحبّ . ونصّ الشّافعيّة على أنّه إن شكّ في شيء من شروط حجّه يجب التّدارك ما لم يتحلّل ، ولا يؤثّر الشّكّ بعد الفراغ .
وعند الحنفيّة غير ابن الهمام : الفرض في الطّواف أكثره - وهو أربع طوفات - وما زاد واجب ، أمّا عند ابن الهمام فالسّبع كلّها فرض ، كقول جمهور الفقهاء . وعلى قول جمهور الحنفيّة إن ترك ثلاث طوفات من طواف الزّيارة أو أقلّ صحّ طوافه لفرضه ، وعليه دم لما نقص من الواجب . لكن إن تدارك فطاف الأشواط الباقية صحّ وسقط عنه الدّم ، ولو كان طوافه بعد فترة ، بشرط أن يكون إيقاع الطّوفات المتمّمة قبل آخر أيّام التّشريق .
وإن ترك الحاجّ طواف القدوم ، أو تبيّن أنّه طاف للقدوم على غير طهارة ، فلا يلزمه التّدارك عند الجمهور ، لأنّه مستحبّ غير واجب بالنّسبة للمفرد ، قال الشّافعيّة : وفي فواته بالتّأخير - أي عن قدوم مكّة - وجهان ، أصحّهما : لا يفوت إلاّ بالوقوف بعرفة ، وإذا فات فلا يقضى . على أنّه ينبغي ملاحظة أنّ من ترك طواف القدوم ، أو طافه ولم يصحّ له ، كأن طافه محدثاً ولم يتداركه ، فعليه إعادة السّعي عند كلّ من شرط لصحّة السّعي أن يتقدّمه الطّواف ، وقد صرّح بذلك المالكيّة ( ر : سعي ) .
وقال الحنفيّة : إن طاف للقدوم ، أو تطوّعاً على غير طهارة ، فعليه دم إن كان جنباً ، لوجوب الطّواف بالشّروع فيه ، وإن كان محدثاً فعليه صدقة لا غير . ويمكنه التّدارك بإعادة الطّواف ، فيسقط عنه الدّم أو الصّدقة . والحكم عند الحنفيّة كذلك في طواف الوداع . أمّا الرّمل والاضطباع في الطّواف فهما سنّتان في حقّ الرّجال ، في الأشواط الثّلاثة الأولى من طواف القدوم خاصّةً ، فلو تركهما فلا شيء عليه ، ولا يشرع له تداركهما ، ومثلهما ترك الرّمل بين الميلين ( الأخضرين ) في السّعي بين الصّفا والمروة . وهذا مذهب الحنابلة ، وهو الأصحّ أو الأظهر عند الشّافعيّة ، وهو ظاهر كلام الحنفيّة ، قال ابن الهمام : إن ترك الرّمل في أشواط الطّواف الأولى لا يرمل بعد ذلك . وقال المالكيّة ، وهو قول خلاف الأظهر عند الشّافعيّة ، وقول القاضي من الحنابلة : أنّه يقضي الاضطباع في طواف الإفاضة .
ت - التّدارك في السّعي :
20 - الحاجّ المفرد إن لم يسع بعد طواف القدوم وجب عليه تدارك السّعي ، فيسعى بعد طواف الإفاضة ولا بدّ ، وإلاّ لم يصحّ حجّه عند الجمهور ، لأنّ السّعي عندهم ركن .
وهو عند الحنفيّة ، وفي قول القاضي من الحنابلة : واجب فقط ، فإن لم يتداركه يجبر بدم وحجّه تامّ . وهذا إن كان المتروك السّعي كلّه أو أكثره ، فإن كان المتروك ثلاثة أشواط أو أقلّ فليس عليه عند الحنفيّة إلاّ التّصدّق بنصف صاع عن كلّ شوط ، وكلّ هذا عندهم إن كان التّرك بلا عذر ، فإن كان بعذر فلا شيء عليه ، وهذا في جميع واجبات الحجّ .
ولو سعى بين الصّفا والمروة فترك بعض الأشواط عمداً أو نسياناً ، أو ترك في بعضها أن يصل إلى الصّفا أو إلى المروة لم يصحّ سعيه ، ولو كان ما تركه ذراعاً واحداً ، وعليه أن يتدارك ما فاته ، ويمكن التّدارك بالإتيان بالبعض الّذي تركه ولو بعد أيّام .
ولا يلزمه إعادة السّعي كلّه ، لأنّ الموالاة غير مشترطة فيه بخلاف الطّواف بالبيت .
وقيل : هي مشترطة في السّعي أيضاً ، وهو أحد قولي الشّافعيّة .
ومثل ذلك : ما لو سعى مبتدئاً بالمروة ، فإنّ الشّوط الأوّل لا يعتبر ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ قول اللّه تعالى : { إنَّ الصَّفَا والمروةَ منْ شعائرِ اللّهِ } الآية ثمّ قال : نبدأ بما بدأ اللّه به » وفي رواية « ابدءوا بما بدأ اللّه به » .
ث - الخطأ في الوقوف :
21 - إذا وقف الحجيج يوم العاشر من شهر ذي الحجّة ، وتبيّن خطؤهم ، فالحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة أنّه أجزأهم الوقوف ولا يعيدون ، دفعاً للحرج الشّديد ، وقال الشّافعيّة : إنّه يجزئهم الوقوف إلاّ أن يقلّوا على خلاف العادة في الحجيج ، فيقضون هذا الحجّ في الأصحّ ، لأنّه ليس في قضائهم مشقّة عامّة .
أمّا إذا وقفوا في اليوم الثّامن ، ثمّ علموا بخطئهم ، وأمكنهم التّدارك قبل الفوات ، أعادوا عند الجمهور ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رواية أيضاً عند الحنابلة ) والرّواية الأخرى عند الحنابلة أنّه يجزئهم الوقوف دون تدارك ، لأنّهم لو أعادوا الوقوف لتعدّد ، وهو بدعة ، كما قال الشّيخ ابن تيميّة .
أمّا لو علموا بخطئهم ، بحيث لا يمكنهم التّدارك ، للفوات ، فالحكم في المعتمد عند المالكيّة ، والأصحّ عند الشّافعيّة : أنّه لا يجزئهم هذا الوقوف ، ويجب عليهم القضاء لهذا الحجّ . وفرّقوا بين تأخير العبادة عن وقتها وتقديمها عليه بأنّ التّأخير أقرب إلى الاحتساب من التّقديم ، وبأنّ اللّفظ في التّقديم يمكن الاحتراز عنه ، لأنّه يقع الغلط في الحساب ، أو الخلل في الشّهود الّذين شهدوا بتقديم الهلال ، والغلط بالتّأخير قد يكون بالغيم المانع من رؤية الهلال ، ومثل ذلك لا يمكن الاحتراز عنه . وهذا أحد التّخريجين عن الحنفيّة .
وعند الحنابلة ، وهو التّخريج الآخر عند الحنفيّة : أنّه يجزئهم ، ولا قضاء عليهم ، لأنّ الوقوف مرّتين في عام واحد بدعة - كما يقول الحنابلة - ولأنّ القول بعدم الإجزاء فيه حرج بيّن - كما يقول الحنفيّة - .
ج - التّدارك في وقوف عرفة :
22 - لو ترك الحاجّ الوقوف بعرفة عمداً أو نسياناً أو جهلاً حتّى طلع فجر يوم النّحر لم يصحّ حجّه ، فلا يمكن التّدارك بعد ذلك ، وعليه أن يحلّ بعمرة .
ولو وقف نهاراً ، ثمّ دفع قبل الغروب ، فقد أتى بالرّكن ، وترك واجب الوقوف في جزء من اللّيل ، فيكون عليه دم وجوباً عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو قول عند الشّافعيّة .
لكنّ الرّاجح عند الشّافعيّة استحباب إراقة الدّم ، لأنّ أخذ جزء من اللّيل على هذا القول سنّة لا غير ، وإنّما يستحبّ الدّم خروجاً من خلاف من أوجبه .
ولو تدارك ما فاته بالرّجوع إلى عرفة قبل غروب الشّمس ، وبقي إلى ما بعد الغروب سقط عنه الدّم اتّفاقاً . ولو رجع بعد الغروب وقبل طلوع الفجر سقط عنه الدّم عند الجمهور ، خلافاً للحنفيّة ، لأنّ الدّم عندهم لزمه بالدّفع من عرفة ، فلا يسقط بالرّجوع إليها .
أمّا عند المالكيّة فلا يدفع الحاجّ من عرفة إلاّ بعد غروب الشّمس ، فإن دفع قبل الغروب فعليه العود ليلاً ( تداركاً ) وإلاّ بطل حجّه .
ح - تدارك الوقوف بالمزدلفة :
23 - عند الشّافعيّة والحنابلة الوجود بمزدلفة واجب ولو لحظةً ، بشرط أن يكون ذلك في النّصف الثّاني من اللّيل بعد الوقوف بعرفة ، ولا يشترط المكث ، بل يكفي مجرّد المرور بها. ومن دفع من مزدلفة قبل منتصف اللّيل ، وعاد إليها قبل الفجر فلا شيء عليه ، لأنّه أتى بالواجب ، فإن لم يعد بعد نصف اللّيل حتّى طلع الفجر فعليه دم على الأرجح .
أمّا عند الحنفيّة : فيجب الوقوف بمزدلفة بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس ، وعليه أن يقف في ذلك الوقت ولو لحظةً ، فإن ترك الوقوف لعذر فلا شيء عليه ، والعذر كأن يكون به ضعف أو علّة أو كانت امرأة تخاف الزّحام ، وإن أفاض من مزدلفة قبل ذلك لا لعذر فعليه دم . وظاهر أنّه إن تدارك الوقوف بالرّجوع إلى مزدلفة قبل طلوع الشّمس سقط عنه الدّم . وعند المالكيّة : النّزول بمزدلفة بقدر حطّ الرّحال - وإن لم تحطّ بالفعل - واجب ، فإن لم ينزل بها بقدر حطّ الرّحال حتّى طلع الفجر فالدّم واجب عليه إلاّ لعذر ، فإن ترك النّزول لعذر فلا شيء عليه .
خ - تدارك رمي الجمار :
24 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ من ترك رمي يوم أو يومين - عمداً أو سهواً - تداركه في باقي أيّام التّشريق على الأظهر ، ويكون ذلك أداءً ، وفي قول قضاءً ، ولا دم مع التّدارك . ومذهب الحنفيّة : أنّ من أخّر الرّمي في اليوم الأوّل والثّاني من أيّام التّشريق إلى اللّيل ، فرمى قبل طلوع الفجر جاز ولا شيء عليه ، لأنّ اللّيل وقت للرّمي في أيّام الرّمي . وأمّا رمي جمرة العقبة ، فمذهب أبي حنيفة أنّه يمتدّ إلى غروب الشّمس ، فإن لم يرم حتّى غربت الشّمس ، فرمى قبل طلوع الفجر من اليوم الثّاني أجزأه ، ولا شيء عليه .
ومذهب المالكيّة : أنّ تأخير الرّمي إلى اللّيل يكون تداركه قضاءً ، وعليه دم واحد .
د - تدارك طواف الإفاضة :
25 - مذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة : أنّ من طاف بعد عرفة طوافاً صحيحاً - سواء أكان واجباً أم نفلاً - وقع عن طواف الإفاضة وإن لم ينوه .
أمّا من ترك الطّواف بعد عرفة ، وخرج إلى بلده ، فعليه أن يرجع محرماً ليطوف طواف الإفاضة ، ويبقى محرماً بالنّسبة إلى النّساء حتّى يطوف طوافاً صحيحاً .
وهناك تفصيلات في بعض المذاهب يرجع إليها في الحجّ . ومذهب الحنابلة : أنّه من ترك طواف الإفاضة ، لكنّه طاف طواف الصّدر ( الوداع ) أو طواف نفل ، وقع الطّواف عمّا نواه ، ولا يقع عن طواف الإفاضة ، حتّى لو رجع إلى بلده بعد هذا الطّواف عليه أن يرجع محرماً ، ليطوف طواف الإفاضة لأنّه ركن ، ويبقى محرماً أيضاً بالنّسبة إلى النّساء .
ذ - تدارك طواف الوداع :
26 - طواف الوداع واجب على غير الحائض يجبر تركه بدم ، ولو كان تركه لنسيان أو جهل ، وهذا قول الحنابلة ، وهو أحد قولي الشّافعيّة .
والثّاني عندهم : هو سنّة لا يجب جبره ، فعلى قول الوجوب قال الشّافعيّة والحنابلة : إن خرج بلا وداع وجب عليه الرّجوع لتداركه إن كان قريباً ، أي دون مسافة القصر ، فإن عاد قبل مسافة القصر فطاف للوداع سقط عنه الإثم والدّم ، وإن تجاوز مسافة القصر استقرّ عليه الدّم ، فلو تداركه بعدها لم يسقط الدّم ، وقيل : يسقط .
وعند الحنفيّة : طواف الوداع واجب ، ويجزئ عنه ما لو طاف نفلاً بعد إرادة السّفر ، فإن سافر ولم يكن فعل ذلك وجب عليه الرّجوع لتداركه ما لم يجاوز الميقات ، فيخيّر بين إراقة الدّم وبين الرّجوع بإحرام جديد بعمرة ، فيبتدئ بطوافها ثمّ بطواف الوداع ، فإن فعل ذلك فلا شيء عليه لتأخيره .
وعند المالكيّة : طواف الوداع مندوب ، فلو تركه وخرج ، أو طافه طوافاً باطلاً يرجع لتداركه ما لم يخف فوت رفقته الّذين يسير بسيرهم ، أو خاف منعاً من الكراء أو نحو ذلك .
تدارك المجنون والمغمى عليه للعبادات :
أوّلاً - بالنّسبة للصّلاة :
27 - لا تدارك لما فات من صلاة حال الجنون أو الإغماء عند المالكيّة والشّافعيّة لعدم الأهليّة وقت الوجوب ، لقول النّبيّ . صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاثة : عن النّائمِ حتّى يستيقظَ ، وعن الصّبيّ حتّى يشبّ ، وعن المعتوه حتّى يَعْقِل » .
وعند الحنفيّة إن جنّ أو أغمي عليه خمس صلوات - أو ستّاً على قول محمّد - قضاها ، وإن جنّ أو أغمي عليه أكثر من ذلك فلا قضاء عليه نفياً للحرج ، وقال بشر : الإغماء ليس بمسقط ، ويلزمه القضاء وإن طالت مدّة الإغماء .
وفرّق الحنابلة بين الجنون والإغماء ، فلم يوجبوا القضاء على ما فات حال الجنون ، وأوجبوه فيما فات حال الإغماء ، لأنّ الإغماء لا تطول مدّته غالباً ، ولما روي أنّ عمّاراً رضي الله عنه أغمي عليه ثلاثاً ، ثمّ أفاق فقال : هل صلّيتُ ؟ قالوا : ما صلّيتَ منذ ثلاث ، ثمّ توضّأ وصلّى تلك الثّلاث . وعن عمران بن حصين وسمرة بن جندب رضي الله عنهما نحوه ، ولم يعرف لهم مخالف ، فكان كالإجماع .
28 - ومن أدرك جزءاً من الوقت وهو أهل ثمّ جنّ أو أغمي عليه ، فإن كان ما أدركه لا يسع الفرض فلا يجب عليه القضاء عند الحنفيّة والمالكيّة ، وهو المذهب عند الشّافعيّة . وعند الحنابلة يجب عليه القضاء . وإن كان ما أدركه يسع الفرض فعند الحنفيّة لا يجب القضاء ، لأنّ الوجوب يتعيّن في آخر الوقت إذا لم يوجد الأداء قبله ، فيستدعي الأهليّة فيه لاستحالة الإيجاب على غير الأهل ، ولم يوجد ، فلم يكن عليه القضاء ، وهو أيضاً رأي المالكيّة خلافاً لبعض أهل المدينة وابن عبد البرّ ، حيث القضاء عندهم أحوط .
وعند الشّافعيّة والحنابلة يجب عليه القضاء ،لأنّ الوجوب يثبت في أوّل الوقت فلزم القضاء. 29 - وإن أفاق المجنون أو المغمى عليه في آخر الوقت فللحنفيّة قولان :
أحدهما ، وهو قول زفر : لا يصبح مدركاً للفرض إلاّ إذا بقي من الوقت مقدار ما يمكن فيه أداء الفرض .
والثّاني ، للكرخيّ وأكثر المحقّقين ، وهو المختار : أنّه يجب الفرض ويصير مدركاً إذا أدرك من الوقت ما يسع التّحريمة فقط ، وهو قول الحنابلة وبعض الشّافعيّة .
وعند المالكيّة : يجب الفرض إذا بقي من الوقت مقدار ركعة من زمن يسع الطّهر ، وهو قول بعض الشّافعيّة . وفي قول آخر للشّافعيّة : إذا بقي مقدار ركعة فقط .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ثانياً : بالنّسبة للصّوم :
30 - إذا استوعب الجنون شهر رمضان بأكمله فلا قضاء على المجنون سواء ، أكان الجنون أصليّاً أم عارضاً عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لحديث : « رفع القلم عن ثلاث ... » وإذا استوعب الإغماء الشّهر كلّه وجب القضاء على المغمى عليه إلاّ عند الحسن البصريّ ، ودليل وجوب القضاء قوله تعالى : { فمنْ كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فَعِدَّةٌ من أيَّامٍ أُخَر } والإغماء مرض . وعند المالكيّة : يجب القضاء على المجنون بعد إفاقته للآية السّابقة ، والجنون مرض ، وعن الإمام أحمد مثل ذلك بالنّسبة للمجنون .
وإن أفاق المجنون في أيّ يوم من أيّام الشّهر كان عليه قضاء ما مضى من الشّهر استحساناً عند الحنفيّة ، والقياس أنّه لا يلزمه ، وهو قول زفر .
وفرّق محمّد فقال : لا قضاء لما فات في الجنون الأصليّ ، ويجب القضاء إذا كان الجنون عارضاً . وعند الشّافعيّة والحنابلة لا قضاء لما فات زمن الجنون للحديث المتقدّم - ويجب القضاء عند المالكيّة . ويجب القضاء على المغمى عليه لما فات عند الجميع .
31 - أمّا اليوم الّذي جنّ أو أغمي عليه فيه ، فإنّه يعتبر مدركاً لصيام هذا اليوم إن كان نوى الصّيام من اللّيل ، ولا قضاء عليه ، وهذا عند الحنفيّة .
وعند المالكيّة : إن جنّ أو أغمي عليه بعد الفجر ، واستمرّ الجنون أو الإغماء أكثر اليوم فعليه القضاء ، وإن كان بعد الفجر ولم يستمرّ نصف يوم فأقلّ أجزأه ، ولا قضاء عليه . وإن كان الإغماء أو الجنون مع الفجر أو قبله فالقضاء مطلقاً ، لزوال العقل وقت النّيّة . وعند الشّافعيّة في الأظهر ، وهو قول الحنابلة : أنّ الإغماء لا يضرّ صومه إذا أفاق لحظةً من نهار ، أيّ لحظة كانت ، اكتفاءً بالنّيّة مع الإفاقة في جزء .
والثّاني للشّافعيّة : يضرّ مطلقاً ، والثّالث : لا يضرّ إذا أفاق أوّل النّهار .
وإن نوى الصّوم ثمّ جنّ ففيه قولان : في الجديد يبطل الصّوم ، لأنّه عارض يسقط فرض الصّلاة فأبطل الصّوم ، وقال في القديم : هو كالإغماء . وعند الحنابلة : الجنون كالإغماء يجزئ صومه إذا كان مفيقاً في أيّ لحظة منه مع تبييت النّيّة .
32 - أمّا اليوم الّذي تحدث فيه الإفاقة من الجنون أو الإغماء ، فعند الحنفيّة : أن المجنون جنوناً عارضاً لو أفاق في النّهار قبل الزّوال ، فنوى الصّوم أجزأه . وفي الجنون الأصليّ خلاف ، ويجزئ في الإغماء بلا خلاف .
وعند المالكيّة : إن أفاق قبل الفجر أجزأ ذلك اليوم عن الصّيام بالنّسبة للمجنون والمغمى عليه ، وإن كانت الإفاقة بعد الفجر فهو على التّفصيل السّابق .
وعند الشّافعيّة : إن أفاق المجنون في النّهار فعلى الأصحّ لا قضاء عليه ، ويستحبّ له الإمساك ، وهذا في وجه . وفي الوجه الثّاني : يجب القضاء ، أمّا المغمى عليه فإذا أفاق أجزأه . وعند الحنابلة في قضاء اليوم الّذي أفاق فيه المجنون وإمساكه روايتان ، أمّا المغمى عليه فيصحّ صومه إن أفاق في جزء من النّهار .
ثالثاً : بالنّسبة للحجّ :
33 - من أحرم بالحجّ ، وطرأ عليه جنون أو إغماء ثمّ أفاق منه قبل الوقوف بعرفة ، ووقف ، أجزأه الحجّ باتّفاق . وكذلك من لم يحرم بالحجّ لجنون أو إغماء ، ولكنّه أفاق من قبل الوقوف ، وأحرم ووقف بعرفة أجزأه ، على تفصيل في وجوب الجزاء عليه .
ومثل ذلك أيضاً المجنون الّذي أحرم عنه وليّه ، أو المغمى عليه - عند من يقول بجواز الإحرام عنه كالحنفيّة وبعض الشّافعيّة - إذا أفاقا قبل الوقوف ووقفا أجزأهما الحجّ ، ومن وقف بعرفة وهو مجنون أو مغمًى عليه بعد أن أحرم وهو مفيق ، أو أحرم وليّه عنه فعند المالكيّة وبعض الشّافعيّة : كان حجّهما صحيحاً ، مع الاختلاف بين وقوعه فرضاً أو نفلاً . وعند الحنفيّة كان حجّ المغمى عليه صحيحاً ، وفي المجنون خلاف .
وينظر تفصيل جميع ما مرّ في العبادات في : ( صلاة ، صوم ، حجّ ، جنون ، إغماء ) .
تدارك المريض العاجز عن الإيماء :
34 - من عجز عن الإيماء في الصّلاة برأسه لركوعه وسجوده أومأ بطرفه ( عينه ) ونوى بقلبه ، لحديث عليّ رضي الله عنه : « يصلّي المريض قائماً ، فإن لم يستطع صلّى جالساً ، فإن لم يستطع صلّى على جنبه مستقبل القبلة ، فإن لم يستطع صلّى مستلقياً على قفاه ، ورجلاه إلى القبلة ، وأومأ بطرفه » . وهذا متّفق عليه بين الفقهاء . فإن عجز عن الإيماء بطرفه أومأ بأصبعه ، فإن لم يستطع أتى بالصّلاة بقدر ما يطيق ولو بنيّة أفعالها ، ولا تسقط عنه أبداً ما دام معه شيء من عقل ، ويأتي بالصّلاة بأن يقصد الصّلاة بقلبه مستحضراً الأفعال والأقوال إن عجز عن النّطق ، لقوله تعالى : { لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسَاً إلاّ وسْعَها } .
وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة .
وعند الحنفيّة غير زفر : الإيماء يكون بالرّأس فقط ولا يكون بعينيه أو جبينه أو قلبه ، لأنّ فرض السّجود لا يتأتّى بهذه الأشياء ، بخلاف الرّأس لأنّه يتأدّى به فرض السّجود ، فمن عجز عن الإيماء برأسه أخّر الصّلاة ، وإن مات على ذلك الحال لا شيء عليه ، وإن برأ فالصّحيح أنّه يلزمه قضاء يوم وليلة لا غير نفياً للحرج .
تدارك النّاسي والسّاهي :
35 - النّسيان أو السّهو إن وقع في ترك مأمور لم يسقط ، بل يجب تداركه . فمن نسي صلاةً أو صوماً أو زكاةً أو كفّارةً أو نذراً وجب عليه الأداء إن أمكن ، أو أن يتداركه بالقضاء بلا خلاف ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « مَنْ نسي صلاةً أو نام عنها ، فكفّارتُها أن يصلّيها إذا ذَكَرَها » .
وتكون الصّلاة أداءً إذا أدّى منها ركعةً في الوقت ، أو التّحريمة على الخلاف في ذلك .
وإذا فات الوقت تداركها بالقضاء . وينظر تفصيل ذلك في : ( صلاة ، صوم ، زكاة ) .
تدارك من أفسد عبادةً شرع فيها من صلاةٍ أو صومٍ أو حجٍ :
36 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من أفسد عبادة مفروضة وجب عليه أداؤها إن كان وقتها يسعها كالصّلاة ، أو القضاء إن خرج الوقت أو كان لا يسعها كالصّلاة إن خرج الوقت ، وكالصِّيام والحجّ لعدم اتساع الوقت .
أما التطوع بالعبادة فإنها تلزم بالشّروع فيه عند الحنفية والمالكية ، ويجب إتمامها ، وعند الشافعية والحنابلة : لا تجب بالشّروع ، ويستحب الإتمام فيما عدا الحجّ والعمرة فيلزمان بالشّروع ، ويجب إتمامهما ، وعلى ذلك فمن دخل في عبادة تطوّع وأفسدها وجب عليه قضاؤها عند الحنفية والمالكية لقوله تعالى : { ولا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم } .
ولا يجب القضاء عند الشافعية والحنابلة في غير الحجّ والعمرة لما روت « عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هل عندك شيء ؟ فقلت : لا ، فقال : إنّي إذاً أصوم ، ثم دخل عليَّ يوماً آخر فقال : هل عندك شيء ؟ فقلت : نعم ، فقال : إذاً أفطر ، وإن كنت قد فرضت الصوم » .
أما الحجّ والعمرة فيجب قضاؤهما إذا أفسدهما ، لأن الوصول إليهما لا يحصل في الغالب إلا بعد كلفة عظيمة ، ولهذا يجبان بالشّروع .
تدارك المرتدّ لما فاته :
37 - ما فات المرتدّ من العبادات أيّام الرّدّة لا يجب عليه قضاؤه ، إذا تاب ورجع إلى الإسلام ، لأنّه غير مخاطب بفروع الشّريعة ، ولقوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهم ما قَد سَلَف } ، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الإسلامُ يَجُبُّ ما قَبْلَه » . وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وعند الشّافعيّة يجب عليه قضاء ما فاته أيّام ردّته من عبادات ، لأنّ المرتدّ كان مقرّاً بإسلامه ولأنّه لا يستحقّ التّخفيف .
38 - وما فاته أيّام إسلامه من عبادات قبل ردّته وحال إسلامه ، يجب عليه قضاؤه بعد توبته من الرّدّة ، لاستقرار هذه العبادات عليه حال إسلامه ، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
وعند المالكيّة : لا يطالب بما فاته قبل ردّته ، فالرّدّة تسقط ما كان عليه من صلاة وصيام إلاّ الحجّ الّذي تقدّم منه ، فإنّه لا يبطل ، ويجب عليه إعادته إذا أسلم ، لبقاء وقته وهو العمر .
39 - وإذا رجع المرتدّ إلى الإسلام وأدرك وقت صلاة ، أو أدرك جزءاً من رمضان وجب عليه أداؤه .

تداوي *
التّعريف :
1 - التّداوي لغةً : مصدر تداوى أي : تعاطى الدّواء ، وأصله دوي يدوي دوى أي مرض ، وأدوى فلاناً يدويه بمعنى : أمرضه ، وبمعنى : عالجه أيضاً ، فهي من الأضداد ، ويداوي : أي يعالج ، ويداوي بالشّيء أي : يعالج به ، وتداوى بالشّيء : تعالج به ، والدِّواء والدَّواء والدُّواء : ما داويته به .
ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن هذا المعنى ، كما تدلّ على ذلك عباراتهم .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّطبيب :
2 - التّطبيب لغةً : المداواة والعلاج ، يقال : طبّ فلان فلاناً أي : داواه ، وجاء يستطبّ لوجعه : أي يستوصف الأدوية أيّها يصلح لدائه .
والطّبّ : علاج الجسم والنّفس ، فالتّطبيب مرادف للمداواة .
ب - التّمريض :
3 - التّمريض مصدر مرّض ، وهو التّكفّل بالمداواة . يقال : مرّضه تمريضاً : إذا قام عليه ووليه في مرضه وداواه ليزول مرضه ،وقال بعضهم : التّمريض حسن القيام على المريض.
ج - الإسعاف :
4 - الإسعاف في اللّغة : الإعانة والمعالجة بالمداواة ، ويكون الإسعاف في حال المرض وغيره ، فهو أعمّ من التّداوي ، لأنّه لا يكون إلاّ في حال المرض .
حكمه التّكليفيّ :
5 - التّداوي مشروع من حيث الجملة ، لما روى أبو الدّرداء رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه أنزل الدّاءَ والدّواءَ ، وجعل لكلّ داءٍ دواءً ، فتداووا ، ولا تتداووا بالحرام » ، ولحديث أسامة بن شريك رضي الله عنه قال : « قالت الأعراب يا رسول اللّه ألا نتداوى ؟ قال : نعم عباد اللّه تداووا ، فإنّ اللّه لم يضع داءً إلاّ وضع له شفاءً إلاّ داءً واحداً . قالوا : يا رسول اللّه وما هو ؟ قال : الهرم » .
وعن جابر رضي الله عنه قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الرّقى ، فجاء آل عمرو بن حزم فقالوا : يا رسول اللّه إنّه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب : فإنّك نهيت عن الرّقى فعرضوها عليه ، فقال : ما أرى بها بأساً ، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلْيفعل » . وقال صلى الله عليه وسلم : « لا بأس بالرّقى ما لم يكن فيه شرك » ولما ثبت من فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه تداوى ، فقد روى الإمام أحمد في مسنده أنّ « عروة كان يقول لعائشة : يا أمَّتاه ، لا أعجب من فقهك ، أقول : زوجة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وابنة أبي بكر ، ولا أعجب من علمك بالشّعر وأيّام النّاس ، أقول : ابنة أبي بكر ، وكان أعلم النّاس أو من أعلم النّاس ، ولكن أعجب من علمك بالطّبّ ، كيف هو ؟ ومن أين هو ؟ قال : فضربت على منكبيه ، وقالت : أيْ عريّة ؟ إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يسقم عند آخر عمره ، وكانت تقدم عليه وفود العرب من كلّ وجه ، فكانت تنعت له الأنعات ، وكنت أعالجها له ، فمن ثَمَّ عَلِمْتُ » . وفي رواية : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كثرت أسقامه ، فكان يقدم عليه أطبّاء العرب والعجم ، فيصفون له فنعالجه » . وقال الرّبيع : سمعت الشّافعيّ يقول :" العلم علمان : علم الأديان وعلم الأبدان ".
6- وقد ذهب جمهور العلماء - الحنفيّة والمالكيّة - إلى أنّ التّداوي مباح ، غير أنّ عبارة المالكيّة : لا بأس بالتّداوي .
وذهب الشّافعيّة ، والقاضي وابن عقيل وابن الجوزيّ من الحنابلة إلى استحبابه ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه أنزل الدّاء والدّواء ، وجعل لكلّ داء دواءً فتداووا ، ولا تتداووا بالحرام » . وغير ذلك من الأحاديث الواردة ، والّتي فيها الأمر بالتّداوي . قالوا : واحتجام النّبيّ صلى الله عليه وسلم وتداويه دليل على مشروعيّة التّداوي . ومحلّ الاستحباب عند الشّافعيّة عند عدم القطع بإفادته . أمّا لو قطع بإفادته كعصب محلّ الفصد فإنّه واجب . ومذهب جمهور الحنابلة : أنّ تركه أفضل ، ونصّ عليه أحمد ، قالوا : لأنّه أقرب إلى التّوكّل . قال ابن القيّم : في الأحاديث الصّحيحة الأمر بالتّداوي ، وأنّه لا ينافي التّوكّل ، كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش والحرّ والبرد بأضدادها ، بل لا تتمّ حقيقة التّوحيد إلاّ بمباشرة الأسباب الّتي نصبها اللّه مقتضيات لمسبّباتها قدراً وشرعاً ، وأنّ تعطيلها يقدح في نفس التّوكّل ، كما يقدح في الأمر والحكمة ، ويضعفه من حيث يظنّ معطّلها أنّ تركها أقوى في التّوكّل ، فإنّ تركها عجز ينافي التّوكّل الّذي حقيقته اعتماد القلب على اللّه في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ، ودفع ما يضرّه في دينه ودنياه ، ولا بدّ مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب ، وإلاّ كان معطّلاً للحكمة والشّرع ، فلا يجعل العبد عجزه توكّلاً ، ولا توكّله عجزاً .
أنواع التّداوي :
7 - التّداوي قد يكون بالفعل أو بالتّرك ، فالتّداوي بالفعل : يكون بتناول الأغذية الملائمة لحال المريض ، وتعاطي الأدوية والعقاقير ، ويكون بالفصد والكيّ والحجامة وغيرها من العمليّات الجراحيّة . فعن ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعاً « الشّفاء في ثلاثة : في شَرْطَةِ مِحْجَم ، أو شَرْبةِ عسل ، أو كَيَّةٍ بنار ، وأنهى أُمّتي عن الكيّ » وفي رواية « وما أحبّ أن أكتوي » . وعن ابن عبّاس مرفوعاً « خير ما تداويتم به السّعوط ، واللّدود ، والحجامة ، والمشي » وإنّما كره الرّسول صلى الله عليه وسلم الكيّ لما فيه من الألم الشّديد والخطر العظيم ، ولهذا كانت العرب تقول في أمثالها " آخر الدّواء الكيّ " وقد « كوى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وغيره » ، واكتوى غير واحد من الصّحابة ، فدلّ على أنّ المراد بالنّهي ليس المنع ، وإنّما المراد منه التّنفير عن الكيّ إذا قام غيره مقامه . قال ابن حجر في الفتح : ولم يرد النّبيّ صلى الله عليه وسلم الحصر في الثّلاثة ، فإنّ الشّفاء قد يكون في غيرها ، وإنّما نبّه بها على أصول العلاج . وأمّا التّداوي بالتّرك : فيكون بالحمية ، وذلك بالامتناع عن كلّ ما يزيد المرض أو يجلبه إليه ، سواء كان بالامتناع عن أطعمة وأشربة معيّنة ، أو الامتناع عن الدّواء نفسه إذا كان يزيد من حدّة المرض . « لقوله صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه حين أراد أن يأكل من الدّوالي إنّك ناقه » .
التّداوي بالنّجس والمحرّم :
8 - اتّفق الفقهاء على عدم جواز التّداوي بالمحرّم والنّجس من حيث الجملة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم » ولقوله صلى الله عليه وسلم :« إنّ اللّه أنزل الدّاء والدّواء ، وجعل لكلّ داء دواءً ، فتداووا ، ولا تتداووا بالحرام» وعن عمر رضي الله عنه أنّه كتب إلى خالد بن الوليد " إنّه بلغني أنّك تدلّك بالخمر ، وإنّ اللّه قد حرّم ظاهر الخمر وباطنها ، وقد حرّم مسّ الخمر كما حرّم شربها ، فلا تمسّوها أجسادكم ، فإنّها نجس " .
وقد عمّم المالكيّة هذا الحكم في كلّ نجس ومحرّم ، سواء أكان خمراً ، أم ميتةً ، أم أيّ شيء حرّمه اللّه تعالى ، وسواء كان التّداوي به عن طريق الشّرب أو طلاء الجسد به ، وسواء كان صرفاً أو مخلوطاً مع دواء جائز ، واستثنوا من ذلك حالةً واحدةً أجازوا التّداوي بهما ، وهي أن يكون التّداوي بالطّلاء ، ويخاف بتركه الموت ، سواء كان الطّلاء نجساً أو محرّماً ، صرفاً أو مختلطاً بدواء جائز .
وأضاف الحنابلة إلى المحرّم والنّجس كلّ مستخبث ، كبول مأكول اللّحم أو غيره ، إلاّ أبوال الإبل فيجوز التّداوي بها ، وذكر غير واحد من الحنابلة أنّ الدّواء المسموم إن غلبت منه السّلامة ، ورجي نفعه ، أبيح شربه لدفع ما هو أعظم منه ، كغيره من الأدوية ، كما أنّه يجوز عندهم التّداوي بالمحرّم والنّجس ، بغير أكل وشرب .
وذهب الحنابلة أيضاً إلى حرمة التّداوي بصوت ملهاة ، كسماع الغناء المحرّم ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « ولا تتداووا بالحرام » .
وشرط الحنفيّة لجواز التّداوي بالنّجس والمحرّم أن يعلم أنّ فيه شفاءً ، ولا يجد دواءً غيره ، قالوا : وما قيل إنّ الاستشفاء بالحرام حرام غير مجرى على إطلاقه ، وإنّ الاستشفاء بالحرام إنّما لا يجوز إذا لم يعلم أنّ فيه شفاءً ، أمّا إذا علم ، وليس له دواء غيره ، فيجوز . ومعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه " لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم يحتمل أن يكون قاله في داء عرف له دواء غير المحرّم ، لأنّه حينئذ يستغني بالحلال عن الحرام ، ويجوز أن يقال تنكشف الحرمة عند الحاجة ، فلا يكون الشّفاء بالحرام ، وإنّما يكون بالحلال .
وقصر الشّافعيّة الحكم على النّجس والمحرّم الصّرف ، فلا يجوز التّداوي بهما ، أمّا إذا كانا مستهلكين مع دواء آخر ، فيجوز التّداوي بهما بشرطين : أن يكون عارفاً بالطّبّ ، حتّى ولو كان فاسقاً في نفسه ، أو إخبار طبيب مسلم عدل ،وأن يتعيّن هذا الدّواء فلا يغني عنه طاهر. وإذا كان التّداوي بالنّجس والمحرّم لتعجيل الشّفاء به ، فقد ذهب الشّافعيّة إلى جوازه بالشّروط المذكورة عندهم ، وللحنفيّة فيه قولان .
التّداوي بلبس الحرير والذّهب :
9 - اتّفق الفقهاء على جواز لبس الحرير للرّجال لحكّة ، لما روى أنس رضي الله عنه
« أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : رخّص لعبد الرّحمن بن عوف والزّبير في القميص الحرير في السّفر من حكّة كانت بهما » . وروى أنس أيضاً : « أنّ عبد الرّحمن بن عوف والزّبير شكيا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم القمل فأرخص لهما في الحرير ، فرأيته عليهما في غزاة » وجاز للمريض قياساً على الحكّة والقمل . والمشهور عند المالكيّة الحرمة مطلقاً .
ونصّ الحنابلة على جواز لبسه في الثّلاث المذكورة ، ولو لم يؤثّر لبسه في زوالها ، ولكن لا بدّ أن يكون نافعاً في لبسه . وأجاز الحنفيّة عصب الجراحة بالحرير مع الكراهة .
10 - كما اتّفق الفقهاء على جواز اتّخاذ الأنف من الذّهب ، وزاد المالكيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة : السّنّ ، وزاد الشّافعيّة : الأنملة .
كما نصّ المالكيّة والحنابلة : على جواز ربط السّنّ أو الأسنان بالذّهب .
والأصل في ذلك أنّ « عرفجة بن أسعد رضي الله عنه قطع أنفه يوم الكلاب ، فاتّخذ أنفاً من ورق ، فأنتن عليه ، فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم فاتّخذ أنفاً من ذهب » .
ولما روى الأثرم عن موسى بن طلحة ، وأبي جمرة الضّبعيّ ، وأبي رافع بن ثابت البنانيّ وإسماعيل بن زيد بن ثابت ، والمغيرة بن عبد اللّه ، أنّهم شدّوا أسنانهم بالذّهب .
والسّنّ مقيس على الأنف ، وزاد الشّافعيّة في القياس الأنملة دون الأصبع واليد ، قالوا : والفرق بين الأنملة والأصبع أو اليد أنّها تعمل بخلافهما ، وعندهم وجه أنّه يجوز ، وإنّما قصر الحنفيّة الجواز على الأنف فقط لضرورة نتن الفضّة ، لأنّ المحرّم لا يباح إلاّ لضرورة . قالوا : وقد اندفعت في السّنّ بالفضّة ، فلا حاجة إلى الأعلى ، وهو الذّهب .
تداوي المُحْرِم :
11 - الأصل أنّ المحرم ممنوع من الطّيب ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المحرم الّذي وقصته راحلته فمات : لا تمسّوه طيباً » وفي رواية « لا تحنّطوه » فلمّا منع الميّت من الطّيب لإحرامه فالحيّ أولى ، ومتى تطيّب المحرم فعليه الفدية ، لأنّه استعمل ما حظر عليه بالإحرام ، فوجبت عليه الفدية كاللّباس .
ولم يستثن الفقهاء من هذا الأصل ما لو تداوى المحرم بالطّيب ، أو بما له رائحة طيّبة ، وأوجبوا عليه الفدية ، غير أنّ الحنفيّة خصّوا الحكم بالطّيب بنفسه كالمسك والعنبر والكافور ونحوها ، وأمّا الزّيت والخلّ ممّا فيهما رائحة طيّبة بسبب ما يلقى فيهما من الأنوار كالورد والبنفسج فلا يجب عليه شيء إن تداوى بها .
قال ابن الهمام : وإن داوى قرحةً بدواء فيه طيب ، ثمّ خرجت قرحة أخرى فداواها مع الأولى ، فليس عليه إلاّ كفّارة واحدة ما لم تبرأ الأولى ، ولا فرق بين قصده وعدمه .
وعن أبي يوسف رحمه الله أنّه إذا خضّب ( أي المحرم ) رأسه بالوسمة لأجل المعالجة من الصّداع ، فعليه الجزاء باعتبار أنّه يغلّف رأسه ، قال ابن الهمام : هذا صحيح أي فينبغي أن لا يكون فيه خلاف ، لأنّ التّغطية موجبة بالاتّفاق ، غير أنّها للعلاج ، فلهذا ذكر الجزاء ولم يذكر الدّم . وعن أبي حنيفة : فيه صدقة ، لأنّه يليّن الشّعر ويقتل الهوامّ ، فإن استعمل زيتاً مطيّباً كالبنفسج والزّنبق وما أشبههما كدهن البان والورد ، فيجب باستعماله الدّم بالاتّفاق ، لأنّه طيب ، وهذا إذا استعمله على وجه التّطيّب ، ولو داوى به جرحه أو شقوق رجليه فلا كفّارة عليه ، لأنّه ليس بطيب في نفسه ، إنّما هو أصل الطّيب ، أو طيب من وجه ، فيشترط استعماله على وجه التّطيّب ، بخلاف ما إذا تداوى بالمسك وما أشبهه ، لأنّه طيب بنفسه ، فيجب الدّم باستعماله وإن كان على وجه التّداوي .
وفي حاشية الدّسوقيّ : أنّ الجسد وباطن الكفّ والرّجل يحرم دهن كلّ واحد منها كلاً أو بعضاً ، إن كان لغير علّة ، وإلاّ فلا حرمة . وأمّا الفدية فإن كان الدّهن مطيّباً افتدى مطلقاً كان الإدهان لعلّة أو لا . وإن كان غير مطيّب ، فإن كان لغير علّة افتدى أيضاً ، وإن كان لعلّة فقولان . وفي الكحل إذا كان فيه طيب حرم استعماله على المحرم رجلاً كان أو امرأةً إذا كان استعماله لغير ضرورة كالزّينة ، ولا حرمة إذا استعمله لضرورة حرّ ونحوه ، والفدية لازمة لمستعمله مطلقاً استعمله لضرورة أو لغيرها .
وإن كان الكحل لا طيب فيه فلا فدية مع الضّرورة ، وافتدى في غيرها .
وفي الإقناع للشّربينيّ الشّافعيّ : أنّ استعمال الطّيب حرام على المحرم سواء أكان ذكراً أم غيره ، ولو أخشم بما يقصد منه رائحته غالباً ولو مع غيره كالمسك والعود والكافور والورس والزّعفران ، وإن كان يطلب للصّبغ والتّداوي أيضاً ، سواء أكان ذلك في ملبوسه كثوبه أم في بدنه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « ولا تلبسوا من الثّياب ما مسّه وَرْس أو زعفران » سواء كان ذلك بأكل أم استعاط أم احتقان ، فيجب مع التّحريم في ذلك الفدية .
ولو استهلك الطّيب في المخالط له بأن لم يبق ريح ولا طعم ولا لون ، كأن استعمل في دواء ، جاز استعماله وأكله ولا فدية . وما يقصد به الأكل أو التّداوي لا يحرم ولا فدية فيه وإن كان له ريح طيّبة ، كالتّفّاح والسّنبل وسائر الأبازير الطّيّبة كالمصطكى ، لأنّ ما يقصد منه الأكل أو التّداوي لا فدية فيه . وفي المغني لابن قدامة حرمة التّداوي بما له ريح طيّبة للمحرم . أمّا ما لا طيب فيه كالزّيت والشّيرج والسّمن والشّحم ودهن البان فنقل الأثرم عن أحمد أنّه سئل عن المحرم يدهن بالزّيت والشّيرج فقال : نعم يدهن به إذا احتاج إليه ، ويتداوى المحرم بما يأكل . وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه صدع وهو محرم فقالوا : ألا ندهنك بالسّمن ؟ فقال : لا . قالوا : أليس تأكله ؟ قال : ليس أكله كالإدهان به . وعن مجاهد قال : إن تداوى به فعليه الكفّارة .
أثر التّداوي في الضّمان :
12 - ذهب الحنابلة إلى أنّ المجنيّ عليه إذا لم يداو جرحه ومات كان على الجاني الضّمان ، لأنّ التّداوي ليس بواجب ولا مستحبّ ، فتركه ليس بقاتل .
وفرّق الشّافعيّة بين علاج الجرح المهلك وغيره ، فإن ترك المجنيّ عليه علاج الجرح المهلك ومات ، فعلى الجاني الضّمان ، لأنّ البرء لا يوثق به وإن عالج ، وأمّا إذا كان الجرح غير مهلك فلا ضمان على الجاني .
التّداوي بالرّقى والتّمائم :
13 - أجمع الفقهاء على جواز التّداوي بالرّقى عند اجتماع ثلاثة شروط : أن يكون بكلام اللّه تعالى أو بأسمائه وصفاته ، وباللّسان العربيّ أو بما يعرف معناه من غيره ، وأن يعتقد أنّ الرّقية لا تؤثّر بذاتها بل بإذن اللّه تعالى . فعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال : « كنّا نرقي في الجاهليّة فقلنا : يا رسول اللّه كيف ترى في ذلك ؟ فقال : اعرضوا عليّ رقاكم ، لا بأس بالرّقى ما لم يكن فيه شرك » وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدّي إلى الشّرك فيمنع احتياطاً . وقال قوم : لا تجوز الرّقية إلاّ من العين واللّدغة لحديث عمران بن حصين رضي الله عنه « لا رقية إلاّ من عين أو حمّة » وأجيب بأنّ معنى الحصر فيه أنّهما أصل كلّ ما يحتاج إلى الرّقية ، وقيل : المراد بالحصر معنى الأفضل ، أو لا رقية أنفع ، كما قيل لا سيف إلاّ ذو الفقار . وقال قوم : المنهيّ عنه من الرّقى ما يكون قبل وقوع البلاء ، والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه ، ذكره ابن عبد البرّ والبيهقيّ وغيرهما ، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً « إنّ الرّقى والتّمائم والتّولة شرك »
وأجيب بأنّه إنّما كان ذلك من الشّرك لأنّهم أرادوا دفع المضارّ وجلب المنافع من عند غير اللّه ، ولا يدخل في ذلك ما كان بأسماء اللّه وكلامه ، وقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه كحديث عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه نفث في كفّيه ب قل هو اللّه أحد وبالمعوّذتين ثمّ يمسح بهما وجهه » . وحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعوّذ الحسن والحسين بكلمات اللّه التّامّة ، من كلّ شيطان وهامّة » . قال الرّبيع : سألت الشّافعيّ عن الرّقية فقال : لا بأس أن يرقي بكتاب اللّه وما يعرف من ذكر اللّه . قلت : أيرقي أهل الكتاب المسلمين ؟ قال : نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب اللّه وبذكر اللّه ، وقال ابن التّين : الرّقية بالمعوّذات وغيرها من أسماء اللّه هو الطّبّ الرّوحانيّ ، إذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشّفاء بإذن اللّه تعالى ، فلمّا عزّ هذا النّوع فزع النّاس إلى الطّبّ الجسمانيّ .

تدبير *
التّعريف :
1 - دبّر الرّجل عبده تدبيراً : إذا أعتقه بعد موته ، والتّدبير في الأمر : النّظر إلى ما تئول إليه عاقبة الأمر ، والتّدبير أيضاً : عتق العبد عن دبر وهو ما بعد الموت .
ولا يخرج المعنى الشّرعيّ عن هذا المعنى الأخير .
حكمه التّكليفيّ :
2 - التّدبير نوع من العتق ، والعتق مطلوب شرعاً ، وهو من أعظم القرب ، ويكون كفّارةً للجنايات ، إمّا وجوباً أي في قتل الخطأ ، والحنث في اليمين ونحو ذلك ، أو ندباً أي في قتل العمد عند المالكيّة ، وسائر الذّنوب ، لأنّ العتق من أكبر الحسنات ، وقد قال اللّه تعالى :
{ إنَّ الحسناتِ يُذْهِبْنَ السّيّئاتِ } . ويعتق المدبّر بعد الموت من ثلث المال في قول أكثر أهل العلم ، ويعتق من جميع مال الميّت في قول بعض العلماء كابن مسعود وغيره .
حكمة مشروعيّته :
3 - يؤدّي التّدبير إلى حرّيّة المدبّر بعد موت من دبّره ، والشّارع يحرص على تحرير الرّقاب ، والتّدبير طريقة ميسّرة لذلك ، لأنّه تدوم معه منفعة الرّقيق مدّة حياته ، ثمّ يكون قربةً له بعد وفاته .
صيغته :
4 - يثبت التّدبير بكلّ لفظ يفيد إثبات العتق للمملوك بعد موت سيّده ، كأن يقول ، معلّقاً : إذا متّ فأنت حرّ ، أو يقول مضيفاً لمستقبل : أنت حرّ بعد موتي .
ولا تفيد الصّيغة حكمها إلاّ إذا صدرت ممّن له أهليّة التّبرّع على سبيل الوصيّة .
آثاره :
5 - الفقهاء مختلفون في الآثار الّتي تترتّب على التّدبير . فذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وهو ظاهر كلام الخرقيّ ، وأومأ إليه أحمد إلى : أنّه لا يباع ، ولا يوهب ، ولا يرهن ، ولا يخرج من الملك إلاّ بالإعتاق والكتابة ، ويستخدم ويستأجر ، ومولاه أحقّ بكسبه وأرشه .
وذهب الشّافعيّة ، وهو إحدى الرّوايات عن الإمام أحمد : أنّه يباع مطلقاً في الدّين وغيره ، وعند حاجة السّيّد إلى بيعه وعدمها . لحديث : « أنّ رجلاً أعتق مملوكاً له عن دبر ، فاحتاج ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : من يشتريه منّي . فباعه من نعيم بن عبد اللّه بثمانمائة درهم ، فدفعها إليه وقال : أنت أحوج منه » متّفق عليه .
وفسّر الشّافعيّة الحاجة هنا بالدّين ، ولكنّه ليس قيداً احترازيّاً ، بل هو اتّفاقيّ لما ورد أنّ عائشة رضي الله عنها باعت مدبّرةً لها ولم ينكر عليها أحد من الصّحابة .
من مبطلاته :
6 - من مبطلات التّدبير : قتل المدبّر سيّده ، واستغراق تركة السّيّد بالدّين .
وهناك تفصيلات كثيرة وأحكام في المذاهب مختلفة لا حاجة لإيرادها لعدم وجود الرّقّ الآن .

تدخين *
انظر : تبغ .

تدريس *
انظر : تعليم .

تدليس *
التّعريف :
1 - التّدليس : مصدر دلّس ، يقال : دلّس في البيع وفي كلّ شيء : إذا لم يبيّن عيبه . والتّدليس في البيع : كتمان عيب السّلعة عن المشتري . قال الأزهريّ : ومن هذا أخذ التّدليس في الإسناد . وهو في اصطلاح الفقهاء لا يخرج عن المعنى اللّغويّ ، وهو كتمان العيب . قال صاحب المغرب : كتمان عيب السّلعة عن المشتري .
وعند المحدّثين هو قسمان: أحدهما : تدليس الإسناد . وهو : أن يروي عمّن لقيه ما لم يسمعه منه ، موهماً أنّه سمعه منه ،أو عمّن عاصره ولم يلقه موهماً أنّه لقيه أو سمعه منه.
والآخر : تدليس الشّيوخ . وهو أن يروي عن شيخ حديثاً سمعه منه فيسمّيه أو يكنّيه ، ويصفه بما لم يعرف به كيلا يعرف .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الخلابة :
2 - الخلابة هي : المخادعة . وقيل : هي الخديعة باللّسان .
والخلابة أعمّ من التّدليس ، لأنّها كما تكون بستر العيب ، قد تكون بالكذب وغيره .
ب - التّلبيس :
3 - التّلبيس من اللّبس ، وهو : اختلاط الأمر . يقال : لبّس عليه الأمر يلبّسه لبساً فالتبس . إذا خلطه عليه حتّى لا يعرف جهته ، والتّلبيس كالتّدليس والتّخليط ، شدّد للمبالغة . والتّلبيس بهذا المعنى أعمّ من التّدليس ، لأنّ التّدليس يكون بإخفاء العيب ، والتّلبيس يكون بإخفاء العيب ، كما يكون بإخفاء صفات أو وقائع أو غيرها ليست صحيحةً .
ج - التّغرير :
4 - وهو من الغرر ، يقال : غرّر بنفسه وماله تغريراً وتغرّةً : عرّضهما للهلكة من غير أن يعرف . ويقال : غرّه يغرّه غرّاً وغروراً وغرّةً : خدعه وأطمعه بالباطل .
والتّغرير في الاصطلاح : إيقاع الشّخص في الغرر ، والغرر : ما انطوت عنك عاقبته .
وعلى هذا يكون التّغرير أعمّ من التّدليس ، لأنّ الغرر قد يكون بإخفاء عيب ، وقد يكون بغير ذلك ممّا تجهل عاقبته .
د - الغِش :
5 - وهو اسم من الغشّ ، مصدر غشَّه : إذا لم يمحّضه النّصح ، وزيّن له غير المصلحة ، أو أظهر له خلاف ما أضمره . وهو أعمّ من التّدليس ، إذ التّدليس خاصّ بكتمان العيب .
الحكم التّكليفيّ :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ التّدليس حرام بالنّصّ في أحاديث كثيرة . فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « البيّعَان بالخيار ما لم يتفرّقا ، فإن صدقا وبيّنا بُورك لهما ، وإن كَذَبا وكَتَما مُحقت بركةُ بيعهما » وقال عليه أفضل الصّلاة والسّلام : « من باع عَيْباً لم يبيّنه لم يزل في مقتِ اللّه ، ولم تزل الملائكة تلعنْهُ » . وقال صلى الله عليه وسلم : « من غشّنا فليس منّا » ولهذا يؤدّب الحاكم المدلّس ، لحقّ اللّه ولحقّ العباد .
التّدليس في المعاملات :
7 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ كلّ تدليس يختلف الثّمن لأجله في المعاملات يثبت به الخيار : كتصرية الشّياه ونحوها قبل بيعها ليظنّ المشتري كثرة اللّبن ، وصبغ المبيع بلون مرغوب فيه ، على اختلاف بين الفقهاء في بعض الصّور .
واستدلّوا لثبوت الخيار بالتّصرية بحديث : « من اشترى شاةً مصرّاةً فهو بخير النّظرين : إن شاء أمسكها ، وإن شاء ردّها وصاعاً من تمر » .
وقيس عليها غيرها ، وهو كلّ فعل من البائع بالمبيع يظنّ المشتري به كمالاً فلا يوجد ، لأنّ الخيار غير منوط بالتّصرية لذاتها ، بل لما فيها من التّلبيس والإيهام .
شرط الرّدّ بالتّدليس :
8 - لا يثبت الخيار بمجرّد التّدليس ، بل يشترط ألاّ يعلم المدلّس عليه بالعيب قبل العقد ، فإن علم فلا خيار له لرضاه به ، كما يشترط ألاّ يكون العيب ظاهراً ، أو ممّا يسهل معرفته . ويثبت خيار التّدليس في كلّ معاوضة ، كما في البيع والإجارة ، وبدل الصّلح عن إقرار ، وبدل الصّلح عن دم العمد .
التّدليس القوليّ :
9 - التّدليس القوليّ كالتّدليس الفعليّ في العقود ، كالكذب في السّعر في بيوع الأمانات ( وهي المرابحة والتّولية والحطيطة ) فيثبت فيها خيار التّدليس .
التّدليس في عقد النّكاح :
10 - ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّه إذا دلّس أحد الزّوجين على الآخر ، بأن كتم عيباً فيه ، يثبت به الخيار ، لم يعلمه المدلّس عليه وقت العقد ، ولا قبله . أو شرط أحدهما في صلب العقد وصفاً من صفات الكمال كإسلام ، وبكارة ، وشباب ، فتخلّف الشّرط : يثبت للمدلَّس عليه والمغرور بخلف المشروط خيار فسخ النّكاح . وقال : أبو حنيفة وأبو يوسف : ليس لواحد من الزّوجين خيار الفسخ لعيب ، فالنّكاح عندهم لا يقبل الفسخ . وقالوا : إنّ فوتَ الاستيفاءِ أصلاً بالموت لا يوجب الفسخ ، فاختلاله بهذه العيوب أولى بألاّ يوجب الفسخ ، ولأنّ الاستيفاء من ثمرات العقد ، والمستحقّ هو التّمكّن ، وهو حاصل . وقال محمّد بن الحسن : لا خيار للزّوج بعيب في المرأة ، ولها هي الخيار بعيب في الزّوج من العيوب الثّلاثة : الجنون ، والجذام ، والبرص فللمرأة الخيار في طلب التّفريق أو البقاء معه ، لأنّه تعذّر عليها الوصول إلى حقّها بمعنًى فيه ، فكان ذلك بمنزلة ما لو وجدته مجبوباً ، أو عنّيناً بخلاف الرّجل ، لأنّه يتمكّن من دفع الضّرر عن نفسه بالطّلاق. والكلام عن العيوب المثبتة للخيار في النّكاح موطنه باب النّكاح .
سقوط المهر بالفسخ :
11 - لا خلاف بين من يقول بالفسخ بالعيوب من الفقهاء في أنّ الفسخ قبل الدّخول ، أو الخلوة الصّحيحة يسقط المهر .
وقالوا : إن كان العيب بالزّوج فهي الفاسخة - أي طالبة الفسخ - فلا شيء لها ، وإن كان العيب بها فسبب الفسخ معنًى وجد فيها ، فكأنّها هي الفاسخة ، لأنّها غارّة ومدلّسة .
وإن كان الفسخ بعد الدّخول ، بأن لم يعلم إلاّ بعده فلها المهر ، لأنّ المهر يجب بالعقد ، ويستقرّ بالدّخول ، فلا يسقط بحادث بعده .
رجوع المغرور على من غرّه :
12 - إن فسخ الزّوج النّكاح بعيب في المرأة بعد الدّخول ، يرجع بالمهر على من غرّه من زوجة أو وكيل أو وليّ ، وإلى هذا ذهب المالكيّة ، والحنابلة ، وقاله الشّافعيّ في القديم للتّدليس عليه بإخفاء العيب المقارن ، وقال الشّافعيّ في الجديد : إنّه لا يرجع بالمهر على من غرّه ، لاستيفائه منفعة البضع المتقوّم عليه بالعقد . أمّا العيب الحادث بعد العقد فلا يرجع جزماً . أمّا هل خيار العيب على التّراخي ؟ وهل يحتاج إلى حكم حاكم ؟ وحكم ولد المغرور ، والتّفصيل في ذلك فيرجع فيه إلى مصطلح : ( تغرير ) ( وفسخ ) .
المغرور بخلف الشّرط :
13 - لو شرط أحد الزّوجين في صلب العقد صفةً من صفات الكمال ، ممّا لا يمنع عدمه صحّة النّكاح كبكارة وشباب وإسلام ، أو نفي عيب لا يثبت به الخيار كألاّ تكون عوراء أو خرساء ، أو شرط ما ليس من صفات الكمال ولا النّقص كطول وبياض وسمرة ، فتخلّف الشّرط ، صحّ النّكاح ، وثبت للمغرور خيار الفسخ . عند الجمهور على خلاف وتفصيل يرجع فيه إلى مصطلح : ( تغرير ، وشرط ) . وقال الحنفيّة : لا يثبت الخيار بخلف الشّرط .
وجاء في فتح القدير : فلو شرط وصفاً مرغوباً فيه كالعذرة ( البكارة ) والجمال ، والرّشاقة ، وصغر السّنّ : فظهرت ثيّباً عجوزاً شوهاء ، ذات شقّ مائل ، ولعاب سائل ، وأنف هائل ، وعقل زائل ، فلا خيار له عند أبي حنيفة وأبي يوسف .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
تأديب المدلّس :
14 - يؤدّب المدلّس بالتّعزير بما يراه الحاكم زاجراً ومؤدّباً .
جاء في مواهب الجليل : قال مالك : من باع شيئاً وبه عيب غرّ به أو دلّسه يعاقب عليه . قال ابن رشد : ممّا لا خلاف فيه أنّ الواجب على من غشّ أخاه المسلم ، أو غرّه ، أو دلّس بعيب : أن يؤدّب على ذلك ، مع الحكم عليه بالرّدّ ، لأنّهما حقّان مختلفان : أحدهما للّه ، ليتناهى النّاس عن حرمات اللّه ، والآخر للمدلّس عليه بالعيب فلا يتداخلان ، وتعزير المدلّس محلّ اتّفاق بين الفقهاء ، ككلّ معصية لا حدّ فيها ولا كفّارة .

تدمية *
التّعريف :
1 - التّدمية لغةً : من دمّيته تدميةً : إذا حزبته حتّى خرج منه دم ، ومثله أدميته. واصطلاحاً : قول المقتول قبل موته : دمي عند فلان ، أو قتلني فلان . وهو اصطلاح المالكيّة وإن كان غيرهم قد تناول هذه المسألة في باب القسامة ولم يسمّها بالتّدمية .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الدّامية :
2 -الدّامية هي : جراحة تضعف الجلد حتّى يرشح منه شيء كالدّم من غير انشقاق الرّأس. وهي من الجراحات العشر الّتي لها أسماء خاصّة ، فهي غير التّدمية الاصطلاحيّة عند المالكيّة ، لكنّها والتّدمية لغةً من باب واحدة .
3 - الإشعار : هو إدماء الهدي من الإبل والبقر بطعن أو رمي أو وجء بحديدة ، ليعلم أنّه هدي فلا يتعرّض له . فالإشعار تدمية لغةً ، وليس كما اصطلح عليه المالكيّة .
الحكم الإجماليّ :
4 - اعتبر المالكيّة ( التّدمية ) من اللّوث الّذي تثبت به القسامة ، إن صدر من حرّ مسلم بالغ عاقل ، إن شهد على قوله عدلان ، واستمرّ على إقراره ، وكان به جرح .
وتسمّى حينئذ التّدمية الحمراء ، وهي إن كان بالمقتول جرح .
وأثر الضّرب أو السّمّ منزّل منزلة الجرح ، والعمل بالتّدمية قول اللّيث .
أمّا غيرهم فقد رأوا أنّ قول المقتول : دمي عند فلان ، دعوى من المقتول والنّاس لا يعطون بدعواهم ، والأيمان لا تثبت الدّعوى ، وإنّما تردّها من المنكر .
ورأى المالكيّة أنّ الشّخص عند موته لا يتجاسر على الكذب في سفك الدّم ، كيف وهو الوقت الّذي يندم فيه النّادم ويقلع فيه الظّالم .
ومدار الأحكام على غلبة الظّنّ ، وأيّدوا ذلك بكون القسامة خمسين يميناً مغلّظةً احتياطاً في الدّماء ، ولأنّ الغالب على القاتل إخفاء القتل على البيّنات ، فاقتضى الاستحسان ذلك .
أمّا التّدمية البيضاء ، فهي الّتي ليس معها جرح ، ولا أثر ضرب ، فالمشهور عند المالكيّة عدم قبولها . فإذا قال الميّت في حال مرضه ، وليس به جرح ، ولا أثر ضرب : قتلني فلان ، أو دمي عند فلان ، فلا يقبل قوله إلاّ بالبيّنة على ذلك .
وتفصيل القول في ذلك في الجنايات ، وفي القسامة .

تديين *
انظر : ديانة .

تذفيف *
التّعريف :
1 - التّذفيف بالذّال وبالدّال في اللّغة : الإجهاز على الجريح ، وهو قتله ، وقال بعضهم : هو الإسراع بقتله ، يقال : ذففت على القتيل : إذا أسرعت في قتله ، ويقال : ذففت على الجريح إذا عجّلت قتله . ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ .
الحكم الإجماليّ :
يختلف حكم التّذفيف باختلاف مواضعه :
أ - التّذفيف في الجهاد :
2 - يجوز التّذفيف على جرحى الكفّار في المعركة ، لأنّ تركهم أحياءً ضرر على المسلمين وتقوية للكفّار ، والتّفصيل في مصطلح : ( جهاد ) .
ب - الإجهاز على جريح البغاة :
3 - اختلف الفقهاء في حكم جرحى البغاة بعد انهزامهم أمام المسلمين وتولّيهم . فقد نصّ الحنفيّة على أنّه إذا كانت لهم فئة فإنّه يجوز قتل مدبرهم والإجهاز على جريحهم ، لئلاّ ينحازوا إلى هذه الفئة ، لاحتمال أن يتجمّعوا ويثيروا الفتنة تارةً أخرى ، فيكرّوا على أهل الإسلام ، وقتلهم إذا كان لهم فئة لا يخرج عن كونه دفعاً ، لأنّه لو لم يذفّف عليهم يتحيّزون إلى الفئة ، ويعود شرّهم كما كان ، وإن لم تكن لهم فئة قائمة يحرم قتل جرحى البغاة . والأصل في ذلك قول عليّ رضي الله عنه يوم الجمل :" لا تتبعوا مدبراً ، ولا تجهزوا على جريح ، ولا تقتلوا أسيراً ، وإيّاكم والنّساء وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم ". وقد حمله الحنفيّة على ما إذا لم تكن للبغاة فئة . ونقل ابن عابدين عن بعض الحنفيّة أنّ جريح البغاة ومدبرهم يختار الإمام ما فيه المصلحة ، تاركاً هوى النّفس والتّشفّي ، وإن وجدت الفئة . ومذهب المالكيّة في جرحى البغاة يعتمد على مدى تيقّن الإمام من التحاقهم بالبغاة ، أو رجوعهم إلى الطّاعة ، فإن أمن الإمام بغيهم لا يجوز له اتّباع منهزمهم ، ولا التّذفيف على جريحهم ، وإن لم يأمن الإمام بغيهم اتّبع منهزمهم ، وذفّف على جريحهم ، حسب مقتضيات مصلحة الحرب لحصول المقصود .
ولم يشترط المالكيّة وجود الفئة الّتي يحتمل التّحيّز إليها ، لأنّ المصلحة هي الأساس عندهم. والتّفصيل في مصطلح : ( بغاة ) .
والشّافعيّة قالوا : إذا كانت لهم فئة بعيدة ينحازون إليها ، ولا يتوقّع في العادة مجيئها إليهم والحرب قائمة ، أو غلب على الظّنّ عدم وصولها إليهم ، لا يجهز على جريحهم لأمن غائلته ، إلاّ إذا كان متحرّفاً لقتال . وأمّا إذا كانت لهم فئة قريبة تسعفهم عادةً ، والحرب قائمة ، فإنّه يجوز اتّباعهم والتّذفيف على جريحهم .
ونصّ الحنابلة على أنّ أهل البغي إذا تركوا القتال بالرّجوع إلى الطّاعة ، أو بإلقاء السّلاح ، أو بالهزيمة إلى فئة ، أو إلى غير فئة ، أو بالعجز لجراح أو مرض ، فلا يجهز على جريحهم ، وبهذا قال بعض الشّافعيّة .
وساق ابن قدامة ، وبعض الشّافعيّة الآثار الواردة في النّهي عن قتل المدبر والإجهاز على الجريح ، ومنها ما روي عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال يوم الجمل : لا يذفّف على جريح . كما روي عن عبد اللّه بن مسعود « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : يا ابن مسعود أتدري ما حكم اللّه فيمن بغى من هذه الأمّة ؟ قال ابن مسعود : اللّه ورسوله أعلم . قال : فإنّ حكم اللّه فيهم أن لا يتبع مدبرهم ، ولا يقتل أسيرهم ، ولا يذفّف على جريحهم » .
ولأنّ قتالهم للدّفع والرّدّ إلى الطّاعة دون القتل ، فلا يجوز فيه القصد إلى القتل من غير حاجة ( ر : بغاة ) .
ج - التّذفيف في الذّبائح :
4 - من صور الذّكاة ما إذا رمى الصّيد ، ثمّ أدركه وبه حياة مستقرّة ، فلا يحلّ إلاّ بتذكيته . أمّا إن أدركه ولم يبق به إلاّ حركة المذبوح ، فذهب الجمهور إلى أنّه يحلّ ولو لم يذفّف عليه ، لأنّ حركة المذبوح لا تعتبر حياةً عندهم ، وذهب أبو حنيفة - فيما نقل عنه الجصّاص - إلى أنّه لا يحلّ ما لم يذفّف عليه بالتّذكية ، لأنّه يعتبر حركة المذبوح حياةً . والنّقل الرّاجح عن أبي حنيفة أنّه يوافق الجمهور . وينظر التّفصيل في مصطلح : ( صيد ) ( وذبائح ) .

تذكّر *
التّعريف :
1 - التّذكير والتّذكّر : من مادّة ذَكَرَ ، ضدّ نَسِيَ ، يقال : ذكرت الشّيء بعد نسيان ، وذكرته بلساني ، وقلبي ، وتذكّرته ، وأذكرته غيري ، وذكّرته تذكيراً .
وهو في الاصطلاح الشّرعيّ لا يخرج عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - السّهو :
2 - السّهو في اللّغة : نسيان الشّيء والغفلة عنه وذهاب القلب إلى غيره ، فالسّهو عن الصّلاة : الغفلة عن شيء منها ، قال ابن الأثير : السّهو من الشّيء : تركه عن غير علم ، والسّهو عنه : تركه مع العلم ، ومنه قوله تعالى : { الّذينَ هم عن صَلاتِهم سَاهُون } . واصطلاحاً ، قال صاحب المواقف : السّهو زوال الصّورة عن المدركة مع بقائها في الحافظة ، وقيل : هو الذّهول عن الشّيء ، بحيث لو نبّه له أدنى تنبيه لتنبّه .
وفي المصباح : إنّ السّهو لو نبّه صاحبه لم يتنبّه .
ب - النّسيان :
3 - النّسيان : ضدّ الذّكر والحفظ ، يقال : نسيه نسياً ، ونسياناً ، وهو ترك الشّيء عن ذهول وغفلة ، ويطلق مجازاً على التّرك عن عمد ، ومنه قوله تعالى :{ نسوا اللّه فنسيهم } أي تركوا أمر اللّه فحرمهم رحمته . ويقال : رجل نسيان أي : كثير النّسيان والغفلة . واصطلاحاً : هو الذّهول عن الشّيء ، لكن لا يتنبّه له بأدنى تنبيه ، لكون الشّيء قد زال من المدركة والحافظة معاً ، فيحتاج إلى سبب جديد .
الحكم الإجماليّ :
تذكّر المصلّي لصلاته بعد الأكل فيها :
4 - قال الحنابلة والمالكيّة : لا تبطل صلاة من أكل ناسياً وإن كثر ، واستدلّوا بحديث : « إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ ، والنّسيان ، وما استكرهوا عليه » . وذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا أكل في الصّلاة ناسياً بطلت صلاته ، وإن قلّ . وفرّق الشّافعيّة بين القليل والكثير ، فإن كان ناسياً فلا تبطل صلاته إذا كان قليلاً . وينظر تفصيل ذلك في : ( صلاة ) ( ونسيان ) .
سهو الإمام :
5 - قال الحنفيّة : إذا أخبره عدلان بعدم الإتمام لا يعتبر شكّه ، وعليه الأخذ بقولهم . أمّا إذا أخبره عدل في صلاة رباعيّة مثلاً أنّه ما صلّى أربعاً ، وشكّ في صدقه وكذبه أعاد احتياطاً . أمّا إذا كذّبه ، فلا يعيد . وإن اختلف الإمام والقوم فإن كان على يقين لم يعد ، وإلاّ أعاد بقولهم . وقال المالكيّة : إذا أخبرته جماعة مستفيضة ، يفيد خبرهم العلم الضّروريّ بتمام صلاته أو نقصها ، فإنّه يجب عليه الرّجوع لخبرهم ، سواء كانوا من مأموميه أو من غيرهم ، وإن تيقّن كذبهم . وإن أخبره عدلان فأكثر فإنّه يعمل بالخبر إن لم يتيقّن خلاف ذلك ، وكانا من مأموميه . فإن لم يكونا من مأموميه فلا يرجع لخبرهما ، بل يعمل على يقينه .
أمّا المنفرد والمأموم فلا يرجعان لخبر العدلين ، وإن أخبر الإمام واحد ، فإن أخبر بالتّمام فلا يرجع لخبره ، بل يبني على يقين نفسه ، أمّا إذا أخبره بالنّقص رجع لخبره .
وقال الشّافعيّة : إنّ الإمام إذا شكّ هل صلّى ثلاثاً أو أربعاً ؟ أخذ بالأقلّ ، ولا يعمل بتذكير غيره ، ولو كانوا جمعاً غفيراً كانوا يرقبون صلاته . ولا فرق عندهم بين أن يكون التّذكير من المأمومين أو من غيرهم . واستدلّوا بخبر : « إذا شكّ أحدُكم في صلاته فلم يَدْرِ أصلّى ثلاثاً أم أربعاً ؟ فليطرح الشّكّ ، ولْيَبنِ على ما استيقن » . وقد أجابوا عن المراجعة بين الرّسول صلى الله عليه وسلم والصّحابة ، وعوده للصّلاة في خبر ذي اليدين ، بأنّه لم يكن من باب الرّجوع إلى قول الغير ، وإنّما هو محمول على تذكّره بعد مراجعته لهم ، أو لأنّهم بلغوا حدّ التّواتر الّذي يفيد اليقين ، أي العلم الضّروريّ ، فرجع إليهم .
وذهب الحنابلة إلى أنّه : إذا سبّح اثنان يثق بقولهما لتذكيره ، لزمه القبول والرّجوع لخبرهما ، سواء غلب على ظنّه صوابهما أو خلافه . وقالوا : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : رجع إلى قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في حديث « ذي اليدين لمّا سألهما : أحقّ ما قال ذو اليدين ؟ فقالا : نعم » مع أنّه كان شاكّاً فيما قاله ذو اليدين بدليل أنّه أنكره ، وسألهما عن صحّة قوله ، ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالتّسبيح ليذكّروا الإمام ، ويعمل بقولهم . ولحديث ابن مسعود رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : صلّى فزاد أو نقص ... » الحديث ، وفيه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكّروني » .
وإن سبّح واحد لتذكيره لم يرجع إلى قوله ، إلاّ أن يغلب على ظنّه صدقه ، فيعمل بغالب ظنّه ، لا بتسبيح الغير ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقبل قول ذي اليدين وحده .
وإن ذكّره فَسَقَةٌ بالتّسبيح لم يرجع إلى قولهم ، لأنّ قولهم غير مقبول في أحكام الشّرع .
تذكّر الصّائم لصومه وهو يأكل :
6 - يرى جمهور الفقهاء أنّ من أكل أو شرب وهو صائم ، ثمّ تذكّر وأمسك لم يفطر ، لما روى أبو هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من أكل ناسياً وهو صائم ، فليتمّ صومه ، فإنّما أطعمه اللّه وسقاه » . وفي رواية أخرى : « من أكل أو شرب ناسياً فلا يفطر ، فإنّما هو رزق رزقه اللّه » .
وقال عليّ رضي الله عنه : لا شيء على من أكل ناسياً وهو صائم .
ولأنّ الصّوم عبادة ذات تحريم وتحليل ، فكان من محظوراته ما يخالف عمده سهوه كالصّلاة ، وهو قول أبي هريرة وابن عمر ، وطاووس والأوزاعيّ والثّوريّ وإسحاق .
وقال بعض الفقهاء : يشترط أن يكون الأكل أو الشّرب قليلاً ، فإن كان كثيراً أفطر .
وعند المالكيّة : إن أكل أو شرب ناسياً فقد أفطر ، وينظر التّفصيل في مصطلح : ( صوم ) .
تذكّر القاضي لحكم قضاه :
7 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ القاضي إذا رأى خطأً في حكمه ، لم يعتمد عليه في إمضاء الحكم حتّى يتذكّر ، لأنّه حكم حاكم لم يعلمه ، ولأنّه يجوز فيه التّزوير عليه وعلى ختمه ، فلم يجز إنفاذه إلاّ ببيّنة كحكم غيره .
وإلى هذا ذهب الإمام : أبو حنيفة والشّافعيّ وأحمد في إحدى روايتين عنه .
وفي رواية عن أحمد : إذا كان الحكم عنده ، وتحت يده جاز الاعتماد عليه ، لأنّه في هذه الحالة لا يحتمل التّغيير فيه ، وأجاز أبو يوسف ومحمّد بن الحسن العمل بالخطّ إذا عرف أنّه خطّه ، ولو لم يتذكّر الحادثة ، وإن لم يكن الخطّ بيده ، لأنّ الغلط نادر في مثل ذلك ، وأثر التّغيير يمكن الاطّلاع عليه ، وقلّما يتشابه الخطّ من كلّ وجه ، فإذا تيقّن أنّه خطّه جاز الاعتماد عليه ، توسعةً على النّاس .
أمّا إذا شهد عدلان عند القاضي : بأنّ هذا حكمه ولم يتذكّر ، فقد اختلف الفقهاء في العمل بقولهما : فقال المالكيّة وأحمد ومحمّد بن الحسن : يلزمه العمل بذلك وإمضاء الحكم .
وقالوا : إنّه لو شهدا عنده بحكم غيره قبل ، فكذلك يقبل إذا شهدا عنده بحكم نفسه . ولأنّهما شهدا بحكم حاكم ، فيجب قبول شهادتهما .وقال الشّافعيّة : إنّه لا يعمل بقولهما حتّى يتذكّر.
تذكّر الشّاهد الشّهادة وعدمه :
8 - إذا رأى الشّاهد بخطّه شهادةً أدّاها عند حاكم ، ولم يتذكّر الحادثة ، فعند المالكيّة والشّافعيّة ، وهي إحدى روايتين عن أحمد : لم يشهد على مضمونها حتّى يتذكّر ، وإن كان الكتاب محفوظاً عنده لإمكان التّزوير .
وفي رواية أخرى عن أحمد : أنّه إذا عرف خطّه شهد به ،وهو رأي أبي يوسف من الحنفيّة.
تذكّر الرّاوي للحديث وعدمه :
9 - أمّا رواية الحديث ، فإنّه يجوز للشّخص أن يروي مضمون خطّه اعتماداً على الخطّ المحفوظ عنده ، لعمل العلماء به سلفاً وخلفاً . وقد يتساهل في الرّواية ، لأنّها تقبل من المرأة والعبد ، بخلاف الشّهادة . هذا عند الشّافعيّة .
وقال الإمام أبو حنيفة : لا يعمل بها لمشابهة الخطّ بالخطّ ، وخالفه صاحباه .

تذكير *
انظر : تذكّر .

تذكية *
التّعريف :
1 - التّذكية في اللّغة : مصدر ذكّى ، والاسم ( الذّكاة ) ومعناها : إتمام الشّيء والذّبح . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : « ذكاة الجنين ذكاة أمّه » .
وفي الاصطلاح : هي السّبب الموصّل لحلّ أكل الحيوان البرّيّ اختياراً .
هذا تعريف الجمهور ، ويعرف عند الحنفيّة : بأنّه السّبيل الشّرعيّة لبقاء طهارة الحيوان ، وحلّ أكله إن كان مأكولاً ، وحلّ الانتفاع بجلده وشعره إن كان غير مأكول .
أنواع التّذكية :
التّذكية لفظ عامّ ، يشمل : الذّبح ، والنّحر ، والعقر ، والصّيد ، ولكلّ موطنه على النّحو التّالي :
أ - الذّبح :
2 - الذّبح لغةً : الشّقّ . وعند الفقهاء : قطع الحلقوم من باطن عن المفصل بين العنق والرّأس . ويستعمل في ذكاة الاختيار ، فهو أخصّ من التّذكية ، حيث إنّها تشمل ذكاة الاختيار والاضطرار .
ب - النّحر :
3 - نحر البعير : طعنه في منحره حيث يبدأ الحلقوم من أعلى الصّدر ، قال في المغني : معنى النّحر أن يضرب البعير بالحربة أو نحوها في الوهدة الّتي بين أصل عنقها وصدرها . فهو قطع العروق في أسفل العنق عند الصّدر ، وبهذا يفترق عن الذّبح ، لأنّ القطع في أعلى العنق . والنّحر نوع آخر من أنواع التّذكية الاختياريّة .
ج - العقر :
4 - العقر : هو الجرح .
ويستعمله الفقهاء في : تذكية حيوان غير مقدورعليه بالطّعن في أيّ موضع وقع من البدن. وبهذا يختلف عن الذّبح والنّحر ، لأنّهما تذكية اختياراً ، والعقر تذكية ضرورةً .
د - الصّيد :
5 - الصّيد : هو إزهاق روح الحيوان البرّيّ المتوحّش، بإرسال نحو سهم أو كلب أو صقر.
الحكم الإجماليّ :
6 - التّذكية سبب لإباحة أكل لحم الحيوان غير المحرّم والّذي من شأنه الذّبح ، سواء أكانت بالذّبح أم النّحر أم العقر . أمّا ما ليس من شأنه الذّبح كالسّمك والجراد فيحلّان بلا ذكاة . ويشترط في المذكّي عند الفقهاء : أن يكون مسلماً أو كتابيّاً ، كما يشترط عند الجمهور : -الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وهو رواية عند الشّافعيّة - : أن يكون المذكّي مميّزاً ، ليعقل التّسمية والذّبح . وفي الأظهر عند الشّافعيّة : لا يشترط التّمييز .
7- وجمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - على أنّه تشترط التّسمية وقت التّذكية إلاّ إذا نسيها . وقال الشّافعيّة باستحباب التّسمية وقت التّذكية .
ويحلّ الذّبح بكلّ محدّد يجرح ، كحديد ونحاس وذهب وخشب وحجر وزجاج ، ولا يجوز بالسّنّ والظّفر القائمين اتّفاقاً .
أمّا إذا كانا منفصلين ففيه خلاف ، وتفصيله في مصطلح : ( ذبائح ) .
مواطن البحث :
8 - ذكر الفقهاء أحكام التّذكية في أبواب الصّيد والذّبائح والأضحيّة ، وذكر المالكيّة أحكامها في باب الذّكاة .

تراب *
التّعريف :
1 - التّراب : ما نعم من أديم الأرض . بهذا عرّفه المعجم الوسيط ، وهو اسم جنس ، وقال المبرّد : هو جمع واحده ترابة ، وجمعه أتربة وتربان ، وتربة الأرض : ظاهرها .
وأتربت الشّيء : وضعت عليه التّراب ، وترّبته تتريباً فتترّب : أي تلطّخ بالتّراب . ويقال : تَرِب الرّجل : إذا افتقر ، كأنّه لصق بالتّراب ، وفي الحديث : « فاظْفَرْ بذاتِ الدّينِ تَرِبَتْ يَداك » وليس المراد به الدّعاء ، بل الحثّ والتّحريض . ويقال : أترب الرّجل : أي استغنى ، كأنّه صار له من المال بقدر التّراب .
وفي المصطلحات العلميّة والفنّيّة : أنّه جزء الأرض السّطحيّ المتجانس التّركيب ، أو الّذي تتناوله آلات الحراثة .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ . ويفهم من كلام الفقهاء في باب التّيمّم أنّ الرّمل ونحاتة الصّخر ليسا من التّراب ، وإن أعطيا حكمه في بعض المذاهب .
الألفاظ ذات الصّلة :
الصّعيد :
2 - الصّعيد : وجه الأرض تراباً كان أو غيره ، قال الزّجّاج : ولا أعلم اختلافاً بين أهل اللّغة في ذلك . وعلى هذا يكون الصّعيد أعمّ من التّراب .
الحكم التّكليفيّ :
أ - في التّيمّم :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّ التّيمّم يصحّ بكلّ تراب طاهر فيه غبار يعلق باليد ، لقوله تعالى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّبَاً فَامْسَحُوا بِوجُوهِكم وأَيدِيْكم منه } ولقوله صلى الله عليه وسلم :
« أُعطيتُ خَمْسَاً لم يُعْطَهنّ أحدٌ قبلي : كان كلّ نبيّ يُبعث إلى قومه خاصّةً ، وبُعثتُ إلى كلّ أحمرَ وأسودَ ، وأُحلَّتْ لي الغنائمُ ولم تَحِلَّ لأحد قَبْلي ، وجُعلتْ لي الأرضُ طيّبةً طهوراً ومسجداً ، فأيّما رجلٍ أدركته الصّلاة صلّى حيث كان ، ونُصرتُ بالرُّعْب بين يديّ مسيرة شهر ، وأعطيتُ الشّفاعةَ » . واختلفوا في صحّة التّيمّم بما عدا التّراب ، كالنّورة والحجارة والرّمل والحصى والطّين الرّطب والحائط المجصّص ، وغير ذلك ممّا هو من جنس الأرض : فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى صحّة التّيمّم بهذه الأشياء المذكورة . ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّ التّيمّم لا يصحّ إلاّ بالتّراب الطّاهر ذي الغبار العالق . وكذا يصحّ برمل فيه غبار عند الشّافعيّة ، وفي قول القاضي من الحنابلة . والتّفاصيل يرجع إليها في مصطلح ( تيمّم ) .
ب - في إزالة النّجاسة :
4 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ ما نجس بملاقاة شيء ، من كلب أو خنزير أو ما تولّد منهما أو من أحدهما ، يغسل سبع مرّات : إحداهنّ بالتّراب . سواء كان ذلك لعابه أو بوله أو سائر رطوباته أو أجزاءه الجافّة إذا لاقت رطباً ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
« طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرّات ، أولاهنّ بالتّراب » وفي رواية : « أُخراهنّ بالتّراب » وفي أخرى { وعفّروه الثّامنةَ بالتّراب } وألحق الخنزير بالكلب لأنّه أسوأ حالاً . ولهذا قال اللّه تعالى في حقّه : { أو لحمَ خنزيرٍ فإنَّه رِجْسٌ } .
وروي عن الإمام أحمد روايةً أخرى بوجوب غسل نجاسة الكلب والخنزير ثماني مرّات إحداهنّ بالتّراب ، وإلى هذا ذهب الحسن البصريّ ، لقوله صلى الله عليه وسلم في بعض روايات الحديث : « وعفّروه الثّامنةَ بالتّراب » ويشترط أن يعمّ التّراب المحلّ ، وأن يكون طاهراً ، وأن يكون قدراً يكدّر الماء ، ويكتفي بوجود التّراب في واحدة من الغسلات السّبع ، ولكن يستحبّ أن يكون في غير الأخيرة ، وجعله في الأولى أولى .
والأظهر تعيّن التّراب جمعاً بين نوعي الطّهور . فلا يكفي غيره ، كأشنان وصابون .
ومقابله أنّه لا يتعيّن التّراب . ويقوم ما ذكر ونحوه مقامه .
وهناك رأي ثالث : بأنّه يقوم مقام التّراب عند فقده للضّرورة ، ولا يقوم عند وجوده .
وفي قول رابع : أنّه يقوم مقامه فيما يفسده التّراب ، كالثّياب دون ما لا يفسده .
ويرى بعض الشّافعيّة : أنّ الخنزير ليس كالكلب ، بل يكفي لإزالة نجاسته غسلة واحدة من دون تراب ، كغيره من النّجاسات الأخرى ، لأنّ الوارد في التّتريب إنّما هو في الكلب فقط . أمّا الحنفيّة والمالكيّة : فيرون الاكتفاء بغسل ما ولغ الكلب فيه من الأواني من غير تتريب ، وحجّتهم في ذلك أنّ روايات التّتريب في الحديث مضطربة حيث وردت بلفظ : « إحداهنّ » ، في رواية ، وفي أخرى بلفظ : « أولاهنّ » ، وفي ثالثة بلفظ : « أخراهنّ » ، وفي رابعة :
« السّابعة بالتّراب » ، وفي خامسة « وعفّروه الثّامنة بالتّراب » ، والاضطراب قادح فيجب طرحها . ثمّ إنّ ذكر التّراب لم يثبت في كلّ الرّوايات .
والتّفاصيل يرجع إليها في مصطلح : ( نجاسة ، وطهارة ، وصيد ، وكلب ) .
5- ويرى جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة ، وهو رواية عن الإمام أحمد أنّ الخفّ والنّعل إذا أصابتهما نجاسة لها جرم كالرّوث فمسحهما بالتّراب يطهّرهما .
واستدلّوا لذلك بما رواه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه : { أنّه صلى الله عليه وسلم صلّى يوماً ، فخلع نعليه في الصّلاة ، فخلع القوم نعالهم ، فلمّا فرغ سألهم عن ذلك ، فقالوا : رأيناك خلعت نعليك ، فقال عليه الصلاة والسلام : أتاني جبريل عليه السلام وأخبرني أنّ بهما أذًى فخلعتهما ، ثمّ قال : إذا أتى أحدكم المسجد فليقلّب نعليه ، فإن كان بهما أذًى فليمسحهما بالأرض ، فإنّ الأرض لهما طهور } .
وأمّا ما لا جرم له من النّجاسة كالبول ففيه تفصيل ينظر في مصطلح : ( نجاسة ) ،( وقضاء الحاجة ) . أمّا الشّافعيّة ، وهو الرّاجح عند الحنابلة ، فيرون أنّ التّراب لا يطهّر الخفّ أو النّعل ، وأنّه يجب غسلهما إذا أريد تطهيرهما .
ج - في الصّوم :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ أكل التّراب والحصاة ونحوهما عمداً يبطل الصّوم ، وكذلك إذا وصل إلى الجوف عن طريق الأنف أو الأذن أو نحوهما عمداً ، لأنّ الصّوم هو الإمساك عن كلّ ما يصل إلى الجوف ، وفي وجوب الكفّارة في هذه الحالة عند الحنفيّة والمالكيّة خلاف وتفصيل ينظر في مبحث ( كفّارة ) .
أمّا الغبار الّذي يصل إلى الجوف عن طريق الأنف أو نحوه بصورة غير مقصودة فلا يفطر باتّفاق العلماء لمشقّة الاحتراز عنه . ويرى بعض الشّافعيّة : أنّ الصّائم لو فتح فاه عمداً حتّى دخل التّراب جوفه لم يفطر لأنّه معفوّ عن جنسه . والتّفاصيل في مصطلح : ( صوم ) .
د - في البيع :
7 - يرى جمهور الفقهاء من المالكيّة والحنابلة وهو الأظهر عند الشّافعيّة - أنّ بيع التّراب ممّن حازه جائز لظهور المنفعة فيه .
ويرى الحنفيّة ، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة : أنّه لا يجوز بيع التّراب لأنّه ليس بمال ولا مرغوب فيه ، ولأنّه يمكن تحصيل مثله بلا تعب ولا مؤنة . لكنّ الحنفيّة قيّدوه بأن لا يعرض له ما يصير به مالاً معتبراً كالنّقل والخلط بغيره . والتّفاصيل في مصطلح : ( بيع ) .
هـ - في الأكل :
8 - ذهب الشّافعيّة إلى حرمة أكل التّراب لمن يضرّه ، وإلى هذا ذهب المالكيّة في الرّاجح عندهم .
ويرى الحنفيّة والحنابلة وبعض المالكيّة كراهة أكله . والتّفاصيل في مصطلح : ( أطعمة ) .

تراب الصّاغة *
التّعريف :
1 - تراب الصّاغة : مركّب إضافيّ يتكوّن من كلمتين ، وهما ، تراب : والصّاغة . أمّا التّراب : فهو اسم جنس ، ويجمع على أتربة وتربان ، وتربة الأرض ظاهرها .
وأمّا الصّاغة : فهي جمع صائغ ، وهو الّذي حرفته الصّياغة ، وهي جعل الذّهب حليّاً .
يقال : صاغ الذّهب : إذا جعله حليّاً ، وصاغ اللّه فلاناً صيغةً حسنةً : خلقه .
وصاغ الشّيء : هيّأه على مثال مستقيم .
وتراب الصّاغة - كما عرفه المالكيّة - هو الرّماد الّذي يوجد في حوانيتهم ولا يدرى ما فيه.
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّبر :
2 - من معاني التّبر في اللّغة : ما كان من الذّهب غير مضروب ، فإذا ضرب دنانير فهو عين . ولا يقال تبر إلاّ للذّهب ، وبعضهم يقوله للفضّة أيضاً ، وقد يطلق التّبر على غير الذّهب والفضّة من المعدنيّات .
وفي اصطلاح الفقهاء ، عرّفه المالكيّة بأنّه : الذّهب غير المضروب .
وعرّفه الشّافعيّة بأنّه : اسم للذّهب والفضّة قبل ضربهما ، أو للذّهب فقط ، والمراد الأعمّ .
ب - تراب المعادن :
3 - أمّا التّراب فقد سبق بيان معناه ، وأمّا المعادن فهي : جمع معدن بكسر الدّال ، والمعدن - كما قال اللّيث : مكان كلّ شيء يكون فيه أصله ومبدؤه كمعدن الذّهب والفضّة .
وأمّا عند الفقهاء ، فهو كما عرّفه الزّيلعيّ : اسم لما يكون في الأرض خلقةً ، بخلاف الرّكاز والكنز ، إذ الكنز اسم لمدفون العباد ، والرّكاز اسم لما يكون في الأرض خلقةً ، أو بدفن العباد . وقال الرّمليّ الشّافعيّ : إنّ المعدن له إطلاقان : أحدهما على المستخرج ، والآخر على المخرج منه . هذا ، والفرق بين تراب المعدن وتراب الصّاغة - كما يفهم من كلام المالكيّة - أنّ تراب المعدن : هو ما يتساقط من جوهر المعدن نفسه ، دون اختلاط بجوهر آخر . أمّا تراب الصّاغة فهو المتساقط من المعدن مختلطاً بالتّراب أو الرّمل أو نحوهما .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الحكم الإجماليّ :
4 - تراب الصّاغة : إمّا أن يكون ما فيه من الذّهب أو الفضّة مجهولاً أو معلوماً ، وإمّا أن يكون من جنس واحد أو أكثر من جنس ، وإمّا أن يصفّى ويميّز ما فيه من الذّهب أو الفضّة أو لا . قال الحنفيّة : إن اشترى تراب الفضّة بفضّة لا يجوز ، لأنّه إن لم يظهر في التّراب شيء فظاهر ، وإن ظهر فهو بيع الفضّة بالفضّة مجازفةً ، ولهذا لو اشتراه بتراب فضّة لا يجوز ، لأنّ البدلين هما الفضّة لا التّراب . ولو اشتراه بتراب ذهب أو بذهب جاز ، لعدم لزوم العلم بالمماثلة ، لاختلاف الجنس ، فلو ظهر أن لا شيء في التّراب لا يجوز .
وكلّ ما جاز فمشتري التّراب بالخيار إذا رأى ، لأنّه اشترى ما لم يره .
وهو أيضاً قول الحنابلة في تراب الصّاغة ، إذ لا يجوز عندهم بيعه بشيء من جنسه ، لأنّه مال رباً بيع بجنسه على وجه لا تعلم فيه المماثلة .
ولا يجوز عند المالكيّة بيع تراب الصّاغة لشدّة الغرر فيه ، وإن وقع فسخ .
وأمّا الشّافعيّة فلا يجوز عندهم بيع تراب الصّاغة قبل تصفيته وتمييز الذّهب أو الفضّة منه ، سواء أباعه بذهب أم بفضّة أم بغيرهما ، لأنّ المقصود مجهول أو مستور بما لا مصلحة له فيه في العادة ، فلم يصحّ بيعه فيه كبيع اللّحم في الجلد بعد الذّبح وقبل السّلخ .

تراب المعادن *
التّعريف :
1 - تراب المعادن : مركّب إضافيّ ، أمّا التّراب : فهو ظاهر الأرض ، وهو اسم جنس . وأمّا المعادن : فهي جمع معدن - بكسر الدّال - وهو كما قال اللّيث : مكان كلّ شيء يكون فيه أصله ومبدؤه كمعدن الذّهب والفضّة .
وأمّا عند الفقهاء فهو ، كما عرّفه الزّيلعيّ وابن عابدين : اسم لما يكون في الأرض خلقةً . وقال الرّمليّ الشّافعيّ : إنّ المعدن له إطلاقان : أحدهما على المستخرج ، والآخر على المخرج منه .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - تراب الصّاغة :
2 - وهو - كما عرّفه المالكيّة - الرّماد الّذي يوجد في حوانيت الصّاغة ،ولا يدرى ما فيه. والفرق بين تراب الصّاغة وتراب المعدن ، هو أنّ تراب الصّاغة هو المتساقط من المعدن مختلطاً بتراب أو رمل أو نحوهما ، أمّا تراب المعدن فهو ما يتساقط من جوهر المعدن نفسه دون أن يختلط بجوهر آخر .
ب - الكنز :
3 - هو في الأصل مصدر كنز ، ومعناه في اللّغة : جمع المال وادّخاره ، وجمع التّمر في وعائه ، والكنز أيضاً : المال المدفون تسميةً بالمصدر ، والجمع كنوز كفلس وفلوس .
وأمّا عند الفقهاء فهو : اسم لمدفون العباد .
ج - الرِّكاز :
4 - الرّكاز معناه في اللّغة : المال المدفون في الجاهليّة ، وهو على وزن فعال ، بمعنى مفعول كالبساط بمعنى المبسوط ، ويقال هو المعدن .
وأمّا عند الفقهاء فهو : اسم لما يكون تحت الأرض خلقةً أو بدفن العباد . فالرّكاز بهذا المعنى أعمّ من المعدن والكنز ، فكان حقيقةً فيهما مشتركاً معنويّاً ، وليس خاصّاً بالدّفين . وقيّده الشّافعيّة بكونه دفين الجاهليّة .
أنواع المعادن :
5 - للمعادن أنواع ثلاثة :
- أ - جامد يذوب وينطبع ، كالذّهب والفضّة والحديد والرّصاص والصّفر .
- ب - جامد لا يذوب ، كالجصّ والنّورة ، والكحل والزّرنيخ .
- ج - مائع لا يتجمّد ، كالماء والقير والنّفط .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
ذكر الفقهاء الأحكام الخاصّة بتراب المعادن في مواطن نجملها فيما يلي :
أ - تغيّر الماء بتراب المعادن :
6 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ تغيّر الماء المطلق بتراب المعدن لا يضرّ ، ويجوز التّطهّر به ، لأنّه تغيّر بما هو من أجزاء الأرض . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى : أنّ الماء المتغيّر بما لا يمكن صونه عنه من تراب المعادن ، بأن يكون في مقرّه أو ممرّه لا يمنع التّطهّر به ، ولا يكره استعماله فيه . والتّفصيل في مصطلح : ( مياه ) .
ب - حكم التّيمّم بتراب المعادن :
7 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى : أنّه لا يصحّ التّيمّم إلاّ بتراب طاهر ، أو برمل فيه غبار يعلق باليد ، وأمّا ما لا غبار له كالصّخر وسائر المعادن فلا يصحّ التّيمّم بها ، لأنّها ليست في معنى التّراب . ويجوز عند أبي حنيفة التّيمّم بكلّ ما لا ينطبع ولا يلين من المعادن ، كالجصّ والنّورة والكحل والزّرنيخ ، سواء التصق على يده شيء منها أو لم يلتصق .
وأمّا المعادن الّتي تلين وتنطبع ، كالحديد والنّحاس والذّهب والفضّة ، فلا يجوز التّيمّم بها إلاّ في محالّها ، بشرط أن يغلب عليها التّراب ، لأنّ التّيمّم حينئذ يكون بالتّراب لا بها ، ولأنّها ليست من جنس الأرض .
وأمّا عند أبي يوسف : فلا يجوز التّيمّم إلاّ بالتّراب والرّمل في رواية ، أو بالتّراب فقط في رواية أخرى . ويجوز عند المالكيّة التّيمّم بالمعادن المنطبعة وغير المنطبعة ما لم تنقل من محالّها ، لأنّها من أجزاء الأرض باستثناء معدن النّقدين ، وهما : تبر الذّهب ونقار الفضّة . والجواهر النّفيسة كالياقوت واللّؤلؤ والزّمرّد والمرجان ممّا لا يقع به التّواضع للّه . والتّفصيل في مصطلح : ( تيمّم ) .
ج - زكاة تراب المعادن :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ الزّكاة تجب في معدني : الذّهب والفضّة . أمّا غيرهما من المعادن ، ففي وجوب الزّكاة فيه ووقت وجوبها ، تفصيل ينظر في مصطلح : ( زكاة ) .
د - بيع بعضه ببعض :
9 - تراب المعادن : إمّا أن يكون من صنف واحد ، وإمّا أن يكون من أصناف متعدّدة ، وإمّا أن يصفّى ويميّز ما فيه أو لا . فإن كان من صنف واحد ، فلا يجوز بيع بعضه ببعض ، كتراب ذهب بتراب ذهب عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة للجهل بالمماثلة .
وإن كان من أصناف كتراب ذهب بتراب فضّة ، فإنّه يجوز بيعه عند الحنفيّة والمالكيّة لخفّة الغرر فيه ، ولعدم لزوم العلم بالمماثلة ، ويكره بيعه عند الحنابلة لأنّه مجهول .
وأمّا الشّافعيّة : فلا يجوز عندهم بيع تراب المعدن قبل تصفيته وتمييز الذّهب والفضّة منه ، سواء أباعه بذهب أم بفضّة أم بغيرهما ، لأنّ المقصود النّقد وهو مجهول أو مستور بما لا مصلحة له فيه في العادة ، فلم يصحّ بيعه فيه ، كبيع اللّحم في الجلد بعد الذّبح وقبل السّلخ . والتّفصيل في مصطلح : ( بيع ) ( ورباً ) ( وصرف ) .

تراخي *
التّعريف :
1- التّراخي : مصدر تراخى ، ومعناه في اللّغة : التّقاعد عن الشّيء والتّقاعس عنه . وتراخى الأمر تراخياً : امتدّ زمانه ، وفي الأمر تراخ أي : فسحة .
ومعنى التّراخي في الاصطلاح : كون الأداء متأخّراً عن أوّل وقت الإمكان إلى مظنّة الفوت . وعلى ذلك لا يخرج معناه الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
الفور :
2 - يطلق الفور في اللّغة على : الوقت الحاضر الّذي لا تأخير فيه ، وهو مأخوذ من قولهم : فار الماء يفور فوراً أي : نبع وجرى ، ثمّ استعمل في الحالة الّتي لا بطء فيها .
يقال : جاء فلان في حاجته ، ثمّ رجع من فوره أي : من حركته الّتي وصل فيها ولم يسكن بعدها ، وحقيقته : أن يصل ما بعد المجيء بما قبله من غير لُبْث .
ومعنى الفور في الاصطلاح : كون الأداء في أوّل أوقات الإمكان .
والفرق بينه وبين التّراخي : أنّ الفور ضدّ التّراخي .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
تبحث الأحكام الخاصّة بالتّراخي في عدد من المواضع عند الأصوليّين والفقهاء توجز فيما يلي :
أوّلاً : مواضعه عند الأصوليّين :
ذكر الأصوليّون التّراخي في مواضع وهي :
أ - الأمر :
3 - اختلف الأصوليّون في الأمر المطلق الّذي لم يقيّد بوقت محدّد أو معيّن ، سواء أكان موسّعاً أو مضيّقاً ، والخالي عن قرينة تدلّ على أنّه للتّكرار أو للمرّة : هل يفيد الفور ، أو التّراخي ، أو غيرهما ؟ فالقائلون بأنّ الأمر المطلق يقتضي التّكرار يقولون : بأنّه يقتضي الفور ، لأنّه يلزم من القول بالتّكرار استغراق الأوقات بالفعل المأمور به .
وأمّا القائلون بأنّه للمرّة ، فقد اختلفوا في ذلك على أربعة أقوال :
الأوّل : إنّه يكون لمجرّد الطّلب ، وهو القدر المشترك بين الفور والتّراخي ، فيجوز التّأخير على وجه لا يفوت المأمور به ، وهذا هو الصّحيح عند الحنفيّة ، وهو مذهب الشّافعيّ وأصحابه ، واختاره الرّازيّ والآمديّ وابن الحاجب والبيضاويّ .
الثّاني : أنّه يوجب الفور ، فيأثم بالتّأخير ، وهو مذهب المالكيّة والحنابلة ، والكرخيّ من الحنفيّة ، وبعض الشّافعيّة .
الثّالث : أنّه يفيد التّراخي جوازاً ، فلا يثبت حكم وجوب الأداء على الفور بمطلق الأمر ، وقد ذكر هذا القول البيضاويّ ونسبه لقوم ، واختاره السّرخسيّ في أصوله .
الرّابع : أنّه مشترك بين الفور والتّراخي ، وهو رأي القائلين بالتّوقّف في دلالته ، فإنّهم لم يحملوه على الفور ولا على التّراخي ، وإنّما توقّفوا فيه . وتوقّف فيه أيضاً الجوينيّ ، كما جاء في إرشاد الفحول ، فقد ذكر أنّ الأمر باعتبار اللّغة لا يفيد الفور ولا التّراخي ، فيمتثل المأمور بكلّ من الفور والتّراخي لعدم رجحان أحدهما على الآخر ، مع التّوقّف في إثمه بالتّراخي لا بالفور ، لعدم احتمال وجوب التّراخي ، وقيل بالتّوقّف في الامتثال ، أي لا يدري هل يأثم إن بادر ، أو إن أخّر ؟ لاحتمال وجوب التّراخي . ومن أمثلة الخلاف بين العلماء في هذه المسألة اختلافهم في الحجّ ، أهو على الفور ، أم على التّراخي ؟ .
ومن أمثلته أيضاً : الأمر بالكفّارات ، والأمر بقضاء الصّوم وبقضاء الصّلاة . ومحلّ تفصيل ما قالوه في ذلك ، مع ما استدلّوا به ، هو الملحق الأصوليّ ، ومصطلح : ( أمر ) .
الفور في النّهي :
4 - النّهي يقتضي الدّوام والعموم عند الأكثر من أهل الأصول وأهل العربيّة ، فهو للفور . وقيل : هو كالأمر في عدم اقتضائه الدّوام .
ب - الرّخصة :
5 - ذكر صاحب مسلّم الثّبوت أربعة أقسام لما يطلق عليه اسم الرّخصة ، من حيث كونها رخصةً . وذكر أنّ ثاني تلك الأقسام ، ما تراخى حكم سببه مع بقائه على السّببيّة إلى زوال العذر الموجب للرّخصة ، كفطر المسافر والمريض ، فإنّ سببيّة الشّهر باقية في حقّهما ، حتّى لو صاما بنيّة الفرض أجزأ ، لما روى البخاريّ ومسلم ، « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لحمزة بن عمرو الأسلميّ إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر » .
وتأخّر الخطاب عنهما في قوله تعالى : { فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مريضَاً أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَر } والتّفصيل في مصطلح : ( رخصة ) .
ج - معنى ( ثمّ ) :
6 - أورد السّرخسيّ في أصوله : أنّ المعنى الّذي اختصّت به ( ثمّ ) في أصل الوضع هو : العطف على وجه التّعقيب مع التّراخي . وحكم هذا التّراخي فيه اختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه ، وتفصيله في الملحق الأصوليّ ومصطلح ( طلاق ) .
وأثر هذا الخلاف يظهر في قول الزّوج لغير المدخول بها ، أو للمدخول بها ، إن دخلت الدّار فأنت طالق ثمّ طالق ثمّ طالق ، أو أنت طالق ثمّ طالق ثمّ طالق إن دخلت الدّار ، أي مع تقديم الشّرط أو تأخيره . وتفصيله في الملحق الأصوليّ ومصطلح : ( طلاق ) .
ثانياً : مواضعه عند الفقهاء :
ذكر الفقهاء التّراخي وما يترتّب عليه في عدد من العقود والتّصرّفات ، توجز فيما يلي :
أ - التّراخي في ردّ المغصوب :
7 - صرّح الشّافعيّة والحنابلة بوجوب ردّ المغصوب فوراً من غير تراخ ، إن لم يكن للغاصب عذر في التّراخي ، كخوفه على نفسه ، أو ما بيده من مغصوب وغيره ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « على اليدِ ما أخذتْ حتّى تُؤَدِّيه » ولأنّه يأثم باستدامته تحت يده لحيلولته بينه وبين صاحبه ، فيجب عليه ردّه على الفور بنفسه أو وليّه أو وكيله ، وإن تكلّف عليه أضعاف قيمته ، إذ لا تقبل توبته ما دام في يده .
ولم نجد للحنفيّة والمالكيّة نصّاً في ذلك ، ولكنّ قواعدهم العامّة في وجوب رفع الظّلم تقتضي موافقة الشّافعيّة والحنابلة فيما ذهبوا إليه .
ب - تراخي الإيجاب عن القبول في الهبة :
8 - لا يجوز عند الشّافعيّة تراخي القبول عن الإيجاب في الهبة ، بل يشترط الاتّصال المعتاد كالبيع . وأجاز الحنابلة التّراخي في المجلس إذا لم يتشاغلا بما يقطع الاتّصال .
ولم يصرّح الحنفيّة والمالكيّة بذلك . والتّفصيل في مصطلح : ( هبة ) .
ج - التّراخي في طلب الشّفعة :
9 - ذهب الحنفيّة ، والشّافعيّة على القول الأظهر ، والحنابلة إلى أنّ طلب الشّفعة بعد العلم بها يكون على الفور ، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه عن عمر رضي الله عنه : « الشّفعة كحلّ العقال » .
وأجاز المالكيّة طلبها إلى سنة وما قاربها وتسقط بعدها .والتّفصيل في مصطلح : ( شفعة ).
د - التّراخي في قبول الوصيّة :
10 - اتّفق الفقهاء على اشتراط القبول في الوصيّة إن كانت لمعيّن ، ومحلّ القبول بعد موت الموصي . ولا يشترط فيه الفور عند الشّافعيّة والحنابلة ، فله القبول على الفور أو على التّراخي بعد موت الموصي . والتّفصيل في مصطلح : ( وصيّة ) .
هـ - حكم تراخي القبول عن الإيجاب في عقد النّكاح :
11 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى اشتراط ارتباط القبول بالإيجاب في عقد النّكاح ، حتّى إنّ النّوويّ ذكر أنّ القبول في المجلس لا يكفي ، بل يشترط الفور .
إلاّ أنّه يغتفر عند المالكيّة التّأخير اليسير . وأمّا الحنفيّة والحنابلة ، فيصحّ عندهم تراخي القبول عن الإيجاب في عقد النّكاح ، وإن طال الفصل بينهما ما لم يتفرّقا عن المجلس أو يتشاغلا بما يقطعه عرفاً ، لأنّ المجلس له حكم حالة العقد ، بدليل صحّة القبض فيما يشترط لصحّته قبضه في المجلس . والتّفصيل في مصطلح : ( نكاح ) .
و - التّراخي في خيار العيوب والشّروط في النّكاح :
12 - نصّ الحنابلة على أنّ خيار العيوب والشّروط في النّكاح على التّراخي ، لأنّه لدفع ضرر متحقّق ، فيكون على التّراخي ، كخيار أولياء الدّم بين القصاص أو الدّية أو العفو ، فلا يسقط إلاّ أن يوجد ممّن له الخيار دلالة على الرّضا ، من قول أو فعل ، من الزّوج إن كان الخيار له ، أو من الزّوجة إن كان الخيار لها ، أو يأتي بصريح الرّضا كأن يقول : رضيت بالعيب . وأمّا عند الشّافعيّة ، فقد نصّ النّوويّ في الرّوضة على : أنّ خيار العيب في النّكاح يكون على الفور ، كخيار العيب في البيع ، وقال : إنّ هذا هو المذهب ، وهو الّذي قطع به الجمهور . ورُوي قولان آخران : أحدهما : يمتدّ ثلاثة أيّام . والثّاني : يبقى إلى أن يوجد صريح الرّضا بالمقام معه أو ما يدلّ عليه . حكاهما الشّيخ أبو عليّ ، وهما ضعيفان .
ولا يثبت خيار العيب في النّكاح عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، فقد جاء في الفتاوى الهنديّة : خيار الرّؤية والعيب والشّرط - سواء جعل الخيار للزّوج أو للزّوجة أو لهما - ثلاثة أيّام أو أقلّ أو أكثر ، حتّى أنّه إذا شرط ذلك فالنّكاح جائز والشّرط باطل ، إلاّ إذا كان العيب هو الجبّ والخصاء والعنّة ، فإنّ المرأة بالخيار . وأمّا المالكيّة فقد ذكروا أنّ لكلّ واحد من الزّوجين الخيار بشروطه إذا وجد بصاحبه عيباً ، إلاّ أنّهم لم يصرّحوا بكون ذلك على الفور أو على التّراخي . والتّفصيل في مصطلح : ( نكاح ) .
ز - التّراخي في تطليق المرأة نفسها بعد تفويض الطّلاق إليها :
13 - إذا فوّض الزّوج الطّلاق إلى زوجته ، فإنّ تطليقها نفسها لا يتقيّد بالمجلس عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . غير أنّ المالكيّة لا فرق عندهم بين كون التّفويض تخييراً أو تمليكاً ، فإن قيّده بوقت كسنة فليس للزّوجة الخروج عنه ، ويفرّق بينهما بعد التّفويض إلى أن تختار البقاء أو الفراق عند المالكيّة .
وأمّا عند الشّافعيّة فإنّ التّفويض يقتضي الفور في الجديد على أنّه تمليك ما لم يعلّقه بشرط . ( ر : طلاق ) . وتفصيل ما لم يذكر هنا من مسائل التّراخي موطنه الملحق الأصوليّ .

تراضي *
التّعريف :
1 - التّراضي في اللّغة : تفاعل من الرّضا ضدّ السّخط ، والرّضا : هو الرّغبة في الفعل أو القول والارتياح إليه ، والتّفاعل يدلّ على الاشتراك .
ويستعمله الفقهاء في نفس المعنى ، حينما يتّفق العاقدان على إنشاء العقد دون إكراه أو نحوه ، فيقولون مثلاً : البيع مبادلة المال بالمال بالتّراضي .
وفي الآية الكريمة : { لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بينكُمْ بالبَاطِلِ إلاّ أنْ تكونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ منكُم }. قال القرطبيّ : عن رضاً منكم ، وجاءت من المفاعلة ، إذ التّجارة تكون بين طرفين .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإرادة :
2 - الإرادة في اللّغة : الطّلب والمشيئة . ويستعملها الفقهاء بمعنى : القصد والاتّجاه إلى الشّيء ، فهي أعمّ من الرّضا ، فقد يريد المرء شيئاً ويرتاح إليه ، فيجتمع الرّضا مع الإرادة ، وقد لا يرتاح إليه ولا يحبّه ، فتنفرد الإرادة عن الرّضا .
ب - الاختيار :
3 - الاختيار : إرادة الشّيء بدلاً من غيره ، وأصله من الخير ، فالمختار هو المريد لخير الشّيئين في الحقيقة ، أو خير الشّيئين عند نفسه ، وقد يتوجّه القصد إلى أمر واحد دون النّظر إلى أمر آخر ، وفي هذه الحالة تنفرد الإرادة عن الاختيار .
وقد يختار المرء أمراً لا يحبّه ولا يرتاح إليه ، فيأتي الاختيار بدون الرّضا ، كما يقول الفقهاء : " يختار أهون الشّرّين " ، والمكره قد يختار الشّيء ولا يرضاه كما يقول الحنفيّة .
الحكم الإجماليّ :
4 - الأصل أنّ التّراضي بين الطّرفين يكون قولاً بالإيجاب والقبول ، وقد يكون قولاً من أحدهما وفعلاً من الطّرف الآخر ، أو فعلاً من الجانبين كما في المعاطاة ، وتفصيله في مصطلح : ( عقد ) . وإذا حصل التّراضي بالقول يتمّ بمجرّد الإيجاب والقبول عند الحنفيّة والمالكيّة ، فيلزم العقد بذلك ، ويرتفع الخيار .
وقال الشّافعيّة والحنابلة : تمّام التّراضي ولزومه بافتراق الأبدان ، فهما على خيارهما أبداً ما لم يتفرّقا بأبدانهما ، كما ورد في الحديث : « البَيِّعانِ بالخِيَارِ ما لم يتفرّقا » .
وقد فسّره الحنفيّة والمالكيّة بافتراق الأقوال بالإيجاب والقبول .
وتفصيله في مصطلح : ( افتراق ، وخيار المجلس ) .
5- هذا ، وحيث إنّ التّراضي أساس انعقاد العقود ، والإيجاب والقبول أو التّعاطي ونحوهما وسيلة للتّعبير عنه ، ينبغي أن يكون الرّضا الّذي دلّ عليه التّعبير خالياً عن العيوب ، وإلاّ اختلّ التّراضي ، فيختلّ العقد .
ويختلّ التّراضي بأسباب نذكر منها ما يلي :
أ - الإكراه :
6 - وهو حمل الإنسان على أمر يمتنع عنه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه .
وبما أنّ الإكراه يعدم الرّضا ، فإنّ العقد يفسد به عند أكثر الفقهاء ، ويصير قابلاً للفسخ عند المالكيّة ، وقال بعض الحنفيّة : يتوقّف حكمه على إجازة المكره بعد زوال الإكراه ، وتفصيله في مصطلح : ( إكراه ) .
ب - الهزل :
7 - وهو ضدّ الجدّ ، بأن يراد بالشّيء ما لم يوضع له ، ولا ما صحّ له اللّفظ استعارةً . والهازل يتكلّم بصيغة العقد باختياره ، لكن لا يختار ثبوت الحكم ولا يرضاه ، ولهذا لا تنعقد به العقود الماليّة عند أكثر الفقهاء ، وله آثاره في بعض التّصرّفات كالزّواج والطّلاق والرّجعة ( ر : هزل ) .
ج - المواضعة أو التّلجئة :
8 - وهي أن يتظاهر العاقدان بإنشاء عقد صوريّ للخوف من ظالم ونحوه ، ولا يريدانه في الواقع ، والعقد بهذه الصّورة : فاسد ، أو باطل ، أو جائز ، على خلاف وتفصيل موضعه مصطلح : ( مواضعة وتلجئة ) .
د - التّغرير :
9 - هو إيقاع الشّخص في الغرر ، أي : الخطر ، كأن يوصف المبيع للمشتري بغير صفته الحقيقيّة لترغيبه في العقد . فإذا غرّ أحد العاقدين الآخر ، وتحقّق أنّ في البيع غبناً فاحشاً فللمغبون أن يفسخ العقد على تفصيل ينظر في مصطلح : ( غبن وتغرير ) .
وهناك أسباب أخرى يختلّ بها التّراضي كالغلط والتّدليس والجهل والنّسيان ونحوها ، وتفصيل القول في كلّ منها في مصطلحاتها .
مواطن البحث :
10 - يتكلّم الفقهاء عن التّراضي في : إنشاء العقود ، ولا سيّما في تعريف البيع ، وفي الإقالة ، وفي موافقة الزّوجين على مقدار الصّداق بعد العقد ، أو الزّيادة أو النّقصان فيه في بحث المهر ، وفي الخلع ، والصّلح ، واتّفاق الأبوين على فطام المولود لأقلّ من سنتين في بحث الرّضاع .
وتفصيل ما يتّصل بالتّراضي من طرفين أو طرف واحد موطنه مصطلح : ( رضاً ) .

تراويح *
انظر : صلاة التّراويح .

تربّص *
انظر : عدّة .

تربّع *
التّعريف :
1 - التّربّع في اللّغة : ضرب من الجلوس ، وهو خلاف الجثوّ والإقعاء .
وكيفيّته : أن يقعد الشّخص على وركيه ، ويمدّ ركبته اليمنى إلى جانب يمينه ، وقدمه اليمنى إلى جانب يساره . واليسرى بعكس ذلك . واستعمله الفقهاء بهذا المعنى .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - التّربّع : غير الاحتباء : والافتراش ، والإِفضاء ، والإِقعاء ، والتّورّك .
فالاحتباء : أن يجلس على أليتيه ، رافعاً ركبتيه محتوياً عليهما بيديه أو غيرهما . والافتراش : أن يثني رجله اليسرى فيبسطها ويجلس عليها ، وينصب قدمه اليمنى ويخرجها من تحته ، ويجعل بطون أصابعه على الأرض معتمداً عليها لتكون أطراف أصابعها إلى القبلة .
والإفضاء في الجلوس في الصّلاة هو : أن يلصق أليته بالأرض ، وينصب رجله اليمنى وظاهر إبهامها ممّا يلي الأرض ، ويثني رجله اليسرى .
والإقعاء : أن يلصق أليتيه بالأرض ، وينصب ساقيه ، ويضع يديه على الأرض .
أو أن يجعل أليتيه على عقبيه ، ويضع يديه على الأرض .
وفي نصّ الشّافعيّة : الإقعاء المكروه : أن يجلس الشّخص على وركيه ناصباً ركبتيه . والتّورّك : أن ينصب اليمنى ويثني رجله اليسرى ، ويقعد على الأرض .
ولتمام الفائدة تنظر هذه الألفاظ في مصطلحاتها .
حكم التّربّع :
أوّلاً - التّربّع في الصّلاة :
أ - التّربّع في الفريضة لعذر :
3 - أجمع أهل العلم على أنّ من لا يطيق القيام ، له أن يصلّي جالساً ، وقد « قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين رضي الله عنه : صلّ قائماً ، فإِن لم تستطع فقاعداً ، فإِن لم تستطع فعلى جَنْب » وفي رواية : « فإن لم تستطع فمستلقياً » .
ولأنّ الطّاعة بحسب القدرة لقول اللّه تعالى : { لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسَاً إلاّ وُسْعَها } .
4 - واختلفوا في هيئة الجلوس إذا عجز المصلّي عن القيام كيف يقعد ؟
فذهب المالكيّة في المشهور عندهم ، والشّافعيّة في قول ، والحنابلة إلى : أنّه إذا قعد المعذور يندب له أن يجلس متربّعاً ، وهو رواية عن أبي يوسف .
ويرى أبو حنيفة - في رواية محمّد عنه وهي ما صحّحها العينيّ - أنّ المعذور إذا افتتح الصّلاة يجلس كيفما شاء ، لأنّ عذر المرض يسقط الأركان عنه ، فلأن يسقط عنه الهيئات أولى .
وروى الحسن عن أبي حنيفة : أنّه يتربّع ، وإذا ركع يفترش رجله اليسرى ويجلس عليها . ويرى الشّافعيّة في الأظهر من القولين - وهو قول زفر من الحنفيّة - أنّه يقعد مفترشاً . وذهب المالكيّة في قول - وهو ما اختاره المتأخّرون - أنّ المعذور يجلس كما يجلس للتّشهّد . وهناك تفاصيل فيمن له أن يصلّي جالساً ، وفي هيئة الّذي لا يقدر على الجلوس ولا على القيام تنظر في مصطلحات : ( صلاة المريض ، عذر ، وقيام ) .
ب - التّربّع في الفريضة بغير عذر :
5 - التّربّع مخالف للهيئة المشروعة في الفريضة في التّشهّدين جميعاً .
وقد صرّح الحنفيّة بكراهة التّربّع من غير عذر ، لما روي أنّ عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما رأى ابنه يتربّع في صلاته ، فنهاه عن ذلك ، فقال : رأيتك تفعله يا أبت ، فقال : إنّ رجليّ لا تحملاني . ولأنّ الجلوس على الرّكبتين أقرب إلى الخشوع ، فكان أولى .
وهذا ما يفهم من عبارات المالكيّة أيضاً ، لأنّهم يعدّون الإفضاء في الجلوس من مندوبات الصّلاة ، ويعتبرون ترك سنّة خفيفة عمداً من سنن الصّلاة مكروهاً .
ويسنّ عند الشّافعيّة في قعود آخر الصّلاة التّورّك ، وفي أثنائها الافتراش .
ويقول الحنابلة بسنّيّة الافتراش في التّشهّد الأوّل ، والتّورّك في التّشهّد الثّاني .
ونقل ابن عبد البرّ إجماع العلماء على عدم جواز التّربّع للصّحيح في الفريضة .
وقال ابن حجر العسقلانيّ : لعلّ المراد بكلام ابن عبد البرّ بنفي الجواز إثبات الكراهة .
ج - التّربّع في صلاة التّطوّع :
6 - لا خلاف في جواز التّطوّع قاعداً مع القدرة على القيام ، ولا في أنّ القيام أفضل ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من صلّى قائماً فهو أفضل ، ومن صلّى قاعداً فله نصف أجر القائم » وقالت عائشة رضي الله عنها : « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يمت حتّى كان كثير من صلاته وهو جالس » .
7- أمّا كيفيّة القعود في التّطوّع فقد اختلف فيها :
فذهب المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في قول - وهو رواية عن أبي يوسف ومحمّد - إلى أنّه يستحبّ للمتطوّع جالساً أن يكبّر للإحرام متربّعاً ويقرأ ، ثمّ يغيّر هيئته للرّكوع أو السّجود على اختلاف بينهم ، وروي ذلك عن ابن عمر وأنس رضي الله عنهم . كما روي عن ابن سيرين ومجاهد وسعيد بن جبير والثّوريّ وإسحاق رحمهم الله .
ويرى أبو حنيفة ومحمّد - فيما نقله الكرخيّ عنه - تخيير المتطوّع في حالة القراءة بين القعود والتّربّع والاحتباء .
وعن أبي يوسف أنّه يحتبي ، هذا ما اختاره الإمام خواهر زاده ، لأنّ عامّة صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في آخر العمر كان محتبياً ،ولأنّه يكون أكثر توجّهاً بأعضائه إلى القبلة. وقال زفر : يقعد في جميع الصّلاة كما في التّشهّد ، هذا ما اختاره السّرخسيّ .
وقال الفقيه أبو اللّيث : وعليه الفتوى لأنّه المعهود شرعاً في الصّلاة .
وقال الشّافعيّة في أصحّ الأقوال : إنّ المتطوّع يقعد مفترشاً .
ثانياً - التّربّع عند تلاوة القرآن :
8 - لا بأس بقراءة القرآن في كلّ حال : قائماً أو جالساً ، متربّعاً أو غير متربّع ، أو مضطجعاً أو راكباً أو ماشياً ، لحديث « عائشة قالت : كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتّكئ في حجري وأنا حائض ثمّ يقرأ القرآن » وعنها قالت : " إنّي لأقرأ القرآن وأنا مضطجعة على سريري " .

ترتيب *
التّعريف :
1 - التّرتيب في اللّغة : جعل كلّ شيء في مرتبته . واصطلاحاً : هو جعل الأشياء الكثيرة بحيث يطلق عليها اسم الواحد ، ويكون لبعض أجزائه نسبة إلى البعض بالتّقدّم والتّأخّر .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّتابع والموالاة :
2 - التّتابع : مصدر تتابع ، يقال : تتابعت الأشياء والأمطار والأمور ، إذا جاء واحد منها خلف واحد على أثره بشرط عدم القطع .
وفسّر الفقهاء التّتابع في الصّيام : بأن لا يفطر المرء في أيّام الصّيام . وعلى ذلك ، فالتّتابع والموالاة متقاربان في المعنى ، إلاّ أنّ الفقهاء يستعملون التّتابع غالباً في الاعتكاف وكفّارة الصّيام ونحوهما ، ويستعملون الموالاة غالباً في الطّهارة من الوضوء والتّيمّم والغسل .
ويختلف التّرتيب عن التّتابع والموالاة في أنّ التّرتيب يكون لبعض الأجزاء نسبة إلى البعض بالتّقدّم والتّأخّر ، بخلاف التّتابع والموالاة ، ومن جهة أخرى فإنّ التّتابع والموالاة يشترط فيهما عدم القطع والتّفريق ، فيضرّهما التّراخي ، بخلاف التّرتيب .
الحكم الإجماليّ :
3 - التّرتيب إنّما يكون بين أشياء مختلفة كالأعضاء في الوضوء ، والجمرات الثّلاث ، فإن اتّحد المحلّ ولم يتعدّد فلا معنى للتّرتيب كما يقول الزّركشيّ ، ومن ثمّ لم يجب التّرتيب في الغسل ، لأنّه فرض يتعلّق بجميع البدن ، تستوي فيه الأعضاء كلّها . وكذلك الرّكوع الواحد والسّجود الواحد لا يظهر فيه أثر التّرتيب ، فإذا اجتمع الرّكوع والسّجود ظهر أثره .
هذا ، وقد بيّن الفقهاء حكم وأهمّيّة التّرتيب في مباحث العبادات من : الطّهارة ، وأركان الصّلاة ، ونسك الحجّ ، والكفّارات في النّذور والأيمان ونحوها .
واتّفقوا على فرضيّة التّرتيب في بعض العبادات ، كالتّرتيب في أركان الصّلاة من القيام والرّكوع والسّجود ، واختلفوا في بعضها ، نذكر منها ما يلي :
أ - التّرتيب في الوضوء :
4 - التّرتيب في أعمال الوضوء فرض عند الشّافعيّة والحنابلة ، لأنّها وردت في الآية مرتّبةً ، قال اللّه تعالى : { إذا قُمْتم إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وجُوهَكم وأيديَكم إلى المرافقِ وامسَحُوا برءوسِكم وأرجلَكم إلى الكَعْبَين } لأنّ إدخال الممسوح " أي الرّأس " بين المغسولات " أي الأيدي والأرجل " قرينة على أنّه أريد به التّرتيب ، فالعرب لا تقطع النّظير عن النّظير إلاّ لفائدة ، والفائدة هاهنا التّرتيب .
وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى عدم وجوب التّرتيب في الوضوء ، بل هو سنّة عندهم ، لأنّ اللّه تعالى أمر بغسل الأعضاء ، وعطف بعضها على بعض بواو الجمع ، وهي لا تقتضي التّرتيب . وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه قال :" ما أبالي بأيّ أعضائي بدأت ". والتّرتيب إنّما يكون في عضوين مختلفين ، فإن كانا في حكم العضو الواحد لم يجب ، ولهذا لا يجب التّرتيب بين اليمنى واليسرى في الوضوء اتّفاقاً .
ولكن يسنّ ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحبّ التّيامن » .
ب - التّرتيب في قضاء الفوائت :
5 - جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة قالوا بوجوب التّرتيب بين الصّلوات الفائتة ، وبينها وبين الصّلاة الوقتيّة إذا اتّسع الوقت . فمن فاتته صلاة أو صلوات وهو في وقت أخرى ، فعليه أن يبدأ بقضاء الفوائت مرتّبةً ، ثمّ يؤدّي الصّلاة الوقتيّة ، إلاّ إذا كان الوقت ضيّقاً لا يتّسع لأكثر من الحاضرة فيقدّمها ، ثمّ يقضي الفوائت على التّرتيب .
على أنّ المالكيّة يقولون بوجوب التّرتيب في قضاء يسير الفوائت مع صلاة حاضرة ، وإن خرج وقتها . وقال الشّافعيّة : لا يجب ذلك ، بل يسنّ ترتيب الفوائت ، كأن يقضي الصّبح قبل الظّهر ، والظّهر قبل العصر . وكذلك يسنّ تقديم الفوائت على الحاضرة محاكاةً للأداء ، فإن خاف فوت الحاضرة بدأ بها وجوباً لئلاّ تصير فائتةً .
هذا ، ويسقط التّرتيب عند الحنفيّة والحنابلة بالنّسيان ، وخوف فوت الوقتيّة ، وزاد الحنفيّة مسقطاً آخر هو زيادة الفوائت على خمس .
وفي المسألة خلاف وتفصيل يرجع إليه في ( قضاء الفوائت ) .
ج - التّرتيب في صفوف الصّلاة :
6 - صرّح الفقهاء بأنّه : لو اجتمع الرّجال والنّساء والصّبيان ، فأرادوا أن يصطفّوا لصلاة الجماعة ، يقوم الرّجال صفّاً ممّا يلي الإمام ، ثمّ الصّبيان بعدهم ثمّ الإناث .
وإذا تقدّمت النّساء على الرّجال فسدت صلاة من وراءهنّ من صفوف الرّجال عند الحنفيّة ، خلافاً لجمهور الفقهاء حيث صرّحوا بكراهة الصّلاة حينئذ دون الفساد ، كما هو مفصّل في مصطلح : ( اقتداء ، صلاة الجماعة ) .
مواطن البحث :
يرد ذكر التّرتيب عند الفقهاء - إضافةً إلى ما سبق - في مواضع مختلفة منها :
أ - التّرتيب في الجنائز :
7 - إذا كانت أكثر من واحدة ، فإذا اجتمعت جنائز الرّجال والنّساء والصّبيان حين الصّلاة عليها ، فإنّه يصفّ الرّجال ممّا يلي الإمام ، ثمّ صفّ الصّبيان ، ثمّ صفّ النّساء ، وكذلك التّرتيب في وضع الأموات في قبر واحد ، ويفصّل الفقهاء هذه المسائل في أبواب الجنائز .
ب - التّرتيب في الحجّ :
8 - التّرتيب في أعمال الحجّ وما يترتّب على الإخلال به ، فصّله الفقهاء في كتاب الحجّ .
( ر : إحرام ) .
ج - الدّيون :
9 - التّرتيب في قضاء الدّيون ، وما يجب تقديمه منها على غيره ، وما يتعلّق بحقوق العباد ، فصّله الفقهاء في باب الرّهن والنّفقة والكفّارة وغيرها ( ر : دين ) .
د - أدلّة الإثبات :
10 - التّرتيب في أدلّة الإثبات من الإقرار والشّهادة والقرائن ونحوها يذكره الفقهاء في كتاب الدّعوى .
هـ - النّكاح :
11 - ترتيب الأولياء في النّكاح وحقّ القصاص وسائر الحقوق كالإرث والحضانة وغيرهما مذكور في أبوابها من كتب الفقه ، وتفصيله في مصطلحاتها .
و - الكفّارات :
12 - التّرتيب بين أنواع الكفّارات في الأيمان والنّذور وغيرها أورده الفقهاء في باب الكفّارة . وتفصيل هذه المسائل يرجع إليه في مصطلحاتها .

ترتيل *
انظر : تلاوة .

ترجمة *
التّعريف :
1 - التّرجمة : مصدر ترجم ، يقال : ترجم كلامه : إذا بيّنه ، ويقال : ترجم كلام غيره : إذا عبّر عنه بلسانٍ آخر . ومنه التَّرجِمان ، والتَّرجُمان ، والتُرجُمان .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لكلمة التّرجمة عن المعنى الثّاني .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الألفاظ ذات الصّلة :
التّفسير :
2 - التّفسير مصدر فسّر ، وهو في اللّغة بمعنى : البيان والكشف والإظهار .
وفي الشّرع : توضيح معنى الآية ( أي ونحوها ) وشأنها ، وقصّتها ، والسّبب الّذي نزلت فيه بلفظ يدلّ عليه دلالة ظاهرة . فالتّرجمة تكون بلغة مغايرة ، وعلى قدر الكلام المترجم ، دون زيادة أو نقص ، بخلاف التّفسير فقد يطول ويتناول الدّلالات التّابعة للّفظ .
ترجمة القرآن الكريم وأنواعها :
3 - قال الشّاطبيّ : للّغة العربيّة - من حيث هي ألفاظ دالّة على معان - نظران : أحدهما : من جهة كونها ألفاظاً وعبارات مطلقةً دالّةً على معان مطلّقة ، وهي الدّلالة الأصليّة . والثّاني : من جهة كونها ألفاظاً وعبارات مقيّدةً ، دالّةً على معان خادمة ، وهي الدّلالة التّابعة . فالجهة الأولى : هي الّتي يشترك فيها جميع الألسنة ، وإليها تنتهي مقاصد المتكلّمين ، ولا تختصّ بأمّة دون أخرى ، فإنّه إذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلاً كالقيام ، ثمّ أراد كلّ صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام ، تأتّى له ما أراد من غير كلفة .
ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الإخبار عن أقوال الأوّلين - ممّن ليسوا من أهل اللّغة العربيّة - وحكاية كلامهم . ويتأتّى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها ، وهذا لا إشكال فيه .
وأمّا الجهة الثّانية : فهي الّتي يختصّ بها لسان العرب في تلك الحكاية وذلك الإخبار ، فإنّ كلّ خبر يقتضي في هذه الجهة أموراً خادمةً لذلك الإخبار ، بحسب المخبر ، والمخبر عنه ، والمخبر به ، ونفس الإخبار ، في الحال والمساق ، ونوع الأسلوب : من الإيضاح والإخفاء ، والإيجاز ، والإطناب ، وغير ذلك .
وذلك أنّك تقول في ابتداء الإخبار : قام زيد إن لم تكن ثمّ عناية بالمخبر عنه ، بل بالخبر . فإن كانت العناية بالمخبر عنه قلت : زيد قام . وفي جواب السّؤال أو ما هو منزّل تلك المنزلة : إنّ زيداً قام . وفي جواب المنكر لقيامه : واللّه إنّ زيداً قام . وفي إخبار من يتوقّع قيامه ، أو الإخبار بقيامه : قد قام زيد ، أو زيد قد قام . وفي التّنكيت على من ينكر : إنّما قام زيد . ثمّ يتنوّع أيضاً بحسب تعظيمه أو تحقيره - أعني المخبر عنه - وبحسب الكناية عنه والتّصريح به ، وبحسب ما يقصد في مساق الإخبار ، وما يعطيه مقتضى الحال ، إلى غير ذلك من الأمور الّتي لا يمكن حصرها ، وجميع ذلك دائر حول الإخبار بالقيام عن زيد . فمثل هذه التّصرّفات الّتي يختلف معنى الكلام الواحد بحسبها ، ليست هي المقصود الأصليّ ، ولكنّها من مكمّلاته ومتمّماته . وبطول الباع في هذا النّوع يحسن مساق الكلام إذا لم يكن فيه منكر . وبهذا النّوع الثّاني اختلفت العبارات وكثير من أقاصيص القرآن ، لأنّه يأتي مساق القصّة في بعض السّور على وجه ، وفي بعضها على وجه آخر ، وفي ثالثة على وجه ثالث ، وهكذا ما تقرّر فيه من الإخبارات لا بحسب النّوع الأوّل ، إلاّ إذا سكت عن بعض التّفاصيل في بعض ، ونصّ عليه في بعض . وذلك أيضاً لوجه اقتضاه الحال والوقت . { وما كان ربُّك نَسِيَّاً } وإذا ثبت هذا فلا يمكن لمن اعتبر هذا الوجه الأخير أن يترجم كلاماً من الكلام العربيّ بكلام العجم على حال ، فضلاً عن أن يترجم القرآن وينقل إلى لسان غير عربيّ ، إلاّ مع فرض استواء اللّسانين في اعتباره عيناً ، كما إذا استوى اللّسان في استعمال ما تقدّم تمثيله ونحوه .
فإذا ثبت ذلك في اللّسان المنقول إليه مع لسان العرب ، أمكن أن يترجم أحدهما إلى الآخر . وإثبات مثل هذا بوجه بيّن عسير جدّاً . وربّما أشار إلى شيء من ذلك أهل المنطق من القدماء ، ومن حذا حذوهم من المتأخّرين ، ولكنّه غير كاف ولا مغن في هذا المقام .
وقد نفى ابن قتيبة إمكان التّرجمة في القرآن يعني على هذا الوجه الثّاني ، فأمّا على الوجه الأوّل فهو ممكن ، ومن جهته صحّ تفسير القرآن وبيان معناه للعامّة ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معانيه ، وكان ذلك جائزاً باتّفاق أهل الإسلام ، فصار هذا الاتّفاق حجّةً في صحّة التّرجمة على المعنى الأصليّ .
4 - هذا وتنقسم التّرجمة إلى نوعين :
أ - التّرجمة الحرفيّة : وهي النّقل من لغة إلى أخرى ، مع التزام الصّورة اللّفظيّة للكلمة ، أو ترتيب العبارة .
ب - التّرجمة لمعاني الكلام : وهي تعبير بألفاظ تبيّن معاني الكلام وأغراضه ، وتكون بمنزلة التّفسير .
ما يتعلّق بالتّرجمة من أحكام :
أ - كتابة القرآن بغير العربيّة وهل تسمّى قرآناً ؟
5 - ذهب بعض الحنفيّة إلى جواز كتابة آية أو آيتين بحروف غير عربيّة ، لا كتابته كلّه ، لكن كتابة القرآن بالعربيّة وتفسير كلّ حرف وترجمته جائز عندهم .
لما روي عن سلمان الفارسيّ رضي الله عنه أنّ قوماً من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئاً من القرآن ، فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسيّة .
ب - قراءة القرآن بغير العربيّة :
ونظر الفقهاء في ذلك على اختلاف آرائهم متوجّه إلى عدم الإخلال بحفظ القرآن ، وأن لا تكون مؤدّيةً إلى التّهاون بأمره ، ولكنّها لا تسمّى قرآناً على أيّ وجه كانت .
6 - واختلف الفقهاء في جواز القراءة في الصّلاة بغير العربيّة .
فيرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّه لا يجوز القراءة بغير العربيّة ، سواء أحسن قراءتها بالعربيّة أم لم يحسن ، لقوله تعالى : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّر مِنَ القرآنِ } أمر بقراءة القرآن في الصّلاة ، والقرآن هو المنزّل بلغة العرب ، كما قال سبحانه وتعالى : { إِنَّا أنْزَلْنَاه قًرآنَاً عَرَبيّاً } وقال أيضاً : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } ولأنّ ترجمة القرآن من قبيل التّفسير ، وليست قرآناً ، لأنّ القرآن هو اللّفظ العربيّ المنزّل على سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم ، فالقرآن دليل النّبوّة وعلامة الرّسالة ، وهو المعجز بلفظه ومعناه ، والإعجاز من حيث اللّفظ يزول بزوال النّظم العربيّ ، فلا تكون التّرجمة قرآناً لانعدام الإعجاز ، ولذا لم تحرم قراءة التّرجمة على الجنب والحائض ، ولا يحنث بها من حلف لا يقرأ القرآن .
وذهب أبو يوسف ومحمّد إلى أنّ المصلّي إن كان يحسن العربيّة لا يجوز أن يقرأ القرآن بغيرها ، وإن كان لا يحسن يجوز . وقد ثبت رجوع أبي حنيفة إلى قولهما لقوّة دليلهما وهو : أنّ المأمور به قراءة القرآن ، وهو اسم للمنزّل باللّفظ العربيّ المنظوم هذا النّظم الخاصّ المكتوب في المصاحف ، المنقول إلينا نقلاً متواتراً .
والأعجميّة إنّما تسمّى قرآناً مجازاً ، ولذا يصحّ نفي اسم القرآن على المترجم إليها .
وذهب أبو حنيفة في المشهور من قوله إلى جواز القراءة بالفارسيّة - فيما يمكن ترجمته حرفيّاً - كما يجوز بالعربيّة ، سواء أكان يحسن العربيّة أم لا يحسن ، فتجب لأنّها اعتبرت خلفاً عن النّظم العربيّ ، وليس لكونها قرآناً ، فهي حينئذ رخصة عنده .
غير أنّه إن كان يحسن العربيّة يصير مسيئاً لمخالفته السّنّة المتوارثة .
وقد رجع أبو حنيفة إلى رأي صاحبيه كما سبق . ثمّ الجواز على قول أبي حنيفة - المرجوع عنه - مقصور على قراءة من لا يكون متّهماً بالعبث بالقرآن ، وأن لا يكون معتاداً لقراءة القرآن بالعجميّة ، أمّا اعتياد القراءة بالأعجميّة فممنوع مطلقاً .
ت - مسّ المحْدِث التّرجمة وحملها وقراءتها :
7 - ذهب الحنفيّة في الأصحّ عندهم إلى أنّه لا يجوز للحائض قراءة القرآن بقصد القراءة ولا مسّه ، ولو مكتوباً بغير العربيّة ، وقال بعضهم : يجوز ، وقال ابن عابدين نقلاً عن البحر : وهذا أقرب إلى القياس ، والمنع أقرب إلى التّعظيم ، والصّحيح المنع .
والمتبادر من أقوال المالكيّة ، وهو ما صرّح به الحنابلة : جواز مسّ كتب التّفسير مطلقاً ، قلّ التّفسير أو كثر ، لأنّه لا يقع عليها اسم المصحف ، ولا تثبت لها حرمته .
ويرى الشّافعيّة حرمة حمل التّفسير ومسّه ، إذا كان القرآن أكثر من التّفسير ، وكذلك إن تساويا على الأصحّ ، ويحلّ إذا كان التّفسير أكثر على الأصحّ ، وفي رواية : يحرم لإخلاله بالتّعظيم . والتّرجمة من قبيل التّفسير .
ث - ترجمة الأذان :
8 - لو أذّن بالفارسيّة أو بلغة أخرى غير العربيّة ، فالصّحيح عند الحنفيّة والحنابلة : أنّه لا يصحّ ، ولو علم أنّه أذان .
وهو المتبادر من كلام المالكيّة ، لأنّهم يشترطون في الأذان : أن يكون بالألفاظ المشروعة . وأمّا الشّافعيّة فقد فصّلوا الكلام فيه ، وقالوا : إن كان يؤذّن لجماعة ، وفيهم من يحسن العربيّة ، لم يجزئ الأذان بغيرها ، ويجزئ إن لم يوجد من يحسنها . وإن كان يؤذّن لنفسه ، فإن كان يحسن العربيّة لا يجزئه الأذان بغيرها ، وإن كان لا يحسنها أجزأه .
ج - ترجمة التّكبير والتّشهّد وخطبة الجمعة وأذكار الصّلاة :
9 - لو كبّر المصلّي بغير العربيّة ، فذهب أبو حنيفة إلى جوازه مطلقاً ، عجز عن العربيّة أم لم يعجز ، واحتجّ في ذلك بقوله تعالى : { وَذَكَرَ اسمَ رَبِّه فَصَلَّى } ، وقياساً على إسلام الكافر . وشرط أبو يوسف ومحمّد عجز الشّخص عن العربيّة .
وعلى هذا الخلاف : الخطبة وأذكار الصّلاة ، كما لو سبّح بالفارسيّة في الصّلاة ، أو أثنى على اللّه تعالى ، أو تعوّذ ، أو هلّل ، أو تشهّد ، أو صلّى على النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصحّ عنده ، وأمّا أبو يوسف ومحمّد فشرطا العجز .
وذكر ابن عابدين نقلاً عن شرح الطّحاويّ : أنّه لو كبّر الشّخص بالفارسيّة ، أو سمّى عند الذّبح ، أو لبّى عند الإحرام بالفارسيّة أو بأيّ لسان ، سواء أكان يحسن العربيّة أم لا ، جاز بالاتّفاق بين الإمام وصاحبيه ، وهذا يعني أنّ الصّاحبين رجعا إلى قول الإمام في جواز التّكبير والأذكار مطلقاً ، كما أنّ أبا حنيفة رجع إلى قولهما في عدم جواز القراءة بالعجميّة إلاّ عند العجز . ويرى المالكيّة أنّه إن عجز عن التّكبير بالعربيّة سقط ، ولا يجوز بغيرها ، ويكفيه نيّته كالأخرس ، فإن أتى العاجز عنه بمرادفه من لغة أخرى لم تبطل ، قياساً على الدّعاء بالعجميّة ولو للقادر على العربيّة .
وعند بعض شيوخ القاضي عياض : يجوز الإتيان بالتّكبير بغير العربيّة ، وأمّا الخطبة فلا تجوز عندهم بغير العربيّة ولو كان الجماعة عجماً لا يعرفون العربيّة ، فلو لم يكن منهم من يحسن الإتيان بالخطبة عربيّةً لم تلزمهم جمعة .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى عدم جواز التّكبير بالعجميّة إذا أحسن العربيّة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « صلّوا كما رأيتموني أُصلّي » وكان عليه الصلاة والسلام يكبّر بالعربيّة ، وأيضاً قال للمسيء في صلاته : « إذا قمت للصّلاة فكبّر .. » ولأنّه لم ينقل عنه العدول عن ذلك حتّى فارق الدّنيا . هذا إذا أحسن العربيّة ، أمّا إن لم يحسن العربيّة لزمه تعلّم التّكبير بها إن كان في الوقت متّسع ، وإلاّ كبّر بلغته . وكذلك التّشهّد الأخير والصّلاة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يجوزان بغير العربيّة عندهم للعاجز عنها ، ولا يجوز للقادر .
وأمّا خطبة الجمعة ، فذهب الشّافعيّة في الأصحّ من المذهب إلى : أنّه يشترط أن تكون بالعربيّة ، فإن لم يكن ثمّ من يحسن العربيّة ، ولم يمكن تعلّمها ، خطب بغيرها ، فإن انقضت مدّة إمكان التّعلّم - ولم يتعلّموا - عصوا كلّهم ولا جمعة لهم .
وفي السّلام بالعجميّة ثلاثة أوجه : أحدهما : إن قدر على العربيّة لم يجز ، وقال النّوويّ : الصّواب صحّة سلامه بالعجميّة إن كان المخاطب يفهمها .
والضّابط عند الشّافعيّة في مسألة التّرجمة هو : أنّ ما كان المقصود منه لفظه ومعناه ، فإن كان لإعجازه امتنع قطعاً ، وإن لم يكن كذلك امتنع للقادر ، كالأذان وتكبير الإحرام والتّشهّد والأذكار المندوبة ، والأدعية المأثورة في الصّلاة ، والسّلام والخطبة .
وما كان المقصود منه معناه دون لفظه ، فجائز ، كالبيع والخلع والطّلاق ونحوها .
والقول الآخر عند الشّافعيّة أنّ كون الخطبة بالعربيّة مستحبّ فقط ، قال النّوويّ : لأنّ المقصود الوعظ ، وهو حاصل بكلّ اللّغات .
ح - الدّعاء بغير العربيّة في الصّلاة :
10 - المنقول عن الحنفيّة في الدّعاء بغير العربيّة الكراهة ، لأنّ عمر رضي الله تعالى عنه نهى عن رطانة الأعاجم ، والرّطانة كما في القاموس : الكلام بالأعجميّة .
وظاهر التّعليل : أنّ الدّعاء بغير العربيّة خلاف الأولى ، وأنّ الكراهة فيه تنزيهيّة ، ولا يبعد أن يكون الدّعاء بالعجميّة مكروهاً تحريماً في الصّلاة ، وتنزيهاً خارجها .
وذهب المالكيّة إلى أنّه يحرم الدّعاء بغير العربيّة - على ما نقل ابن عابدين عن القرافيّ - معلّلاً باشتماله على ما ينافي التّعظيم ، وقيّد اللّقانيّ كلام القرافيّ بالأعجميّة المجهولة المدلول ، أخذاً من تعليله ، وهو اشتمالها على ما ينافي جلال الرّبوبيّة .
وأمّا إذا علم مدلولها فيجوز استعمالها مطلقاً في الصّلاة وغيرها ، لقوله تعالى : { وَعَلَّمَ آدمَ الأَسْمَاءَ كُلَّها } وقوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا منْ رَسُولٍ إلاّ بِلِسَانِ قَومِه } وهذا ما صرّح به الدّسوقيّ أيضاً .
وقد فصّل الشّافعيّة الكلام فقالوا : الدّعاء في الصّلاة إمّا أن يكون مأثوراً أو غير مأثور .
أمّا الدّعاء المأثور ففيه ثلاثة أوجه : أصحّها ، ويوافقه ما ذهب إليه الحنابلة : أنّه يجوز بغير العربيّة للعاجز عنها ، ولا يجوز للقادر ، فإن فعل بطلت صلاته .
والثّاني : يجوز لمن يحسن العربيّة وغيره .
والثّالث : لا يجوز لواحد منهما لعدم الضّرورة إليه .
وأمّا الدّعاء غير المأثور في الصّلاة ، فلا يجوز اختراعه والإتيان به بالعجميّة قولاً واحداً . وأمّا سائر الأذكار كالتّشهّد الأوّل والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه ، والقنوت ، والتّسبيح في الرّكوع والسّجود ، وتكبيرات الانتقالات ، فعلى القول بجواز الدّعاء بالأعجميّة تجوز بالأولى ، وإلاّ ففي جوازها للعاجز أوجه : أصحّها : الجواز . والثّاني : لا . والثّالث : يجوز فيما يجبر بسجود السّهو . وذكر صاحب الحاوي : أنّه إذا لم يحسن العربيّة أتى بكلّ الأذكار بالعجميّة ، وإن كان يحسنها أتى بالعربيّة ، فإن خالف وقالها بالفارسيّة : فما كان واجباً كالتّشهّد والسّلام لم يجزه ، وما كان سنّةً كالتّسبيح والافتتاح أجزأه وقد أساء .
خ - الإِتيان بالشّهادتين بغير العربيّة لمن أراد الإِسلام :
11 - يرى جمهور الفقهاء أنّ الكافر إذا أراد الإسلام ، فإن لم يحسن العربيّة جاز أن يأتي بالشّهادتين بلسانه ، وأمّا إن كان يحسنها : فيرى الحنفيّة ، وهو الصّحيح عند عامّة الشّافعيّة أنّه جائز ، لأنّ المراد من الشّهادتين الإخبار عن اعتقاده ، وذلك يحصل بكلّ لسان . وأمّا المالكيّة فالأصل عندهم أنّ النّطق بالشّهادتين بالعربيّة شرط في صحّة الإسلام إلاّ لعجز - بخرس ونحوه - مع قيام القرينة على تصديقه بقلبه ، فيحكم له بالإسلام ، وتجري عليه أحكامه . وذهب الحنابلة إلى أنّه يثبت إسلام الكافر الأصليّ بالنّطق بالشّهادتين . وأمّا إن قال : أنا مؤمن أو أنا مسلم ،قال القاضي أبو يعلى : يحكم بإسلامه بهذا وإن لم يلفظ الشّهادتين.
د - الأمان بغير العربيّة :
12 - الأمان بغير العربيّة لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يجوز ، لما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنّه قال : إذا قلتم : لا بأس أو : لا تذهل أو : مترس ، فقد آمنتموهم ، فإنّ اللّه تعالى يعلم الألسنة . وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مثل ذلك .
ذ - انعقاد النّكاح ووقوع الطّلاق ، بغير العربيّة :
أوّلاً - ترجمة صيغة النّكاح :
13 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من لا يحسن العربيّة يصحّ منه عقد النّكاح بلسانه ، لأنّه عاجز عمّا سواه ، فسقط عنه كالأخرس ، ويحتاج أن يأتي بالمعنى الخاصّ بحيث يشتمل على معنى اللّفظ العربيّ ، وقال أبو الخطّاب من الحنابلة : عليه أن يتعلّم ما كانت العربيّة شرطاً فيه كالتّكبير . واختلفوا فيمن يقدر على لفظ النّكاح بالعربيّة :
فذهب الحنفيّة والشّافعيّة في الأصحّ ، والشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة وابن قدامة من الحنابلة إلى : أنّه ينعقد بغيرها ، لأنّه أتى بلفظه الخاصّ ، فانعقد به ، كما ينعقد بلفظ العربيّة .
ولأنّ اللّغة العجميّة تصدر عمّن تكلّم بها عن قصد صحيح .
ويرى الشّافعيّة في وجه آخر أنّه لا يصحّ بغير العربيّة ، حتّى وإن كان لا يحسنها . وللشّافعيّة قول ثالث : وهو أنّه ينعقد إن لم يحسن العربيّة وإلاّ فلا . وقال في كشّاف القناع : فإن كان أحد المتعاقدين في النّكاح يحسن العربيّة دون الآخر أتى الّذي يحسن العربيّة بما هو من قبله - من إيجاب أو قبول - بالعربيّة لقدرته عليه ، والعاقد الآخر يأتي بما هو من قبله بلغته ، وإن كان كلّ منهما لا يحسن لسان الآخر ترجم بينهما ثقة يعرف اللّسانين .
ثانياً - التّطليق بغير العربيّة :
14 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى : أنّ العجميّ إذا أتى بصريح الطّلاق بالعجميّة كان طلاقاً ، وإذا أتى بالكناية لا يقع إلاّ بنيّته . ولكنّهم اختلفوا في الألفاظ الّتي تعتبر صريح الطّلاق وكنايته بالعجميّة ، وبيّن الفقهاء بعضها في كتاب الطّلاق .
ويرى المالكيّة أنّ من طلّق بالعجميّة لزمه إن شهد بذلك عدلان يعرفان العجميّة .
قال ابن ناجي : قال أبو إبراهيم : يؤخذ منها أنّ التّرجمان لا يكون أقلّ من عدلين .
وينظر مصطلح : ( طلاق ) .
ر - التّرجمة في القضاء :
15 - جمهور الفقهاء على أنّ القاضي يجوز له أن يتّخذ مترجماً .
وأمّا تعدّده ، فذهب الحنفيّة وهو رواية عن أحمد إلى : أنّه يكفي واحد عدل ، وهو اختيار أبي بكر وقاله ابن المنذر أيضاً . قال ابن المنذر في حديث زيد بن ثابت : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلّم كتاب يهود ، قال : فكنت أكتب له إذا كتب إليهم ، وأقرأ له إذا كتبوا » . ولأنّه ممّا لا يفتقر إلى لفظ الشّهادة فأجزأ فيه الواحد كأخبار الدّيانات . ويرى المالكيّة أنّه يكفي الواحد العدل إن رتّبه القاضي .
أمّا غير المرتّب بأن أتى به أحد الخصمين ، أو طلبه القاضي للتّبليغ ، فلا بدّ فيه من التّعدّد ، لأنّه صار كالشّاهد . وفي قول : لا بدّ من تعدّده ، ولو رتّب .
وذهب الشّافعيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة إلى : أنّ التّرجمة شهادة ، لأنّ المترجم ينقل إلى القاضي قولاً لا يعرفه القاضي ، وما خفي عليه فيما يتعلّق بالمتخاصمين ، ولذا فإنّها تفتقر إلى العدد والعدالة ، ويعتبر فيه من الشّروط ما يعتبر في الشّهادة .
فإن كان الحقّ ممّا يثبت برجل أو امرأتين قبلت التّرجمة من رجل وامرأتين ، وما لا يثبت إلاّ برجلين يشترط في ترجمته رجلان ، وفي حدّ الزّنا قولان عند الشّافعيّة .
أحدهما : أنّه لا يكفي فيه أقلّ من أربعة رجال أحرار عدول . والثّاني : يكفي فيه اثنان . وقيل عند الشّافعيّة : يكفي رجلان قطعاً .

ترجيح *
انظر : تعارض .

ترجيع *
التّعريف :
1 - التّرجيع في اللّغة هو : ترديد الصّوت في قراءة أو أذان أو غناء أو غير ذلك ممّا يُتَرنّم به . وفي الاصطلاح هو : أن يخفض المؤذّن صوته بالشّهادتين مع إسماعه الحاضرين ، ثمّ يعود فيرفع صوته بهما .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّثويب :
2 - التّثويب لغةً : العود إلى الإعلام بعد الإعلام .
واصطلاحاً : قول المؤذّن في أذان الصّبح بعد الحيعلتين ، أو بعد الأذان وقبل الإقامة - كما يقول بعض الفقهاء - الصّلاة خير من النّوم ، مرّتين .
ويختلف التّثويب عن التّرجيع - بالمعنى الأوّل - في أنّ التّثويب يكون في أذان الفجر بعد الحيعلتين أو بعد الأذان ، وأمّا التّرجيع فيكون في الإتيان بالشّهادتين في كلّ أذان .
الحكم الإجماليّ :
3 - يرى الحنفيّة والحنابلة على الصّحيح من المذهب - وهو قول الثّوريّ وإسحاق - أنّه لا ترجيع في الأذان ، « لحديث عبد اللّه بن زيد من غير ترجيع . فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إنّها حقّ إن شاء اللّه ، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت ، فليؤذّن به ، فإنّه أندى صوتاً منك . فقمت مع بلال ، فجعلت ألقيه عليه ويؤذّن به » .
فإذا رجع المؤذّن ، فقد نصّ الإمام أحمد على أنّه لا بأس به ، واعتبر الاختلاف في التّرجيع من الاختلافات المباحة ، وقال ابن نجيم : الظّاهر من عبارات مشايخ الحنفيّة أنّ التّرجيع مباح ليس بسنّة ولا مكروه ، لأنّ كلا الأمرين صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ونقل الحصكفيّ عن ملتقى الأبحر كراهة التّرجيع في الأذان ، وحملها ابن عابدين على الكراهة التّنزيهيّة . ويرى المالكيّة ، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة : أنّه يسنّ التّرجيع في الأذان ، لما روي عن أبي محذورة رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ألقى عليه التّأذين هو بنفسه ، فقال له : قل : اللّه أكبر اللّه أكبر اللّه أكبر اللّه أكبر ، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه ، أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه ، ثمّ قال : ارجع فامدد صوتك ، ثمّ قال : قل : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه ، أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه .. إلخ » .
وهناك وجه للشّافعيّة حكاه الخراسانيّون : أنّ التّرجيع ركن لا يصحّ الأذان إلاّ به . قال القاضي حسين : نقل البيهقيّ عن الإمام الشّافعيّ : أنّه إن ترك التّرجيع لا يصحّ أذانه .
محلّ التّرجيع :
4 - التّرجيع يكون كما تقدّم في حديث أبي محذورة بعد الإتيان بالشّهادتين معاً ، فلا يرجّع الشّهادة الأولى قبل الإتيان بالشّهادة الثّانية .
حكمة التّرجيع :
5 - حكمة التّرجيع هي تدبّر كلمتي الإخلاص ، لكونهما المنجّيتين من الكفر ، المدخلتين في الإسلام ، وتذكّر خفائهما في أوّل الإسلام ثمّ ظهورهما .

ترجيل *
التّعريف :
1 - التّرجيل لغةً : تسريح الشّعر وتنظيفه وتحسينه . يقال : رجّلته ترجيلاً : إذا سرّحته ومشّطته . وقد يكون التّرجيل أخصّ من التّمشيط ،لأنّه يراعى فيه الزّيادة في تحسين الشّعر. أمّا التّسريح فهو : إرسال الشّعر وحلّه قبل المشط ، وعلى هذا فيكون التّسريح مغايراً للتّرجيل ، ومضادّاً للتّمشيط . وقال الأزهريّ : تسريح الشّعر ترجيله ، وتخليص بعضه من بعض بالمشط . فعلى المعنى الأوّل يكون مغايراً للتّرجيل ، وعلى الثّاني يكون مرادفاً .
ولا يخرج استعمال الفقهاء للفظ التّرجيل عن معناه اللّغويّ .
الحكم التّكليفيّ :
2 - الأصل في ترجيل الشّعر الاستحباب ، لما روى أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : « من كان له شعر فَلْيُكْرمْه » ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحبّ التّرجيل ، وكان يرجّل نفسه تارةً ، وترجّله عائشة رضي الله عنها تارةً أخرى فقد روت
« أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصغي إليّ رأسَه وهو مجاور في المسجد ، فأرجِّله وأنا حائض » .
وهناك حالات يختلف فيها حكم التّرجيل باختلاف الأشخاص والأوقات منها :
أ - ترجيل المعتكف :
3 - يرى جمهور الفقهاء : أنّه لا يكره للمعتكف إلاّ ما يكره فعله في المسجد ، فيجوز له ترجيل شعره ، لما روي عن « عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصغي إليّ رأسَه ، وهو مجاور في المسجد ، فأرجّله وأنا حائض » .
وقال المالكيّة : لا بأس بأن يدني المعتكف رأسه لمن هو خارج المسجد لترجيل شعره ، كأنّهم يرون كراهة التّرجيل في المسجد ، لأنّ التّرجيل لا يخلو من سقوط شيء من الشّعر ، والأخذ من الشّعر في المسجد مكروه عندهم . وللتّفصيل يرجع إلى مصطلح : ( اعتكاف ) .
ب - ترجيل المحرم :
4 - ذهب الحنفيّة إلى عدم جواز التّرجيل للمحرم - وهو قول المالكيّة إذا كان التّرجيل بالدّهن - لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الحاجّ الشَّعثُ التَّفِل » . والمراد بالشّعث انتشار شعر الحاجّ فلا يجمعه بالتّسريح والدّهن والتّغطية ونحوه .
وقال الشّافعيّة بكراهية التّرجيل للمحرم لأنّه أقرب إلى نتف الشّعر .
ويرى الحنابلة أنّ التّرجيل في حالة الإحرام لا بأس به ، ما لم يؤدّ إلى إبانة شعره .
أمّا إذا تيقّن المحرم سقوط الشّعر بالتّرجيل فلا خلاف بين الفقهاء في حرمته حينئذ . وتفصيل ذلك في : ( إحرام ) .
ج - ترجيل المحدَّة :
5 - لا خلاف بين الفقهاء في عدم جواز التّرجيل للمحدّة بشيء من الطّيب أو بما فيه زينة . أمّا التّرجيل بغير موادّ الزّينة والطّيب - كالسّدر وشبهه ممّا لا يختمر في الرّأس - فقد أجازه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لما روت أمّ سلمة رضي الله عنها « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : لا تمتشطي بالطّيب ولا بالحنّاء فإنّه خضاب ، قالت : قلت : بأيّ شيء أمتشط ؟ قال : بالسّدر تغلّفين به رأسك » ولأنّه يراد للتّنظيف لا للتّطيّب .
وقال الحنفيّة بعدم جواز ترجيل المحدّة - وإن كان بغير طيب - لأنّه زينة ، فإن كان فبمشط ذي أسنان منفرجة دون المضمومة . وقيّد صاحب الجوهرة جواز ترجيل المحدّة بأسنان المشط الواسعة بالعذر . وينظر التّفصيل في ( إحداد ، وامتشاط ) .
كيفيّة التّرجيل :
6 - يستحبّ التّيامن في التّرجيل ، لحديث عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التّيامن في تنعّله وترجّله وطهوره ، وفي شأنه كلّه » .
الإغباب في التّرجيل :
يسنّ ترجيل الشّعر ودهنه غبّاً ، فالاستكثار من التّرجيل والمداومة عليه مكروه إلاّ لحاجة ، لحديث عبد اللّه بن مغفّل رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن التّرجّل إلاّ غبّاً » . ولما روى حميد بن عبد الرّحمن الحميريّ عن بعض أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كلّ يوم » .

ترحّم *
التّعريف :
1 - التّرحّم : من الرّحمة ، ومن معانيها : الرّقة ، والعطف ، والمغفرة .
والتّرحّم : طلب الرّحمة ، وهو أيضاً الدّعاء بالرّحمة ، كقولك : رحمه اللّه . وترحّمتُ عليه : أي قلت له : رحمة اللّه عليك ، ورحَّم عليه : قال له : رحمة اللّه عليك .
وتراحم القوم : رحم بعضهم بعضاً . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التَّرَضِّي :
2 - التّرضّي من الرّضا ، وهو ضدّ السّخط ، والتّرضّي : طلب الرّضا ، والتّرضّي أيضاً : أن تقول : رضي اللّه عنه . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى ، فالتّرضّي دعاء بالرّضوان ، والتّرحّم دعاء بالرّحمة . وللتّفصيل ر : ( ترضّي ) .
ب - التّبريك :
3 - التّبريك : الدّعاء بالبركة ، وهي بمعنى الزّيادة والنّماء ، يقال : بارك اللّه فيك وعليك ولك وباركك ، كلّها بمعنى : زادك خيراً ، ومنه قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَها نُودِيَ أنْ بُورِكَ مَنْ في النَّارِ ومَنْ حَوْلَها } وتبرّك به : أي تيمّن .
فالتّبريك بمعنى : الدّعاء بالبركة ، يتّفق مع التّرحّم في نفس هذا المعنى ، أي الدّعاء .
الحكم التّكليفيّ :
4 - لا خلاف بين الفقهاء في استحباب التّرحّم على الوالدين أحياءً وأمواتاً ، وعلى التّابعين من العلماء والعبّاد الصّالحين ، وعلى سائر الأخيار ، أحياءً وأمواتاً .
وأمّا التّرحّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الصّلاة وخارجها ، ففيه خلاف وتفصيل على النّحو الآتي :
أ - التّرحّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى آله في الصّلاة :
5 - وهو إمّا أن يكون في التّشهّد أو خارجه .
وقد ورد التّرحّم على الرّسول صلى الله عليه وسلم في التّشهّد ، وهو عبارة : " السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه وبركاته " وتفصيل أحكام التّشهّد في مصطلحه .
أمّا التّرحّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم خارج التّشهّد ، فقد ذهب الحنفيّة ، وبعض المالكيّة ، وبعض الشّافعيّة إلى استحباب زيادة : " وارحم محمّداً وآل محمّد " في الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الصّلاة .
وعبارة الرّسالة لابن أبي زيد القيروانيّ : اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، وارحم محمّداً وآل محمّد ، كما صلّيت ورحمت وباركت على إبراهيم .
واستدلّوا بحديث أبي هريرة : قال : قلنا : « يا رسول اللّه : قد علمنا كيف نسلّم عليك ، فكيف نصلّي عليك ؟ قال : قولوا : اللّهمّ اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد » . قال الحافظ ابن حجر : فهذه الأحاديث - وإن كانت ضعيفة الأسانيد - إلاّ أنّها يشدّ بعضها بعضاً ، أقواها أوّلها ،ويدلّ مجموعها على أنّ للزّيادة أصلاً . وأيضاً الضّعيف يعمل به في فضائل الأعمال. وما عليه جمهور الفقهاء الاقتصار على صيغة الصّلاة دون إضافة ( التّرحّم ) كما ورد في الرّوايات المشهورة في الصّحيحين وغيرهما ، بل ذهب بعض الحنفيّة وأبو بكر بن العربيّ المالكيّ والنّوويّ وغيرهم إلى أنّ زيادة " وارحم محمّداً ... إلخ " بدعة لا أصل لها ، وقد بالغ ابن العربيّ في إنكار ذلك وتخطئة ابن أبي زيد ، وتجهيل فاعله ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم علّمنا كيفيّة الصّلاة . فالزّيادة على ذلك استقصار لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم واستدراك عليه . وانتصر لهم بعض المتأخّرين ممّن جمع بين الفقه والحديث ، فقال : ولا يحتجّ بالأحاديث الواردة ، فإنّها كلّها واهية جدّاً . إذ لا يخلو سندها من كذّاب أو متّهم بالكذب . ويؤيّده ما ذكره السّبكيّ : أنّ محلّ العمل بالحديث الضّعيف ما لم يشتدّ ضعفه .
ب - التّرحّم في التّسليم من الصّلاة :
6 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الأكمل في التّسليم في الصّلاة أن يقول :
« السّلام عليكم ورحمة اللّه ، عن يمينه ويساره ، لحديث ابن مسعود وجابر بن سمرة وغيرهما رضي الله تعالى عنهم » . فإن قال : السّلام عليكم - ولم يزد - يجزئه ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « تحليلها التّسليم » .
والتّحليل يحصل بهذا القول ، ولأنّ ذكر الرّحمة تكرير للثّناء فلم يجب ، كقوله : وبركاته .
وقال ابن عقيل من الحنابلة - وهو المعتمد في المذهب - الأصحّ أنّه لا يجزئه الاقتصار على : السّلام عليكم ، لأنّ الصّحيح « عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه كان يقول : السّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته » ، ولأنّ السّلام في الصّلاة ورد مقروناً بالرّحمة ، فلم يجز بدونها ، كالتّسليم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في التّشهّد .
قال الشّافعيّة والحنابلة : والأولى ترك " وبركاته " كما في أكثر الأحاديث . وصرّح المالكيّة : بأنّ زيادة " ورحمة اللّه " لا يضرّ ، لأنّها خارجة عن الصّلاة ، وظاهر كلام أهل المذهب أنّها غير سنّة ، وإن ثبت بها الحديث ، لأنّها لم يصحبها عمل أهل المدينة ، وذكر بعض المالكيّة أنّ الأولى الاقتصار على : السّلام عليكم ،وأنّ زيادة : ورحمة اللّه وبركاته هنا خلاف الأولى.
ج - التّرحّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم خارج الصّلاة :
7 - اختلف الفقهاء في جواز التّرحّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم خارج الصّلاة ، فذهب بعضهم إلى المنع مطلقاً ووجّهه بعض الحنفيّة : بأنّ الرّحمة إنّما تكون غالباً عن فعل يلام عليه ، ونحن أمرنا بتعظيمه ، وليس في التّرحّم ما يدلّ على التّعظيم ، مثل الصّلاة ، ولهذا يجوز أن يدعى بها لغير الأنبياء والملائكة عليهم السلام .
أمّا هو صلى الله عليه وسلم فمرحوم قطعاً ، فيكون من باب تحصيل الحاصل ، وقد استغنينا عن هذه بالصّلاة ، فلا حاجة إليها ، ولأنّه يجلّ مقامه عن الدّعاء بها .
قال ابن دحية : ينبغي لمن ذكره صلى الله عليه وسلم أن يصلّي عليه ، ولا يجوز أن يترحّم عليه ، لقوله تعالى : { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضَاً } .
ونقل مثله عن ابن عبد البرّ ، والصّيدلانيّ ، كما حكاه عنه الرّافعيّ ولم يتعقّبه .
وصرّح أبو زرعة ابن الحافظ العراقيّ في فتاواه ، بأنّ المنع أرجح لضعف الأحاديث الّتي استند إليها ، فيفهم من قوله : حرمته مطلقاً .
وذهب بعض الفقهاء إلى الجواز مطلقاً : أي ولو بدون انضمام صلاة أو سلام .
واستدلّوا بقول الأعرابيّ فيما رواه البخاريّ وهو قوله : « اللّهمّ ارحمني ، وارحم محمّداً ، ولا ترحم معنا أحداً لتقريره صلى الله عليه وسلم على قوله : اللّهمّ ارحمني وارحم محمّداً ، ولم ينكر عليه سوى قوله : ولا ترحم معنا أحداً » .
وقال السّرخسيّ : لا بأس بالتّرحّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، لأنّ الأثر ورد به من طريق أبي هريرة وابن عبّاس رضي الله عنهم ، ولأنّ أحداً وإن جلّ قدره لا يستغني عن رحمة اللّه . كما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لن يدخل أحداً عمله الجنّة ، قالوا : ولا أنت يا رسول اللّه ؟ قال : ولا أنا إلاّ أن يتغمّدني اللّه برحمته » .
ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان من أشوق العبّاد إلى مزيد رحمة اللّه تعالى ، ومعناها معنى الصّلاة ، فلم يوجد ما يمنع ذلك . ولا ينافي الدّعاء له بالرّحمة أنّه عليه الصلاة والسلام عَيْنُ الرّحمة بنصّ : { ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاّ رَحْمَةً لِلعَالَمِين } لأنّ حصول ذلك لا يمنع طلب الزّيادة له ، إذ فضل اللّه لا يتناهى ، والكامل يقبل الكمال .
وفصّل بعض المتأخّرين ، فقال بالحرمة إنّ ذكرها استقلالاً : كأن يقول المتكلّم : قال النّبيّ رحمه الله . وبالجواز إن ذكرها تبعاً : أي مضمومةً إلى الصّلاة والسّلام ، فيجوز : اللّهمّ صلّ على محمّد وارحم محمّداً . ولا يجوز : ارحم محمّداً ، بدون الصّلاة ، لأنّها وردت في الأحاديث الّتي وردت فيها على سبيل التّبعيّة للصّلاة والبركة ، ولم يرد ما يدلّ على وقوعها مفردةً ، وربّ شيء يجوز تبعاً ، لا استقلالاً .
وبه أخذ جمع من العلماء ، بل نقله القاضي عن الجمهور ، وقال القرطبيّ : وهو الصّحيح .
د - التّرحّم على الصّحابة رضي الله عنهم والتّابعين ومن بعدهم من الأخيار :
8 - اختلف الفقهاء في جواز التّرحّم على الصّحابة ، فذهب بعضهم إلى أنّه عند ذكر الصّحابة الأولى أن يقال : رضي اللّه عنهم .
وأمّا عند ذكر التّابعين ومن بعدهم من العلماء ، والعبّاد ،وسائر الأخيار فيقال : رحمهم اللّه. قال الزّيلعيّ : الأولى أن يدعو للصّحابة بالرّضى ، وللتّابعين بالرّحمة ، ولمن بعدهم بالمغفرة والتّجاوز ، لأنّ الصّحابة كانوا يبالغون في طلب الرّضى من اللّه تعالى ، ويجتهدون في فعل ما يرضيه ، ويرضون بما يلحقهم من الابتلاء من جهته أشدّ الرّضى ، فهؤلاء أحقّ بالرّضى ، وغيرهم لا يلحق أدناهم ولو أنفق ملء الأرض ذهباً .
وذكر ابن عابدين نقلاً عن القرمانيّ على الرّاجح عنده : أنّه يجوز عكسه أيضاً ، وهو التّرحّم للصّحابة ، والتّرضّي للتّابعين ومن بعدهم . وإليه مال النّوويّ في الأذكار ، وقال : يستحبّ التّرضّي والتّرحّم على الصّحابة والتّابعين فمن بعدهم من العلماء والعبّاد وسائر الأخيار . فيقال : رضي اللّه عنه ، أو رحمه اللّه ونحو ذلك .
وأمّا ما قاله بعض العلماء : إنّ قوله : رضي اللّه عنه مخصوص بالصّحابة ، ويقال في غيرهم : رحمه اللّه فقط فليس كما قال ، ولا يوافق عليه ، بل الصّحيح الّذي عليه الجمهور استحبابه ، ودلائله أكثر من أن تحصر . وذكر في النّهاية نقلاً عن المجموع : أنّ اختصاص التّرضّي بالصّحابة والتّرحّم بغيرهم ضعيف .
هـ - التّرحّم على الوالدين :
9 - الأصل في وجوب التّرحّم على الوالدين قوله تعالى : { وَاخْفِضْ لهما جَنَاحَ الذُّلِّ من الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما } حيث أمر اللّه سبحانه وتعالى عباده بالتّرحّم على آبائهم والدّعاء لهم . ومحلّ طلب الدّعاء والتّرحّم لهما إن كانا مؤمنين ، أمّا إن كانا كافرين فيحرم ذلك لقوله تعالى : { مَا كانَ لِلنَّبيِّ والّذينَ آمنُوا أنْ يَسْتَغفِرُوا للمُشْرِكِينَ ولو كانوا أُولِي قُرْبَى } .
و - التّرحّم في التّحيّة بين المسلمين :
10 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الأفضل أن يقول المسلم للمسلم في التّحيّة : السّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ، ويقول المجيب أيضاً : وعليكم السّلام ورحمة اللّه وبركاته ، لما روى عمران بن الحصين أنّه قال : « جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : السّلام عليكم ، فردّ عليه ، ثمّ جلس ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : عشر . ثمّ جاء آخر ، فقال : السّلام عليكم ورحمة اللّه ، فردّ عليه ، ثمّ جلس ، فقال : عشرون . ثمّ جاء آخر ، فقال : السّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ، فردّ عليه ، فجلس ، فقال : ثلاثون » قال التّرمذيّ : حديث حسن . وهذا التّعميم مخصوص بالمسلمين ، فلا ترحّم على كافر لمنع بدئه بالسّلام عند الأكثرين تحريماً ، لحديث : « لا تبدءوا اليهود ولا النّصارى بالسّلام » .
ولو سلّم اليهوديّ والنّصرانيّ ، فلا بأس بالرّدّ ، ولكن لا يزيد على قوله : " وعليك " .
والّذين جوّزوا ابتداءهم بالسّلام ، صرّحوا بالاقتصار على : " السّلام عليك " دون الجمع ، ودون أن يقول : " ورحمة اللّه " لما روي عن أنس رضي الله عنه ، قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إذا سلّم عليكم أهل الكتاب ، فقولوا : وعليكم أو عليكم » بغير واو .
ز - التّرحّم على الكفّار :
11 - صرّح النّوويّ في كتابه الأذكار بأنّه لا يجوز أن يدعى للذّمّيّ بالمغفرة وما أشبهها في حال حياته ممّا لا يقال للكفّار ، لكن يجوز أن يدعى له بالهداية ، وصحّة البدن والعافية وشبه ذلك . لحديث أنس رضي الله عنه قال : « استسقى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسقاه يهوديّ ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : جمّلك اللّه » فما رأى الشّيب حتّى مات .
وأمّا بعد وفاته فيحرم الدّعاء للكافر بالمغفرة ونحوها ، لقول اللّه تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والّذينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلمُشْرِكِينَ ولو كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهم أنَّهم أصْحَابُ الجَحِيمِ } وقد جاء الحديث بمعناه ، وأجمع المسلمون عليه .
ح - التزام التّرحّم كتابةً ونطقاً عند القراءة :
ينبغي لكاتب الحديث وراويه أن يحافظ على كتابة التّرضّي والتّرحّم على الصّحابة والعلماء وسائر الأخيار ، والنّطق به ، ولا يسأم من تكراره ، ولا يتقيّد فيه بما في الأصل إن كان ناقصاً .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ترخيص *
انظر : رخصة .

تردّي *
التّعريف :
1 - للتّردّي في اللّغة معان ، منها : السّقوط من علوّ إلى سفل يقال : تردّى في مهواة : إذا سقط فيها ، ورديته ترديةً : أسقطته .
وهو في الاصطلاح لا يخرج عن هذا المعنى فقد عرّفه المالكيّة بأنّه : السّقوط من عال إلى سافل . ومنه المتردّية : وهي الّتي وقعت في بئر أو من جبل .
وفي النّظم المستعذب : هي الّتي تتردّى من الجبل فتسقط .
وفي مطالب أولي النّهى : هي الواقعة من علوّ كجبل وحائط ، وساقطة في نحو بئر .
الحكم الإجماليّ :
2 - يقول اللّه تبارك وتعالى : { حُرِّمَتْ عليكُم المَيْتَةُ والدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ ومَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللّهِ بِه والمُنْخَنِقَةُ والمَوقُوذَةُ والمُتَرَدِّيَةُ والنَّطِيحةُ وما أَكَلَ السَّبُعُ إلاّ ما ذَكَّيْتُم وما ذُبِحَ على النُّصُبِ وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بالأزْلامِ ذلكم فِسْقٌ ... } فقد حرّم سبحانه في هذه الآية أنواعاً منها : المتردّية إلاّ إذا ذكّيت ذكاةً شرعيّةً ، اختياريّةً كانت بالذّبح أو النّحر في محلّه . أو اضطراريّةً بالجرح بالطّعن وإنهار الدّم في أيّ موضع تيسّر من البدن . ولا ينتقل إلى الثّانية إلاّ عند العجز عن الأولى . ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ الذّكاة : إمّا اختياريّة في المقدور عليه ، وتكون بالذّبح فيما يذبح ، كالبقر والغنم ، أو النّحر فيما ينحر كالإبل ، ولا تحلّ بغير الذّكاة في محلّها . وإمّا اضطراريّة في غير المقدور عليه ، كالحيوان المتوحّش الشّارد والمتردّي في بئر مثلاً ، وتعذّرت ذكاته في محلّها ، وهي - أي الاضطراريّة - تكون بالعقر ، وهو الجرح في أيّ موضع كان من البدن . واستثنى الحنفيّة الشّاة إذا ندّت في المصر ، فقالوا بعدم جواز عقرها ، حيث يمكن القدرة عليها وإمساكها .
3 - فما تردّى من النّعم في بئر مثلاً ، ووقع العجز عن تذكيته الذّكاة الاختياريّة ، فذكاته العقر والجرح في أيّ موضع من جسمه تيسّر للعاقر فعله ، كالنّادّ غير المقدور عليه . وبذلك يحلّ أكله إلاّ أن تكون رأسه في الماء ، فلا يحلّ أكله ، لأنّ الماء يعين على قتله ، ويحتمل أن يكون قتله بالماء - في قول أكثر الفقهاء ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وفي قول لابن حبيب من المالكيّة ) - لما روى رافع بن خديج رضي الله عنه قال : « كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فندّ بعير ، وكان في القوم خيل يسيرة ، فطلبوه فأعياهم ، فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه اللّه ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إنّ لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش ، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا » ، وفي لفظ « فما ندّ عليكم فاصنعوا به هكذا » . ومن حديث أبي العشراء الدّارميّ عن أبيه أنّه « قال : يا رسول اللّه . أما تكون الذّكاة إلاّ في الحلق واللّبّة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : لو طعنت في فخذها لأجزأك » قال أبو داود : هذا لا يصحّ إلاّ في المتردّية والمتوحّش . وقال المجد : هذا فيما لا يقدر عليه .
والمشهور عند المالكيّة - سوى ابن حبيب - أنّ المتردّية لا يحلّها العقر ، وإنّما تحلّها الذّكاة بالذّبح إن كانت ممّا يذبح ، أو النّحر إن كانت ممّا ينحر .
4 - وقال الحنفيّة : لو رمى صيداً فوقع في ماء فيحرم ، لاحتمال قتله بالماء ، أو وقع على سطح أو جبل فتردّى منه إلى الأرض حرم ، لأنّ الاحتراز عن مثل هذا ممكن .
5- وفي المغني ومطالب أولي النّهى للحنابلة : لو رمى حيواناً فوقع في ماء يقتله مثله ، أو تردّى تردّياً يقتله مثله لم يؤكل ، لأنّه يحتمل أنّ الماء أعان على خروج روحه . أمّا لو وقع الحيوان في الماء على وجه لا يقتله ، مثل أن يكون رأسه خارجاً من الماء ، أو يكون من طير الماء الّذي لا يقتله الماء ، أو كان التّردّي لا يقتل مثل ذلك الحيوان فلا خلاف في إباحته ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ... فإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكله »
ولأنّ الوقوع في الماء والتّردّي إنّما حرم خشية أن يكون قاتلاً أو معيناً على القتل .
فإن رمى طائراً في الهواء أو على شجرة أو جبل فوقع إلى الأرض فمات حلّ ، لأنّ الاحتراز منه غير ممكن .
6- ولو تردّى بعيران - مثلاً - أحدهما فوق الآخر في نحو بئر .
فإن مات الأسفل بثقل الأعلى مثلاً لم يحلّ ، بخلاف ما لو طعن الأعلى بنحو سهم أو رمح ، فوصل إلى الأسفل وأثّر فيه يقيناً ، فهما حلال وإن لم يعلم بالأسفل .

ترسّل *
التّعريف :
1 - للتّرسّل في اللّغة معان ، منها : التّمهّل والتّأنّي . يقال : ترسّل في قراءته بمعنى : تمهّل واتّأد فيها . وترسّل الرّجل في كلامه ومشيه : إذا لم يعجل . وفي حديث عمر رضي الله عنه « إذا أذّنت فترسّل » : أي تأنّ ولا تعجل . ولا يخرج معناه اصطلاحاً عن هذا ، فقالوا : إنّه في الأذان : التّمهّل والتّأنّي وترك العجلة ، ويكون بسكتة بين كلّ جملتين من جمل الأذان تسع الإجابة ، وذلك من غير تمطيط ولا مدّ مفرط .
2 - والحدر يقابل التّرسّل ، وله في اللّغة معان منها : الإسراع في القراءة . يقال : حدر الرّجل الأذان والإقامة والقراءة وحدر فيها كلّها حدراً من باب قتل : إذا أسرع .
وفي حديث الأذان : « إذا أذّنت فترسّل ، وإذا أقمت فاحدر » أي أسرع ولا يخرج معناه في الاصطلاح عن ذلك .
والحدر سنّة في الإقامة ، مكروه في الأذان . لما روى جابر رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لبلال رضي الله عنه : يا بلال إذا أذّنت فترسّل ، وإذا أقمت فاحدر » .
الحكم الإجماليّ للتّرسّل :
3 - للتّرسّل أحكام تعتريه . فهو في الأذان مسنون .
وصفته : أن يتمهّل المؤذّن فيه بسكتة بين كلّ جملتين منه تسع إجابة السّامع له ، وذلك من غير تمطيط ولا مدّ مفرط ولا تطريب ، لما روى جابر رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لبلال : يا بلال إذا أذّنت فترسّل » ، وما روي عن أبي الزّبير مؤذّن بيت المقدس أنّ عمر رضي الله عنه قال : « إذا أذّنت فترسّل » وما روي أنّ رجلاً قال لابن عمر : إنّي لأحبّك في اللّه . قال : "وأنا أبغضك في اللّه .إنّك تغنّي في أذانك ".
هذا ما عليه الفقهاء . والتّرسّل في الإقامة مكروه ، وذلك أنّه يسنّ لمن يقيم الصّلاة أن يسرع فيها ولا يترسّل ، للأحاديث السّابقة .
هذا ، والأذان قد شرع للإعلام بدخول الوقت وتنبيه الغائبين إليه ودعوتهم إلى الحضور للصّلاة . أمّا الإقامة فقد شرعت لإعلام الحاضرين بالتّأهّب للصّلاة والقيام لها ، ولذا كان التّرسّل في الأذان أبلغ في الإعلام ، أمّا الإقامة فلا حاجة فيها إلى التّرسّل .
ولذا ثُنّي الأذان وأفردت الإقامة ، لما روي عن أنس رضي الله عنه قال : « أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة » . زاد حمّاد في حديثه " إلاّ الإقامة " ، واستحبّ أن يكون الأذان في مكان عال بخلاف الإقامة ، وأن يكون الصّوت في الأذان أرفع منه في الإقامة ، وأن يكون الأذان مرتّلاً والإقامة مسرعةً ، وسنّ تكرار قد قامت الصّلاة مرّتين في الإقامة ، لأنّها المقصودة من الإقامة بالذّات . ( ر : أذان ، إقامة ) .

ترسيم *
التّعريف :
1 - التّرسيم لغةً مصدر رسم . جاء في المعجم الوسيط : رسم الثّوب : خطّطه خطوطاً خفيَّةً . والاسم : الرّسم . وللرّسم معان منها الأثر يقال : رَسَمَتِ النّاقة : إذا أثّرت في الأرض من شدّة الوطء . ورسم الغيث الدّيار يرسمها رسماً : إذا عفاها وأبقى أثرها لاصقاً بالأرض . ويطلق مجازاً على الأمر بالشّيء يقال : رسم له كذا إذا أمره به فارتسم : أي امتثل به . والتّرسيم في اصطلاح الفقهاء - كما يفهم من كتب الفقه - هو : التّضييق على الشّخص ، وتحديد حركته ، بحيث لا يستطيع أن يذهب من مكان إلى آخر .
حكمه التّكليفيّ :
الشّهادة على إقرار ذي التّرسيم :
2 - جاء في حاشية القليوبيّ على شرح المنهاج : لا تجوز الشّهادة على إقرار نحو محبوس وذي ترسيم ، لوجود أمارة الإكراه . كما لا يصحّ من المحبوس وذي التّرسيم إقراره بحقّ أو ما يوجب العقوبة . قال في شرح مطالب أولي النّهى : تقبل من مقرّ ونحوه دعوى إكراه على إقرار بقرينة دالّة على إكراه ، كتهديد قادر على ما هدّد به من ضرب أو حبس ، وترسيم عليه أو سجنه أو أخذ ماله ونحوه ، لدلالة الحال عليه .

ترشيد *
التّعريف :
1 - التّرشيد لغةً : مأخوذ من الرّشد ، وهو الصّلاح وإصابة الصّواب .
ورشّده القاضي ترشيداً : جعله رشيداً . والتّرشيد في اصطلاح الفقهاء هو : رفع الحجر عن الصّغير بعد اختباره . وعند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة : يكون الرّشد بالصّلاح في المال .
وهو عند الشّافعيّة : الصّلاح في الدّين والمال .
الحكم التّكليفيّ :
2 - يجوز لوليّ الصّبيّ العاقل أن يدفع إليه شيئاً من أمواله ، ويأذن له بالتّجارة للاختبار ، لقوله تعالى : { وَابْتَلُوا اليَتَامَى حتَّى إذا بَلَغُوا النِّكَاحَ فإَنْ آنَسْتُم منهُم رُشْدَاً فَادْفَعُوا إليهِمْ أَمْوَالَهم } أذن اللّه سبحانه وتعالى في ابتلاء اليتامى ، والابتلاء : الاختبار ، وذلك بالتّجارة ، فكان الإذن بالابتلاء إذناً بالتّجارة ، وإذا اختبره : فإن آنس منه رشداً وقد بلغ دفع الباقي إليه للآية المذكورة ، وإن لم يأنس منه رشداً منعه منه إلى أن يبلغ ، فإن بلغ رشيداً دفع إليه ، وإن بلغ سفيهاً مفسداً مبذّراً فإنّه يمنع عنه ماله . عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ومحمّد ولو صار شيخاً ، حتّى يؤنس رشده بالاختبار .
لكنّ الحنابلة قالوا : إنّ الاختبار يكون بتفويض التّصرّفات الّتي يتصرّف فيها أمثاله ، فأولاد التّجّار غير أولاد الدّهاقين والكبراء ، وكذا أبناء المزارعين ، وأصحاب الحرف ، وكلّ واحد ممّا ذكر يختبر فيما هو أهل له ، والأنثى يفوّض إليها ما يفوّض إلى ربّة البيت ، فإن وجدت ضابطةً لما في يدها مستوفيةً من وكيلها فهي رشيدة .
ووقت الاختبار عندهم قبل البلوغ في إحدى الرّوايتين ، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشّافعيّ ، لأنّ اللّه تعالى قال : { وَابْتَلُوا اليَتَامَى } فظاهر الآية أنّ ابتلاءهم قبل البلوغ لوجهين : أحدهما : أنّه سمّاهم يتامى ، وإنّما يكونون يتامى قبل البلوغ .
والثّاني : أنّه مدّ اختبارهم إلى البلوغ بلفظ : حتّى ، فدلّ على أنّ الاختبار قبله .
والرّواية الأخرى عن أحمد ، وهو الوجه الآخر لأصحاب الشّافعيّ : أنّ الاختبار بعد البلوغ . والاختبار واجب عند الحنابلة والشّافعيّة .
وقال الشّافعيّة : يختبر الوليّ وجوباً رشد الصّبيّ في الدّين والمال للآية السّابقة ، أمّا في الدّين : فبمشاهدة حاله في العبادات ، والمعاملات ، وتجنّب المحظورات ، وتوقّي الشّبهات ، ومخالطة أهل الخير ، وأمّا في المال : فكما قال الأئمّة الثّلاثة .
وقال الحنفيّة : إن بلغ سفيهاً مفسداً مبذّراً يمنع عنه ماله إلى خمس وعشرين سنةً ما لم يؤنس رشده قبلها ، فإذا بلغ السّنّ المذكورة يسلّم إليه ماله وجوباً وإن لم يكن رشيداً ، لأنّه بلغ سنّاً يتصوّر أن يصير جدّاً ، ولأنّ المنع للتّأديب فإذا بلغ هذه السّنّ انقطع رجاء التّأديب ، وهذا عند أبي حنيفة .
من يتولّى التّرشيد :
3 - ذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة إلى : أنّ ترشيد الصّبيّ إذا بلغ وأونس منه الرّشد ، أو المجنون إذا عقل يصحّ أن يكون من الوليّ ، ولا يحتاج إلى حكم حاكم ، ويصحّ أن يكون من الحاكم أيضاً عند الاختلاف .
والأنثى عندهم في ذلك كالذّكر ، فيدفع إليها مالها إذا بلغت وأونس رشدها ، سواء تزوّجت أم لم تتزوّج . وهناك رواية عن الإمام أحمد أنّ الحجر لا يزول عن الأنثى حتّى تتزوّج وتلد ، أو تمضي عليها سنة في بيت الزّوج . وأمّا المالكيّة فقد فرّقوا بين ترشيد الصّبيّ وترشيد الصّبيّة ، وفكّ الحجر عنهما ، وكذلك بين التّرشيد للأنثى إذا كانت معلومة الرّشد وبين غيرها ، وفرّقوا أيضاً بين التّرشيد في الأب والوصيّ والمقدّم .
أمّا الصّبيّ فإن كان في ولاية الأب ينفكّ الحجر عنه بمجرّد البلوغ مع حفظه لماله ، ولا يحتاج إلى أن يفكّ الأب الحجر عنه ، وإن كان في وصاية الوصيّ أو المقدّم فلا بدّ من الفكّ منهما ، ولا يحتاج إلى إذن القاضي .
وفي الأنثى يكون الحجر عليها لحين بلوغها مع حفظ المال ، ودخول الزّوج بها وشهادة عدلين على حسن تصرّفها . فإن كانت في ولاية الأب ، فإنّ الحجر ينفكّ عنها بذلك ، ولا يحتاج لفكّ من الأب ، ويجوز للأب ترشيدها قبل الدّخول إذا بلغت ، وإن كانت في وصاية الوصيّ أو المقدّم ، فلا بدّ من الفكّ منهما بعد الدّخول .
ثمّ إن كانت الأنثى معلومة الرّشد فإنّه يجوز ترشيدها مطلقاً : أي قبل الدّخول وبعده لكلّ من الأب والوصيّ والمقدّم . وأمّا مجهولة الرّشد فإنّه يجوز للأب ترشيدها قبل الدّخول وبعده ، وللوصيّ ترشيدها بعد الدّخول لا قبله ، ولا يجوز للمقدّم ترشيدها لا قبل الدّخول ولا بعده .
ما يكون به التّرشيد :
4 - ليس للتّرشيد لفظ معيّن عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، فكما يكون صراحةً يكون دلالةً أيضاً . وأمّا المالكيّة فقد نصّوا على أنّ ترشيد الصّبيّ يكون بقول الوليّ للعدول : اشهدوا أنّي فككت الحجر عن فلان محجوري ، وأطلقت له التّصرّف ، وملّكت له أمره . وترشيد الأنثى يكون بقوله لها : رشّدتك ، أو أطلقت يدك ، أو رفعت الحجر عنك ، أو نحو ذلك .
ضمان المال إذا أخطأ الوليّ في التّرشيد :
5 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ وصيّ الصّغير إذا دفع إليه ماله قبل ثبوت رشده ، فضاع المال في يده أو أتلفه الصّغير ، يصير الوصيّ ضامناً . وأمّا إذا بلغ ولم يعلم رشده وسفهه ، فأعطى الوصيّ له ماله ، وثبت كونه مفسداً وغير رشيد ، فيلزم الوصيّ الضّمان على ما في الولوالجيّة والشّلبيّ ، وفي قول آخر : لا يلزم الوصيّ ضمان على ما أفاده صاحب تنقيح الفتاوى الحامديّة . ويرى المالكيّة والحنابلة أنّ الوليّ لا يضمن شيئاً ممّا أتلفه بعد ترشيده ، لأنّ الوليّ فعله باجتهاده . وأمّا الشّافعيّة فلم ينصّوا على مسألة الضّمان .

ترضّي *
التّعريف :
1 - التّرضّي : طلب الرّضا . والرّضا : خلاف السّخط . والتّرضّي عن فلان قول : رضي اللّه عنه . ولا يخرج استعمال الفقهاء لكلمة التّرضّي عن هذا المعنى .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّرحّم :
2 - التّرحّم : من الرّحمة ، ولها في اللّغة معان متعدّدة منها : الرّقة ، والخير ، والنّعمة ، والنّبوّة . ومنه الآية الكريمة : { واللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِه مَنْ يَشَاءُ } أي بنبوّته .
والتّرحّم قول : رحمه اللّه ، وترحّمت عليه : أي قلت له : رحمة اللّه عليك ، ورحّم عليه قال : رحمة اللّه عليه ، وتراحم القوم : رحم بعضهم بعضاً .
فالتّرضّي دعاء بالرّضا ، والتّرحّم دعاء بالرّحمة .
حكمه التّكليفيّ :
3 - يختلف حكم التّرضّي باختلاف المترضّى عنه على النّحو التّالي :
أ - التّرضّي عمّن اختلف في نبوّته :
4 - يستحبّ التّرضّي عمّن اختلف في نبوّته : كذي القرنين ،ولقمان ، وذي الكفل وغيرهم . وذكر ابن عابدين نقلاً عن النّوويّ : أنّ الدّعاء بالصّلاة عليهم لا بأس به ، ولكنّ الأرجح أن يقال : رضي اللّه عنهم ، لأنّ مرتبتهم غير مرتبة الأنبياء ، ولم يثبت كونهم أنبياء .
ب - التّرضّي عن الصّحابة :
5 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يستحبّ التّرضّي عن الصّحابة رضي الله عنهم ، لأنّهم كانوا يبالغون في طلب الرّضا من اللّه سبحانه وتعالى ، ويجتهدون في فعل ما يرضيه ، ويرضون بما يلحقهم من الابتلاء من عنده أشدّ الرّضا ، فهؤلاء أحقّ بالرّضا .
وإن كان صحابيّاً ابن صحابيّ كابن عمر وابن عبّاس قال : رضي الله عنهما ،لتشمله وأباه . وإذا كان هو وأبوه وجدّه من الصّحابة قال : رضي اللّه عنهم كعبد الرّحمن بن أبي بكر الصّدّيق بن أبي قحافة رضي الله عنهم .
ج - التّرضّي عن غير الصّحابة :
6 - قال صاحب عمدة الأبرار : يجوز التّرضّي عن السّلف من المشايخ والعلماء وذلك لقوله تعالى : { إنَّ الّذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِيْ مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدَاً رَضِيَ اللّهُ عَنْهُم وَرَضُوا عَنْهُ } .
ففي الآية الكريمة ذكر عامّة المؤمنين بهذا ، من الصّحابة وغيرهم .
وكما ذكر في كثير من الكتب مثل : التّقويم ، والبزدويّ ، والسّرخسيّ ، والهداية وغيرها بعد ذكر الأساتذة أو بعد ذكر نفسه " رضي اللّه "
فلو لم يجز الدّعاء بهذا اللّفظ ما ذكروه في كتبهم ، وهكذا جرت العادة بين أهل العلم بالابتداء بهذا الدّعاء ، حيث يقولون : رضي اللّه عنك وعن والديك إلى آخره . ولم ينكر أحد منهم ، بل استحسنوا الدّعاء بهذا اللّفظ ، وكانوا يعلّمون ذلك لتلامذتهم ، فعليه عمل الأمّة .
د - المحافظة على كتابة التّرضّي :
7 - ينبغي أن يحافظ على كتابة التّرضّي عن الصّحابة والتّابعين من العلماء وسائر الأخيار ، ولا يسأم من تكراره ، ومن أغفله حرم حظّاً عظيماً ، وإذا جاءت الرّواية بالتّرضّي كانت العناية به أشدّ .
هـ - ما يجب على سامع التّرضّي :
8 - ينبغي لسامع التّرضّي عن الصّحابة ولو حال الخطبة أن يترضّى عنهم ، كما ينبغي لسامع الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، لأنّه أفضل من الإنصات .
وفي ذلك خلاف وتفصيل ينظر في ( خطبة ) .

ترك *
التّعريف :
1 - التَّرْك لغةً : وَدْعُك الشّيء ، ويقال : تركت الشّيء : إذا خلّيته ، وتركت المنزل : إذا رحلت عنه ، وتركت الرّجل : إذا فارقته . ثمّ استعير للإسقاط في المعاني ، فقيل : ترك حقّه : إذا أسقطه ، وترك ركعةً من الصّلاة : إذا لم يأت بها ، فإنّه إسقاط لما ثبت شرعاً .
والتّرك في اصطلاح أكثر الأصوليّين والفقهاء : كفّ النّفس عن الإيقاع ، فهو فعل نفسيّ ، وقيل : إنّه ليس بفعل .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإهمال :
2 - الإهمال : التّرك عن عمد أو نسيان ، ويقال : أهمله إهمالاً إذا خلّى بينه وبين نفسه ، ويأتي عند الفقهاء بمعنى التّرك .
ب - التّخلية :
3 - التّخلية : التّرك ويستعمله الفقهاء في : تمكين الشّخص من التّصرّف في الشّيء دون حائل . فالتّرك أعمّ من التّخلية .
ج - الإسقاط والإبراء :
4 - الإسقاط : إزالة الملك أو الحقّ لا إلى مالك أو مستحقّ .
والإبراء : إسقاط الشّخص حقّاً له في ذمّة آخر أو قبله . وكلاهما يستعمل في موطن التّرك إلاّ أنّ التّرك أعمّ في استعمالاته .
الحكم الإجماليّ :
أوّلاً - التّرك عند الأصوليّين :
أ - التّرك والحكم الشّرعيّ :
5 - اقتضاء التّرك في خطاب اللّه تعالى المتعلّق بفعل المكلّف هو أحد أقسام الحكم الشّرعيّ. واقتضاء التّرك لشيء إن كان جازماً فهو للتّحريم ، وإن كان غير جازم فهو للكراهة ، وإن كان مساوياً لاقتضاء الفعل في الخطاب فهو للإباحة . وانظر الملحق الأصوليّ .
ب - التّرك فعل يتعلّق به التّكليف :
6 - يتعلّق التّكليف بالتّرك بناءً على أنّه فعل ، إذ المكلّف به في النّهي المقتضي للتّرك هو الكفّ ، أي كفّ النّفس عن الفعل إذا أقبلت عليه ، وذلك فعل ، ومن ثمّ كانت القاعدة الأصوليّة ( لا تكليف إلاّ بفعل ) وذلك متحقّق في الأمر ، وفي النّهي على اعتبار أنّ مقتضاه وهو التّرك فعل ، وهذا ما ذهب إليه أكثر الأصوليّين .
واستدلّوا على ذلك بأنّ التّرك من مقتضى النّهي ، والنّهي تكليف ، والتّكليف إنّما يرد بما كان مقدوراً للمكلّف ، والعدم الأصليّ يمتنع أن يكون مقدوراً ، لأنّ القدرة لا بدّ لها من أثر وجوديّ ، والعدم نفي محض ، فيمتنع إسناده إليها . ولأنّ العدم الأصليّ - أي المستمرّ - حاصل ، والحاصل لا يمكن تحصيله ثانياً ، وإذا ثبت أنّ مقتضى النّهي ليس هو العدم ثبت أنّه أمر وجوديّ . كذلك قالوا : إنّ ممتثل التّكليف مطيع والطّاعة حسنة ، والحسنة مستلزمة للثّواب ، ولا يثاب إلاّ على شيء ( وألاّ يفعل ) عدم محض وليس بشيء ، وإذا لم يصدر منه شيء فكيف يثاب على لا شيء ؟ .
وقال قوم ، منهم أبو هاشم : إنّ التّرك غير فعل ، وهو انتفاء المنهيّ عنه ، وذلك مقدور للمكلّف بأن لا يشاء فعله الّذي يوجد بمشيئته . وانظر : الملحق الأصوليّ .
هذا ، والخروج عن العهدة لا يشترط له قصد التّرك امتثالاً ، بل يكفي مجرّد التّرك . إنّما يشترط قصد التّرك امتثالاً لحصول الثّواب . لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّما الأعمال بالنّيّات » . وفي تقريرات الشّربينيّ على جمع الجوامع : في التّكليف بالنّهي ثلاثة أمور : الأوّل : المكلّف به ، وهو مطلق التّرك ، ولا يتوقّف على قصد الامتثال ، بل مداره على إقبال النّفس على الفعل ، ثمّ كفّها عنه .
الثّاني : المكلّف به المثاب عليه ، وهو التّرك بقصد الامتثال .
الثّالث : عدم المنهيّ عنه ، وهو المقصود ، لكنّه ليس مكلّفاً به ، لعدم قدرة المكلّف عليه . وانظر الملحق الأصوليّ .
ج - التّرك وسيلة لبيان الأحكام :
7 - قد يكون التّرك وسيلةً لبيان الحكم الشّرعيّ ، يقول القرافيّ : البيان إمّا بالقول أو بالفعل كالكتابة والإشارة ، أو بالدّليل العقليّ ، أو بالتّرك . والتّرك يبيّن به حكم المحرّم والمكروه والمندوب . وينظر تفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ .
ثانياً - التّرك عند الفقهاء :
أ - ترك المحرّمات :
8 - المحرّمات الّتي نهى الشّرع عنها ، سواء أكانت من عمل الجوارح كالزّنى والسّرقة والقتل والكذب والغيبة والنّميمة ، أم كانت من عمل القلب كالحقد والحسد .
هذه المحرّمات يجب تركها امتثالاً للنّهي الوارد من الشّرع ، كما في قوله تعالى : { ولا تَقْرَبُوا الزِّنَى } ، وقوله تعالى : { ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الّتي حَرَّمَ اللّهُ إلاّ بِالحَقِّ } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « اجتنبوا السّبع الموبقات ، قيل : وما هنّ يا رسول اللّه ؟ قال : الشّرك باللّه ، والسّحر ، وقتل النّفس الّتي حرّم اللّه إلاّ بالحقّ ، وأكل مال اليتيم ، والتّولّي يوم الزّحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ، وأكل الرّبا ، وشهادة الزّور » .
يقول الفقهاء : يجب على المكلّف كفّ الجوارح عن الحرام ، وكفّ القلب عن الفواحش ، وهو معنى قوله تعالى : { وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وبَاطِنَه } وفعل المحرّمات معصية يترتّب عليها العقوبة المقرّرة لكلّ معصية ، سواء أكانت حدّاً كما في الزّنا والسّرقة ، أم كانت قصاصاً كما في الجنايات ، أم كانت تعزيراً كما في المعاصي الّتي لا حدّ فيها .
ومن المقرّر أنّ بعض المحرّمات تباح عند الاضطرار ، وقد تجب ، كأكل الميتة في المخمصة إحياءً للنّفس ، وكشرب الخمر لإزالة الغصّة ، وذلك بالشّروط المنصوص عليها في الحالتين . وهكذا وينظر كلّ ما سبق في أبوابه .
ب - ترك الحقوق :
الحقّ إمّا أن يكون للّه سبحانه وتعالى ، وإمّا أن يكون للعباد .
9- أمّا حقّ اللّه سبحانه وتعالى كالعبادات مثلاً ، فتركها حرام بالإجماع ، ويعصي تاركها ، ويكون آثماً ، ويترتّب عليها الكفر إن كان تركها جحداً لها مع كونها فرضاً معلوماً من الدّين بالضّرورة ، أو الإثم والعقوبة إن كان تركها كسلاً .
يقول الزّركشيّ : إذا امتنع المكلّف من الواجب ، فإن لم تدخل النّيابة نظر : فإن كان حقّاً للّه تعالى نظر : إن كانت صلاةً طولب بها فإن لم يفعل قتل ، وإن كان صوماً حبس ومنع الطّعام والشّراب ... وإن دخلته النّيابة قام القاضي مقامه ، كما في عضل الوليّ المجبر في النّكاح ، على تفصيل في ذلك وفيما تدخله النّيابة . وهذا بالنّسبة للمجمع عليه . أمّا المختلف فيه ، فإن كان تاركه معتقداً جواز ذلك فلا شيء فيه ، وإن كان معتقداً تحريمه فهو آثم .
وكذلك يأثم المسلم المكلّف بترك السّنن المؤكّدة الّتي تعتبر من شعائر الإسلام عند الحنفيّة ، وفي وجه عند الشّافعيّة ، كالجماعة والأذان وصلاة العيدين إذ في تركها تهاون بالشّرع ، ولذلك لو اتّفق أهل بلدة على تركها وجب قتالهم ، بخلاف سائر المندوبات ، لأنّها تفعل فرادى . هذا ويباح ترك الواجب للضّرورة ، إذ المعهود في الشّريعة دفع الضّرر بترك الواجب إذا تعيّن طريقاً لدفع الضّرر .
ومن ثمّ كانت المسامحة في ترك الواجب أوسع من المسامحة في فعل المحرّم ، واعتناء الشّرع بالمنهيّات فوق اعتنائه بالمأمورات ، ولهذا قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا نهيتُكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتُكم بأمر فأْتوا منه ما استطعتم » .
10 - والحدود الّتي تكون حقّاً للّه تعالى ، كحدّ الزّنى والسّرقة يجب إقامتها متى بلغت الإمام . قال الفقهاء : الحدّ لا يقبل الإسقاط بعد ثبوت سببه عند الحاكم .
وعليه بني عدم جواز الشّفاعة فيه ، فإنّها طلب ترك الواجب ، ولذا « أنكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد رضي الله عنهما حين شفع في المخزوميّة الّتي سرقت فقال : أتشفع في حدّ من حدود اللّه ؟ ... » ولأنّ الحدّ بعد بلوغ الإمام يصير حقّاً للّه تعالى ، فلا يجوز للإمام تركه ولا يجوز لأحد الشّفاعة في إسقاطه .
11 - أمّا بالنّسبة للتّعزير فقد ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى : أنّه إن كان الحقّ للّه تعالى وجب إقامته كالحدود ، إن رأى الإمام أنّه لا ينزجر إلاّ به ،أو أنّ المصلحة في إقامته . وقال الشّافعيّ : هو غير واجب على الإمام ، إن شاء أقامه وإن شاء تركه .
وينظر تفصيل ذلك في ( حدّ - تعزير ) .
12 - وأمّا حقّ العبد ، فإن كان حقّاً له فتركه جائز ، إذ الأصل أنّ كلّ جائز التّصرّف لا يمنع من ترك حقّه ، ما لم يكن هناك مانع من ذلك كتعلّق حقّ الغير به ، بل قد يكون التّرك مندوباً إذا كان قربةً ، كإبراء المعسر والعفو عن القصاص . هذا إذا كان الحقّ قبل الغير ، أمّا إذا كان قبل نفسه فقد يكون التّرك حراماً كما إذا ترك الأكل والشّرب حتّى هلك ، وكما إذا ألقي في ماء يمكنه الخلاص منه عادةً ، فمكث فيه مختاراً حتّى هلك . وقيل في التّمتّع بأنواع الطّيّبات : إنّ التّرك من البدع المذمومة . قال تعالى : { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ ما رَزَقْنَاكُم } وقيل : إنّ التّرك أفضل لقوله تعالى : { أَذْهَبْتُم طَيِّبَاتِكُم في حَيَاتِكُم الدّنيا } .
13 - وإن كان الحقّ للغير ، وترتّب في ذمّة شخص ، وأصبح ملتزماً به حفظاً أو أداءً ، فإنّ ترك الحفظ أو الأداء يعتبر معصيةً تستوجب التّعزير حتّى يؤدّي الحقّ لأهله ، مع الضّمان فيما ضاع أو تلف .
وإن كان الحقّ يتعلّق بنفع الغير ، لكن لم يلتزم به شخص ، وكان في ترك القيام بما يحقّق النّفع ضياع المال أو تلفه ، كمن ترك التقاط لقطة تضيع لو تركها ، أو ترك قبول وديعة تضيع لو لم يقبلها ، فتلف المال أو ضاع ، فإنّه يأثم بالتّرك عند جمهور الفقهاء لحرمة مال الغير ، خلافاً للحنابلة إذ الأخذ ليس بواجب عندهم ، بل هو مستحبّ ، وهو قول عند الشّافعيّة . لكنّ الفقهاء يختلفون في ترتّب الضّمان بناءً على اختلافهم ، هل يعدّ التّرك فعلاً يكلّف الإنسان بموجبه ، إذ لا تكليف إلاّ بفعل ، أم لا يعتبر فعلاً ؟ . فعند الشّافعيّة والحنابلة وجمهور الحنفيّة ، وفي قول عند المالكيّة : لا ضمان بالتّرك عند الضّياع أو التّلف ، إذ التّرك في نظرهم ليس سبباً ولا تضييعاً ، بل هو امتناع من حفظ غير ملزم ، ولأنّ المال إنّما يضمن باليد أو الإتلاف ، ولم يوجد شيء من ذلك ، وهذا بخلاف ما إذا التقط أو قبل الوديعة وترك الحفظ حتّى ضاع المال أو تلف ، فإنّه يضمن حينئذ لتركه ما التزم به .
والمشهور عند المالكيّة ، وهو قول عند الحنفيّة : ترتّب الضّمان على التّرك في مثل ذلك . بناءً على أنّ التّرك فعل في المشهور من المذهب ، بل إنّ المالكيّة يضمّنون الصّبيّ في ترك ما يجوز له فعله ، فلو مرّ صبيّ مميّز على صيد مجروح لم ينفذ مقتله ، وأمكنته ذكاته ، فترك تذكيته حتّى مات فعليه قيمته مجروحاً لصاحبه ، لأنّ الضّمان من خطاب الوضع ، ولأنّ الشّارع جعل التّرك سبباً في الضّمان ، فيتناول البالغ وغيره .
14 - هذا بالنّسبة للمال ، أمّا بالنّسبة لترك إنقاذ نفس من الهلاك ، فالمتتبّع لأقوال الفقهاء يرى أنّ ذلك يكون في حالتين :
إحداهما : أن يقوم شخص بعمل ضار نحو شخص آخر يمكن أن يؤدّي إلى هلاكه غالباً ، ثمّ يترك ما يمكن به إنقاذ هذا الشّخص فيهلك .
ومثال ذلك : أن يحبس غيره في مكان ، ويمنعه الطّعام أو الشّراب ، فيموت جوعاً وعطشاً لزمن يموت فيه غالباً ، وكان قد تعذّر عليه الطّلب . فعند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : يكون فيه القود لظهور قصد الإهلاك بذلك . وعند الصّاحبين - أبي يوسف ومحمّد - يكون في ذلك الدّية على عاقلته . لأنّ حبسه هو الّذي تسبّب في هلاكه ، وعند أبي حنيفة : لا ضمان عليه ، لأنّ الهلاك حصل بالجوع والعطش لا بالحبس ، ولا صنع لأحد في الجوع والعطش . فإن لم يمنعه الطّعام أو الشّراب ، بأن كان معه فلم يتناول خوفاً أو حزناً ، أو كان يمكنه الطّلب فلم يفعل ، فمات ، فلا قصاص ولا دية ، لأنّه قتل نفسه .
الحال الثّانية : من أمكنه إنقاذ إنسان من الهلاك ، فلم يفعل حتّى مات .
ومثال ذلك : من رأى إنساناً اشتدّ جوعه . وعجز عن الطّلب ، فامتنع من رآه من إعطائه فضل طعامه حتّى مات ، أو رأى إنساناً في مهلكة فلم ينجه منها ، مع قدرته على ذلك - فعند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - عدا أبي الخطّاب لا ضمان على الممتنع ، لأنّه لم يهلكه ولم يحدث فيه فعلاً مهلكاً ، لكنّه يأثم .
وهذا الحكم عند الحنابلة إذا كان المضطرّ لم يطلب الطّعام ، أمّا إذا طلبه فمنعه ربّ الطّعام حتّى مات ، فإنّه يضمن في هذه الحالة ، لأنّ منعه منه كان سبباً في هلاكه ، فضمنه بفعله الّذي تعدّى به . وعند المالكيّة وأبي الخطّاب يضمن ، لأنّه لم ينجه من الهلاك مع إمكانه . هذا ويلاحظ أنّه يجوز للمضطرّ قتال من منع منه فضل طعامه ، فإن قتل ربّ الطّعام فدمه هدر ، وإن قتل المضطرّ ففيه القصاص ، لقضاء عمر رضي الله عنه بذلك .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
عقوبة ترك الواجب :
15 - يقول ابن فرحون : التّعزير يكون على ترك الواجب ، ومن ذلك ترك قضاء الدّين وأداء الأمانات : مثل الودائع وأموال الأيتام وغلّات الوقوف وما تحت أيدي الوكلاء والمقارضين ، والامتناع من ردّ المغصوب والمظالم مع القدرة على الأداء ، ويجبر على ذلك إن أباه ولو بالحبس والضّرب . ويقول الزّركشيّ : إذا امتنع المكلّف من الواجب ، فإن كان حقّاً لآدميّ لا تدخله النّيابة حبس حتّى يفعله .
كما إذا امتنع المشتري من تسليم الثّمن ، فإنّ القاضي يخيّر بين حبسه وبين النّيابة عنه في التّسليم ، كالمقرّ بمبهم يحبس حتّى يبيّن . وإن كانت تدخله النّيابة قام القاضي مقامه .
النّيّة في التّرك :
16 - ترك المنهيّ عنه لا يحتاج إلى نيّة للخروج عن عهدة النّهي .
وأمّا لحصول الثّواب ، بأن كان التّرك كفّاً - وهو : أن تدعوه النّفس إليه قادراً على فعله ، فكفّ نفسه عنه خوفاً من ربّه - فهو مثاب ، وإلاّ فلا ثواب على تركه ، فلا يثاب العنّين على ترك الزّنا ، ولا الأعمى على ترك النّظر .
آثار التّرك :
17 - تتعدّد آثار التّرك وتختلف باختلاف متعلّقه ، وباختلاف ما إذا كان التّرك عمداً أو نسياناً أو جهلاً وهكذا . وفيما يأتي بعض آثار التّرك .
أ - يسقط الحقّ في الشّفعة بترك طلبها بلا عذر .
ويختلف الفقهاء في المدّة الّتي يسقط بها هذا الحقّ . ( ر : شفعة ) .
ب - لا تؤكل الذّبيحة إذا ترك الذّابح التّسمية عمداً عند جمهور الفقهاء ، وأمّا إن ترك نسياناً فتؤكل اتّفاقاً ، وفي المسألة خلاف ينظر ( ذبائح - أضحيّة ) .
والأجير إن ترك التّسمية عمداً ضمن قيمة الذّبيحة .
ج - ترك القيام بالدّعوى بلا عذر ، وبعد مضيّ المدّة المحدّدة يمنع سماعها ، وهذا عند متأخّري الحنفيّة بناءً على أمر سلطانيّ ، وكما لا تسمع في حياة المدّعي للتّرك لا تسمع من الورثة . وإذا ترك المورّث الدّعوى مدّةً وتركها الوارث مدّةً ، وبلغ مجموع المدّتين حدّ مرور الزّمان فلا تسمع . ( ر : دعوى ) .
د - يلزم الحنث والكفّارة في الحلف على ترك الواجب . ( ر : أيمان ) .
هـ - ترك العبادات أو بعض أجزائها يستلزم الجبران . والمتروكات منها ما يجبر بالعمل البدنيّ كسجود السّهو في الصّلاة ، والقضاء أو الإعادة لمن ترك فرضاً .
ومنها ما يجبر بالمال كجبر الصّوم بالإطعام في حقّ الشّيخ العاجز ، والدّم لترك واجب من واجبات الحجّ . وينظر تفصيل ذلك في مواضعه . هذا وقد ورد في ثنايا البحث آثار التّرك ، كترتّب الحدّ أو التّعزير في ترك واجب أو عدم ترك محرّم ، وكالضّمان في التّلف بالتّرك .

تركة *
التّعريف :
1 - التّركة لغةً : اسم مأخوذ من ترك الشّيء يتركه تركاً . يقال : تركت الشّيء تركاً : خلّفته ، وتركة الميّت : ما يتركه من الميراث ، والجمع تركات .
وفي الاصطلاح ، اختلف الفقهاء في تعريفها . فذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ التّركة : هي كلّ ما يخلّفه الميّت من الأموال والحقوق الثّابتة مطلقاً . وذهب الحنفيّة إلى أنّ التّركة : هي ما يتركه الميّت من الأموال صافياً عن تعلّق حقّ الغير بعينه . ويتبيّن من خلال التّعريفين أنّ التّركة تشمل الحقوق مطلقاً عند الجمهور ، ومنها المنافع . في حين أنّ المنافع لا تدخل في التّركة عند الحنفيّة .
فإنّ الحنفيّة يحصرون التّركة في المال أو الحقّ الّذي له صلة بالمال فقط على تفصيل يأتي . الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإرث :
2 - الإرث لغةً : الأصل والأمر القديم توارثه الآخر عن الأوّل . والبقيّة من كلّ شيء . ويطلق الإرث ويراد به : الموروث ، ويساويه على هذا الإطلاق في المعنى : التّركة واصطلاحاً : هو حقّ قابل للتّجزّؤ يثبت لمستحقّه بعد موت من كان له ذلك لقرابة بينهما أو نحوها . ما تشمله التّركة وما يورث منها :
3 - ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ التّركة تشمل جميع ما تركه المتوفّى من أموال وحقوق . وقد استدلّوا بقوله صلى الله عليه وسلم : « من مات وترك مالاً فماله لموالي العصبة ، ومن ترك كَلّاً أو ضَياعاً فأنا وليّه » .
فقد جمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم بين المال والحقّ وجعلهما تركةً لورثة الميّت ، إلاّ أنّ هذه الحقوق أنواع مختلفة ، ولكلّ منها حكمه من ناحية إرثه ، أو عدم إرثه وذلك تبعاً لطبيعته وهي :
أ - حقوق غير ماليّة : وهي حقوق شخصيّة لا تتعدّى إلى غير صاحبها بحال ما ، فهي لا تورث عنه مطلقاً ، كحقّ الأمّ في الحضانة ، وحقّ الأب في الولاية على المال ، وحقّ الوصيّ في الإشراف على مال من تحت وصايته .
ب - حقوق ماليّة ، ولكنّها تتعلّق بشخص المورّث نفسه ، وهذه لا تورث عنه أيضاً ، كرجوع الواهب في هبته ، وحقّ الانتفاع بشيء معيّن يملكه الغير ، كدار يسكنها أو أرض يزرعها ، أو سيّارة يركبها ، فهذا ونحوه لا يورث عن صاحبه .
ومن هذا النّوع الأجل في الدّين ، فالدّائن يمنح هذا الأجل للمدين لاعتبارات خاصّة يقدّرها الدّائن وحده ، وذلك من الأمور الشّخصيّة الّتي لا تورث عنه . ولذلك يحلّ الدّين بموت المدين ، ولا يرث الورثة حقّ الأجل .
ج - حقوق ماليّة أخرى تتعلّق بمشيئة المورّث وإرادته ، وهي تورث عند الجمهور .
وذهب الحنفيّة إلى أنّها لا تورث . وأهمّ هذه الحقوق حقّ الشّفعة ، وحقّ الخيارات المعروفة في عقود البيع ، كخيار الشّرط ، وخيار الرّؤية ، وخيار التّعيين .
وللتّفصيل تنظر أحكام ( الخيار ، والشّفعة ) .
د - حقوق ماليّة تتعلّق بمال المورّث ، لا بشخصه ولا بإرادته ومشيئته ، وهذه حقوق تورث عنه بلا خلاف بين الفقهاء ، وذلك كحقّ الرّهن ، وحقوق الارتفاق المعروفة ، كحقّ المرور وحقّ الشّرب وحقّ المجرى وحقّ التّعلّي .
4 - فيدخل في التّركة ما كان للإنسان حال حياته ، وخلّفه بعد مماته ، من مال أو حقوق أو اختصاص ، كالرّدّ بالعيب والقصاص والولاء وحدّ القذف .
وكذا من أوصى له بمنفعة شيء من الأشياء كدار مثلاً ، كانت المنفعة له حال حياته ولورثته بعد موته ، إلاّ إذا كانت المنفعة مؤقّتةً بمدّة حياته في الوصيّة .
وصرّح الشّافعيّة بأنّ من التّركة أيضاً ما دخل في ملكه بعد موته ، بسبب كان منه في حياته ، كصيد وقع في شبكة نصبها في حياته ، فإنّ نصبه للشّبكة للاصطياد هو سبب الملك ، وكما لو مات عن خمر فتخلّلت بعد موته . قال القرافيّ : اعلم أنّه يروى عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من مات عن حقّ فلورثته » وهذا اللّفظ ليس على عمومه ، بل من الحقوق ما ينقل إلى الوارث ، ومنها ما لا ينتقل . فمن حقّ الإنسان أن يلاعن عند سبب اللّعان ، وأن يفيء بعد الإيلاء ، وأن يعود بعد الظّهار ، وأن يختار من نسوة إذا أسلم عليهنّ وهنّ أكثر من أربع ، وأن يختار إحدى الأختين إذا أسلم عليهما ، وإذا جعل المتبايعان الخيار لأجنبيّ عن العقد فمن حقّه أن يملك إمضاء البيع عليهما أو فسخه ، ومن حقّه ما فوّض إليه من الولايات والمناصب كالقصاص والإمامة والخطابة وغيرهما ، وكالأمانة والوكالة . فجميع هذه الحقوق لا ينتقل للوارث منها شيء وإن كانت ثابتةً للمورّث .
والضّابط : أنّه ينتقل إليه كلّ ما كان متعلّقاً بالمال ، أو يدفع ضرراً عن الوارث في عرضه بتخفيف ألمه . أمّا ما كان متعلّقاً بنفس المورّث وعقله وشهواته فلا ينتقل للوارث .
والسّرّ في الفرق : أنّ الورثة يرثون المال ، فيرثون ما يتعلّق به تبعاً له ، ولا يرثون عقله ولا شهوته ولا نفسه ، فلا يرثون ما يتعلّق بذلك ، وما لا يورث لا يرثون ما يتعلّق به ، فاللّعان يرجع إلى أمر يعتقده لا يشاركه فيه غيره غالباً ، والاعتقادات ليست من باب المال ، والفيئة شهوته ، والعود إرادته ، واختيار الأختين والنّسوة إربه وميله ، وقضاؤه على المتبايعين عقله وفكرته ، ورأيه ومناصبه وولاياته وآراؤه واجتهاداته ، وأفعاله الدّينيّة فهو دينه ، ولا ينتقل شيء من ذلك للوارث ، لأنّه لم يرث مستنده وأصله ، وانتقل للوارث خيار الشّرط في البياعات ، وقاله الشّافعيّ رحمه الله تعالى . ثمّ قال القرافيّ : إنّه لم يخرج عن حقوق الأموال - فيما يورث - إلاّ صورتان فيما علمت : حدّ القذف وقصاص الأطراف والجرح والمنافع في الأعضاء . فإنّ هاتين الصّورتين تنتقلان للوارث ، وهما ليستا بمال ، لأجل شفاء غليل الوارث بما دخل على عرضه من قذف مورّثه والجناية عليه .
وأمّا قصاص النّفس فإنّه لا يورث ، فإنّه لم يثبت للمجنيّ عليه قبل موته ، وإنّما يثبت للوارث ابتداءً ، لأنّ استحقاقه فرع زهوق النّفس ، فلا يقع إلاّ للوارث بعد موت الموروث .
5- وعند الحنابلة أنّ ما كان من حقوق المورّث ، ويجب له بموته ، كالدّية والقصاص في النّفس فللورثة استيفاؤه . وما كان واجباً للمورّث في حياته إن كان قد طالب به ، أو هو في يده ثبت للورثة إرثه ، وذلك على تفصيل في المذهب .
6- وذهب الحنفيّة إلى أنّ التّركة هي المال فقط ، ويدخل فيها الدّية الواجبة بالقتل الخطأ ، أو بالصّلح عن عمد ، أو بانقلاب القصاص بعفو بعض الأولياء ، فتعتبر كسائر أمواله ، حتّى تقضى منها ديونه وتخرج وصاياه ، ويرث الباقي ورثته .
ولا تدخل الحقوق في التّركة ، لأنّها ليست ثابتةً بالحديث ، وما لم يثبت لا يكون دليلاً .
ولأنّ الحقوق ليست أموالاً ، ولا يورث منها إلاّ ما كان تابعاً للمال أو في معنى المال ، مثل حقوق الارتفاق والتّعلّي وحقّ البقاء في الأرض المحتكرة للبناء والغراس ، أمّا غير ذلك من الحقوق فلا يعتبر تركةً ، كحقّ الخيار في السّلعة الّتي اشتراها المورّث وكان له فيها حقّ الخيار - كما سبق - وحقّ الانتفاع بما أوصي له به ، ومات قبل مضيّ المدّة الّتي حدّدها الموصي . قال ابن رشد : وعمدة المالكيّة والشّافعيّة ( والحنابلة أيضاً ) أنّ الأصل هو أن تورث الحقوق والأموال ، إلاّ ما قام دليل على مفارقة الحقّ في هذا المعنى للمال . وعمدة الحنفيّة أنّ الأصل هو أن يورث المال دون الحقوق ، إلاّ ما قام دليله من إلحاق الحقوق بالأموال . فموضع الخلاف : هل الأصل أن تورث الحقوق كالأموال أو لا ؟ وكلّ واحد من الفريقين يشبه من هذا ما لم يسلّم له خصمه منها بما يسلّمه منها له ، ويحتجّ على خصمه .
الحقوق المتعلّقة بالتّركة :
7 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الحقوق المتعلّقة بالتّركة أربعة :
وهي تجهيز الميّت للدّفن ، وقضاء ديونه إن مات مديناً ، وتنفيذ ما يكون أوصى به قبل موته من وصايا ، ثمّ حقوق الورثة .
وصرّح المالكيّة ، وصاحب الدّرّ المختار من الحنفيّة بأنّها خمسة بالاستقراء .
قال الدّردير : وغايتها - أي الحقوق المتعلّقة بالتّركة - خمسة : حقّ تعلّق بعين ، وحقّ تعلّق بالميّت ، وحقّ تعلّق بالذّمّة ، وحقّ تعلّق بالغير ، وحقّ تعلّق بالوارث .
والحصر في هذه استقرائيّ ، فإنّ الفقهاء تتبّعوا ذلك فلم يجدوا ما يزيد على هذه الأمور الخمسة ، لا عقليّ كما قيل . وقال صاحب الدّرّ المختار : والحقوق هاهنا خمسة بالاستقراء ، لأنّ الحقّ إمّا للميّت ، أو عليه ، أو لا .
الأوّل : التّجهيز ، والثّاني : إمّا أن يتعلّق بالذّمّة وهو الدّين المطلق أو لا ، وهو المتعلّق بالعين ، والثّالث : إمّا اختياريّ وهو الوصيّة ، أو اضطراريّ وهو الميراث .
أحكام التّركة :
للتّركة أحكام خاصّة بيانها فيما يلي :
ملكيّة التّركة :
تنتقل ملكيّة التّركة جبراً إلى الورثة ، ولهذا الانتقال شروط :
الشّرط الأوّل - موت المورّث :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ انتقال التّركة من المورّث إلى الوارث يكون بعد وفاة المورّث حقيقةً أو حكماً أو تقديراً .
فالموت الحقيقيّ : هو انعدام الحياة إمّا بالمعاينة ، كما إذا شوهد ميّتاً ،أو بالبيّنة أو السّماع. والموت الحكميّ : هو أن يكون بحكم القاضي إمّا مع احتمال الحياة أو تيقّنها .
مثال الأوّل : الحكم بموت المفقود .
ومثال الثّاني : حكم القاضي على المرتدّ باعتباره في حكم الأموات إذا لحق بدار الحرب . وتقسّم التّركة في هاتين الحالتين من وقت صدور الحكم بالموت .
والموت التّقديريّ : هو إلحاق الشّخص بالموتى تقديراً ، كما في الجنين الّذي انفصل عن أمّه بجناية ، بأن يضرب شخص امرأةً حاملاً ، فتلقي جنيناً ميّتاً ، فتجب الغرّة ، وتقدّر بنصف عشر الدّية . وقد اختلف الفقهاء في إرث هذا الجنين : فذهب الجمهور إلى أنّه لا يرث ، لأنّه لم تتحقّق حياته ، ومن ثمّ فلم تتحقّق أهليّته للتّملّك بالإرث ، ولا يورث عنه إلاّ الدّية فقط . وذهب أبو حنيفة إلى أنّه يرث ويورث ، لأنّه يقدر أنّه كان حيّاً وقت الجناية ، وأنّه مات بسببها . وللتّفصيل انظر ( إرث ، جنين ، جناية ، موت ) .
الشّرط الثّاني - حياة الوارث :
9 - تحقّق حياة الوارث بعد موت المورّث ، أو إلحاقه بالأحياء تقديراً ، فالحياة الحقيقيّة هي المستقرّة الثّابتة للإنسان المشاهدة له بعد موت المورّث .
والحياة التّقديريّة هي الثّابتة تقديراً للجنين عند موت المورّث ، فإذا انفصل حيّاً حياةً مستقرّةً لوقت يظهر منه وجوده عند الموت - ولو نطفةً - فيقدّر وجوده حيّاً حين موت المورّث بولادته حيّاً . وللتّفصيل انظر مصطلح : ( إرث ) .
الشّرط الثّالث - العلم بجهة الميراث :
10 - يشترط العلم بالجهة المقتضية للإرث من زوجيّة أو قرابة أو ولاء ، وذلك لأنّ الأحكام تختلف في ذلك ، ويجب أيضاً أن تعيّن جهة القرابة ، مع العلم بالدّرجة الّتي يجتمع الوارث فيها مع المورّث . وللتّفصيل انظر مصطلح : ( إرث ) .
أسباب انتقال التّركة :
11 - أسباب انتقال التّركة أربعة ، اتّفق الفقهاء على ثلاثة منها وهي : النّكاح والولاء والقرابة .
وزاد المالكيّة والشّافعيّة جهة الإسلام وهي : بيت المال ، على تفصيل ينظر في موضعه . وكلّ سبب من هذه الأسباب يفيد الإرث على الاستقلال . وللتّفصيل انظر مصطلح : ( إرث ) .
موانع انتقال التّركة بالإرث :
12 - موانع انتقال التّركة عن طريق الإرث ثلاثة : الرّقّ ، والقتل ، واختلاف الدّين . واختلفوا في ثلاثة : وهي الرّدّة ، واختلاف الدّارين ، والدّور الحكميّ .
وهناك موانع أخرى لبعض الفقهاء ، مع خلاف وتفصيل يرجع فيه إلى مصطلح ( إرث ) .
انتقال التّركة :
13 - لا يشترط لانتقال التّركة إلى الوارث قبول الوراثة ، ولا إلى أن يتروّى قبل أن يقبلها ، بل إنّها تئول إليه جبراً بحكم الشّرع من غير قبول منه . وقد تكون التّركة خاليةً من الدّيون ، وقد تكون مدينةً . والدّين إمّا أن يكون مستغرقاً أو لا ، ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ التّركة تنتقل إلى الوارث ، إذا لم يتعلّق بها دين من حين وفاة الميّت .
واختلفوا في انتقال التّركة الّتي يتعلّق بها الدّين على ثلاثة أقوال :
أ - فذهب الشّافعيّة ، وهو أشهر الرّوايتين عند الحنابلة إلى : أنّ أموال التّركة تنتقل إلى ملك الورثة بمجرّد موت المورّث ، مع تعلّق الدّين بها ، سواء أكان الدّين مستغرقاً للتّركة أم غير مستغرق لها .
ب - وذهب المالكيّة إلى : أنّ أموال التّركة تبقى على ملك الميّت بعد موته إلى أن يسدّد الدّين ، سواء أكان الدّين مستغرقاً لها أم غير مستغرق ، لقوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أو دَينٍ } .
ج - وذهب الحنفيّة إلى أنّه يميّز بين ما إذا كانت التّركة مستغرقةً بالدّين ، أو كانت غير مستغرقة به . فإن استغرق الدّين أموال التّركة تبقى أموال التّركة على ملك الميّت ، ولا تنتقل إلى ملك الورثة . وإن كان الدّين غير مستغرق ، فالرّأي الرّاجح أنّ أموال التّركة تنتقل إلى الورثة بمجرّد موت المورّث ، مع تعلّق الدّين بهذه الأموال على تفصيل سيأتي .
قال السّرخسيّ : الدّين إذا كان محيطاً بالتّركة يمنع ملك الوارث في التّركة ، وإن لم يكن محيطاً فكذلك في قول أبي حنيفة الأوّل .
وفي قوله الآخر : لا يمنع ملك الوارث بحال ، لأنّ الوارث يخلف المورّث في المال ، والمال كان مملوكاً للميّت في حال حياته مع اشتغاله بالدّين كالمرهون ، فكذلك يكون ملكاً للوارث ، قال : وحجّتنا في ذلك قوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بها أو دَينٍ } .
فقد جعل اللّه تعالى أوان الميراث ما بعد قضاء الدّين ، والحكم لا يسبق أوانه فيكون حال الدّين كحال حياة المورّث في المعنى .
ثمّ الوارث يخلفه فيما يفضل من حاجته ، فأمّا المشغول بحاجته فلا يخلفه وارثه فيه .
وإذا كان الدّين محيطاً بتركته فالمال مشغول بحاجته ، وقيام الأصل يمنع ظهور حكم الخلف . ولا نقول : يبقى مملوكاً بغير مالك ، ولكن تبقى مالكيّة المديون في ماله حكماً لبقاء حاجته . وخلافة الوارث في التّركة ناقصة في حال تعلّق الدّين بها من غير استغراق ، وهي صوريّة إذا كانت مستغرقةً بالدّين ، وذلك لا يعني أنّه لا قيمة لهذه الخلافة ، بل لها شأنها ، ويعلم ذلك من أقوال الفقهاء . قال ابن قاضي سماوة من الحنفيّة : للورثة أخذ التّركة لأنفسهم ودفع الدّين والوصيّة من مالهم .
ولو كانت التّركة مستغرقةً بدين أو غير مستغرقة ، فأدّاه الورثة لاستخلاص التّركة يجبر ربّ الدّين على قبوله ، إذ لهم الاستخلاص وإن لم يملكوها ، بخلاف الأجنبيّ .
ولو كانت التّركة مستغرقةً بالدّين فالخصم في إثبات الدّين إنّما هو وارثه ، لأنّه خلفه ، فتسمع البيّنة الّتي يتقدّم بها الدّائن عليه .
أثر الخلاف السّابق في انتقال التّركة :
14 - أ - نماء التّركة أو نتاجها إذا حصل بين الوفاة وأداء الدّين ، هل تضمّ إلى التّركة لمصلحة الدّائنين أم هي للورثة ؟
وذلك كأجرة دار للسّكنى ، أو أرض زراعيّة استحقّت بعد وفاته ، وكدابّة ولدت أو سمنت فزادت قيمتها ، وكشجر صار له ثمر . كلّ ذلك نماء أو زيادة في التّركة ، وفيه خلاف بين الفقهاء مبنيّ على أنّ التّركة قبل وفاء الدّين المتعلّق بها هل تنتقل إلى الورثة أم لا ؟ فمن قال : تنتقل إلى الورثة قال : إنّ الزّيادة للوارث وليست للدّائن ، ومن قال بعدم انتقالها ضمّت الزّيادة إلى التّركة لوفاء الدّين ، فإن فضل شيء انتقل إلى الورثة .
ب - صيد وقع في شبكة أعدّها المورّث حال حياته ، ووقوع الصّيد كان بعد وفاته ، فعلى الخلاف السّابق . وللتّفصيل ينظر في مصطلح : ( دين ، وصيد ، وإرث ) .
وقت انتقال التّركة :
يختلف وقت وراثة الوارث لمورّثه بناءً على ما يسبق الوفاة . وهنا يفرّق بين حالات ثلاث :
أ - الحالة الأولى :
15 - من مات دون سابق مرض ظاهر ، وذلك كأن مات فجأةً بالسّكتة القلبيّة ، أو في حادث مثلاً . ففي هذه الحالة يكون وقت خلافة الوارث لمورّثه هو نفس وقت الموت ، وبلا خلاف يعتدّ به بين الفقهاء . قال الفناريّ : فعند أبي يوسف ومحمّد يخلف الوارث مورّثه في التّركة بعد موته ، وعليه مشايخ بلخ ، لأنّه ما دام حيّاً مالك لجميع أمواله ، فلو ملكها الوارث في هذه الحالة أدّى إلى أن يصير الشّيء الواحد مملوكاً لشخصين في حالة واحدة ، وهذا غير معهود في الشّرع ، لكن عند محمّد ملك الوارث يتعقّب الموت ، وعند أبي يوسف لا يتعقّب ، بل يتحقّق إذا استغنى الميّت عن ماله بتجهيزه وأداء دينه ، لأنّ كلّ جزء يجوز أن يكون محتاجاً إليه بتقدير هلاك الباقي . وعن محمّد ينتقل الملك إلى الوارث قبل موته في آخر أجزاء الحياة ، وعليه مشايخ العراق ، لأنّ الإرث يجري بين الزّوج والزّوجة ، والزّوجيّة ترتفع بالموت أو تنتهي على حسب ما اختلفوا ، فبأيّ سبب يجري الإرث بينهما . وعند البعض يجري الإرث مع موت المورّث لا قبله ولا بعده - كما ذكره شارح الفرائض العثمانيّة واختاره - لأنّ انتقال الشّيء إلى ملك الوارث مقارن لزوال ملك المورّث عن ذلك الشّيء ، فحين يتمّ يحصل الانتقال والإرث .
ب - الحالة الثّانية :
16 - هي حالة من مات بعد أن كان مريضاً مرض الموت واتّصلت الوفاة به .
وقد عرّفت مجلّة الأحكام العدليّة مرض الموت بأنّه : المرض الّذي يخاف فيه الموت في الأكثر ، الّذي يعجز المريض عن رويّة مصالحه الخارجيّة عن داره إن كان من الذّكور ، ويعجزه عن رؤية المصالح الدّاخليّة في داره إن كان من الإناث ، ويموت على ذلك الحال قبل مرور سنة ، كان صاحب فراش أو لم يكن . وإن امتدّ مرضه دائماً على حال ، ومضى عليه سنة يكون في حكم الصّحيح ، وتكون تصرّفاته كتصرّفات الصّحيح ، ما لم يشتدّ مرضه ويتغيّر حاله ، ولكن لو اشتدّ مرضه وتغيّر حاله ومات ، يعدّ حاله اعتباراً من وقت التّغيّر إلى الوفاة مرض موت . ويلحق بالمريض مرض الموت : الحامل إذا أتمّت ستّة أشهر ودخلت في السّابع ، والمحبوس للقتل ، وحاضر صفّ القتال وإن لم يصب بجرح كما صرّح بذلك المالكيّة . ونحوه تصريح الحنابلة في الحامل إذا ضربها المخاض .
17 - وذهب الجمهور إلى أنّ وقت انتقال تركة المريض مرض الموت إلى ورثته ، يكون عقب الموت بلا تراخ ، وهو قول أكثر الحنفيّة أيضاً . وقال بعض متقدّمي الحنفيّة : إنّ انتقال الملكيّة في ثلثي تركة المريض مرض الموت يكون من حين ابتداء مرض الموت ، وتفصيل ذلك ودليله ينظر في المطوّلات . قالوا : ولأجل هذا منع المريض مرض الموت من التّصرّف في ثلثي التّركة ، وترث زوجته منه لو طلّقها بائناً فيه .
الحجر على المريض مرض الموت صوناً للتّركة لحقّ الورثة :
18 - إذا شعر المريض بدنوّ أجله ربّما تنطلق يده في التّبرّعات رجاء استدراك ما فاته في حال صحّته ، وقد يؤدّي ذلك إلى تبديد ماله وحرمان الورثة ، فشرع الحجر عليه .
وقد اتّفق الفقهاء على أنّ المريض مرض الموت محجور عليه بحكم الشّرع لحقّ الورثة ، والّذي يحجر فيه على المريض هو تبرّعاته فقط فيما زاد عن ثلث تركته حيث لا دين . وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ هذا الحجر على المريض مرض الموت هو في التّبرّع ، كالهبة والصّدقة والوصيّة والوقف وبيع المحاباة فيما يزيد عن ثلث ماله ، أي أنّ حكم تبرّعاته حكم وصيّته : تنفذ من الثّلث ، وتكون موقوفةً على إجازة الورثة فيما زاد عن الثّلث ، فإن برئ من مرضه صحّ تبرّعه . وقال المالكيّة : لا ينفذ من الثّلث تبرّع المريض ، إلاّ إذا كان المال الباقي بعد التّبرّع مأموناً ، أي لا يخشى تغيّره ، وهو العقار كدار وأرض وشجر ، فإن كان غير مأمون فلا ينفذ ، وإنّما يوقف ولو بدون الثّلث حتّى يظهر حاله من موت أو حياة ، كما يمنع من الزّواج بما زاد على الثّلث . قال الدّسوقيّ : والمريض لا يحجر عليه في تداويه ومؤنته ، ولا في المعاوضة الماليّة ولو بكلّ ماله . وأمّا التّبرّعات فيحجر عليه فيها بما زاد عن الثّلث . وللتّفصيل انظر مصطلح : ( مرض الموت ) .
ج - الحالة الثّالثة :
19 - وهي حالة التّركة المدينة بدين مستغرق أو غير مستغرق لها ، وقد تقدّم الكلام على هذه الحالة في " انتقال التّركة " .
زوائد التّركة :
20 - المراد بزوائد التّركة نماء أعيانها بعد وفاة المورّث .
وقد فصّل الفقهاء حكم هذه الزّوائد ، آخذين بعين الاعتبار ما إذا كانت التّركة خاليةً من الدّيون أو مدينةً بدين مستغرق أو غير مستغرق . فإذا كانت التّركة غير مدينة ، فلا خلاف بين الفقهاء في أنّ التّركة بزوائدها للورثة ، كلّ حسب حصّته في الميراث .
أمّا إذا كانت التّركة مدينةً بدين مستغرق أو غير مستغرق ، فقد اختلف الفقهاء في زوائدها هل تبقى على ملك الميّت ، ومن ثمّ تصرف للدّائنين ؟ أم تنتقل للورثة ؟
فذهب الحنفيّة - في الدّين المستغرق - والمالكيّة إلى : أنّ نماء أعيان التّركة بزيادتها المتولّدة ملك للميّت ، كما أنّ نفقات أعيان التّركة ، من حفظ وصيانة ومصروفات حمل ونقل وطعام حيوان تكون في التّركة .
وذهب الحنفيّة في الدّين غير المستغرق والشّافعيّة والحنابلة - في أشهر الرّوايتين - إلى أنّ زوائد التّركة الّتي تعلّق بها دين ملك للورثة ، وعليهم ما تحتاجه من نفقات .
ترتيب الحقوق المتعلّقة بالتّركة :
21 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الحقوق المتعلّقة بالتّركة ليست على مرتبة واحدة ، وأنّ بعضها مقدّم على بعض ، فيقدّم من حيث الجملة تجهيز الميّت وتكفينه ، ثمّ أداء الدّين ، ثمّ تنفيذ وصاياه ، والباقي للورثة .
أوّلاً : تجهيز الميّت وتكفينه :
22 - إذا كانت التّركة خاليةً من تعلّق دين بعينها قبل الوفاة ، فقد اتّفق الفقهاء على أنّ أوّل الحقوق مرتبةً وأقواها هو : تجهيزه للدّفن والقيام بتكفينه وبما لا بدّ له منه ، « لقوله صلى الله عليه وسلم في الّذي وَقَصَته ناقتُه : كَفِّنوه في ثوبين » ولم يسأل هل عليه دين أم لا ؟ لأنّه محتاج إلى ذلك ، وإنّما يدفع إلى الوارث ما يستغني عنه المورّث ، لأنّه إذا ترك للمفلس الحيّ ثياب تليق به فالميّت أولى أن يستر ويوارى ، لأنّ الحيّ يعالج لنفسه ، وقد « كفّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد مصعباً رضي الله عنه في بردة له ، ولم يكن له غيرها ، وكفّن حمزة رضي الله عنه أيضاً » ولم يسأل عن دين قد يكون على أحدهما قبل التّكفين . أمّا إذا لم تكن التّركة خاليةً من تعلّق حقّ الغير بأعيانها قبل الوفاة ، كأن كان فيها شيء من الأعيان المرهونة ، أو شيء اشتراه ولم يقبضه ولم يدفع ثمنه ، كان حقّ المرتهن متعلّقاً بعين الشّيء المرهون ، وكان حقّ البائع متعلّقاً بالمبيع نفسه الّذي لا يزال تحت يده ، ففي هذه الحالة يكون الدّين متقدّماً في الدّفع على تكفين الميّت وتجهيزه عند المالكيّة والشّافعيّة ، وهي الرّواية المشهورة عند الحنفيّة .
وعند الحنابلة ، وغير المشهور عند الحنفيّة : أنّه إذا مات الإنسان بدئ بتكفينه وتجهيزه مقدّماً على غيره ، كما تقدّم نفقة المفلس على ديون غرمائه ، ثمّ تقضى ديونه بعد تجهيزه ودفنه . والتّفصيل في ( جنائز ، ودين ) .
ثانياً : أداء الدّين :
23 - يأتي في المرتبة الثّانية أداء الدّيون المتعلّقة بالتّركة بعد تجهيز الميّت - على التّفصيل السّابق - لقوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بها أو دينٍ } . ويقدّم الدّين على الوصيّة باتّفاق الفقهاء ، لأنّ الدّين واجب من أوّل الأمر ، لكنّ الوصيّة تبرّع ابتداءً ، والواجب يؤدّى قبل التّبرّع . « وعن الإمام عليّ رضي الله عنه أنّه قال : إنّكم تقرءون الوصيّة قبل الدّين ، وقد شهدت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بدأ بالدّين قبل الوصيّة » . وهذه الدّيون أو الحقوق أنواع :
منها : ما يكون للّه تعالى ، كالزّكاة والكفّارات والحجّ الواجب .
ومنها : ما يكون للعباد ، كدين الصّحّة ودين المرض .
وهذه الدّيون بشطريها ، إمّا أن تتعلّق بعين التّركة أو بجزء منها .
ومنها : ديون مطلقة متعلّقة بالذّمّة وحدها .
24 - وذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والثّوريّ والشّعبيّ والنّخعيّ وسوّار ، وهو الرّواية المرجوحة للحنابلة إلى : أنّ الدّيون الّتي على الميّت تحلّ بموته . قال ابن قدامة : لأنّه لا يخلو إمّا أن يبقى الدّين في ذمّة الميّت ، أو الورثة ، أو يتعلّق بالمال .
لا يجوز بقاؤه في ذمّة الميّت لخرابها وتعذّر مطالبته بها ، ولا ذمّة الورثة لأنّهم لم يلتزموها ، ولا رضي صاحب الدّين بذممهم ، وهي مختلفة متباينة ، ولا يجوز تعليقه على الأعيان وتأجيله ، لأنّه ضرر بالميّت وصاحب الدّين ولا نفع للورثة فيه أمّا الميّت فلأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « نفس المؤمن معلّقة ما كان عليه دين » ، وأمّا صاحبه فيتأخّر حقّه ، وقد تتلف العين فيسقط حقّه ، وأمّا الورثة فإنّهم لا ينتفعون بالأعيان ولا يتصرّفون فيها ، وإن حصلت لهم منفعة فلا يسقط حظّ الميّت وصاحب الدّين لمنفعة لهم .
والمذهب عند الحنابلة ، وهو قول ابن سيرين وعبيد اللّه بن الحسن العنبريّ وأبي عبيد : أنّ الدّيون على الميّت لا تحلّ بموته ، إذا وثق الورثة أو غيرهم برهن أو كفيل مليء على أقلّ الأمرين من قيمة التّركة أو الدّين . قال ابن قدامة : لأنّ الموت ما جعل مبطلاً للحقوق ، وإنّما هو ميقات للخلافة وعلامة على الوراثة ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من ترك حقّاً أو مالاً فلورثته » ، فعلى هذا يبقى الدّين في ذمّة الميّت كما كان ، ويتعلّق بعين ماله كتعلّق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه ، فإن أحبّ الورثة أداء الدّين والتزامه للغريم ويتصرّفون في المال لم يكن لهم ذلك إلاّ أن يرضى الغريم ، أو يوثّقوا الحقّ بضمين مليء أو رهن يثق به لوفاء حقّه ، فأنّهم قد لا يكونون أملياء ولم يرض بهم الغريم ، فيؤدّي إلى فوات الحقّ ، وذكر القاضي أبو يعلى : أنّ الحقّ ينتقل إلى ذمم الورثة بموت مورّثهم من غير أن يشترط التزامهم له . قال ابن قدامة : ولا ينبغي أن يلزم الإنسان دين لم يلتزمه ولم يتعاط سببه ، ولو لزمهم ذلك لموت مورّثهم للزمهم وإن لم يخلّف وفاءً .
25 - وقد اختلف الفقهاء في أيّ الدّينين يؤدّى أوّلاً إذا ضاقت التّركة عنهما .
فذهب الحنفيّة إلى : أنّ ديون اللّه تعالى تسقط بالموت إلاّ إذا أوصى بها كما سيأتي .
وذهب المالكيّة إلى أنّ حقّ العبد يقدّم على حقّ اللّه تعالى ، لأنّ حقوق اللّه تعالى مبنيّة على المسامحة ، وحقوق العباد مبنيّة على المشاحّة ، أو لاستغناء اللّه وحاجة النّاس .
وذهب الشّافعيّة إلى تقديم حقوق اللّه تعالى أو ديونه على حقوق الآدميّ إذا ضاقت التّركة عنهما ، واستدلّوا بقوله صلى الله عليه وسلم : « دين اللّه أحقّ أن يقضى » .
وقوله : « اقضوا اللّه ، فاللّه أحقّ بالوفاء » .
وأمّا الحنابلة فإنّهم يقدّمون وفاء الدّين المتعلّق بعين التّركة أو ببعضها ، كالدّين المرهون به شيء منها ، ثمّ بعدها الدّين المطلقة المتعلّقة بذمّة المتوفّى ، ولا فرق في التّقديم بين حقّ اللّه أو حقّ العبد . وللتّفصيل انظر مصطلح : ( إرث ، ودين ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
تعلّق دين اللّه سبحانه بالتّركة :
26 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ دين اللّه سبحانه وتعالى يجب أداؤه من التّركة ، سواء أوصى به أم لا ، على خلاف سبق في تقديمه على دين الآدميّ .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ دين اللّه تعالى لا يجب أداؤه من التّركة إلاّ إذا أوصى به الميّت ، فإن أوصى به فيخرج من ثلث التّركة . قال الفناريّ في توجيه ذلك : إنّ أداء دين اللّه عبادة ، ومعنى العبادة لا يتحقّق إلاّ بنيّة وفعل ممّن يجب عليه حقيقةً أو حكماً ، كما في الإيصاء لتحقّق أدائها مختاراً ، فيظهر اختياره الطّاعة من اختياره المعصية الّذي هو المقصود من التّكليف ، وفعل الوارث من غير أمر المبتلى بالأمر والنّهي لا يحقّق اختياره ، فإذا مات من غير فعل ولا أمر به فقد تحقّق عصيانه ، لخروجه من دار التّكليف ولم يمتثل ، وذلك تقرير عليه موجب العصيان ، فليس فعل الوارث الفعل المأمور به ، فلا يسقط به الواجب ، كما لو تبرّع به في حال حياته ، بخلاف حقوق العباد ، فإنّ الواجب فيها وصولها إلى مستحقّيها لا غير ، ولهذا لو ظفر به الغريم يأخذه ، ويبرأ من عليه بذلك .
ثمّ الإيصاء بحقوق اللّه تعالى تبرّع ، لأنّ الواجب في ذمّة من عليه الحقّ فعل لا مال ، والأفعال تسقط بالموت ، ولا يتعلّق استيفاؤها بالتّركة ، لأنّ التّركة مال يصلح لاستيفاء المال منها لا لاستيفاء الفعل . ألا يرى أنّه إذا مات وعليه القصاص لا يستوفى من تركته ، فصارت الحقوق المذكورة كالسّاقط في حقّ الدّنيا ، لأنّها لو لم يوص بها لم يجب على الورثة أداؤها ، فكان الإيصاء بأدائها تبرّعاً ، فيعتبر كسائر التّبرّعات من الثّلث بخلاف ديون العباد ، فإنّها لا تسقط بالموت ، لأنّ المقصود ثمّة المال لا الفعل ، لحاجة العباد إلى الأموال . وفيه بحث وهو أنّ الإيصاء بأداء حقوق اللّه تعالى واجب كما صرّح به في الهداية ، والإيصاء بسائر التّبرّعات ليس بلازم ، فلا وجه لقياس الإيصاء بأداء حقوق اللّه على الإيصاء بسائر التّبرّعات ، فتأمّل .
هذا وقد اختلف الجمهور في بعض التّفصيلات : فذهب المالكيّة إلى أنّه بعد وفاء دين العبد يبدأ بوفاء حقّ اللّه تعالى ، فيقدّم هدي التّمتّع إن مات الحاجّ بعد رمي جمرة العقبة ، أوصى به أم لا ، ثمّ زكاة فطر فرّط فيها ، وكفّارات فرّط فيها أيضاً ، ككفّارة يمين وصوم وظهار وقتل إذا أشهد في صحّته أنّها بذمّته ، كلّ ذلك يخرج من رأس المال ، أوصى بإخراجها أم لم يوص ، لأنّ المقرّر في مذهب المالكيّة : أنّ حقوق اللّه متى أشهد في صحّته بها خرجت من رأس المال ، فإن أوصى بها ولم يشهد فتخرج من الثّلث .
ومثل ما تقدّم : زكاة النّقدين الّتي حلّت وأوصى بها ، وزكاة ماشية وجبت ولا ساعي لأخذها ولم توجد السّنّ الّتي تجب فيها ، فإن وجدت فهو كالدّين المتعلّق بعين ، فيجب إخراجه قبل الكفن والتّجهيز .
وذهب الشّافعيّة إلى : أنّه بعد تجهيز الميّت وتكفينه تقضى ديونه المتعلّقة بذمّته من رأس المال ، سواء أكانت للّه تعالى أم لآدميّ ، أوصى بها أم لم يوص ، لأنّها حقّ واجب عليه . هذا وإنّ محلّ تأخير الدّين عن مؤن التّجهيز إذا لم يتعلّق بعين التّركة حقّ ، فإن تعلّق بعين التّركة حقّ قدّم على التّجهيز ، وذلك كالزّكاة الواجبة فيما قبل موته ، ولو من غير الجنس ، فيقدّم على مؤن التّجهيز ، بل على كلّ حقّ تعلّق بها فكانت كالمرهون بها .
وذهب الحنابلة إلى : أنّه بعد التّجهيز والتّكفين يوفّى حقّ مرتهن بقدر الرّهن ، ثمّ إن فضل للمرتهن شيء من دينه شارك الغرماء . ثمّ بعد ما سبق من تسديد الدّيون المتعلّقة بأعيان التّركة ، تسدّد الدّيون غير المتعلّقة بالأعيان ، وهي الّتي تثبت في الذّمّة ، ويتعلّق حقّ الغرماء بالتّركة كلّها ، سواء استغرقها الدّين أم لم يستغرقها ، وسواء أكان الدّين للّه تعالى كالزّكاة والكفّارات والحجّ الواجب ، أم كان لآدميّ كالقرض والثّمن والأجرة .
فإن زادت الدّيون عن التّركة ، ولم تف بدين اللّه تعالى ودين الآدميّ ، يتحاصّون بنسبة ديونهم كمال المفلس .
والتّفصيل في الزّكاة والكفّارات والحجّ وينظر مصطلح : ( حجّ ، ودين ، وإرث ) .
دين الآدميّ :
27 - دين الآدميّ هو الدّين الّذي له مطالب من جهة العباد ، فإنّ إخراج هذا الدّين من التّركة والوفاء به واجب شرعاً على الورثة قبل توزيع التّركة بينهم ، لقوله تعالى . { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بها أو دَيْنٍ } وعلى ذلك الإجماع ، وذلك حتّى تبرأ ذمّته من حقوق النّاس ، أو حتّى تبرد جلدته كما جاء في الحديث الشّريف .
وللفقهاء تفصيل في نوع تعلّق دين الآدميّ بين كونه متعلّقاً بعين التّركة أو بذمّة المتوفّى ، وفي دين الصّحّة والمرض ، وفي ضيق التّركة عن تسديد الدّين وغير ذلك ممّا سيأتي .
نوع التّعلّق :
الدّين الّذي له مطالب من جهة العباد إمّا أن يتعلّق بعين التّركة أو لا .
أ - الدّين المتعلّق بعين التّركة :
28 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة في الرّواية المشهورة عندهم ، والمالكيّة والشّافعيّة- إلى أنّه يبدأ من الدّيون بما تعلّق بعين التّركة ، كالدّين الموثق برهن ، ومن ثمّ يجب تقديم هذه الدّيون على تجهيز الميّت وتكفينه ، لأنّ المورّث في حال حياته لا يملك التّصرّف في الأعيان الّتي تعلّق بها حقّ الغير ، فأولى ألاّ يكون له فيها حقّ بعد وفاته .
فإن فضل شيء من التّركة بعد سداد هذا الدّين جهّز منه الميّت ، وإن لم يفضل شيء بعد سداد الدّين ، كان تجهيز الميّت على من كانت تجب عليه نفقته في حياته .
وذهب الحنابلة ، والحنفيّة في غير المشهور إلى أنّه إذا مات الإنسان بدئ بتكفينه وتجهيزه مقدّماً على غيره ، كما تقدّم نفقة المفلس على ديون غرمائه ، ثمّ بعد التّجهيز والتّكفين تقضى ديونه ممّا بقي من ماله .
ب - الدّيون المطلقة :
29 - اتّفق الفقهاء على أنّ الدّيون المطلقة ، وهي الّتي لا تتعلّق بعين من أعيان التّركة تؤخّر عن تجهيز الميّت وتكفينه ، فإن فضل شيء بعد التّجهيز والتّكفين دفع للدّائن واحداً كان أو أكثر بقدر حصصهم . وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( دين وإرث )
ج - دين الصّحّة ودين المرض :
30 - دين الصّحّة : هو ما كان ثابتاً بالبيّنة مطلقاً ، أي في حال الصّحّة أو المرض على السّواء .
وما كان ثابتاً بالإقرار في حال الصّحّة وكذا الدّين الثّابت بنكول المتوفّى في زمان صحّته .
ودين المرض : هو ما كان ثابتاً بإقراره في مرضه ، أو ما هو في حكم المرض ، كإقرار من خرج للمبارزة ، أو خرج للقتل قصاصاً ، أو ليرجم .
ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وابن أبي ليلى إلى : أنّ دين الصّحّة ودين المرض سواء في الأداء ، ولهذا إن لم يكن في التّركة وفاء بهما يكون لكلّ دائن حصّة منهما ، بنسبة مقدار دينه ، بلا تمييز بين ما كان منها من ديون الصّحّة أو ديون المرض ، فهي في مرتبة واحدة ، لأنّه إن عرّف سببها للنّاس فهي ديون الصّحّة - ووافقهم على ذلك الحنفيّة - وإن لم يعرّف سببها فيكفي الإقرار في إثباتها ، لأنّ الإقرار حجّة ، إلاّ إذا قام دليل أو قرينة على كذبه . والإنسان وهو مريض يكون أبعد عن هواه ، وأقرب إلى اللّه ، وإلى ما يؤمر به من الصّدق في حال الصّحّة ، لأنّ المرض مظنّة التّوبة . يصدق فيه الكاذب ، ويبرّ فيه الفاجر ، وتنتفي تهمة الكذب عن إقراره ، فيكون الثّابت بالإقرار كالثّابت بالبيّنة .
وذهب الحنفيّة إلى تقديم دين الصّحّة على دين المرض الّذي ثبت بطريق الإقرار ، ولم يعلم النّاس به ، لأنّ الإقرار في مرض الموت مظنّة التّبرّع أو المحاباة ، فيكون في حكم الوصايا الّتي تنفذ من الثّلث ، والوصايا مؤخّرة عن الدّيون .
تزاحم الدّيون :
31 - إذا كانت التّركة متّسعةً للدّيون كلّها على اختلاف أنواعها ، فلا إشكال في ذلك حينئذ ، إذ يمكن الوفاء بها جميعاً من التّركة .
أمّا إذا ضاقت التّركة ولم تتّسع لجميع الدّيون ، فقد اختلف الفقهاء في تقديم بعضها على بعض . وقد تقدّم بيان أقوال الفقهاء في تقديم الدّيون المتعلّقة بعين التّركة على غيرها ، وتقديم دين الصّحّة على دين المرض أو عدم تقديمه .
وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( دين ، ورهن ، وقسمة ) .
ثالثاً : الوصيّة :
32 - يأتي في المرتبة الثّالثة تنفيذ الوصيّة . وقد اتّفق الفقهاء على أنّ تنفيذ ما يوصي به الميّت يجيء بعد الدّين وقبل أخذ الورثة أنصباءهم من التّركة ، لقوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بها أو دَيْنٍ } ولا يكون تنفيذ ما يوصى به من أصل المال ، لأنّ ما تقدّم من التّكفين وقضاء الدّين قد صار مصروفاً في ضروراته الّتي لا بدّ منها ، والباقي هو ماله الّذي كان له أن يتصرّف في ثلثه . وأيضاً ربّما استغرق ثلث الأصل جميع الباقي ، فيؤدّي إلى حرمان الورثة بسبب الوصيّة ، وهذا سواء أكانت الوصيّة مطلقةً أم معيّنةً .
وتقديم الوصيّة على الدّين في الآية الكريمة لا يفيد التّقديم فعلاً كما تبيّن من قبل ( ف 23 ) وإنّما يفيد العناية بأمر وصيّة الميّت ، وإن كانت تبرّعاً منه ، كي لا تشحّ نفوس الورثة بإخراجها من التّركة قبل توزيعها بينهم .
ومن هنا تقدّم ذكرها على الدّين تنبيهاً على أنّها مثله في وجوب الأداء أو المسارعة إليه ، ولذلك جيء بينهما بأو الّتي هي هنا للتّسوية .
وتقديم الوصيّة على حقوق الورثة ليس على إطلاقه ، لأنّ تنفيذ الوصيّة مقيّد بحدود الثّلث ، فإن كان الموصى به شيئاً معيّناً أخذه ، وإن كان بثلث أو ربع مثلاً كان الموصى له شريكاً للورثة في التّركة بنسبة نصيبه الموصى له به ، لا مقدّماً عليهم . فإذا نقص المال لحقه النّقص ، وهذا بخلاف التّجهيز والدّين ، فإنّهما متقدّمان حقّاً على الوصيّة وحقوق الورثة .
ولمّا كانت الوصيّة بنسبة شائعة على سبيل المشاركة مع حقوق الورثة - فلو هلك شيء من التّركة قبل القسمة فإنّه يهلك على الموصى له والورثة جميعاً ، ولا يعطى الموصى له كلّ الثّلث من الباقي ، بل الهالك يهلك على الحقّين ، والباقي يبقى على الحقّين ، بخلاف الدّين - فإنّه إذا هلك بعض التّركة يستوفى كلّ الدّين من الباقي .
ثمّ إنّ طريقة حساب الوصيّة : أن يحسب قدر الوصيّة من جملة التّركة لتظهر سهام الورثة ، كما تحسب سهام أصحاب الفرائض أوّلاً ليظهر الفاضل للعصبة .
وللفقهاء تفصيل ينظر في ( وصيّة ، وإرث ) .
رابعاً : قسمة التّركة بين الورثة :
33 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ التّركة تقسم بين الوارثين بعد أداء الحقوق المتعلّقة بها انظر مصطلح : ( إرث ) . إلاّ أنّ الفقهاء اختلفوا فيما إذا قسّمت التّركة بين الورثة قبل أداء الحقوق المتعلّقة بها ، هل تنقض هذه القسمة أم تلزم ؟
فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ التّركة المستغرقة بالدّين تبقى على ملك المورّث ، أو هي في حكم ملكه ، لأنّ الدّين يشغلها جميعاً . أمّا غير المستغرقة فإنّها تنتقل إلى ملك الوارث من حين وفاة المورّث أو ينتقل الجزء الفارغ من الدّين .
ومن ثمّ لا يجوز للورثة اقتسام التّركة ما دامت مشغولةً بالدّين ، وذلك لأنّ ملكهم لا يظهر إلاّ بعد قضاء الدّين ، لقوله تعالى : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بها أو دَينٍ } فإذا قسموها نقضت قسمتهم حفظاً لحقّ الدّائنين ، لأنّهم قسموا ما لا يملكون . قال الكاسانيّ : الّذي يوجب نقض القسمة بعد وجودها أنواع : منها ظهور دين على الميّت ، إذا طلب الغرماء ديونهم ولا مال للميّت سواه ولا قضاه الورثة من مال أنفسهم .
وإذا لم يكن الدّين محيطاً بالتّركة فملك الميّت وحقّ الغرماء ثابت في قدر الدّين من التّركة على الشّيوع ، فيمنع جواز القسمة .
وذهب بعض الحنفيّة إلى : جواز القسمة استحساناً ، إذا كان الدّين غير مستغرق للتّركة ، لأنّه قلّما تخلو تركة من دين يسير . ولا تنقض القسمة أيضاً إذا أبرأ الدّائن الميّت من الدّين ، أو ضمن الدّين بعض الورثة برضى الدّائن نفسه ، أو كان في التّركة من غير المقسوم ما يكفي لأداء الدّين . وقد جاء في مجلّة الأحكام العدليّة ما نصّه : إذا ظهر دين على الميّت بعد تقسيم التّركة تفسخ القسمة ، إلاّ إذا أدّى الورثة الدّين ، أو أبرأهم الدّائنون منه ، أو ترك الميّت مالاً سوى المقسوم يفي بالدّين ، فعند ذلك لا تفسخ القسمة .
وذهب الشّافعيّة إلى : أنّ ملك الورثة للتّركة يبدأ من حين موت المورّث ، سواء أحاط الدّين بالتّركة أم لا . وقسمة التّركة ما هي إلاّ تمييز وإفراز لحقوق كلّ من الورثة ، ومن ثمّ فلا وجه لنقض القسمة عندهم . وإن قيل : إنّها بيع ففي نقضها وجهان .
وعند الحنابلة : لا تبطل القسمة بظهور دين على الميّت ، لأنّ تعلّق الدّين بالتّركة لا يمنع صحّة التّصرّف فيها ،لأنّه تعلّق بها بغير رضا الورثة . وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( قسمة ).
نقض قسمة التّركة :
34 - المقصود بنقض القسمة : إبطالها بعد تمامها ، وتنقض قسمة التّركة في الحالات التّالية : - أ - الإقالة أو التّراضي على فسخ القسمة .
ب - ظهور دين على الميّت وقد تقدّم .
ج - ظهور وارث أو موصًى له في قسمة التّراضي ، لأنّ الوارث والموصى له شريكان للورثة في التّركة .
د - ظهور غبن فاحش لحق ببعض الورثة ، وهو الّذي لا يدخل تحت تقويم المقوّمين ، كأن قوّم المال بألف ، وهو يساوي خمسمائة .
وتنقض هنا قسمة القاضي ، لأنّ تصرّف القاضي مقيّد بالعدل ولم يوجد .
وتنقض أيضاً قسمة التّراضي ، لأنّ شرط جوازها المعادلة ولم توجد ، فجاز نقضها .
هـ - وقوع غلط في المال المقسوم . وفي جميع هذه الصّورة تفصيل وخلاف ينظر في مصطلح : ( قسمة ) .
التّصرّف في التّركة :
35 - تقدّم خلاف الفقهاء في نفاذ أو عدم نفاذ قسمة التّركة إذا كانت مستغرقةً بالدّين كلّاً أو بعضاً . وإذا تصرّف الورثة في التّركة المدينة بالبيع أو الهبة أو بغير ذلك من التّصرّفات الّتي من شأنها أن تنقل الملكيّة أو ترتّب عليها حقوقاً عينيّةً كالرّهن ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على الوجه التّالي : ذهب الحنفيّة والمالكيّة ، والحنابلة في إحدى الرّوايتين - وهم الّذين قالوا بمنع ملكيّة الوارث إلاّ بعد سداد الدّين - إلى : أنّه لا يجوز أيّ تصرّف من الورثة في التّركة إلاّ في الأحوال التّالية :
أ - أن تبرأ ذمّة الميّت من الدّين قبل تصرّف الورثة ، إمّا بالأداء أو الكفالة .
ب - أن يرضى الدّائنون بقيام الورثة ببيع التّركة لسداد ديونهم ، لأنّ منع تصرّف الورثة بالتّركة كان ضماناً لحقّ الدّائنين المتعلّق بالتّركة .
ج - أن يأذن القاضي بالتّصرّف ، وذلك لأنّ القاضي بما له من الولاية العامّة يملك الإذن للورثة بالبيع لجميع التّركة أو بعضها .
وأمّا الشّافعيّة والحنفيّة في الرّواية الأخرى - وهم الّذين ذهبوا إلى أنّ ملك الوارث يبدأ من وقت وفاة المورّث ، سواء كانت التّركة مدينةً أم لا - فإنّهم ذهبوا إلى أنّ تصرّف الوارث بالبيع أو الهبة مع استغراق التّركة بالدّين لا ينفذ مراعاةً لحقّ الميّت ، أذن الدّائن أم لا ، إلاّ إذا كان التّصرّف لقضاء الدّين فإنّه ينفذ .
وفي المسألة تفصيل يرجع فيه إلى الهبة ، وإلى بيع منهيّ عنه ، ومصطلح : ( دين ) .
تصفية التّركة :
36 - تقدّم الكلام حول تصرّف الوارثين البالغين في التّركة قسمةً أو بيعاً ، أمّا إذا كان الورثة أو بعضهم قصّراً : فإنّ التّصرّف فيها يكون راجعاً للوصيّ إن كان ، أو للقاضي إن لم يكن وصيّ ، وذلك لضمان الحقوق المتعلّقة بالتّركة من جهة ، ولحفظ أموال الورثة الضّعفاء كيلا يظلموا من غيرهم . ولتفصيل هذه الأحكام ينظر ( الوصيّة ) ومصطلح : ( إيصاء ) .
التّركة الّتي لا وارث لها :
37 - اختلف الفقهاء في التّركة الّتي لا وارث لها ، أو لها وارث لا يرثها جميعها ، فمن قال من الفقهاء بالرّدّ قال : لا تئول التّركة إلى بيت المال ما دام لها وارث . ومن لا يرى الرّدّ من الفقهاء قال : إنّ بيت المال يرث جميع التّركة ، أو ما بقي بعد أصحاب الفروض . وإذا آلت التّركة إلى بيت المال كانت على سبيل الفيء لا الإرث عند الحنفيّة والحنابلة . وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ حقّ بيت المال هنا هو على سبيل الميراث ، أي على سبيل العصوبة . وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( إرث ، وبيت المال ) .

ترميم *
التّعريف :
1 - للتّرميم في اللّغة معان . منها : الإصلاح .
يقال : رمَّمت الحائط وغيره ترميماً : أصلحته . ورمَّمت الشّيء أرُمّه وأرِمّه رمّاً ومَرَمّةً : إذا أصلحته . ويقال : قد رَمّ شأنُه . واسترمّ الحائط : أي حان له أن يُرَمّ ، وذلك إذا بعد عهده بالتّطيين ونحوه . والرِّم : إصلاح الشّيء الّذي فسد بعضه من نحو حبل يبلى فيرمّه ، أو دار ترمّ مرمّةً . ولا يخرج في معناه الاصطلاحيّ عن هذا . والتّرميم قد يكون بقصد التّقوية ، إذا كان الشّيء معرّضاً للتّلف ، وقد يكون بقصد التّحسين .
الحكم الإجماليّ :
أوّلاً : ترميم الوقف :
2 - إذا احتاجت عين الوقف إلى ترميم ، فإنّه يبدأ به من غلّته قبل الصّرف إلى المستحقّين ، لأنّ قصد الواقف صرف الغلّة مؤبّداً ، ولا تبقى دائمةً إلاّ بعمارته ، وما بقي بعد العمارة يصرف للمستحقّين ، هذا ما عليه الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة .
وفي هذا يقول الحنفيّة : لو شرط الواقف تقديم العمارة ، ثمّ الفاضل للفقراء أو للمستحقّين ، لزم النّاظر إمساك قدر ما تحتاجه العمارة كلّ سنة ، وإن لم يحتجه وقت الإمساك ، لجواز أن يحدث في الوقف بعد التّوزيع حدث يحتاج إلى ترميم ولا يجد غلّةً يرمّم بها ، بخلاف ما إذا لم يشترطه . والفرق بين الشّرط وعدمه : أنّه مع السّكوت تقدّم العمارة عند الحاجة إليها ، ولا يدّخر لها عند عدم الحاجة إليها ، ومع الاشتراط تقدّم عند الحاجة ، ويدّخر لها عند عدمها ، ثمّ يفرّق الباقي ، لأنّ الواقف إنّما جعل الفاضل عنها للفقراء .
ولو كان الموقوف داراً ، فعمارتها على من له السّكنى ، أي على من يستحقّها من ماله لا من الغلّة ، إذ الغرم بالغنم . ومفاده : أنّه لو كان بعض المستحقّين للسّكنى غير ساكن فيها يلزمه التّعمير مع السّاكنين ، لأنّ تركه لحقّه لا يسقط حقّ الوقف ، فيعمّر معهم ، وإلاّ تؤجّر حصّته . ولو أبى من له السّكنى ، أو عجز لفقره ، آجرها الحاكم منه أو من غيره ، وعمّرها بأجرتها كعمارة الوقف ، ثمّ يردّها بعد التّعمير إلى من له السّكنى رعايةً للحقّين .
3 - فإذا امتنع عن العمارة من ماله يؤجّرها المتولّي ويعمّرها من غلّتها ، لأنّها موقوفة للغلّة . ولو كان هو المتولّي وامتنع من عمارتها ينصب غيره ليعمّرها ، أو يعمّرها الحاكم . ولو احتاج الخان الموقوف إلى المرمّة آجر بيتاً أو بيتين منه وأنفق عليه ، أو يؤذن للنّاس بالنّزول فيه سنةً ، ويؤجّر سنةً أخرى ، ويرمّ من أجرته .
ويقول المالكيّة : إنّ إصلاح الوقف من غلّته . فإن شرط على المستحقّ إصلاحه يلغى الشّرط ، والوقف صحيح ، ويصلح من غلّته .
فإن أصلح من شرط عليه الإصلاح رجع بما أنفق لا بقيمته منقوضاً .
فلو شرط الواقف أن يبدأ من غلّته بمنافع أهله ، ويترك إصلاح ما تهدّم منه ، أو يترك الإنفاق عليه إذا كان حيواناً بطل شرطه ، وتجب البداءة بمرمّته والنّفقة عليه من غلّته لبقاء عينه . ولمّا كانت رقبة الوقف عند المالكيّة للواقف والغلّة للموقوف عليه ، يترتّب على هذا أنّه إذا خرب الوقف فللواقف إن كان حيّاً - ولوارثه إن مات - منع من يريد إصلاحه إذا خرب أو احتاج للإصلاح ، لأنّه ليس لأحد أن يتصرّف في ملك غيره إلاّ بإذنه ، ولأنّ إصلاح الغير مظنّة لتغيير معالمه ، وهذا إذا أصلحه الواقف أو ورثته ، وإلاّ فليس لهم المنع ، بل الأولى لهم تمكين من أراد بناءه إذا خرب ، لأنّه من التّعاون على الخير .
وهذا في غير المساجد ، وأمّا هي فقد ارتفع ملكه عنها قطعاً .
ويقول الشّافعيّة : لو خربت الدّار الموقوفة ، ولم يعمّرها الموقوف عليه ، فإن كان للوقف مال كانت عمارته في مال الوقف ، وإن لم يكن له مال أوجر وعمّر من أجرته . فإذا تعطّلت منافع الوقف وكان حيواناً كخيل الجهاد ، فالنّفقة من بيت المال .
أمّا عمارة الدّار الموقوفة فلا تجب على أحد كالملك المطلق بخلاف الحيوان فإنّ نفقته تجب لصيانة روحه . وريع الأعيان الموقوفة على المسجد إذا انهدم وتوقّع عوده حفظ له ، وإلاّ فإن أمكن صرفه إلى مسجد آخر صرف إليه ، وإلاّ فمنقطع الآخر فيصرف لأقرب النّاس إلى الواقف ، فإن لم يكونوا صرف إلى الفقراء والمساكين أو مصالح المسلمين .
4- أمّا غير المنهدم فما فضل من غلّة الموقوف على مصالحه يشترى بها عقار ويوقف عليه ، بخلاف الموقوف على عمارته يجب ادّخاره لأجلها ، وإلاّ لم يعد منه شيء لأجلها ، لأنّه يعرّض للضّياع أو لظالم يأخذ .
5- وأمّا الحنابلة فيرجع عندهم إلى شرط الواقف في الإنفاق على الوقف وفي سائر أحواله ، لأنّه ثبت بوقفه ، فوجب أن يتبع فيه شرطه .
فإن عيّن الواقف الإنفاق عليه من غلّته أو من غيرها عمل به رجوعاً إلى شرطه ، وإن لم يعيّنه - وكان الموقوف ذا روح كالخيل - فإنّه ينفق عليه من غلّته ، لأنّ الوقف يقتضي تحبيس الأصل وتسبيل منفعته ، ولا يحصل ذلك إلاّ بالإنفاق عليه فكان ذلك من ضرورته .
فإن لم يكن للموقوف غلّة لضعف به ونحوه فنفقته على الموقوف عليه المعيّن ، لأنّ الوقف عندهم يخرج من ملك الواقف إلى ملك الموقوف عليه إن كان آدميّاً معيّناً ، مع منعه من التّصرّف فيه . فإن تعذّر الإنفاق من الموقوف عليه لعجزه أو غيبته ونحوهما بيع الوقف ، وصرف ثمنه في عين أخرى تكون وقفاً لمحلّ الضّرورة .
ولو احتاج خان مسبّل إلى مرمّة ، أو احتاجت دار موقوفة لسكنى الحاجّ أو الغزاة أو أبناء السّبيل ونحوهم إلى مرمّة ، يؤجّر منه بقدر ما يحتاج إليه في مرمّته .
6- وإن كان الوقف على غير معيّن كالمساكين ونحوهم كالفقهاء فنفقته في بيت المال ، لانتفاء المالك المعيّن فيه .
فإن تعذّر الإنفاق عليه من بيت المال بيع وصرف ثمنه في عين أخرى تكون وقفاً .
وإن كان الوقف ممّا لا روح فيه كالعقار ونحوه من سلاح ومتاع وكتب ، لم تجب عمارته على أحد إلاّ بشرط الواقف .
فإن شرط عمارته عمل بشرطه ، سواء شرط البداءة بالعمارة أو تأخيرها ،فيعمل بما شرط . لكن إن شرط تقديم الجهة عمل به ما لم يؤدّ إلى التّعطيل ، فإذا أدّى إليه قدّمت العمارة حفظاً لأصل الوقف . فإن لم يذكر البداءة بالعمارة أو تأخيرها ، فتقدّم على أرباب الوظائف ، ما لم يفض ذلك إلى تعطيل مصالحه ، فيجمع بينهما حسب الإمكان .
ويصحّ بيع بعضه لإصلاح باقيه ، لأنّه إذا جاز بيع الكلّ عند الحاجة فبيع البعض مع بقاء البعض أولى ، إن اتّحد الواقف . وتفصيل ذلك يرجع إليه في مصطلح : ( وقف ) .
ثانياً : التّرميم في الإجارة :
7 - إذا احتاجت الدّار المستأجرة للتّرميم . فإنّ عمارتها وإصلاح ما تلف منها وكلّ ما يخلّ بالسّكنى على المؤجّر عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
ويقول الحنفيّة : إن أبى صاحبها أن يفعل كان للمستأجر أن يخرج منها ، إلاّ أن يكون المستأجر استأجرها وهي كذلك وقد رآها لرضاه بالعيب ، وأنّه لا يجبر المؤجّر على إصلاح بئر الماء والبالوعة والمخرج إن أبى إصلاح ذلك ، لأنّه لا يجبر على إصلاح ملكه ، فإن فعله المستأجر فهو متبرّع ، وله أن يخرج إن أبى المؤجّر .
وعلى المستأجر إصلاح ما تلف من العين بسبب استعماله .
ويقول الشّافعيّة : إن بادر المؤجّر إلى إصلاح ما تلف فلا خيار للمكتري ، وإلاّ فله الخيار لتضرّره بنقص المنفعة .
والحنابلة كالشّافعيّة في هذا ، إلاّ أنّهم قالوا : لو شرط المؤجّر على المكتري النّفقة الواجبة لعمارة المأجور لم يصحّ ، لأنّه يؤدّي إلى جهالة الإجارة ، فلو عمّر المستأجر بهذا الشّرط أو عمّر بإذن المؤجّر رجع عليه .
وإن أنفق المستأجر من غير إذنه لم يرجع بشيء ، لأنّه متبرّع ، لكن له أخذ أعيان آلاته .
وأجاز المالكيّة شرط المرمّة للدّار وتطيينها إن احتاجت على المكتري ، بشرط أن يكون من كراء وجب على المكتري ، إمّا في مقابلة سكنى مضت ، أو باشتراط تعجيل الكراء ، أو يجري العرف بتعجيله ، لا إن لم يجب فلا يجوز . أو وقع العقد على أنّ ما تحتاج إليه الدّار من المرمّة والتّطيين من عند المكتري ، فلا يجوز للجهالة .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ترميم المستأجر من شريكين :
8 - إذا استأجر شخص ما داراً مشتركةً بين اثنين مثلاً من صاحبيها ، ثمّ احتاجت إلى مرمّة ، فاستأذن فيها واحداً منهما فحسب ، فأذن له دون رجوع إلى شريكه فليس للمستأجر حقّ الرّجوع على الشّريك الآخر بما أنفقه في المرمّة .
فإن كان للآذن حقّ الرّجوع على شريكه كان للمستأجر الرّجوع على آذنه بالنّفقة كلّاً ، ثمّ يرجع هذا على شريكه بحصّته من النّفقة . وإن لم يكن له حقّ الرّجوع فإذنه لغو في حصّة شريكه ، وليس للمستأجر إلاّ الرّجوع على الآذن وحده بنسبة حصّته .
ثالثاً : ترميم الرّهن :
9 - كلّ ما يحتاج إليه لبقاء الرّهن ومصلحته فهو على الرّاهن ، لأنّه باق على ملكه ، وذلك مؤنة الملك . وكلّ ما كان لحفظه فعلى المرتهن ، لأنّ حبسه له ، فلو شرط منه شيء على الرّاهن لا يلزمه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال :
« الظّهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً ، ولبن الدّرّ يشرب بنفقته ، وعلى الّذي يركب ويشرب النّفقة » والّذي يركب هو الرّاهن ، فوجب أن تكون النّفقة عليه ، ولأنّ الرّقبة والمنفعة على ملكه ، فكانت النّفقة عليه .
ويقول الحنابلة : إنّ مؤنة الرّهن على راهنه ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يُغْلَقُ الرَّهنُ من صاحبه الّذي رهنه ، له غُنْمه وعليه غُرْمه » ولأنّه ملك للرّاهن فكان عليه نفقته وما يحتاج إليه .
فإن امتنع الرّاهن من بذل ما وجب عليه أجبره الحاكم عليه ، فإن لم يفعل أخذ الحاكم من ماله وفعله ، فإن تعذّر أَخْذُ ذلك من الرّهنِ بيع منه فيما يجب على الرّاهن فعله بقدر الحاجة ، لأنّ حفظ البعض أولى من إضاعة الكلّ ، فإن خيف استغراق البيع للرّهن في الإنفاق عليه بيع كلّه وجعل ثمنه رهناً مكانه لأنّه أحظّ لهما .
وإن أنفق المرتهن على الرّهن بلا إذن الرّاهن ، مع قدرته على استئذانه ، فمتبرّع حكماً لتصدّقه به ، فلا يرجع بعوضه ولو نوى الرّجوع ، كالصّدقة على مسكين ، ولتفريطه بعدم الاستئذان . وإن تعذّر استئذانه وأنفق بنيّة الرّجوع رجع ولو لم يستأذن الحاكم ، لاحتياجه لحراسة حقّه . وتفصيل ذلك ينظر في ( رهن ) .

تروية *
انظر : يوم التّروية .

ترياق *
التّعريف :
1 - التِّرْياق بكسر فسكون ، وجُوِّز ضمّه وفتحه ، ولكنّ المشهور الأوّل وهو معرّب ، ويقال بالدّال والطّاء أيضاً : دواء يستعمل لدفع السّمّ وهو أنواع .
الحكم الإجماليّ :
2 - قال الحنابلة : التّرياق دواء يتعالج به من السّمّ ، ويجعل فيه من لحوم الحيّات ، ولذلك لم يبيحوا أكله ولا شربه ، لأنّ لحم الحيّة حرام ، ولا يجوز التّداوي بمحرّم ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم » وعن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما قال : « سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : ما أبالي ما أتيت إنْ أنا شربت ترياقاً ، أو تعلّقت بتميمة ، أو قلت الشّعر من قبل نفسي » والمعنى : أنّي إن فعلت هذه الأشياء كنت ممّن لا يبالي بما فعله من الأفعال ، ولا ينزجر عمّا لا يجوز فعله شرعاً . وقال الخطّابيّ : ليس شرب التّرياق مكروهاً من أجل التّداوي .
وقد أباح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم التّداوي والعلاج في عدّة أحاديث ، ولكن من أجل ما يقع فيه من لحوم الأفاعي ، وهي محرّمة . والتّرياق أنواع ، فإذا لم يكن فيه من لحوم الأفاعي فلا بأس بتناوله .
وممّا ورد من أحاديث في التّداوي والعلاج ما روي « عن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال : كنت عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا : يا رسول اللّه أنتداوى ؟ فقال : نعم يا عباد اللّه تداووا فإنّ اللّه عزّ وجلّ لم يضع داءً إلاّ وضع له شفاءً ، غير داء واحد قالوا : ما هو ؟ قال : الهرم » وفي لفظ « إنّ اللّه لم ينزل داءً إلاّ أنزل له شفاءً ، علمه من علمه ، وجهله من جهله » .
وفي مرقاة المفاتيح : إذا لم يكن في التّرياق محرّم شرعاً من لحوم الأفاعي والخمر ونحوه ، فإنّه لا يكون حراماً . وبتحريم لحوم الحيّات يقول الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
وللحنفيّة فيما إذا جعل لحم الحيّات في التّرياق للتّداوي - أسوةً بالتّداوي بالمحرّم - رأيان : ظاهر المذهب : المنع . وقيل : يرخّص إذا علم فيه الشّفاء ولم يعلم دواء آخر ، وعليه الفتوى . فإنّ اللّه تعالى قد أذن بالتّداوي ، وجعل لكلّ داء دواءً ، فإذا كان في ذلك الدّواء ما هو محرّم وعلم فيه الشّفاء فقد زالت حرمة استعماله ، وحلّ تناوله للتّداوي به . وحديث :
« إنّ اللّه لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم » معناه : نفي الحرمة عند العلم بالشّفاء .
دلّ عليه جواز إساغة اللّقمة بالخمر ، وجواز شربها لإزالة العطش ، ما لم يوجد ما يقوم مقامها . وللشّافعيّة في التّداوي به أسوةً بالمحرّم المخالط للدّواء المنع عند البعض ، والجواز عند البعض الآخر متى علم فيه الشّفاء ولم يوجد غيره .
أمّا المالكيّة فقد أباحوا أكل الحيّة متى ذكّيت في موضع ذكاتها ، وأمن سمّها ، واحتيج لأكلها بسمّها لمن ينفعه ذلك لمرضه ، فإنّه يجوز أكلها . ومفهوم هذا أنّ لحمها متى دخل في التّرياق وخالطه فإنّه يجوز التّداوي به . وتفصيل ذلك يرجع إليه في مصطلح : ( تداوي ) .

تزاحم *
التّعريف :
1 - التّزاحم في اللّغة مصدر تزاحم ، يقال : تزاحم القوم : إذا زحم بعضهم بعضاً ، أي تضايقوا في المجلس ، أو تدافعوا في المكان الضّيّق .
والاصطلاح الشّرعيّ لا يختلف عن هذا .
الحكم التّكليفيّ :
2 - تحرم المزاحمة إن ترتّب عليها أذًى لأحد ، كمزاحمة الأقوياء للضّعفاء عند استلام الحجر الأسود ، أو ترتّب عليها أمر محظور شرعاً ، كمزاحمة المرأة للرّجال في الطّواف وعند استلام الحجر الأسود وغيره من الأماكن العامّة . وقد ورد التّزاحم في أمور منها :
أوّلاً : زحم المأموم :
3 - إذا زحم المأموم وتعذّر عليه السّجود على الأرض متابعةً للإمام ، وقدر على السّجود على ظهر إنسان أو دابّة ، فهل يلزمه السّجود على ذلك ؟ اختلف فيه الأئمّة .
فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى : أنّه يلزمه أن يسجد على ما يمكنه السّجود عليه ، وإن كان على ظهر إنسان أو قدمه ، لتمكّنه من المتابعة ، ولخبر « إذا اشتدّ الزّحام فليسجد أحدكم على ظهر أخيه » فإن لم يسجد فمتخلّف عن المتابعة بغير عذر عند الأئمّة المذكورين. وعند المالكيّة : لا يجوز السّجود على ظهر الإنسان ، فإن سجد أعاد الصّلاة . ويستدلّون لذلك بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « مكِّن جبهتك من الأرض » ولا يحصل التّمكين من الأرض في حالة السّجود على ظهر إنسان . أمّا إذا لم يتمكّن من السّجود مطلقاً ، فهل يخرج عن المتابعة أو ينتظر ؟ فيه خلاف وتفصيل ينظر في ( صلاة الجماعة )و( وصلاة الجمعة ).
ثانياً : التّزاحم في الطّواف :
4 - إذا منعت الزّحمة الطّائف من تقبيل الحجر الأسود أو استلامه اقتصر على الإشارة إليه وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء . لما روي « عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال لعمر : رضي الله عنه يا عمر إنّك رجل قويّ ، لا تؤذ الضّعيف ، إذا أردتَ استلام الحجر ، فإن خلا لك فاستلمه ، وإلاّ فاستقبله وكبّر » ، . والتّفصيل في مصطلح ( إشارة وطواف ) .
ثالثاً : تزاحم الغرماء في مال المفلس :
5 - إذا أقرّ المدين المفلس - بعد الحجر عليه لحقّ الغرماء - بدين قد لزمه قبل الحجر عليه ، فهل يقبل في حقّ الغرماء الّذين حجر عليه لحقّهم ويزاحمهم المقرّ له في المال ، أم يبقى الدّين في ذمّة المحجور عليه ، لئلاّ يتضرّر الغرماء بالمزاحمة ؟
ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى : أنّه لا يقبل إقراره في حقّ الغرماء ، إن أقرّ في حال الحجر ، لأنّ هذا الحقّ تعلّق به حقّ الأوّلين . وعند المالكيّة : لا يقبل إقراره إلاّ ببيّنة .
وأظهر القولين عند الشّافعيّة أنّه يقبل أيضاً في حقّهم ويزاحمهم في المال ، كإقرار المريض في مرضه بدين يزاحم غرماء دين الصّحّة . هذا إذا أقرّ أنّه لزم الدّين قبل الحجر .
أمّا إذا لزمه بعد الحجر ففي ذلك خلاف وتفصيل يرجع إليه في مصطلح : ( تفليس ) .
تزاحم الوصايا :
6 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا تزاحمت الوصايا نظر فإن كانت كلّها للّه تعالى : فإن كانت كلّها فرائض كالحجّ والزّكاة ، أو كانت كلّها واجبات كالكفّارات والنّذر ، وصدقة الفطر ، أو كانت كلّها تطوّعات : كحجّ التّطوّع والصّدقة على الفقراء يبدأ بما بدأ به الموصي .
وإن جمعت ما ذكر كحجّة الإسلام والكفّارات والنّذر وصدقة التّطوّع على الفقراء فيبدأ بالفرض ، ثمّ بالواجب ، ثمّ بالتّطوّع أمّا إذا جمعت بين حقّ اللّه وحقّ العباد فإنّه يقسم الثّلث على جميعها ، لأنّها وإن كانت كلّها للّه في واقع الأمر فكلّ واحدة منها مقصودة في نفسها فتنفرد . فلو قال : ثلث مالي في الحجّ والزّكاة ولزيد والكفّارات . قسم على أربعة أسهم ، ولا يقدّم الفرض على حقّ الآدميّ لحاجته .
هذا إذا كان الآدميّ معيّناً ، أمّا إذا كان غير معيّن فلا يقسم بل يقدّم الأقوى فالأقوى ، لأنّ الكلّ يبقى حقّاً للّه تعالى ، إذا لم يكن هناك مستحقّ معيّن .
وقال الشّافعيّة : لا يقدّم الواجب على غير الواجب سواء كان تطوّعاً للّه أو لآدميّ . بل تتزاحم الوصايا فيوزّع عليه وعلى غيره ، ثمّ يكمّل الواجب من صلب المال ، إن لم يف الثّلث ، وبهذا قال : أبو الخطّاب من الحنابلة .
وعند الحنابلة : إن أوصى بأداء الواجب من الثّلث تصحّ الوصيّة ، فإن لم تكن له وصيّة غير هذه لم تفد الوصيّة شيئاً ويؤدّي من ماله كلّه كما لو لم يوص . وإن أوصى لجهة أخرى قدّم الواجب ، وإن فضل شيء من الثّلث بعد الواجب فهو للتّبرّع . ( ر : الوصيّة ) .
7- وإن أوصى بشيء معيّن لشخص ، ثمّ أوصى به لآخر ، فالموصى به بين الموصى له به أوّلاً والموصى له به ثانياً ، لتعلّق حقّ كلّ واحد منهما على السّواء ، فوجب أن يشتركا كما لو جمع بينهما في الوصيّة . وإن أوصى لشخص بثلث ماله ثمّ أوصى بثلثه لآخر فالثّلث بينهما إن لم يجز الورثة الثّلثين ، وإن أجاز الورثة أخذ كلّ واحد منهما ثلثه ، لتغايرهما . وكذا إن أوصى بكلّ ماله لشخص ثمّ أوصى به لآخر فهو بينهما للتّزاحم .
وإن مات أحدهما قبل موت الموصي فكلّ المال للآخر ، وكذا إن تأخّر موتهما عن موت الموصي وردّ أحدهما الوصيّة بعد موت الموصي لأنّه اشتراك تزاحم ، وقد زال بموت المزاحم وردّه . هذا إذا لم يوجد ما يدلّ على رجوع الموصي عن الوصيّة ، فإن وجد ما يدلّ على الرّجوع عن الوصيّة الأولى ، كأن يقول : أوصيت لفلان بما أوصيت به لفلان ، فهو رجوع عن الوصيّة لظهوره فيه . والتّفصيل في مصطلح : ( وصيّة ) .
خامساً : القتل بالزّحام :
8 - ذهب الأئمّة الثّلاثة : أبو حنيفة ومالك وأحمد إلى أنّه إذا تزاحم قوم على بئر ، أو باب الكعبة ، أو في الطّواف ، أو في مضيق ، ثمّ تفرّقوا على قتيل لم يعرف قاتله لا يكون ذلك لوثاً ، وهو قول إسحاق ، وروي ذلك عن عمر وعليّ رضي الله عنهما .
ثمّ اختلفوا في ديته ، فقال الحنفيّة والحنابلة : إنّ ديته في بيت المال ، واستدلّوا بما روى سعيد بن منصور في سننه عن إبراهيم قال : قتل رجل في زحام النّاس بعرفة ، فجاء أهله لعمر فقال : بيّنتكم على من قتله . فقال عليّ يا أمير المؤمنين : لا يطلّ دم امرئ مسلم ، إن علمت قاتله ، وإلاّ فأعط ديته من بيت المال .
وقال المالكيّة : دمه هدر ، لأنّه لا يعلم له قاتل ، ولا وجد لوث فيحكم بالقسامة ، لأنّ أسباب القسامة عندهم خمسة . وليس فيها التّفرّق في الزّحام عن قتيل .
وقال الشّافعيّة : إنّ ذلك يكون لوثاً ، ولا يشترط أن تكون بينهم وبينه عداوة . وقال الحسن والزّهريّ فيمن مات في الزّحام : ديته على من حضر لأنّ قتله حصل منهم ، وكذا لو تزاحم قوم لا يتصوّر اجتماعهم على القتل في مضيق ، وتفرّقوا عن قتيل ، فادّعى الوليّ القتل على عدد منهم يتصوّر اجتماعهم فيقبل ، ويمكّن من القسامة .
مواطن البحث :
9 - يذكر الفقهاء التّزاحم في صلاة الجمعة والجماعة : في حال تعذّر متابعة المأموم للإمام في انتقالاته للزّحمة . وفي باب التّفليس : إذا ظهر دين بعد حجر المفلس للغرماء أو طرأ التزام ماليّ جديد . وفي الطّواف : إذا عسر عليه استلام الحجر أو تقبيله .

تزكية *
التّعريف :
1 - التّزكية لغةً : مصدر زكّى . يقال : زكّى فلان فلاناً : إذا نسبه إلى الزّكاء ، وهو الصّلاح . وزكا الرّجل يزكو : إذا صلح ، فهو زكيّ والجمع أزكياء .
قال الرّاغب : أصل الزّكاة النّموّ الحاصل عن بركة اللّه تعالى ، ويعتبر ذلك بالأمور الدّنيويّة والأخرويّة . يقال : زكا الزّرع يزكو : إذا حصل منه نموّ وبركة . وقال تعالى : { أيُّها أَزْكَى طَعَامَاً } إشارةً إلى ما يكون حلالاً لما لا يستوخم عقباه ، ومنه الزّكاة لما يخرج الإنسان من حقّ اللّه تعالى إلى الفقراء ، وتسميته بذلك لما يكون فيها من رجاء البركة ، أو لتزكية النّفس أي تنميتها بالخيرات والبركات ، أو لهما جميعاً ، فإنّ الخيرين موجودان فيها . وبزكاة النّفس وطهارتها يصير الإنسان بحيث يستحقّ في الدّنيا الأوصاف المحمودة ، وفي الآخرة الأجر والمثوبة ، وهو أن يتحرّى الإنسان ما فيه تطهيره ، وذلك ينسب تارةً إلى العبد ، لكونه مكتسباً لذلك ، نحو { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } وتارةً ينسب إلى اللّه تعالى لكونه فاعلاً لذلك في الحقيقة نحو { بَل اللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } وتارةً إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم لكونه واسطةً في وصول ذلك إليهم نحو { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا } وقوله تعالى : { يَتْلُو عَلَيكُمْ آيَاتِنَا ويُزَكِّيكُم } وتارةً إلى العبادة الّتي هي آلة في ذلك نحو { وَحَنَانَاً مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً } ونحو { لأَهَبَ لَكِ غُلامَاً زَكِيَّاً } أي مزكًّى بالخلقة ، وذلك على طريق ما ذكرنا من الاجتباء ، وهو أن يجعل بعض عباده عالماً وطاهر الخلق لا بالتّعلّم والممارسة ، بل بتوفيق إلهيّ .
وتزكية الإنسان نفسه ضربان : أحدهما : بالفعل وهو محمود ، وإليه قصد بقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } وقوله { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } .
والثّاني : بالقول كتزكية العدل غيره ، وذلك مذموم أن يفعل الإنسان بنفسه ، وقد نهى اللّه تعالى عنه فقال : { فَلا تُزَكُّوا أَنْفَسَكُمْ } ونهيه عن ذلك تأديب ، لقبح مدح الإنسان نفسه عقلاً وشرعاً ، ولهذا قيل لحكيم : ما الّذي لا يحسن وإن كان حقّاً ؟ فقال : مدح الرّجل نفسه . والفقهاء يعبّرون عن النّسبة إلى الصّلاح بالتّزكية أو التّعديل فهما مترادفان .
ويعرّفون التّزكية في باب القضاء بأنّها : تعديل الشّهود .
وتزكية الرّجل ماله : أن يخرج القدر الواجب عليه من الزّكاة فيه .
والجَرْحُ ضدّ التّزكية ، وهو في اللّغة : القطع في الجسم ، ومنه قولهم : جرحه بلسانه جرحاً : إذا عابه وتنقّصه ، ومنه : جرحت الشّاهد أو الرّاوي : إذا أظهرت فيه ما تردّ به شهادته أو روايته . وقد أطلق الفقهاء على من يبعث إليه للتّحرّي عن الشّهود ( المزكّي ) وهو في الحقيقة يزكّي ويجرح ، ولكن وصف بأحسن الوصفين .
حكم التّزكية :
2 - ذهب الإمام أبو حنيفة ، وإحدى الرّوايتين عن الإمام أحمد : أنّه يقضي بظاهر العدالة ، إلاّ إذا طعن الخصم في عدالة من شهد ، واستثنى أبو حنيفة الحدود والقصاص ، فأوجب فيهما التّزكية وإن لم يطعن الخصم .
وعند الإمام أحمد في الرّواية المذكورة : يستوي في ذلك الحدّ والمال . وقال الإمام مالك وأبو يوسف ومحمّد والشّافعيّة ، والإمام أحمد في الرّواية الأخرى عنه : إنّ التّزكية واجبة في كلّ الأمور ، لكنّ ذلك مشروط بما إذا لم يعرف القاضي حال الشّهود ، فإن عرف عدالتهم فلا حاجة إلى التّزكية . وإن عرف أنّهم مجروحون ردّ شهادتهم ، وذلك عند جميع الفقهاء .
3 - واستدلّ أصحاب القول الأوّل على جواز الحكم بظاهر العدالة بقول عمر : المسلمون عدول بعضهم على بعض . « وبأنّ أعرابيّاً جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فشهد برؤية الهلال ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتشهد ألاّ إله إلاّ اللّه ؟ فقال : نعم . فقال : أتشهد أنّي رسول اللّه ؟ فقال : نعم . فصام وأمر النّاس بالصّيام » .
ولأنّ العدالة أمر خفيّ سببها الخوف من اللّه تعالى ، ودليل ذلك الإسلام ، فإذا وجد فليكتف به ، ما لم يقم على خلافه دليل .
واستدلّ لأبي حنيفة في استثناء الحدود والقصاص ولزوم التّحرّي فيها وإن لم يطعن الخصم : بأنّ الحدود والقصاص ممّا يحتاط فيها وتندرئ بالشّبهات بخلاف غيرها .
واستدلّ القائلون بوجوب التّزكية في كلّ الأمور بقوله تعالى : { مِمَّنْ تَرْضَونَ مِن الشّهَدَاء } ولا يعلم أنّه مرضيّ حتّى نعرفه . وبأنّ العدالة شرط ، فوجب العلم بها كالإسلام ، كما لو طعن الخصم في الشّهود . أمّا الأعرابيّ المسلم ، فإنّه كان من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد ثبتت عدالتهم بثناء اللّه تعالى عليهم ، فإنّ من ترك دينه في زمن رسول اللّه إيثاراً لدين الإسلام وصحبة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثبتت عدالته ." وللأثر عن عمر رضي الله عنه أنّه أتي بشاهدين ، فقال لهما عمر : لست أعرفكما ولا يضرّكما إن لم أعرفكما ، جيئا بمن يعرفكما ، فأتيا برجل ، فقال له عمر : تعرفهما ؟ فقال : نعم . فقال عمر : صحبتَهما في السّفر الّذي يتبيّن فيه جواهر النّاس ؟ قال : لا . قال : عاملتَهما بالدّنانير والدّراهم الّتي تقطع فيها الرّحم ؟ قال : لا . قال : كنت جاراً لهما تعرف صباحهما ومساءهما ؟ قال : لا . قال : يا ابن أخي لست تعرفهما . جيئا بمن يعرفكما ".
قال ابن قدامة : وهذا بحث يدلّ على أنّه لا يكتفى بدونه .
4 - هذا ، وقد قال علماء الحنفيّة : إنّ الخلاف بين الإمام وصاحبيه ليس اختلافاً حقيقيّاً ، بل هو اختلاف عصر وزمان ، فإنّ النّاس في عهده كانوا أهل خير وصلاح ، لأنّه زمن التّابعين ، وقد شهد لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالخيريّة بقوله : « خير النّاسُ قَرْني ، ثمّ الّذين يلونهم ، ثمّ الّذين يلونهم ، ثمّ يجيء من بعدهم قوم تسبق شهادتُهم أيمانَهم ، وأيمانُهم شهادتَهم » فكان الغالب في أهل زمانه الصّلاح والسّداد ، فوقعت الغنية عن السّؤال عن حالهم في السّرّ ، ثمّ تغيّر الزّمان وظهر الفساد في قرنهما ، فوقعت الحاجة إلى السّؤال عن العدالة . ومن العلماء من حقّق الاختلاف .
متى تسقط التّزكية :
5 - قال إسماعيل بن حمّاد ناقلاً عن أبي حنيفة : أربعة شهود لا يسأل عن عدالتهم : شاهدا ردّ الظّنّة ، وشاهدا تعديل العلانية ، وشاهدا الغربة ، وشاهدا الأشخاص .
وقال المالكيّة : إنّ الشّاهد المبرز في العدالة - أي الفائق أقرانه فيها - لا يعذر فيه لغير العداوة ، ويعذر فيه فيها . ومثلها القرابة . ومنها أنّ المحكوم عليه إذا كان يخشى منه على من شهد عليه ، فإنّه لا يعذر إليه فيمن شهد عليه .
ونقل صاحب المغني عن مالك : أنّه يقبل شهادة المتوسّمين ، وذلك إذا حضر مسافران ، فشهدا عند حاكم لا يعرفهما ، يقبل شهادتهما إذا رأى فيهما سيما الخير ، لأنّه لا سبيل إلى معرفة عدالتهما ، ففي التّوقّف عن قبولها تضييع الحقوق ، فوجب الرّجوع فيهما إلى السّيما الجميلة . ومعنى هذا أنّ الشّهود المذكورين لا يسمّون لمن شهدوا عليه ليزكّيهم أو يطعن فيهم ، بل يحكم بشهادتهم من غير تزكية ، للأسباب الّتي أوردوها .
أقسام التّزكية :
6 - التّزكية نوعان : تزكية السّرّ ، وتزكية العلانية .
أمّا تزكية السّرّ ، فينبغي للقاضي أن يختار للمسألة عن الشّهود من هو أوثق النّاس وأورعهم ديانةً وأعظمهم درايةً وأكثرهم خبرةً وأعلمهم بالتّمييز فطنةً ، فيولّيه البحث عن أحوال الشّهود ، لأنّ القاضي مأمور بالتّفحّص عن العدالة ، فيجب عليه المبالغة في الاحتياط فيه . وبعد أن يختار ، يكتب في رقعة أسماء الشّهود جملةً بأنسابهم وقبائلهم ومحالّهم ومصلاهم ، وعلى الجملة كلّ ما يميّزهم عن غيرهم تمييزاً لا تتمكّن معه الشّبهة ، فقد يتّفق أن تتّحد الأسماء وتتّفق الأوصاف وغير ذلك .
فإذا كتب القاضي دفع المكتوب إلى من يستأمنه على ذلك ، وأخفاه عن كلّ من سواه ، لئلاّ يعلم أحد فيخدع الأمين ، وعلى المرسل أمين القاضي أن يتعرّف أحوال الشّهود ممّن يعرف حالهم ، فيسأل عنهم أهل الثّقة من جيرانهم وأهل محلاتهم ، وأن يسأل أهل أسواقهم .
أمّا تزكية العلانية ، فتكون بعد تزكية السّرّ .
وكيفيّتها : أن يحضر القاضي المزكّي بعدما زكّى ، ليزكّي الشّهود أمامه .
وهل يلزم أن يجمع بين التّزكية في السّرّ والتّزكية في العلانية ؟ اختلف الفقهاء في ذلك .
قال الحنفيّة : اليوم وقع الاكتفاء بتزكية السّرّ ، لما في تزكية العلانية من بلاء وفتنة .
وقال المالكيّة : يندب للقاضي تزكية السّرّ مع تزكية العلانية . فإن اقتصر على تزكية السّرّ أجزأه قطعاً كالعلانية على الرّاجح . وقال الشّافعيّة : بعد تزكية السّرّ يشافه المبعوث الحاكم بما سمعه من المبعوث إليه . وقيل : يشافه المبعوث إليه بما يعلمه المبعوث من جهة الحاكم . وقيل : تكفي كتابته . والظّاهر من كلام الحنابلة أنّه يكتفى بتزكية السّرّ .
7- ثمّ هل المعتبر قول المرسل إليه ( المزكّي ) أو قول المرسلين ، ويسمّون أصحاب المسائل ؟ قال بعض الشّافعيّة : المعوّل عليه شهادة المزكّي .
ونقل الشّيخان من الشّافعيّة : أنّهما نقلا عن جمع من الأصحاب أنّ المعوّل على قول أصحاب المسائل ، خلافاً لأبي إسحاق ، وأنّ ابن الصّبّاغ اعتذر عن قبولها ، وهي شهادة على شهادة - والأصل حاضر - لمكان الضّرورة .
التّعارض بين التّزكية والجرح :
اختلف فقهاء الحنفيّة في التّعارض بين التّزكية والجرح ، فقد نقل معين الحكّام عن المبسوط أنّه لو عدّله واحد ، وجرّحه آخر ، أعاد المسألة . وهذا قول محمّد .
لأنّ العدالة والجرح لا يثبت عنده بقول الواحد فصارا متساويين .
وعند أبي حنيفة وأبي يوسف : الجرح أولى ، لأنّ الجرح والتّعديل يثبت بقول الواحد عندهما ، وترجّح الجرح على التّعديل ، لأنّ الجارح في الجرح اعتمد على الدّليل ، وهو العيان والمشاهدة ، فإنّ سبب الجرح ارتكاب الكبيرة .
ولو جرّحه واحد وعدّله اثنان ، فالتّعديل أولى . ولو عدّله جماعة وجرّحه اثنان فالجرح أولى ، لأنّه لا يثبت التّرجيح بزيادة العدد على الاثنين .
8- وعند المالكيّة لو عدّل شاهدان رجلاً وجرّحه آخران ، ففي ذلك قولان .
قيل : يقضى بأعدلهما ، لاستحالة الجمع بينهما . وقيل : يقضى بشهود الجرح ، لأنّهم زادوا على شهود التّعديل ، إذ الجرح ممّا يبطن فلا يطّلع عليه كلّ النّاس ، بخلاف العدالة . وللّخميّ تفصيل ، قال : إن كان اختلاف البيّنتين في فعل شيء في مجلس واحد ، كدعوى إحدى البيّنتين أنّه فعل كذا في وقت كذا ، وقالت البيّنة الأخرى : لم يكن ذلك ، فإنّه يقضى بأعدلهما . وإن كان ذلك في مجلسين متقاربين قضي بشهادة الجرح ، لأنّها زادت علماً في الباطن . وإن تباعد ما بين المجلسين قضي بآخرهما تاريخاً ، ويحمل على أنّه كان عدلاً ففسق ، أو كان فاسقاً فتزكّى ، إلاّ أن يكون في وقت تقييد الجرح ظاهر العدالة فبيّنة الجرح مقدّمة ، لأنّها زادت . وعند الشّافعيّة : أنّه يقدّم الجرح على التّعديل لما فيه من زيادة العلم . فإن قال المعدّل : عرفت سبب الجرح وتاب منه وأصلح ، قدّم قوله على قول الجارح .
أمّا الحنابلة فقد قال في المغني : فإذا رجع أصحاب مسألة فأخبر اثنان بالعدالة ، قبل القاضي شهادته . وإن أخبرا بالجرح ردّ شهادته وإن أخبر أحدهما بالعدالة والآخر بالجرح بعث آخرين ، فإن عادا فأخبرا بالتّعديل تمّت بيّنة التّعديل ، وسقط الجرح لأنّ بيّنته لم تتمّ ، وإن أخبرا بالجرح ثبت وردّ الشّهادة .
وإن أخبر أحدهما بالجرح والآخر بالتّعديل تمّت البيّنتان ويقدّم الجرح .
وقت التّزكية :
9 - اتّفق الفقهاء على أنّ التّزكية تكون بعد الشّهادة لا قبلها .
عدد من يقبل في التّزكية :
10 - تقدّم أنّ التّزكية نوعان : تزكية السّرّ ، وتزكية العلانية .
فبالنّسبة لتزكية السّرّ ، قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومالك في أحد قوليه : إنّ القاضي يجتزئ بواحد في تزكية السّرّ ، لأنّها ليست شهادةً بل هي إخبار .
والقول الآخر لمالك ، وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة : أنّه لا بدّ من اثنين .
أمّا بالنّسبة لتزكية العلانية ، فالأئمّة الثّلاثة ، وهو المشهور عند المالكيّة : أنّه لا يقبل فيها إلاّ اثنان ، لأنّها شهادة . وقال ابن كنانة من المالكيّة : لا بدّ من ثلاثة . وعن ابن الماجشون : أنّ أقلّ ما يزكّي الرّجل أربعة شهود . وقال ابن حبيب في الواضحة : والتّزكية تختلف ، فتكون بالواحد والاثنين والجماعة ، بقدر ما يظهر للحاكم ويتأكّد عنده .
قال المتيطيّ : وما كثر من الشّهود فهو أحسن ، إلاّ أن تكون التّزكية في شاهد شهد بزناً ، فإنّ مطرّفاً روى عن مالك : أنّه لا يزكّيه إلاّ أربعة .
من تقبل تزكيته :
11 - فقهاء المذاهب - عدا الحنفيّة - قالوا : يشترط في شاهد التّزكية أن يكون مبرزاً ناقداً فطناً ، لا يخدع في عقله ، ولا تخفى عليه شروط التّعديل .
ولا تقبل التّزكية من الأبله والجاهل بشروط العدالة ، وإن كان في نفسه عدلاً مقبولاً في غير ذلك . ولا يقبل قول من يرى تعديل كلّ مسلم .
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : تعديل السّرّ يقبل فيه تعديل الوالد لولده وكلّ ذي رحم محرم لرحمه ، لأنّ تعديل السّرّ ليس بشهادة . وقال محمّد : هو شهادة فلا بدّ من شهادة اثنين .
12 - وقال الحنفيّة : يقبل تعديل المرأة لزوجها وغيره ، إذا كانت امرأةً برزةً تخالط النّاس وتعاملهم ، لأنّ لها خبرةً بأمورهم فيفيد السّؤال . قالوا : وتجوز تزكية السّرّ من الأعمى والصّبيّ والمحدود في قذف . وهذا خلافاً لمحمّد .
وقال المالكيّة : لا تقبل تزكية النّساء ، لا في حقّ الرّجال ولا في حقّ النّساء .
قال ابن رشد : إنّ التّزكية يشترط فيها التّبريز في العدالة ، وهي صفة تختصّ بالرّجال .
قال : وقد قيل : إنّهنّ يزكّين الرّجال إذا شهدوا فيما تجوز شهادتهنّ فيه ، وهو قول ابن نافع وابن الماجشون في المبسوطة . والقياس جواز تزكيتهنّ للنّساء .
تزكية المشهود عليه للشّاهد :
13 - قال الحنفيّة : إذا عدّل المدّعى عليه شهود المدّعي ، بأن قال : صدقوا في شهادتهم ، أو قال : هم عدول في شهادتهم ، يقضى عليه بالمال بإقراره لا بالشّهادة ، لأنّ ذلك إقرار منه بالمال . وإن قال : هم عدول ، ولم يزد عليه ، ذكر في الجامع الصّغير : أنّه لا يصحّ هذا التّعديل ، لأنّ من زعم المدّعي وشهوده أنّ المدّعى عليه في الجحود ظالم وكاذب ، فلا تصحّ تزكيته . وقال في كتاب التّزكية : ويجوز تعديل المشهود عليه إذا كان من أهله ، لأنّ تعديل المشهود عليه بمنزلة تعديل المزكّي ، وإقراره بكون الشّاهد عدلاً لا يكون إقراراً بوجوب الحقّ على نفسه لا محالة .
وعند المالكيّة : لو أقرّ الخصم المشهود عليه بالعدالة لمن شهد عليه يحكم القاضي بهذا الإقرار ، ولو علم خلاف ذلك ، لأنّ إقراره بعدالته كإقراره بالحقّ ، حتّى لو شهدت بيّنة بخلاف عدالة الشّاهد . أمّا الشّافعيّة والحنابلة : فإذا شهد عند القاضي مجهول الحال ، فقال المشهود عليه : هو عدل ، فعند الشّافعيّة : فيه قولان ، وهما وجهان عند الحنابلة .
أوّلاً - لا يكفي في الأصحّ في التّعديل قول المدّعى عليه : هو عدل ، وقد غلط في شهادته عليّ . وقيل : يكفي في حقّه ، لأنّه اعترف بما لو ثبت بالبيّنة يقضى عليه .
والقولان هما الوجهان عند الحنابلة .
الأوّل : أنّه يلزم الحاكم الحكم بشهادته ، لأنّ البحث عن عدالته لحقّ المشهود عليه ، وقد اعترف بها ، ولأنّه إذا أقرّ بعدالته فقد أقرّ بما يوجب الحكم لخصمه عليه ، فيؤخذ بإقراره كسائر أقاريره .
والوجه الثّاني : أنّه لا يجوز الحكم بشهادته ، لأنّ في الحكم بها تعديلاً له ، فلا يثبت بقول واحد ، ولأنّ اعتبار العدالة في الشّاهد حقّ للّه تعالى ، ولهذا لو رضي الخصم أن يحكم عليه بقول فاسق لم يجز الحكم به ، لأنّه لا يخلو إمّا أن يحكم عليه مع تعديله أو مع انتفائه : لا يجوز أن يقال مع تعديله ، لأنّ التّعديل لا يثبت بقول الواحد .
ولا يجوز مع انتفاء تعديله ، لأنّ الحكم بشهادة غير العدل غير جائز ، بدليل شهادة من ظهر فسقه . فإن قلنا بالأوّل فلا يثبت تعديله في حقّ غير المشهود عليه ، لأنّه لم توجد بيّنة التّعديل ، وإنّما يحكم عليه لإقراره بوجود شروط الحكم ، وإقراره يثبت في حقّه دون غيره كما لو أقرّ بحقّ عليه وعلى غيره ثبت في حقّه دون غيره .
تجديد التّزكية :
14 - قال الإمام أحمد : ينبغي للقاضي أن يسأل عن شهوده كلّ قليل ، لأنّ الرّجل ينتقل من حال إلى حال . قال ابن قدامة : هل هذا مستحبّ أو واجب ؟ فيه وجهان :
أحدهما : أنّه مستحبّ ، لأنّ الأصل بقاء ما كان ، فلا يزول حتّى يثبت الجرح .
والثّاني : يجب البحث كلّما مضت مدّة يتغيّر الحال فيها ، لأنّ العيب يحدث ، وذلك على ما يراه الحاكم . ولأصحاب الشّافعيّ فيه وجهان مثل هذين .
ويرى الحنفيّة : أنّه متى ثبتت العدالة عند القاضي ، ثمّ شهد الشّهود في حادثة أخرى ، فلا يشتغل بتعديلهم إن كان العهد قريباً ، وإلاّ سأل عنهم . وفي الحدّ الفاصل بينهما قولان ، أحدهما : أنّ القريب مقدّر بستّه أشهر .
والثّاني : أنّه مفوّض إلى رأي القاضي .
وعند المالكيّة : أنّه لو شهد المزكّي ثانياً قبل عام من تاريخ شهادته السّابقة ، وجهل حاله ، ولم يكثر معدّلوه ، ووجد من يعدّله عند شهادته ثانياً ، فقد اختلفوا فيه على قولين :
الأوّل : ما قاله أشهب عن مالك أنّه لا يحتاج إلى تزكية .
والقول الثّاني لسحنون : أنّه يحتاج إلى تزكية . فإن فقد قيد من الثّلاثة الأخيرة : بأن لم يجهل حاله ، أو كثر معدّلوه ، أو لم يوجد من يعدّله ثانياً لم يحتج إلى تزكية أخرى اكتفاءً بالتّزكية السّابقة اتّفاقاً بين المالكيّة . أمّا لو فقد القيد الأوّل ، كما لو شهد مجهول الحال بعد تمام سنة ، ولم يكن زكّاه قبله كثيرون احتاج لإعادة التّزكية اتّفاقاً .
بيان سبب الجرح والتّعديل :
15 - قال أبو حنيفة والمالكيّة : يقبل الجرح المطلق ، وهو : أن يشهد أنّه فاسق ، أو أنّه ليس بعدل . وعن أحمد مثله ، لأنّ التّعديل يسمع مطلقاً فكذلك الجرح ، لأنّ التّصريح بالسّبب يجعل المجرّح فاسقاً ، ويوجب عليه الحدّ في بعض الحالات . وهو أن يشهد عليه بالزّنى ، فيفضي الجرح إلى جرح الجارح ، وتبطل شهادته ، ولا يتجرّح بها المجروح .
وقال الشّافعيّة : يجب ذكر سبب الجرح للاختلاف فيه ، بخلاف سبب التّعديل .
واستدلّ من قالوا باشتراط بيان سبب الجرح بأنّ النّاس يختلفون في أسباب الجرح ، كاختلافهم في شارب النّبيذ ، فوجب ألاّ يقبل مجرّد الجرح ، لئلاّ يجرّحه بما لا يراه القاضي جرحاً ، ولأنّ الجرح ينقل عن الأصل ، فإنّ الأصل في المسلمين العدالة والجرح ينقل عنها ، فلا بدّ أن يعرف النّاقل ، لئلاّ يعتقد نقله عن أصل العدالة بما لا يراه الحاكم ناقلاً .
الفرق بين شهود الدّعوى وشهود التّزكية :
16 - يختلف شهود التّزكية عن شهود الدّعوى في أمور ، ويتّفقان في أمور :
فيتّفقان في الجملة في اشتراط العقل الكامل والضّبط والولاية والعدالة والبصر والنّطق ، وألاّ يكون الشّاهد محدوداً في قذف ، وعدم القرابة المانعة من قبول الشّهادة ، وألاّ تجرّ الشّهادة على الشّاهد نفعاً . وهذه الشّرائط هي في الجملة ، إذ في كلّ مذهب تفصيل . وهذا في تزكية العلانية . أمّا في تزكية السّرّ ، فقد تقدّم الكلام عمّن تقبل شهادتهم فيها ، ومن ذلك يعلم الفرق بين شهود تزكية السّرّ والشّهادة أمام القاضي . ويختلفان في أنّ شاهد التّزكية في العلانية يشترط أن يكون : مبرزاً في العدالة فطناً حذراً لا يخدع ولا يستغفل .
قال محمّد بن الحسن في النّوادر : كم من رجل أقبل شهادته ولا أقبل تعديله ، لأنّه يحسن أن يؤدّي ما سمع ولا يحسن التّعديل .
وفي كتاب ( المتيطيّة ) من كتب المالكيّة : شهود التّزكية بخلاف شهود الحقوق .
قال مالك : قد تجوز شهادة الرّجل ولا يجوز تعديله ، ولا يجوز إلاّ تعديل العارف .
وقال سحنون : لا يجوز في التّعديل إلاّ العدل المبرز الفطن الّذي لا يخدع في عقله ولا يستزلّ في رأيه . وعلى هذا أكثر أصحاب مالك ، وبه جرى العمل .
وروي عنه أيضاً : شهود التّزكية كشهود سائر الحقوق .
17 - ومثل ما تقدّم ما قاله الشّافعيّة : أنّه يشترط في المزكّي ما يشترط في الشّاهد ويزيد عليه أمران : أحدهما : معرفة أسباب الجرح والتّعديل ، لأنّه يشهد بهما .
والأمر الثّاني : خبرة باطن من يعدّله أو يجرّحه ، بصحبة أو جوار أو معاملة ، ليتأتّى له بها التّعديل أو الجرح . ولا يخرج كلام الحنابلة عن ذلك . فقد قالوا : لا يقبل التّعديل إلاّ من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة ، ولأنّ عادة النّاس إظهار الصّالحات وإسرار المعاصي ، فإذا لم يكن ذا خبرة باطنة ربّما اغترّ بحسن ظاهره ، وهو في باطنه فاسق .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
تزكية الشّهود الذّمّيّين لمثلهم :
18 - إذا ترافع الذّمّيّون أمام قاض مسلم ، وطلبوا منه الفصل فيما شجر بينهم ، وأحضر المدّعي شهوده الذّمّيّين على المدّعى عليهم الذّمّيّين ، فقد قال الحنفيّة : التّزكية للذّمّيّ تكون بالأمانة في دينه ولسانه ويده ، وأنّه صاحب يقظة . فإن لم يعرفه المسلمون سألوا عنه عدول الذّمّيّين . ولم يعثر على حكم تزكية الذّمّيّين في المذاهب الأخرى .
رجوع المزكّي عن التّزكية :
19 - يرى أبو حنيفة أنّه لو رجع المزكّون عن تزكيتهم للشّهود ، بأن قالوا مثلاً : إنّ الشّهود عبيد أو مجوس ، وقد زكّيناهم ونحن نعلم ذلك ، فالدّية على المزكّين عند أبي حنيفة ، ولا يقتصّ منهم لو رجم المشهود عليه بالزّنا وهو محصن .
وقال الصّاحبان : بل يقتصّ منهم وأمّا إذا قالوا : أخطأنا في التّزكية فلا شيء عليهم .
وقيل : الخلاف بين الإمام وصاحبيه فيما إذا أخبر المزكّون أنّ الشّهود أحرار ، فإذا هم عبيد أمّا إذا قالوا : هم عدول ، فبانوا عبيداً لا يضمنون إجماعاً ، لأنّ العبد قد يكون عدلاً . ومذهب المالكيّة : أنّه لو رجع المزكّي لشهود الزّنا أو قتل العمد عن تزكيتهم ، بعد رجم المشهود عليه ، أو قتله قصاصاً ، فلا يغرم المزكّي شيئاً من الدّية ، سواء رجع الشّهود الأصول أم لا . وقال الشّافعيّة في الوجه الأصحّ عندهم : إنّه يتعلّق بالمزكّي الرّاجع القصاص والضّمان ، لأنّه ألجأ القاضي إلى الحكم المفضي إلى القتل . وفي وجه آخر : لا ، لأنّه لم يتعرّض للمشهود عليه ، وإنّما أثنى على الشّاهد ، والحكم يقع بالشّاهد ، فكان كالممسك مع القاتل . وفي وجه ثالث : يتعلّق به الضّمان دون القصاص .
قال القفّال : الخلاف فيما إذا قال المزكّيان : علمنا كذب الشّاهدين . فإن قالا : علمنا فسقهما فلا شيء عليهما ، لأنّهما قد يكونان صادقين مع الفسق ، وطرد الإمام الخلاف في الحالين .
وعند الحنابلة أنّ المزكّيين إذا رجعا عن التّزكية ضمنا ، لأنّهما تسبّبا في الحكم غير الحقّ ، فيضمنان كرجوع شهود الإحصان .
تزكية الشّهود بعضهم لبعض :
20 - يكفي عند الحنفيّة تزكية أحد الشّاهدين صاحبه في الأصحّ ، لأنّ العدل لا يتّهم بمثله . وغاية ما فيه أنّ فيه منفعةً من حيث القضاء بشهادته ، ولكنّ العدل لا يتّهم بمثله كما لا يتّهم في شهادة نفسه . وفي الفتح أنّ بعضهم قال : لا يجوز ، لأنّه متّهم ، حيث كان بتعديله رفيقه يثبت القضاء بشهادته .
ولكنّ الصّحيح ما ذكر ، لأنّ شهادته تتضمّن مثل هذه المنفعة وهي القضاء بها ، فكما أنّه لم يعتبر الشّرع مع عدالته ذلك مانعاً ، كذلك تعديله لمن شهد معه .
وعند المالكيّة : أنّ الشّاهد لا يزكّي من شهد معه ، ولا تقبل معه شهادته في ذلك الحقّ . وأجاز سحنون إذا شهدت طائفة بعد ذلك أن تزكّي كلّ طائفة صاحبتها ، وهو عنده بمنزلة ما لو شهدتا في حقّين مختلفين . وروي عنه أنّ ذلك لا يجوز ولو شهدتا في حقّين مختلفين . وعند الشّافعيّة : أنّه لا يجوز أن يزكّي أحد الشّاهدين الآخر ، وفيه وجه ضعيف أنّه يجوز .
التّزكية تكون على عين المزكّي :
21 - التّزكية الّتي تشترط وتقبل تكون على عين المزكّي ، وذلك في تزكية العلانية . وصفتها : أن يحضر القاضي المزكّي - بعدما زكّى الشّهود في السّرّ - ليزكّيهم علانيةً بين يديه ، ويشير إليهم فيقول : هؤلاء عدول عندي ، إزالةً للالتباس ، واحترازاً عن التّبديل والتّزوير . قال ابن فرحون : لا يزكّى الشّاهد إذا لم يعرفه القاضي إلاّ على عينه ، وليس على القاضي أن يسأل المزكّي عن تفسير العدالة إذا كان المزكّي عالماً بوجوهها ، ولا عن الجرحة إذا كان عالماً بها .
ولم يصرّح الحنابلة بتكرار سؤال المزكّي أمام الشّهود وإشارته إلى عين من يزكّيهم .
الإعذار إلى المدّعى عليه في تزكية المزكّين :
22 - هل على القاضي أن يعذر إلى المدّعى عليه فيمن زكّى من شهد عليه من تلقاء نفسه ؟ أو يطلب من المدّعى عليه أو لا يعذر أصلاً .
الّذي يفيده كلام الحنفيّة : أنّه لا يعذر إلى المدّعى عليه فيمن زكّى شهود المدّعي . إذ قالوا : اليوم وقع الاكتفاء بتزكية السّرّ ، لما في تزكية العلانية من بلاء وفتنة .
وقال المالكيّة : ممّا لا يعذر فيه مزكّي السّرّ ، وهو من يخبر القاضي في السّرّ بحال الشّهود من عدالة أو جرح . ولو سأل الطّالب المقيم للبيّنة عمّن جرّحها لا يلتفت إلى سؤاله .
وكذلك لو سأل المطلوب عمّن زكّى بيّنة الطّالب ، فإنّه لا يلتفت إليه ، لأنّه لا يقيم لذلك إلاّ من يثق به ، فهو قائم مقام القاضي فلا يعذر في نفسه .
وكذلك الشّاهد المبرز في العدالة الفائق أقرانه فيها لا يعذر فيه لغير العداوة ، ويعذر فيه فيها ، ومثلها القرابة . وكذلك المحكوم عليه إذا كان يخشى منه على من شهد عليه ، فإنّه لا يعذر إليه فيمن شهد عليه ، ومعناه أنّ الشّاهد على من يخشى منه لا يسمّى له .
ومؤدّى ذلك أنّ غير المذكورين يعذر فيهم إلى المشهود عليه .
وقال الشّافعيّة : بعد السّؤال والبحث ومشافهة المزكّي بما عنده ، فإن كان جرحاً ستره ، وقال للمدّعي : زدني في شهودك ، أو تعديلاً عمل بمقتضاه .
وظاهر ذلك أنّه يعمل بمقتضى الجرح والتّعديل ، من غير أن يقول للمدّعي الّذي أحضر الشّهود : إنّ شهودك قد جرّحهم فلان وفلان ، ولا يقول للمدّعى عليه : إنّ من شهدوا عليك قد عدّلهم فلان وفلان . هذا ولم نطّلع على حكم ذلك عند الحنابلة .
تزكية رواة الأحاديث :
23 - الأحكام الّتي تقدّمت هي في شهود الدّعاوى . أمّا بالنّسبة لرواة الأحاديث فقد أجمع جماهير أئمّة الحديث والفقه على أنّه يشترط فيمن يحتجّ بروايته : أن يكون عدلاً ضابطاً لما يرويه ، بأن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً ، سالماً من أسباب الفسق وما يخلّ بالمروءة متيقّظاً غير مغفّل ، حافظاً إن حدّث من حفظه ، ضابطاً لكتابه إن حدّث من كتابه . وإن كان يحدّث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك : أن يكون عالماً بما يحيل المعاني .
وعدالة الرّاوي تارةً تثبت بتنصيص معدّلين على عدالته ، وتارةً تثبت بالاستفاضة ، فيمن اشتهرت عدالته من أهل النّقل أو نحوهم من أهل العلم ، ومن شاع الثّناء عليه بالثّقة والأمانة استغني فيه بذلك عن بيّنة شاهدة بعدالته تنصيصاً ، وهذا هو الصّحيح في مذهب الشّافعيّ ، وعليه الاعتماد في فنّ أصول الفقه .
وذلك مثل الإمام مالك وأبي بكر الخطيب الحافظ .
والتّعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصّحيح المشهور ، لأنّ أسبابه كثيرة يصعب حصرها ، بخلاف الجرح ، فإنّه لا يقبل إلاّ مفسّراً مبيّن السّبب ، لأنّ النّاس يختلفون فيما يجرّح ولا يجرّح .
وهناك تفصيلات وأحكام أخرى يرجع إليها في الملحق الأصوليّ ،وفي علم مصطلح الحديث .
تزكية الإنسان نفسه :
24 - نهى اللّه عزّ وجلّ عن تزكية الإنسان نفسه بقوله تعالى : { فلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُم هوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } وقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إلى الّذينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُم بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } . وليس من التّزكية المذمومة بيان الإنسان لبعض صفاته على سبيل التّعريف ، حيث يحتاج إلى ذلك في توليته ، كما حصل لنبيّ اللّه يوسف عليه السلام حيث قال : { اجْعَلْنِي على خَزَائنِ الأرضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } . والتّفصيل في مصطلح : ( مدح ) .

تزويج *
التّعريف :
1 - التّزويج لغةً : مصدر زوّج . يقال : تزوّجت امرأةً ، وزوَّجه امرأةً أي : قرنه بها .
وفي التّنزيل : { وَزَوَّجْنَاهم بِحُورٍ عِينٍ } أي قرنّاهم بهنّ ، وكلّ شيئين اقترن أحدهما بالآخر فهما زوجان ، والاسم من التّزويج : الزّواج .
وهو في الاصطلاح كما عرّفه الحنفيّة : عقد يفيد ملك استمتاع الرّجل بالمرأة ، وحلّ استمتاع المرأة بالرّجل على وجه مشروع .
الحكم التّكليفيّ :
2 - التّزويج ليس له حكم واحد ينطبق عليه في جميع الحالات بل يختلف حكمه باختلاف النّاس من ناحية قدرتهم على مطالب الزّواج واستعدادهم للقيام بالحقوق الزّوجيّة .
فيكون فرضاً أو واجباً أو حراماً أو مكروهاً أو مندوباً أو مباحاً .
فيكون فرضاً أو واجباً : إذا كان الشّخص في حالة يتيقّن فيها الوقوع في الزّنى إن لم يتزوّج ، وكان قادراً على النّفقة والمهر وحقوق الزّواج الشّرعيّة ، ولا يستطيع الاحتراز عن الوقوع في الزّنى ونحوه .
ويكون حراماً : إذا كان المرء في حالة يتيقّن فيها عدم القيام بأمور الزّوجيّة والإضرار بالمرأة إذا هو تزوّج .
ويكون مكروهاً : إذا خاف الشّخص الوقوع في الجور والضّرر إن تزوّج ، لعجزه عن الإنفاق أو عدم القيام بالواجبات الزّوجيّة .
ويكون مندوباً : في حالة الاعتدال ، وهي أن يكون الشّخص معتدل الطّبيعة ، بحيث لا يخشى الوقوع في الزّنى إن لم يتزوّج ، ولا يخشى أن يظلم زوجته إن تزوّج ، وهذا عند جمهور الفقهاء . وقال الشّافعيّة : إنّ الزّواج في هذه الحالة مباح ، يجوز فعله وتركه .
مَنْ له ولاية التّزويج :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّ الرّجل الحرّ البالغ العاقل الرّشيد له أن يزوّج نفسه ، وأن يباشر عقد النّكاح دون إذن من أحد ، لما له من حرّيّة التّصرّف في خالص حقّه . كما أنّ له أن يوكّل غيره في تزويجه ، وأن يزوّج غيره بالولاية أو الوكالة .
أمّا الصّغير والمجنون فلا ولاية لهما على أنفسهما ، وإنّما يزوّجهما الوليّ أباً أو جدّاً ، أو الوصيّ عليهما . ولا يجوز للصّغير والمجنون مباشرة عقد النّكاح ، لعدم أهليّتهما .
والسّفيه لا يصحّ له الزّواج بدون إذن القيّم عليه عند المالكيّة والشّافعيّة ، خلافاً للحنفيّة والحنابلة فيجوز له أن يتزوّج بلا إذن وليّه ، وأن يباشر العقد عند الحنفيّة ، لأنّه عقد غير ماليّ فصحّ منه ، وإن لزم منه المال ، فحصوله بطريق الضّمن ، فلا يمنع الحجر عليه من العقد . وقال ابن قدامة في تزويج القيّم للسّفيه : إن تزوّج صحّ النّكاح بإذن وليّه وبغير إذنه وقال أبو الخطّاب : لا يصحّ بغير إذن وليّه .
والولاية على الصّغير والمجنون ولاية إجبار ، فيجوز للوليّ تزويجهما ، بدون إذنهما ، إذا كان في ذلك مصلحة . وهذا بلا خلاف .
لكن الاختلاف فيمن له ولاية الإجبار ، هل الأب فقط أو الأب والجدّ ، أو الأب والجدّ والوصيّ أو غيرهما . وينظر تفصيل ذلك في ( ولاية ) .
تزويج المرأة نفسها :
4 - المرأة البالغة العاقلة الحرّة الرّشيدة لا يجوز لها تزويج نفسها ، بمعنى أنّها لا تباشر العقد بنفسها ، وإنّما يباشره الوليّ عند جمهور الفقهاء ، لحديث « لا نِكاح إلاّ بوليّ » وروي عن عائشة رضي الله عنها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فإن دخل بها فلها المهر بما استحلّ من فرجها ، فإن تشاجروا فالسّلطان وليّ من لا وليّ له » ولقوله صلى الله عليه وسلم « لا تنكح المرأة المرأة ، ولا تنكح المرأة نفسها » .
ولا يجوز لها أن تزوّج غيرها ، سواء أكانت المرأة بكراً أم ثيّباً . وقالوا : البكر يجبرها الوليّ على النّكاح ، لكن يستحبّ إذنها . أمّا الثّيّب إن كانت صغيرةً فلا يجوز تزويجها حتّى تبلغ ، وتستأذن . وذلك عند الشّافعيّة .
وفي وجه عند الحنابلة ، وهو ظاهر قول الخرقيّ ، واختاره ابن حامد وابن بطّة والقاضي . وعند المالكيّة ، وهو الوجه الثّاني عند الحنابلة : أنّ لأبيها تزويجها ، ولا يجب أن يستأمرها ، وهو أيضاً قول للحنفيّة . والعلّة عندهم هي الصّغر ، ولذلك له ولاية إجبارها .
أمّا الثّيّب الكبيرة - فإنّها وإن كانت لا تلي عقد نكاحها بنفسها عند الجمهور - إلاّ أنّه لا يجوز تزويجها بدون إذنها ورضاها لما « روت الخنساء بنت خذام الأنصاريّة أنّ أباها زوّجها وهي ثيّب ، فكرهت ذلك ، فأتت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فردّ نكاحه » . ولحديث « الثّيّب أحقّ بنفسها من وليّها » .
أمّا الحنفيّة : فإنّه لا يجوز عندهم إجبار البالغة على النّكاح بكراً كانت أم ثيّباً ، ولها أن تعقد النّكاح بنفسها . ففي الهداية : ينعقد نكاح الحرّة العاقلة البالغة برضاها ، وإن لم يعقد عليها وليّ ، بكراً كانت أو ثيّباً عند أبي حنيفة وأبي يوسف في ظاهر الرّواية .
وعن أبي يوسف أنّه لا ينعقد إلاّ بوليّ . وعند محمّد ينعقد موقوفاً .
ووجه الجواز : أنّها تصرّفت في خالص حقّها وهي من أهله ، لكونها عاقلةً بالغةً مميّزةً ، وإنّما يطالب الوليّ بالتّزويج كي لا تنسب إلى الوقاحة . والثّيّب من باب أولى إذا كانت كبيرةً ، فإنّها تعقد على نفسها . أمّا الصّغيرة سواء أكانت بكراً أم ثيّباً فلوليّها إجبارها على النّكاح ، لأنّ ولاية الإجبار تدور مع الصّغر وجوداً وعدماً . وأمّا المجنونة فللوليّ إجبارها على النّكاح مطلقاً ، وهذا باتّفاق . وفي كلّ ما مرّ تفصيل ينظر في ( نكاح - ولاية ) .

تزوير *
التّعريف :
1 - التّزوير في اللّغة : مصدر زوّر ، وهو من الزّور ، والزّور : الكذب ، قال تعالى : { والّذين لا يَشْهَدُونَ الزّورَ } وزوّر كلامه : أي زخرفه ، وهو أيضاً : تزيين الكذب .
وزوّرت الكلام في نفسي : هيّأته ، ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه : ما زوّرت كلاماً لأقوله إلاّ سبقني إليه أبو بكر . أي : هيّأته وأتقنته . وله في اللّغة معان أخرى .
وفي الاصطلاح : تحسين الشّيء ووصفه بخلاف صفته ، حتّى يخيّل إلى من سمعه أو رآه أنّه بخلاف ما هو عليه في الحقيقة . فهو تمويه الباطل بما يوهم أنّه حقّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الكذب :
2 - الكذب هو : الإِخبار بما ليس مطابقاً للواقع . وبينه وبين التّزوير عموم وخصوص وجهيّ ، فالتّزوير يكون في القول والفعل ، والكذب لا يكون إلاّ في القول .
والكذب قد يكون مزيّناً أو غير مزيّن ، والتّزوير لا يكون إلاّ في الكذب المموّه .
ب - الخلابة :
3 - الخلابة هي : المخادعة ، وتكون بستر العيب ، وتكون بالكذب وغيره .
ت - التّلبيس :
4 - التّلبيس من اللَبْس ، وهو اختلاط الأمر ، وهو ستر الحقيقة وإظهارها بخلاف ما هي عليها .
ث - التّغرير :
5 - التّغرير هو : الخديعة والإيقاع في الباطل وفيما انطوت عاقبته .
ج – الغشّ :
6 - الغشّ مصدر غشّه إذا لم يمحّضه النّصح ، بل خدعه .
والغشّ يكون بالقول والفعل ، فالتّزوير والغشّ لفظان متقاربان .
ح - التّدليس :
7 - التّدليس : كتمان العيب ، وهو في البيع كتمان عيب السّلعة عن المشتري .
والتّدليس أخصّ من التّزوير ، لأنّه خاصّ بكتمان العيب في السّلعة المبيعة ، أمّا التّزوير فهو أعمّ ، لأنّه يكون بالقول والفعل وفي السّلعة المبيعة وغيرها .
خ - التّحريف :
8 - التّحريف : تغيير الكلام عن مواضعه والعدول به عن حقيقته .
د - التّصحيف :
9 - والتّصحيف : هو تغيير اللّفظ حتّى يتغيّر المعنى المراد .
وقد تقدّمت الألفاظ ذات الصّلة وما يتعلّق بها من أحكام في مصطلح ( تدليس ) ( وتحريف ).
الحكم التّكليفيّ :
10 - الأصل في التّزوير أنّه محرّم شرعاً في الشّهادة لإبطال حقّ أو إثبات باطل .
والدّليل على حرمته قوله تعالى : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِن الأوثَانِ واجْتَنِبُوا قَولَ الزّورِ } ومن السّنّة قوله صلى الله عليه وسلم : « ألا أُنبِّئكم بأكبر الكبائر ؟ قالوا : بلى يا رسول اللّه . قال الإشراك باللّه وعقوق الوالدين ، وجلس وكان متّكئاً ، ثمّ قال : ألا وقول الزّور . فما يزال يكرّرها حتّى قلنا : ليته سكت » .
11 - وقد استثني من حرمة التّزوير أمور : منها الكذب في الحرب ، وتطييب خاطر زوجته ليرضيها ، والإصلاح بين النّاس .
واستدلّوا بحديث : أسماء بنت يزيد مرفوعاً : « لا يحلّ الكذب إلاّ في ثلاث : يحدّث الرّجل امرأته ليرضيها ، والكذب في الحرب ، والكذب ليصلح بين النّاس » ومنه : الكذب لدفع ظالم على مال له أو لغيره أو عرض ، وفي ستر معصية منه أو من غيره . وقد نقل عن النّوويّ : الظّاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثّلاثة ، ولكنّ التّعريض أولى .
وقال ابن العربيّ : الكذب في الحرب هو من المستثنى الجائز بالنّصّ .
قال صلى الله عليه وسلم : « الحرب خدعة » ، وفيه : الأمر باستعمال الحيلة في الحرب مهما أمكن ذلك . وفيه : التّحريض على أخذ الحذر في الحرب ، والنّدب إلى خداع الكفّار . وقال النّوويّ : اتّفقوا على جواز خداع الكفّار في الحرب كيفما أمكن ، إلاّ أن يكون فيه نقض عهد أو أمان ، فلا يجوز . وأصل الخدع إظهار أمر وإضمار خلافه .
وجاء في حديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : مَنْ لكعب بن الأشرف ؟ فإنّه قد آذى اللّه ورسوله ؟ قال محمّد بن مسلمة : أتحبّ أن أقتله يا رسول اللّه ؟ قال : نعم . قال : فأتاه ، فقال : هذا - يعني النّبيّ صلى الله عليه وسلم - قد عنّانا وسألنا الصّدقة . قال : وأيضاً واللّه لتمُلُنَّه قال : فإنّا اتّبعناه فنكره أن ندعه حتّى ننظر إلى ما يصير أمره . قال : فلمْ يزل يكلّمه حتّى استمكن منه فقتله » .
فقوله : عنّانا أي : كلّفنا بالأوامر والنّواهي ، وقوله : سألنا الصّدقة أي : طلبها منّا ليضعها مواضعها ، وقوله : نكره أن ندعه أي نكره فراقه .
فقوله له من قبيل التّعريض والتّمويه والتّزوير ، حتّى يأمنه فيتمكّن من قتله .
وجاء في رواية : « ائذن لي أن أقول . قال : قل » فيدخل فيه الكذب تصريحاً وتلويحاً .
وفي سيرة ابن هشام : « أتى نُعَيمُ بن مسعود رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه ، إنّي قد أسلمت ، وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني بما شئت ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّما أنت فينا رجل واحد ، فخذّل عنّا إن استطعت ، فإنّ الحرب خدعةٌ . فخرج نعيم بن مسعود حتّى أتى بني قريظة ، فقال لهم : لا تقاتلوا مع القوم - الأحزاب - حتّى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم ، يكونون بأيديكم ثقةً لكم على أن تقاتلوا معهم محمّداً ، حتّى تناجزوه ، فقالوا له : لقد أشرت بالرّأي . ثمّ خرج حتّى أتى قريشاً فقال لهم : قد عرفتم ودّي لكم وفراقي محمّداً ، وأنّه قد بلغني أمر قد رأيت عليّ حقّاً أن أُبلِغكموه ، نصحاً لكم . تعلموا أنّ معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمّد ، وقد أرسلوا إليه : إنّا قد ندمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين ، من قريش وغطفان ، رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم ، فتضرب أعناقهم ، ثمّ نكون معك على من بقي منهم حتّى نستأصلهم ؟ فأرسل إليهم : أن نعم . فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رُهُناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً . ثمّ خرج حتّى أتى غطفان ، فقال لهم مثل ما قال لقريش ، وحذّرهم ما حذّرهم وأرسل أبو سفيان بن حرب ورءوس غطفان إلى بني قريظة : فاغدوا للقتال حتّى نناجز محمّداً ونفرغ ممّا بيننا وبينه ، فأرسلوا إليهم : ولسنا بالّذين نقاتل معكم محمّداً حتّى تعطونا رُهُناً من رجالكم ، يكونون بأيدينا ثقةً لنا ، حتّى نناجز محمّداً ، فإنّا نخشى إن ضرّستكم الحرب واشتدّ عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا ، والرّجل في بلدنا ، ولا طاقة لنا بذلك منه . فلمّا رجعت إليهم الرّسل بما قالت بنو قريظة ، قالت قريش وغطفان : واللّه إنّ الّذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ . فأرسلوا إلى بني قريظة : إنّا واللّه لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا ، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا . فقالت بنو قريظة ، حين انتهت الرّسل إليهم بهذا : إنّ الّذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ ما يريد القوم إلاّ أن يقاتلوا ، فإن رأوا فرصةً انتهزوها وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم ، وخلّوا بينكم وبين الرّجل في بلدكم ، فأرسلوا إلى قريش وغطفان : إنّا واللّه لا نقاتل معكم محمّداً حتّى تعطونا رُهُناً . فأبوا عليهم ، وخذل اللّه بينهم ، وبعث اللّه عليهم الرّيح في ليال شاتية باردة شديدة البرد ، فجعلت تكفأ قدورهم ، وتطرح أبنيتهم » .
القضاء بشهادة الزّور :
12 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد وزفر ، وهو المفتى به عند الحنفيّة ، إلى أنّ قضاء الحاكم بشهادة الزّور ينفذ ظاهراً لا باطناً ، ولا يزيل الشّيء عن صفته الشّرعيّة سواء العقود من النّكاح وغيره والفسوخ ، ويستوي في ذلك الأملاك المرسلة ( أي الّتي لم يبيّن سبب ملكها من إرث أو شراء ) وغير المرسلة .
واستدلّوا : بخبر : « إنّما أنا بشر ، وإنّكم تختصمون إليّ ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حقّ أخيه شيئاً فلا يأخذ منه شيئاً ، فإنّما أقطع له قطعةً من النّار » .
وذهب أبو حنيفة إلى أنّ القضاء بشهادة الزّور ينفذ ظاهراً وباطناً في الفسوخ والعقود ، حيث كان المحلّ قابلاً ، والقاضي غير عالم ." لقول عليّ رضي الله عنه لامرأة أقام عليها رجل بيّنةً على أنّه تزوّجها ، فأنكرت ، فقضى له عليّ . فقالت له : لم يتزوّجني ، فأمّا وقد قضيت عليّ فجدّد نكاحي ، فقال : لا أجدّد نكاحك ، الشّاهدان زوّجاك ". ومحلّ تفصيل هذا في مصطلح : ( قضاء ) ( وشهادة ) .
التّزوير في الأيمان :
13 - الأصل أنّ التّزوير في اليمين حرام ، وهي اليمين الغموس : وهي الّتي يكذب فيها الحالف عامداً عالماً عند الجمهور . وعند المالكيّة الّتي يكذب فيها الحالف عمداً ، أو يشكّ في المحلوف عليه ، أو يظنّ منه ظنّاً غير قويّ .
وقد يكون تزوير اليمين جائزاً أو واجباً - على الخلاف بين الفقهاء - فيما إذا تعيّن تزوير اليمين عند الإكراه عليها أو الاضطرار إليها ، لدفع الأذى عن نفسه أو عن مظلوم .
وقد تقدّم تفصيل أحكام اليمين الغموس في مصطلح : ( أيمان ) .
تضمين شهود الزّور :
14 - يضمن شهود الزّور ما ترتّب على شهادتهم من ضمان ، فإن كان المحكوم به مالاً ردّ إلى صاحبه ، وإن كان إتلافاً فعلى الشّهود ضمانه ، لأنّهم سبب إتلافه .
وذهب الشّافعيّة ، والحنابلة إلى وجوب القصاص على شهود الزّور ، إذا شهدوا على رجل بما يوجب قتله ، كأن شهدوا عليه بقتل عمد عدوان ، أو بردّة ، أو بزنًى وهو محصن ، فقتل بشهادتهما ، ثمّ رجعا ، وأقرّا بتعمّد قتله بتلك الشّهادة ، لعلمهما أنّه يقتل بشهادتهما .
فيجب القصاص عليهما لتعمّد القتل بتزوير الشّهادة ، لأنّ شهادتهما سبب القتل ، ولا يجب القصاص بنفس التّزوير والكذب .
وتجب عليهما الدّية المغلّظة إذا آل الأمر إليها بدل القصاص .
وكذلك الحكم إذا شهدا زوراً بما يوجب القطع قصاصاً فقطع ، أو في سرقة لزمهما القطع ، وإذا سرى أثر القطع إلى النّفس فعليهما القصاص في النّفس .
كما يجب القصاص على القاضي إذا قضى زوراً بالقصاص ، وكان يعلم بكذب الشّهود .
وذهب المالكيّة والحنفيّة : إلى أنّ الواجب هو الدّية لا القصاص .
لأنّ القتل بشهادة الزّور قتل بالسّبب ، والقتل تسبّباً لا يساوي القتل مباشرةً ، ولذا قصر أثره فوجبت به الدّية لا القصاص . ومحلّ وجوب القصاص أو الدّية إذا تبيّن كذب الشّهود ، أو رجعوا عن شهادتهم بعد استيفاء القصاص .
أمّا إذا رجعوا قبله وبعد الحكم فينقض الحكم ، ولا غرم على الشّهود ، بل يعزّرون .
ويجب حدّ القذف على شهود الزّور إذا شهدوا بالزّنى ، ويقام عليهم الحدّ سواء تبيّن كذبهم قبل الاستيفاء أو بعده ، إلاّ أنّه يجب عليهم القصاص مع حدّ القذف إذا شهدوا بالزّنى على محصن ، فرجم بسبب شهادتهم . وللتّفصيل في أحكام القصاص والقذف ينظر مصطلح ( جناية ، حدود ، قصاص ) وكذلك ( شهادة ) ( وقضاء ) .
التّزوير بالأفعال :
15 - يقع التّزوير في البيوع بإخفاء عيوب السّلعة وتزيينها وتحسينها ، لإظهارها بشكل مقبول ترغيباً فيها ، كتصرية الحيوان ليظنّ المشتري كثرة اللّبن ، أو صبغ المبيع بلون مرغوب فيه ، وكالكذب في سعر السّلعة في بيوع الأمانات وهي : المرابحة والتّولية والحطيطة . ويقع التّزوير كذلك بمحاكاة خطّ القاضي أو تزوير توقيعه أو شهادة الشّهود في سجلّات القضاء بما يسلب الحقوق من أصحابها .
كما يقع التّزوير في النّكاح بأن يكتم أحد الزّوجين عيباً فيه عن الآخر . وقد يقع التّزوير بتسويد الشّعر بقصد التّغرير والكذب . وهذه الأنواع من التّزوير هي من التّزوير المحرّم ، وهي داخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم : « من غشّنا فليس منّا » .
وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( تدليس ، تسويد ، بيع ، نكاح ، شهادة ، قضاء وعيب ) .
التّزوير في النّقود والموازين والمكاييل :
16 - التّزوير فيها يكون بالنّقص من مقاديرها ، بغشّها أو تغيير أوزانها أو أحجامها ، كأن تخلط دنانير الذّهب أو دراهم الفضّة بمعادن أخرى كالنّحاس والرّصاص ، رغبةً في نقص مقدار الذّهب أو الفضّة الخالصين ، أو بالنّقص من حجم الدّينار أو الدّرهم .
أو أن ينقص من وزن الصّنج الّتي يستعملها في الموازين ، أو حجم المكيال ، رغبةً في زيادة الرّبح وتقليل المبيع الموزون أو المكيل .
والتّزوير في النّقود والموازين والمكاييل محرّم داخل في قوله تعالى : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إذا اكْتَالُوا على النّاسِ يَسْتَوفُونَ وَإذَا كَالُوهُمْ أو وزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } .
وداخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم : « من غشّنا فليس منّا » كما أنّ فيه إفساداً للنّقود ، وإضراراً بذوي الحقوق ، وإغلاء الأسعار ، والنّقص من الصّدقات ، وانقطاع ما يجلب إلى البلاد من حوائج النّاس . ولذلك كان من وظيفة المحتسب أن يتفقّد عيار المثاقيل والصّنج ، وعليه أن يعيّر أوزانها ويختمها بختمه ، حتّى يأمن تزويرها وتغيير مقاديرها . كما تدخل في وظيفته مراقبة مقادير دنانير الذّهب ودراهم الفضّة وزناً وحجماً .
ولا يجوز للإمام ضرب الدّراهم المغشوشة ، وحرمته في حقّ غير الإمام أشدّ ، لأنّ الغشّ فيها يخفى على النّاس فيكون الغرر بها أكبر . بخلاف الإمام ، لأنّ ما يضربه من دنانير ودراهم يشهر ويعرف مقداره .
كما لا يجوز لغير الإمام ضرب الدّنانير والدّراهم الخالصة غير المغشوشة ، لأنّه لا يؤمن فيها الغشّ والفساد .
صور التّزوير في المستندات وطرق التّحرّز منها :
17 - جاء في تبصرة الحكّام : ومثله في معين الحكّام : ينبغي للموثّق أن يتأمّل الأسماء الّتي تنقلب بإصلاح يسير ، فيتحفّظ في تغييرها ، نحو مظفر فإنّه ينقلب إلى مظهر ، ونحو بكر فإنّه ينقلب إلى بكير ، ونحو عائشة فإنّه يصلح عاتكة . وقد يكون آخرَ السّطر بياضاً يمكن أن يزاد فيه شيء آخر . وكذلك ينبغي أن يحذر من أن يتمّم عليه زيادة حرف من الكتاب مثل أن يكتب في الوثيقة : أقرّ أنّ له عنده ألف درهم ، فإن لم يذكر عقب العدد بيان نصفه بأن يقول : ( الّذي نصفه خمسمائة مثلاً ) أمكن زيادة ألف فتصير ( ألفا درهم ) . وفي التّنبيه لابن المناصف : ولا ينبغي أن ينصب لكتابة الوثائق إلاّ العلماء العدول ، كما قال مالك رضي الله تعالى عنه : لا يكتب الكتب بين النّاس إلاّ عارف بها ، عدل في نفسه ، مأمون على ما يكتبه لقوله تعالى : { وَلْيَكْتُبْ بينَكُمْ كَاتِبٌ بِالعَدْلِ } وأمّا من لا يحسن وجوه الكتابة ، ولا يقف على فقه الوثيقة ، فلا ينبغي أن يمكّن من الانتصاب لذلك ، لئلاّ يفسد على النّاس كثيراً من معاملاتهم . وكذلك إن كان عالماً بوجوه الكتابة إلاّ أنّه متّهم في دينه ، فلا ينبغي تمكينه من ذلك وإن كان لا يضع اسمه بشهادة فيما يكتب ، لأنّ مثل هذا يعلّم النّاس وجوه الشّرّ والفساد ، ويلهمهم تحريف المسائل لتوجّه الإشهاد ، فكثيراً ما يأتي النّاس اليوم يستفتون في نوازل من المعاملات الرّبويّة والمشاركة الفاسدة والأنكحة المفسوخة ونحو ذلك ممّا لا يجوز ، فإذا صرفهم عن ذلك أهل الدّيانة أتوا إلى مثل هؤلاء ، فحرّفوا ألفاظها ، وتحيّلوا لها بالعبارة الّتي ظاهرها الجواز ، وهي مشتملة على صريح الفساد ، فضلّوا وأضلّوا . وتمالأ كثير من النّاس على التّهاون بحدود الإسلام ، والتّلاعب في طريق الحرام ، { وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } .
وجاء في " تبصرة الحكّام " أيضاً ، وفي " العالي الرّتبة في أحكام الحسبة " لأحمد بن موسى بن النّحويّ الدّمشقيّ الشّافعيّ فيما يتعلّق بالموثّق ممّا لا يخالف قواعد مذهب مالك رضي الله تعالى عنه ، قال : فإذا فرغ الكاتب من كتابته استوعبه ( أي كتابته ) وقرأه وتميّز ألفاظه ، وينبغي أن يميّز في خطّه بين السّبعة والتّسعة وإن كان فيه مائة درهم كتب بعدها ( واحدةً ) وينبغي أن يذكر نصفها ، فإن كانت ( أي الدّراهم ) ألفاً كتب واحداً وذكر نصفه رفعاً للّبس ، وإن كانت خمسة آلاف زاد فيها لا ما تصيّرها ( آلاف ) لئلاّ تصلّح الخمسة فتصير خمسين ألفاً ويحترز بذكر التّنصيف ممّا يمكن الزّيادة فيه كالخمسة عشر تصير خمسةً وعشرين ، والسّبعين تسعين ، فإن لم يذكر الكاتب النّصف من المبلغ فينبغي للشّهود أن يذكروا المبلغ في شهادتهم لئلاّ يدخل عليهم الشّكّ لو طرأ في الكتاب تغيير وتبديل ، وإن وقع في الكتاب إصلاح وإلحاق نبّه عليه وعلى محلّه في الكتاب ، وينبغي له أن يكمل أسطر المكتوب جميعها لئلاّ يلحق في آخر السّطر ما يفسد بعض أحكام المكتوب أو يفسده كلّه ، فلو كان آخر سطر مثلاً . ( وجعل النّظر في الوقف المذكور ) وفي أوّل السّطر الّذي يليه ( لزيد ) وكان في آخر السّطر فرجة أمكن أن يلحق فيها ( لنفسه ) ثمّ لزيد ، فيبطل الوقف وما أشبه ذلك ، فإن اتّفق أنّه بقي في آخر السّطر فرجة لا تسع الكلمة الّتي يريد كتابتها لطولها وكثرة حروفها ، فإنّه يسدّ تلك الفرجة بتكراره تلك الكلمة الّتي وقف عليها أو كتب فيها صحّ ، أو صادّاً ممدودةً ، أو دائرةً مفتوحةً ، ونحو ذلك ممّا يشغل به تلك الفرجة ، ولا يمكن إصلاحها بما يخالف المكتوب . وإن ترك فرجةً في السّطر الأخير كتب فيها حسبي اللّه أو الحمد للّه ، مستحضراً لذكر اللّه ناوياً له ، أو يأمر أوّل شاهد يضع خطّه في المكتوب أن يكتب في تلك الفرجة . وإن كتب في ورقة ذات أوصال كتب علامته على كلّ وصل ، وكتب عدد الأوصال في آخر المكتوب ، وبعضهم يكتب عدد أسطر المكتوب ، وإن كان للمكتوب نسخ ذكرها وذكر عدّتها ، وأنّها متّفقة ، وهذا نبّه عليه ابن سهل وابن الهنديّ وغيرهما .
ومثله في معين الحكّام أيضاً وقال : إنّ ذلك ممّا لا يخالف قواعد أبي حنيفة رضي الله عنه . وجاء في مجلّة الأحكام العدليّة ( المادّة 1814 ) ونصّها :
يضع القاضي في المحكمة دفتراً للسّجلّات ، ويقيّد ويحرّر في ذلك الدّفتر الإعلامات والسّندات الّتي يعطيها بصورة منتظمة سالمة عن الحيلة والفساد ، ويعتني بالدّقّة بحفظ ذلك الدّفتر ، وإذا عزل سلّم السّجلّات المذكورة إلى خلفه ، إمّا بنفسه أو بواسطة أمينه .
إثبات التّزوير :
18 - يثبت التّزوير بإقرار المزوّر على نفسه ، أو ظهور الكذب يقيناً ، كأن يشهد بقتل رجل وهو حيّ ، أو شهد على رجل أنّه فعل شيئاً في وقت ، وقد مات قبل ذلك الوقت ، أو لم يولد إلاّ بعده ، وأشباه ذلك .
19 - أمّا التّزوير في الوثائق ، فذهب اللّخميّ من المالكيّة ، وأبو اللّيث من الحنفيّة : إلى أنّه إذا ادّعى رجل على رجل بمال فجحده ، فأخرج المدّعي صحيفةً مكتوبةً بخطّ المدّعى عليه ، فأنكر المدّعى عليه ذلك ، وليس بينهما بيّنة ، فطلب المدّعي أن يجبر على أن يكتب بحضرة العدول ، ويقابل ما كتبه بما أظهره المدّعي ، فإنّه يجبر على الكتابة ، وعلى أن يطوّل فيما يكتب تطويلاً لا يمكن معه أن يستعمل خطّاً غير خطّه ، فإن ظهر بين الخطّين تشابه ظاهر دالّ على أنّهما خطّ كاتب واحد ، فإنّه حجّة يقضي بها .
وقال أبو اللّيث : وبه قال أئمّة بخارى . وقال عبد الحميد الصّائغ من المالكيّة : إنّه لا يجبر عليه ، كما لا يجبر على إحضار بيّنة تشهد عليه .
وفرّق اللّخميّ بين إلزامه بالكتابة وعدم إلزامه بإحضار الشّهادة عليه بأنّ المدّعى عليه يقطع بتكذيب البيّنة الّتي تشهد عليه ، فلا ينبغي أن يسعى في أمر يقطع ببطلانه ، أمّا خطّه فإنّه صادر منه بإقراره ، والعدول يقابلون بما يكتبه الآن بما أحضره المدّعي ، ويشهدون بموافقته أو مخالفته . كما نقل صاحب المحيط عن محمّد بن الحسن أنّه نصّ أنّ ذلك لا يكون حجّةً ، لأنّها لا تكون أعلى حالاً ممّا لو أقرّ فقال : هذا خطّي ، وأنا كتبته ، غير أنّه ليس له عليّ هذا المال ، كان القول قوله ولا شيء عليه .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
عقوبة التّزوير :
20 - عقوبة التّزوير : التّعزير بما يراه الحاكم . كأيّ جريمة ليس لها عقوبة مقدّرة ، إن علم أنّه تعمّد التّزوير ، فيعزّر بما يراه الحاكم من تشهير أو ضرب أو حبس ، أو كشف رأسه وإهانته ، إلى غير ذلك . وينظر تفصيل ذلك في : ( شهادة ، تعزير ، تشهير ) .

تزيين *
انظر : تزيّن .

تزيّن *
التّعريف :
1 - التّزيّن هو : اتّخاذ الزّينة ، وهي في اللّغة : اسم جامع لكلّ شيء يتزيّن به ، من باب إطلاق اسم المصدر وإرادة المفعول .
وفي قوله عزّ وجلّ : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاّ ما ظَهَرَ مِنْها } معناه لا يبدين الزّينة الباطنة كالقلادة والخلخال والدّملج والسّوار ، والّذي يظهر هو الثّياب وزينة الوجه .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّحسّن ، والتّحلّي :
2 - التّحسّن من الحسن ، نقيض القبح . ومعناه في اللّغة : التّزيّن . يقال : حسّن الشّيء تحسيناً زيّنه ، قال الرّاغب الأصفهانيّ : الحسن أكثر ما يقال في تعارف العامّة في المستحسن بالبصر ، وأكثر ما جاء في القرآن الكريم في المستحسن من جهة البصيرة .
3 - والتّحلية في اللّغة : لبس الحليّ ، يقال : تحلّت المرأة : لبست الحليّ أو اتّخذته ، وحلّيتها - بالتّشديد - ألبستها الحليّ أو اتّخذته لها لتلبسه .
4 - والتّزيّن والتّجمّل والتّحسّن تكاد تكون متقاربة المعاني ، وكلّها أعمّ من التّحلية لتناولها ما ليس حليةً ، كالاكتحال وتسريح الشّعر والاختضاب ونحوها .
وقد فرّق بعضهم بين التّحسّن والتّجمّل ، بأنّ التّحسّن من الحسن ، وهو في الأصل الصّورة ، ثمّ استعمل في الأخلاق والأفعال . والتّجمّل من الجمال ، وهو في الأصل للأفعال والأخلاق والأحوال الظّاهرة ، ثمّ استعمل في الصّور .
أمّا الفرق بين كلّ من التّحسّن والتّجمّل ، وبين التّزيّن ، فقيل : إنّ التّزيّن يكون بالزّيادة المنفصلة عن الأصل ، قال تعالى : { وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيا بِمَصَابِيحَ } .
وقال القرطبيّ : الزّينة المكتسبة ما تحاول المرأة أن تحسّن نفسها به ، كالثّياب والحليّ والكحل والخضاب ، ومنه قوله تعالى : { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } .
أمّا كلّ من التّحسّن والتّجمّل فيكون بزيادة متّصلة بالأصل أو نقصان فيه ، كما تفيده الآية الكريمة : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } .
الحكم التّكليفيّ :
5 - الأصل في التّزيّن : الاستحباب ، لقوله تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتي أَخْرَجَ لِعِبَادِه وَالطَّيِّبَاتِ مِن الرِّزقِ } وقوله صلى الله عليه وسلم « مَنْ أنعمَ اللّه عليه نعمةً ، فإنَّ اللّه يحبّ أن يَرَى أَثَرَ نعمته عليه » .
ففي هذه الآية دلالة على استحباب لبس الرّفيع من الثّياب ، والتّجمّل بها في الجمع والأعياد وعند لقاء النّاس وزيارة الإخوان . قال أبو العالية : كان المسلمون إذا تزاوروا تجمّلوا . وقد روى مكحول عن عائشة رضي الله عنها قالت : « كان نفر من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينتظرونه على الباب ، فخرج يريدهم ، وفي الدّار ركوة فيها ماء ، فجعل ينظر في الماء ويسوّي لحيته وشعره . فقلت : يا رسول اللّه . وأنت تفعل هذا ؟ قال : نعم ، إذا خرج الرّجل إلى إخوانه فليهيّئ من نفسه ، فإنّ اللّه جميل يحبّ الجمال » .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة تدلّ كلّها على مشروعيّة التّزيّن وتحسين الهيئة .
6- وينبغي ألاّ يقصد بالتّزيّن التّكبّر ولا الخيلاء ، لأنّ قصد ذلك حرام .
قال ابن عابدين في حاشيته ما نصّه : اعلم أنّه لا تلازم بين قصد الجمال وقصد الزّينة ، فالقصد الأوّل : لدفع الشّين وإقامة ما به الوقار وإظهار النّعمة ، شكراً لا فخراً ، وهو أثر أدب النّفس وشهامتها .
وأمّا الثّاني : وهو قصد الزّينة أثر ضعفها ، وقالوا بالخضاب وردت السّنّة ولم يكن لقصد الزّينة . ثمّ بعد ذلك إن حصلت زينة فقد حصلت في ضمن قصد مطلوب فلا يضرّه إذا لم يكن ملتفتاً إليه . ولهذا قال في الولوالجيّة : لبس الثّياب الجميلة مباح إذا كان لا يتكبّر ، لأنّ التّكبّر حرام ، وتفسيره أن يكون معها كما كان قبلها .
7- هذا ، وقد تعرض للتّزيّن أحكام تكليفيّة أخرى ، فمنه ما هو واجب ، وما هو مكروه ، وما هو حرام .
ومن أمثلة ما هو واجب : ستر العورة ، وتزيّن الزّوجة لزوجها متى طلب منها ذلك .
ومن أمثلة ما هو مستحبّ : تزيّن الرّجل للجمعة والعيدين ، وخضاب الشّيب للرّجل والمرأة . ( ر : اختضاب ) . ومن أمثلة ما هو مكروه : لبس المعصفر والمزعفر للرّجال .
ومن أمثلة ما هو حرام : تشبّه الرّجال بالنّساء والعكس في التّزيّن ، وتزيّن الرّجل بالذّهب ولبسه الحرير إلاّ لعارض . وتزيّن معتدّة الوفاة . وتزيّن المحرم بما أمر باجتنابه كالطّيب . وتزيّن المرأة لغير زوجها ، وهذا في الجملة وتفصيلها في مواضعها .
ما يكون به التّزيّن :
8 - لكلّ شخص زينته الّتي يتزيّن بها ، فمثلاً زينة الزّوجة لزوجها في ملبسها وحليّها وطيبها ، وزينة الرّجل يوم الجمعة والعيدين أن يلبس أحسن ثيابه ، ويفضّل البياض منها ، ويتطيّب .
9 - ويحرم على الرّجل التّزيّن بالحرير ، والتّحلّي بالذّهب ، لما روي « أنّه صلى الله عليه وسلم أخذ في يمينه قطعة حرير وفي شماله قطعة ذهب ، وقال : هذان حرام على ذكور أمّتي » ولما روي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا تَلْبِسُوا الحرير ، فإنّ من لَبِسه في الدّنيا لم يلبسه في الآخرة » ولما في ذلك بالنّسبة للرّجل من معنى الخيلاء والرّفاهية ممّا لا يليق بالرّجال ، وهذا ما قاله الفقهاء . وذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى : أنّه يكره للرّجل لبس المعصفر والمزعفر ، وقال عبد اللّه بن عمرو رضي الله عنهما : « رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين فقال : إنّ هذا من ثياب الكفّار فلا تلبسهما » ويحرم عند بعض الشّافعيّة المزعفر دون المعصفر . وفي قول آخر : عندهم يحرم المعصفر كذلك .
وعند الحنفيّة والمالكيّة : يكره لوليّ الصّغير إلباسه الذّهب والحرير ، وأجازوا إلباسه الفضّة على المعتمد . وللشّافعيّة والحنابلة في ذلك قولان :
أحدهما : الجواز . والثّاني : المنع ، لعموم قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الحرير والذّهب حرام على ذكور أمّتي ، وحِلٌّ لإناثهم » .
وجاز للمرأة التّزيّن بالملبوس ، ذهباً أو فضّةً أو محلًّى بهما أو حريراً ، أو ما يجري مجرى اللّباس من زرّ وفرش ومساند ، ولو نعلاً وقبقاباً ، وتفصيله في بحث : ( ألبسة ) .
10 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يحرم على الرّجال أن يتشبّهوا بالنّساء في الحركات ولين الكلام والزّينة واللّباس وغير ذلك من الأمور الخاصّة بهنّ عادةً أو طبعاً . وأنّه يحرم على النّساء أيضاً أن يتشبّهن بالرّجال في مثل ذلك ، لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما :
« لعن رسول اللّه المتشبّهين من الرّجال بالنّساء ، والمتشبّهات من النّساء بالرّجال » .
وضبط ابن دقيق العيد ما يحرم التّشبّه بهنّ فيه : بأنّه ما كان مخصوصاً بهنّ في جنسه وهيئته أو غالباً في زيّهنّ ، وكذا يقال عكسه . ( ر : تشبّه ) .
التّزيّن في المناسبات :
11 - يستحبّ التّزيّن عند الفقهاء للجمع والأعياد ، وعند لقاء النّاس وتزاور الإخوان . وذلك بلبس أحسن الثّياب والتّطيّب ، وكذلك التّنظيف بحلق الشّعر وقلم الظّفر والسّواك والاغتسال أيّام العيد والجمعة ، لما روي { أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر والأضحى } وروي أيضاً { أنّه صلى الله عليه وسلم قال في جمعة من الجمع إنّ هذا يوم جعله اللّه عيداً للمسلمين ، فاغتسلوا ، ومن كان عنده طيب فلا يضرّه أن يمسّ منه ، وعليكم بالسّواك } وروى جابر رضي الله عنه { أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعتمّ ، ويلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة } . وقد روى مكحول « عن عائشة قالت : كان نفر من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينتظرونه على الباب فخرج يريدهم وفي الدّار ركوة فيها ماء فجعل ينظر في الماء ويسوّي لحيته وشعره ، فقلت يا رسول اللّه وأنت تفعل هذا ؟ قال نعم ، إذا خرج الرّجل إلى إخوانه فليهيّئ من نفسه فإنّ اللّه جميل يحبّ الجمال » ( ر : تحسين ف 7 - 10 ) . وهذا كلّه بالنّسبة للرّجال ، والإمام بذلك أحقّ لأنّه المنظور إليه من بينهم . والتّفصيل ينظر في بحثي : ( جمعة وعيد ) .
التّزيّن للصّلاة :
12 - يستحبّ التّزيّن للصّلاة خشوعاً للّه واستحضاراً لعظمته ، لا تكبّراً وخيلاء ، فإنّه حرام . والمستحبّ للرّجل أن يصلّي في ثوبين أو أكثر ، فإن لم يجد إلاّ واحداً يتوشّح به جاز ، لحديث : « إذا صلّى أحدكم فليلبس ثوبيه فإنّ اللّه أحقّ من تزيّن له » .
قال ابن قدامة في بيان الفضيلة في لباس الصّلاة : وهو أن يصلّي في ثوبين أو أكثر ، فإنّه إذاً أبلغ في السّتر ، يروى عن عمر رضي الله عنه أنّه قال : إذا أوسع اللّه فأوسعوا ، جمع رجل عليه ثيابه ، وصلّى رجل في إزار وبرد ، أو في إزار وقميص . في إزار وقباء ، في سراويل ورداء ، في سراويل وقميص ، في سراويل وقباء ، في تبّان وقميص . وروى أبو داود عن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أو قال عمر : « إذا كان لأحدكم ثوبان فليصلّ فيهما ، فإن لم يكن إلاّ ثوب واحد فَلْيَتَّزر به ، ولا يشتمل اشتمال اليهود » . قال التّميميّ : الثّوب الواحد يجزئ ، والثّوبان أحسن ، والأربع أكمل : قميص وسراويل وعمامة وإزار . وروى ابن عبد البرّ عن عمر رضي الله عنه :" أنّه رأى نافعاً يصلّي في ثوب واحد ، قال : ألم تكتس ثوبين : قلت : بلى . قال : فلو أُرسلتَ في الدّار ، أكنتَ تذهب في ثوب واحد ؟ قلت لا .قال : فاللّه أحقّ أن يُزَّيَّنَ له أو النّاس ؟ قلت : بل اللّه". وقال القاضي : ذلك في الإمام آكد منه في غيره ، لأنّه بين يدي المأمومين ، وتتعلّق صلاتهم بصلاته . فإن لم يكن إلاّ ثوب واحد فالقميص ، لأنّه أعمّ في السّتر ، فإنّه يستر جميع الجسد إلاّ الرّأس والرّجلين ، ثمّ الرّداء ، لأنّه يليه في السّتر ، ثمّ المئزر ، ثمّ السّراويل . ولا يجزئ من ذلك كلّه إلاّ ما ستر العورة عن غيره وعن نفسه . والتّفصيل في بحث ( ألبسة ) .
التّزيّن في الإحرام :
13 - يجوز للمرأة المحْرِمة أن تلبس ما أحبّت من ألوان الثّياب والحليّ ، إلاّ أنّ في لبسها القفّازين والخلخال خلافاً بين الفقهاء . فرخّص فيه عليّ وعائشة رضي الله عنهما ، وبه قال الثّوريّ وأبو حنيفة ، وهو أحد قولي الشّافعيّ . ومنعه ابن عمر رضي الله عنهما ، وبه قال طاوس ومجاهد والنّخعيّ ومالك وأحمد ، وهو القول الآخر للشّافعيّ .
وحمل بعضهم كلام أحمد في منع الخلخال على الكراهة . ويحرم لبس المخيط اتّفاقاً للرّجال .
ولا يجوز التّزيّن بالتّطيّب والحلق أو التّقصير وتقليم الأظفار ونحوها أثناء الإحرام مطلقاً ، سواء أكان المحرم رجلاً أم امرأةً . ويسنّ التّطيّب في البدن استعداداً للإحرام عند جمهور الفقهاء . أمّا التّطيّب في الثّوب قبل الإحرام فمنعه الجمهور ، وأجازه الشّافعيّة في المعتمد عندهم . وتفصيله في مصطلح : ( إحرام ، وتحلية ) .
التّزيّن في الاعتكاف :
14 - يجوز للمعتكف عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة التّزيّن بالتّطيّب ولبس الثّياب الحسنة وأخذ الظّفر والشّارب ونحوه ، لكنّ المالكيّة صرّحوا بكراهة قلم الأظفار وقصّ الشّارب داخل المسجد ، كما قالوا بكراهة حلق رأسه مطلقاً إلاّ أن يتضرّر .
ويستحبّ عند الحنابلة أن يترك المعتكف لبس رفيع الثّياب ، والتّلذّذ بما يباح له قبل الاعتكاف . ويكره له أن يتطيّب ، لكن لا بأس بأخذ شعره وأظفاره عندهم . ( ر : اعتكاف ).
تزيّن كلّ من الزّوجين للآخر :
15 - يستحبّ لكلّ من الزّوجين أن يتزيّن للآخر ، لقوله تعالى : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ } وقوله تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الّذِيْ عَلَيهِنَّ بِالمَعْرُوفِ } فالمعاشرة بالمعروف حقّ لكلّ منهما على الآخر ، ومن المعروف أن يتزيّن كلّ منهما للآخر ، فكما يحبّ الزّوج أن تتزيّن له زوجته ، كذلك الحال بالنّسبة لها تحبّ أن يتزيّن لها .
قال أبو زيد : تتّقون اللّه فيهنّ ، كما عليهنّ أن يتّقين اللّه فيكم .
وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما : إنّي لأحبّ أن أتزيّن للمرأة ، كما أحبّ أن تتزيّن لي ، لأنّ اللّه تعالى يقول : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الّذي عَليهِنَّ بِالمَعْرُوفِ } ، وحقّ الزّوج عليها أعظم درجةً من حقّها ، لقوله تعالى : { وللرجالِ عليهنّ درجةٌ } .
وكان محمّد بن الحسن يلبس الثّياب النّفيسة ، ويقول : إنّ لي نساءً وجواري ، فأزيّن نفسي كي لا ينظرن إلى غيري .
وقال أبو يوسف : يعجبني أن تتزيّن لي امرأتي ، كما يعجبها أن أتزيّن لها .
ومن الزّينة في هذا المقام : أنّه إن نبت شعر غليظ للمرأة في وجهها ، كشعر الشّارب واللّحية ، فيجب عليها نتفه لئلاّ تتشبّه بالرّجال ، فقد روت امرأة بن أبي الصّقر - وهي العالية بنت أيفع - رضي الله عنها ، أنّها كانت عند عائشة رضي الله عنها فسألتها امرأة فقالت : يا أمّ المؤمنين إنّ في وجهي شعرات أفأنتفهنّ : أتزيّن بذلك لزوجي ؟ فقالت عائشة :" أميطي عنك الأذى ، وتصنّعي لزوجك كما تصنعين للزّيارة ، وإن أمرك فأطيعيه ، وإن أقسم عليك فأبرّيه ، ولا تأذني في بيته لمن يكره ".
وإن نبت في غير أماكنه في وجه الرّجل فله إزالته ، حتّى أجاز الحنفيّة للرّجل الأخذ من الحاجبين إذا فحشا . فإذا أمر الزّوج زوجته بالتّزيّن له كان التّزيّن واجباً عليها ، لأنّه حقّه ، ولأنّ طاعة الزّوج في المعروف واجبة على الزّوجة .
تأديب الرّجل زوجته لترك الزّينة :
16 - من حقوق الزّوج على زوجته أن تتزيّن له بالملبس والطّيب ، وأن تحسّن هيئتها وغير ذلك ، ممّا يرغّبه فيها ويدعوه إليها ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « خير النّساء الّتي تسرّه إذا نظر ، وتطيعه إذا أمر ، ولا تخالفه فيما يكره في نفسها وماله » فإن أمر الزّوج زوجته بالتّزيّن فلم تتزيّن له كان له حقّ تأديبها ، لأنّ الزّينة حقّه . قال تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهمْ ، فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلغَيبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيهنَّ سَبِيلاً إنَّ اللّهَ كانَ عَلِيَّاً كَبِيراً } .
تزيّن المعتدّة :
17 - المعتدّة للوفاة لا يجوز لها التّزيّن اتّفاقاً لوجوب الإحداد عليها لقوله تعالى : { وَالّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجَاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفسِهنَّ أَرْبَعةَ أَشْهرٍ وَعشرَاً } ولقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يَحِلُّ لامرأةٍ تُؤْمِنُ باللّه واليوم الآخر أنْ تُحِدَّ على ميّتٍ فوقَ ثلاثٍ ، إلاّ على زوجِها فإنّها تحدّ عليه أربعةَ أشهر وعشراً » .
وكذلك المعتدّة للطّلاق البائن عند الحنفيّة ، وهو القول القديم للشّافعيّ : لا يجوز لها التّزيّن ، حداداً وأسفاً على فوت نعمة النّكاح الّذي هو سبب لصونها وكفاية مؤنتها ، ولحرمة خطبتها ، وعدم مشروعيّة الرّجعة .
ويستحبّ لها الحداد وترك الزّينة عند المالكيّة ، وهو الأظهر في الجديد عند الشّافعيّة ، ويباح لها الزّينة عند الحنابلة .
وأمّا المطلّقة الرّجعيّة فلها أن تتزيّن ، لأنّها حلال للزّوج لقيام نكاحها ، والرّجعة مستحبّة والتّزيّن حامل عليها ، فيكون مشروعاً ، وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة .
أمّا الشّافعيّة : فقد روى أبو ثور عن الشّافعيّ رحمهما الله أنّه يستحبّ لها الإحداد ، وحيث كان كذلك فلا يستحبّ لها التّزيّن . ومنهم من قال : الأولى أن تتزيّن ممّا يدعو الزّوج إلى رجعتها . وتفصيله في مصطلح : ( إحداد ، عدّة ) .
الجراحة لأجل التّزيّن :
أوّلاً - تثقيب الأذن :
18 - جمهور الفقهاء على أنّ تثقيب أذن الصّغيرة لتعليق القرط جائز ، فقد كان النّاس يفعلونه في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من غير إنكار ، فعن ابن عبّاس رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى يوم العيد ركعتين ، لم يُصَلِّ قبلهما ولا بعدهما ، ثمّ أتى النّساء - ومعه بلال - فأمرهنّ بالصّدقة ، فجعلت المرأة تُلْقي قرطها » .
ونقل عميرة عن الغزاليّ الحرمة ، لأنّه جرح لم تدع إليه ضرورة إلاّ أن يثبت فيه شيء من جهة الشّرع ، ولم يبلغنا ذلك . قال عميرة : واعترض بحديث أمّ زرع الّذي فيه : « وأناس من حليّ أذنيّ » لقوله صلى الله عليه وسلم : « كنت لك كأبي زرع لأمّ زرع » .
واتّفقوا على كراهة ذلك في الصّبيّ .
ثانياً - الوشم والوشر :
19 - ومن أنواع الجراحة أيضاً من أجل التّزيّن : ما اعتاده بعض النّاس من الوشم والوشر الواردين في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :
« لعن اللّه الواشمات ، والمستوشمات والنّامصات والمتنمّصات ، والمتفلّجات للحسن المغيّرات خلق اللّه » ، وفي رواية : « نهى عن الواشرة » .
قال القرطبيّ : هذه الأمور محرّمة ، نصّت الأحاديث على لعن فاعلها ، ولأنّها من باب التّدليس ، وقيل : من باب تغيير خلق اللّه تعالى .
ففي الآية : { وَلآَمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ } .
قال ابن عابدين : النّهي عن النّمص أي نتف الشّعر محمول على ما إذا فعلته لتتزيّن للأجانب ، وإلاّ فلو كان في وجهها شعر ينفر زوجها بسببه ، ففي تحريم إزالته بُعد ، لأنّ الزّينة للنّساء مطلوبة ، ثمّ قال : إذا نبت للمرأة لحية أو شوارب فلا تحرم إزالته ، بل تستحبّ .
ولا بأس بأخذ الحاجبين وشعر وجهه ما لم يشبه المخنّث .
وصرّح المالكيّة بأنّه لا بأس بإزالة شعر الجسد في حقّ الرّجال ، أمّا النّساء فيجب عليهنّ إزالة ما في إزالته جمال لها - ولو شعر اللّحية إن لها لحية - وإبقاء ما في بقائه جمال . والوجوب قول الشّافعيّة أيضاً إذا أمرها الزّوج .
قال ابن قدامة : وأمّا حفّ الوجه فقال مهنّا : سألت أبا عبد اللّه عن الحفّ ؟ فقال : ليس به بأس للنّساء ، وأكرهه للرّجال . وللتّفصيل : ( ر : تحسين ) .
ثالثاً - قطع الأعضاء الزّائدة :
20 - يجوز قطع أصبع زائدة ، أو شيء آخر كسنّ زائدة إن لم يكن الغالب منه الهلاك عند الحنفيّة . ونقل القرطبيّ عن عياض : أنّ من خلق بإصبع زائدة أو عضو زائد لا يجوز له قطعه ولا نزعه ، لأنّه من تغيير خلق اللّه .
وقال ابن حجر في الفتح نقلاً عن الطّبريّ : لا يجوز للمرأة تغيير شيء من خلقتها الّتي خلقها اللّه عليها بزيادة أو نقص التماساً للحسن ، لا للزّوج ولا لغيره ، كمن تكون مقرونة الحاجبين ، فتزيل ما بينهما توهم البلج أو عكسه ، ومن تكون لها سنّ زائدة فتقلعها ، أو طويلة فتقطع منها ، أو لحية أو شارب أو عنفقة فتزيلها بالنّتف ، ومن يكون شعرها قصيراً أو حقيراً فتطوّله أو تغزره بشعر غيرها ، فكلّ ذلك داخل في النّهي وهو من تغيير خلق اللّه تعالى .
ويستثنى من ذلك ما يحصل به الضّرر والأذيّة ، كمن يكون لها سنّ زائدة أو طويلة تعيقها عن الأكل ، أو أصبع زائدة تؤذيها أو تؤلمها ، فيجوز ذلك ، والرّجل في هذا الأخير كالمرأة .
تزيين البيوت والأفنية :
21 - تزيين البيوت والأفنية - بتنظيفها وترتيبها - مطلوب شرعاً ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ اللّه طيّب يحبّ الطّيّب نظيف يحبّ النّظافة »
ويجوز تزيين البيوت بالدّيباج ، وتجميلها بأواني الذّهب والفضّة بلا تفاخر عند الحنفيّة .
كما أجاز المالكيّة تزويق حيطان البيوت وسقفها وخشبها وساترها بالذّهب والفضّة .
وفصّل الشّافعيّة ، فقالوا : يحلّ الإِناء المموّه بالذّهب والفضّة ، وكالإناء السّقوف والجدران ولو للكعبة والمصحف والكرسيّ والصّندوق وغير ذلك ، إن لم يحصل بالعرض على النّار شيء منه ، فإن كثر المموّه به بأن كان يحصل منه شيء بالعرض على النّار حرم .
ومحلّ الحلّ الاستدامة ، أمّا الفعل فحرام مطلقاً .
وصرّحوا بكراهة تزيين البيوت للرّجال وغيرهم حتّى مشاهد الصّلحاء والعلماء بالثّياب ، وحرمة تزيينها بالحرير والصّور لعموم الأخبار .
ويكره تزويق البيوت عند الحنابلة بالسّتور ما لم يكن لحاجة ، ويحرم عندهم تزيينها بالدّيباج والحرير وآنية الذّهب والفضّة والمموّه بها - قليلاً كان أو كثيراً - وبصور الحيوانات ، فإن كانت مزيّنةً بالنّقوش وصور شجر فلا بأس بذلك . وانظر : ( تصوير ) .
تزيين المساجد :
22 - يحرم تزيين المساجد بنقشها وتزويقها بمال الوقف عند الحنفيّة والحنابلة ، وصرّح الحنابلة بوجوب ضمان الوقف الّذي صرف فيه ، لأنّه لا مصلحة فيه .
وظاهر كلام الشّافعيّة منع صرف مال الوقف في ذلك .
ولو وقف الواقف ذلك عليهما - النّقش والتّزويق - لم يصحّ في القول الأصحّ عندهم ، أمّا إذا كان النّقش والتّزويق من مال النّاقش فيكره اتّفاقاً في الجملة إذا كان يلهي المصلّي ، كما إذا كان في المحراب وجدار القبلة ، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا ساء عملُ قوم زخرفوا مساجدَهم » .
وفيما عدا جدار الكعبة تفصيل وخلاف ينظر في بحث : ( مسجد ) .
تزيين الأضرحة :
23 - يكره تجصيص القبور والبناء عليها اتّفاقاً بين الفقهاء ، لقول جابر رضي الله عنه : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجصّص القبر ، وأن يبنى عليه » ولأنّ ذلك من المباهاة وزينة الحياة الدّنيا ، وتلك منازل الآخرة ، وليست بموضع للمباهاة . وكذا يكره تطيينها عند جمهور الفقهاء ، وفي قول عند الحنفيّة جوازه . وتفصيله في بحث : ( قبر ) .
حكم بيع ما يتزيّن به :
24 - يجوز بيع ما تتزيّن به المرأة لزوجها من طيب وحنّاء وخضاب وكحل وغير ذلك ممّا أبيح استعماله ممّا يباع ويشترى ، ولا يجب على الزّوج شراؤه لها من ماله ، فإذا أراد أن تتزيّن له بذلك هيّأه لها ، لأنّه هو المريد لذلك ، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، فيما عدا الطّيب ، فقد قالوا : إنّه يجب عليه من الطّيب ما تقطع به الرّائحة الكريهة لا غير . أمّا المالكيّة فقد قالوا : يفرض لها ذلك على الزّوج إن تضرّرت بتركه وكان معتاداً لها .
الاستئجار للتّزيّن :
25 - الأصل إباحة إجارة كلّ عين يمكن أن ينتفع بها منفعةً مباحةً مع بقائها ، ولهذا صرّح الشّافعيّة والحنابلة بجواز الثّياب والحليّ للتّزيّن ، فإنّ النّفقة بهما مباحة مقصودة مع بقاء عينها ، والزّينة من المقاصد المشروعة ، قال اللّه تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتي أَخْرَجَ لِعِبَادِه } . وجواز إجارة حليّ الذّهب والفضّة بغير جنسه محلّ اتّفاق بينهم ، وتردّد أحمد فيما إذا كانت الأجرة من جنسها ، وروي عنه جوازه مطلقاً .
أمّا الحنفيّة فقد صرّحوا بفساد إجارة مثل الثّياب والأواني للتّزيّن حيث قالوا : لو استأجر ثياباً أو أواني ليتجمّل بها أو دابّةً ليجنيها بين يديه أو داراً لا ليسكنها ... فالإجارة فاسدة في الكلّ ولا أجر له ، لأنّها منفعة غير مقصودة من العين .
ويجوز إجارة الألبسة للّبس ، والأسلحة للجهاد ، والخيام للسّكن وأمثالها إلى مدّة معيّنة مقابل بدل معلوم ، والحليّ كاللّباس عندهم .
وكره المالكيّة إجارة الحليّ ، لأنّه ليس من شأن النّاس ، وقالوا : الأولى إعارته لأنّها من المعروف . هذا ، وصرّح الحنفيّة والشّافعيّة بجواز استئجار الماشطة لتزيّن العروس وغيرها إن ذكر العمل أو المدّة ، والجواز مفهوم من قواعد المذاهب الأخرى أيضاً ، لأنّ أصل التّزيّن مشروع ، والإجارة على المنافع المشروعة صحيحة .
حكم إعارة ما يتزيّن به :
26 - يجوز عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إعارة كلّ عين ينتفع بها منفعةً مباحةً - مع بقائها على الدّوام من غير استهلاك بالتّجمّل والتّزيّن - كالنّقدين والحليّ ومنه القلائد وغيرها . فعن عائشة رضي الله عنها قالت : « هلكت قِلادة لأسماء ، فبعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم في طلبها رجالاً ، فحضرت الصّلاة وليسوا على وضوء ، ولم يجدوا ماءً فصلّوا وهم على غير وضوء ، فذكروا ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فأنزل اللّه آية التّيمّم » .
زاد ابن نمير عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها « استعارت من أسماء » يعني أنّها استعارت من أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها القلادة المذكورة .

تساقط *
انظر : تهاتر .

تسامع *
التّعريف :
1 - التّسامع : مصدر تسامع النّاس ، وهو ما حصل من العلم بالتّواتر أو بالشّهرة أو غير ذلك ، يقال : تسامع به النّاس أي اشتهر عندهم ، وسمعه بعضهم من بعض ، وتسامع النّاس بفلان : شاع بينهم عيبه . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ الأوّل .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإفشاء :
2 - الإفشاء : نشر الخبر ، سرّاً كان أو جهراً ، ببثّه بين النّاس .
ب - الإعلام :
3 - الإعلام : إيصال الخبر إلى شخص أو طائفة من النّاس ، سواء أكان ذلك بالإعلان ، أم بالتّحديث من غير إعلان .
ج - الإعلان :
4 - الإعلان : المجاهرة بالقول أو الفعل ، ويلاحظ فيه قصد الشّيوع والانتشار .
د - الإشهار :
5 - الإشهار : مصدر أشهر ، والشّهر مصدر شهر الشّيء ، وكلاهما في اللّغة والاصطلاح بمعنى الإعلان والإظهار .
هـ – السّمع :
6 - السّمع : قوّة في الأذن بها تدرك الأصوات ، ويستعمل أيضاً بمعنى المسموع ، وبمعنى الذِّكر .
الحكم الإجماليّ :
7 - اتّفق الفقهاء على جواز الشّهادة بالتّسامع في ستّة أشياء هي : العتق ، والنّسب ، والموت ، والنّكاح ، والولاء ، والوقف .
8- وزاد الحنفيّة على السّتّة : المهر - على الأصحّ - والدّخول بزوجته ، وولاية القاضي ، ومن في يده شيء - سوى رقيق لم يعلم رقّه ويعبّر عن نفسه . وفي عدّ الأخير منها نظر ذكره في الفتح والبحر .
9- وزاد المالكيّة على السّتّة : الشّهادة بملك الشّيء من عقار أو غيره لحائز له - وتقدّم بيّنة البتّ بالملك على بيّنة السّماع ، إلاّ أن تشهد بيّنة السّماع بنقل الملك - وعزل قاض ، وتعديل وتجريح لبيّنة ، وإسلام وكفر لشخص معيّن ، ورشد ، وسفه لمعيّن ، وفي النّكاح اشترطوا : ادّعاء الحيّ منهما على الميّت ليرثه ، أو ادّعاء أحد الزّوجين الحيّين ولم ينكر الآخر ، وكانت الزّوجة في عصمته . وأمّا لو ادّعاه أحدهما وأنكره الآخر فلا يثبت به النّكاح ، وفي الطّلاق - وإن بخلع - يثبت بالسّماع الطّلاق لا دفع العوض ، وبضرر زوج لزوجته - نحو : لم نزل نسمع عن الثّقات وغيرهم أنّه يضارّها فيطلّقها عليه الحاكم - وبالولادة لإثبات أنّها أمّ ولد ، أو لخروج من عدّة ، وبالرّضاع ، والحرابة ، والإباق ، والأسر ، والفقد ، والصّدقة ، والهبة ، واللّوث - نحو : لم نزل نسمع بأنّ فلاناً قتل فلاناً ، فتكون الشّهادة لوثاً تسوّغ للوليّ القسامة - والبيع ، والقسمة ، والوصيّة ، والعسر واليسر .
قال الدّسوقيّ : فجملة المسائل الّتي تقبل فيها شهادة السّماع ثلاثون مسألةً .
10 - وزاد الشّافعيّة على السّتّة : الملك في الأصحّ عندهم ، وتنبني الشّهادة فيه على ثلاثة أمور : اليد والتّصرّف والتّسامع .
11 - وأمّا الحنابلة فقد زادوا على السّتّة : الملك المطلق ، والولادة ، والطّلاق ، والخلع ، وأصل الوقف وشرطه ، ومصرفه ، والعزل ، وهذه الأنواع عند الحنابلة على سبيل الحصر كما في المغني والفروع .
أمّا صاحب الإقناع وشرح المنتهى بعد أن ذكرها فقد قالا : وما أشبه ذلك .
12 - واشترط الحنفيّة لجواز الشّهادة بما ذكر أن يحصل علم الشّاهد بهذه الأشياء عن خبر جماعة لا يتصوّر تواطؤهم على الكذب ، ولو بلا شرط عدالة ، أو شهادة عدلين . أمّا في الموت فيكفي العدل ولو أنثى وهو المختار ، وقيّده شارح الوهبانيّة بأن لا يكون المخبر متّهماً كوارث وموصًى له ، ولو فسّر الشّاهد للقاضي أنّ شهادته بالتّسامع ردّت على الصّحيح إلاّ في الوقف والموت إذا فسّرا ، وقالا فيه بأخبرنا من نثق به فتقبل على الأصحّ . وقال في الهداية بعد أن ذكر ما يجوز الشّهادة فيه بالتّسامع : يسعه أن يشهد بهذه الأشياء إذا أخبره بها من يثق به - وهذا استحسان - ووجهه أنّ هذه أمور تختصّ بالمعاينة ، وتتعلّق بها أحكام تبقى على انقضاء القرون ، فلو لم تقبل فيها الشّهادة بالتّسامع أدّى إلى الحرج وتعطيل الأحكام ، وإنّما يجوز للشّاهد أن يشهد بالاشتهار ، وذلك بالتّواتر ، أو بإخبار من يثق به ، ويشترط أن يخبره رجلان عدلان ، أو رجل وامرأتان ليحصل له نوع علم ، وقيل : في الموت يكتفى بإخبار واحد أو واحدة .
13 - والشّافعيّة قالوا : إنّ شرط التّسامع ليستند إليه في الشّهادة هو سماع المشهود به من جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب ، ويحصل الظّنّ القويّ بصدقهم ، بشرط أن يكونوا مكلّفين ، ولا يشترط فيهم حرّيّة ولا ذكورة ولا عدالة ، وقيل : يكفي التّسامع من عدلين إذا سكن القلب لخبرهما .
14 - وعند الحنابلة : تجوز الشّهادة بالتّسامع فيما تظاهرت به الأخبار ، واستقرّت معرفته في قلب الشّاهد ، وهو ما يعلم بالاستفاضة . والتّفصيل لما سبق في مصطلح ( شهادة ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
تسبّب *
انظر : سبب .

تسبيح *
التّعريف :
1 - من معاني التّسبيح في اللّغة : التّنزيه . تقول : سبّحت اللّه تسبيحاً : أي نزّهته تنزيهاً. ويكون بمعنى الذّكر والصّلاة . يقال : فلان يسبّح اللّه : أي يذكره بأسمائه نحو سبحان اللّه . وهو يسبّح أي يصلّي السّبحة وهي النّافلة . وسمّيت الصّلاة ذِكْراً لاشتمالها عليه ، ومنه قوله تعالى : { فَسُبحَانَ اللّهِ حينَ تُمْسُونَ وحينَ تُصْبِحون } أي اذكروا اللّه . ويكون بمعنى التّحميد نحو { سُبْحَانَ الّذي سَخَّرَ لنا هذا } وسبحان ربّي العظيم . أي الحمد للّه .
ولا يخرج معناه الاصطلاحيّ عن هذه المعاني ، فقد عرّفه الجرجانيّ بأنّه : تنزيه الحقّ عن نقائص الإِمكان والحدوث .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الذِّكْر :
2 - الذّكر من معانيه في اللّغة : الصّلاة للّه والدّعاء إليه والثّناء عليه .
ففي الحديث : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه أمر صلّى » .
وفي اصطلاح الفقهاء قول سيق لثناء أو دعاء وقد يستعمل شرعاً لكلّ قول يثاب قائله ، فالذّكر شامل للدّعاء فهو أعمّ من التّسبيح .
ب - التّهليل :
3 - هو قول لا إله إلاّ اللّه : يقال : هلّل الرّجل أي من الهيللة ، من قول لا إله إلاّ اللّه .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن هذا . فالتّسبيح أعمّ من التّهليل ، لأنّ التّسبيح تنزيه اللّه عزّ وجلّ عن كلّ نقص . أمّا التّهليل فهو تنزيهه عن الشّريك .
ج - التّقديس :
4 - من معانيه في اللّغة تنزيه اللّه عزّ وجلّ عن كلّ ما لا يليق به .
والتّقديس : التّطهير والتّبريك . وتقدّس أي تطهّر ، وفي التّنزيل { ونحنُ نُسبِّحُ بِحَمْدك وَنُقدِّسُ لك } قال الزّجّاج : معنى نقدّس لك : أي نطهّر أنفسنا لك ، وكذلك نفعل بمن أطاعك ، والأرض المقدّسة أي المطهّرة . ومعناه الاصطلاحيّ لا يخرج عن هذا .
والتّقديس أخصّ من التّسبيح ، لأنّه تنزيه مع تبريك وتطهير .
حكمة مشروعيّة التّسبيح :
5 - حكمة التّسبيح استحضار العبد عظمة الخالق ، ليمتلئ قلبه هيبةً فيخشع ولا يغيب ، فينبغي أن يكون ذلك هو مقصود الذّاكر ، سواء أكان في الصّلاة أم في غيرها ، فيحرص على تحصيله ، ويتدبّر ما يذكر ، ويتعقّل معناه ، فالتّدبّر في الذّكر مطلوب ، كما هو مطلوب في القراءة لاشتراكهما في المعنى المقصود ، ولأنّه يوقظ القلب ، فيجمع همّه إلى الفكر ، ويصرف سمعه إليه ، ويطرد النّوم ، ويزيد النّشاط .
آداب التّسبيح :
6 - آدابه كثيرة : منها أنّه ينبغي أن يكون الذّاكر المسبّح على أكمل الصّفات ، فإن كان جالساً في موضع استقبل القبلة ، وجلس متذلّلاً متخشّعاً بسكينة ووقار مطرقاً رأسه ، ولو ذكر على غير هذه الأحوال جاز ولا كراهة في حقّه . لكن إن كان بغير عذر كان تاركاً للأفضل ، والدّليل على عدم الكراهة قول اللّه تبارك وتعالى : { إنَّ في خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأرضِ واخْتِلافِ اللّيلِ والنّهارِ لآياتٍ لأولي الألبابِ الّذينَ يَذْكُرونَ اللّهَ قِيَامَاً وَقُعُودَاً وعلى جُنُوبهم وَيَتَفَكَّرونَ في خَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ } .
وجاء عن عائشة رضي الله عنها قالت : إنّي لأقرأ حزبي ، وأنا مضطجعة على السّرير . وصيغه كثيرة ، منها ما ينبغي أن يكون كما وردت به السّنّة ، كما هو الحال في تسبيحات الرّكوع والسّجود ودبر الصّلوات .
ومنها ما هو مستحبّ ، وهو ما كان في غير ذلك كالتّسبيحات ليلاً ونهارًا .
حكمه التّكليفيّ :
7 - يختلف الحكم التّكليفيّ للتّسبيح بحسب موضعه وسببه على التّفصيل الآتي :
التّسبيح على طهر :
8 - أجمع العلماء على جواز الذّكر بالقلب واللّسان للمحدث والجنب والحائض والنّفساء ، وذلك في التّسبيح والتّهليل والتّحميد والتّكبير والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم والدّعاء وغير ذلك . فقد روت عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يذكر اللّه على كلّ أحيانه » . على أنّ ذكر اللّه على طهارة سواء أكان تسبيحاً أم غيره ، أولى وأفضل لحديث : « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سلّم عليه أحد الصّحابة فلم يردّ عليه ، حتّى تيمّم فردّ السّلام ، ثمّ قال : كرهت أن أذكر اللّه إلاّ على طهر » .
التّوسّط في رفع الصّوت في التّسبيح :
9- التّوسّط في رفع الصّوت في التّسبيح وغيره مستحبّ عند عامّة الفقهاء ، لقوله تعالى : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بها وابْتَغ بينَ ذلك سَبِيلاً } وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يفعله . فعن أبي قتادة رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خرج ليلةً فإذا هو بأبي بكر رضي الله عنه يصلّي يخفض من صوته . قال : ومرّ بعمر رضي الله عنه وهو يصلّي رافعاً صوته قال : فلمّا اجتمعا عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلّي تحفض صوتك ؟ قال : قد أسمعتُ من ناجيتُ يا رسول اللّه . قال : فارفع قليلاً وقال لعمر : مررت بك وأنت تصلّي رافعاً صوتك ؟ فقال : يا رسول اللّه : أوقظ الوسنان وأطرد الشّيطان . قال : اخفض من صوتك شيئاً » .
وقال أبو سعيد رضي الله عنه « اعتكف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فسمعهم يجهرون بالقراءة ، فكشف السّتر وقال : ألا إنّ كلّكم مناج ربّه ، فلا يؤذينّ بعضكم بعضاً ، ولا يرفعْ بعضكم على بعض في القراءة ، أو قال في الصّلاة » . والمراد بالتّوسّط أن يزيد على أدنى ما يسمع نفسه من غير أن تبلغ تلك الزّيادة سماع من يليه .
ما يجوز به التّسبيح :
10 - أجاز الفقهاء التّسبيح باليد والحصى والمسابح خارج الصّلاة ، كعدّه بقلبه أو بغمزه أنامله . أمّا في الصّلاة ، فإنّه يكره لأنّه ليس من أعمالها . وعن أبي يوسف ومحمّد : أنّه لا بأس بذلك في الفرائض والنّوافل جميعاً مراعاةً لسنّة القراءة والعمل بما جاءت به السّنّة . فعن « سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه أنّه دخل مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على امرأة ، وبين يديها نوًى أو حصًى تسبّح به ، فقال : أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل . فقال : سبحان اللّه عدد ما خلق في السّماء ، وسبحان اللّه عدد ما خلق في الأرض ، وسبحان اللّه عدد ما بين ذلك ، وسبحان اللّه عدد ما هو خالق ، والحمد للّه مثل ذلك ، واللّه أكبر مثل ذلك ، ولا إله إلاّ اللّه مثل ذلك ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه مثل ذلك » فلم ينهها عن ذلك ، وإنّما أرشدها إلى ما هو أيسر وأفضل ، ولو كان مكروهاً لبيّن لها ذلك . وعن بسيرة الصّحابيّة المهاجرة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمرهنّ أن يراعين بالتّكبير والتّقديس والتّهليل ، وأن يعقدن بالأنامل فإنّهنّ مسئولات مستنطقات » . وعن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعقد التّسبيح » وفي رواية « بيمينه » .
ونقل الطّحطاويّ عن ابن حجر قوله : الرّوايات بالتّسبيح بالنّوى والحصى كثيرة عن الصّحابة في بعض أمّهات المؤمنين ، بل رأى ذلك صلى الله عليه وسلم وأقرّ عليه . وعقد التّسبيح بالأنامل أفضل من السّبحة ، وقيل : إن أمن الغلط فهو أولى ، وإلاّ فهي أولى .
أوقاته وما يستحبّ منها :
11 - ليس للذّكر - ومنه التّسبيح - وقت معيّن ، بل هو مشروع في كلّ الأوقات . روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يذكر اللّه على كلّ أحيانه » . وفي قوله تعالى : { الّذينَ يَذْكُرونَ اللّهَ قِيَامَاً وَقُعُودَاً وعلى جُنُوبِهمْ } ما يدلّ على استحباب الذّكر في جميع الأحوال الّتي يكون عليها الإنسان من يومه وليله .
إلاّ أنّ أحوالاً منها ورد الشّرع باستثنائها : كالخلاء عند قضاء الحاجة ، وفي حالة الجماع ، وفي حالة الخطبة لمن يسمع صوت الخطيب ، وفي الأماكن المستقذرة والدّنسة ، وما أشبه ذلك ممّا يكره الذّكر معه . ولكن ورد في بعض الأخبار استحباب التّسبيح في أوقات خاصّة ، من ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال :
« من سبّح اللّه في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين ، وحمد اللّه ثلاثاً وثلاثين ، وكبّر اللّه ثلاثاً وثلاثين ، فتلك تسعة وتسعون ، وقال تمام المائة : لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كلّ شيء قدير ، غفرت خطاياه ، وإن كانت مثل زبد البحر » ويستحبّ التّسبيح في الإصباح والإمساء ، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من قال حين يصبح وحين يمسي : سبحان اللّه وبحمده مائة مرّة ، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل ممّا جاء به ، إلاّ أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه » وفي رواية أبي داود « سبحان اللّه العظيم وبحمده » . ويستحبّ التّسبيح ونحوه عند الكسوف والخسوف ، لما روي عن عبد الرّحمن بن سمرة رضي الله عنه قال : « أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد كسفت الشّمس وهو قائم في الصّلاة رافع يديه ، فجعل يسبّح ويهلّل ويكبّر ويحمد ويدعو حتّى حسر عنها . فلمّا حسر عنها قرأ سورتين وصلّى ركعتين » .
التّسبيح في افتتاح الصّلاة :
12 - هو سنّة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
أمّا المالكيّة فإنّهم لا يرونه ، بل كرهوه في افتتاحها .
واستدلّ الجمهور بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا قمتم إلى الصّلاة فارفعوا أيديكم ، ولا تخالف آذانكم ، ثمّ قولوا : اللّه أكبر ، سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، وتبارك اسمك وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك » .
وبما روت عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصّلاة قال : سبحانك اللّهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك » .
واستدلّ المالكيّة بما روي عن « أنس رضي الله عنه قال : صلّيت خلف النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، وكانوا يستفتحون بالحمد للّه ربّ العالمين » .
ولم يذكروا التّسبيح في افتتاح الصّلاة لا من الفرائض ولا من السّنن .
التّسبيح في الرّكوع :
13 - التّسبيح في الرّكوع سنّة عند الحنفيّة في المشهور ، وقيل واجب . ومستحبّ عند الشّافعيّة ، ومندوب عند المالكيّة . وواجب عند الحنابلة بتسبيحة واحدة ، والسّنّة الثّلاث . وأقلّ المسنون عند الحنفيّة والحنابلة . والمستحبّ عند الشّافعيّة : ثلاث تسبيحات . لما رواه ابن مسعود رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : إذا ركع أحدكم فقال : سبحان ربّي العظيم ثلاثاً ، فقد تمّ ركوعه ، وذلك أدناه »
وأمّا المالكيّة فقد نصّوا على أنّه يندب التّسبيح بأيّ لفظ كان بركوع وسجود .
ونصّ ابن جزيّ على أنّه يستحبّ في الرّكوع سبحان ربّي العظيم ثلاث مرّات .
ودليله ما ورد أنّه « لمّا نزل قول اللّه تبارك وتعالى : { فسبّحْ باسْمِ ربِّكَ العظيم } قال صلى الله عليه وسلم : اجعلوها في ركوعكم » والتّسبيح فيه لا يتحدّد بعدد ، بحيث إذا نقص عنه يفوته الثّواب ، بل إذا سبّح مرّةً يحصل له الثّواب ، وإن كان يزاد الثّواب بزيادته .
والزّيادة على هذه التّسبيحات أفضل إلى خمس أو سبع أو تسع بطريق الاستحباب عند الحنفيّة . وفي منية المصلّي : أدناه ثلاث ، وأوسطه خمس ، وأكمله سبع .
وأدنى الكمال عند الشّافعيّة في التّسبيح ثلاث ثمّ خمس ثمّ سبع ثمّ تسع ثمّ إحدى عشرة وهو الأكمل . وهذا للمنفرد ولإمام قوم محصورين رضوا بالتّطويل .
أمّا غيره فيقتصر على الثّلاث ، ولا يزيد عليها للتّخفيف على المقتدين .
ويزيد المنفرد وإمام قوم محصورين على ذلك : اللّهمّ لك ركعت ، وبك آمنت إلخ .
قال في الرّوضة : وهذا مع الثّلاث أفضل من مجرّد أكمل التّسبيح .
والزّيادة على التّسبيحة الواحدة مستحبّة عند الحنابلة ، فأعلى الكمال في حقّ الإمام يزاد إلى عشر تسبيحات ، لما روي عن « أنس رضي الله عنه أنّه قال : ما رأيت أحداً أشبه صلاةً بصلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى - يعني عمر بن عبد العزيز - فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات » . وقال أحمد : جاء عن الحسن أنّ التّسبيح التّامّ سبع ، والوسط خمس ، وأدناه ثلاث . وأعلى التّسبيح في حقّ المنفرد العرف ، وقيل : ما لم يخف سهواً ، وقيل : بقدر قيامه ، وقيل : سبع .
التّسبيح في السّجود :
14 - يقال في السّجود ما قيل في الرّكوع ، من حيث الصّفة والعدد والاختلاف في ذلك . فالتّسبيح في السّجود سنّة عند الحنفيّة في المشهور ، وقيل واجب . ومندوب عند المالكيّة . ومستحبّ عند الشّافعيّة . وواجب عند الحنابلة في أقلّه ، وهو الواحدة ، وسنّة في الثّلاث ، كما في الرّكوع . ولا خلاف إلاّ في أنّ تسبيح السّجود أن يقول : سبحان ربّي الأعلى ، أمّا في الرّكوع فيقول : سبحان ربّي العظيم .
تسبيح المقتدي تنبيهاً للإمام :
15 - لو عرض للإمام شيء في صلاته سهواً منه كان للمأموم تنبيهه بالتّسبيح استحباباً ، إن كان رجلاً ، وبالتّصفيق إن كانت أنثى عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
لحديث : « إنّما التّصفيقُ للنّساء ، ومن نَابَه شيء في صلاته فلْيقُلْ سبحان اللّه » .
وأمّا المالكيّة فكرهوا للمرأة التّصفيق في الصّلاة مطلقاً ، وقالوا : إنّها تسبّح لعموم حديث : « من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان اللّه » ووجه الاستدلال أنّ ( من ) من ألفاظ العموم فيشمل النّساء .
تنبيه المصلّي غيره بالتّسبيح :
16 - إذا أتى المصلّي بذكر مشروع يقصد به تنبيه غيره إلى أنّه في صلاة ، كأن يستأذن عليه إنسان يريد الدّخول وهو في الصّلاة ، أو يخشى المصلّي على إنسان الوقوع في بئر أو هلكة ، أو يخشى أن يتلف شيئاً ، كان للمصلّي استحباباً أن يسبّح تنبيهاً له ، وتصفّق المرأة على الخلاف السّابق بيانه . للحديث المذكور آنفاً ، ولقوله عليه الصلاة والسلام « من نابه شيء في صلاته فليقل : سبحان اللّه ، فإنّه لا يسمعه أحد يقول سبحان اللّه إلاّ التفت »
وفي المسند عن عليّ رضي الله عنه : « كان لي من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ساعة آتيه فيها فإذا أتيته استأذنته إن وجدته يصلّي فسبّح دخلت ، وإن وجدته فارغاً أذن لي » .
وعند الحنيفة تبطل الصّلاة إذا محّض التّسبيح للإعلام ، أو قصد به التّعجّب أو نحو ذلك .. ومذهب الشّافعيّة أنّ التّسبيحات في الصّلاة " لا تضرّ إلاّ ما كان فيه خطاب لمخلوق غير رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
ومذهب المالكيّة والحنابلة أنّ كلّ ذلك لا يؤثّر في صحّة الصّلاة .
التّسبيح أثناء الخطبة :
17 - قال الحنفيّة بكراهة التّسبيح لمستمع الخطبة ، لأنّه يشغله عن سماعها .
فإن كان بعيداً عن الخطيب ولا يسمعه فلا بأس به سرّاً عند بعض الحنفيّة ، والمعتمد في المذهب المنع مطلقاً للقريب والبعيد السّامع وغيره .
وعند المالكيّة يجوز الذّكر - على أنّه خلاف الأولى على المعتمد عندهم - من تسبيح وتهليل وغير ذلك ، إن كان قليلاً وبالسّرّ ، ويحرم الكثير مطلقاً ، كما يحرم القليل إذا كان جهراً . والشّافعيّة والحنابلة لم يتعرّضوا للتّسبيح بخصوصه ، لكن تعرّضوا للذّكر أثناء الخطبة ، فقالوا : الأولى لغير السّامع للخطبة أن يشتغل بالتّلاوة والذّكر . وأمّا السّامع فلا يشتغل بشيء من ذلك إلاّ بالصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا سمع ذكره .
التّسبيح في افتتاح صلاة العيدين وبين تكبيرات الزّوائد فيها :
18 - الثّناء عقب تكبيرة الافتتاح في صلاة العيدين سنّة عند الحنفيّة والحنابلة ، مستحبّ عند الشّافعيّة ، وهو كما في افتتاح الصّلاة على نحو ما سبق بيانه .
والتّسبيح بين التّكبيرات الزّوائد في صلاة العيدين سنّة كذلك عند الحنفيّة والحنابلة ومستحبّ عند الشّافعيّة ، ولا يقول به المالكيّة ، بل كرهوه ، أو أنّه خلاف الأولى عندهم ، فلا يفصل الإمام بين آحاده إلاّ بقدر تكبير المؤتمّ ، بلا قول من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير .
وليس فيه عند الحنفيّة ذكر مسنون بين هذه التّكبيرات ، ولا بأس بأن يقول : سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر . وهو أولى من السّكوت ، كما في القهستانيّ .
وعند الشّافعيّة : يذكر اللّه بين كلّ تكبيرتين بالمأثور ، وهو عند الأكثرين منهم : سبحان اللّه ، والحمد للّه ، ولا إله إلاّ اللّه ، واللّه أكبر . ويجوز عند الحنابلة أن يقول بين كلّ تكبيرتين من هذه التّكبيرات : اللّه أكبر كبيراً ، والحمد للّه كثيراً ، وسبحان اللّه بكرةً وأصيلاً ، وصلّى اللّه على محمّد النّبيّ وآله وسلّم تسليماً كثيراً ، لقول عقبة بن عامر سألت ابن مسعود رضي الله عنه ممّا يقوله بين تكبيرات العيد فقال : يحمد اللّه ويثني عليه ويصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم رواه الأثرم وحرب واحتجّ به أحمد .
التّسبيح للإعلام بالصّلاة :
19 - اختلف في تسبيح المؤذّنين للإعلام بالصّلاة بين كونه بدعةً حسنةً ، أو مكروهةً على خلاف سبق في مصطلح : ( أذان ) .
صلاة التّسبيح :
20 - ورد في صلاة التّسبيح حديث اختلف في صحّته .
وللفقهاء خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح ( صلاة التّسبيح ) .
أماكن ينهى عن التّسبيح فيها :
21 - لمّا كان التّسبيح نوعاً من الذّكر ، وهو مكروه في الأماكن التّالية ، كان التّسبيح مكروهاً كذلك فيها ، لأنّ النّهي عن العامّ نهي عن الخاصّ ، وذلك تنزيهاً لاسم اللّه عن الذّكر في هذه الأماكن المستقذرة طبعاً . فيكره التّسبيح وغيره من الذّكر في الخلاء عند قضاء الحاجة ، وفي مواضع النّجاسات والقاذورات ، والمواضع الدّنسة بنجاسة أو قذارة ، وعند الجماع ، وفي الحمّام والمغتسل ، وما أشبه ذلك متى كان باللّسان . أمّا بالقلب فقط فإنّه لا يكره . وما لم تكن هناك ضرورة له كإنقاذ أعمى من الوقوع في بئر أو غيره ، أو تحذير معصوم من هلكة كغافل أو ما أشبه ذلك . والأولى التّحذير بغير التّسبيح والذّكر في مثل هذه الحالات . كما يكره الذّكر - ومنه التّسبيح - لمن يسمع صوت الخطيب في الجمعة لما تقدّم.
التّعجّب بلفظ التّسبيح :
22 - يجوز التّعجّب بلفظ التّسبيح . ففي الصّحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لقي أبا هريرة ، وأبو هريرة جنب ، فانسلّ ، فذهب فاغتسل ، فتفقّده النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلمّا جاء قال : أين كنت يا أبا هريرة ؟ قال : يا رسول اللّه لقيتني وأنا جنب ، فكرهت أن أجالسك حتّى أغتسل . فقال : سبحان اللّه ! ، إنّ المؤمن لا ينجس » . وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه « أنّ أخت الرّبيّع أمّ حارثة جرحت إنساناً ، فاختصموا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : القصاص القصاص فقالت أمّ الرّبيّع : يا رسول اللّه أتقتصّ من فلانة ؟ واللّه لا يُقْتَصُّ منها . فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : القصاص كتاب اللّه . سبحان اللّه يا أمّ الرّبيّع ! » .
التّسبيح أمام الجنازة :
23 - يكره عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لمشيّع الجنازة رفع صوته بالذّكر والتّسبيح ، لأنّه من البدع المنكرات ، ولا كراهة في ذلك لو كان في نفسه سرّاً ، بحيث يسمع نفسه ، ويستحبّ له أن يشغل نفسه بذكر اللّه والتّفكير فيما يلقاه الميّت ، وأنّ هذا عاقبة أهل الدّنيا . ويتجنّب ذكر ما لا فائدة فيه من الكلام ، فعن قيس بن عبادة رضي الله عنه أنّه قال : « كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصّوت عند الجنائز ، وعند القتال ، وعند الذّكر » ، ولأنّه تشبّه بأهل الكتاب فكان مكروهاً .
التّسبيح عند الرّعد :
24 - التّسبيح عند الرّعد مستحبّ عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، فيقول سامعه عند سماعه : سبحان من يسبّح الرّعد بحمده والملائكة من خيفته ، اللّهمّ لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا من قبل ذلك . فقد روى مالك في الموطّأ عن عبد اللّه بن الزّبير رضي الله عنهما « أنّه كان إذا سمع الرّعد ترك الحديث وقال : سبحان الّذي يسبّح الرّعد بحمده والملائكة من خيفته » ، وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « كنّا مع عمر رضي الله عنه في سفر ، فأصابنا رعد وبرق وبرد ، فقال لنا كعب رضي الله عنه : من قال حين يسمع الرّعد : سبحان من يسبّح الرّعد بحمده والملائكة من خيفته - ثلاثاً - عوفي من ذلك الرّعد ، فقلنا فعوفينا » .
قطع التّسبيح :
25 - الفقهاء متّفقون على أنّ المسبِّح وغيره من الذّاكرين ، أو التّالين لكتاب اللّه ، إذا سمعوا المؤذّن - وهو يؤذّن أذاناً مسنوناً - يقطعون تسبيحهم ، وذكرهم وتلاوتهم ، ويجيبون المؤذّن . وهو مندوب عند الجمهور . وهناك قول عند الحنفيّة بالوجوب .
ثواب التّسبيح :
26 - ثواب التّسبيح عظيم ، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه : أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من قال سبحان اللّه وبحمده في يوم مائة مرّة حُطَّتْ خطاياه ، ولو كانت مثل زبد البحر » وفي الباب أحاديث كثيرة .

تسبيل *
التّعريف :
1 - من معاني التّسبيل لغةً واصطلاحاً جعل الشّيء في سبيل اللّه . يقال : سبّل فلان ضيعته تسبيلاً : أي جعلها في سبيل اللّه ، وسبّلتُ الثّمرة : حملتها في سبيل الخير وأنواع البرّ . وفي حديث وقْفِ عمر رضي الله عنه قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إن شئتَ حبستَ أصلها وتصدّقت بها » أي : اجعلها وقفاً وأَبِحْ ثمرتها لمن وقفتها عليه . وسبّلتَ الشّيء : إذا أبحته ، كأنّك جعلت إليه طريقاً مطروقةً . وسبيل اللّه عامّ يقع على كلّ عمل خالص سلك به طريق التّقرّب إلى اللّه تعالى بأداء الفرائص والنّوافل وأنواع التّطوّعات ، وقد يطلق السّبيل على حوض الماء المباح للواردين .
وفي النّظم المستعذب في شرح غريب المهذّب تسبيل الثّمرة : أن يجعل الواقف لها سبيلاً : أي طريقاً لمصرفها . وفي كشّاف القناع : تسبيل المنفعة : أي إطلاق فوائد العين الموقوفة من غلّة وثمرة وغيرها للجهة المعيّنة تقرّباً إلى اللّه تعالى .
ويطلق التّسبيل أيضاً - اصطلاحاً - على الوقف ، يقال : سبّلت الدّار أي وقفتها .
فالتّسبيل من ألفاظ الوقف الصّريحة عند الشّافعيّة والحنابلة ، بأن يقول الواقف : سبّلت داري لسكنى فقراء بلدة كذا وساكنيها .
فلفظ التّسبيل صريح في الوقف ، لأنّه موضوع له ومعروف فيه ، وثبت له عرف الشّرع ، فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه : « إن شئت حبست أصلها وسبّلت ثمرتها » فصار هذا اللّفظ في الوقف كلفظ التّطليق في الطّلاق . وإضافة التّحبيس إلى الأصل والتّسبيل إلى الثّمرة لا يقتضي المغايرة في المعنى ، فإنّ الثّمرة محبّسة أيضاً على ما شرط صرفها إليه . وأمّا عند الحنفيّة ، لو قال الواقف : أرضي هذه للسّبيل إن تعارفوا وقفاً مؤبّداً ، كان كذلك . وإلاّ سئل فإن قال : أردت الوقف صار وقفاً ، لأنّ لفظه يحتمل ذلك ، أو قال : أردت معنى الصّدقة فهو نذر ، فيتصدّق بها أو بثمنها . وإن لم ينو كانت ميراثاً .
وأمّا المالكيّة فالّذي يظهر من كلامهم أنّ جعل الشّيء في السّبيل يقتضي التّصدّق بعينه ما لم توجد قرينة تصرفه إلى معنى وقف العين والتّصدّق بثمرتها أو منفعتها .
الحكم الإجماليّ :
2 - التّسبيل قربة مندوب إليها بالاتّفاق ، لحديث « إذا مات الإنسان انقطع عمله إلاّ من ثلاثة : إلاّ من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له » وقوله تعالى : { وافْعَلُوا الخَيرَ } وفعله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، روى عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما أنّ « عمر رضي الله عنه أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكان قد ملك مائة سهم من خيبر فقال : قد أصبتُ مالاً لم أُصِبْ مثله ، وقد أردت أن أتقرّب به إلى اللّه تعالى ، فقال إن شئت حبست أصلها وتصدّقت بها » ، وقال جابر : لم يكن أحد من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلاّ وقف وتفصيله في مصطلح ( صدقة - وقف ) .

تسجيل *
انظر : توثيق .

تسرّي *
التّعريف :
1 - التّسرّي في اللّغة : اتّخاذ السّرّيّة . يقال : تسرّى الرّجل جاريته وتسرّى بها واستسرّها : إذا اتّخذها سرّيّةً ، وهي الأمة المملوكة يتّخذها سيّدها للجماع .
وهي في الأصل منسوبة إلى السّرّ بمعنى : الجماع ، غير أنّهم ضمّوا السّين تجنّباً لحصول اللّبس ، فرقاً بينها وبين السّرّيّة وهي الحرّة الّتي يتزوّجها الرّجل سرّاً . وقيل هي من السُّرّ بمعنى الإخفاء ، لأنّ الرّجال كثيراً ما كانوا يتّخذون السّراري سرّاً ، ويخفونهنّ عن زوجاتهم الحرائر . وقيل : هي من السّرّ بالضّمّ بمعنى السّرور ، وسمّيت الجارية سرّيّةً ، لأنّها موضع سرور الرّجل ، ولأنّه يجعلها في حال تَسُرّها من دون سائر جواريه .
وفي الاصطلاح : إعداد الأمة لأن تكون موطوءةً .
2 - ويتمّ التّسرّي عند الحنفيّة بأمرين : الأوّل : أن يحصن الرّجل أمته ، والثّاني : أن يجامعها . وتحصينها : بأن يبوّئها منزلاً ويمنعها من الخروج ، فلو وطئ دون تحصين لم يثبت بذلك التّسرّي ، ولو حملت منه . والجماع بأن يجامعها فعلاً ، فلو حصّنها وأعدّها للوطء لم يثبت التّسرّي بذلك ما لم يطأ فعلاً . فإذا وطئ المحصنة ثبت التّسرّي سواء أفضى بمائه إليها أم لا ، بأن لم ينزل أصلاً ، أو أنزل وعزل . وهذا قول أبي حنيفة ومحمّد . وقال أبو يوسف ، ونقل عن الشّافعيّ : لا يتمّ التّسرّي إلاّ بأن يفضي إليها بمائه ، فلو وطئ فلم ينزل ، أو أنزل وعزل ، لم يثبت التّسرّي بذلك ، ولو حلف لا يتسرّى لم يحنث بذلك .
والمقدّم عند الحنابلة أنّ التّسرّي يثبت بوطء الأمة المملوكة غير المحرّمة على واطئها ، سواء حصّنها أم لا ، أنزل أم لا . وفي قول القاضي أبي يعلى : لا يتمّ التّسرّي إلاّ بالوطء والإنزال . ولم نجد للمالكيّة نصّاً في هذه المسألة .
وسوف يكون هذا البحث على أنّ التّسرّي هو وطء الرّجل مملوكته مطلقاً ، سواء كان مع الوطء تحصين أم لم يكن ، ليكون شاملاً لكلّ ما يتعلّق بوطء الإماء بالملك ، ولأنّ ما ذكر من الخلاف عند الحنفيّة لا يظهر أثره ، إلاّ في نحو الحنث في الحلف على التّسرّي .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - النّكاح :
3 - النّكاح : هو التّزوّج بعقد . وقد يتزوّج الرّجل أمةً لغيره ينكحه إيّاها سيّدها ، ولا يسمّى ذلك تسرّياً . ولا ينكح الحرّ الأمة إلاّ إذا خاف العنت .
ب - الحَظِيّة :
4 - الحظيّة : المرأة تنال حظوةً لدى الرّجل من بين نسائه ، سواء أكانت زوجةً أم سرّيّةً .
ج - ملك اليمين :
5 - ملك اليمين أعمّ من التّسرّي ، لأنّه قد يطأ بملك اليمين بدون تسرّ ، أمّا السّرّيّة فلا بدّ أن تكون معدّةً للوطء .
حكم التّسرّي :
6 - التّسرّي جائز بالكتاب والسّنّة والإجماع إذا تمّت شروطه كما يأتي .
أمّا الكتاب ففي مواضع منها قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا في اليَتَامَى فَانْكِحُوا ما طَابَ لكم مِن النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُم ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أو ما مَلَكَتْ أيمَانُكمْ ذلكَ أَدْنَى أَلاّ تَعُولُوا } وقوله { حُرِّمَتْ عليكم أُمَّهَاتُكم وبَنَاتُكم ... } إلى قوله : { وَالمُحْصَنَاتُ مِن النِّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أَيمانُكُم } وقوله : { والّذينَ هم لِفُروجِهم حَافِظُونَ إلاّ على أَزْوَاجِهم أو ما مَلَكَتْ أَيمَانُهم فَإِنَّهم غَيرُ مَلُومِين } قال ابن عابدين : فمن لام المتسرّي على أصل الفعل ، بمعنى : أنّك فعلت أمراً قبيحاً فهو كافر لهذه الآية ، لكن لا يكفر إن لامه على تسرّيه ، لأنّه يشقّ على زوجته أو نحو ذلك .
وأمّا السّنّة فقد { قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس لا تُوطَأُ حاملٌ حتّى تَضَعَ ، ولا غيرَ ذاتِ حَمْلٍ حتّى تحيضَ حَيْضَةً » « وأعطى حسّان بن ثابت رضي الله عنه إحدى الجواري الّتي أهداها له المقوقس ، وقال لحسّان دونَك هذه بَيِّضْ بها ولدك » .
والسّنّة الفعليّة أيضاً دالّة على جواز التّسرّي ، فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كانت له سرار : قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى : { يَا أَيُّها النَّبيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيتَ أُجُورَهُنَّ ومَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَيكَ } قال : أي وأباح لك التّسرّي ممّا أخذت من الغنائم ، وقد ملك صفيّة وجويرية رضي الله عنهما ، فأعتقهما وتزوّجهما ، وملك ريحانة بنت شمعون النّصرانيّة ومارية القبطيّة رضي الله عنهما ، وكانتا من السّراري . أي فكان يطؤهما بملك اليمين . وكذلك الصّحابة رضي الله عنهم اتّخذوا السّراري ، فكان لعمر رضي الله عنه أمّهات أولاد أوصى لكلّ واحدة منهنّ بأربعمائة درهم ، وكان لعليّ رضي الله عنه أمّهات أولاد ، وكان عليّ بن الحسين ، والقاسم بن محمّد ، وسالم بن عبد اللّه بن عمر من أمّهات الأولاد . وروي أنّ النّاس لم يكونوا يرغبون في أمّهات الأولاد حتّى ولد هؤلاء الثّلاثة ، فرغب النّاس فيهنّ .
وأجمعت الأمّة على ذلك ، واستمرّ ذلك عند المسلمين دون نكير من أحد إلى حين انتهاء الرّقّ في العصر الحديث . وقد كثر التّسرّي في العصر الأمويّ والعصر العبّاسيّ لكثرة السّبي في الفتوح ، حتّى إنّ كثيراً من نساء الخلفاء العبّاسيّين كُنّ من السّراريّ . وكثيراً منهنّ ولدن الخلفاء . هذا وليس التّسرّي خاصّاً بالأمّة الإسلاميّة ، فقد ورد « أنّ إبراهيم عليه السلام تسرّى بهاجر الّتي وهبه إيّاها ملك مصر » ، فولدت له إسماعيل عليه السلام ، وقيل : كان لسليمان عليه السلام ثلاثمائة سرّيّة ، وكان التّسرّي في الجاهليّة أيضاً .
ملك السّيّد لأمته يبيح له وطأها دون عقد :
7 - لا يحتاج وطء السّيّد لأمته إلى إنشاء عقد زواج ، ولو عقد النّكاح لنفسه على مملوكته لم يصحّ النّكاح ، ولم تكن بذلك زوجةً . قال ابن قدامة : لأنّ ملك الرّقبة يفيد ملك المنفعة وإباحة البضع ، فلا يجتمع معه عقد أضعف منه . ولو كان الحرّ متزوّجاً بأمة ، ثمّ ملك زوجته الأمة انفسخ نكاحها منه . ولا يجوز أن يتزوّج أمةً له فيها شرك .
حكمة إباحة التّسرّي :
8 - الحكمة في ذلك - بالإضافة إلى استعفاف مالك الأمة بها - أنّ في التّسرّي تحصين الإماء لكيلا يَمِلْنَ إلى الفجور ، وثبوت نسب أولادهنّ إلى السّيّد ، وكون الأولاد أحراراً . وإذا ولدت الأمة من سيّدها تكون أمّ ولد ، فتصير حرّةً عند موته كما يأتي .
حكم السّرّيّة إذا ولدت من سيّدها :
9 - إذا ولدت السّرّيّة لسيّدها استحقّت العتق بموت سيّدها بحكم الشّرع ، وتسمّى حينئذ ( أمّ ولد ) ولا يمنع ذلك من استمرار تسرّي سيّدها بها إلى أن يموت أحدهما ، ولا تباع ، ولها أحكام خاصّة ( ر : أمّ ولد ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
شروط إباحة التّسرّي :
10 - يشترط لجواز التّسرّي ما يلي :
الشّرط الأوّل : الملك . فلا يحلّ لرجل أن يطأ امرأةً في غير زواج إلاّ بأن يكون مالكاً لها ، لقوله تعالى : { والّذينَ هُمْ لِفُرُوجِهم حَافِظُونَ إلاّ على أَزْوَاجِهم أو ما مَلَكَتْ أيمانُهم فإنَّهم غيرُ مَلُومين ، فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلكَ فأولئك هُمْ العَادُون } .
وهذا الشّرط لا يحلّ لامرأة مالكة لعبد أن يطأها عبدها بملك اليمين ، ولا يعلم في ذلك خلاف. وسواء ملك السّيّد أمته بالشّراء أو الميراث أو الهبة أو بغير ذلك من وسائل كسب الملكيّة المشروعة . أمّا إن علم أنّ الأمة مسروقة أو مغصوبة فلا تحلّ له .
هذا ، ولا يحلّ للرّجل أن يطأ جاريةً له فيها شريك ، مهما قلّت نسبة ملك ذلك الشّريك فيها . قال ابن قدامة : ولا نعلم في ذلك خلافاً . وكذا لا يحلّ وطء الأمة المبعّضة ، وهي الّتي بعضها معتق وبعضها رقيق ، لأنّ الملك في الحالين غير تامّ . ومع ذلك فإذا وطئ جاريةً له فيها شرك ، فإنّه لا يحدّ للشّبهة ، لكن يعزّر ، وإن ولدت منه لحقه النّسب .
الشّرط الثّاني : أن تكون الجارية مسلمةً أو كتابيّةً إذا كان المتسرّي مسلماً . فإن كانت مجوسيّةً أو وثنيّةً لم تحلّ لسيّدها المسلم بملك اليمين ، كما لا تحلّ له بالزّواج لو كانت حرّةً ، وهذا قول جمهور الفقهاء ، واحتجّوا بقوله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حتّى يُؤْمِنَّ } .
الشّرط الثّالث : أن لا تكون ممّن يحرمن مؤبّداً أو موقّتاً ، وألاّ تكون زوجة غيره ، أو معتدّته أو مستبرأته ، ما عدا التّحريم من حيث العدد . ولمعرفة المحرّمات من غيرهنّ على التّفصيل ينظر مصطلح : ( نكاح ) . وبهذا الشّرط يعلم أنّه لا يحلّ للرّجل بملك اليمين عمّته أو خالته أو غيرهنّ من محرّمات النّسب ، ويعتقن عليه بمجرّد الشّراء . لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فهو حُرٌّ » ولا تحلّ له بملك اليمين أمّه أو أخته أو خالته من الرّضاع لو ملكهنّ - وإن لم يعتقن عليه لكونهنّ من غير ذوي الأرحام - وكذا سائر من يحرم نكاحهنّ بالرّضاعة .
وإذا وطئ الرّجل امرأةً بنكاح أو ملك يمين ، حرمت عليه أمّهاتها وبناتها .
وحرمت المرأة على أبيه وابنه ، وهو تحريم الصّهر . ويشمل ذلك التّحريم النّكاح والتّسرّي.
أمّا سائر ذوي الأرحام من بنت عمّ أو بنت خال ، وسائر من يحلّ للرّجل نكاحهنّ من غير المحارم ، فيجوز إذا كنّ في ملكه أن يطأ منهنّ على سبيل التّسرّي .
التّسرّي بأختين ونحوهما :
11 - يجوز الجمع بين الأختين أو نحوهما - كالمرأة وعمّتها أو خالتها - في ملك اليمين ، لكن إن وطئ إحداهما حرمت عليه الأخرى تحريماً موقّتاً ، فلو وطئ الثّانية أثم ، وهذا قول الجمهور ، واستدلّوا بأنّ تحريم الأختين المنصوص عليه في قوله تعالى : { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الأُخْتَين } مطلق ، فيدخل فيه التّحريم بالزّواج وبملك اليمين . وعلى قول الجمهور : تحلّ له الأخرى إن حرّم الّتي وطئها بإعتاقها وبإخراجها عن ملكه ببيع أو نحوه ، أو بتزويجها ، ولا يكفي أن يستبرئها مع بقائها في ملكه . ونقل عن قتادة : يكفيه استبراؤها .
وقالوا جميعاً : فإن كانت حاملاً لم تحلّ له الأخرى حتّى تضع الحامل حملها .
الاستبراء للأمة المتملّكة :
12 - من تملّك جاريةً غير محرّمة عليه مؤقّتاً أو مؤبّداً ، لم يحلّ له وطؤها قبل استبرائها . فلا يطؤها إن كانت حاملاً حتّى تضع حملها ، وإن كانت حائلاً فحتّى تحيض عنده حيضةً كاملةً ، ليعلم براءة رحمها من الحمل . ( ر : استبراء ) .
وإن كانت آيسةً لم يلزمه استبراؤها . ويرى المالكيّة أنّه لا حاجة إلى الاستبراء إن غلب على ظنّه براءة رحمها من الحمل . ويكفي قول مالكها أنّه قد استبرأها .
عدد السّراري والقسم لهنّ :
13 - لا يتحدّد ما يحلّ للرّجل من السّراري بأربع ولا بعدد معيّن .
ولو كان عنده من الزّوجات واحدة فأكثر إلى أربع أو لم يكن جاز له أن يتسرّى بما شاء من الجواري ، لقوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُم أَلاّ تُقْسِطُوا في اليَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لكمْ مِن النِّساءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ فإنْ خِفْتُم ألاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم ذَلك أَدْنَى ألاّ تَعُولُوا } وإذا كان عنده أكثر من سرّيّة لم يلزمه القسم بينهنّ في المبيت .
تخيّر السّراري وتحصينهنّ :
14 - يستحسن للرّجل إن أراد التّسرّي أن يتخيّر السّرّيّة ذات دين غير مائلة للفجور ، وذلك لتصون عرضه ، وأن تكون ذات جمال لأنّها أسكن لنفسه وأغضّ لبصره ، وأن تكون ذات عقل ، فيجتنب الحمقاء لأنّها لا تصلح للعشرة ، ولأنّها قد تحمل منه فينتقل ذلك إلى ولده منها . وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم « تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُم » وكلّ هذا مأخوذ من فحوى ما يذكره العلماء في تخيّر الزّوجات .
وإذا اختار السّرّيّة وجب عليه قبل وطئها - إن كان قد تملّكها في الحال - استبراؤها ، وعليه أن يحصنها بعد ذلك ، لئلاّ تلحق به ولداً ليس له .
قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه :" حصّنوا هذه الولائد ".
آثار التّسرّي :
15 - إذا ثبت التّسرّي تبعه التّحريم بالصّهر ، والمحرميّة ، ولحوق النّسب المولود ، على التّفصيل التّالي :
أوّلاً : التّحريم :
16 - إذا وطئ الرّجل امرأةً بملك اليمين حرمت عليه إلى الأبد أمّهاتها وبناتها ، وحرمت هي على آبائه وأبنائه ، لأنّ الوطء في ملك اليمين ينزل منزلة عقد النّكاح .
وحرمت عليه أختها وعمّتها وخالتها وبنت أخيها وبنت أختها مؤقّتاً كما تقدّم .
ثانياً : المحرميّة :
17 - تثبت المحرميّة بالوطء المذكور بين الواطئ وبين أمّهات الموطوءة وبناتها ، وبين الموطوءة وآبائه وأبنائه .
نسب ولد السّرّيّة :
18 - إذا وطئ الرّجل سرّيّته فأتت بولد فللفقهاء أقوال في لحوق نسب ولدها به :
القول الأوّل : أنّه يلحقه إن أمكن أن يكون منه ، بأن أتت به تامّاً لأكثر من ستّة أشهر ولأقلّ من أكثر مدّة الحمل من يوم وطئها . وهذا قول الحنابلة والمالكيّة .
فإن أتت به لأقلّ من ستّة أشهر لم يلحقه ، لأنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر . واستدلّوا لذلك بأنّ أمته صارت فراشاً له بالوطء ، فلحقه ولدها كولد الزّوجة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « الولد للفراش » وروي عن عمر رضي الله عنه أنّه قال : حصّنوا هذه الولائد ، فلا يطأ رجل وليدته ثمّ ينكر ولدها إلاّ ألزمته إيّاه . رواه سعيد بن منصور . وروى سعيد أيضاً أنّ عمر رضي الله عنه قال : أيّما رجل غشي أمته ثمّ ضيّعها فالضّيعة عليه والولد ولده .
ثمّ قال أصحاب هذا القول : إن نفى الولد عن نفسه مع ثبوت الوطء لم ينتف عنه ، إلاّ أن يدّعي أنّه استبرأها بعد الوطء ، وأتت بالولد بعد استبرائها ، بستّة أشهر فأكثر ، فينتفي الولد بذلك . وفي تحليفه على ذلك وجهان .
القول الثّاني : أنّه لا يلحقه ولو أقرّ بالوطء إلاّ أن يستلحقه ، ولا تصير الأمة فراشاً بالوطء إلاّ بالدّعوة ، أي استلحاق نسب المولود . ثمّ إذا استلحق أحد أولاد الأمة لحقه من تلدهم بعده ، لكن إن انتفى من نسب أحدهم لم يلحقه .
ولا يحرم عليه الانتفاء من نسب ولدها إن كان عزل عنها ، وهذا قول الحنفيّة .
القول الثّالث : أنّه يلحقه ، لكن لو نفاه لم يلحقه وهو قول الحسن والشّعبيّ .
وتفصيل ذلك في مصطلح : ( نسب ) .

تسعير *
التّعريف :
1 - التّسعير في اللّغة : هو تقدير السّعر . يقال : سعّرت الشّيء تسعيراً : أي جعلت له سعراً معلوماً ينتهي إليه . وسعّروا تسعيراً : أي : اتّفقوا على سعر .
والسّعر مأخوذ من سَعَرَ النّار إذا رفعها ، لأنّ السّعر يوصف بالارتفاع . ذكره الزّمخشريّ .
والتّسعير في الاصطلاح : تقدير السّلطان أو نائبه للنّاس سعراً ، وإجبارهم على التّبايع بما قدّره . وقال ابن عرفة : حدّ التّسعير : تحديد حاكم السّوق لبائع المأكول فيه قدراً للمبيع بدرهم معلوم .
وقال الشّوكانيّ : التّسعير أن يأمر السّلطان أو نوّابه أو كلّ من ولي من أمور المسلمين أمراً أهل السّوق ألاّ يبيعوا أمتعتهم إلاّ بسعر كذا ،فيمنع من الزّيادة عليه أو النّقصان إلاّ لمصلحة.
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاحتكار :
2 - الاحتكار لغةً : من الحكر ، وهو الظّلم والالتواء والعسر وسوء المعاشرة ، واحتكار الطّعام : حبسه تربّصاً لغلائه ، والحكرة : اسم من الاحتكار .
وفي الاصطلاح : اختلفت تعريفات الفقهاء فيه ، بناءً على القيود الّتي وضعها كلّ مذهب وترجع كلّها إلى حبس السّلع انتظاراً لارتفاع أثمانها . ويرجع فيه إلى مصطلح ( احتكار ) فالاحتكار مباين للتّسعير . إلاّ أنّ وجود الاحتكار ممّا يستدعي التّسعير لمقاومة الغلاء .
ب - التّثمين :
3 - التّثمين : مصدر ثمّنت الشّيء أي : جعلت له ثمناً بالحدس والتّخمين .
ج - التّقويم :
4 - تقويم الشّيء : أن يجعل له قيمةً معلومةً .
الحكم التّكليفيّ للتّسعير :
5 - اتّفق فقهاء المذاهب الأربعة على أنّ الأصل في التّسعير هو الحرمة .
أمّا جواز التّسعير فمقيّد عندهم بشروط معيّنة يأتي بيانها .
6- واستدلّ صاحب البدائع لإثبات الحرمة بالمنقول من الكتاب والسّنّة :
أمّا الكتاب : فقوله تعالى : { يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ إلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عنْ تَرَاضٍ مِنْكُم } . فاشترطت الآية التّراضي ، والتّسعير لا يتحقّق به التّراضي . وأمّا السّنّة : فقوله عليه الصلاة والسلام : « لا يَحِلُّ مالُ امْرئٍ مسلم إلاّ بطيب نفس منه » . واستدلّ صاحب المغني بما روى أنس رضي الله عنه قال : « غلا السّعر في المدينة على عهد رسول اللّه صلّى صلى الله عليه وسلم فقال النّاس : يا رسول اللّه : غلا السّعر فسعّر لنا ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّ اللّه هو المسعّر القابض الباسط الرّازق ، إنّي لأرجو أن ألقى اللّه وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال » .
قال ابن قدامة والدّلالة من وجهين :
1 - أنّه صلى الله عليه وسلم لم يسعّر ، وقد سألوه ذلك ، ولو جاز لأجابهم إليه .
2 - أنّه علّل بكونه مظلمةً والظّلم حرام . وبما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه" أنّه مرّ بحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وهو يبيع زبيباً له في السّوق ، فقال له : إمّا أن تزيد في السّعر ، وإمّا أن ترفع من سوقنا ، فلمّا رجع عمر حاسب نفسه ، ثمّ أتى حاطباً في داره ، فقال له : إنّ الّذي قلت لك ليس بعزيمة منّي ولا قضاء ، إنّما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد ، فحيث شئت فبع ، وكيف شئت فبع ".
7- واستدلّوا بالمعقول : وهو أنّ للنّاس حرّيّة التّصرّف في أموالهم ، والتّسعير حجر عليهم ، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين ، وليس نظره لمصلحة المشتري برخص الثّمن أولى من نظره لمصلحة البائع بتوفير الثّمن . والثّمن حقّ العاقد فإليه تقديره .
ثمّ إنّ التّسعير سبب الغلاء والتّضييق على النّاس في أموالهم ، لأنّ الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا بسلعهم بلداً يكرهون على بيعها فيه بغير ما يريدون ، ومن عنده البضاعة يمتنع من بيعها ويكتمها ، ويطلبها أهل الحاجة إليها ، فلا يجدونها إلاّ قليلاً ، فيرفعون في ثمنها ليصلوا إليها ، فتغلو الأسعار ويحصل الإضرار بالجانبين ، جانب المشتري في منعه من الوصول إلى غرضه ، وجانب الملّاك في منعهم من بيع أملاكهم ، فيكون حراماً .
شروط جواز التّسعير :
8 - تقدّم أنّ الأصل منع التّسعير ، ومنع تدخّل وليّ الأمر في أسعار السّلع ، إلاّ أنّ هناك حالات يكون للحاكم بمقتضاها حقّ التّدخّل بالتّسعير ، أو يجب عليه التّدخّل على اختلاف الأقوال . وهذه الحالات هي :
أ - تعدّي أرباب الطّعام عن القيمة تعدّياً فاحشاً :
9 - وفي هذه الحالة صرّح فقهاء الحنفيّة بأنّه يجوز للحاكم أن يسعّر على النّاس إن تعدّى أرباب الطّعام عن القيمة تعدّياً فاحشاً ، وعجز عن صيانة حقوق المسلمين إلاّ بالتّسعير ، وذلك بعد مشورة أهل الرّأي والبصيرة ، وهو المختار ، وبه يفتى ، لأنّ فيه صيانة حقوق المسلمين عن الضّياع ، ودفع الضّرر عن العامّة .
والتّعدّي الفاحش كما عرّفه الزّيلعيّ وغيره هو البيع بضعف القيمة .
ب - حاجة النّاس إلى السّلعة :
10 - وفي هذا المعنى قال الحنفيّة : لا ينبغي للسّلطان أن يسعّر على النّاس ، إلاّ إذا تعلّق به دفع ضرر العامّة ، كما اشترط المالكيّة وجود مصلحة فيه ، ونسب إلى الشّافعيّ مثل هذا المعنى . وكذا إذا احتاج النّاس إلى سلاح للجهاد ، فعلى أهل السّلاح بيعه بعوض المثل ، ولا يمكّنون من أن يحبسوا السّلاح حتّى يتسلّط العدوّ ، أو يبذل لهم من الأموال ما يختارون . ويقول ابن تيميّة : إنّ لوليّ الأمر أن يكره النّاس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة النّاس إليه ، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه ، والنّاس في مَخْمَصة ، فإنّه يجبر على بيعه للنّاس بقيمة المثل . ولهذا قال الفقهاء : من اضطرّ إلى طعام الغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة مثله ، ولو امتنع من بيعه إلاّ بأكثر من سعره لم يستحقّ إلاّ سعره .
والأصل في ذلك حديث العتق ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : « من أعتق شركاً له في عبد ، فكان له من المال يبلغ ثمن العبد ، قوّم عليه قيمة العدل ، فأعطى شركاءه حصصهم ، وعتق عليه العبد وإلاّ فقد عتق منه ما عتق » ويقول ابن القيّم : إنّ هذا الّذي أمر به النّبيّ " صلى الله عليه وسلم من تقويم الجميع ( أي جميع العبد ) قيمة المثل هو حقيقة التّسعير ، فإذا كان الشّارع يوجب إخراج الشّيء عن ملك مالكه بعوض المثل لمصلحة تكميل العتق ، ولم يمكّن المالك من المطالبة بالزّيادة على القيمة ، فكيف إذا كانت الحاجة بالنّاس إلى التّملّك أعظم ، مثل حاجة المضطرّ إلى الطّعام والشّراب واللّباس وغيره .
ج - احتكار المنتجين أو التّجّار :
11 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الاحتكار حرام في الأقوات ، كما أنّه لا خلاف بينهم في أنّ جزاء الاحتكار هو بيع السّلع المحتكرة جبراً على صاحبها بالثّمن المعقول مع تعزيره ومعاقبته ، على التّفصيل المتقدّم بيانه في مصطلح ( احتكار ) .
وما تحديد الثّمن المعقول من جانب وليّ الأمر إلاّ حقيقة التّسعير ، وهذا توجيه صرّح به ابن تيميّة . في حين اعتبر بعض الفقهاء المحتكر ممّن لا يسعّر عليه كما سيأتي .
د - حصر البيع لأناس معيّنين :
12 - صرّح ابن تيميّة بأنّه لا تردّد عند أحد من العلماء في وجوب ردّ التّسعير في حالة إلزام النّاس أن لا يبيع الطّعام أو غيره إلاّ أناس معروفون ، فهنا يجب التّسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلاّ بقيمة المثل ، ولا يشترون إلاّ بقيمة المثل . لأنّه إذا كان قد منع غيرهم أن يبيع ذلك النّوع أو يشتريه ، فلو سوّغ لهم أن يبيعوا بما اختاروا ، أو يشتروا بما اختاروا لكان ذلك ظلماً للبائعين الّذين يريدون بيع تلك الأموال ، وظلماً للمشترين منهم . فالتّسعير في مثل هذه الحالة واجب بلا نزاع ، وحقيقة إلزامهم أن لا يبيعوا أو لا يشتروا إلاّ بثمن المثل .
هـ – تواطؤ البائعين ضدّ المشترين أو العكس :
13 - إذا تواطأ التّجّار أو أرباب السّلع على سعر يحقّق لهم ربحاً فاحشاً ، أو تواطأ مشترون على أن يشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتّى يهضموا سلع النّاس يجب التّسعير ، وهذا ما اختاره ابن تيميّة ، وأضاف قائلاً : ولهذا منع غير واحد من العلماء - كأبي حنيفة وأصحاب- القسّام الّذين يقسمون بالأجر أن يشتركوا ، فإنّهم إذا اشتركوا ، والنّاس محتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجر ، فمنع البائعين - الّذين تواطئوا على أن لا يبيعوا إلاّ بثمن قدّروه - أولى ، وكذلك منع المشترين إذا تواطئوا على أن يشتركوا فيما يشتريه أحدهم ، حتّى يهضموا سلع النّاس أولى . لأنّ إقرارهم على ذلك معاونة لهم على الظّلم والعدوان . وقد قال تعالى : { وَتَعَاوَنُوا على البِرِّ والتَّقْوَى ولا تَعَاوَنُوا على الإِثْمِ والعُدْوَانِ } .
و - احتياج النّاس إلى صناعة طائفة :
14 - وهذا ما يقال له التّسعير في الأعمال : وهو أن يحتاج النّاس إلى صناعة طائفة كالفلاحة والنّساجة والبناء وغير ذلك ، فلوليّ الأمر أن يلزمهم بذلك بأجرة المثل إذا امتنعوا عنه ، ولا يمكّنهم من مطالبة النّاس بزيادة عن عوض المثل ، ولا يمكّن النّاس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقّهم .
15 - وخلاصة رأي ابن تيميّة وابن القيّم أنّه إذا لم تتمّ مصلحة إلاّ بالتّسعير سعّر عليهم السّلطان تسعير عدل بلا وكس ولا شطط ، وإذا اندفعت حاجتهم ، وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل . وهذا يدلّ على أنّ الحالات المذكورة ليست حصراً للحالات الّتي يجب فيها التّسعير ، بل كلّما كانت حاجة النّاس لا تندفع إلاّ بالتّسعير ، ولا تتحقّق مصلحتهم إلاّ به كان واجباً على الحاكم حقّاً للعامّة ، مثل وجوب التّسعير على الوالي عام الغلاء كما قال به مالك ، وهو وجه للشّافعيّة أيضاً .
الصّفة الواجب توافرها في التّسعير :
16 - إنّ المتتبّع للنّصوص الفقهيّة وآراء الفقهاء يجد أنّه لا بدّ لفرض التّسعير من تحقّق صفة العدل ، إذ لا يكون التّسعير محقّقاً للمصلحة إلاّ إذا كانت فيه المصلحة للبائع والمبتاع ، ولا يمنع البائع ربحاً ، ولا يسوّغ له منه ما يضرّ بالنّاس .
ولهذا اشترط مالك عندما رأى التّسعير على الجزّارين أن يكون التّسعير منسوباً إلى قدر شرائهم ، أي أن تراعى فيه ظروف شراء الذّبائح ، ونفقة الجزارة ، وإلاّ فإنّه يخشى أن يقلعوا عن تجارتهم ، ويقوموا من السّوق .
وهذا ما أعرب عنه القاضي أبو الوليد الباجيّ من أنّ التّسعير بما لا ربح فيه للتّجّار يؤدّي إلى فساد الأسعار ، وإخفاء الأقوات وإتلاف أموال النّاس .
كيفيّة التّسعير :
17 - تعرّض جمهور الفقهاء القائلون بجواز التّسعير لبيان كيفيّة تعيين الأسعار ، وقالوا : ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشّيء ، ويحضر غيرهم استظهاراً على صدقهم ، وأن يسعّر بمشورة أهل الرّأي والبصيرة ، فيسألهم كيف يشترون وكيف يبيعون ؟ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامّة سداد حتّى يرضوا به .
قال أبو الوليد الباجيّ : ووجه ذلك أنّه بهذا يتوصّل إلى معرفة مصالح الباعة والمشترين ، ويجعل للباعة في ذلك من الرّبح ما يقوم بهم ، ولا يكون فيه إجحاف بالنّاس .
ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقول لهم : لا تبيعوا إلاّ بكذا ربحتم أو خسرتم من غير أن ينظر إلى ما يشترون به . وكذلك لا يقول لهم : لا تبيعوا إلاّ بمثل الثّمن الّذي اشتريتم به .
ما يدخله التّسعير :
18 - اختلف الفقهاء في تحديد الأشياء الّتي يجري فيها التّسعير على الأصل المشار إليه في حكمه التّكليفيّ .
فذهب الشّافعيّة في الأظهر عندهم - وهو قول القهستانيّ الحنفيّ - إلى أنّ التّسعير يجري في القوتين ( قوت البشر ، وقوت البهائم ) وغيرهما ، ولا يختصّ بالأطعمة وعلف الدّوابّ .
واستظهر ابن عابدين - بناءً على قول أبي حنيفة في الحجر للضّرر ، وقول أبي يوسف في الاحتكار - جواز تسعير ما عدا القوتين أيضاً كاللّحم والسّمن رعايةً لمصلحة النّاس .
وهناك قول آخر للحنفيّة صرّح به العتّابيّ والحسّاس وغيرهما ، وهو أنّ التّسعير يكون في القوتين فقط . وعليه اختيار ابن تيميّة ، فلم يقصر التّسعير على الطّعام ، بل ذكره كمثال كما سبق . وانتهج ابن القيّم منهج ابن تيميّة في هذا الباب ، وأطلق جواز التّسعير للسّلع أيّاً كانت ، ما دامت لا تباع على الوجه المعروف وبقيمة المثل .
وأوجب الشّيخ تقيّ الدّين إلزام أهل السّوق المعاوضة بثمن المثل ، وقال : إنّه لا نزاع فيه ، لأنّه مصلحة عامّة لحقّ اللّه تعالى ، ولا تتمّ مصلحة النّاس إلاّ بها كالجهاد . ثمّ يقول صاحب مطالب أولي النّهى : وهو إلزام حسن في مبيع ثمنه معلوم بين النّاس لا يتفاوت كموزون ونحوه . وعند المالكيّة قولان كذلك :
القول الأوّل : يكون التّسعير في المكيل والموزون فقط طعاماً كان أو غيره ، وأمّا غير المكيل والموزون فلا يمكن تسعيره لعدم التّماثل فيه ، وهو قول ابن حبيب .
قال أبو الوليد الباجيّ : هذا إذا كان المكيل والموزون متساويين ، أمّا إذا اختلفا لم يؤمر صاحب الجيّد أن يبيعه بمثل سعر ما هو أدون ، لأنّ الجودة لها حصّة من الثّمن كالمقدار .
القول الثّاني : يكون التّسعير في المأكول فقط وهو قول ابن عرفة .
من يسعّر عليه ومن لا يسعّر عليه :
19 - من يسعّر عليهم هم أهل الأسواق . وأمّا من لا يسعّر عليهم فهم :
أوّلاً : الجالب :
20 - ذهب الحنفيّة والحنابلة وأكثر المالكيّة ، وهو قول لدى الشّافعيّة أيضاً إلى : أنّ الجالب لا يسعّر عليه إلاّ إذا خيف الهلاك على النّاس ، فيؤمر الجالب أن يبيع طعامه من غير رضاه ، وروي أيضاً عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما ، والقاسم بن محمّد ، وسالم بن عبد اللّه عدم جواز التّسعير على الجالب . وقال ابن حبيب من المالكيّة يسعّر عليه فيما عدا القمح والشّعير ، وأمّا جالبهما فيبيع كيف شاء .
وكذلك جالب الزّيت والسّمن واللّحم والبقل والفواكه وما أشبه ذلك ممّا يشتريه أهل السّوق من الجالبين ، فهذا أيضاً لا يسعّر على الجالب ولا يقصد بالتّسعير ، ولكنّه إذا استقرّ أمر أهل السّوق على سعر قيل له : إمّا أن تلحق به ، وإلاّ فاخرج .
ثانياً : المحتكر :
21 - مذهب الحنفيّة أنّه لا يسعّر على المحتكر بل يؤمر بإخراج طعامه إلى السّوق ، ويبيع ما فضل عن قوت سنة لعياله كيف شاء ، لا يسعّر عليه ، سواء أكانوا تجّاراً ، أم زرّاعاً لأنفسهم . وقال محمّد بن الحسن : يجبر المحتكر على بيع ما احتكر ولا يسعّر عليه ، ويقال له : بع كما يبيع النّاس ، وبزيادة يتغابن في مثلها ، ولا أتركه يبيع بأكثر .
ثالثاً : من يبيع في غير دكّان :
22 - قال صاحب التّيسير : لا يسعّر على من يبيع في غير دكّان ولا حانوت يعرض للخاصّ والعامّ ، ولا على بائع الفواكه والذّبائح وجميع أهل الحرف والصّنائع ، والمتسبّبين من حمّال ودلال وسمسار وغيرهم ، ولكنّه ينبغي للوالي أن يقبض من أهل كلّ صنعة ضامناً أميناً ، وثقةً ، وعارفاً بصنعته خبيراً بالجيّد والرّديء من حرفته يحفظ لجماعته ما يجب أن يحفظ من أمورهم ، ويجري أمورهم على ما يجب أن تجري ، ولا يخرجون عن العادة فيما جرت فيه العادة في صنعتهم .
أمر الحاكم بخفض السّعر ورفعه مجاراةً لأغلب التّجّار :
23 - قال الباجيّ : السّعر الّذي يؤمر من حطّ عنه أن يلحق به هو السّعر الّذي عليه جمهور النّاس ، فإذا انفرد عنهم الواحد أو العدد اليسير بحطّ السّعر ، أمر من حطّه باللّحاق بسعر النّاس أو ترك البيع ، وإن زاد في السّعر واحد أو عدد يسير لم يؤمر الجمهور باللّحاق بسعره ، أو الامتناع من البيع ، لأنّ من باع به من الزّيادة ليس بالسّعر المتّفق عليه ، ولا بما تقام به المبيعات ، وإنّما يراعي في ذلك حال الجمهور ومعظم النّاس .
مخالفة التّسعير
أ - حكم البيع مع مخالفة التّسعير :
24 - ذهب الحنفيّة والحنابلة ، والشّافعيّة - في الأصحّ - إلى أنّ من خالف التّسعير صحّ بيعه ، إذ لم يعهد الحجر على الشّخص في ملكه أن يبيع بثمن معيّن . ولكن إذا سعّر الإمام وخاف البائع أن يعزّره الإمام لو نقص عمّا سعّره ، فصرّح الحنفيّة أنّه لا يحلّ للمشتري الشّراء بما سعّره الإمام ، لأنّه في معنى المكره ، وينبغي أن يقول : بعني بما تحبّ ، ليصحّ البيع . وصحّة البيع مع مخالفة التّسعير متبادر من كلام المالكيّة أيضاً ، لأنّهم يقولون : ومن زاد في سعر أو نقص منه أمر بإلحاقه بسعر النّاس ، فإن أبي أخرج من السّوق .
ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة بطلان البيع . لكن عند الحنابلة إن هدّد المشتري البائع المخالف للتّسعير بطل البيع ، لأنّه صار محجوراً عليه لنوع مصلحة ، ولأنّ الوعيد إكراه .
ب - عقوبة المخالف :
25 - صرّح الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة بأنّ الإمام له أن يعزّر من خالف التّسعير الّذي رسمه ، لما فيه مجاهرة الإمام بالمخالفة .
وسئل أبو حنيفة عن متولّي الحسبة إذا سعّر البضائع بالقيمة ، وتعدّى بعض السّوقيّة ، فباع بأكثر من القيمة ، هل له أن يعزّره على ذلك ؟ فأجاب : إذا تعدّى السّوقيّ وباع بأكثر من القيمة يعزّره على ذلك .
وأمّا قدر التّعزير ، وكيفيّته ، فمفوّض إلى الإمام أو نائبه ، وقد يكون الحبس أو الضّرب ، أو العقوبة الماليّة ، أو الطّرد من السّوق وغير ذلك . هذا كلّه في الحالات الّتي يجوز فيها التّسعير . أمّا حيث لا يجوز التّسعير عند من لا يراه فلا عقوبة على مخالف التّسعير .

تسلّم *
انظر : تسليم .

تسليف *
التّعريف :
1 - من معاني التّسليف في اللّغة : التّقديم ، وهو مصدر سلّف . يقال : سلّفت إليه وتسلّف منه كذا واستسلف : اقترض أو أخذ السّلف ، والسّلف : القرض والسّلم .
وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من أسلف فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، إلى أجل معلوم » . والسّلف في المعاملات : القرض الّذي لا منفعة فيه للمقرض غير الأجر والشّكر ، وعلى المقترض ردّه كما أخذه .
والسّلف : نوع من البيوع يعجّل فيه الثّمن وتضبط السّلعة بالوصف إلى أجل معلوم .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ المتقدّم . فقد ورد أنّ السّلف أو السّلم : بيع شيء موصوف في الذّمّة ، يتقدّم فيه رأس المال ، ويتأخّر المثمّن لأجل .
الحكم الإجماليّ :
2 - السّلف جائز بالكتاب والسّنّة والإجماع . أمّا الكتاب ، فقوله تعالى { يا أَيُّها الّذينَ آمَنُوا إذا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوه } قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : أشهد أنّ السّلف المضمون إلى أجل مسمًّى قد أحلّه اللّه تعالى في كتابه وأذن فيه ، ثمّ قرأ الآية .
وأمّا السّلف الّذي بمعنى السّلم فقد ثبت بالسّنّة والإجماع ، ففي حديث ابن عبّاس « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ، وهم يسلفون في الثّمار ، السّنة والسّنتين والثّلاث ، فقال : من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ».
وأمّا الإجماع ، فقال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ السّلم جائز ، ولأنّ المثمّن في البيع أحد عوضي العقد فجاز أن يثبت في الذّمّة كالثّمن ، ولأنّ بالنّاس حاجةً إليه - لأنّ أرباب الزّروع والثّمار والتّجارات يحتاجون إلى النّفقة على أنفسهم أو على الزّروع ونحوها حتّى تنضج - فجوّز لهم السّلم دفعاً للحاجة .
وقد استثني عقد السّلم من قاعدة عدم جواز بيع المعدوم لما فيه من مصلحة للنّاس ، رخصةً لهم وتيسيراً عليهم . وينظر التّفصيل في مصطلح : ( سلم ) .
3 - والسّلف - بمعنى القرض - ثابت بالكتاب في آية المداينة السّابقة ، وبالسّنّة فيما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من أقرض مرّتين كان له مثل أجر أحدهما لو تصدّق به » .
وأجمع المسلمون على جواز القرض ، وهو قربة مندوب إليها ، مباح للمقترض ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من نَفَّسَ عن مؤمن كُرْبةً من كُرَبِ الدّينا نفّس اللّه عنه كربةً من كرب يوم القيامة ، ومن يَسَّرَ على مُعْسِرٍ يسّر اللّه عليه في الدّنيا والآخرة .. واللّه في عونِ العبدِ ما كان العبد في عونِ أخيه » .
والتّفصيل موطنه مصطلح ( قرض ) .

تسليم *
التّعريف :
1 - من معاني التّسليم في اللّغة : التّوصيل ، يقال سلّم الوديعة لصاحبها : إذا أوصلها فتسلّم ذلك ، وأسلم إليه الشّيء : دفعه . ومنه السَّلَم ، وتسلّم الشّيء : قبضه وتناوله . وسلّمت إليه الشّيء فتسلَّمه : أي أخذه . وسلّم الشّيء لفلان : أي خلّصه . وسلّمه إليه : أعطاه إيّاه . وسلّم الأجير نفسه للمستأجر : مكّنه من منفعة نفسه حيث لا مانع .
والتّسليم بذل الرّضى بالحكم .
والتّسليم : السّلام ، وسلّم المصلّي : خرج من الصّلاة بقوله : السّلام عليكم . وسلّم على القوم : حيّاهم بالسّلام ، وسلّم : ألقى التّحيّة ، وسلّم عليه : قال له : سلام عليك .
ولا يخرج معنى التّسليم في اصطلاح الفقهاء عن المعاني المذكورة .
حكمه التّكليفيّ :
يختلف حكم التّسليم باختلاف أنواعه .
أ - التّسليم بمعنى التّحيّة :
2 - ابتداء السّلام سنّة مؤكّدة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « أَفْشُوا السَّلامَ بينكم » ويستحبّ مراعاة صيغة الجمع ، وإن كان المسلّم عليه واحداً ، أخذاً بالنّصّ الوارد في ذلك ، ولأنّه يقصد مع الواحد الملائكة . ويجب الرّدّ إن كان السّلام على واحد .
وإن سلّم على جماعة فالرّدّ في حقّهم فرض كفاية ، فإن ردّ أحدهم سقط الحرج عن الباقين ، وإن ردّ الجميع كانوا مؤدّين للفرض ، سواء ردّوا معاً أو متعاقبين ، فإن امتنعوا كلّهم أَثِمُوا لخبر ، « حقُّ المسلم على المسلم خمس : ردّ السّلام ... »
ويشترط في ابتداء السّلام رفع الصّوت بقدر ما يحصل به الإسماع ، ويجب أن يكون الرّدّ متّصلاً بالسّلام ، والزّيادة على صيغة ابتداء السّلام في الرّدّ أفضل ، ويسنّ ابتداء السّلام عند الإقبال والانصراف ، لخبر : « إنّ أولى النّاس باللّه من بدأهم بالسّلام » ولقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا لقي أحدكم أخاه فليسلّم عليه ، فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ، ثمّ لقيه ، فليسلّم عليه » ( ر : سلام وتحيّة ) .
ب - التّسليم للخروج من الصّلاة :
3 - التّسليمة الأولى للخروج من الصّلاة حال القعود فرض عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . وزاد الحنابلة فرضيّة الثّانية أيضاً إلاّ في صلاة جنازة ونافلة ، لأنّ الجزء الأخير من الجلوس الّذي يوقع فيه السّلام فرض .
ولا بدّ من نطق : " السّلام عليكم " بالعربيّة بتقديم " السّلام " وتأخير " عليكم " وهذا للقادر على العربيّة ، ولا يكفي الخروج بالنّيّة ولا بمرادفها من لغة أخرى ، وأمّا العاجز عن العربيّة فيجب عليه الخروج بالنّيّة قطعاً ، وإن أتى بمرادفها بالعجميّة صحّ على الأظهر ، قياساً على الدّعاء بالعجميّة للقادر على العربيّة . والأفضل كون السّلام معرّفاً بأل .
لخبر « تحريمها التّكبير وتحليلها التّسليم » فقوله : « تحليلها التّسليم » أي لا يخرج من الصّلاة إلاّ به ، ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « كان يسلّم من صلاته عن يمينه : السّلام عليكم ورحمة اللّه حتّى يُرى بياضُ خدّه الأيمن ، وعن يساره : السّلام عليكم ورحمة اللّه حتّى يُرى بياضُ خدّه الأيسر » . ولحديث عامر بن سعد عن أبيه قال : « كنت أرى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسلّم عن يمينه وعن يساره حتّى أرى بياض خدّه » ولأنّه صلى الله عليه وسلم كان يديم ذلك ولا يخلّ به وقال : « صَلُّوا كما رأيتموني أصلّي » .
وأقلّ ما يجزئ في التّسليم عند الشّافعيّة والحنابلة قوله : " السّلام عليكم " مرّةً عند الشّافعيّة ، ومرّتين عند الحنابلة كما سبق ، وأكمله " السّلام عليكم ورحمة اللّه " يميناً وشمالاً ملتفتاً في الأولى حتّى يرى خدّه الأيمن ، وفي الثّانية حتّى يرى خدّه الأيسر ، ناوياً السّلام عمّن عن يمينه ويساره من ملائكة وإنس وصالح الجنّ .
وينوي الإمام أيضاً - زيادةً على ما سبق - السّلام على المقتدين ، وهم ينوون الرّدّ عليه وعلى من سلّم عليهم من المؤمنين ، فينويه المقتدون عن يمين الإمام عند الشّافعيّة بالتّسليمة الثّانية ، وعن يساره بالتّسليمة الأولى . ولحديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : « أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نردّ على الإمام ، وأن نتحابّ ، وأن يسلّم بعضنا على بعض » وقال الحنفيّة : الخروج من الصّلاة بلفظ السّلام ليس فرضاً ، بل هو واجب . لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا علّم ابن مسعود رضي الله عنه التّشهّد قال له : إذا قلتَ هذا فقد قضيت صلاتك ، إن شئت أن تقوم فقم ، وإن شئت أن تقعد فاقعد » فلم يأمره بالخروج من الصّلاة بالسّلام ، وأيضاً فإنّ الفرض في آخر الصّلاة هو القعود بمقدار التّشهّد عندهم . لخبر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أحدث - يعني الرّجل - وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلّم فقد جازت صلاته » .
والواجب عندهم تسليمتان : الأولى عن يمينه ، فيقول : " السّلام عليكم ورحمة اللّه " ويسلّم عن يساره كذلك ، لما روى ابن مسعود رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسلّم عن يمينه حتّى يبدو بياض خدّه وعن يساره حتّى يبدو بياض خدّه » . وينوي في التّسليمة الأولى التّسليم على من على يمينه من الرّجال والنّساء والحفظة ،وكذلك في الثّانية.
وأقلّ ما يجزئ في لفظ السّلام مرّتين عند الحنفيّة " السّلام " دون قوله " عليكم " .
وأكمله وهو السّنّة أن يقول : " السّلام عليكم ورحمة اللّه " مرّتين .
وتنقضي الصّلاة بالسّلام الأوّل عند الحنفيّة . والتّفصيل في مصطلح : ( صلاة ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ج - التّسليم بمعنى التّمكين من القبض :
4 - التّسليم ، أو القبض معناه عند الحنفيّة : التّخلية أو التّخلّي ، وهو أن يخلّي البائع بين المبيع والمشتري برفع الحائل بينهما على وجه يتمكّن والمشتري من التّصرّف فيه ، بحيث لا ينازعه فيه غيره ، وهذا يحصل بالتّخلية ، فيجعل البائع مسلّماً للمبيع والمشتري قابضاً له ، فكانت التّخلية تسليماً من البائع ، والتّخلّي قبضاً من المشتري .
وكذا هذا في تسليم الثّمن إلى البائع ، لأنّ التّسليم واجب ، ومن عليه الواجب لا بدّ أن يكون له سبيل الخروج من عهدة ما وجب عليه ، والّذي في وسعه هو التّخلية ورفع الموانع .
والقبض يتمّ بطريق التّخلية ، وهي أن يتمكّن المشتري من المبيع بلا مانع - أي بأن يكون مفرزاً ولا حائل - في حضرة البائع مع الإذن له بالقبض .
فقبض العقار عند الجميع - كالأرض وما فيها من بناء ونخل ونحوهما - يكون بالتّخلية بين المبيع وبين المشتري وتمكينه من التّصرّف فيه ، وذلك بتسليم المفاتيح إن وجدت بشرط الفراغ من الأمتعة ، إن كان شراء العقار للسّكن - عند الحنفيّة والمالكيّة - وقبض المنقول كالأمتعة ، والأنعام والدّوابّ بحسب العرف الجاري بين النّاس عند الإطلاق ، فالثّوب قبضه باحتيازه ، والحيوان بتمشيته من مكانه ، وقبض الموزون بوزنه ، وقبض المكيل بكيله ، إذا بيعا كيلاً ووزناً . وزاد المالكيّة : تفريغه في أوعية المشتري ، حتّى لو هلك قبل التّفريغ في أوعية المشتري كان الضّمان على البائع عندهم .
وهذا : لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا بِعْتَ فَكِلْ ، وإذا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ » وعن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه « نهى عن بيع الطّعام حتّى يجري فيه الصّاعان : صاع البائع وصاع المشتري » .
وإن بيع جزافاً فقبضه نقله عند الحنابلة ، وعند الحنفيّة قبضه بالتّخلية . ( ر : قبض ) .
التّسليم في العقود يشمل ما يلي :
أ - التّسليم في البيع :
5 - التّسليم في البيع يكون بتسليم المبيع والثّمن ،لأنّ المقصود من البيع لا يتحقّق إلاّ بذلك. ومن يجب عليه التّسليم أوّلاً ، يختلف بحسب نوع البدلين ، وهو كالآتي : إن كان البيع بيع عين بعين ، واختلفا فيمن يسلّم أوّلاً ، يجب على العاقدين التّسليم معاً تحقيقاً للمساواة في المعاوضة المقتضية للمساواة عادةً المطلوبة بين العاقدين ، إذ ليس أحدهما بالتّقديم أولى من الآخر ، فيجعل بينهما عدل يقبض من كلّ منهما ويسلّم الآخر .
والحكم كذلك إن تبايعا ديناً بدين ، كما في عقد الصّرف ، وهذا مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وأحد قولي الشّافعيّة . وإن كان بيع عين بدين ، فيجب على المشتري عند الحنفيّة والمالكيّة ، وهو القول الثّاني عند الشّافعيّة تسليم الثّمن - أي الدّين أوّلاً -
والمذهب عند الشّافعيّة والحنابلة : وجوب تسليم المبيع أوّلاً ، واستثنى الجميع من ذلك أمرين : أوّلهما : السّلم فيه لأنّه دين مؤجّل .
والثّاني : الثّمن المؤجّل ، فإن كان عيناً أو عرضاً بعرض جعل بينهما عدل - عند الجمهور - ، فيقبض منهما ، ثمّ يسلّم إليهما ، وهذا قول الثّوريّ وأحد قولي الشّافعيّ ، لأنّ تسليم المبيع يتعلّق به استقرار البيع ، وتمامه فكان تقديمه أولى ، سيّما مع تعلّق الحكم بعينه ، وتعلّق حقّ البائع بالذّمّة ، وتقديم ما يتعلّق بالعين أولى لتأكّده .
ومذهب الحنفيّة أنّهما يسلّمان معاً .
ب - تسليم المعقود عليه في الرّبويّات :
6 - تسليم المعقود عليه في الرّبويّات حرام ، لأنّ عقد الرّبا حرام .
والتّفصيل في مصطلح : ( رباً ) .
ت - التّسليم في السّلم :
7 - اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ الثّمن في السّلم إن كان ديناً في الذّمّة - سواء أكان عيناً ( سلعةً معيّنةً ) أم نقوداً - فلا بدّ من تسليمه في مجلس العقد قبل التّفرّق ، ولو طال المجلس . وإذا قاما من المجلس يمشيان ، ثمّ قبض المسلم إليه رأس السّلم بعد مسافة ، فإنّه يصحّ إن لم يتفرّقا . وكذا إذا تعاقدا ثمّ قام ربّ السّلم - المشتري - ليحضر الثّمن من داره ، فإن لم يغب شخصه عن المسلم إليه - البائع - يصحّ وإلاّ فلا ، لأنّ المسلم فيه دين في الذّمّة ، فلو أخّر تسليم رأس مال السّلم عن مجلس العقد لكان التّسليم في معنى مبادلة الدّين بالدّين ، وقد « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ » ولأنّ تسمية هذا العقد دليل على هذا الشّرط ، فإنّه يسمّى سلماً وسلفاً ، والسّلم ينبئ عن التّسليم ، والسّلف ينبئ عن التّقدّم ، فيقتضي لزوم تقديم رأس المال ، ويقدّم قبضه على قبض المسلم فيه ، ولأنّ في السّلم غرراً - أي تعريضاً للهلاك أو على خطر الوجود - فلا يضمّ إليه غرر تأخير رأس المال .
وقال الحنابلة : يقوم مقام القبض ما كان في معناه ، كما إذا كان عند المسلم إليه أمانة أو عين مغصوبة ، فإنّه يصحّ أن يجعلها صاحب السّلم رأس مال ما دامت ملكاً له ، لأنّ ذلك في معنى القبض .
واشترط الشّافعيّة أن يكون قبض رأس المال في المجلس قبضاً حقيقيّاً ، فلا تنفع فيه الحوالة ، ولو قبضه من المحال عليه في المجلس ، لأنّ المحال عليه ما دفعه عن نفسه إلاّ إذا قبضه ربّ السّلم وسلّمه بنفسه للمسلم إليه .
ومذهب المالكيّة اشتراط قبض رأس المال كلّه ، ويجوز تأخير قبضه إلى ثلاثة أيّام فأقلّ ، ولو بشرط في العقد سواء أكان رأس المال عيناً أو ديناً ، لأنّ السّلم معاوضة لا يخرج بتأخير قبض رأس المال عن أن يكون سلماً ، فأشبه ما لو تأخّر إلى آخر المجلس ، وكلّ ما قارب الشّيء يعطى حكمه ، ولا يكون له بذلك حكم الكالئ ، فإن أخّر رأس المال عن ثلاثة أيّام : فإن كان التّأخير بشرط فسد السّلم اتّفاقاً ، سواء أكان التّأخير كثيراً جدّاً ، بأن حلّ أجل المسلم فيه ، أو لم يكثر جدّاً بأن لم يحلّ أجله . وإن كان التّأخير بلا شرط فقولان في المدوّنة الكبرى لمالك بفساد السّلم وعدم فساده ، سواء أكان التّأخير كثيراً جدّاً أم لا . والمعتمد الفساد بالزّيادة عن الثّلاثة الأيّام ولو قلّت مدّة الزّيادة بغير شرط . ( ر : سلم ) .
ث - قبض المرهون :
8 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى : أنّ القبض شرط في الرّهن ، واختلفوا في تحديد نوع الشّرط . هل هو شرط لزوم أو شرط تمام ؟ فقال جمهور الفقهاء : القبض ليس شرط صحّة ، وإنّما هو شرط لزوم الرّهن ، فلا يتمّ الرّهن إلاّ بالقبض لقوله تعالى : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } فقد علّقه سبحانه وتعالى بالقبض ، فلا يتمّ إلاّ به .
وقال المالكيّة : لا يتمّ الرّهن إلاّ بالقبض ، أو الحوز ، وهو شرط تمام وليس شرط صحّة أو لزوم ، فإذا عقد الرّهن بالقول ( الإيجاب والقبول ) لزم العقد ، وأجبر الرّاهن على إقباضه للمرتهن بالمطالبة به ، فإن تراضى المرتهن في المطالبة به ، أو رضي بتركه في يد الرّاهن بطل الرّهن . ودليلهم قياس الرّهن على سائر العقود الماليّة اللازمة بالقول .
لقوله تعالى : { أَوْفُوا بِالعُقُودِ } ، والرّهن عقد فيجب الوفاء به . ( ر : رهن ) .
ج - تسليم المرهون :
9 - للمرتهن عند جمهور الفقهاء - ما عدا الشّافعيّة - حقّ الحبس الدّائم للمرهون حتّى يستوفي دينه ، ليضطرّ المدين إلى تسليم دينه ، ليتمكّن من استرداد المرهون لحاجته إليه والانتفاع به ، وللمرتهن أيضاً عند حلول أجل الدّين المطالبة بدينه مع بقاء الرّهن تحت يده ، وعلى المرتهن تسليم المرهون لصاحبه ، إمّا بانتهاء أجل الدّين ، أو بانتهاء عقد الرّهن . وانتهاء الدّين يكون بأسباب كالإبراء من الدّين أو هبته ، أو وفاء الدّين ، أو شراء سلعة من الرّاهن بالدّين ، أو إحالة الرّاهن المرتهن على غيره .
وانقضاء عقد الرّهن أو انتهاؤه يكون بأسباب كالإبراء والهبة ووفاء الدّين ونحو ذلك ، كالبيع الجبريّ الصّادر من الرّاهن بأمر القاضي ، أو من القاضي إذا أبى الرّاهن البيع . والتّفصيل في ( رهن ) . والشّافعيّة مع الجمهور في اشتراط استدامة القبض ، لكنّهم قالوا : قد يتخلّف هذا الشّرط لمانع ، كما لو كان المرهون مصحفاً والمرتهن كافر ونحو ذلك .
ح - ما يتمّ به تسليم المرهون :
10 - يسلّم الرّاهن الدّين أوّلاً ، ثمّ يسلّم المرتهن المرهون ، لأنّ حقّ المرتهن يتعيّن بتسليم الدّين ، وحقّ الرّاهن متعيّن في تسلّم المرهون ، فيتمّ التّسليم على هذا التّرتيب تحقيقاً للتّسوية بين الرّاهن والمرتهن .
وإذا سلّم الرّاهن بعض الدّين يظلّ المرهون كلّه رهناً بحاله على ما بقي من الدّين بلا خلاف ، لأنّ الرّهن كلّه وثيقة بالدّين كلّه ، وهو محبوس بكلّ الحقّ ، والحبس بالدّين الّذي هو موجب الرّهن لا يتجزّأ ، فيكون محبوساً بكلّ جزء من الدّين لا ينفكّ منه شيء حتّى يقضي جميع الدّين ، سواء أكان الرّهن ممّا يمكن قسمته أم لا يمكن . ر : ( رهن ) .
خ - تسليم ثمن المرهون عند البيع :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّ المرهون يظلّ ملكاً للرّاهن بعد تسليمه للمرتهن ، كما دلّت السّنّة « لا يغلق الرّهن من صاحبه » ولكن تعلّق دين المرتهن بعين الرّهن ، فاستحقّ المرتهن حبسه وثيقةً بالدّين إلى أن يوفّي الدّين ، ولا يجوز للرّاهن أن يتصرّف في الرّهن لتعلّق حقّه به إلاّ بإذن المرتهن ، فيعتبر متنازلاً عن حقّه في حبس الرّهن .
واتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للرّاهن أن يبيع الرّهن بإذن المرتهن ، وهذا يسمّى البيع الاختياريّ بعد الإذن ، وحينئذ فالمرتهن أولى وأحقّ بثمن المرهون من سائر الغرماء الدّائنين ، حتّى يستوفي حقّه ، حيّاً كان أو ميّتاً . ويثبت هذا الحقّ للمرتهن باتّفاق الفقهاء . وإذا لم يتمّ البيع للمرهون اختياريّاً ، وحلّ أجل الدّين طالب المرتهن الرّاهن بوفاء الدّين ، فإن استجاب ووفّى سلّم المرهون ، وإن لم يستجب لمطل أو إعسار ، رفع أمره إلى القاضي . ويطلب القاضي أوّلاً من الرّاهن الحاضر بيع المرهون ، فإن امتثل تمّ المقصود ، وإن امتنع باعه القاضي عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وصاحبي أبي حنيفة ، بدون حاجة إلى إجباره بحبس أو ضرب أو تهديد ، ويسلّم ما يستحقّه المرتهن من دينه .
وقال أبو حنيفة : ليس للقاضي أن يبيع الرّهن بيد المرتهن من غير رضا الرّاهن ، لكنّه يحبس الرّاهن حتّى يبيعه بنفسه . وإذا وجد في مال المدين الرّاهن مال من جنس الدّين ، وفّى الدّين منه ، ولا حاجة حينئذ إلى البيع جبراً . والتّفصيل موطنه مصطلح : ( رهن ) .
د - تسليم المال للمحجور عليه :
12 - اتّفق الفقهاء على أنّ الصّغير لا يسلّم إليه ماله إلاّ بعد معرفة رشده ، وذلك باختبار الصّغير المميّز في التّصرّفات ، لقوله تعالى : { وَابْتَلُوا اليَتَامَى } أي اختبروهم ، واختبار الصّغير المميّز يحصل بتفويض التّصرّفات الّتي يتصرّف فيها أمثاله إليه ، ليتبيّن مدى إدراكه وحسن تصرّفه . وتفصيل ذلك في ( حجر ) .
واتّفق الفقهاء على أنّ أموال الصّغير لا تسلّم إليه حتّى يبلغ راشداً ، لأنّ اللّه تعالى علّق دفع المال إليه على شرطين هما البلوغ والرّشد في قوله تعالى : { وَابْتَلُوا اليَتَامَى حتَّى إذا بَلَغُوا النِّكَاحَ فإِنْ آنَسْتُم منهم رُشْدَاً فَادْفَعُوا إليهم أَمْوَالَهمْ } ، والحكم المعلّق على شرطين لا يثبت بدونهما ، فإذا بلغ الصّغير رشيداً مصلحاً للمال ، وجب دفع ماله إليه وفكّ الحجر عنه .
وإذا دفع إليه ماله أشهد عند الدّفع . لقوله تعالى : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِليهمْ أَمْوَالَهمْ فَأَشْهِدُوا عَليهمْ } وفي هذه المسائل تفصيلات موطنها باب الحجر .
ذ - التّسليم في الكفالة بالنّفس :
13 - الكفالة تكون بالنّفس ، وتكون بالفعل ، والمراد بالفعل المكفول به فعل التّسليم ، وعلى هذا تصحّ الكفالة بنفس من عليه الحقّ ، وتسمّى الكفالة بالنّفس كما تسمّى الكفالة بالوجه : وهي التزام إحضار المكفول إلى المكفول له للحاجة إليها ، ذلك لأنّ الكفالة بالنّفس كفالة بالفعل ، وهو تسليم النّفس ، وفعل التّسليم مضمون على الأصيل فجازت الكفالة به . ويرى جمهور الفقهاء جواز الكفالة بالنّفس إذا كانت بسبب المال ، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام : « الزَّعيمُ غَارِم » وهذا يشمل الكفالة بنوعيها ، ولأنّ ما وجب تسليمه بعقد وجب تسليمه بعقد الكفالة كالمال ، ولأنّ الكفيل يقدر على تسليم الأصيل ، بأن يعلم من يطلبه مكانه فيخلّي بينه وبينه ، أو يستعين بأعوان القاضي في التّسليم .
وإذا اشترط الأصيل في الكفالة تسليم المكفول به في وقت بعينه لزم الكفيل إحضار المكفول به إذا طالبه به في الوقت ، وفاءً بما التزمه كالدّين المؤجّل ، فإن أحضره فبها ، وإن لم يحضره حبسه الحاكم لامتناعه عن إيفاء حقّ مستحقّ عليه .
وإن أحضره وسلّمه إلى المطالب به في موضع يقدر على إحضاره مجلس القضاء ، مثل أن يكون في مصر من الأمصار برئ من الكفالة ، لأنّ التّسليم يتحقّق بالتّخلية بين المكفول بنفسه والمكفول له ، ولأنّه أتى بما التزمه وحصل المقصود من الكفالة بالنّفس ، وهو إمكان المحاكمة عند القاضي . ويتعيّن محلّ التّسليم بالتّعيين ، وإن أطلق ولم يعيّن ، وجب التّسليم في مكان الكفالة ، لأنّ العرف يقتضي ذلك .
ر - التّسليم في الوكالة :
14 - الوكالة بأجر ( بجعل ) حكمها حكم الإجارات ، فيستحقّ الوكيل الجعل بتسليم ما وكّل فيه إلى الموكّل - إن كان ممّا يمكن تسليمه - كثوب يخيطه فمتى سلّمه مخيطاً فله الأجر . وإن وكّله في بيع ، وقال : إذا بعت الثّوب وقبضت ثمنه وسلّمته إليّ فلك الأجر ، لم يستحقّ من الأجرة شيئاً حتّى يسلّمه إليه . فإن فات التّسليم لم يستحقّ شيئاً لفوات الشّرط . والوكيل في بيع شيء يملك تسليمه للمشتري ، لأنّ إطلاق الوكالة في البيع يقتضي التّسليم ، ويتعيّن على الوكيل في البيع طلب الثّمن من المشتري وقبضه ، لأنّه من توابع البيع ، وكذا الوكيل بالشّراء ، له قبض المبيع من البائع وتسليمه لمن وكّله بالشّراء ، وهذا بلا خلاف . ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ المقبوض في يد الوكيل يعتبر أمانةً ، لأنّ يده يد نيابة عن الموكّل ، ويجب عليه ردّ المقبوض عند طلب الموكّل مع الإمكان ، ويضمن بالتّعدّي أو التّقصير كما يضمن في الودائع ، ويبرأ بما يبرأ فيها . ( ر : وكالة ) .
ز - التّسليم في الإجارة :
15 - إذا كان العمل يجري في عين تسلّم للأجير المشترك ، كان عليه تسليم العين بعد قيامه بالعمل فيها . وإن كان العمل لا يجري في عين تسلّم للأجير ، فإنّ مجرّد قيامه بالعمل المطلوب يعتبر تسليماً كالطّبيب أو السّمسار . وإن كان الأجير خاصّاً كان تسليم نفسه للعمل في محلّ العمل تسليماً معتبراً ، والتّفصيل في مصطلح : ( إجارة ) .
س - تسليم اللّقطة :
16 - للإمام ، أو من ينوب عنه ، أن يتسلّم اللّقطة من الملتقط إن رأى المصلحة في ذلك ، وهذا عند الحنفيّة .
وقال المالكيّة : يباح للملتقط أن يدفع اللّقطة للإمام إن كان عدلاً ، وهو مخيّر في ذلك . ويرى الشّافعيّة : أنّ الملتقط إن دفع اللّقطة إلى القاضي لزم القاضي القبول حفظاً لها على صاحبها . والتّفصيل في ( لقطة ) .
ش - تسليم اللّقيط للقاضي :
17 - يجوز للقاضي أن يتسلّم اللّقيط من ملتقطه إذا علم عجزه عن حفظه بنفسه وأتى به إليه ، والأولى للقاضي أن يقبله . وتفصيله في بحث ( لقيط ) .
ص - تسليم الصّداق للزّوجة :
18 - إذا طالبت الزّوجة بالمهر يجب على الزّوج تسليمه أوّلاً ، لأنّ حقّ الزّوج في المرأة متعيّن ، وحقّ المرأة في المهر لم يتعيّن بالعقد ، وإنّما يتعيّن بالقبض ، فوجب على الزّوج التّسليم عند المطالبة ، وهذا عند الحنفيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة .
وقال المالكيّة : والبعض الآخر من الشّافعيّة : يجب على الزّوج تسليم الصّداق لزوجته ، أو لوليّها المجبر ، لأنّه لمّا كان له إجبارها على النّكاح كان له تسلّم صداقها بغير إذنها كالصّغيرة .
ض - تسليم الزّوجة نفسها :
19 - يجوز للزّوجة قبل دخول الزّوج بها أن لا تسلّم نفسها إلى زوجها ، حتّى تقبض جميع مهرها المعيّن الحالّ ، سواء أكان بعضه أم كلّه .
وإن انتقلت إلى بيت زوجها فالحكم كذلك لتعيّن حقّها في البدل ، كما يتعيّن حقّه في المبدل .
ولا يتعيّن حقّها إلاّ بالتّسليم والانتقال إلى حيث يريد زوجها إن أراد ، وهذا بلا خلاف .
فإن سلّمت نفسها بالدّخول ، أو بالخلوة الصّحيحة ، فمذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ومحمّد : أنّه لا يجوز لها أن تمنع نفسها ، لأنّها بالدّخول أو بالخلوة الصّحيحة سلّمت جميع المعقود عليه برضاها ، وهي من أهل التّسليم ، فبطل حقّها في المنع .
ويرى أبو حنيفة : أنّ للزّوجة أن تمتنع من زوجها حتّى تأخذ المعجّل لها من المهر ، ولو دخل بها برضاها وهي مكلّفة ، لأنّ المهر مقابل بجميع ما يستوفى من منافع البضع في جميع أنواع الاستمتاع الّتي توجد في هذا الملك ، ويكون رضاها بالدّخول أو الخلوة قبل قبض معجّل مهرها إسقاطاً لحقّها في منع نفسها في الماضي ، وليس لحقّها في المستقبل ، على الرّاجح عند الحنفيّة .
ويرى الشّافعيّة في قول أنّ لها الامتناع حتّى تستوفي مهرها ، كما لو كان حالاً ابتداءً .
20 - والتّسليم الواجب على المرأة يحصل في المكان الّذي يتمكّن فيه زوجها من استمتاعه بها ، سواء أكان المكان بيت أبيها إن رضيا معاً بالإقامة فيه ، أم كان مسكناً شرعيّاً أعدّه لها زوجها . ويترتّب على تسليم نفسها لزوجها وجوب نفقتها عليه ، لأنّها محبوسة لحقّه ، وهذا بلا خلاف .
ط - تسليم النّفقة :
21 - اتّفق الفقهاء على أنّ نفقة الزّوجة حقّ أصيل من حقوقها الواجبة على زوجها ، وأنّها تجب على الزّوج الحاضر ، إذا سلّمت الزّوجة نفسها إلى الزّوج وقت وجوب التّسليم . وإذا امتنع الزّوج عن الإنفاق على زوجته بعدما فرضه على نفسه ، أو بعد فرض القاضي باع القاضي من ماله ، إن كان موسراً وله مال ظاهر ، وأعطى لزوجته ما يكفي النّفقة . وللتّفصيل : ( ر : نفقة ) .

تسمّع *
انظر : استماع .

تسمية *
التّعريف :
1 - التّسمية : مصدر سمّى بتشديد الميم ، ومادّة : ( سما ) لها في اللّغة عدّة معان :
فمنها : سما يسمو سموّاً أي علا . يقال : سَمَتْ همّته إلى معالي الأمور : إذا طلب العزّ والشّرف ، وكلّ عال : سماء .
والاسم : من السّموّ وهو العلوّ ، وقيل : الاسم من الوسم ، وهو العلامة .
وقال في الصّحاح : وسمّيت فلاناً زيداً وسمّيته بزيد بمعنًى وأسميته مثله ، فتسمّى به . وتقول : هذا سميّ فلان ، إذا وافق اسمه اسمه ، كما تقول : هو كنيّه ، وقوله تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَه سَمِيَّاً } أي : نظيراً يستحقّ مثل اسمه ، ويقال : مسامياً يساميه . وتستعمل التّسمية عند الفقهاء بمعنى قول : بسم اللّه ، وبمعنى : وضع الاسم العلم للمولود وغيره ، وبمعنى : تحديد العوض في العقود ، كالمهر والأجرة والثّمن ، وبمعنى : التّعيين بالاسم مقابل الإبهام .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّكنية :
2 - التّكنية مصدر : كنّى بتشديد النّون ، أي : جعل له كُنْيةً ، كأبي فلان وأمّ فلان .
وتفصيل الأحكام المتعلّقة بالتّكنية ينظر في مصطلح ( كنية ) .
ب - التّلقيب :
3 - التّلقيب : مصدر لقّب بتشديد القاف . واللّقب واحد الألقاب ، وهو ما كان مشعراً بمدح أو ذمّ . ومعناه : النّبز بالتّمييز .
والنّبز بالألقاب المكروهة منهيّ عنه في قوله تعالى : { وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ } .
فإن قصد به التّعريف فلا يدخل تحت النّهي ، ومن ذلك تعريف بعض الأئمّة المتقدّمين ، كالأعمش والأخفش والأعرج . هذا والنّحاة في كتبهم يفرّقون بين الكنية واللّقب والاسم .
فالكنية عندهم : كلّ مركّب إضافيّ في صدره أب أو أمّ ، كأبي بكر رضي الله عنه ، وأمّ كلثوم رضي الله عنها بنت النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
وفرّق الأبهريّ في حواشي العضد بين الاسم واللّقب ، فقال : الاسم يقصد بدلالته الذّات المعيّنة ، واللّقب يقصد به الذّات مع الوصف ، ولذلك يختار اللّقب عند إرادة التّعظيم أو الإهانة .
هذا وسيأتي حكم الكنية واللّقب عند الكلام على التّسمية بمعنى وضع الاسم العلم للمولود .
أحكام التّسمية :
أوّلاً : التّسمية أو البسملة : قول : ( بسم اللّه ) :
4 - أكملها : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، ويتعلّق بها عدد من الأحكام ، كالتّسمية في ابتداء الوضوء ، وعند الغسل ، وفي الصّلاة ، وعند الذّبح ، وفي الصّيد عند إرسال الكلب أو السّهم ، وعند الطّعام أو الجماع أو دخول الخلاء . وينظر التّفصيل في : ( بسملة ) .
ثانياً : التّسمية بمعنى وضع الاسم العلم للمولود وغيره :
5 - الفقهاء يذكرون التّسمية ويريدون بها وضع الاسم العلم للمولود وغيره ، وهي بهذا المعنى تعريف الشّيء المسمّى ، لأنّه إذا وجد وهو مجهول الاسم لم يكن له ما يقع تعريفه به . ويتعلّق بها عدد من الأحكام :
أ - تسمية المولود :
6 - ذكر ابن عرفة أنّ مقتضى القواعد وجوب التّسمية ، وممّا لا نزاع فيه أنّ الأب أولى بها من الأمّ ، فإن اختلف الأبوان في التّسمية فيقدّم الأب .
ب - وقت التّسمية :
7 - يرى المالكيّة أنّ وقت تسمية المولود هو اليوم السّابع من ولادته بعد ذبح العقيقة ، هذا إذا كان المولود ممّن يعقّ عنه ، فإن كان ممّن لا يعقّ عنه لفقر وليّه فيجوز أن يسمّوه متى شاءوا . قال الحطّاب : قال في المدخل في فصل ذكر النّفاس : وينبغي إذا كان المولود ممّن يعقّ عنه فلا يوقع عليه الاسم الآن حتّى تذبح العقيقة ، ويتخيّر له في الاسم مدّة السّابع ، وإذا ذبح العقيقة أوقع عليه الاسم .
وإن كان المولود لا يعقّ عنه لفقر وليّه فيسمّونه متى شاءوا . انتهى .
ثمّ قال : ونقله بعض شرّاح الرّسالة عن التّادليّ ، وأصله للنّوادر في باب العقيقة .
قال ابن عرفة : ومقتضى القواعد وجوب التّسمية ، سمع ابن القاسم يسمّى يوم سابعه .
قال ابن رشد : لحديث : « يذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمّى » وفيه سعة لحديث « ولد لي اللّيلة غلام ، فسمّيته باسم أبي إبراهيم » « وأتي النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعبد اللّه بن أبي طلحة صبيحة ولد فحنّكه ودعا له وسمّاه » .
ويحتمل حمل الأوّل على منع تأخير التّسمية عن سابعه فتتّفق الأخبار ، وعلى قول مالك قال ابن حبيب : لا بأس أن تتخيّر له الأسماء قبل سابعه ، ولا يسمّى إلاّ فيه .
ويرى الشّافعيّة أنّه يستحبّ تسمية المولود في اليوم السّابع كما ذكر النّوويّ في الرّوضة ، ولا بأس أن يسمّى قبله ، واستحبّ بعضهم أن لا يفعله . ولا يترك تسمية السّقط ، ولا من مات قبل تمام السّبعة .
هذا وأمّا الأخبار الصّحيحة الواردة في تسمية يوم الولادة ، فقد حملها البخاريّ على من لم يرد العقّ ، والأخبار الواردة في تسميته في اليوم السّابع على من أراده .
وأمّا الحنابلة فلهم في وقت التّسمية روايتان : إحداهما : أنّه يسمّى في اليوم السّابع . والثّانية : أنّه يسمّى في يوم الولادة . قال صاحب كشّاف القناع : ويسمّى المولود فيه أي : في اليوم السّابع ، لحديث سمرة رضي الله عنه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « كلّ غلام رهينة بعقيقته ، تذبح عنه يوم سابعه ، ويسمّى فيه ، ويحلق رأسه » .
والتّسمية للأب فلا يسمّيه غيره مع وجوده . وفي الرّعاية : يسمّى يوم الولادة ، لحديث مسلم في قصّة ولادة إبراهيم ابنه صلى الله عليه وسلم : « ولد لي اللّيلة مولود فسمّيته إبراهيم باسم أبي إبراهيم » هذا ولم يذكر ابن عابدين ولا صاحب الفتاوى الهنديّة من الحنفيّة عند الكلام على التّسمية الوقت الّذي تكون فيه .
قال ابن القيّم : إنّ التّسمية لمّا كانت حقيقتها تعريف الشّيء المسمّى ، لأنّه إذا وجد وهو مجهول الاسم لم يكن له ما يقع تعريفه به ، فجاز تعريفه يوم وجوده ، وجاز تأخير التّعريف إلى ثلاثة أيّام ، وجاز إلى يوم العقيقة عنه ، ويجوز قبل ذلك وبعده ، والأمر فيه واسع .
ج - تسمية السّقط :
8 - المراد بالسّقط هنا الولد ذكراً كان أو أنثى يخرج ميّتاً من بطن أمّه قبل تمامه وهو مستبين الخَلْق . يقال : سقط الولد من بطن أمّه سقوطاً فهو سقط بالكسر ، والتّثليث لغة ، ولا يقال : وقع ، وأسقطت الحامل بالألف : ألقت سقطاً .
هذا ، وقد اختلف الفقهاء في تسمية السّقط . قال صاحب الفتاوى الهنديّة : من ولد ميّتاً لا يسمّى عند أبي حنيفة خلافاً لمحمّد رحمهما اللّه تعالى .
والمشهور عند المالكيّة أنّ السّقط لا يسمّى .
ويرى الشّافعيّة ، كما قال النّوويّ في الرّوضة : أنّ تسمية السّقط لا تترك .
وفي النّهاية : يندب تسمية سقط نفخت فيه الرّوح .
وأمّا الحنابلة ، فقد قال ابن قدامة : فإن لم يتبيّن ذكر هو أم أنثى ؟ سمّي اسماً يصلح للذّكر والأنثى ، هذا على سبيل الاستحباب ، لأنّه يروى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال :
« سمّوا أسقاطكم ، فإنّهم أسلافكم »
قيل : إنّهم إنّما يسمّون ليدعوا يوم القيامة بأسمائهم ، فإذا لم يعلم هل السّقط ذكر أو أنثى ، سمّي اسماً يصلح لهما جميعاً ، كسلمة وقتادة وسعاد وهند . ونحو ذلك .
د - تسمية من مات بعد الولادة :
9 - يرى الفقهاء أنّ من مات بعد الولادة ، وقبل أن يسمّى ، فإنّه يسمّى .
وبيان ذلك أنّ الحنفيّة قالوا : إذا استهلّ صارخاً فإنّه يعطى حكم الكبير ، وتثبت له كافّة الحقوق . وتسمية من مات بعد الولادة جائزة عند المالكيّة .
والشّافعيّة يرون أنّه يسمّى إذا مات قبل تمام السّبع ، كما قال النّوويّ في الرّوضة .
وقال صاحب مغني المحتاج : لو مات قبل التّسمية استحبّ تسميته . ومقتضى مذهب الحنابلة أنّهم يجيزون تسمية من مات بعد الولادة ، لأنّهم يجيزون تسمية السّقط ، ويقولون : إنّها مستحبّة ، فعلى هذا تسمية من مات بعد الولادة جائزة عندهم ، بل أولى .
ما تستحبّ التّسمية به من الأسماء :
10 - الأصل جواز التّسمية بأيّ اسم إلاّ ما ورد النّهي عنه ممّا سيأتي .
وتستحبّ التّسمية بكلّ اسم معبّد مضاف إلى اللّه سبحانه وتعالى ، أو إلى أيّ اسم من الأسماء الخاصّة به سبحانه تعالى ، لأنّ الفقهاء اتّفقوا على استحسان التّسمية به .
وأحبّ الأسماء إلى اللّه عبد اللّه وعبد الرّحمن . وقال سعيد بن المسيّب : أحبّها إلى اللّه أسماء الأنبياء . والحديث الصّحيح يدلّ على أنّ أحبّ الأسماء إليه سبحانه وتعالى : عبد اللّه وعبد الرّحمن . ويدلّ لذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ أحبّ أسمائكم إلى اللّه عبد اللّه وعبد الرّحمن ». ولما أخرجه أبو داود في سننه عن أبي الجشميّ رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « تسمّوا بأسماء الأنبياء ، وأحبّ الأسماء إلى اللّه : عبد اللّه وعبد الرّحمن ، وأصدقها : حارث وهمّام ، وأقبحها : حرب ومرّة .
وقال ابن عابدين في حاشيته نقلاً عن المناويّ : إنّ عبد اللّه أفضل مطلقاً حتّى من عبد الرّحمن ، وأفضل الأسماء بعدهما محمّد ثمّ أحمد ثمّ إبراهيم .
والجمهور على استحباب التّسمية بكلّ معبّد مضاف إلى اللّه سبحانه وتعالى كعبد اللّه ، أو مضاف إلى اسم خاصّ به سبحانه وتعالى كعبد الرّحمن وعبد الغفور .
وأمّا الحنفيّة فهم مع الجمهور في أنّ أحبّ الأسماء إلى اللّه : عبد اللّه وعبد الرّحمن ، إلاّ أنّ صاحب الفتاوى الهنديّة قال : ولكنّ التّسمية بغير هذه الأسماء في هذا الزّمان أولى ، لأنّ العوامّ يصغّرونها للنّداء . وذكر ابن عابدين في حاشيته على الدّرّ المختار أنّ أفضليّة التّسمية بعبد اللّه وعبد الرّحمن ليست مطلقةً فإنّ ذلك محمول على من أراد التّسمية بالعبوديّة ، لأنّهم كانوا يسمّون عبد شمس وعبد الدّار ، فجاءت الأفضليّة ، فهذا لا ينافي أنّ اسم محمّد وأحمد أحبّ إلى اللّه تعالى من جميع الأسماء ، فإنّه لم يختر لنبيّه صلى الله عليه وسلم إلاّ ما هو أحبّ إليه ، هذا هو الصّواب .
ولا يجوز تغيير اسم اللّه بالتّصغير فيما هو مضاف . قال ابن عابدين : وهذا مشتهر في زماننا حيث ينادون من اسمه عبد الرّحيم وعبد الكريم أو عبد العزيز مثلاً ، فيقولون : رحيّم وكريّم وعزيّز بتشديد ياء التّصغير ، ومن اسمه عبد القادر قويدر وهذا مع قصده كفر .
ففي المنية : من ألحق التّصغير في آخر اسم عبد العزيز أو نحوه - ممّا أضيف إلى واحد من الأسماء الحسنى - إن قال ذلك عمداً قاصداً التّحقير كفر ، وإن لم يدر ما يقول ولا قصد له لم يحكم بكفره ، ومن سمع منه ذلك يحقّ عليه أن يعلّمه ، وبعضهم يقول : رحمون لمن اسمه عبد الرّحمن .
11 - وأمّا التّسمية بأسماء الأنبياء فقد اختلف الفقهاء في حكمها ، فذهب الأكثرون إلى عدم الكراهة ، وهو الصّواب . قال صاحب تحفة المحتاج : ولا تكره التّسمية باسم نبيّ أو ملك ، بل جاء في التّسمية باسم نبيّنا عليه الصلاة والسلام فضائل . ومن ذلك ما رواه العتبيّ أنّ أهل مكّة يتحدّثون : ما من بيت فيه اسم محمّد إلاّ رأوا خيراً ورزقوا .
وذكر صاحب كشّاف القناع من الحنابلة : أنّه يحسن التّسمية بأسماء الأنبياء .
بل قال سعيد بن المسيّب ، كما تقدّم النّقل عنه : إنّها أحبّ الأسماء إلى اللّه .
وذهب آخرون إلى كراهة التّسمية بأسماء الأنبياء ، وقد نسب هذا القول إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه . قال صاحب تحفة المودود : ولعلّ صاحب هذا القول قصد صيانة أسمائهم عن الابتذال وما يعرض لها من سوء الخطاب ، عند الغضب وغيره .
وقال سعيد بن المسيّب : أحبّ الأسماء إلى اللّه أسماء الأنبياء . وفي تاريخ ابن خيثمة : أنّ طلحة كان له عشرة من الولد ، كلّ منهم اسمه اسم نبيّ ، وكان للزّبير عشرة كلّهم تسمّى باسم شهيد ، فقال له طلحة : أنا سمّيتهم بأسماء الأنبياء ، وأنت تسمّيهم بأسماء الشّهداء ، فقال له الزّبير : فإنّي أطمع أن يكون بَنيّ شهداء ، ولا تطمع أن يكون بنوك أنبياء .
ويدلّ على جواز التّسمية بأسماء الأنبياء ما أخرجه أبو داود في سننه عن أبي الجشميّ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « تسمّوا بأسماء الأنبياء » .
ويدلّ على جواز التّسمية باسم نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم ما أخرجه البخاريّ في صحيحه عن جابر رضي الله عنه « قال : ولد لرجل منّا غلام فسمّاه القاسم ، فقالوا : لا نكنّيه حتّى نسأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : سمّوا باسمي ولا تكنّوا بكنيتي » .
ما تكره التّسمية به من الأسماء :
12 - تكره تنزيهاً التّسمية بكلّ اسم يتطيّر بنفيه ، كرباح وأفلح ونجاح ويسار وما أشبه ذلك ، فإنّ هذه الأسماء وما أشبهها يتطيّر بنفيها ، فيما لو سئل شخص سمّى ابنه رباحاً : أعندك رباح ؟ فيقول : ليس في البيت رباح ، فإنّ ذلك يكون طريقاً للتّشاؤم .
هذا وقد أخرج مسلم في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا تسمّين غلامك يساراً ولا رباحاً ولا نجيحاً ولا أفلح ، فإنّك تقول : أثمّ هو ؟ فلا يكون ، فيقول : لا » إلاّ أنّ ذلك لا يحرم لحديث عمر رضي الله عنه « إنّ الآذن على مشربة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عبد يقال له : رباح » وعن جابر رضي الله عنه « أراد صلى الله عليه وسلم أن ينهى عن أن يسمّى بيعلى وببركة وبأفلح وبيسار وبنافع وبنحو ذلك ، ثمّ رأيته بعد سكت عنها ، فلم يقل شيئاً ، ثمّ قبض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولم ينه عن ذلك ، ثمّ أراد عمر رضي الله عنه أن ينهى عن ذلك ثمّ تركه » . وتكره التّسمية أيضاً بالأسماء الّتي تكرهها النّفوس وتشمئزّ منها كحرب ومرّة وكلب وحيّة . وقد صرّح المالكيّة بمنع التّسمية بكلّ اسم قبيح .
قال صاحب مواهب الجليل : يمنع بما قبح كحرب وحزن وضرار . وقال صاحب مغني المحتاج : تكره الأسماء القبيحة ، كشيطان وظالم وشهاب وحمار وكلب . إلخ .
وذكر الحنابلة أنّه تكره تسميته بأسماء الجبابرة كفرعون وأسماء الشّياطين . وجاء في مطالب أولي النّهى كراهية التّسمية بحرب . هذا ، وقد « كان النّبيّ عليه الصلاة والسلام يكره الاسم القبيح للأشخاص والأماكن والقبائل والجبال » . أخرج مالك في الموطّأ عن يحيى بن سعيد « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال للقحة تحلب : من يحلب هذه ؟ فقام رجل ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ما اسمك ، فقال له الرّجل : مُرَّة . فقال له رسول صلى الله عليه وسلم : اجلس . ثمّ قال : من يحلب هذه ؟ فقام رجل ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ما اسمك ؟ ، فقال : حرب . فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : اجلس . ثمّ قال : من يحلب هذه ؟ فقام رجل فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما اسمك ؟ فقال : يعيش ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : احلب » .
التّسمية بأسماء الملائكة :
13 - ذهب أكثر العلماء إلى أنّ التّسمية بأسماء الملائكة كجبريل وميكائيل لا تكره .
وذهب مالك إلى كراهة التّسمية بذلك ، قال أشهب : سئل مالك عن التّسمّي بجبريل ، فكره ذلك ولم يعجبه . وقال القاضي عياض : قد استظهر بعض العلماء التّسمّي بأسماء الملائكة ، وهو قول الحارث بن مسكين ، وأباح ذلك غيره .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ما تحرم التّسمية به من الأسماء :
14 - تحرم التّسمية بكلّ اسم خاصّ باللّه سبحانه وتعالى ، كالخالق والقدّوس ، أو بما لا يليق إلاّ به سبحانه وتعالى كملك الملوك وسلطان السّلاطين وحاكم الحكّام ، وهذا كلّه محلّ اتّفاق بين الفقهاء . وأورد ابن القيّم فيما هو خاصّ باللّه تعالى : الأحد ، والصّمد ، والخالق ، والرّازق ، والجبّار والمتكبّر ، والأوّل ، والآخر ، والباطن ، وعلّام الغيوب .
هذا ، وممّا يدلّ على حرمة التّسمية بالأسماء الخاصّة به سبحانه وتعالى كملك الملوك مثلاً : ما أخرجه البخاريّ ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه - ولفظه في البخاريّ - قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أخنى الأسماء يوم القيامة عند اللّه رجل تسمّى ملك الأملاك » ولفظه في صحيح مسلم « أغيظ رجل على اللّه يوم القيامة ، أخبثه وأغيظه عليه : رجل كان يسمّى ملك الأملاك ، لا ملك إلاّ اللّه » .
وأمّا التّسمية بالأسماء المشتركة الّتي تطلق عليه سبحانه وتعالى وعلى غيره فيجوز التّسمّي بها كعليّ ورشيد وبديع . قال ابن عابدين : وظاهره الجواز ولو معرّفاً بأل .
قال الحصكفيّ : ويراد في حقّنا غير ما يراد في حقّ اللّه تعالى .
وقال الحنابلة : تحرم التّسمية بالأسماء الّتي لا تليق إلاّ بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم كسيّد ولد آدم ، وسيّد النّاس ، وسيّد الكلّ ، لأنّ هذه الأسماء كما ذكر الحنابلة لا تليق إلاّ به صلى الله عليه وسلم . وتحرم التّسمية بكلّ اسم معبّد مضاف إلى غير اللّه سبحانه وتعالى كعبد العزّى ، وعبد الكعبة ، وعبد الدّار ، وعبد عليّ ، وعبد الحسين ، أو عبد فلان . إلخ .
كما صرّح به الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . فقد جاء في حاشية ابن عابدين : بأنّه لا يسمّيه عبد فلان . وجاء في مغني المحتاج : أنّه لا يجوز التّسمّي بعبد الكعبة وعبد العزّى .
وجاء في تحفة المحتاج حرمة التّسمية بعبد النّبيّ أو عبد الكعبة أو عبد الدّار أو عبد عليّ أو عبد الحسين لإيهام التّشريك .
ومنه يؤخذ حرمة التّسمية بجار اللّه ورفيق اللّه ونحوهما لإيهامه المحذور .
وجاء في كشّاف القناع ما نصّه : اتّفقوا على تحريم كلّ اسم معبّد لغير اللّه تعالى كعبد العزّى ، وعبد عمرو ، وعبد عليّ ، وعبد الكعبة ، وما أشبه ذلك ، ومثله عبد النّبيّ ، وعبد الحسين ، وعبد المسيح .
هذا ، والدّليل على تحريم التّسمية بكلّ معبّد مضاف إلى غير اللّه سبحانه وتعالى ما رواه ابن أبي شيبة عن يزيد بن المقدام بن شريح عن أبيه عن جدّه هانئ بن يزيد رضي الله عنه قال : « وفد على النّبيّ صلى الله عليه وسلم قوم ، فسمعهم يسمّون : عبد الحجر ، فقال له : ما اسمك ؟ فقال : عبد الحجر ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّما أنت عبد اللّه ». قال ابن القيّم : فإن قيل : كيف يتّفقون على تحريم الاسم المعبّد لغير اللّه ، وقد صرّح عنه عليه السلام أنّه قال : « تعس عبد الدّينار وعبد الدّرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد القطيفة » وصحّ عنه أنّه قال : « أنا النّبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطّلب » .
فالجواب : أمّا قوله : « تعس عبد الدّينار » ، فلم يرد به الاسم ، وإنّما أراد به الوصف والدّعاء على من تعبّد قلبه للدّينار والدّرهم ، فرضي بعبوديّتهما عن عبوديّة ربّه تعالى ، وذكر الأثمان والملابس وهما جمال الباطن والظّاهر .
وأمّا قوله : « أنا ابن عبد المطّلب » ، فهذا ليس من باب إنشاء التّسمية بذلك ، وإنّما هو من باب الإخبار بالاسم الّذي عرف به المسمّى دون غيره ، والإخبار بمثل ذلك على وجه تعريف المسمّى لا يحرم فباب الإخبار أوسع من باب الإنشاء .
تغيير الاسم وتحسينه :
15 - يجوز تغيير الاسم عموماً ويسنّ تحسينه ، ويسنّ تغيير الاسم القبيح إلى الحسن ، فقد أخرج أبو داود في سننه عن أبي الدّرداء رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم » .
وأخرج مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهم : « أنّ ابنةً لعمر رضي الله عنه كانت يقال لها : عاصية ، فسمّاها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جميلةً » .
وأخرج البخاريّ في صحيحه عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة قال : « جلست إلى سعيد بن المسيّب فحدّثني أنّ جدّه" حزناً "قدم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : ما اسمك ؟ قال : اسمي حَزَن ، قال : بل أنت سهل ، قال : ما أنا بمغيّر اسماً سمّانيه أبي . قال ابن المسيّب : فما زالت فينا الحزونة بعد » وقد « غيّر النّبيّ صلى الله عليه وسلم الاسم الّذي يدلّ على التّزكية إلى غيره ، فقد غيّر اسم برّة إلى جويرية أو زينب » .
وقال أبو داود : « وغيّر النّبيّ صلى الله عليه وسلم اسم العاص وعزيز وعتلة وشيطان والحكم وغراب وحبّاب وشهاب فسمّاه : هشاماً ، وسمّى حرباً : سلماً ، وسمّى المضطجع : المنبعث ، وأرضاً تسمّى عفرةً سمّاها : خضرةً ، وشعب الضّلالة سمّاه : شعب الهدى ، وبنو الزّنية سمّاهم : بني الرّشدة ، وسمّى بني مغويّة : بني رشدة » .
هذا والفقهاء لا يختلفون في جواز تغيير الاسم إلى اسم آخر ، وفي أنّ تغيير الاسم القبيح إلى الحسن هو من الأمور المطلوبة الّتي حثّ عليها الشّرع .
وأجاز الحنابلة التّسمية بأكثر من اسم .
نداء الزّوج والأب ونحوهما بالاسم المجرّد :
16 - ذكر الحنفيّة أنّه يكره أن يدعو الرّجل أباه ، وأن تدعو المرأة زوجها باسمه ، بل لا بدّ من لفظ يفيد التّعظيم لمزيد حقّهما على الولد والزّوجة . وليس هذا من التّزكية ، لأنّها راجعة إلى المدعوّ بأن يصف نفسه بما يفيدها ، لا إلى الدّاعي المطلوب منه التّأدّب مع من هو فوقه . وذكر الشّافعيّة كما جاء في مغني المحتاج وغيره من كتبهم : أنّه يسنّ لولد الشّخص وتلميذه وغلامه أن لا يسمّيه باسمه . وذهب الحنابلة - كما جاء في مطالب أولي النّهى - إلى أنّه لا يقول السّيّد لرقيقه : يا عبدي ، ولأمته يا أمتي ، لإشعاره بالتّكبّر والافتخار المنهيّ عنه . وكذلك لا يقول العبد لسيّده : يا ربّي ، ولا يا مولاي لما فيه من الإيهام .
تسمية الأشياء بأسماء الحيوان :
17 - قال الرّحيبانيّ : ولا بأس بتسمية النّجوم بالأسماء العربيّة نحو : حمل وثور وجدي ، لأنّها أسماء أعلام ، واللّغة وضع لفظ دليلاً على معنًى ، وليس معناه أنّها هذه الحيوانات حتّى يكون ذلك كذباً ، بل وضع هذه الألفاظ لتلك المعاني توسّع ومجاز ، كما سمّوا في اللّغة الكريم بحراً ، لكن استعمال البحر للكريم مجاز ، بخلاف استعمال تلك الأسماء في النّجوم ، فإنّها حقيقة ، والتّوسّع في التّسمية فقط . ولا يخفى أنّ مثل تسمية النّجوم في الحكم تسمية النّاس بأسماء الحيوان ، ما لم يكن قبيحاً فقد تقدّم حكمه .
تسمية الأدوات والدّوابّ والملابس :
18 - ذكر ابن القيّم أنّه يجوز تسمية الأدوات والدّوابّ والملابس بأسماء خاصّة بها تميّزها عن مثيلاتها أسوةً برسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقد كان لسيوفه ودروعه ورماحه وقسيّه وحرابه وبعض أدواته ودوابّه وملابسه أسماء خاصّة : فمن أسماء سيوفه صلى الله عليه وسلم " مأثور " وهو أوّل سيف ملكه ، ورثه من أبيه ، و " ذو الفِقار " بكسر الفاء وفتحها وهو سيف تنفّله يوم بدر .
ومن أسماء دروعه صلى الله عليه وسلم " ذات الفضول " وهي الّتي رهنها عند أبي الشّحم اليهوديّ على شعير لعياله " وذات الوشاح ، وذات الحواشي " . إلخ .
ومن أسماء قِسِيّه صلى الله عليه وسلم " الزّوراء ، والرّوحاء " .
ومن أسماء تروسه صلى الله عليه وسلم " الزّلوق ، والفتق " .
ومن أسماء رماحه صلى الله عليه وسلم " المثوى ، و المثنّى " .
ومن أسماء حرابه صلى الله عليه وسلم " النّبعة ، والبيضاء " .
وكانت له راية سوداء يقال لها : " العقاب " وفسطاط يسمّى " الكنّ " ومخصرة تسمّى " العرجون " وقضيب من الشّوحط يسمّى " الممشوق " قيل : وهو الّذي كان يتداوله الخلفاء . ومن أسماء أدواته صلى الله عليه وسلم الّتي كان يستعملها في بيته : " الرّيّان " وهو اسم لقدح " والصّادر " وهو اسم لركوة " وتور " وهو إناء يشرب فيه " والسّعة " وهو اسم لقعب " والغرّاء " وهو اسم لقصعة . ومن أسماء دوابّه صلى الله عليه وسلم من الخيل " السّكب "
" والمرتجز ، واللّحيف " ومن البغال " دلدل ، وفضّة " ومن الحمير " عفير "
ومن الإبل " القصواء ، والعضباء " . ومن أسماء ملابسه " السحاب " وهو اسم لعمامة .
تسمية اللّه تعالى بغير ما ورد :
19 - يقول اللّه تعالى : { وَلِلّه الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوه بِها وَذَرُوا الّذينَ يُلْحِدُونَ في أَسْمَائِه سَيُجْزَونَ ما كَانُوا يَعْمَلُونَ }
فهذه الآية تدلّ على أنّ للّه سبحانه وتعالى أسماءً خاصّةً يسمّى بها ، لأنّ معنى قوله تعالى : { فَادْعُوه بها } أي سمّوه بها أو نادوه بتلك الأسماء ، فالدّعاء المذكور في هذه الآية كما قال صاحب روح المعاني : إمّا من الدّعوة بمعنى التّسمية ، كقولهم : دعوته زيداً أو بزيد أي : سمّيته . أو من الدّعاء بمعنى النّداء كقولهم : دعوت زيداً أي : ناديته . قال الألوسيّ : الإلحاد في أسمائه سبحانه وتعالى أن يسمّى بما لا توقيف فيه ، أو بما يوهم معنًى فاسداً ، كما في قول أهل البدو في دعاء اللّه : يا أبا المكارم ، يا أبيض الوجه يا سخيّ ونحو ذلك .
ونقل عن بعضهم أنّ الأسماء توقيفيّة يراعى فيها ما ورد في الكتاب والسّنّة والإجماع ، وأنّ كلّ اسم ورد في هذه الأصول جاز إطلاقه عليه جلّ شأنه ، وما لم يرد فيها لم يجز وإن صحّ معناه . ونقل ذلك عن أبي القاسم القشيريّ والآمديّ .
وقال القرطبيّ : إنّ الإلحاد في أسمائه سبحانه وتعالى يكون بثلاثة أوجه :
أحدها : بالتّغيير فيها كما فعله المشركون ، وذلك أنّهم عدلوا بها عمّا هي عليه ، فسمّوا بها أَوْثَانَهُمْ ، فاشتقّوا اللّات من اللّه ، والعزّى من العزيز ، ومناة من المنّان ، قاله ابن عبّاس وقتادة .
الثّاني : بالزّيادة فيها .
الثّالث : بالنّقصان منها ، كما يفعله الجهّال الّذين يخترعون أدعيةً يسمّون فيها اللّه تعالى بغير أسمائه ، ويذكرونه بغير ما يذكر من أفعاله ، إلى غير ذلك ممّا لا يليق به .
ونقل عن ابن العربيّ : أنّه لا يدعى اللّه إلاّ بما ورد في الكتاب والسّنّة .
وقال صاحب روح المعاني : اتّفق علماء الإسلام على جواز إطلاق الأسماء والصّفات على الباري تعالى إذا ورد بهما الإذن من الشّارع ، وعلى امتناعه إذا ورد المنع عنه .
واختلفوا حيث لا إذن ولا منع في جواز إطلاق ما كان سبحانه وتعالى متّصفاً بمعناه ، ولم يكن من الأسماء الأعلام الموضوعة في سائر اللّغات ، إذ ليس جواز إطلاقها عليه تعالى محلّ نزاع لأحد ، ولم يكن إطلاقه موهماً نقصاً ، بل كان مشعراً بالمدح ، فمنعه جمهور أهل الحقّ مطلقاً للخطر ، وجوّزه المعتزلة مطلقاً .
تسمية المحرّمات بغير أسمائها :
20 - إذا سمّيت المحرّمات بغير أسمائها المعروفة ، وهي الّتي اقترن بها التّحريم ، بأن سمّيت بأسماء أخرى لم يقترن التّحريم بها : فإنّ هذه التّسمية لا تزيل عن المحرّمات صفة الحرمة . مثال ذلك : الخمر ، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى حرّمها بنفس هذا الاسم حيث قال سبحانه : { يَا أَيُّها الّذينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأَنْصَابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَملِ الشَّيطَانِ فَاجْتَنِبُوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فلو سمّيت باسم آخر من أسماء الأشربة المباحة ، فإنّ تلك التّسمية لا تزيل عنها صفة الحرمة ، لأنّ العلّة - وهي الإسكار - لا تزول بتلك التّسمية ، وهذا تلاعب بالدّين واحتيال يزيد في إثم مرتكب الحرام .
وقد أخرج أبو داود في سننه عن مالك بن أبي مريم قال : دخل علينا عبد الرّحمن بن غنم فتذاكرنا الطّلاء فقال : حدّثني أبو مالك الأشعريّ رضي الله عنه أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ من أمّتي الخمرَ ، يسمّونها بغير اسمها » .
والطّلاء بالكسر والمدّ : هو الشّراب الّذي يطبخ حتّى يذهب ثلثاه ، وكان البعض يسمّي الخمر طلاءً . والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم « يسمّونها بغير اسمها » أي : يتستّرون بشربها بأسماء الأنبذة المباحة كماء العسل وماء الذّرة ونحو ذلك ، ويزعمون أنّه غير محرّم ، لأنّه ليس من العنب والتّمر وهم فيه كاذبون ، لأنّ كلّ مسكر حرام ، فإنّ المدار على حرمة المسكر ، ولهذا لا يضرّ شرب القهوة المأخوذة من البنّ حيث لا سكر فيها مع الإكثار منها ، وإن كانت القهوة من أسماء الخمر فالاعتبار بالمسمّى .
ثالثاً : التّسمية بمعنى تحديد العوض في العقود :
21 - من أمثلة هذا المعنى عندهم : المهر ، فإنّه لا تشترط تسميته في عقد النّكاح فيصحّ النّكاح ويثبت مهر المثل بالدّخول أو الموت .
ومن أمثلته أيضاً : الأجرة ، فإنّ الجمهور يشترطون فيها ما يشترط في الثّمن في البيع ، فيجب العلم بالأجر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من استأجر أجيراً فَلْيعلمه أجره » فإن كان الأجر ديناً ثابتاً في الذّمّة ممّا يصحّ ثبوته فيها فلا بدّ من بيان جنسه ونوعه وصفته وقدره ، فإن كان في الأجر جهالة مفضية للنّزاع فسد العقد ، ويجب أجر المثل عند استيفاء المنفعة . ومن أمثلته أيضاً : الثّمن ، فإنّ الفقهاء متّفقون على وجوب تسميته في العقد بجواز البيع . على تفصيل يذكر في مصطلح : ( ثمن ، وبيع ) .
رابعاً : التّسمية بمعنى التّعيّن بالاسم مقابل الإبهام :
22 - من أمثلته : تسمية الشّهود ، أو ترك تسميتهم لإثبات عدالتهم .
فالحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة يرون أنّه لا بدّ من تسمية الشّهود وبيان أنسابهم وحلاهم وقبائلهم ومحالّهم وأسواقهم ، إلى غير ذلك من الأمور ، وذلك لإثبات عدالتهم .
وأمّا عند المالكيّة : فإنّه يجوز للرّجل أن يعدّل آخر وإن لم يعرف اسمه ولا كنيته المشهور بها ولا اللّقب ، وإن لم يذكر سبب عدالته ، لأنّ أسباب العدالة كثيرة بخلاف الجرح .

تسنيم *
التّعريف :
1- التسنيم في اللغة : رفع الشيء ، يقال سنم الإناء : إذا ملأه حتى صار الحب فوقه كالسنام ، وكل شيء علا شيئاً فقد تسنمه . وسنام البعير والناقة : أعلى ظهرها ، والجمع أسنمة ، وفي الحديث : « نساء على رؤوسهن كأَسْنِمَة البُخْت » . وقوله تعالى { ومِزَاجُه مِنْ تَسْنِيم } قالوا : هو ماء في الجنة ، سمي بذلك لأنه يجري فوق الغرف والقصور .
والتسنيم في اصطلاح الفقهاء : رفع القبر عن الأرض مقدار شبر أو أكثر قليلاً .
وفي النظم المستعذب : التنسيم أن يجعل أعلى القبر مرتفعاً ، ويجعل جانباه ممسوحين مسنَدين ، مأخوذ من سنام البعير . ويقابله تسطيح القبر ، وهو : أن يجعل منبسطاً متساوي
الأجزاء ، لا ارتفاع فيه ولا انخفاض كسطح البيت .
الحكم الإجمالي :
2- لا خلاف بين الفقهاء في استحباب رفع التراب فوق القبر قدر شبر ، ولا بأس بزيادته عن ذلك قليلاً على ما عليه بعض فقهاء الحنفية ، ليعرف أنه قبر ، فيتوقى ويترحم على صاحبه . فعن جابر رضي الله عنه « أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع قبره عن الأرض قدر شبر » وعن القاسم بن محمد قال لعائشة رضي الله عنها : « اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، فكشفت عن ثلاثة قبور ، لا مشرفة ولا لاطئة ، مبطوحة
ببطحاء العرصة الحمراء »
واختلفوا هل يسنم القبر أو يسطح ؟ فذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنه : يندب تسنيمه كسنام البعير ، لما روى البخاري عن سفيان التمار أنه « رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً » وعن الحسن مثله .
وما روي عن إبراهيم النخعي أنه قال : « أخبرني من رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنها مسنمة عليها فلق مدر بيض »
وما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما « أن جبريل عليه السلام صلى بالملائكة على آدم وجعل قبره مسنماً »
وكرهوا تسطيح القبر ، لأن التسطيح يشبه أبنية أهل الدنيا ، وهو أشبه بشعار أهل البدع ،
فكان مكروهاً لذلك عندهم ، ولما روي أن « النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تربيع القبور » وذهب الشافعية إلى أنه يندب تسطيحه ( أي تربيعه ) وأنه أفضل من تسنيمه ، لما روي « أن إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي جعل الرسول صلى الله عليه وسلم قبره مسطحاً » ولا يخالف ذلك قول علي رضي الله عنه : « أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته » لأنه لم يرد تسويته بالأرض ، وإنما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار . هذا إذا دفن المسلم في دار الإسلام .
3- أما إن دفن المسلم في غير دار الإسلام ، بأن دفن في بلد الكفار أو دار حرب ، وتعذر نقله إلى دار الإسلام ، فالأولى تسوية قبره بالأرض ، وإخفاؤه أولى من إظهاره وتسنيمه خوفاً من أن ينبش فيمثل به ، وفي ذلك صيانة له عنهم .
وألحق به الأذرعي : الأمكنة التي يخاف نبشها لسرقة كفنه أو لعداوة ونحوهما .
وانظر باقي الأحكام المتعلقة بالقبر في مصطلح ( قبر ) .

تسوّك *
انظر : استياك .

تسوّل *
انظر شحاذة .

تسويد *
التّعريف :
1- التّسويد مصدر سوّد ، يقال : سوّد تسويداً . والتّسويد يأتي بمعنى التّلوين بالسّواد - وهو ضدّ البياض - يقال : سوّد الشّيء أي : جعله أسود .
ويأتي التّسويد من السّيادة ، فيكون بمعنى : التّشريف ، يقال : سوّده قومه تسويداً أي : جعلوه سيّداً عليهم . وفي المصباح : ساد يسود سيادةً ، والاسم السّؤدد ، وهو : المجد والشّرف ، فهو سيّد والأنثى سيّدة .
والسّيّد : المتولّي للسّواد أي الجماعة ، وينسب إلى ذلك فيقال : سيّد القوم . ولمّا كان من شرط المتولّي للجماعة أن يكون مهذّب النّفس ، قيل لكلّ من كان فاضلاً في نفسه : سيّد . ويطلق السّيّد على الرّبّ ، والمالك ، والحليم ، ومحتمل أذى قومه ، والزّوج ، والرّئيس ، والمقدّم . ويأتي التّسويد - أيضاً - لنوع من المداواة ، قال في اللّسان نقلاً عن أبي عبيد : ويقال : سوّد الإِبل تسويداً : إذا دقّ المِسح البالي من شعر فداوى به أدبارها .
والتّسويد في الاصطلاح يريد به الفقهاء المعنيين الأوّلين غالباً .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّبييض :
2 - التّبييض : مصدر بيّض ، يقال : بيّض الشّيء أي جعله أبيض ، ضدّ سوّده .
والبياض ضدّ السّواد ، والبيّاض : الرّجل الّذي يبيّض الثّياب . والمبيِّضة : أصحاب البياض ، وهم فرقة من الثّنويّة سمّوا كذلك لتبييضهم الثّياب ، مخالفةً للمسوّدة من العبّاسيّين .
ب - التّعظيم :
3 - التّعظيم : مصدر عظّم ، يقال : عظّمه تعظيماً أي : كبّره وفخّمه .
والتّعظيم يكون باعتبار الوصف والكيفيّة ، ويقابله التّحقير فيهما بحسب المنزلة والرّتبة .
ج - التّفضيل :
4 - التّفضيل : مصدر فضّل ، يقال : فضّلته على غيره تفضيلاً أي : صيّرته أفضل منه ، وفضّله أي مزّاه . والتّفضيل دون التّسويد - بمعنى السّيادة - لكنّه سبب له وطريق إليه .
د - التّكريم :
5 - التّكريم : أن يوصل إلى الإنسان نفع لا يلحقه فيه غضاضة ، أو أن يجعل ما يوصل إلى الإنسان شيئاً كريماً أي شريفاً . وهو مصدر كرّم ، يقال : كرّمه تكريماً أي عظّمه ونزّهه . والإكرام والتّكريم بمعنًى ، والكرم ضدّ اللّؤم .
الحكم التّكليفيّ :
6 - يختلف حكم التّسويد باختلاف معناه ومبحثه الفقهيّ .
فالتّسويد يأتي بمعنى : السّيادة ، ويبحث حكمه في مواطن منها : تسويد النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الصّلاة وفي غيرها ، وتسويد غيره صلى الله عليه وسلم وتسويد المنافق . ويأتي التّسويد بمعنى : التّلوين بالسّواد ، ويبحث حكمه في مواطن منها : التّعزير ، والخضاب ، والحداد ، والتّعزية ، واللّباس والعمامة ، وشعر المبيع .
أوّلاً
التّسويد من السّيادة
تسويد النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
اختلف الفقهاء في حكم تسويد النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الصّلاة ، وحكم تسويده صلى الله عليه وسلم في غير الصّلاة .
أ - في الصّلاة :
7 - ورد لفظ الصّلوات الإبراهيميّة في كتب الحديث والفقه مأثوراً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من غير ذكر " سيّدنا " قبل اسمه عليه الصلاة والسلام .
وأمّا إضافة لفظ " سيّدنا " فرأى من لم يقل بزيادتها الالتزام بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم لأنّ فيه امتثالاً لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من غير زيادة في الأذكار والألفاظ المأثورة عنه ، كالأذان والإقامة والتّشهّد والصّلاة الإبراهيميّة .
وأمّا بخصوص زيادة " سيّدنا " في الصّلاة الإبراهيميّة بعد التّشهّد ، فقد ذهب إلى استحباب ذلك بعض الفقهاء المتأخّرين كالعزّ بن عبد السّلام والرّمليّ والقليوبيّ والشّرقاويّ من الشّافعيّة ، والحصكفيّ وابن عابدين من الحنفيّة متابعةً للرّمليّ الشّافعيّ ، كما صرّح باستحبابه النّفراويّ من المالكيّة . وقالوا : إنّ ذلك من قبيل الأدب ، ورعاية الأدب خير من الامتثال ، كما قال العزّ بن عبد السّلام .
ب - في غير الصّلاة :
8 - أجمع المسلمون على ثبوت السّيادة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى عَلَمِيَّتِه في السّيادة . قال الشّرقاويّ : فلفظ " سيّدنا " علم عليه صلى الله عليه وسلم .
ومع ذلك خالف بعضهم وقالوا : إنّ لفظ السّيّد لا يطلق إلاّ على اللّه تعالى ، لما روي عن أبي نضرة عن مطرّف قال : قال أبي : « انطلقت في وفد بني عامر إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقلنا : أنت سيّدنا ، فقال : السّيّد اللّه تبارك وتعالى . قلنا : وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً ، قال : قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، ولا يسخر بكم الشّيطان » . وفي حديث آخر
« أنّه جاءه رجل فقال : أنت سيّد قريش ، فقال صلى الله عليه وسلم : السّيّد اللّه » .
قال ابن الأثير في النّهاية : أي هو الّذي يحقّ له السّيادة ، كأنّه كره أن يحمد في وجهه ، وأحبّ التّواضع . ومنه الحديث لما قالوا : أنت سيّدنا ، قال : « قولوا بقولكم » أي ادعوني نبيّاً ورسولاً كما سمّاني اللّه ، ولا تسمّوني سيّداً كما تسمّون رؤساءكم ، فإنّي لست كأحدهم ممّن يسودكم في أسباب الدّنيا .
وأضاف ابن مفلح إلى ما سبق : والسّيّد يطلق على الرّبّ ، والمالك ، والشّريف ، والفاضل ، والحكيم ، ومتحمّل أذى قومه ، والزّوج ، والرّئيس ، والمقدّم .
وقال أبو منصور : كره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يمدح في وجهه وأحبّ التّواضع للّه تعالى ، وجعل السّيادة للّذي ساد الخلق أجمعين . وليس هذا بمخالف لقوله لسعد بن معاذ رضي الله عنه حين قال لقومه الأنصار : « قوموا إلى سيّدكم » أراد أنّه أفضلكم رجلاً وأكرمكم . وأمّا صفة اللّه جلّ ذِكْره بالسّيّد فمعناه : أنّه مالك الخلق والخلق كلّهم عبيده - أي فلا يطلق لفظ السّيّد بهذا المعنى على غير اللّه تعالى - وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر » أراد أنّه أوّل شفيع ، وأوّل من يفتح له باب الجنّة ، قال ذلك إخباراً عمّا أكرمه اللّه به من الفضل والسّودد ، وتحدّثاً بنعمة اللّه عنده ، وإعلاماً منه ، ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه ، ولهذا أتبعه بقوله : « ولا فخر » أي أنّ هذه الفضيلة الّتي نلتها كرامةً من اللّه تعالى ، لم أنلها من قبل نفسي ، ولا بلغتها بقوّتي ، فليس لي أن أفتخر بها .
وقال السّخاويّ : إنكاره صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم وكراهةً منه أن يحمد ويمدح مشافهةً ، أو لأنّ ذلك كان من تحيّة الجاهليّة ، أو لمبالغتهم في المدح ، وقد صحّ قوله صلى الله عليه وسلم : « أنا سيّد ولد آدم » وقوله للحسن رضي الله عنه : « إنّ ابني هذا سيّد » وورد قول سهل بن حنيف رضي الله عنه للنّبيّ صلى الله عليه وسلم : « يا سيّدي » في حديث عند النّسائيّ في عمل اليوم واللّيلة ، وقول ابن مسعود : " اللّهمّ صلّ على سيّد المرسلين ".
وفي كلّ هذا دلالة واضحة وبراهين لائحة على جواز ذلك ، والمانع يحتاج إلى إقامة دليل ، سوى ما تقدّم ، لأنّه لا ينهض دليلاً مع الاحتمالات السّابقة .
تسويد غير النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
9 - اختلف الفقهاء في جواز إطلاق لفظ السّيّد على غير النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
فذهب جمهورهم إلى جواز إطلاق لفظ السّيّد على غير النّبيّ صلى الله عليه وسلم واستدلّوا بقول اللّه تعالى في يحيى عليه السلام : { وَسَيِّدَاً وَحَصُورَاً وَنَبِيَّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } أي أنّه فاق غيره عفّةً ونزاهةً عن الذّنوب . وقوله عزّ وجلّ في امرأة العزيز : { وَأَلْفَيَا سَيِّدَها لَدَى الباب } أي زوجها وبما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل : من السّيّد ؟ قال : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام قالوا : فما في أمّتك من سيّد ؟ قال : بلى ، من آتاه اللّه مالاً ، ورزق سماحةً ، فأدّى شكره ، وقلّت شكايته في النّاس » وبقوله صلى الله عليه وسلم للأنصار وبني قريظة : « قوموا إلى سيّدكم » يعني سعد بن معاذ . وقوله صلى الله عليه وسلم في الحسن بن عليّ رضي الله عنهما - كما ورد في الصّحيحين - « إنّ ابني هذا سيّد ، ولعلّ اللّه يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين » وكذلك كان. وقوله صلى الله عليه وسلم للأنصار : « من سيّدكم ؟ قالوا : الجدّ بن قيس على أنّا نبخّله ، قال صلى الله عليه وسلم : وأيّ داء أدوى من البخل » .
وبقوله صلى الله عليه وسلم :« كلّ بني آدم سيّد ، فالرّجل سيّد أهله ،والمرأة سيّدة بيتها ».
ومنه حديث أمّ الدّرداء رضي الله عنها : حدّثني سيّدي أبو الدّرداء .
وبقول عمر رضي الله عنه لمّا سئل : من الّذي إلى جانبك ، فأجاب : هذا سيّد المسلمين أبيّ بن كعب رضي الله عنه .
وقالوا : إنّه لم يرد في القرآن الكريم ولا في حديث متواتر أنّ السّيّد من أسماء اللّه تعالى ، ولأنّ إطلاق لفظ السّيّد على اللّه عزّ وجلّ لكونه سبحانه مالك الخلق أجمعين ، ولا مالك لهم سواه ، وإطلاق هذا اللّفظ على غير اللّه تعالى لا يكون بهذا المعنى الجامع الكامل ، بل بمعان قاصرة عن ذلك .
وقال بعضهم : إنّ لفظ السّيّد لا يطلق إلاّ على اللّه سبحانه وتعالى ، لما ورد في حديث مطرّف الّذي سبق ذكره . وقال الخطّابيّ : لا يقال السّيّد ولا المولى على الإطلاق من غير إضافة إلاّ في صفة اللّه تعالى .
وقال بعضهم : إنّ لفظ السّيّد يجوز إطلاقه على مالك العبد أو مالكته ، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : لا يقولنّ أحدكم : عبدي وأمتي ، ولا يقولنّ المملوك : ربّي وربّتي ، وليقل المالك : فتاي وفتاتي . وليقل المملوك : سيّدي وسيّدتي ، فإنّهم المملوكون ، والرّبّ : اللّه تعالى » قال صاحب عون المعبود : كان بعض أكابر العلماء يأخذ بهذا ، ويكره أن يخاطب أحداً بلفظه أو كتابته بالسّيّد ، ويتأكّد هذا إذا كان المخاطب غير تقيّ .
من يستحقّ التّسويد :
10 - لفظ السّيّد مشتقّ من السّؤدد ، وهو : المجد والشّرف ،ويطلق على المتولّي للجماعة. ومن شرطه وشأنه أن يكون مهذّب النّفس شريفاً . وعلى من قام به بعض خصال الخير من الفضل والشّرف والعبادة والورع والحلم والعقل والنّزاهة والعفّة والكرم ونحو ذلك .
إطلاق لفظ السّيّد على المنافق :
11 - المنافق ليس من هذه الخصال في شيء ، لأنّه كاذب مدلّس خائن ، لا توافق سريرته علانيته . وفي العقيدة : يبطن الكفر ويظهر الإسلام . وقد ورد النّهي عن إطلاق لفظ السّيّد على المنافق فيما روي عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا تقولوا للمنافق سيّد ، فإنّه إن يك سيّدكم فقد أسخطتم ربّكم عزّ وجلّ »
وذلك لأنّ السّيّد هو المستحقّ للسّؤدد ، أي للأسباب العالية الّتي تؤهّله لذلك ، فأمّا المنافق فإنّه موصوف بالنّقائص ، فوصفه بذلك وضع له في مكان لم يضعه اللّه فيه ، فلا يبعد أن يستحقّ واضعه بذلك سخط اللّه . وقيل معناه : إن يك سيّداً لكم فتجب عليكم طاعته ، فإذا أطعتموه في نفاق فقد أسخطتم ربّكم . وقال ابن الأثير : لا تقولوا للمنافق سيّد ، فإنّه إن كان سيّدكم وهو منافق فحالكم دون حاله ، واللّه لا يرضى لكم ذلك .
ثانياً
التّسويد من السّواد
أ - التّسويد بالخضاب :
12 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ خضاب الرّجل بالسّواد مكروه في غير الجهاد في الجملة . وللحنفيّة والمالكيّة في ذلك تفصيل :
قال ابن عابدين : يكره الخضاب بالسّواد أي لغير الحرب ، قال في الذّخيرة : أمّا الخضاب بالسّواد للغزو - ليكون أهيب في عين العدوّ - فهو محمود بالاتّفاق .
وإن كان ليزيّن نفسه للنّساء فمكروه ، وعليه عامّة المشايخ . وبعضهم جوّزه بلا كراهة . روي عن أبي يوسف أنّه قال : كما يعجبني أن تتزيّن لي يعجبها أن أتزيّن لها .
وقال المالكيّة : الخضاب بالسّواد إذا كان للتّغرير فهو حرام . كمن أراد نكاح امرأة فصبغ شعر لحيته الأبيض ، بالسّواد . وإن كان للجهاد حتّى يوهم العدوّ الشّباب ندب .
وإن كان للتّشابّ كره . وإن كان مطلقاً فقولان : بالكراهة والجواز .
وقال الشّافعيّة : إنّ الخضاب بالسّواد حرام في الجملة ، ولهم في ذلك تفصيل وخلاف .
قال النّوويّ في المجموع : اتّفقوا على ذمّ خضاب الرّأس واللّحية بالسّواد ، ثمّ قال : قال : الغزاليّ في الإحياء ، والبغويّ في التّهذيب ، وآخرون من الأصحاب : هو مكروه .
وظاهر عبارتهم أنّه مكروه كراهة تنزيه ، والصّحيح - بل الصّواب - أنّه حرام .
وممّن صرّح بتحريمه صاحب الحاوي في باب الصّلاة بالنّجاسة ، قال : إلاّ أن يكون في الجهاد ، وقال في آخر كتاب الأحكام السّلطانيّة يمنع المحتسب النّاس من خضاب الشّيب بالسّواد إلاّ المجاهد ، ودليل تحريمه حديث جابر رضي الله عنه قال : « أتي بأبي قحافة والد أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنهما يوم فتح مكّة ورأسه ولحيته كالثّغامة بياضاً فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : غيّروا هذا ، واجتنبوا السّواد » ، وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : يكون قوم يخضّبون في آخر الزّمان بالسّواد كحواصل الحمام ، لا يريحون رائحة الجنّة » ، ولا فرق في المنع من الخضاب بالسّواد بين الرّجل والمرأة .. هذا مذهبنا ، وحكي عن إسحاق بن راهويه أنّه رخّص فيه للمرأة تتزيّن به لزوجها .
وقال النّوويّ في روضة الطّالبين : خضاب المرأة بالسّواد إن كانت خليّةً من الزّوج وفعلته فهو حرام ، وإن كانت زوجةً وفعلته بإذنه فجائز على المذهب ،وقيل : وجهان كوصل الشّعر. وقال الرّمليّ : يحرم على المرأة الخضاب بالسّواد ، فإن أذن لها زوجها في ذلك جاز ، لأنّ له غرضاً في تزيّنها له ، كما في الرّوضة وأصلها ، وهو الأوجه .
هذا في خضب الرّجل والمرأة الشّعر بالسّواد ، أمّا خضبهما الشّعر بغير السّواد ، كالحمرة والصّفرة مثلاً ، وخضبهما غير الشّعر كاليدين والرّجلين ففيه تفصيل يذكر في موطنه .
وقال الحافظ في الفتح : إنّ من العلماء من رخّص في الاختضاب بالسّواد مطلقاً ، ومنهم من رخّص فيه للرّجال دون النّساء . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( اختضاب ) .
ب - لبس السّواد في الحداد :
13 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للمتوفّى عنها زوجها لبس السّواد من الثّياب ... ولا يجب عليها ذلك ، بل لها أن تلبس غيره .
واختلف فقهاء الحنفيّة في المدّة الّتي يجوز لها أن تلبس فيها السّواد ، فقال بعضهم : لا تجاوز ثلاثة أيّام . ولكنّ فقهاء المذهب - ومنهم ابن عابدين - حملوا ذلك على ما تصبغه الزّوجة بالسّواد وتلبسه تأسّفاً على زوجها ، أمّا ما كان مصبوغاً بالسّواد قبل موت زوجها ، فيجوز لها أن تلبسه مدّة الحداد كلّها .ومنع الحنفيّة لبس السّواد في الحداد على غير الزّوج.
وقال المالكيّة : إنّ المحدّ يجوز لها أن تلبس الأسود ، إلاّ إذا كانت ناصعة البياض ، أو كان الأسود زينة قومها .
وقال القليوبيّ من الشّافعيّة : إذا كان الأسود عادة قومها في التّزيّن به حرم لبسه ، ونقل النّوويّ عن الماورديّ أنّه أورد في " الحاوي " وجهاً يلزمها السّواد في الحداد .
ج - لبس السّواد في التّعزية :
14 - اتّفق الفقهاء على أنّ تسويد الوجه حزناً على الميّت - من أهله أو من المعزّين لا يجوز - لما فيه من إظهار للجزع وعدم الرّضا بقضاء اللّه وعلى السّخط من فعله ، ممّا ورد النّهي عنه في الأحاديث . وتسويد الثّياب للتّعزية مكروه للرّجال ، ولا بأس به للنّساء ، أمّا صبغ الثّياب أسود أو أكهب تأسّفاً على الميّت فلا يجوز على التّفصيل السّابق .
د - السّواد في اللّباس والعمامة :
15 - يندب لبس السّواد عند الحنفيّة ، قال ابن عابدين : ندب لبس السّواد ، لأنّ محمّداً ذكر في السّير الكبير في باب الغنائم حديثاً يدلّ على أنّ لبس السّواد مستحبّ .
أمّا الصّبغ بالأسود ، ولبس المصبوغ به فنقل عن أبي حنيفة : أنّه لا بأس به .
وقال الشّافعيّة : يندب لإمام الجمعة أن يزيد في حسن الهيئة والعمّة والارتداء ، وترك لبس السّواد له أولى من لبسه ، إلاّ إن خشي مفسدةً تترتّب على تركه من سلطان أو غيره ،
وقال ابن عبد السّلام في فتاويه : المواظبة على لبسه بدعة ، فإن منع الخطيب أن يخطب إلاّ به فليفعل وقالوا : نقل أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم لبس العمامة البيضاء والعمامة السّوداء » ، ولكنّ الأفضل في لونها البياض لعموم الخبر الصّحيح الآمر بلبس البياض ، وأنّه خير الألوان في الحياة والموت .
وقال الحنابلة : يباح السّواد ولو للجند ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « دخل مكّة عام الفتح وعليه عمامة سوداء » .
هـ - تسويد الوجه في التّعزير :
16 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يجوز في التّعزير تسخيم الوجه ، أي دهن وجه المعزّر بالسّخام ، وهو السّواد الّذي يتعلّق بأسفل القدر ومحيطه من كثرة الدّخان .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجوز تسويد الوجه في التّعزير ، لأنّ الإمام يجتهد في جنس ما يعزّر به وفي قدره ، ويفعل بكلّ معزّر ما يليق به وبجنايته ، مع مراعاة التّرتيب والتّدريج ، فلا يرقى لمرتبة وهو يرى ما دونها كافياً .

تسوية *
التّعريف :
1 - التّسوية لغةً : العدل والنّصفة ، والجور أو الظّلم ضدّ العدل ، واستوى القوم في المال مثلاً : إذا لم يفضل أحد منهم غيره في المال . وسواء الشّيء : غيره ومثله - من الأضداد - وتساوت الأمور : تماثلت ، واستوى الشّيئان وتساويا : تماثلا .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
القسم :
2 - وهو مصدر قسم الشّيء يقسمه قسماً : جَزّأه ، والقسم : نصيب الإنسان من الشّيء ويقال : قسمت الشّيء بين الشّركاء ، وأعطيت كلّ شريك قسمه .
ومنه التّقسيم والقسمة قد تكون بالتّساوي ، وقد تكون بالتّفاضل .
الحكم التّكليفيّ :
يختلف حكم التّسوية باعتبار ما يتعلّق به على الوجه الآتي :
تسوية الصّفوف في الصّلاة :
3 - اتّفق العلماء على أنّ من السّنن المؤكّدة تسوية الصّفوف في صلاة الجماعة ، بحيث لا يتقدّم بعض المصلّين على البعض الآخر ، والتّراصّ في الصّفوف ، بحيث لا يكون فيها فرجة ، للأحاديث الكثيرة الّتي وردت في الحثّ عليها : منها قوله صلى الله عليه وسلم : « سوّوا صفوفكم ، فإنّ تسوية الصّفّ من تَمام الصّلاة » وفي رواية « فإنّ تسوية الصّفوف من إقامة الصّلاة » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « أقيموا صفوفكم وتراصّوا ، فإنّي أراكم من وراء ظهري » وقوله صلى الله عليه وسلم : « لَتُسَوُّنَّ صفوفَكم أو ليخالفَنَّ اللّه بين وجوهكم » . وبيان ما تتحقّق به التّسوية في الصّفوف ينظر في مصطلح ( صلاة الجماعة ) .
تسوية الظّهر في الرّكوع :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّ أكمل الرّكوع هو أن ينحني المصلّي ، بحيث يستوي ظهره وعنقه ، بأن يمدّهما حتّى يصيرا كالصّحيفة الواحدة ، وينصب ساقيه وفخذيه إلى الحقو ، ولا يثني ركبتيه حتّى لا يفوت استواء الظّهر به . لأنّ ذلك ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فعن أبي حميد السّاعديّ رضي الله عنه قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا كبّر جعل يديه حَذْوَ منكبيه ، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ، ثمّ هصر ظهره » وفي رواية « ثمّ حنى غير مقنّع رأسه ولا مصوّبه » وعن عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يفتتح الصّلاة بالتّكبير إلى أن قالت : وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوّبه ، ولكن بين ذلك » . وفي حديث المسيء صلاته قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم له : « فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك ، وامدد ظهرك ، ومكّن ركوعك » .
قال الإمام البغويّ رحمه الله : السّنّة في الرّكوع عند عامّة العلماء : أن يضع راحتيه على ركبتيه ، ويفرّج بين أصابعه ، ويجافي مرفقيه عن جنبيه ، ويسوّي ظهره وعنقه ورأسه .
التّسوية في إعطاء الزّكاة بين الأصناف الثّمانية :
5 - اختلف العلماء في وجوب التّسوية في الزّكاة بين الأصناف الثّمانية ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى جواز الاقتصار على صنف واحد من الأصناف الثّمانية ، وإلى جواز أن يعطيها شخصاً واحداً من الصّنف الواحد ، فلا يجب على الإمام - إن كان هو الّذي يوزّع - ولا على المالك أن يستوعب جميع الأصناف ، ولا آحاد كلّ صنف .
واستدلّوا لذلك بأدلّة منها : « قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه : أعلمهم أنّ عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم » ففيه الأمر بردّ جملتها في الفقراء ، وهم صنف واحد ، ولم يذكر سواهم .
ثمّ أتاه بعد ذلك مال فجعله في صنف ثان غير الفقراء ، وهم المؤلّفة قلوبهم : الأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن ، وعلقمة بن علاقة ، وزيد الخير .
حيث قسم فيهم الذّهيبة الّتي بعث بها إليه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه من اليمن .
قال ابن قدامة : وإنّما يؤخذ من أهل اليمن الصّدقة . وفي حديث سلمة بن صخر البياضيّ رضي الله عنه « أنّه صلى الله عليه وسلم أمر له بصدقة قومه بقوله عليه الصلاة والسلام : فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك » .
لكنّهم مع ذلك يرون أنّه من الأفضل في القسمة أن يقدّم الأكثر حاجةً ، فالّذي يليه .
فعن عمر رضي الله عنه أنّه كان إذا جمع صدقات المواشي من البقر والغنم ، نظر منها ما كان منيحة اللّبن ، فيعطيها لأهل بيت واحد على قدر ما يكفيهم ، وكان يعطي العشرة للبيت الواحد ثمّ يقول : عطيّة تكفي خير من عطيّة لا تكفي .
وذهب الإمام النّخعيّ رحمه الله إلى أنّه إن كان المال كثيراً يحتمل الأصناف قسمه عليهم ، وإن كان قليلاً جاز وضعه في صنف واحد .
وذهب الشّافعيّة ، وهو قول عكرمة إلى وجوب استيعاب الأصناف الثّمانية إن كان الإمام أو نائبه هو الّذي يقسم ، فإن فقد بعض الأصناف فعلى الموجودين . وكذا يجب على المالك إن تولّى بنفسه القسمة أن يستوعب الأصناف السّبعة غير العامل إن انحصر المستحقّون في البلد ، بأن سهل عادةً ضبطهم ومعرفة عددهم . وإن لم ينحصروا فيجب إعطاء ثلاثة فأكثر من كلّ صنف ، لأنّ اللّه تعالى أضاف إليهم الزّكوات بلفظ الجمع ، وأقلّه ثلاثة .
6- وتجب التّسوية بين الأصناف الثّمانية سواء قسّم الإمام أو المالك ، وإن كانت حاجة بعضهم أشدّ ،لأنّ اللّه سبحانه وتعالى جمع بينهم بواو التّشريك ، فاقتضى أن يكونوا سواءً . « ولقوله صلى الله عليه وسلم لرجل سأله من الزّكاة إنّ اللّه لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصّدقات ،حتّى حكم هو فيها ،فجزّأها ثمانية أجزاء ،فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك »
7- كما يجب على الإمام أن يسوّي بين آحاد الصّنف الواحد ، إذا كانت حاجاتهم متساويةً ، لأنّ عليه التّعميم فتلزمه التّسوية ، ولأنّه نائبهم فيحرم عليه التّفضيل .
أمّا إذا اختلفت حاجاتهم فعليه أن يراعيها .
ولا يجب على المالك التّسوية بين آحاد الصّنف الواحد لعدم انضباط الحاجات الّتي من شأنها التّفاوت ، لكن يسنّ له التّسوية إن تساوت حاجاتهم ، فإن تفاوتت استحبّ التّفاوت بقدرها .
التّسوية بين الزّوجات في القسم :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ القسم بين الزّوجات واجب على الرّجل وإن كان مريضاً أو مجبوباً أو عنّيناً ، لأنّ من مقاصد القسم الأنس ، وهو حاصل ممّن لا يطأ . فقد روت عائشة رضي الله عنها « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمّا كان في مرضه جعل يدور على نسائه ، ويقول : أين أنا غداً ؟ أين أنا غداً ؟ » .
ويقسم للمريضة ، والحائض ، والنّفساء ، والرّتقاء ، والقرناء ، والمحرمة ، ومن آلى منها أو ظاهر ، والشّابّة ، والعجوز ، والقديمة ، والحديثة . لقوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } الآية . وروي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعدل بين نسائه في القسم ويقول : اللّهمّ هذا قَسْمي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما تملك أنتَ ولا أَملك » .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من كان له امرأتان ، فمال إلى إحداهما دون الأخرى ، جاء يوم القيامة وشقّه مائل » .
ويسوّي في القسم بين المسلمة والكتابيّة لما ذكرنا من الدّلائل من غير فضل ، ولأنّهما يستويان في سبب وجوب القسم وهو النّكاح ، فيستويان في القسم .
وتفصيل القسم بين الزّوجات في الحضر والسّفر ، وفي بدء القسم ، وما يختصّ به العروس عند الدّخول وغير ذلك ، يرجع فيه إلى مصطلح ( القسم بين الزّوجات ) .
التّسوية بين المتخاصمين في التّقاضي :
9 - اتّفق الفقهاء أنّ على القاضي العدل بين الخصمين في كلّ شيء من المجلس ، والخطاب ، واللّحظ ، واللّفظ ، والإشارة ، والإقبال ، والدّخول عليه ، والإنصات إليهما ، والاستماع منهما ، والقيام لهما ، وردّ التّحيّة عليهما ، وطلاقة الوجه لهما ، للأحاديث الكثيرة الّتي ثبتت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك منها :
قوله صلى الله عليه وسلم : « من ابتلي بالقضاء بين المسلمين ، فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده ، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر » وفي رواية : « فَلْيُسَوِّ بينهم في النّظر والمجلس والإشارة » .
وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه" أن آسِ بين النّاس في وجهك وعدلك ومجلسك ، حتّى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا ييأس ضعيف من عدلك ".
ولأنّ مخالفة ذلك يوهم الخصم الآخر ميل القاضي إلى خصمه ، فيضعفه ذلك عن القيام بحجّته ، ولا يسارّ أحدهما دون الآخر ، ولا يلقّنه حجّته ، ولا يضحك في وجهه ، لأنّ في ذلك كلّه مخالفةً للمساواة المطلوبة .
ويشمل هذا الشّريف والوضيع والأب والابن ، والصّغير والكبير والرّجل والمرأة . كما اتّفقوا على تقديم الأوّل فالأوّل ، إذا حضر القاضي خصوم وازدحموا ، لأنّ الحقّ للسّابق ، فإن جهل الأسبق منهم ، أو جاءوا معاً أقرع بينهم ، وقدّم من خرجت قرعته ، إذ لا مرجّح إلاّ بها . فإن حضر مسافرون ومقيمون : فإن كان المسافرون قليلاً ، بحيث لا يضرّ تقديمهم على المقيمين قدّمهم ، لأنّهم على جناح السّفر ، ولئلاّ يتضرّروا بالتّخلّف .
وكذلك النّسوة يقدّمن على الرّجال طلباً لسترهنّ ما لم يكثر عددهنّ أيضاً .
10 - ولكنّهم اختلفوا في حكم تسوية المسلم مع خصمه الكافر .
فذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وهو قول مرجوح عند الشّافعيّة : إلى وجوب المساواة بينهما في كلّ الأمور المذكورة آنفاً ، لأنّ تفضيل المسلم على الكافر ورفعه عليه في مجلس القضاء كسر لقلبه ، وترك للعدل الواجب التّطبيق بين النّاس جميعاً .
وذهب الشّافعيّة في الرّاجح عندهم ، والحنابلة : إلى جواز رفع المسلم على خصمه الكافر ، لما روي عن عليّ رضي الله عنه من أنّه« خرج إلى السّوق ، فوجد درعه مع يهوديّ ، فعرفها فقال : درعي سقطت وقت كذا فقال اليهوديّ : درعي وفي يدي بيني وبينك قاضي المسلمين . فارتفعا إلى شريح رضي الله عنه ، فلمّا رآه شريح قام من مجلسه ، وأجلسه في موضعه ، وجلس مع اليهوديّ بين يديه ، فقال عليّ : إنّ خصمي لو كان مسلماً لجلست معه بين يديك ، ولكنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « لا تساووهم في المجالس » اقض بينيّ وبينه يا شريح . والحديث : « الإسلام يعلو ولا يعلى » .
التّسوية بين الأولاد في العطيّة :
11 - اختلف العلماء في وجوب التّسوية بين الأولاد في العطيّة .
فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ التّسوية بينهم في العطايا مستحبّة ، وليست واجبةً . لأنّ الصّدّيق رضي الله عنه فضّل عائشة رضي الله عنها على غيرها من أولاده في هبة ، وفضّل عمر رضي الله عنه ابنه عاصماً بشيء من العطيّة على غيره من أولاده .
ولأنّ في قوله صلى الله عليه وسلم في بعض روايات حديث النّعمان بن بشير رضي الله عنهما : « فأشهد على هذا غيري » ما يدلّ على الجواز .
وذهب الحنابلة ، وأبو يوسف من الحنفيّة ، وهو قول ابن المبارك ، وطاووس ، وهو رواية عن الإمام مالك رحمه الله : إلى وجوب التّسوية بين الأولاد في الهبة .
فإن خصّ بعضهم بعطيّة ، أو فاضل بينهم فيها أثم ، ووجبت عليه التّسوية بأحد أمرين : إمّا ردّ ما فضّل به البعض ، وإمّا إتمام نصيب الآخر ، لخبر الصّحيحين عن النّعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : « وهبني أبي هبةً . فقالت أمّي عمرة بنت رواحة رضي الله عنها : لا أرضى حتّى تشهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه : إنّ أمّ هذا أعجبها أن أشهدك على الّذي وهبت لابنها ، فقال صلى الله عليه وسلم يا بشير ألك ولد سوى هذا ؟ قال : نعم . قال : كلّهم وهبت له مثل هذا ؟ قال : لا . قال : فأرجعه » . وفي رواية قال : « اتّقوا اللّه ، واعدلوا بين أولادكم » وفي رواية أخرى « لا تشهدني على جور . إنّ لبنيك من الحقّ أن تعدل بينهم » وفي رواية : « فأشهد على هذا غيري » . وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « سوّوا بين أولادكم في العطيّة ، ولو كنت مؤثراً أحداً لآثرت النّساء على الرّجال » .
12 - واختلفوا كذلك في معنى التّسوية بين الذّكر والأنثى من الأولاد .
فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ معنى التّسوية بين الذّكر والأنثى من الأولاد : العدل بينهم في العطيّة بدون تفضيل ، لأنّ الأحاديث الواردة في ذلك لم تفرّق بين الذّكر والأنثى .
وذهب الحنابلة ، والإمام محمّد بن الحسن من الحنفيّة ، وهو قول مرجوح عند الشّافعيّة إلى أنّ المشروع في عطيّة الأولاد القسمة بينهم على قدر ميراثهم : أي للذّكر مثل حظّ الأنثيين ، لأنّ اللّه سبحانه وتعالى قسم لهم في الإرث هكذا ، وهو خير الحاكمين ، وهو العدل المطلوب بين الأولاد في الهبات والعطايا .
وإن سوّى بين الذّكر والأنثى ، أو فضّلها عليه ، أو فضّل بعض البنين أو بعض البنات على بعض ، أو خصّ بعضهم بالوقف دون بعض ، فقال أحمد في رواية محمّد بن الحكم : إن كان على طريق الأثرة فأكرهه ، وإن كان على أنّ بعضهم له عيال وبه حاجة يعني فلا بأس به .
وعلى قياس قول الإمام أحمد : لو خصّ المشتغلين بالعلم من أولاده بوقفه تحريضاً لهم على طلب العلم ، أو ذا الدّين دون الفسّاق ، أو المريض ، أو من له فضل من أجل فضيلته فلا بأس .
التّسوية في الشّفعة بين المستحقّين :
13 - اختلف الفقهاء في التّسوية في الشّفعة بين المستحقّين لها .
فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إلى أنّهم يأخذون بالشّفعة على قدر حصصهم من الملك ، لأنّه حقّ مستحقّ بالملك على قدره ، فلو كانت أرض بين ثلاثة من الشّركاء مثلاً : لواحد نصفها ، ولآخر ثلثها ، ولثالث سدسها ، فباع الأوّل - وهو صاحب النّصف - حصّته أخذ الثّاني سهمين ، والثّالث سهماً واحداً .
وذهب الحنفيّة ، وهو قول مرجوح عند الشّافعيّة ، وبعض الحنابلة ، واختاره جمع من المتأخّرين : إلى أنّ الشّركاء يقتسمون الشّقص على قدر رءوسهم ، وعلى هذا يقسم النّصف في المثال السّابق بين الشّريكين سواءً بسواء ، لأنّ سبب الشّفعة هو أصل الشّركة ، وهم مستوون فيها ، فيجب التّسوية بينهم في اقتسام المشفوع فيه .
التّسوية بين النّاس في المرافق العامّة :
14 - اتّفق الفقهاء على أنّ المرافق العامّة - من الشّوارع والطّرق ، وأفنية الأملاك ، والرّحاب بين العمران ، وحريم الأمصار ، ومنازل الأسفار ، ومقاعد الأسواق ، والجوامع والمساجد ، والأنهار الّتي أجراها اللّه سبحانه وتعالى ، والعيون الّتي أنبع اللّه ماءها ، والمعادن الظّاهرة وهي الّتي خرجت بدون عمل النّاس كالملح والماء والكبريت والكحل وغيرها والكلأ - اتّفقوا على أنّ هذه الأشياء من المنافع المشتركة بين النّاس ، فهم فيها سواسية ، فيجوز الانتفاع بها للمرور والاستراحة والجلوس والمعاملة والقراءة والدّراسة والشّرب والسّقاية ، وغير ذلك من وجوه الانتفاع .
ولكن لا يجوز اقتطاعها لأحد من النّاس ، ولا احتجازها دون المسلمين ، لأنّ فيه ضرراً بالمسلمين وتضييقاً عليهم . ويكون الحقّ فيها للسّابق حتّى يرتحل عنها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « مِنًى مُنَاخ من سبق إليها » . ويشترط عدم الإضرار ، فإذا تضرّر به النّاس لم يجز ذلك بأيّ حال ، لقوله صلى الله عليه وسلم « لا ضرر ولا ضرار » .
تسوية القبر :
15 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى استحباب رفع القبر مقدار شبر من الأرض ، أو أكثر منه بقليل إن لم يخش نبشه من كافر أو نحوه ، وذلك ليعلم أنّه قبر فيزار ، ويترحّم على صاحبه ، ويحترم .
واستدلّوا بما صحّ من أنّ قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم رفع نحو شبر فعن جابر رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رفع قبره عن الأرض قدر شبر » .
وعن القاسم بن محمّد بن أبي بكر رضي الله عنهم قال : « قلت لعائشة رضي الله عنها : يا أمّه اكشفي لي عن قبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، فكشفت لي عن ثلاثة قبور ، لا مشرفةً ولا لاطئةً مبطوحةً ببطحاء العرصة الحمراء » .
وعن إبراهيم النّخعيّ رحمه الله أنّه قال : أخبرني من رأى قبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنّها مسنّمة .
وروي أيضاً أنّ عبد اللّه بن عبّاس رضي الله عنهما لمّا مات بالطّائف ، صلّى عليه محمّد بن الحنفيّة رحمه الله ، وكبّر عليه أربعاً ، وجعل له لحداً ، وأدخله القبر من قبل القبلة ، وجعل قبره مسنّماً ، وضرب عليه فسطاطاً .
ولكنّ الصّحيح عند الشّافعيّة أنّ تسطيح القبر وتسويته بالأرض أولى من تسنيمه ، لما صحّ عن القاسم بن محمّد من « أنّ عمّته عائشة رضي الله عنها كشفت له عن قبر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه فإذا هي مسطّحة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء » .
16 - ويكره عند الجمهور ما زاد عن مقدار الشّبر زيادةً كبيرةً ، إن لم يكن لحاجة كخوف نبش قبر المؤمن من نحو كافر ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه « لا تدع تمثالاً إلاّ طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته » . والمشرف ما رفع كثيراً بدليل « قول القاسم في صفة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصاحبيه : لا مشرفة ولا لاطئة » .
***************************************
نهاية الجزء الحادي عشر / الموسوعة الفقهية
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الثاني عشر / الموسوعة الفقهية :


تشبّه *
التّعريف :
1 - التّشبّه لغة : مصدر تشبّه ، يقال : تشبّه فلان : بفلان إذا تكلّف أن يكون مثله والمشابهة بين الشّيئين : الاشتراك بينهما في معنى من المعاني ، ومنه : أشبه الولد أباه : إذا شاركه في صفة من صفاته . ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - منها : الاتّباع والتّأسّي والتّقليد وقد تقدّم الكلام فيها تحت عنوان : ( اتّباع ) .
3 - ومنها : الموافقة ، وهي : مشاركة أحد الشّخصين للآخر في صورة قول أو فعل أو ترك أو اعتقاد أو غير ذلك ، سواء أكان ذلك من أجل ذلك الآخر أم لا لأجله .
فالموافقة أعمّ من التّشبّه .
الأحكام المتعلّقة بالتّشبّه :
أوّلاً - التّشبّه بالكفّار في اللّباس :
4 - ذهب الحنفيّة على الصّحيح عندهم ، والمِالكيّة على المذهب ، وجمهور الشّافعيّة إلى : أنّ التّشبّه بالكفّار في اللّباس - الّذي هو شعار لهم به يتميّزون عن المسلمين - يحكم بكفر فاعله ظاهرا ، أي في أحكام الدّنيا ، فمن وضع قلنسوة المجوس على رأسه يكفر ، إلا إذا فعله لضرورة الإكراه أو لدفع الحرّ أو البرد . وكذا إذا لبس زنّار النّصارى إلّا إذا فعل ذلك خديعة في الحرب وطليعة للمسلمين . أو نحو ذلك لحديث : « من تَشَبَّه بقوم فهو منهم » لأنّ اللّباس الخاصّ بالكفّار علامة الكفر ، ولا يلبسه إلّا من التزم الكفر ، والاستدلال بالعلامة والحكم بما دلّت عليه مقرّر في العقل والشّرع . فلو علم أنّه شدّ الزّنّار لا لاعتقاد حقيقة الكفر ، بل لدخول دار الحرب لتخليص الأسارى مثلا لم يحكم بكفره .
ويرى الحنفيّة في قول - وهو ما يؤخذ ممّا ذكره ابن الشّاطّ من المالكيّة - أنّ من يتشبّه بالكافر في الملبوس الخاصّ به لا يعتبر كافراً ، إلا أن يعتقد معتقدهم ، لأنّه موحّد بلسانه مصدّق بجنانه . وقد قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله : لا يخرج أحد من الإيمان إلّا من الباب الّذي دخل فيه ، والدّخول بالإقرار والتّصديق ، وهما قائمان .
وذهب الحنابلة إلى حرمة التّشبّه بالكفّار في اللّباس الّذي هو شعار لهم . قال البهوتيّ : إن تزيّا مسلم بما صار شعارا لأهل ذمّة ، أو علّق صليبا بصدره حرم ، ولم يكفر بذلك كسائر المعاصي . ويرى النّوويّ من الشّافعيّة أنّ من لبس الزّنّار ونحوه لا يكفر إذا لم تكن نيّة .
أحوال تحريم التّشبّه :
وبتتبع عبارات الفقهاء يتبين أنهم يقيدون كفر من يتشبه بالكفار في اللباس الخاص بهم بقيود منها :
5 - أن يفعله في بلاد الإسلام ، قال أحمد الرّمليّ : كون التّزيّي بزيّ الكفّار ردّة محلّه إذا كان في دار الإسلام . أمّا في دار الحرب فلا يمكن القول بكونه ردّة ، لاحتمال أنّه لم يجد غيره كما هو الغالب ، أو أن يكره على ذلك .
قال ابن تيميّة : لو أنّ المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم ( للكفّار ) في الهدي الظّاهر ، لما عليه في ذلك من الضّرر بل قد يستحبّ للرّجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظّاهر ، إذا كان في ذلك مصلحة دينيّة ، من دعوتهم إلى الدّين والاطّلاع على باطن أمورهم لإخبار المسلمين بذلك ، أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الحسنة . فأمّا في دار الإسلام والهجرة الّتي أعزّ اللّه فيها دينه ، وجعل على الكافرين فيها الصّغار والجزية ففيها شرعت المخالفة .
6 - أن يكون التّشبّه لغير ضرورة ، فمن فعل ذلك للضّرورة لا يكفر ، فمن شدّ على وسطه زنّاراً ودخل دار الحرب لتخليص الأسرى ، أو فعل ذلك خديعة في الحرب وطليعة للمسلمين لا يكفر . وكذلك إن وضع قلنسوة المجوس على رأسه لضرورة دفع الحرّ والبرد لا يكفر . 7 - أن يكون التّشبّه فيما يختصّ بالكافر ، كبرنيطة النّصرانيّ وطرطور اليهوديّ .
ويشترط المالكيّة لتحقّق الرّدّة بجانب ذلك :أن يكون المتشبّه قد سعى بذلك للكنيسة ونحوها.
8 - أن يكون التّشبّه في الوقت الّذي يكون اللّباس المعيّن شعارا للكفّار ، وقد أورد ابن حجر حديث أنس رضي الله عنه أنّه رأى قوماً عليهم الطّيالسة ، فقال :" كأنّهم يهود خيبر" ثمّ قال ابن حجر : وإنّما يصلح الاستدلال بقصّة اليهود في الوقت الّذي تكون الطّيالسة من شعارهم ، وقد ارتفع ذلك فيما بعد ، فصار داخلا في عموم المباح .
9 - أن يكون التّشبّه ميلا للكفر ، فمن تشبّه على وجه اللّعب والسّخرية لم يرتدّ ، بل يكون فاسقا يستحقّ العقوبة ، وهذا عند المالكيّة .
10 - هذا ، والتّشبّه في غير المذموم وفيما لم يقصد به التّشبّه لا بأس به .
قال صاحب الدّرّ المختار : إنّ التّشبّه بأهل الكتاب لا يكره في كلّ شيء ، بل في المذموم وفيما يقصد به التّشبّه . قال هشام : رأيت أبا يوسف لابساً نعلين مخصوفين بمسامير فقلت أترى بهذا الحديد بأسا ؟ قال : لا ، قلت : سفيان وثور بن يزيد كرها ذلك لأنّ فيه تشبّها بالرّهبان ، فقال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يلبس النّعال الّتي لها شعر وإنّها من لباس الرّهبان » .
فقد أشار إلى أنّ صورة المشابهة فيما تعلّق به صلاح العباد لا يضرّ ، فإنّ الأرض ممّا لا يمكن قطع المسافة البعيدة فيها إلّا بهذا النّوع . وللتّفصيل ر : ( ردّة ، كفر ) .
ثانياً - التّشبّه بالكفّار في أعيادهم :
11 - لا يجوز التّشبّه بالكفّار في أعيادهم ، لما ورد في الحديث « من تشبّه بقوم فهو منهم » ، ومعنى ذلك تنفير المسلمين عن موافقة الكفّار في كلّ ما اختصّوا به . قال اللّه تعالى : { وَلَنْ تَرْضَى عنكَ اليهودُ وَلا النَّصَارى حتّى تَتَّبِعَ مِلّتَهم قلْ إنَّ هُدى اللّهِ هو الهُدَى وَلئنْ اتَّبعتَ أَهواءَهم بَعْدَ الّذي جَاءَكَ مِنَ العلمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِنْ وليٍّ ولا نَصِيرٍ }
وروى البيهقيّ عن عمر رضي الله عنه أنّه قال : لا تعلّموا رطانة الأعاجم ، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم ، فإنّ السّخطة تنزل عليهم .
وروي عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما أنّه قال : من مرّ ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبّه بهم حتّى يموت وهو كذلك ، حشر معهم يوم القيامة .
ولأنّ الأعياد من جملة الشّرع والمناهج والمناسك الّتي قال اللّه سبحانه وتعالى : { لِكلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً همْ نَاسِكُوه } كالقبلة والصّلاة ، والصّيام فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المباهج ، فإنّ الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر ، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر ، بل الأعياد من أخصّ ما تتميّز به الشّرائع ومن أظهر ما لها من الشّعائر ، فالموافقة فيها موافقة في أخصّ شرائع الكفر وأظهر شعائره . قال قاضيخان : رجل اشترى يوم النّيروز شيئاً لم يشتره في غير ذلك اليوم : إن أراد به تعظيم ذلك اليوم كما يعظّمه الكفرة يكون كفراً ، وإن فعل ذلك لأجل السّرف والتّنعّم لا لتعظيم اليوم لا يكون كفراً . وإن أهدى يوم النّيروز إلى إنسان شيئا ولم يرد به تعظيم اليوم ، إنّما فعل ذلك على عادة النّاس لا يكون كفراً . وينبغي أن لا يفعل في هذا اليوم ما لا يفعله قبل ذلك اليوم ولا بعده ، وأن يحترز عن التّشبّه بالكفرة .
وكره ابن القاسم - من المالكيّة - للمسلم أن يهدي إلى النّصرانيّ في عيده مكافأة ، ورآه من تعظيم عيده وعونا له على كفره . وكما لا يجوز التّشبّه بالكفّار في الأعياد لا يُعَانُ المسلم المتشبّه بهم في ذلك بل ينهى عن ذلك ، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب دعوته ، ومن أهدى من المسلمين هديّة في هذه الأعياد ، مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديّته ، خصوصا إن كانت الهديّة ممّا يستعان بها على التّشبّه بهم ، مثل إهداء الشّمع ونحوه في عيد الميلاد .
هذا وتجب عقوبة من يتشبّه بالكفّار في أعيادهم .
وأمّا ما يبيعه الكفّار في الأسواق في أعيادهم فلا بأس بحضوره ، نصّ عليه أحمد في رواية مهنّا . وقال : إنّما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم ، فأمّا ما يباع في الأسواق من المأكل فلا ، وإن قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم . وللتّفصيل ( ر : عيد ) .
ثالثاً - التّشبّه بالكفّار في العبادات :
يكره التّشبّه بالكفّار في العبادات في الجملة ، ومن أمثلة التّشبّه بهم في هذا المجال :
أ - الصّلاة في أوقات الكراهة :
12 - نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصّلاة في أوقات الكراهة منها للتّشبّه بعبادة الكفّار . فقد أخرج مسلم من حديث عمرو بن عنبسة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « صلّ صلاة الصّبح ، ثمّ أقصر عن الصّلاة حتّى تطلع الشّمس حتّى ترتفع ، فإنّها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان ، وحينئذ يسجد لها الكفّار . ثمّ صلّ فإنّ الصّلاة مشهودة محضورة حتّى يستقلّ الظّلّ بالرّمح . ثمّ أقصر عن الصّلاة فإنّ حينئذ تسجر جهنّم ، فإذا أقبل الفيء فصلّ فإنّ الصّلاة مشهودة محضورة حتّى تصلّي العصر . ثمّ أقصر عن الصّلاة حتّى تغرب الشّمس فإنّها تغرب بين قَرْنَيْ شيطان وحينئذ يسجد لها الكفّار » . وللتّفصيل في الأحكام المتعلّقة بأوقات الكراهة ( ر : الموسوعة الفقهيّة 7 180 أوقات الصّلاة ف 23 )
ب - الاختصار في الصّلاة :
13 - لا خلاف بين الفقهاء في كراهة الاختصار في الصّلاة لأنّ اليهود تكثر من فعله ، فنهي عنه كراهة للتّشبّه بهم ، فقد أخرج البخاريّ ومسلم واللّفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يصلّي الرّجل مختصراً » وأخرج البخاريّ أيضاً في ذكر بني إسرائيل من رواية أبي الضّحى عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنّها كانت تكره أن يضع يده على خاصرته ، تقول :" إنّ اليهود تفعله "
زاد ابن أبي شيبة في رواية له : « في الصّلاة »
وفي رواية أخرى « لا تشبّهوا باليهود » وللتّفصيل ( ر : صلاة ) .
ج - وِصال الصّوم :
14 - ذهب الحنفيّة ، وجمهور المالكيّة ، والشّافعيّة في أحد الوجهين ، والحنابلة إلى كراهة وصال الصّوم ، لما روى البخاريّ من حديث أنس رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال « لا تواصلوا ، قالوا : إنّك تواصل ، قال لستُ كأحد منكم ، إنّي أطعم وأسقى أو إنّي أبيت أطعم وأسقى » . وقوله صلى الله عليه وسلم « لا تواصلوا » نهي وأدناه يقتضي الكراهة . وعلّة النّهي التّشبّه بالنّصارى كما صرّح به في حديث بشير بن الخصاصية رضي الله عنه الّذي أخرجه أحمد والطّبرانيّ وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم في تفسيرهما بإسناد صحيح إلى « ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت : أردت أن أصوم يومين مواصلة ، فمنعني بشير وقال : إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا ، وقال : يفعل ذلك النّصارى ، ولكن صوموا كما أمركم اللّه ، أتمّوا الصّيام إلى اللّيل ، فإذا كان اللّيل فأفطروا »
وذهب أحمد وجماعة من المالكيّة إلى جواز الوصال إلى السّحر ، وبهذا قال إسحاق وابن المنذر وابن خزيمة . ويرى الشّافعيّة في الوجه الآخر ، وهو ما صحّحه ابن العربيّ من المالكيّة : تحريم وصال الصّوم . وللتّفصيل ( ر : صوم ) .
د - إفراد يوم عاشوراء بالصّوم :
15 - ذهب الحنفيّة - وهو مقتضى كلام أحمد كما يقول ابن تيميّة - إلى كراهة إفراد يوم عاشوراء بالصّوم للتّشبّه باليهود . فقد روى مسلم عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال : « حين صام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا : يا رسول اللّه ، إنّه يوم تعظّمه اليهود والنّصارى . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : فإذا كان العام المقبل إن شاء اللّه صمنا اليوم التّاسع » قال : فلم يأت العام المقبل حتّى توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
قال النّوويّ ، نقلا عن بعض العلماء في تعليقه على الحديث : لعلّ السّبب في صوم التّاسع مع العاشر أن لا يتشبّه باليهود في إفراد العاشر ، وفي الحديث إشارة إلى هذا .
هذا ، واستحبّ الشّافعيّة والحنابلة صوم عاشوراء - وهو العاشر من المحرّم - وتاسوعاء - وهو التّاسع منه - ويرى الحنفيّة أنّه يستحبّ أن يصوم قبل عاشوراء يوماً وبعده يوماً . وقال المالكيّة : ندب صوم عاشوراء وتاسوعاء والثّمانية قبله .
وتفصيل ر : ( صوم ، وعاشوراء ) .
رابعاً : التّشبّه بالفَسَقَة :
16 - قال القرطبيّ : لو خصّ أهل الفسوق والمجون بلباس منع لبسه لغيرهم ، فقد يظنّ به من لا يعرفه أنّه منهم ، فيظنّ به ظنّ السّوء فيأثم الظّانّ والمظنون فيه بسبب العون عليه . وللتّفصيل ر : ( شهادة ، فسق ) .
خامساً - تشبّه الرّجال بالنّساء وعكسه :
17 - ذهب جمهور العلماء إلى تحريم تشبّه النّساء بالرّجال والرّجال بالنّساء .
فقد روي البخاريّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال : « لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المتشبّهين من الرّجال بالنّساء ، والمتشبّهات من النّساء بالرّجال » .
وذهب الشّافعيّة في قول ، وجماعة من الحنابلة إلى كراهة تشبّه الرّجال بالنّساء وعكسه . والتّشبّه يكون في اللّباس والحركات والسّكنات والتّصنّع بالأعضاء والأصوات .
ومثال ذلك : تشبّه الرّجال بالنّساء في اللّباس والزّينة الّتي تختصّ بالنّساء ، مثل لبس المقانع والقلائد والمخانق والأسورة والخلاخل والقرط ونحو ذلك ممّا ليس للرّجال لبسه . وكذلك التّشبّه بهنّ في الأفعال الّتي هي مخصوصة بها كالانخناث في الأجسام والتّأنّث في الكلام والمشي. كذلك تشبّه النّساء بالرّجال في زيّهم أو مشيهم أو رفع صوتهم أو غير ذلك.
وهيئة اللّباس قد تختلف باختلاف عادة كلّ بلد ، فقد لا يفترق زيّ نسائهم عن زيّ رجالهم لكن تمتاز النّساء بالاحتجاب والاستتار . قال الإسنويّ : إنّ العبرة في لباس وزيّ كلّ من النّوعين - حتّى يحرم التّشبّه به فيه - بعرف كلّ ناحية .
وأمّا ذمّ التّشبّه بالكلام والمشي فمختصّ بمن تعمّد ذلك ، وأمّا من كان ذلك من أصل خلقته فإنّما يؤمر بتكلّف تركه والإدمان على ذلك بالتّدريج ، فإن لم يفعل وتمادى دخله الذّمّ ، ولا سيّما إن بدا منه ما يدلّ على الرّضا به .
هذا ويجب إنكار التّشبّه باليد ، فإن عجز فباللّسان مع أمن العاقبة ، فإن عجز فبقلبه كسائر المنكرات . ويترتّب على هذا أنّه يجب على الزّوج أن يمنع زوجته ممّا تقع فيه من التّشبّه بالرّجال في لبسة أو مشية أو غيرهما ، امتثالاً لقوله تعالى : { قُوا أَنْفسَكم وَأَهليكمْ نَاراً } أي بتعليمهم وتأديبهم وأمرهم بطاعة ربّهم ونهيهم عن معصيته .
سادساً : تشبّه أهل الذّمّة بالمسلمين :
18 - يؤخذ أهل الذّمّة بإظهار علامات يعرفون بها ، ولا يتركون يتشبّهون بالمسلمين في لباسهم ومراكبهم وهيئاتهم . والأصل فيه ما روي" أنّ عمر بن عبد العزيز رحمه الله مرّ على رجال ركوب ذوي هيئة ، فظنّهم مسلمين فسلّم عليهم ، فقال له رجل من أصحابه : أصلحك اللّه تدري من هؤلاء ؟ فقال : من هم ؟ فقال : نصارى بني تغلب . فلمّا أتى منزله أمر أن ينادى في النّاس أن لا يبقى نصرانيّ إلا عقد ناصيته وركب الإكاف ". ولم ينقل أنّه أنكر عليه أحد ، فيكون كالإجماع . ولأنّ السّلام من شعائر الإسلام فيحتاج المسلمون إلى إظهار هذه الشّعائر عند الالتقاء ، ولا يمكنهم ذلك إلّا بتمييز أهل الذّمّة بالعلامة .
هذا ، وإذا وجب التّمييز وجب أن يكون فيه صغار لا إعزاز ، لأنّ إذلالهم واجب بغير أذى من ضرب أو صفع بلا سبب يكون منه ، بل المراد اتّصافه بهيئة خاصّة .
وكذا يجب أن يتميّز نساء أهل الذّمّة عن نساء المسلمين في حال المشي في الطّريق ، وتجعل على دورهم علامة كي لا يعاملوا بما يختصّ به المسلمون ، ولا يمنعون من أن يسكنوا في أمصار المسلمين في غير جزيرة العرب يبيعون ويشترون ، لأنّ عقد الذّمّة شرع ليكون وسيلة لهم إلى الإسلام . وتمكينهم من المقام أبلغ إلى هذا المقصود .
وللتّفصيل في الأمور الّتي يمنع تشبّه أهل الذّمّة فيه بالمسلمين تنظر أبواب الجزية وعقد الذّمّة من كتب الفقه .

تشبيب *
التّعريف :
1 - التّشبيب مصدر شبّب . ومن معانيه : ترقيق أوّل الشّعر بذكر النّساء ، وشبّب بالمرأة : قال فيها الغزل أو النّسيب . والاصطلاح الفقهيّ لا يخرج عن هذا المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّشبيب ، والنّسيب ، والغزل ألفاظ مترادفة ، المراد منها : ذكر محاسن النّساء .
حكمه التّكليفيّ :
2 - يحرم التّشبيب بامرأة معيّنة محرّمة على المشبّب أو بغلام أمرد .
ولا يعرف خلاف بين الفقهاء في حرمة ذكر المثير على الفحش من الصّفات الحسّيّة والمعنويّة لامرأة أجنبيّة محرّمة عليه ، ويستوي في ذلك ذكر الصّفات الظّاهرة والباطنة لما في ذلك من الإيذاء لها ولذويها ، وهتك السّتر والتّشهير بمسلمة .
أمّا التّشبّب بزوجته أو جاريته فهو جائز ما لم يصف أعضاءها الباطنة ، أو يذكر ما من حقّه الإخفاء فإنّه يسقط مروءته ، ويكون حراما أو مكروها ، على خلاف في ذلك .
وكذا يجوز التّشبيب بامرأة غير معيّنة ، ما لم يقل فحشا أو ينصب قرينة تدلّ على التّعيين ، لأنّ الغرض من ذلك هو تحسين الكلام وترقيقه لا تحقيق المذكور ، فإن نصب قرينة تدلّ على التّعيين فهو في حكم التّعيين . وليس ذكر اسم امرأة مجهولة كليلى وسعاد تعيينا ، لحديث : كعب بن زهير : وإنشاده قصيدته المشهورة « بانت سعاد . . بين يدي الرّسول صلى الله عليه وسلم » .
التّشبّب بغلام :
3 - يحرم التّشبيب بغلام - إن ذكر أنّه يعشقه وإن لم يكن معيّنا ، لأنّه لا يحلّ بحال . وقيل : إن لم يكن معيّنا فهو كالمرأة غير المعيّنة . هذا في إنشاء القول من شعر أو نثر . أمّا رواية ذلك أو إنشاده فإنّه إذا لم يقصد به الحضّ على المحرّم فهو مباح لنحو الاستشهاد أو تعلّم الفصاحة والبلاغة .
وقيّد الحنفيّة تحريم التّشبيب بالمرأة بكونها معيّنة حيّة. فلو شبّب بامرأة غير حيّة لم يحرم .

تشبيك *
التّعريف :
1 - التّشبيك في اللّغة : المداخلة ، فيقال لكلّ متداخلين أنّهما مشتبكان . ومنه : شبّاك الحديد ، وتشبيك الأصابع - وهو المراد هنا - لدخول بعضها في بعض . والشّبك : الخلط والتّداخل ، فيقال : شبك الشّيء يشبكه شبكا : إذا خلطه وأنشب بعضه في بعض .
وتشبيك الأصابع لا يخرج في معناه الاصطلاحيّ عن هذا ، قال ابن عابدين : تشبيك الأصابع : أن يدخل الشّخص أصابع إحدى يديه بين أصابع الأخرى .
الحكم الإجماليّ :
2 - أجمع الفقهاء على أنّ تشبيك الأصابع في الصّلاة مكروه ، لما روي عن كعب بن عجرة رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد شبّك أصابعه في الصّلاة ، ففرّج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين أصابعه » . وقال ابن عمر رضي الله عنهما في الّذي يصلّي وهو يشبّك أصابعه « تلك صلاة المغضوب عليهم »
وأمّا تشبيكها في المسجد في غير صلاة ، وفي انتظارها أي حيث جلس ينتظرها ، أو ماشيا إليها ، فقد قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بكراهة التّشبيك حينئذ ، لأنّ انتظار الصّلاة هو في حكم الصّلاة لحديث الصّحيحين « لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصّلاةُ تَحْبِسُه » ولما روى أحمد وأبو داود وغيرهما مرفوعا « إذا توضّأ أحدكم فأحسن وضوءه ثمّ خرج عامداً إلى المسجد ، فلا يشبّك بين يديه فإنّه في صلاة » وما روى أبو سعيد الخدريّ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبّكنّ ، فإنّ التّشبيك من الشّيطان ، وإنّ أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتّى يخرج منه »
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول
« إذا توضّأ أحدكم ثمّ خرج عامدا إلى الصّلاة ، فلا يشبّكنّ بين يديه ، فإنّه في صلاة » .
3 - وقد اختلف في الحكمة في النّهي عن التّشبيك في المسجد ، فقيل : إنّ النّهي عنه لما فيه من العبث . وقيل : لما فيه من التّشبّه بالشّيطان . وقيل : لدلالة الشّيطان على ذلك . وفي حاشية الطّحاويّ على مراقي الفلاح : حكمة النّهي عن التّشبيك : أنّه من الشّيطان ، وأنّه يجلب النّوم ، والنّوم من مظانّ الحدث ، ولما نبّه عليه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الّذي يصلّي وهو يشبّك أصابعه تلك صلاة المغضوب عليهم فكره ذلك لما هو في حكم الصّلاة ، حتّى لا يقع في المنهيّ عنه . وكراهته في الصّلاة أشدّ .
ولا يكره عند الجمهور التّشبيك بعد الفراغ ولو كان في المسجد ، لحديث ذي اليدين رضي الله عنه الّذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه - قال « صلّى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العَشِيّ - قال ابن سيرين : سمّاها أبو هريرة ، ولكن نسيت أنا - قال : فصلّى بنا ركعتين ، ثمّ سلّم ، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتّكأ عليها كأنّه غضبان ، ووضع يده اليمنى على اليسرى ، وشبّك بين أصابعه ، ووضع خدّه الأيمن على ظهر كفّه اليسرى ، وخَرَجَتِ السُّرْعانُ من أبواب المسجد ، فقالوا : قُصِرت الصّلاة ، وفي القوم
أبو بكر وعمر فهابا أن يكلّماه ، وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين قال : يا رسول اللّه أنسيتَ أم قصرت الصّلاة ؟ قال لم أنس ولم تقصر فقال : أكما يقول ذو اليدين ؟ فقالوا : نعم . فتقدّم فصلّى ما ترك ، ثمّ سلّم ، ثمّ كبّر وسجد مثل سجوده أو أطول ثمّ رفع رأسه وكبّر ، ثمّ كبّر وسجد مثل سجوده - أو أطول ، ثمّ رفع رأسه وكبّر . فربّما سألوه : ثمّ سلّم ؟ فيقول : نبّئت أنّ عمران بن حصين قال : ثمّ سلّم » .
ولا بأس به عند المالكيّة في غير صلاة حتّى ولو في المسجد ، لأنّ كراهته عندهم إنّما هي في الصّلاة فقط ، إلّا أنّه خلاف الأولى على نحو ما ورد بالشّرح الكبير وجواهر الإكليل . وفي مواهب الجليل ما نصّه : وأمّا بالنّسبة لغير الصّلاة فالتّشبيك لا بأس به حتّى في المسجد . قال ابن عرفة : وسمع ابن القاسم - أي من مالك - : لا بأس بتشبيك الأصابع يعني في المسجد في غير صلاة . وأومأ داود بن قيس ليد مالك مشبّكاً أصابعه به - أي بالمسجد - ليطلقه وقال : ما هذا ؟ فقال مالك : إنّما يكره في الصّلاة . وقال ابن رشد : صحّ في حديث ذي اليدين تشبيكه صلى الله عليه وسلم بين أصابعه في المسجد .
4 - وأمّا تشبيكها خارج الصّلاة فيما ليس من توابعها : بأن لم يكن في حال سعي إليها ، أو جلوس في المسجد لأجلها ، فإن كان لحاجة نحو إراحة الأصابع - وليس لعبثٍ بل لغرض صحيح - فإنّه في هذه الحالة لا يكره عند الحنفيّة ، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً » وشبّك بين أصابعه . فإنّه لإفادة تمثيل المعنى ، وهو التّعاضد والتّناصر بهذه الصّورة الحسّيّة .
فلو شبّك لغير حاجة على سبيل العبث كره تنزيها . وفي حاشية الشبراملسي من الشّافعيّة : أنّه إذا جلس في المسجد لا للصّلاة بل لغيرها ، كحضور درس أو كتابة ، فلا يكره ذلك في حقّه لأنّه لم يصدق عليه أنّه ينتظر الصّلاة . وأمّا إذا انتظرهما معا فينبغي الكراهة ، لأنّه يصدق عليه أنّه ينتظر الصّلاة . وأمّا المالكيّة فقد رأوا كراهة التّشبيك للمصلّي خاصّة ولو في غير مسجد ، ولا بأس به عندهم في غير الصّلاة ولو في المسجد ، لقول مالك : يكره في الصّلاة حين أومأ داود بن قيس ليده مشبّكاً أصابعه ليطلقه وقال : ما هذا ؟ .
5 - والتّشبيك حال خطبة الجمعة يكره عند غير المالكيّة من الأئمّة ، لأنّ مستمع الخطبة في انتظار الصّلاة ، فهو كمن في الصّلاة لما سبق .
وعند المالكيّة : غير مكروه ، لأنّ الكراهة عندهم في الصّلاة فقط ولو كان في المسجد ، وإن كان هذا هو خلاف الأولى كما تقدّم .

تشبيه *
التّعريف :
1 - التّشبيه في اللّغة : مصدر شبّهت الشّيء بالشّيء : إذا أقمته مقامه بصفة جامعة بينهما . وتكون الصّفة ذاتيّة ومعنويّة : فالذّاتيّة نحو هذا الدّرهم كهذا الدّرهم أي في القدر ، والمعنويّة نحو زيد كالأسد . وفي اصطلاح علماء البيان : هو الدّلالة على اشتراك شيئين في وصف من أوصاف الشّيء في نفسه ، كالشّجاعة في الأسد والنّور في الشّمس .
وهو إمّا تشبيه مفرد كقوله تعالى : { إنَّ اللّهَ يُحِبُّ الّذينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِه صَفَّاً كَأنَّهمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } أو تشبيه مفردات بمفردات ، كقوله صلى الله عليه وسلم « إنّما مثل ما بعثني اللّه به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً ، فكان منها نقيّة قَبِلت الماءَ فأنبتت الكلأَ والعشبَ الكثير ، وكان منها أجادبُ أمسكت الماءَ - فنفع اللّه بها النّاس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصابت منها طائفة أخرى إنّما هي قِيعانٌ لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ . فذلك مَثَلُ من فَقُه في دين اللّه ونفعه ما بعثني اللّه به فَعَلِم وعلَّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ، ولم يقبل هدى اللّه الّذي أُرسلتُ به » . فقد شبّه العلم بالغيث ، وشبّه من ينتفع به بالأرض الطّيّبة ، ومن لا ينتفع به بالقيعان . فهي تشبيهات مجتمعة ، أو تشبيه مركّب ، كقوله صلى الله عليه وسلم : « إنَّ مَثَلي مثل الأنبياء من قبلي : كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله ، إلا موضع لبنة من زاوية ، فجعل النّاس يطوفون به ويعجبون له ويقولون : هلا وُضِعَتْ ، هذه اللَّبِنَةُ ؟ قال : فأنا اللَّبِنَةُ ، وأنا خاتَمُ النّبيّين » .
فهذا تشبيه المجموع بالمجموع ، لأنّ وجه الشّبه عقليّ منتزع من عدّة أمور .
الألفاظ ذات الصّلة :
القياس :
2 - القياس هو : إلحاق فرع بأصل في الحكم لعلّة جامعة بينهما .
حكم التّشبيه :
يختلف حكم التّشبيه بحسب موقعه والمراد منه على ما سيأتي .
أ - التّشبيه في الظّهار :
3 - الظّهار شرعا : تشبيه المسلم زوجته أو جزءا شائعا منها بمحرّم عليه تأبيداً ، كقوله : أنت عليّ كظهر أمّي أو نحوه ، أو كبطنها أو كفخذها ، ونحو ذلك .
وهذا النّوع من التّشبيه حرام نصّا لقوله تعالى : { الّذينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكمْ مِنْ نِسَائِهمْ ما هنَّ أُمَّهَاتِهم إنْ أُمَّهاتُهمْ إلا اللائي وَلَدْنَهم ، وَإِنَّهمْ ليقولونَ مُنْكَراً مِن القولِ وزوراً } .
وإذا وقع من الزّوج التّشبيه ، ممّا يعتبر ظهارا ، يحرم عليه وطء امرأته قبل أن يكفّر باتّفاق الفقهاء . وكذلك يحرم التّلذّذ بما دون الجماع عن جمهور الفقهاء : الحنفيّة والمالكيّة ، وهو قول عند الشّافعيّة ، ورواية عند الحنابلة ، لقوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلكمْ تُوعَظُونَ به واللّهُ بِمَا تَعْمَلونَ خَبيرٌ فَمَنْ لمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرين مُتَتَابعين مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } والتّماسّ شامل للوطء ودواعيه . وفي قول عند الشّافعيّة ، وهو رواية أخرى عند الحنابلة : لا يحرم إلّا الوطء . وهذا في صريح ألفاظ الظّهار .
أمّا في كناياته ، كقوله : أنت عليّ مثل أمّي صحّت نيّته برّا أو ظهارا أو طلاقا .
وفي الموضوع فروع كثيرة ينظر تفصيلها مع اختلاف الفقهاء في مصطلح ( ظهار ) .
ب - التّشبيه في القذف :
4 - أجمع العلماء على أنّه إذا صرّح القاذف بالزّنى كان قذفا ورميا موجبا للحدّ ، فإن عرّض ولم يصرّح ، فقال مالك : هو قذف ، وقال أبو حنيفة والشّافعيّ : لا يكون قذفا حتّى يقول : أردت به القذف . والدّليل لما قاله مالك هو أنّ موضوع الحدّ في القذف إنّما هو لإزالة المعرّة الّتي أوقعها القاذف بالمقذوف ، فإذا حصلت المعرّة بالتّعريض وجب أن يكون قذفا كالتّصريح ، وذلك راجع إلى الفهم ، وقد قال تعالى على لسان قوم شعيب أنّهم قالوا له { إِنَّكَ لأَنتَ الحَليمُ الرَّشِيد } أي السّفيه الضّالّ ، فعرّضوا له بالسّبّ بكلام ظاهره المدح في أحد التّأويلات . وقد حبس عمر رضي الله عنه الحطيئة لمّا قال لأحدهم :
دَعِ المَكَارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِها وَاقْعدْ فَإِنَّكَ أنتَ الطَّاعِمُ الكَاسِي
لأنّه شبّهه بالنّساء في أنّهنّ يُطعَمْن ويسقين ويكسين . وعلى ذلك فإذا فهم من تشبيه المرأة أو الرّجل بالعفيفة أو العفيف استهزاء ، كان كالرّمي الصّريح في مذهب مالك .
ج - تشبيه الرّجل غيره بما يكره :
5 - لا يجوز للمسلم أن يشبّه أخاه المسلم بما يكرهه ، قال تعالى : { وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بئسَ الاسمُ الفُسُوقُ بعدَ الإِيمانِ } وسواء أكان التّشبيه بذكر أداة التّشبيه أو بحذفها كقوله : يا مخنّث ، يا أعمى .
واتّفق الفقهاء على أنّه يعزّر بقوله : يا كافر يا منافق يا أعور يا نمّام يا كذّاب يا خبيث يا مخنّث يا ابن الفاسقة ، ونحو ذلك من كلّ ما فيه إيذاء بغير حقّ ، ولو بغمز العين أو إشارة اليد ، لارتكابه معصية لا حدّ فيها ، وكلّ معصية لا حدّ فيها فيها التّعزير .
وكذلك يعزّر إذا شبّهه بالحيوانات الدّنيئة كقوله : يا حمار ، يا كلب ، يا قرد ، يا بقر ونحو ذلك عند جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو المختار عند متأخّري الحنفيّة - لأنّ كلّ من ارتكب منكرا أو آذى مسلما بغير حقّ بقول أو فعل أو إشارة يستحقّ التّعزير . وفي ظاهر الرّواية عند الحنفيّة : لا يعزّر بقوله : يا حمار، يا كلب ونحو ذلك لظهور كذبه. وفرّق بعض الحنفيّة بين ما إذا كان المسبوب من الأشراف فيعزّر ، أو من العامّة فلا يعزّر ، كما استحسنه في الهداية والزّيلعيّ .
وهذا كلّه إذا لم يصل الشّتم والسّبّ إلى حدّ القذف ، أمّا إذا كان من أنواع القذف : كالرّمي بالزّنا من غير بيّنة ، فإنّه يحدّ على تفصيل ينظر في مصطلح : ( قذف ) .

تشريق *
انظر : أيّام التّشريق .

تشريك *
التّعريف :
1 - التّشريك في اللّغة : مصدر شرّك . يقال : شرّك فلان فلانا . إذا أدخله في الأمر وجعله شريكاً له فيه . ويقال : شرّك غيره في ما اشتراه ليدفع الغير بعض الثّمن ، ويصير شريكاً له في المبيع . ويقال أيضا : شرّك نعله تشريكا : إذا حمل له شراكا ، والشّراك : سير النّعل الّذي على ظهرها . والتّشريك في الاصطلاح الشّرعيّ : إدخال الغير في الاسم كالشّراء ونحوه ، ليكون شريكا له فيه .
الألفاظ ذات الصّلة :
الإشراك :
2 - الإشراك بمعنى التّشريك . وإذا قيل : أشرك الكافر باللّه ، فالمراد أنّه جعل غير اللّه شريكا له ، تعالى اللّه عن ذلك . ( ر : إشراك ) .
حكم التّشريك :
3 - التّشريك في الشّراء ونحوه جائز ، وتشريك غير عبادة في نيّة العبادة أو تشريك عبادتين في نيّة واحدة جائز على التّفصيل الآتي :
أ - تشريك ما لا يحتاج إلى نيّة في نيّة العبادة :
4 - لا نعلم خلافا بين الفقهاء في جواز تشريك ما لا يحتاج إلى نيّة في نيّة العبادة ، كالتّجارة مع الحجّ لقوله تعالى : { وَأَذِّنْ في النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وعَلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيق لِيشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهم وَيَذْكُروا اسمَ اللّهِ في أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ . . . } وقوله في شأن الحجّ أيضا : { لَيسَ عَليكمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكمْ } نزلت في التّجارة مع الحجّ . والصّوم مع قصد الصّحّة ، والوضوء مع نيّة التّبرّد ، والصّلاة مع نيّة دفع الغريم ، لأنّ هذه الأشياء تحصل بغير نيّة فلم يؤثّر تشريكها في نيّة العبادة ، وكالجهاد مع قصد حصول الغنيمة . جاء في مواهب الجليل نقلا عن الفروق للقرافيّ :
من يجاهد لتحصيل طاعة اللّه بالجهاد ، وليحصل له المال من الغنيمة ، فهذا لا يضرّه ولا يحرم عليه بالإجماع ، لأنّ اللّه تعالى جعل له هذا في هذه العبادة . ففرّق بين جهاده ليقول النّاس : هذا شجاع ، أو ليعظّمه الإمام ، فيكثر عطاءه من بيت المال . فهذا ونحوه رياء حرام . وبين أن يجاهد لتحصيل الغنائم من جهة أموال العدوّ مع أنّه قد شرّك .
ولا يقال لهذا رياء ، بسبب أنّ الرّياء أن يعمل ليراه غير اللّه من خلقه . ومن ذلك أن يجدّد وضوءا ليحصل له التّبرّد أو التّنظّف ، وجميع هذه الأغراض لا يدخل فيها تعظيم الخلق ، بل هي لتشريك أمور من المصالح ليس لها إدراك ، ولا تصلح للإدراك ولا للتّعظيم ، ذلك لا يقدح في العبادات ، فظهر الفرق بين قاعدة الرّياء في العبادات وبين قاعدة التّشريك فيها . وجاء في مغني المحتاج : من نوى بوضوئه تبرّدا أو شيئا يحصل بدون قصد كتنظّف ، ولو في أثناء وضوئه ( مع نيّة معتبرة ) أي مستحضرا عند نيّة التّبرّد أو نحوه نيّة الوضوء أجزأه ذلك على الصّحيح ، لحصول ذلك من غير نيّة ، كمصلّ نوى الصّلاة ودفع الغريم فإنّها تجزئه ، لأنّ اشتغاله عن الغريم لا يفتقر إلى نيّة . والقول الثّاني يضرّ ، لما في ذلك من التّشريك بين قربة وغيرها ، فإن فقد النّيّة المعتبرة ، كأن نوى التّبرّد أو نحوه وقد غفل عنها ، لم يصحّ غسل ما غسله بنيّة التّبرّد ونحوه ، ويلزمه إعادته دون استئناف الطّهارة . قال الزّركشيّ : وهذا الخلاف في الصّحّة . أمّا الثّواب فالظّاهر عدم حصوله ، وقد اختار الغزاليّ فيما إذا شرّك في العبادة غيرها من أمر دنيويّ اعتبار الباعث على العمل ، فإن كان القصد الدّنيويّ هو الأغلب لم يكن فيه أجر ، إن كان القصد الدّينيّ أغلب فله بقدره ، وإن تساويا تساقطا . واختار ابن عبد السّلام أنّه لا أجر فيه مطلقا ، سواء أتساوى القصدان أم اختلفا . وانظر أيضا مصطلح : ( نيّة ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ب - تشريك عبادتين في نيّة :
5 - إن أشرك عبادتين في النّيّة ، فإن كان مبناهما على التّداخل كغسلي الجمعة والجنابة ، أو الجنابة والحيض ، أو غسل الجمعة والعيد ، أو كانت إحداهما غير مقصودة كتحيّة المسجد مع فرض أو سنّة أخرى ، فلا يقدح ذلك في العبادة ، لأنّ مبنى الطّهارة على التّداخل ، والتّحيّة وأمثالها غير مقصودة بذاتها ، بل المقصود شغل المكان بالصّلاة ، فيندرج في غيره . أمّا التّشريك بين عبادتين مقصودتين بذاتها كالظّهر وراتبته ، فلا يصحّ تشريكهما في نيّة واحدة ، لأنّهما عبادتان مستقلّتان لا تندرج إحداهما في الأخرى .
وانظر أيضا مصطلح : ( نيّة ) .
ج - التّشريك في المبيع :
6 - يجوز التّشريك في العقد ، كأن يقول المشتري لعالم بالثّمن : أشركتك في هذا المبيع ويقبل الآخر ، وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء فإن أشركه في قدر معلوم كالنّصف والرّبع فله ذلك في المبيع ، وإن أطلق فله النّصف ، لأنّ الشّركة المطلقة تقتضي المساواة ، وهو كالبيع والتّولية في أحكامه وشروطه .
د - التّشريك بين نسوة في طَلْقة :
7 - إذا قال لنسائه الأربع : أوقعت عليكنّ طلقة وقع على كلّ واحدة طلقة ، لأنّ الطّلقة لا تتجزّأ .
ولو قال : طلقتين أو ثلاثاً أو أربعاً ، وقع على كلّ واحدة طلقة فقط ، إلا أن يريد توزيع كلّ طلقة عليهنّ ، فيقع في " طلقتين " على كلّ واحدة طلقتان ، وفي " ثلاث وأربع " ، ثلاث .

تشميت *
1 - من معاني التّشميت لغة : الدّعاء بالخير والبركة . وكلّ داع لأحد بخير فهو مُشَمِّت ومسمّت بالشّين والسّين ، والشّين أعلى وأفشى في كلامهم . وكلّ دعاء بخير فهو تشميت . وفي حديث« تزويج عليّ بفاطمة رضي الله عنهما : شمّت عليهما » : أي دعا لهما بالبركة. وفي حديث العطاس : « فشمّت أحدهما ولم يشمّت الآخر » . فالتّشميت والتّسميت : الدّعاء بالخير والبركة . وتشميت العاطس أو تَسْمِيته : أن يقول له متى كان مسلما : يرحمك اللّه . وهو لا يخرج في الاصطلاح الفقهيّ عن هذا المعنى .
الحكم التّكليفيّ :
2 - اتّفق العلماء على أنّه يشرع للعاطس عقب عطاسه أن يحمد اللّه ، فيقول : الحمد للّه ، ولو زاد : ربّ العالمين كان أحسن كفعل ابن مسعود . ولو قال : الحمد للّه على كلّ حال كان أفضل كفعل ابن عمر . وقيل يقول : الحمد للّه حمدا كثيرا طيّبا مباركا فيه ، كفعل غيرهما . وروى أحمد والنّسائيّ من حديث سالم بن عبيد مرفوعا « إذا عَطَس أحدكم فليقل : الحمد للّه على كلّ حال أو الحمد للّه ربّ العالمين » وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا عطس أحدكم فليقل : الحمد للّه على كلّ حال » ومتى حمد اللّه بعد عطسته كان حقّا على من سمعه من إخوانه المسلمين غير المصلّين أن يشمّته " يرحمك اللّه " فقد روى البخاريّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه « إذا عطس أحدكم فحمد اللّه فحقّ على كلّ مسلم سمعه أن يقول : يرحمك اللّه » .
وفي صحيح البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا عطس أحدكم فليقل : الحمد للّه . وليقل له أخوه أو صاحبه : يرحمك اللّه . فإذا قال له : يرحمك اللّه فليقل : يهديكم اللّه ويصلح بالكم » .
وعن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « حقّ المسلم على المسلم خمس : ردّ السّلام ، وعيادة المريض واتّباع الجنائز ، وإجابة الدّعوة ، وتشميت العاطس » وفي رواية لمسلم « حقّ المسلم على المسلم ستّ : إذا لقيته فسلّم عليه ، وإذا دعاك فأجبه ، وإذا استنصحك فانصح له ، وإذا عطس فحمد اللّه تعالى فشمّته ، وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتّبعه » . وإن لم يحمد اللّه بعد عطسته فلا يشمّت . فعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه مرفوعاً « إذا عطس أحدكم فحمد اللّه فشمّتوه ، فإن لم يحمد اللّه فلا تشمّتوه » .
وعن أنس رضي الله عنه قال : « عطس رجلان عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فشمّت أحدهما ولم يشمّت الآخر . فقال الّذي لم يشمّته : عطس فلان فَشَمّتَّه ، وعطست فلم تشمّتني فقال : إنّ هذا حمد اللّه تعالى ، وإنّك لم تحمد اللّه تعالى » وهذا الحكم عامّ وليس مخصوصا بالرّجل الّذي وقع له ذلك . يؤيّد العموم ما جاء في حديث أبي موسى
« إذا عطس أحدكم فحمد اللّه فشمّتوه ، وإن لم يحمد اللّه فلا تشمّتوه » .
فالتّشميت قد شرع لمن حمد اللّه دون من لم يحمده ، فإذا عرف السّامع أنّ العاطس حمد اللّه بعد عطسته شمّته ، كأن سمعه يحمد اللّه ، وإن سمع العطسة ولم يسمعه يحمد اللّه ، بل سمع من شمّت ذلك العاطس ، فإنّه يشرع له التّشميت لعموم الأمر به لمن عطس فحمد ، وقال النّوويّ المختار أنّه يشمّته من سمعه دون غيره .
وهذا التّشميت سنّة عند الشّافعيّة . وفي قول للحنابلة وعند الحنفيّة هو واجب .
وقال المالكيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة بوجوبه على الكفاية . ونقل عن البيان أنّ الأشهر أنّه فرض عين ، لحديث « كان حقّا على كلّ مسلم سمعه أن يقول له : يرحمك اللّه » .
فإن عطس ولم يحمد اللّه نسيانا استحبّ لمن حضره أن يذكّره الحمد ليحمد فيشمّته .
وقد ثبت ذلك عن إبراهيم النّخعيّ .
3 - ويندب للعاطس أن يردّ على من شمّته : فيقول له : يغفر اللّه لنا ولكم ، أو يهديكم اللّه ويصلح بالكم ، وقيل : يجمع بينهما ، فيقول : يرحمنا اللّه وإيّاكم ويغفر لنا ولكم . فقد روي عن ابن عمر أنّه كان إذا عطس فقيل له : يرحمك اللّه . قال :" يرحمنا اللّه وإيّاكم ويغفر اللّه لنا ولكم ". قال ابن أبي جمرة : في الحديث دليل على عظيم نعمة اللّه على العاطس . يؤخذ ذلك ممّا رتّب عليه من الخير . وفيه إشارة إلى عظيم فضل اللّه على عبده . فإنّه أذهب عنه الضّرر بنعمة العطس ، ثمّ شرع له الحمد الّذي يثاب عليه ، ثمّ الدّعاء بالخير بعد الدّعاء بالخير وشرع هذه النّعم المتواليات في زمن يسير فضلا منه وإحساناً .
فإذا قيل للعاطس : يرحمك اللّه ، فمعناه : جعل اللّه لك ذلك لتدوم لك السّلامة ، وفيه إشارة إلى تنبيه العاطس على طلب الرّحمة والتّوبة من الذّنب ، ومن ثَمَّ شرع به الجواب بقوله : غفر اللّه لنا ولكم وقوله : ويصلح بالكم أي شأنكم . وقوله تعالى : { سَيَهْدِيهمْ وَيُصْلِحُ بَالَهمْ } أي شأنهم . وهذا ما لم يكن في صلاته أو خلائه .
ما ينبغي للعاطس مراعاته :
4 - من آداب العاطس : أن يخفض بالعطس صوته ويرفعه بالحمد . وأن يغطّي وجهه لئلّا يبدو من فيه أو أنفه ما يؤذي جليسه . ولا يلوي عنقه يميناً ولا شمالاً لئلا يتضرّر بذلك . قال ابن العربيّ : الحكمة في خفض الصّوت بالعطاس : أنّ رفعه إزعاجاً للأعضاء .
وفي تغطية الوجه : أنّه لو بدر منه شيء آذى جليسه . ولو لوى عنقه صيانة لجليسه لم يأمن من الالتواء ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه ، وخفض أو غضّ بها صوته » .
حكمة مشروعيّة التّشميت :
5 - قال ابن دقيق العيد : من فوائد التّشميت تحصيل المودّة ، والتّأليف بين المسلمين ، وتأديب العاطس بكسر النّفس عن الكبر ، والحمل على التّواضع لما في ذكر الرّحمة من الإشعار بالذّنب الّذي لا يعرى عنه أكثر المكلّفين .
التّشميت أثناء الخطبة :
6 - كره الحنفيّة والمالكيّة التّشميت أثناء الخطبة ، وعند الشّافعيّة في الجديد : أنّ الكلام عند الخطبة لا يحرم ، ويسنّ الإنصات ، ولا فرق في ذلك بين التّشميت وغيره ، واستدلّ بما روى أنس رضي الله عنه قال : « دخل رجل والنّبيّ صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يوم الجمعة فقال : متى السّاعة ؟ فأشار النّاس إليه أن اسكت فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عند الثّالثة : ما أعددت لها ؟ قال : حبَّ اللّه ورسوله قال : إنّك مع من أحببتَ » وإذ جاز هذا في الخطبة جاز تشميت العاطس أثناءها .
وعند المالكيّة ، وهو القديم عند الشّافعيّة : أنّ الإنصات لسماع الخطبة واجب . لما روى جابر رضي الله عنه قال : « دخل ابن مسعود رضي الله عنه والنّبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس إلى أبيّ رضي الله عنه فسأله عن شيء فلم يردّ عليه ، فسكت حتّى صلّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له : ما منعك أن تردّ عليّ ؟ فقال : إنّك لم تشهد معنا الجمعة . قال : ولم ؟ قال : لأنّك تكلّمت والنّبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب ، فقام ابن مسعود فدخل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر له ، فقال : صدق أبيّ » وإذا كان الإنصات واجباً كان ما خالفه من تشميت العاطس أثناء الخطبة حراما . وللحنابلة روايتان : إحداهما : الجواز مطلقا أخذاً من قول الأثرم : سمعت أبا عبد اللّه أي الإمام أحمد - سئل : يردّ الرّجل السّلام يوم الجمعة ؟ فقال : نعم . قال : ويشمّت العاطس ؟ فقال : نعم . والإمام يخطب . وقال أبو عبد اللّه قد فعله غير واحد . قال ذلك غير مرّة ، وممّن رخّص في ذلك الحسن والشّعبيّ والنّخعيّ وقتادة والثّوريّ وإسحاق .
والثّانية : إن كان لا يسمع الخطبة شمّت العاطس ، وإن كان يسمع لم يفعل ، قال أبو طالب : قال أحمد : إذا سمعت الخطبة فاستمع وأنصت ولا تقرأ ولا تشمّت ، وإذا لم تسمع الخطبة فاقرأ وشمّت وردّ السّلام . وقال أبو داود : قلت لأحمد : يردّ السّلام والإمام يخطب ويشمّت العاطس ؟ قال : إذا كان ليس يسمع الخطبة فيردّ ، وإذا كان يسمع فلا لقول اللّه تعالى :
{ فَاسْتَمِعُوا لَه وأَنْصِتُوا } وروي نحو ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما .
تشميت مَنْ في الخلاء لقضاء حاجته :
7 - يكره لمن في الخلاء لقضاء حاجته أن يشمّت عاطساً سمع عطسته .
بذلك قال فقهاء المذاهب الأربعة . كما كرهوا له إن عطس في خلائه أن يحمد اللّه بلسانه ، وأجازوا له ذلك في نفسه دون أن يحرّك به لسانه . وعن المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه قال : « أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلّمت عليه ، فلم يردّ حتّى توضّأ ، ثمّ اعتذر إليّ وقال : إنّي كرهت أن أذكر اللّه تعالى إلا على طهر أو قال : على طهارة »
تشميت المرأة الأجنبيّة للرّجل والعكس :
8 - إن كانت المرأة شابّة يخشى الافتنان بها كره لها أن تشمّت الرّجل إذا عطس ، كما يكره لها أن تردّ على مشمّت لها لو عطست هي . بخلاف لو كانت عجوزاً ولا تميل إليها النّفوس فإنّها تشمّت وتشمّت متى حمدت اللّه ، بذلك قال المالكيّة ومثلهم في ذلك الحنابلة . جاء في الآداب الشّرعيّة لابن مفلح عن ابن تميم : لا يشمّت الرّجل الشّابّة ولا تشمّته .
وقال السّامريّ : يكره أن يشمّت الرّجل المرأة إذا عطست ولا يكره ذلك للعجوز .
وقال ابن الجوزيّ : وقد روينا عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنّه كان عنده رجل من العبّاد فعطست امرأة أحمد ، فقال لها العابد : يرحمك اللّه . فقال أحمد رحمه الله . عابد جاهل . وقال حرب : قلت لأحمد : الرّجل يشمّت المرأة إذا عطست ؟ فقال : إن أراد أن يستنطقها ليسمع كلامها فلا ، لأنّ الكلام فتنة ، وإن لم يرد ذلك فلا بأس أن يشمّتهنّ .
وقال أبو طالب : إنّه سأل أبا عبد اللّه : يشمّت الرّجل المرأة إذا عطست ؟ قال : نعم قد شمّت أبو موسى امرأته. قلت : فإن كانت امرأة تمرّ أو جالسة فعطست أشمّتها ؟ قال : نعم. وقال القاضي : ويشمّت الرّجل المرأة البرزة ويكره للشّابّة . وقال ابن عقيل : يشمّت المرأة البرزة وتشمّته ولا يشمّت الشّابّة ولا تشمّته ، وقال الشّيخ عبد القادر : يجوز للرّجل تشميت المرأة البرزة والعجوز ، ويكره للشّابّة ، وفي هذا تفريق بين الشّابّة وغيرها .
وعند الحنفيّة ذكر صاحب الذّخيرة : أنّه إذا عطس الرّجل فشمّتته المرأة ، فإن عجوزاً ردّ عليها وإلا ردّ في نفسه . قال ابن عابدين : وكذا لو عطست هي كما في الخلاصة .
تشميت المسلم للكافر :
9 - لو عطس كافر وحمد اللّه عقيب عطاسه وسمعه مسلم كان عليه أن يشمّته بقوله : هداك اللّه أو عافاك اللّه ، فقد أخرج أبو داود من حديث أبي موسى الأشعريّ قال : « كانت اليهود يتعاطسون عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول يرحمكم اللّه ، فكان يقول : يهديكم اللّه ويصلح بالكم » . وفي قوله : يهديكم اللّه ويصلح بالكم . تعريض لهم بالإسلام : أي اهتدوا وآمنوا يصلح اللّه بالكم . فلهم تشميت مخصوص ، وهو الدّعاء لهم بالهداية وإصلاح البال . بخلاف تشميت المسلمين ، فإنّهم أهل للدّعاء بالرّحمة بخلاف الكفّار . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : « اجتمع اليهود والمسلمون فعطس النّبيّ صلى الله عليه وسلم فشمّته الفريقان جميعاً ، فقال للمسلمين يغفر اللّه لكم ويرحمنا وإيّاكم . وقال لليهود : يهديكم اللّه ويصلح بالكم »
تشميت المصلّي غيره :
10 - من كان في الصّلاة وسمع عاطسا حمد اللّه عقب عطاسه فشمّته بطلت صلاته ، لأنّ تشميته له بقوله : يرحمك اللّه يجري في مخاطبات النّاس ، فكان من كلامهم ، فقد روي عن معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال « : بينا أنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الصّلاة إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك اللّه ، فحدّقني القوم بأبصارهم ، فقلت : واثكل أُمّاه ، ما لكم تنظرون إليّ ؟ فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم ، فلمّا انصرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دعاني بأبي وأمّي هو ، ما رأيتُ معلّماً أحسن تعليماً منه ، واللّه ما ضربني صلى الله عليه وسلم ولا كهرني ثمّ قال : إنّ صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميّين ، إنّما هي التّسبيح والتّكبير وقراءة القرآن » .
هذا قول الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والمشهور عند الشّافعيّة ، وإن كان تعبير الحنفيّة بالفساد وتعبير غيرهم بالبطلان ، إلّا أنّ البطلان والفساد في ذلك بمعنى .
فإن عطس هو في صلاته فحمد اللّه وشمّت نفسه في نفسه دون أن يحرّك بذلك لسانه بأن قال : يرحمك اللّه يا نفسي لا تفسد صلاته ، لأنّه لمّا لم يكن خطابا لغيره لم يعتبر من كلام النّاس كما إذا قال : يرحمني اللّه . قال به الحنفيّة والحنابلة المالكيّة .
تشميت العاطس فوق ثلاث :
11 - من تكرّر عطاسه فزاد على الثّلاث فإنّه لا يشمّت فيما زاد عنها ، إذ هو بما زاد عنها مزكوم . فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه : « شمّت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجلاً عطس مرّتين بقوله : يرحمك اللّه ثمّ قال عنه في الثّالثة : هذا رجل مزكوم » .
وذكر ابن دقيق العيد عن بعض الشّافعيّة أنّه قال : يكرّر التّشميت إذا تكرّر العطاس ، إلا أن يعرف أنّه مزكوم فيدعو له بالشّفاء . وعند هذا سقط الأمر بالتّشميت عند العلم بالزّكام ، لأنّ التّعليل به يقتضي أن لا يشمّت من علم أنّ به زكاماً أصلاً ، لكونه مرضاً ، وليس عطاساً محموداً ناشئاً عن خفّة البدن وانفتاح المسامّ وعدم الغاية في الشّبع .

تشمير *
التّعريف :
1 - للتّشمير في اللّغة معان : منها : الرّفع يقال : شمّر الإزار والثّوب تشميراً : إذا رفعه ، ويقال : شمّر عن ساقه ، وشمّر في أمره : أي خفّ فيه وأسرع ، وشمّر الشّيء فتشمّر : قلّصه فتقلّص ، وتشمّر أي : تهيّأ . وفي الاصطلاح لا يخرج عن معنى رفع الثّوب .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - السّدل :
2 - من معاني السّدل في اللّغة : إرخاء الثّوب . يقال : سدلت الثّوب سدلاً : إذا أرخيته وأرسلته من غير ضمّ جانبيه .
وسدل الثّوب يسدله ويسدله سدلاً ، وأسدله : أرخاه وأرسله . وعن عليّ رضي الله عنه :" أنّه خرج فرأى قوما يصلّون قد سدلوا ثيابهم ، فقال : كأنّهم اليهود خرجوا من فهورهم "
واصطلاحا : أن يجعل الشّخص ثوبه على رأسه ، أو على كتفيه ، ويرسل أطرافه من جوانبه من غير أن يضمّها ، أو يردّ أحد طرفيه على الكتف الأخرى .
وهو في الصّلاة مكروه بالاتّفاق . لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن السّدل في الصّلاة . . » .
ب - الإسبال :
3 - الإسبال في اللّغة : الإرخاء والإطالة . يقال : أسبل إزاره : إذا أرخاه . وأسبل فلان ثيابه : إذا طوّلها وأرسلها إلى الأرض ، وفي الحديث : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : ثلاثة لا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم . قال : قلت : ومن هم ؟ خابوا وخسروا . فأعادها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاث مرّات : المسبل ، والمنّان ، والمنفّق سلعته بالحلف الكاذب » قال ابن الأعرابيّ وغيره : المسبل : الّذي يطوّل ثوبه ويرسله إلى الأرض إذا مشى ، وإنّما يفعل ذلك كبرا واختيالا .
وهو في الاصطلاح لا يخرج عن هذا المعنى .
وحكمه الكراهة ، لما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من جرّ ثوبه من الخيلاء لم ينظر اللّه إليه » وعن ابن مسعود قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من اللّه جلّ ذكره في حلّ ولا حرام » .
وحديث أبي سعيد الخدريّ يرفعه « لا ينظر اللّه يوم القيامة إلى من جرّ إزاره بطراً » . وللتّفصيل ر : ( صلاة - عورة - إسبال ) .
الحكم الإجماليّ :
4 - التّشمير في الصّلاة مكروه اتّفاقاً ، لما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن كفّ الثّياب والشّعر » . إلا أنّ المالكيّة قالوا بكراهته فيها إذا كان فعله لأجلها .
وأمّا فعله خارجها ، أو فيها لا لأجلها ، فلا كراهة فيه . ومثل ذلك عندهم تشمير الذّيل عن السّاق : فإن فعله لأجل شغل ، فحضرت الصّلاة ، فصلّى وهو كذلك فلا كراهة .
وظاهر المدوّنة أنّه سواء عاد لشغله ، أم لا . وحملها الشّبيبيّ على ما إذا عاد لشغله ، وصوّبه ابن ناجي . وللتّفصيل ر : ( صلاة ، عورة ، لباس ) .

تشهّد *
التّعريف :
1 - التّشهّد في اللّغة : مصدر تشهّد ، أي : تكلّم بالشّهادتين .
ويطلق في اصطلاح الفقهاء على قول كلمة التّوحيد ، وعلى التّشهّد في الصّلاة ، وهي قراءة : التّحيّات للّه . . إلى آخره في الصّلاة . وصرّح ابن عابدين نقلا عن الحلية : أنّ التّشهّد اسم لمجموع الكلمات المرويّة عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره . سمّي به لاشتماله على الشّهادتين . من باب تسمية الشّيء باسم جزئه .
الحكم الإجماليّ :
2 - ذهب الحنفيّة في الأصحّ ، والمالكيّة في قول ، وهو المذهب عند الحنابلة إلى : أنّ التّشهّد واجب في القعدة الّتي لا يعقبها السّلام ، لأنّه يجب بتركه سجود السّهو .
ويرى الحنفيّة في قول ، والمالكيّة في المذهب ، والشّافعيّة ، والحنابلة في رواية : سنّيّة التّشهّد في هذه القعدة ، لأنّه يسقط بالسّهو فأشبه السّنن .
وأمّا التّشهّد في القعدة الأخيرة في الصّلاة فواجب عند الحنفيّة ، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابيّ : « إذا رفعت رأسك من آخر سجدة ، وقعدت قدر التّشهّد ، فقد تَمَّتْ صلاتُك » علّق التّمام بالقعدة دون التّشهّد ، فالفرض عند الحنفيّة في هذه القعدة هو الجلوس فقط ، أمّا التّشهّد فواجب ، يجبر بسجود السّهو إن ترك سهوا ، وتكره الصّلاة بتركه تحريما ، فتجب إعادتها . والمذهب عند المالكيّة أنّه سنّة ، وفي قول واجب .
ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّه ركن من أركان الصّلاة ، وهذا ما يسمّيه بعضهم فرضاً أو واجباً وبعضهم ركناً ، تشبيها له بركن البيت الّذي لا يقوم إلا به .
وفي الفرق بين الفرض والواجب عند الحنفيّة ، ومعنى الوجوب عند غيرهم تفصيل يرجع فيه إلى مظانّه في كتب الفقه والأصول . وانظر أيضا : ( فرض ، وواجب ) .
ألفاظ التّشهّد :
3 - يرى الحنفيّة والحنابلة أنّ أفضل التّشهّد ، التّشهّد الّذي علّمه النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد اللّه بن مسعود رضي الله عنهما ، وهو : « التّحيّات للّه ، والصّلوات والطّيّبات ، السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه وبركاته ، السّلام علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين ، أشهد أن لا إله إلّا اللّه ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله » .
ووجه اختيارهم لهذه الرّواية ما روي : أنّ حمّاداً أخذ بيد أبي حنيفة وعلّمه التّشهّد ، وقال أخذ إبراهيم النّخعيّ بيديّ وعلّمني ، وأخذ علقمة بيد إبراهيم وعلّمه ، وأخذ عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه بيد علقمة وعلّمه ، « وأخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيد عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه وعلّمه التّشهّد فقال : قل : التّحيّات للّه . . . » إلى آخره . ويؤيّده ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : « علّمني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم التّشهّد - كفّي بين كفّيه - كما يعلّمني سورة من القرآن ، التّحيّات للّه . . . » .
لأنّ فيه زيادة واو العطف ، وإنّه يوجب تعدّد الثّناء ، لأنّ المعطوف غير المعطوف عليه ، وبه يقول : الثّوريّ ، وإسحاق ، وأبو ثور .
ويرى المالكيّة أنّ أفضل التّشهّد تشهّد عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وهو : التّحيّات للّه ، الزّاكيات للّه ، الطّيّبات الصّلوات للّه ، السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه وبركاته ، السّلام علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين ، أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله . وهذا لأنّ عمر رضي الله عنه قاله على المنبر ، فلم ينكروه ، فجرى مجرى الخبر المتواتر ، وكان أيضاً إجماعاً .
وأمّا الشّافعيّة فأفضل التّشهّد عندهم ما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعلّمنا التّشهّد ، كما يعلّمنا السّورة من القرآن ، فيقول : قولوا : التّحيّات المباركات ، الصّلوات الطّيّبات للّه ، السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه وبركاته ، السّلام علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين ، أشهد أن لا إله إلّا اللّه ، وأشهد أنّ محمّدا رسول اللّه » . أخرجه مسلم والتّرمذيّ ، إلا أنّه في رواية مسلم « وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله » . والخلاف بين الأئمّة هنا خلاف في الأولويّة ، فبأيّ تشهّد تشهّد ممّا صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم جاز . ومن النّاس من اختار تشهّد أبي موسى الأشعريّ ، وهو أن يقول : التّحيّات للّه ، الطّيّبات ، والصّلوات للّه . . . والباقي كتشهّد ابن مسعود وذكر ابن عابدين أنّ المصلّي يقصد بألفاظ التّشهّد معانيها ، مرادة له على وجه الإنشاء ، كأنّه يحيّي اللّه تعالى ويسلّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى نفسه والأولياء ، ولا يقصد الإخبار والحكاية عمّا وقع في المعراج منه صلى الله عليه وسلم ومن ربّه سبحانه وتعالى ومن الملائكة .
الزّيادة والنّقصان في ألفاظ التّشهّد والتّرتيب بينها :
4 - اختلفت أقوال الفقهاء في هذه المسألة على النّحو الآتي :
ذهب الحنفيّة إلى أنّه يكره تحريما أن يزيد في التّشهّد حرفا ، أو يبتدئ بحرف قبل حرف . قال أبو حنيفة : ولو نقص من تشهّده أو زاد فيه . كان مكروها ، لأنّ أذكار الصّلاة محصورة ، فلا يزاد عليها . ثمّ أضاف ابن عابدين قائلا : والكراهة عند الإطلاق للتّحريم . ويكره كذلك عند المالكيّة الزّيادة على التّشهّد ، واختلفوا في ترك بعض التّشهّد ، فالظّاهر من كلام بعض شيوخهم عدم حصول السّنّة ببعض التّشهّد ، خلافا لابن ناجي في كفاية بعضه ، قياسا على السّورة .
وأمّا الشّافعيّة فقد فصّلوا الكلام ، وقالوا : إنّ لفظ المباركات والصّلوات ، والطّيّبات والزّاكيات سنّة ليس بشرط في التّشهّد ، فلو حذف كلّها واقتصر على الباقي أجزأه من غير خلاف عندهم . وأمّا لفظ : السّلام عليك . . . إلخ فواجب لا يجوز حذف شيء منه ، إلّا لفظ ورحمة اللّه وبركاته . وفي هذين اللّفظين ثلاثة أوجه : أصحّها عدم جواز حذفهما .
والثّاني : جواز حذفهما . والثّالث : يجوز حذف وبركاته ، دون رحمة اللّه " .
وكذلك التّرتيب بين ألفاظها مستحبّ عندهم على الصّحيح من المذهب ، فلو قدّم بعضه على بعض جاز ، وفي وجه لا يجوز كألفاظ الفاتحة .
والحنابلة يرون أنّه إذا أسقط لفظة هي ساقطة في بضع التّشهّدات المرويّة صحّ تشهّده في الأصحّ . وفي رواية أخرى : لو ترك واوا أو حرفا أعاد الصّلاة ، لقول الأسود : فكنّا نتحفّظه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما نتحفّظ حروف القرآن .
الجلوس في التّشهّد :
5 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو قول الطّحاويّ والكرخيّ من الحنفيّة إلى : أنّ الجلوس في التّشهّد الأوّل سنّة .
والأصحّ عند الحنفيّة - وهو وجه عند الحنابلة - أنّه واجب .
وأمّا في التّشهّد الثّاني فالجلوس بقدر التّشهّد ركن عند الأربعة ، وهو ما عبّر عنه الحنفيّة بالفرضيّة ، وغيرهم تارة بالوجوب وتارة بالفرضيّة .
وأمّا هيئة الجلوس في التّشهّد ، فتفصيله في مصطلح : ( جلوس ) .
التّشهّد بغير العربيّة :
6 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز التّشهّد بغير العربيّة للعاجز ، واختلفوا فيه للقادر عليها . والتّفصيل في مصطلح : ( ترجمة ) .
الإسرار في التّشهّد :
7 - السّنّة في التّشهّد الإسرار ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر به ، إذ لو جهر به لنقل كما نقلت القراءة ، وقال عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه « من السّنّة إخفاء التّشهّد » . قال صاحب المغني : ولا نعلم في هذا خلافاً .
ما يترتّب على ترك التّشهّد :
8 - لا خلاف بين الفقهاء في مشروعيّة سجدة السّهو بترك التّشهّد في القعدة الأولى ( قبل الأخيرة ) إن كان تركه سهوا ، على خلاف بينهم في الحكم .
واختلفوا في تركه عمدا : فذهب الحنفيّة ، والحنابلة في قول إلى : وجوب إعادة الصّلاة . ويرى المالكيّة والشّافعيّة ، والحنابلة في رواية أخرى ، أنّ على المصلّي أن يسجد للسّهو في هذه الحالة أيضا . وأمّا ترك التّشهّد في القعدة الأخيرة إن كان عمدا : فذهب الحنفيّة والمالكيّة في وجه ، والشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب الإعادة . وكذلك إن كان سهوا عند الشّافعيّة والحنابلة . ويرى الحنفيّة والمالكيّة أنّ عليه سجدة السّهو في هذه الحالة .
وأمّا حكم الرّجوع إلى التّشهّد لمن قام إلى الثّالثة في ثنائيّة أو إلى الرّابعة في ثلاثيّة ، أو إلى خامسة في رباعيّة ، فقد فصّله الفقهاء في كتاب الصّلاة عند الكلام عن سجدة السّهو .
الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في التّشهّد :
9 - يرى جمهور الفقهاء أنّ المصلّي لا يزيد على التّشهّد في القعدة الأولى بالصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبهذا قال النّخعيّ والثّوريّ وإسحاق .
وذهب الشّافعيّة في الأظهر من الأقوال إلى استحباب الصّلاة فيها ، وبه قال الشّعبيّ .
وأمّا إذا جلس في آخر صلاته فلا خلاف بين الفقهاء في مشروعيّة الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد التّشهّد . وأمّا صيغة الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في القعدة الأخيرة ، وما روي في ذلك من الأدلّة ، فقد فصّل الفقهاء الكلام عليه في موطنه من كتب الفقه . وانظر أيضا : " الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم " .

تشهير *
التّعريف :
1 - التّشهير في اللّغة مأخوذ من شهّره ، بمعنى : أعلنه وأذاعه ، وشهّر به : أذاع عنه السّوء ، وشهّره تشهيرا فاشتهر . والشّهرة : وضوح الأمر . ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّعزير :
2 - التّعزير : التّأديب والإهانة دون الحدّ . وهو أعمّ من التّشهير ، إذ يكون بالتّشهير وبغيره . فالتّشهير نوع من أنواع التّعزير .
ب - السّتر :
3 - السّتر : المنع والتّغطية . وهو ضدّ التّشهير .
الحكم الإجماليّ :
3 - يختلف حكم التّشهير باعتبار من يصدر منه ، وباعتبار المشهّر به . فالتّشهير قد يكون من النّاس بعضهم ببعض ، على جهة العداوة أو الغيبة ، أو على جهة النّصيحة والتّحذير . وقد يكون من الحاكم في الحدود أو في التّعازير . وبيان ذلك فيما يأتي :
أوّلا : تشهير النّاس بعضهم ببعض :
الأصل أنّ تشهير النّاس بعضهم ببعض بذكر عيوبهم والتّنقّص منهم حرام .
وقد يكون مباحاً أو واجباً . وذلك راجع إلى ما يتّصف به المشهّر به .
4 - فيكون حراماً في الأحوال الآتية :
أ - إذا كان المشهّر به بريئا ممّا يشاع عنه ويقال فيه . والأصل في ذلك قوله تعالى : { إنَّ الّذينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ في الّذينَ آمَنُوا لهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدّنيا والآخِرةِ واللّهُ يَعْلمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُون } . وقول النّبيّ : « أيّما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء ، يرى أن يشينه بها في الدّنيا ، كان حقّا على اللّه تعالى أن يرميه بها في النّار . ثمّ تلا مصداقه من كتاب اللّه تعالى : { إنَّ الّذينَ يُحِبُّونَ أنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ } » .
وقد ذمّ اللّه سبحانه وتعالى الّذين فعلوا ذلك ، وتوعّدهم بالعذاب العظيم ، وذلك في الآيات الّتي نزلت في شأن السّيّدة عائشة رضي الله عنها حين رماها أهل الإفك والبهتان بما قالوه من الكذب والافتراء ، وهي قوله تعالى : { إنَّ الّذينَ جَاءوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ . . . } .
وقال ابن كثير في قوله تعالى : { وَالّذينَ يُؤْذُونَ المُؤمنينَ والمؤمنَاتِ بِغَيرِ ما اكْتَسَبُوا فقد احْتَمَلُوا بُهتَاناً وإِثماً مُبِينَاً } أي ينسبون إليهم ما هم برآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه ، يحكون على المؤمنين والمؤمنات ذلك على سبيل العيب والتّنقّص منهم ، وقد قال رسول اللّه فيه : « أربى الرّبا عند اللّه استحلالُ عِرض امرئ مسلم ثمّ قرأ : { وَالّذينَ يُؤْذُونَ المُؤْمنينَ وَالمُؤْمناتِ } » وقد قيل في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللّهُ به » أي من سمّع بعيوب النّاس وأذاعها أظهر اللّه عيوبه .
ومن ذلك : الهجو بالشّعر . قال ابن قدامة : ما كان من الشّعر يتضمّن هجو المسلمين والقدح في أعراضهم فهو محرّم على قائله .
ب - إذا كان المشهّر به يتّصف بما يقال عنه ، ولكنّه لا يجاهر به ، ولا يقع به ضرر على غيره . فالتّشهير به حرام أيضا ، لأنّه يعتبر من الغيبة الّتي نهى اللّه سبحانه وتعالى عنها في قوله : { ولا يَغْتَبْ بَعْضُكم بَعْضَاً } . وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : اللّه ورسوله أعلم . قال : ذِكْرُكَ أخاكَ بما يَكْره . قيل : أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقولُ ؟ قال : إن كان فيه ما تقولُ فقد اغْتَبْتَه ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه » .
ومن ذلك : قول العالم : قال فلان كذا مريدا التّشنيع عليه . أو قول الإنسان : فعل كذا بعض النّاس ، أو بعض من يدّعي العلم ، أو بعض من ينسب إلى الصّلاح والزّهد ، أو نحو ذلك إذا كان المخاطب يفهمه بعينه ، ونحو ذلك .
ومن المقرّر شرعاً : أنّ السّتر على المسلم واجب لمن ليس معروفاً بالأذى والفساد .
فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « مَنْ سَتَرَ مُسْلماً سَتَرَه اللّه عزّ وجلّ يومَ القيامة » قال في شرح مسلم : وهذا السّتر في غير المشتهرين .
وقال ابن العربيّ : إذا رأيت إنساناً على معصية فعظه فيما بينك وبينه ، ولا تفضحه .
ج - ويحرم كذلك تشهير الإنسان بنفسه ، إذ المسلم مطالب بالسّتر على نفسه .
ففي الصّحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « كلُّ أمّتي مُعَافى إلا المجاهرين ، وإنّ من الإجهار أن يعمل العبد باللّيل عملاً ، ثمّ يصبح وقد ستره عليه اللّه ، فيقول : يا فلان ، عملتُ البارحة كذا وكذا . وقد بات يستره اللّه عزّ وجلّ ويصبح يكشف ستر اللّه عزّ وجلّ عنه »
والسّتر واجب على المسلم في خاصّة نفسه إذا أتى فاحشة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر اللّه » .
5 - ويكون التّشهير جائزاً لمن يجاهر بالمعصية في الأحوال الآتية :
أ - بالنّسبة لمن يجاهر بالمعصية ، فيجوز ذكر من يتجاهر بفسقه ، لأنّ المجاهر بالفسق لا يستنكف أن يذكر به ، ولا يعتبر هذا غيبة في حقّه ، لأنّ من ألقى جلباب الحياء لا غيبة له. قال القرافيّ : المعلن بالفسوق - كقول امرئ القيس :" فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع "
فإنّه يفتخر بالزّنا في شعره - فلا يضرّ أن يحكى ذلك عنه ، لأنّه لا يتألّم إذا سمعه ، بل قد يسرّ بتلك المخازي ، وكثير من اللّصوص تفتخر بالسّرقة والاقتدار على التّسوّر على الدّور العظام والحصون الكبار ، فذكر مثل هذا عن هذه الطّوائف لا يحرم .
وفي الإكمال في شرح حديث مسلم : « مَنْ سَترَ مسلماً ستره اللّه » قال : وهذا السّتر في غير المشتهرين . وقال الخلال : أخبرني حرب : سمعت أحمد يقول : إذا كان الرّجل معلناً بفسقه فليست له غيبة .
وذكر ابن عبد البرّ في كتاب بهجة المجالس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ثلاثةٌ لا غِيبة فيهم : الفاسقُ المعلن بفسقه ، وشارب الخمر ، والسّلطان الجائر » .
6 - ب - إذا كان التّشهير على سبيل نصيحة المسلمين وتحذيرهم ، وذلك كجرح الرّواة والشّهود والأمناء على الصّدقات والأوقاف والأيتام ، والتّشهير بالمصنّفين والمتصدّين لإفتاء أو إقراء مع عدم أهليّة ، أو مع نحو فسق أو بدعة يدعون إليها ، وأصحاب الحديث وحملة العلم المقلّدين ، هؤلاء يجب تجريحهم وكشف أحوالهم السّيّئة لمن عرفها ممّن يقلّد في ذلك ويلتفت إلى قوله ، لئلا يغترّ بهم ويقلّد في دين اللّه من لا يجوز تقليده ، وليس السّتر هنا بمرغّب فيه ولا مباح . على هذا اجتمع رأي الأمّة قديماً وحديثاً .
يقول القرافيّ : أرباب البدع والتّصانيف المضلّة ينبغي أن يشهّر النّاس فسادها وعيبها . وأنّهم على غير الصّواب ، ليحذرها النّاس الضّعفاء فلا يقعوا فيها ، وينفر عن تلك المفاسد ما أمكن ، بشرط أن لا يتعدّى فيها الصّدق ، ولا يفتري على أهلها من الفسوق والفواحش ما لم يفعلوه ، بل يقتصر على ما فيهم من المنفّرات خاصّة ، فلا يقال في المبتدع : إنّه يشرب الخمر ، ولا أنّه يزني ، ولا غير ذلك ممّا ليس فيه .
ويجوز وضع الكتب في جرح المجروحين من رواة الحديث والأخبار بذلك لطلبة العلم الحاملين لذلك لمن ينتفع به وينقله ، بشرط أن تكون النّيّة خالصة للّه تعالى في نصيحة المسلمين في ضبط الشّريعة .
أمّا إذا كان لأجل عداوة أو تَفَكُّهٍ بالأعراض وجرياً مع الهوى فذلك حرام ، وإن حصلت به المصلحة عند الرّواة .
ويقول الخطيب الشّربينيّ : لو قال العالم لجماعة من النّاس : لا تسمعوا الحديث من فلان فإنّه يخلط أو لا تستفتوا منه فإنّه لا يحسن الفتوى فهذا نصح للنّاس . نصّ عليه في الأمّ . قال : وليس هذا بغيبة إن كان يقوله لمن يخاف أن يتبعه ويخطئ باتّباعه . ومثله في الفواكه الدّواني . ويقول النّوويّ : يجوز تحذير المسلمين من الشّرّ ونصيحتهم ، وذلك من وجوه منها : جرح المجروحين من الرّواة للحديث والشّهود ، وذلك جائز بإجماع المسلمين ، بل واجب للحاجة . ومنها : إذا استشارك إنسان في مصاهرته أو مشاركته أو إيداعه أو الإيداع عنده أو معاملته بغير ذلك ،وجب عليك أن تذكر له ما تعلمه منه على جهة النّصيحة. وفي مغني المحتاج : ينكر على من تصدّى للتّدريس والفتوى والوعظ وليس هو من أهله ، ويشهّر أمره لئلّا يغترّ به .
 
أعلى