بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء التاسع / الموسوعة الفقهية
بيع *
التّعريف :
1 - البيع لغةً مصدر باع ، وهو : مبادلة مال بمال ، أو بعبارة أخرى في بعض الكتب : مقابلة شيء بشيء ، أو دفع عوض وأخذ ما عوّض عنه .
والبيع من الأضداد - كالشّراء - قد يطلق أحدهما ويراد به الآخر ، ويسمّى كلّ واحد من المتعاقدين : بائعاً ، أو بيعاً . لكن إذا أطلق البائع فالمتبادر إلى الذّهن في العرف أن يراد به باذل السّلعة ، وذكر الحطّاب أنّ لغة قريش استعمال ( باع ) إذا أخرج الشّيء من ملكه ( واشترى ) إذا أدخله في ملكه ، وهو أفصح ، وعلى ذلك اصطلح العلماء تقريباً للفهم . ويتعدّى الفعل ( باع ) بنفسه إلى مفعولين فيقال : بعت فلاناً السّلعة ، ويكثر الاقتصار على أحدهما ، فتقول : بعت الدّار ، وقد يزاد مع الفعل للتّوكيد حرف مثل ( من ) أو ( اللام ) فيقال : بعت من فلان ، أو لفلان .
أمّا قولهم : باع على فلان كذا ، فهو فيما بيع من ماله بدون رضاه .
أمّا في اصطلاح الفقهاء ، فللبيع تعريفان :
أحدهما : للبيع بالمعنى الأعمّ ( وهو مطلق البيع ) .
والآخر : للبيع بالمعنى الأخصّ ( وهو البيع المطلق ) .
فالحنفيّة عرّفوا البيع بالمعنى الأعمّ بمثل تعريفه لغةً بقيد ( التّراضي ) . لكن قال ابن الهمام : إنّ التّراضي لا بدّ منه لغةً أيضاً ، فإنّه لا يفهم من ( باع زيد ثوبه ) إلاّ أنّه استبدل به بالتّراضي ، وأنّ الأخذ غصباً وإعطاء شيء آخر من غير تراض لا يقول فيه أهل اللّغة باعه واختار صاحب الدّرر من الحنفيّة التّقييد ب ( الاكتساب ) بدل ( التّراضي ) احترازاً من مقابلة الهبة بالهبة ، لأنّها مبادلة مال بمال ، لكن على طريق التّبرّع لا بقصد الاكتساب . وعرّفه المالكيّة بأنّه : عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذّة ، وذلك للاحتزاز عن مثل الإجارة والنّكاح ، وليشمل هبة الثّواب والصّرف والسّلم .
وعرّفه الشّافعيّة بأنّه : مقابلة مال بمال على وجه مخصوص .
وأورد القليوبيّ تعريفاً قال إنّه أولى ، ونصّه : عقد معاوضة ماليّة تفيد ملك عين أو منفعة على التّأبيد لا على وجه القربة . ثمّ قال : وخرج بالمعاوضة نحو الهديّة ، وبالماليّة نحو النّكاح ، وبإفادة ملك العين الإجارة ، وبالتّأبيد الإجارة أيضاً ، وبغير وجه القربة القرض . والمراد بالمنفعة بيع نحو حقّ الممرّ .
وعرّفه الحنابلة بأنّه : مبادلة مال - ولو في الذّمّة - أو منفعةً مباحةً ( كممرّ الدّار مثلاً ) بمثل أحدهما على التّأبيد غير رباً وقرض ، وعرّفه بعضهم بأنّه : مبادلة المال بالمال تمليكاً وتملّكاً .
أمّا البيع بالمعنى الأخصّ ، وهو البيع المطلق ، فقد ذكره الحنفيّة والمالكيّة ، وعرّفه المالكيّة بأنّه : عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذّة ذو مكايسة ، أحد عوضيه غير ذهب ولا فضّة ، معيّن غير العين فيه .
فتخرج هبة الثّواب بقولهم : ذو مكايسة ، والمكايسة : المغالبة ، ويخرج الصّرف والمراطلة بقولهم : أحد عوضيه غير ذهب ولا فضّة ، ويخرج السّلم بقولهم : معيّن .
ثمّ لاحظ الشّافعيّة أنّ التّعريف للبيع قد يراد به البيع وحده ، باعتباره أحد شقّي العقد ، فقالوا عنه إنّه : تمليك بعوض على وجه مخصوص ، ومن ثمّ عرّفوا الشّراء بأنّه : تملّك بعوض على وجه مخصوص . كما أورد الحطّاب تعريفاً شاملاً للبيع الصّحيح والفاسد بقوله : دفع عوض في معوّض ، لما يعتقده صاحب هذا التّعريف من أنّ البيع الفاسد لا ينقل الملك وإنّما ينقل شبهة الملك ، ثمّ أشار الحطّاب إلى أنّ العرب تسمّي الشّيء صحيحاً لمجرّد الاعتقاد بصحّته ، فالملك ينتقل على حكمهم في الجاهليّة وإن لم ينتقل على حكم الإسلام ، على أنّ المقصود من الحقائق الشّرعيّة إنّما هو معرفة الصّحيح .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الهبة ، والوصيّة :
2- الهبة : تمليك بلا عوض حال الحياة . والوصيّة : تمليك بلا عوض بعد الموت .
فهما يفترقان عن البيع في أنّ البيع تمليك بعوض .
ب - الإجارة :
3 - الإجارة : عقد على منفعة معلومة بعوض معلوم . فالإجارة محدّدة بالمدّة أو بالعمل ، خلافاً للبيع . والإجارة تمليك المنفعة ، أمّا البيع فهو تمليك للذّات في الجملة .
ج - الصّلح :
4 - الصّلح : عقد يقتضي قطع النّزاع والخصومة .
وعرّفه ابن عرفة بأنّه : انتقال عن حقّ أو دعوى بعوض لرفع نزاع ، أو خوف وقوعه . وإذا كانت المصالحة على أخذ البدل فالصّلح معاوضة ، ويعتبره الفقهاء بيعاً يشترط فيه شروط البيع .
يقول الفقهاء : الصّلح على أخذ شيء غير المدّعى به بيع لذات المدّعى به بالمأخوذ إن كان ذاتاً ، فيشترط فيه شروط البيع . وإن كان المأخوذ منافع فهو إجارة .
أمّا الصّلح على أخذ بعض المدّعى به وترك باقيه فهو هبة .
فالصّلح في بعض صوره يعتبر بيعاً .
د - القسمة :
5- عرّف الحنفيّة القسمة بأنّها : جمع نصيب شائع في معيّن ، وعرّفها ابن عرفة بأنّها : تصيير مشاع من مملوك مالكين معيّناً ولو باختصاص تصرّف فيه بقرعة أو تراض .
وهي عند الشّافعيّة والحنابلة : تمييز بعض الحصص وإفرازها .
واعتبرها بعض الفقهاء بيعاً .
يقول ابن قدامة : القسمة إفراز حقّ وتمييز أحد النّصيبين من الآخر ، وليست بيعاً ، وهذا أحد قولي الشّافعيّ . وقال في الآخر : هي بيع ، وحكي عن أبي عبد اللّه بن بطّة ، لأنّه يبدل نصيبه من أحد السّهمين بنصيب صاحبه من السّهم الآخر ، وهذا حقيقة البيع .
وعلى ذلك بعض المالكيّة . قال ابن عبد البرّ : القسمة بيع من البيوع . وهو قول مالك في المدوّنة . وإن كان في القسمة ردّ - وقسمة الرّدّ هي الّتي يستعان في تعديل أنصبائها بمال أجنبيّ - فهي بيع عند الشّافعيّة والحنابلة .
جاء في المهذّب : إن كان في القسمة ردّ فهي بيع ، لأنّ صاحب الرّدّ بذلك المال في مقابلة ما حصل له من حقّ شريكه عوضاً . ويقول ابن قدامة : إن كان في القسمة ردّ عوض فهي بيع ، لأنّ صاحب الرّدّ يبذل المال عوضاً عمّا حصل له من مال شريكه ، وهذا هو البيع . وهي عند الحنفيّة يغلب فيها معنى تمييز الحقوق في قسمة المثليّ . وفي قسمة القيميّ يغلب فيها معنى البيع .
الحكم التّكليفيّ :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ البيع مشروع على سبيل الجواز ، دلّ على جوازه الكتاب والسّنّة والإجماع والمعقول .
فمن الكتاب قوله تعالى : { وأحلَّ اللّه البيعَ } وقوله عزّ وجلّ : { لا تأكلوا أموالَكم بينكم بالباطلِ إلاّ أن تكونَ تجارةً عن تَرَاضٍ منكم } .
وأمّا السّنّة فمنها : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سُئل : أيّ الكسب أطيب ؟ فقال : عمل الرّجل بيده ، وكلّ بيع مَبرور » وكذلك فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم وإقراره أصحابه عليه . والإجماع قد استقرّ على جواز البيع .
أمّا المعقول : فلأنّ الحكمة تقتضيه ، لتعلّق حاجة الإنسان بما في يد صاحبه ، ولا سبيل إلى المبادلة إلاّ بعوض غالباً ، ففي تجويز البيع وصول إلى الغرض ودفع للحاجة .
هذا هو الحكم الأصليّ للبيع ، ولكن قد تعتريه أحكام أخرى ، فيكون محظوراً إذا اشتمل على ما هو ممنوع بالنّصّ ، لأمر في الصّيغة ، أو العاقدين ، أو المعقود عليه . وكما يحرم الإقدام على مثل هذا البيع فإنّه لا يقع صحيحاً ، بل يكون باطلاً أو فاسداً على الخلاف المعروف بين الجمهور والحنفيّة ، ويجب فيه التّرادّ . على تفصيل يعرف في مصطلح ( بيع منهيّ عنه ) وفي أفراد البيوع المسمّاة المنهيّ عنها ، وفي مصطلحي ( البيع الباطل ، والبيع الفاسد ) . وقد يكون الحكم الكراهة ، وهو ما فيه نهي غير جازم ولا يجب فسخه ، ومثّل له الحطّاب من المالكيّة ببيع السّباع لا لأخذ جلودها .
وقد يعرض للبيع الوجوب ، كمن اضطرّ إلى شراء طعام أو شراب لحفظ المهجة .
كما قد يعرض له النّدب ، كمن أقسم على إنسان أن يبيع سلعةً لا ضرر عليه في بيعها فتندب إجابته ، لأنّ إبرار المقسم فيما ليس فيه ضرر مندوب .
7- وحكمة مشروعيّة البيع ظاهرة ، فهي الرّفق بالعباد والتّعاون على حصول معاشهم .
تقسيم البيع :
8 - للبيع تقسيمات عديدة باعتبارات مختلفة ، أهمّها تقسيمه باعتبار - المبيع - وباعتبار - الثّمن - من حيث طريقة تحديده ، ومن حيث كيفيّة أدائه .
وباعتبار الحكم الشّرعيّ التّكليفيّ أو الوضعيّ ( الأثر ) .
أوّلاً - تقسيم البيع باعتبار المبيع :
ينقسم البيع باعتبار موضوع المبادلة فيه إلى أربعة أنواع :
البيع المطلق :
9 - وهو مبادلة العين بالدّين وهو أشهر الأنواع ، ويتيح للإنسان المبادلة بنقوده على كلّ ما يحتاج إليه من الأعيان ، وإليه ينصرف البيع عند الإطلاق فلا يحتاج كغيره إلى تقييد .
بيع السّلم :
10 - وهو مبادلة الدّين بالعين ، أو بيع شيء مؤجّل بثمن معجّل .
وتفصيله في مصطلح ( سلم ) .
بيع الصّرف :
11 - وهو مبادلة الأثمان . وتفصيله في مصطلح ( صرف ) . ويخصّ المالكيّة الصّرف بما كان نقداً بنقد مغاير وهو بالعدّ ، فإن كان بنقد من نوعه فهو ( مراطلةً ) وهو بالوزن .
بيع المقايضة :
12 - وهو مبادلة العين بالعين . وتفصيله في ( مقايضة ) .
ثانياً - تقسيم البيع باعتبار طريقة تحديد الثّمن :
ينقسم البيع باعتبار طريقة تحديد الثّمن إلى أربعة أنواع هي :
بيع المساومة :
13 - وهو البيع الّذي لا يظهر فيه البائع رأس ماله .
بيع المزايدة :
14 - بأن يعرض البائع سلعته في السّوق ويتزايد المشترون فيها ، فتباع لمن يدفع الثّمن الأكثر .
بيوع الأمانة :
15 - وهي الّتي يحدّد فيها الثّمن بمثل رأس المال ، أو أزيد ، أو أنقص . وسمّيت بيوع الأمانة ، لأنّه يؤتمن فيها البائع في إخباره برأس المال ، وهي ثلاثة أنواع :
أ - بيع المرابحة ، وهو البيع الّذي يحدّد فيه الثّمن بزيادة على رأس المال . وتفصيله في مصطلح ( مرابحة ) .
ب - بيع التّولية ، وهو البيع الّذي يحدّد فيه رأس المال نفسه ثمناً بلا ربح ولا خسارة . انظر مصطلح ( تولية ) .
ج - بيع الوضيعة ، أو الحطيطة ، أو النّقيصة : وهو بيع يحدّد فيه الثّمن بنقص عن رأس المال ، أي بخسارة ، وتفصيله في ( وضيعة ) .
وإذا كان البيع لجزء من المبيع فيسمّى بيع ( الإشراك ) ولا يخرج عن الأنواع المتقدّمة . وينظر تفصيله في مصطلح ( إشراك - تولية ) .
ثالثاً - تقسيم البيع باعتبار كيفيّة الثّمن :
16 - ينقسم البيع بهذا الاعتبار إلى :
أ - منجز الثّمن ، وهو ما لا يشترط فيه تأجيل الثّمن ، ويسمّى بيع النّقد ، أو البيع بالثّمن الحالّ .
ب - مؤجّل الثّمن ، وهو ما يشترط فيه تأجيل الثّمن ، وسيأتي تفصيل الكلام عن هذا النّوع في مباحث الثّمن .
ج - مؤجّل المثمّن ، وهو بيع السّلم ، وقد سبقت الإشارة إليه .
د - مؤجّل العوضين ، وهو بيع الدّين بالدّين وهو ممنوع في الجملة .
وتفصيله في مصطلح ( دين ، وبيع منهيّ عنه ) .
وقد أورد ابن رشد الحفيد تقسيمات للبيع بلغت تسعةً ، تبعاً لما تمّ عليه التّبادل وكيفيّة تحديد الثّمن ووجوب الخيار ، والحلول والنّسيئة في كلّ من المبيع والثّمن ، بما لا يخرج عمّا سبق . وهناك تقسيمات أخرى فرعيّة بحسب حضور المبيع وغيبته ، وبحسب رؤيته وعدمها ، وبحسب بتّ العقد أو التّخيير فيه .
17 - أمّا التّقسيم باعتبار الحكم الشّرعيّ فأنواعه كثيرة :
فمن ذلك البيع المنعقد ، ويقابله البيع الباطل . والبيع الصّحيح ويقابله البيع الفاسد .
والبيع النّافذ ، ويقابله البيع الموقوف . والبيع اللازم ، ويقابله البيع غير اللازم ( ويسمّى الجائز أو المخيّر ) وتفصيل ما يتّصل بهذه الأنواع ينظر في مصطلحاتها .
وتنظر البيوع المنهيّ عنها في مصطلح ( بيع منهيّ عنه ) .
وهناك بيوع مسمّاة بأسماء خاصّة ورد النّهي عنها كبيع النّجش ، وبيع المنابذة ، ونحوهما . وتنظر في مصطلحاتها .
وهناك أنواع أخرى روعي في تسميتها أحوال تقترن بالعقد ، وتؤثّر في الحكم ، كبيع المكره ، أو الهازل ، وبيع التّلجئة ، وبيع الفضوليّ ، وبيع الوفاء . ولها مصطلحاتها أيضاً .
كما أنّ ( الاستصناع ) يدرج في عداد البيوع ، مع الخلاف في أنّه بيع أو إجارة ، وينظر تفصيله في مصطلحه . وهذه البيوع المسمّاة حظيت من الفقهاء . ببحث مستقلّ عن البيع المطلق ، لكنّها تأتي تاليةً له . ومن هنا جاءت تسمية ( البيوع ) لأنّها يشملها مطلق البيع ، لكنّها لا تدخل في ( البيع المطلق ) كما سبق .
أركان البيع وشروطه :
18 - للفقهاء خلاف مشهور في تحديد الأركان في البيع وغيره من العقود ، هل هي الصّيغة ( الإيجاب أو القبول ) أو مجموع الصّيغة والعاقدين ( البائع والمشتري ) والمعقود عليه أو محلّ العقد ( المبيع والثّمن ) .
فالجمهور - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - يرون أنّ هذه كلّها أركان البيع ، لأنّ الرّكن عندهم : ما توقّف عليه وجود الشّيء وتصوّره عقلاً ، سواء أكان جزءاً من حقيقته أم لم يكن ، ووجود البيع يتوقّف على العاقدين والمعقود عليه ، وإن لم يكن هؤلاء جزءاً من حقيقته . ويرى الحنفيّة أنّ الرّكن في عقد البيع وغيره : هو الصّيغة فقط . أمّا العاقدان والمحلّ فممّا يستلزمه وجود الصّيغة لا من الأركان ، لأنّ ما عدا الصّيغة ليس جزءاً من حقيقة البيع ، وإن كان يتوقّف عليه وجوده .
واستحسن بعض الفقهاء المعاصرين تسمية مجموع الصّيغة والعاقدين والمحلّ ( مقوّمات العقد ) : للاتّفاق على عدم قيام العقد بدونها .
هذا ، ولكلّ من الصّيغة والعاقدين والمحلّ شروط لا يتحقّق الوجود الشّرعيّ لأيّ منها إلاّ بتوافرها ، وتختلف تلك الشّروط من حيث أثر وجودها أو فقدانها .
فمنها شروط الانعقاد ، ويترتّب على تخلّف أحدها بطلان العقد .
ومنها شروط الصّحّة ، ويترتّب على تخلّف شيء منها بطلان العقد ، أو فساده على الخلاف بين الجمهور والحنفيّة .
ومنها شروط النّفاذ ، ويترتّب على فقد أحدها اعتبار العقد موقوفاً .
ومنها شروط اللّزوم ، ويترتّب على تخلّفها أو تخلّف بعضها عدم لزوم العقد .
وهذا التّنويع للشّروط هو ما عليه الحنفيّة . وفي بعضه خلاف لغيرهم سيأتي بيانه .
الصّيغة وشروطها :
20 - الصّيغة - كما صرّح بذلك الحطّاب - هي الإيجاب والقبول .
ويصلح لهما كلّ قول يدلّ على الرّضا ، مثل قول البائع : بعتك أو أعطيتك ، أو ملّكتك بكذا . وقول المشتري : اشتريت أو تملّكت أو ابتعت أو قبلت ، وشبه ذلك .
والإيجاب عند الجمهور : ما يصدر من البائع دالاً على الرّضا ، والقبول : ما يصدر من المشتري كذلك .
وقال الحنفيّة : إنّ الإيجاب يطلق على ما يصدر أوّلاً من كلام أحد العاقدين ، سواء أكان هو البائع أم المشتري ، والقبول ما يصدر بعده . وللتّفصيل ينظر ( إيجاب ، وقبول ) .
وقد صرّح المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بأنّ تقدّم لفظ المشتري على لفظ البائع جائز لحصول المقصود . ولا تختلف شروط الصّيغة في البيع عن الصّيغة في غيره من العقود الماليّة ممّا خلاصته كون الصّيغة بالماضي ، أو بما يفيد إنشاء العقد في الحال كما يأتي ، وتوافق الإيجاب والقبول ، فلو خالف القبول الإيجاب لم ينعقد البيع .
وصرّح الحنفيّة أنّ القبول المخالف للإيجاب يكون إيجاباً جديداً .
ويشترط للصّيغة كذلك : اتّحاد المجلس ، وهو يجمع المتفرّقات فيه ، فلو تراخى القبول عن الإيجاب أو عكسه صحّ المتقدّم منهما ، ولم يلغ ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه عرفاً . ويشترط : عدم الهزل في الإيجاب أو القبول .
ويشترط لبقاء الإيجاب صالحاً : عدم رجوع الموجب ، وعدم وفاته قبل القبول ، وعدم هلاك المعقود عليه .
ويشترط ألاّ يطرأ قبل القبول تغيير على المعقود عليه بحيث يصير مسمًّى آخر غير المتعاقد عليه ، كتحوّل العصير خلّاً . وتفصيل ذلك في مصطلحي : ( عقد ) ( وصيغة ) .
وفيما يلي بعض التّطبيقات الهامة الخاصّة بصيغة البيع . فضلاً عمّا سبقت الإشارة إليه من شروط الصّيغة في العقود عامّةً .
21 - لا خلاف فيما إذا كان الإيجاب والقبول بصيغة الماضي مثل : بعتُ ، أو اشتريت . أو المضارع المراد به الحال بقرينة لفظيّة مثل : أبيعك الآن أو قرينة حاليّة . كما إذا جرى العرف على استعمال المضارع بمعنى الحال .
ولا ينعقد البيع إذا كان الإيجاب أو القبول بصيغة الاستفهام ، مثل : أتبعيني ؟ أو المضارع المراد به الاستقبال ، مثل : سأبيعك ، أو أبيعك غداً .
أمّا الأمر مثل : بعني ، فإذا أجابه الآخر بقوله : بعتك . كان هذا اللّفظ الثّاني إيجاباً ، واحتاج إلى قبول من الأوّل ( الآمر بالبيع ) .
وهذا عند الحنفيّة ، وفي رواية عند الحنابلة ، ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة .
أمّا عند المالكيّة ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ، وإحدى الرّوايتين عند الحنابلة : ينعقد البيع بقول المشتري : بعني ، وبقول البائع : بعتك ، للدّلالة على الرّضا ، ولا يحتاج إلى قبول من الأوّل . وقال الشّافعيّة : لو قال المشتري بلفظ الماضي أو المضارع : بعتني ، أو تبيعني ، فقال البائع : بعتك ، لم ينعقد البيع حتّى يقبل بعد ذلك .
وصرّح الحنفيّة بصحّة الإيجاب بلفظ الأمر أو المضارع ، إذا كان في العبارة إيجاب أو قبول ضمنيّ ، مثل : خذ هذه السّلعة بكذا ، فقال : أخذتها ، لأنّ ( خذ ) تتضمّن بعتك فخذ ، وكذلك قول البائع بعد إيجاب المشتري : يبارك اللّه لك في السّلعة ، لأنّه يتضمّن معنى قبلت البيع . ومثل ذلك عند المالكيّة والحنابلة .
ونحو هذا للشّافعيّة في مثل : أعتق عبدك عنّي بكذا ، لأنّه تضمّن : بعنيه وأعتقه عنّي .
22 - وتدلّ عبارات الفقهاء على أنّ العبرة بالدّلالة على المقصود ، سواء أكان ذلك بوضع اللّغة أم بجريان العرف ، قال الدّسوقيّ : ينعقد البيع بما يدلّ على الرّضا عرفاً ، سواء دلّ لغةً أو لا ، من قول أو كتابة أو إشارة منهما أو من أحدهما .
وفي كشّاف القناع : الصّيغة القوليّة غير منحصرة في لفظ بعينه كبعت واشتريت ، بل هي كلّ ما أدّى معنى البيع ، لأنّ الشّارع لم يخصّه بصيغة معيّنة ، فيتناول كلّ ما أدّى معناه .
23 - ويحصل التّوافق بين الإيجاب والقبول بأن يقبل المشتري كلّ المبيع بكلّ الثّمن . فلا توافق إنّ قبل بعض العين الّتي وقع عليها الإيجاب أو قبل عيناً غيرها ، وكذلك لا توافق إن قبل ببعض الثّمن الّذي وقع به الإيجاب أو بغيره ، إلاّ إن كان القبول إلى خير ممّا في الإيجاب ، كما لو باع شخص السّلعة بألف فقبلها المشتري بألف وخمسمائة ، أو اشترى شخص سلعةً بألف فقبل البائع بيعها بثمانمائة ، وهذه موافقة ضمنيّة ولكن لا تلزم الزّيادة ، إلاّ إن قبلها الطّرف الآخر .
أمّا الحطّ من الثّمن فجائز ولو بعد البيع . وكذلك لا توافق إن باعه سلعةً بألف فقبل نصفها بخمسمائة مثلاً ، إلاّ إن رضي البائع بعد هذا ، فيصير القبول إيجاباً ، ورضا البائع بعده قبول . وصرّح بعض الشّافعيّة بأنّه لو قال البائع : بعتك هذا بألف ونصفه بخمسمائة ، فقبل نصفه جاز ، ومنه يعرف حكم ما لو وجدت قرينة برضا البائع بتجزئة المبيع بالنّسبة للثّمن .
انعقاد البيع بالمعاطاة ،أو التّعاطي :
24 - المعاطاة هي : إعطاء كلّ من العاقدين لصاحبه ما يقع التّبادل عليه دون إيجاب ولا قبول ، أو بإيجاب دون قبول ، أو عكسه ، وهي من قبيل الدّلالة الحاليّة ، ويصحّ بها البيع في القليل والكثير عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة كالمتولّي والبغويّ ، خلافاً لغيرهم . وتفصيل ذلك والخلاف فيه يذكر في مصطلح : ( تعاطي ) .
انعقاد البيع بالكتابة والمراسلة :
25 - يصحّ التّعاقد بالكتابة بين حاضرين أو باللّفظ من حاضر والكتابة من الآخر . وكذلك ينعقد البيع إذا أوجب العاقد البيع بالكتابة إلى غائب بمثل عبارة : بعتك داري بكذا ، أو أرسل بذلك رسولاً فقبل المشتري بعد اطّلاعه على الإيجاب من الكتاب أو الرّسول .
واشترط الشّافعيّة الفور في القبول ، وقالوا : يمتدّ خيار المجلس للمكتوب إليه أو المرسل إليه ما دام في مجلس قبوله ، ولا يعتبر للكاتب مجلس ، ولو بعد قبول المكتوب إليه ، بل يمتدّ خياره ما دام خيار المكتوب إليه . كما قالوا : لا يشترط إرسال الكتاب أو الرّسول فوراً عقب الإجابة .
ولم يشترط غير الشّافعيّة الفور في القبول ، بل صرّح الحنابلة بأنّه لا يضرّ التّراخي هنا بين الإيجاب والقبول ، لأنّ التّراخي مع غيبة المشتري لا يدلّ على إعراضه عن الإيجاب .
انعقاد البيع بالإشارة من الأخرس وغيره :
26 - ينعقد البيع بالإشارة من الأخرس إذا كانت معروفةً ، ولو كان قادراً على الكتابة ، وهو المعتمد عند الحنفيّة ، لأنّ كلاً من الإشارة والكتابة حجّة .
أمّا الإشارة غير المفهومة فلا عبرة بها . ولا تقبل الإشارة من النّاطق عند الجمهور .
أمّا المالكيّة فعندهم ينعقد البيع بالإشارة المفهمة ولو مع القدرة على النّطق .
وأمّا من اعتقل لسانه ، وهو : من طرأ عليه الخرس ففيه خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : ( اعتقال اللّسان ) .
شروط البيع :
27 - اختلفت طريقة الفقهاء في حصر شروط البيع ، فقد جعلها بعضهم شروطاً لصحّة البيع من حيث هو ، في حين اهتمّ آخرون بذكر شروط المبيع ، ثمّ إلحاق الثّمن في جميع شروط المبيع أو في بعضها ، حسب إمكان تصوّرها فيه .
ولا تباين بين معظم تلك الشّروط ، لتقارب المقصود بما عبّروا به عنها .
وهناك شروط انفرد بذكرها بعض المذاهب دون بعض .
ومع أنّ الحنفيّة يفرّقون بين شروط الانعقاد وشروط الصّحّة ، فإنّهم يعتبرون شروط الانعقاد شروطاً للصّحّة ، لأنّ ما لم ينعقد فهو غير صحيح ، ولا عكس .
وفيما يلي بيان تلك الشّروط على طريقة الجمهور ، مع الإشارة إلى ما اعتبره الحنفيّة منها شرط انعقاد .
شروط المبيع :
للمبيع شروط هي :
أن يكون المبيع موجوداً حين العقد .
28 - فلا يصحّ بيع المعدوم ، وذلك باتّفاق الفقهاء . وهذا شرط انعقاد عند الحنفيّة .
ومن أمثلة بيع المعدوم بيع الثّمرة قبل أن تخلق ، وبيع المضامين ( وهي ما سيوجد من ماء الفحل ) ، وبيع الملاقيح ( وهي ما في البطون من الأجنّة ) وذلك لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن بيع المضامين والملاقيح وحبل الحبلة » . ولما في ذلك من الغرر والجهالة . وللحديث : « نهى عن بيع الغرر » .
ولا خلاف في استثناء بيع السّلم ، فهو صحيح مع أنّه بيع المعدوم ، وذلك للنّصوص الواردة فيه ، ومنها : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ، ورخّص في السّلم » .
أن يكون مالاً :
29 - وعبّر المالكيّة والشّافعيّة عن هذا الشّرط بلفظ : النّفع أو الانتفاع ، ثمّ قالوا : ما لا نفع فيه ليس بمال فلا يقابل به ، أي لا تجوز المبادلة به . وهو شرط انعقاد عند الحنفيّة . والمال ما يميل إليه الطّبع ، ويجري فيه البذل والمنع ، فما ليس بمال ليس محلاً للمبادلة بعوض ، والعبرة بالماليّة في نظر الشّرع ، فالميتة والدّم المسفوح ليس بمال .
أن يكون مملوكاً لمن يلي العقد :
30 - وذلك إذا كان يبيع بالأصالة . واعتبر الحنفيّة هذا الشّرط من شروط الانعقاد ، وقسموه إلى شقّين :
الأوّل : أن يكون المبيع مملوكاً في نفسه ، فلا ينعقد بيع الكلأ مثلاً ، لأنّه من المباحات غير المملوكة ، ولو كانت الأرض مملوكةً له .
والثّاني : أن يكون المبيع ملك البائع فيما يبيعه لنفسه ، فلا ينعقد بيع ما ليس مملوكاً ، وإن ملكه بعد ، إلاّ السّلم ، والمغصوب بعد ضمانه ، والمبيع بالوكالة ، أو النّيابة الشّرعيّة ، كالوليّ والوصيّ والقيّم .
وقد استدلّ لعدم مشروعيّة بيع ما لا يملكه الإنسان بحديث حكيم بن حزام رضي الله عنه :
« لا تبع ما ليس عندك » وفي بيع الفضوليّ خلاف ينظر في مصطلح : ( بيع الفضوليّ ) . أن يكون مقدور التّسليم :
31 - وهو شرط انعقاد عند الحنفيّة ، فلا يصحّ بيع الجمل الشّارد ، ولا بيع الطّير في الهواء ، ولا السّمك في الماء ، « لنهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر » .
أن يكون معلوماً لكلّ من العاقدين :
32 - وهذا الشّرط عند الحنفيّة شرط صحّة ، لا شرط انعقاد ، فإذا تخلّف لم يبطل العقد ، بل يصير فاسداً . ويحصل العلم بكلّ ما يميّز المبيع عن غيره ، ويمنع المنازعة ، فبيع المجهول جهالةً تفضي إلى المنازعة غير صحيح كبيع شاة من القطيع .
هذا وقد زاد المالكيّة والشّافعيّة في شروط المبيع : اشتراط طهارة عينه .
كما ذكر المالكيّة شرطين آخرين هما : أن لا يكون البيع من البيوع المنهيّ عنها ،
وأن لا يكون البيع محرّماً . وهذه الشّروط تندرج فيما سبق من شروط .
وينظر تفصيل محترزات هذه الشّروط وما يترتّب على تخلّف كلّ منها في مصطلح : ( بيع منهيّ عنه ) وانظر أيضاً البيوع الملقّبة ، كلاً في موضعه .
المبيع وأحكامه وأحواله
أوّلاً : تعيين المبيع
33 - لا بدّ لمعرفة المبيع من أن يكون معلوماً بالنّسبة للمشتري بالجنس والنّوع والمقدار ، فالجنس كالقمح مثلاً ، والنّوع كأن يكون من إنتاج بلد معروف ، والمقدار بالكيل أو الوزن أو نحوهما . وتعيين المبيع أمر زائد عن المعرفة به ، لأنّه يكون بتمييزه عن سواه بعد معرفة ذاته ومقداره ، وهذا التّمييز إمّا أن يحصل في العقد نفسه بالإشارة إليه ، وهو حاضر في المجلس ، فيتعيّن حينئذ ، وليس للبائع أن يعطي المشتري سواه من جنسه إلاّ برضاه . والإشارة أبلغ طرق التّعريف . وإمّا أن لا يعيّن المبيع في العقد ، بأن كان غائباً موصوفاً ، أو قدراً من صبرة حاضرة في المجلس ، وحينئذ لا يتعيّن إلاّ بالتّسليم .
وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة .
وفي الأظهر عند الشّافعيّة : أنّه لا يصحّ بيع الغائب .
ومن المبيع غير المتعيّن بيع حصّة على الشّيوع . سواء أكانت من عقار أو منقول ، وسواء أكان المشاع قابلاً للقسمة أو غير قابل لها ، فإنّ المبيع على الشّيوع لا يتعيّن إلاّ بالقسمة والتّسليم . وممّا يتّصل بالتّعيين للمبيع : بيع شيء واحد من عدّة أشياء ، على أن يكون للمشتري خيار التّعيين ، أي تعيين ما يشتريه منها ، ويمكنه بذلك أن يختار ما هو أنسب له منها . وهذا عند من يقول بخيار التّعيين . وفي جواز هذا البيع وشروطه وما يترتّب على هذا الخيار تفصيلات تنظر في مصطلح : ( خيار التّعيين ) .
ثانياً : وسيلة معرفة المبيع وتعيينه
34 - إذا كان المبيع غائباً عن المجلس ولم تتمّ معرفة المبيع برؤيته أو الإشارة إليه على ما سبق ، فإنّها تتمّ بالوصف الّذي يميّزه عن غيره ، مع بيان مقداره .
وإذا كان عقاراً كان لا بدّ من بيان حدوده ، لاختلاف قيمة العقار باختلاف جهته وموقعه . وإذا كان من المكيلات أو الموزونات أو المذروعات أو المعدودات فإنّه تحصل معرفتها بالمقدار الّذي تباع به . وفي ذلك بعض التّفصيلات سيأتي بيانها قريباً .
ويصحّ بيع الجزاف ، وهو إمّا أن يكون بإجمال الثّمن على الصّبرة كلّها ، فيصحّ باتّفاق مع مراعاة ما ذكره المالكيّة من شروط في بيع الجزاف .
وإمّا بتفصيله بنحو : كلّ صاع بكذا ، فيصحّ عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ومحمّد . وقال أبو حنيفة : يصحّ في قفيز واحد ، ويبطل فيما سواه ، لجهالة المجموع الّذي وقع عليه العقد .
وقال الشّافعيّة : إن قدّر الصّبرة كأن قال : بعتك الصّبرة كلّ صاع بدرهم ، على أنّها مائة ، صحّ البيع إن خرجت مائة لتوافق الجملة والتّفصيل ، وإن لم تخرج مائةً ، بأن خرجت أقلّ أو أكثر ، ففي الصّحيح لا يصحّ البيع ، لتعذّر الجمع بين جملة الثّمن وتفصيله ، والقول الثّاني يصحّ . ويجوز بيع المكيل بالوزن ، وعكسه ، وهذا في الجملة في غير الرّبويّات ، أي فيما لا يحرم التّفاضل فيه ، للنّصّ على ذلك في الرّبويّات .
ويجوز البيع بمكيال أو ميزان خاصّ ، كحجر معيّن للمتبايعين ، ولو لم يكن متعارفاً عليه عند غيرهما . أمّا البيع بمكيال غير منضبط ، بأن كان يتّسع ويضيق فلا يجوز . مع استثناء بيع الماء بالقرب ، فيجوز استحساناً لجريان العرف به كما يقول الحنفيّة .
ثالثاً - شمول المبيع :
توابع المبيع :
35 - يقع البيع على العين ومنافعها ، ولذا كان من مقتضاه أحياناً أن يدخل في المبيع ماله صلةً به ، لتحقيق المنفعة المرادة منه ، أو أن يقضي العرف بشمول المبيع لأشياء تدخل فيه ولو لم يصرّح بذلك في العقد . كما أنّها لا تنفصل عنه لا بالاستثناء .
فعند الحنفيّة يدخل في المبيع ما يلي :
أ - ما يتناوله مدلول اسم المبيع ، بحيث يعتبر جزءاً من أجزائه . فبيع الدّار مثلاً يدخل فيه غرفها ، وبيع الخزانة يدخل فيه الأدراج .
ب - ما لا يقبل الانفكاك عن المبيع بالنّظر إلى الغرض من العقد عليه .
فبيع القفل يدخل معه المفتاح .
ج - ما كان متّصلاً بالمبيع اتّصال قرار ، بأن كان موضوعاً على وجه الدّوام ، كبيع الدّار تدخل فيه الأبواب والأحواض .
د - ما جرى العرف ببيعه مع المبيع تابعاً له . كالخطام بالنّسبة للبعير .
فالأصل أنّ هذه الأمور كلّها ترجع إلى العرف ، وهو يختلف باختلاف البلاد ، فما جرى العرف في بلد بدخوله في البيع تبعاً دخل فيه ، وإن لم يجر هذا العرف في بلد آخر .
ولذلك يقول ابن عابدين نقلاً عن الذّخيرة في بيع الدّار : الأصل أنّ ما لا يكون من بناء الدّار ولا متّصلاً بها ، لا يدخل إلاّ إذا جرى العرف أنّ البائع لا يمنعه عن المشتري ، فالمفتاح يدخل استحساناً لا قياساً لعدم اتّصاله ، وقلنا بدخوله بحكم العرف .
ثمّ قال ابن عابدين : ومقتضى ذلك أنّ شرب الدّار يدخل في ديارنا ( دمشق ) للتّعارف ، بل هو أولى من دخول السّلم المنفصل في عرف مصر القاهرة ، لأنّ الدّار في دمشق إذا كان لها ماء جار وانقطع عنها أصلاً لم ينتفع بها ، وأيضاً إذا علم المشتري أنّه لا يستحقّ شربها بعقد البيع لا يرضى بشرائها إلاّ بثمن قليل جدّاً بالنّسبة للدّار الّتي يدخل فيها شربها .
ويقول القرافيّ في الفرق بين قاعدة : ما يتبع العقد عرفاً ، وقاعدة : ما لا يتبعه - بعد أن سرد الأبواب في ذلك - قال : وهذه الأبواب الّتي سردتها مبنيّة على العوائد ، غير مسألة الثّمار المؤبّرة بسبب أنّ مدركها النّصّ والقياس ، وما عداها مدركه العرف والعادة ، فإذا تغيّرت العادة أو بطلت بطلت هذه الفتاوى ، وحرمت الفتوى بها لعدم مدركها فتأمّل ذلك ، بل تتبع الفتوى هذه العوائد كيفما تقلّبت ، كما تتبع النّقود في كلّ عصر وحين ، وكلّ ما صرّح به في النّقود واقتضته اللّغة فهذا هو الّذي لا يختلف باختلاف العوائد ، ولا يقال : إنّ العرف اقتضاه . ومعنى شمول المبيع لتلك الأشياء أنّها تدخل معه بالثّمن نفسه دون أن يكون لها حصّة من الثّمن ، لأنّ القاعدة أنّ كلّ ما يدخل في المبيع تبعاً لا حصّة له من الثّمن .
ويعتبر مثل ذلك - عند الحنفيّة - ما كان وصفاً بالنّسبة للمبيع ، فإذا تلف بعد العقد وقبل القبض ، لم يكن للمشتري إسقاط شيء في مقابله من الثّمن ، بل يتخيّر بين التّمسّك بالعقد وبين الفسخ ، وهو من قبيل خيار فوات الوصف ، وذلك بخلاف ما لو هلك شيء من ذات المبيع ( لا من توابعه ) فإنّه يتمكّن به المشتري من إسقاط ما يخصّه من الثّمن .
وأمّا عند الشّافعيّة والحنابلة : إن قال بعتك هذه الدّار دخل فيها ما اتّصل بها من الرّفوف المسمّرة والخوابي والأجاجين المدفونة فيها ، وكلّ ما اتّصل بها اتّصال استقرار لمصلحتها . ولا يدخل المنفصل عند الحنابلة ، وأحد وجهين عند الشّافعيّة ، فيدخل حجر الرّحى السّفلانيّ إن كان متّصلاً ، ولا يدخل الحجر الفوقانيّ ، ولا مثل دلو وحبل وبكرة ومفتاح .
الاستثناء من المبيع :
36 - ينبني حكم الاستثناء من المبيع على نصّ وضابط مبنيّ عليه ، مع اتّفاق الفقهاء في بعض ما ينبني على ذلك من مسائل ، واختلافهم في بعضها الآخر بسبب اختلافهم في التّوجيه ، وبيان ذلك فيما يلي :
أمّا النّصّ فهو ما رواه البخاريّ من أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن الثنيا إلاّ أن تعلم » . وأمّا الضّابط فهو أنّ كلّ ما يجوز بيعه منفرداً يجوز استثناؤه ، وما لا يجوز إيقاع البيع عليه بانفراده لا يجوز استثناؤه .
ولا بدّ من كون المستثنى معلوماً ، لأنّه إن كان مجهولاً عاد على الباقي بالجهالة ، فلم يصحّ البيع . وعلى ذلك لا يجوز استثناء الحمل من بيع الدّابّة ، لأنّه لا يجوز إفراده بالبيع ، فكذا استثناؤه ، وهو قول الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلاّ فيما نقل عن الإمام أحمد بصحّة استثنائه ، وبه قال الحسن والنّخعيّ وإسحاق وأبو ثور ، لما روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه باع جاريةً واستثنى ما في بطنها ، ولأنّه يصحّ استثناؤه في العتق ، فصحّ في البيع قياساً عليه .
وهكذا كلّ مجهول لا يجوز استثناؤه ، كاستثناء شاة غير معيّنة من قطيع .
ولا يجوز بيع الحائط واستثناء شجرة أو نخلة غير معيّنة لأنّ استثناء المجهول من المعلوم يصيّره مجهولاً ، فإن عيّن المستثنى صحّ البيع والاستثناء . وهذا عند الجمهور .
ويجوز عند الإمام مالك استثناء نخلات أو شجرات وإن لم تكن بأعيانها ، على أن يختارها ، إذا كان ثمرها قدر الثّلث أو أقلّ ، وكانت ثمار الحائط لوناً واحداً ، لخفّة الغرر في ذلك .
ولا يجوز بيع ثمرة واستثناء أرطال معلومة منها ، « لنهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الثنيا » ، ولأنّ الباقي بعد الاستثناء مجهول . روي ذلك عن سعيد بن المسيّب والشّافعيّ والأوزاعيّ وإسحاق وأبي ثور ، وهو قول الحنابلة غير أبي الخطّاب ، وهو رواية الحسن وقول الطّحاويّ من الحنفيّة .
ويجوز ذلك عند الإمام مالك إذا كان قدر ثلث فأقلّ ، والجواز هو ظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، وهو قول ابن سيرين وسالم بن عبد اللّه وأبي الخطّاب من الحنابلة ، لأنّه استثنى معلوماً . ويجوز استثناء جزء مشاع كربع وثلث ، لأنّه لا يؤدّي إلى جهالة المستثنى ولا المستثنى منه ، فصحّ كما لو اشترى شجرةً بعينها . وقال أبو بكر وابن أبي موسى من الحنابلة : لا يجوز . ويجوز عند الحنابلة بيع الحيوان المأكول واستثناء رأسه وجلده وأطرافه وسواقطه . وجوّز مالك ذلك في السّفر فقط ، إذ لا ثمن للسّواقط هناك ، وكرهه في الحضر ، ولأنّ المسافر لا يمكنه الانتفاع بالجلد والسّواقط ، والدّليل على جواز استثناء ذلك « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الثّنيا إلاّ أن تعلم » وهذه معلومة .
وروي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة مرّوا براعي غنم فذهب أبو بكر وعامر فاشتريا منه شاةً . وشرطا له سلبها »أي جلدها وأكارعها وبطنها ولا يجوز ذلك عند الحنفيّة والشّافعيّة .
وممّا اختلف الفقهاء فيه من الاستثناء ما اعتبره بعضهم شرطاً صحيحاً ، فأجازه وأجاز البيع ، واعتبره غيرهم شرطاً فاسداً ، فأبطله وأبطل البيع .
ومثال ذلك : من يبيع الدّار ويستثنى سكناها شهراً مثلاً ، فأجاز ذلك المالكيّة والحنابلة ، واستدلّوا بحديث « جابر أنّه باع النّبيّ صلى الله عليه وسلم جملاً ، واشترط ظهره إلى المدينة أي ركوبه » وفي لفظ : قال : « بعته واستثنيت حملانه إلى أهلي » .
وعند الحنفيّة والشّافعيّة : لا يجوز ذلك ، ويبطل الشّرط والبيع ، لأنّه شرط غير ملائم .
بيع الأصول :
37 - الأصول : جمع أصل ، وهو ما ينبني عليه غيره ، والمراد بالأصول هنا ما عبّر عنه النّوويّ ، بقوله في " تحريره " الأصول : الشّجر والأرض وفي شرح منتهى الإرادات : المراد بالأصول هنا : أرض ودور وبساتين .
وقد درج الفقهاء على إفراد فصل بعنوان ( بيع الأصول ) ذاكرين فيه ما يتبع هذه الأصول في البيع وما لا يتبعها . وبيان ذلك كما يأتي .
38 - بيع الأرض : من باع أرضاً دخل فيها الغراس والبناء لاتّصالها بها اتّصال قرار ، وهي من حقوقها ، وهذا في جميع المذاهب إلاّ في قول عند الشّافعيّة أنّه إن أطلق ولم يقل بحقوقها فلا يدخل البناء والشّجر لكنّ المذهب دخوله عند الإطلاق . كما أنّ الشّافعيّة فسّروا الشّجر الّذي يتبع الأرض بالشّجر الرّطب ، أمّا اليابس فلا يدخل ، على ما صرّح به ابن الرّفعة والسّبكيّ تفقّهاً . وقال الإسنويّ لا يدخل جزماً .
كما يدخل في بيع الأرض الحجارة المخلوقة والمثبتة فيها ، لأنّها من أجزائها ، دون المدفونة كالكنز فلا تدخل في البيع ، وتكون للبائع ، لكن قال القرافيّ : لا تدخل المدفونة إلاّ على القول بأنّ من ملك ظاهر الأرض ملك باطنها . وإن كان في الأرض زرع يجزّ مرّةً بعد أخرى فالأصول للمشتري ، والجزّة الظّاهرة عند البيع للبائع .
39 - ومن باع داراً دخل في البيع بناؤها ، وفناؤها وما فيها من شجر مغروس ، وما كان متّصلاً بها لمصلحتها ، كسلالم ، ورفوف مسمّرة ، وأبواب ورحًى منصوبة ، ولا يتناول ما فيها من كنز مدفون ولا ما هو منفصل عنها كحبل ودلو ، ولا ما ينقل كحجر وخشب .
أمّا الغلق المثبّت فيدخل مفتاحه عند الحنفيّة والمالكيّة على ما تقدّم ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ، وفي رواية عند الحنابلة .
40 - ومن باع شجراً تبعه الأغصان والورق وسائر أجزاء الشّجر ، لأنّه من أجزائها خلق لمصلحتها ، أمّا الأرض الّتي هي مكان غرسها فتدخل أيضاً في بيعها عند المالكيّة ، وعند الحنفيّة إن اشتراها للقرار اتّفاقاً . ولا تدخل عند الحنابلة ، وعلى الأصحّ عند الشّافعيّة ، لأنّ الاسم لا يتناولها ولا هي تبع للمبيع .
وإن كان في الشّجر أو النّخل ثمر فالمؤبّر للبائع ، إلاّ أن يشترط ذلك المشتري ، لما روى ابن عمر رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : من باع نخلاً قد أبّرت فثمرتها للبائع ، إلاّ أن يشترط المبتاع » .
أمّا إذا لم تكن مؤبّرةً فهي للمشتري ، لأنّ قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم دلّ على أنّها إذا لم تكن مؤبّرةً فهي للمبتاع ، ولأنّ ثمرة النّخل كالحمل ، لأنّه نماء كامن لظهوره غاية .
وهذا عند الجمهور . وعند الحنفيّة لا تدخل الثّمرة مؤبّرةً أو غير مؤبّرة على الصّحيح إلاّ بالشّرط للحديث المتقدّم . لكن برواية ليس فيها التّأبير .
41 - ومن باع حيواناً تبعه ما جرى العرف بتبعيّته له كاللّجام والمقود والسّرج ، وفرّق الشّافعيّة بين ما هو متّصل بالحيوان كالبرّة ( الحلقة الّتي في أنف الدّابّة ) وكالنّعل المسمّر ، فهذا يدخل في بيع الحيوان تبعاً .
أمّا اللّجام والسّرج والمقود ، فلا يدخل في بيع الحيوان اقتصاراً على مقتضى اللّفظ .
بيع الثّمار :
42 - يجوز باتّفاق الفقهاء بيع الثّمار وحدها منفردةً عن الشّجر ، ولا يجوز بيعها إلاّ بعد بدوّ صلاحها - مع اختلافهم في تفسير بدوّ الصّلاح - هل هو ظهور النّضج والحلاوة ونحو ذلك كما يقول الجمهور ، أو هو أمن العاهة والفساد كما يقول الحنفيّة .
ودليل الجواز مأخوذ من حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه : « نهى عن بيع الثّمرة حتّى يبدو صلاحها » .
قال ابن قدامة : فمفهومه إباحة بيعها بعد بدوّ صلاحها ، وهذا عند من يقول بالمفهوم .
كما أنّ الأصل جواز كلّ بيع استكمل شروطه . ويجوز كذلك بيع الثّمار بعد ظهورها ، وقبل بدوّ الصّلاح بشرط القطع في الحال ، وذلك إذا كان ينتفع به ، وهذا باتّفاق ، إلاّ أنّ المالكيّة زادوا على ذلك شرطين أحدهما : أن يحتاج المتبايعان أو أحدهما للبيع .
والثّاني : أن لا يتمالأ أكثر أهل البلد على الدّخول في هذا البيع .
فإن بيع الثّمر قبل بدوّ الصّلاح بشرط التّبقية أو على الإطلاق دون بيان جذّ ولا تبقية فعند الجمهور- المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة- البيع باطل .
والحكم كذلك عند الحنفيّة إن شرط التّرك ، وإن لم يشترط قطعاً ولا تبقيةً فإنّه يجوز باتّفاق أهل المذهب ، إذا كان ينتفع به . وعلى الصّحيح إن كان لا ينتفع به ، لأنّه مال منتفع به في ثاني الحال ، إن لم يكن منتفعاً به في الحال ، فإن شرط التّرك فسد البيع .
فإن باع الثّمرة مع الأصل جاز بالاتّفاق ، لأنّها تكون تبعاً لأصل .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( ثمار ) .
رابعاً : حضور المبيع وغيابه
أ - حضور المبيع :
43 - من المقرّر أنّ الإشارة إلى المبيع هي أقوى طرق التّعريف والتّعيين ، ولذلك إذا كان المبيع في حضرة المتعاقدين - مجلس العقد - وتمّ تعيينه بالإشارة بحيث عرفه المشتري ورآه ، فإنّ البيع لازم إذا خلا من سبب خاصّ - لا يتّصل برؤية المبيع - من الأسباب الّتي ينشأ بها الخيار للمشتري .
حتّى لو اقترنت الإشارة بالوصف ، وكان الوصف مغايراً لما رآه المشتري ورضي به ، فإنّه ليس له المطالبة بعدئذ بالوصف ، ما دام العقد قد تمّ بعد الرّؤية والرّضا .
ويعبّر عن ذلك بالقاعدة الفقهيّة التّالية " الوصف في الحاضر لغو ، وفي الغائب معتبر " . وهذا بخلاف التّغاير بين اسم المبيع والإشارة إليه ، كقوله : بعتك هذه الفرس ، وأشار إلى ناقة مثلاً ، فالتّسمية هي المعتبرة ، لأنّ الاسم يحدّد به جنس المبيع ، فهذا غلط في الجنس لا في الوصف ، والغلط في الجنس غير مغتفر ، لأنّه يكون به المبيع معدوماً .
وقد صرّح القرافيّ : بأنّه إن لم يذكر الجنس في البيع ، بأن قال : بعتك ثوباً امتنع إجماعاً . وهذا إذا كان الوصف ممّا يدركه المشتري ، أمّا لو كان ممّا يخفى عليه ، أو يحتاج إلى اختبار ، كالوصف للبقرة بأنّها حلوب ، ثمّ تبيّن للمشتري أنّها ليست كذلك ، فإنّ فوات الوصف هنا مؤثّر ، إن كان قد اشترط في العقد ، ولو كان المبيع حاضراً مشاراً إليه . لأنّ الوصف هنا معتبر من البائع ، ويترتّب على فواته خيار للمشتري يسمّى : خيار فوات الوصف . ويستوي في استحقاق الخيار بفوات الوصف أن يكون المبيع حاضراً أو غائباً . وتفصيل ذلك في ( خيار الوصف ) .
ب - غياب المبيع :
44 - إذا كان المبيع غائباً ، فإمّا أن يشتري بالوصف الكاشف له ، على النّحو المبيّن في عقد السّلم ، وإمّا أن يشتري دون وصف ، بل يحدّد بالإشارة إلى مكانه أو إضافته إلى ما يتميّز به . فإن كان البيع بالوصف ، وهو هنا غير الوصف المرغوب السّابق ، فإذا تبيّنت المطابقة بين المبيع بعد مشاهدته وبين الوصف لزم البيع ، وإلاّ كان للمشتري خيار الخلف عند جمهور الفقهاء .
أمّا الحنفيّة فإنّهم يثبتون للمشتري هنا خيار الرّؤية ، بقطع النّظر عن سبق وصفه أو عدمه ، وتفصيله في " خيار الوصف ، وخيار الرّؤية " . لكن إن تمّ الشّراء على أساس النّموذج ، ولم يختلف المبيع عنه ، فليس للمشتري خيار رؤية .
وبيع الغائب مع الوصف صحيح عند الجمهور في الجملة- الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة- فقد أجازه الحنفيّة ولو لم يسبق وصفه . وفي قول للشّافعيّة لا بدّ من الوصف لأنّ للمشتري هنا خيار الرّؤية على كلّ حال ، سواء مع الوصف والمطابقة ، أو المخالفة ، ومع عدم الوصف . وهو خيار حكميّ لا يحتاج إلى اشتراط . وأجازه الحنابلة مع الوصف على الوجه المطلوب لصحّة السّلم ، وقصروا الخيار على حال عدم المطابقة . وأجازه المالكيّة بثلاثة شروط :
أ - ألاّ يكون قريباً جدّاً بحيث تمكن رؤيته بغير مشقّة ، لأنّ بيعه غائباً في هذه الحال عدول عن اليقين إلى توقّع الضّرر فلا يجوز .
ب - ألاّ يكون بعيداً جدّاً ، لتوقّع تغيّره قبل التّسليم ، أو لاحتمال تعذّر تسليمه .
ج - أن يصفه البائع بصفاته الّتي تتعلّق الأغراض بها وهي صفات السّلم .
والأظهر في مذهب الشّافعيّة : أنّه لا يصحّ بيع الغائب ، وهو : ما لم يره المتعاقدان أو أحدهما ، وإن كان حاضراً ، للنّهي عن بيع الغرر .
أمّا البيع على البرنامج ، وهو الدّفتر المبيّنة فيه الأوصاف ، أو على الأنموذج بأن يريه صاعاً ويبيعه الصّبرة على أنّها مثله فقد أجازه الحنفيّة ، وهو قول للحنابلة صوّبه المرداويّ - لما سبق - والمالكيّة ، والأصحّ للحنابلة منعه ، وأجازه الشّافعيّة فيما لو قال مثلاً : بعتك الحنطة الّتي في هذا البيت ، وهذا أنموذجها ، ويدخل الأنموذج في البيع .
وللمالكيّة تفصيل فيما إذا ظهر أنّ ما في العدل المبيع على البرنامج أقلّ أو أكثر ، وتفصيله في ( ظهور المبيع زائداً أو ناقصاً ) .
خامساً ظهور النقصان أو الزيادة في المبيع :
45 - يختلف الحكم في المبيع إذا ظهر فيه نقصان أو زيادة بين أن يكون البيع على أساس المقدار ، وبين أن يكون من قبيل بيع الجزاف ( أو المجازفة ) وهو ما يسمى أيضاً ( بيع الصُبْرة ) ومنه بعض صور البيع على البرنامج أو الأنموذج ، حيث يظهر القدر مخالفاً لما كتب في البرنامج .
أ- بيع الجزاف :
46 - إذا كان البيع جزافاً فلا أثر لظهور النقص أو الزيادة عما توقعه المشتري أو البائع .
وتفصيل ذلك في ( بيع الجزاف )
ب - بيع المقدّرات :
47 - إذا ظهر نقص أو زيادة فيما بيع مقدراً بكيل أو وزن او ذرع أو عد ، فيننظر في المبيع ، هل هو مما يضره التبعيض أو لا يضره ؟ كما ينظر في أساس الثمن الذي تم عليه البيع هل هو مجمل أو مفصل على أجزاء ؟
فإذا كان المبيع مما لا يضره التبعيض ( كالمكيلات بأنواعها ، وكذلك بعض الموزونات كالقمح ، والمذروعات كالقماش الذي يباع بالذراع ، دون نضر إلى ما يكفي للثوب الواحد ، وكذلك المعدودات المتقاربة ). فإن الزيادة في المبيع هي للبائع ، والنقص على حسابه ، ولا حاجة في هذه الحال للنظر إلى تفصيل الثمن أو إجماله .
وإذا كان الثمن مفصلاً ، كما لو قال : كل ذراع بدرهم ، فالزيادة للبائع والنقص عليه ، ولا حاجة للنظر إلى كونه يضره التبعيض أو لا .
أما إذا كان الثمن غير مفصل ، والمبيع مما يضره التبعيض ، فإن الزيادة للمشتري والنقص عليه ، ولا يقابله شيء من الثمن ، لكن يثبت للمشتري الخيار في حال النقص ، وهو خيار تفرق الصفقة .
وذلك لأن ما لا يضره التبعيض يعتبر التقدير فيه كالجزء ، وما يضره التبعيض يعتبر التقدير فيه كالوصف . والوصف لا يقابله شيء من الثمن بل يثبت به الخيار .
هذا ما ذهب إليه الحنفية .
وذهب الشافعية في الصحيح ، وهو رواية عند الحنابلة إلى : أنه إذا ظهر في المبيع المقدر زيادة أو نقصان فالبيع باطل ، لأنه لا يمكن إجبار البائع على تسليم الزيادة ، ولا المشتري علىأخذ البعض ، وهناك ضرر في الشركة بين البائع والمشتري بالنسبة لما زاد .
وللمالكية تفصيل بين كون النقص قليلاً أو كثيراً . فإن كان قليلاً لزم المشتري الباقي بما ينوبه من الثمن ، وإن كان كثيراً كان مخيراً في الباقي بين أخذه بما ينوبه ، أو رده .
وقيل : إن ذلك بمنزلة الصفة للمبيع ، فإن وجده أكثر فهو للمشتري ، وإن وجده أقل كان المشتري بالخيار بين أخذه بجميع الثمن أو رده .
ومقابل الصحيح عند الشافعية في ظهور الزيادة أو النقصان : صحة البيع للإشارة تغليباً . ثم للشافعية تفصيل ، وهو أنه إن قابل البائع الجملة بالجملة ، كقوله : بعتك الصبرة بمائة على أنها مائة ، ففي حال الزيادة أو النقصان يصح البيع ، ويثبت الخيار لمن عليه الضرر .
أما إن قابل الأجزاء بالأجزاء كقوله : بعتك الصبرة كل صاع بدرهم على أنها مائة صاع ، فإذا ظهرت زيادة أو نقصان فالبيع صحيح عند الأسنوي ، وفرق الماوردي بين النقصان فيكون البيع صحيحاً ، وبين الزيادة ففيه الخلاف السابق ، وهو بطلان البيع على الصحيح ، أو صحته على ما يقابله .
وذكر ابن قدامة في المغني أنه إذا قال : بعتك هذه الأرض أو هذا الثوب على أنه عشرة أذرع ، فبانَ أحد عشر ، ففيه روايتان :
إحداهما : البيع الباطل ، لأنه لا يمكن إجبار البائع على تسليم الزيادة وإنما باع عشرة ، ولا المشتري على أخذ البعض ، وإنما اشترى الكل وعليه ضرر في الشركة أيضاً .
والثانية : البيع صحيح والزيادة للبائع ، لأن ذلك نقص على المشتري ، فلا يمنع صحة البيع كالعيب ، ثم يخير البائع بين تسليم المبيع زائداً ، وبين تسليم العشرة ، فإن رضي بتسليم الجميع فلا خيار للمشتري ، لأنه زاده خيراً ، وإن أبى تسليمه زائداً فللمشتري الخيار بين الفسخ ، والأخذ بجميع الثمن المسمى وقسط الزائد ، فإن رضي بالأخذ أخذ العشرة ، والبائع شريك له بالذراع . وهل للبائع خيار الفسخ ؟ وجهان .
أحدهما : له الفسخ لأن عليه ضرراً في المشاركة .
والثاني : لا خيار له ، وقواه ابن قدامة ، وإن بانَ المبيع تسعة ففيه روايتان :
إحداهما : يبطل البيع كما تقدم .
والثانية : البيع صحيح ، والمشتري بالخيار بين الفسخ والإمساك بتسعة أعشار الثمن .
وإن اشترى صبرة على أنها عشرة أقفزة ، فبانت أحد عشر ، رد الزائد ولا خيار له هاهنا ، لأنه ضرر في الزيادة . وإن بانت تسعة أخذها بقسطها من الثمن .
ومتى سمى الكيل في الصبرة لا يكون قبضها إلا بالكيل ، فإن وجدها زائدة رد الزيادة ، وإن كانت ناقصة أخذها بقسطها من الثمن .
وهل له الفسخ في حالة النقصان ؟ على وجهين . أحدهما : له الخيار . والثاني : لاخيار له.
الثّمن وأحكامه وأحواله
أوّلاً : تعريف الثّمن :
48 - الثّمن هو ما يبذله المشتري من عوض للحصول على المبيع ، والثّمن أحد جزأي المعقود عليه - وهو الثّمن والمثمّن - وهما من مقوّمات عقد البيع ، ولذا ذهب الجمهور إلى أنّ هلاك الثّمن المعيّن قبل القبض ينفسخ به البيع في الجملة .
ويرى الحنفيّة أنّ المقصود الأصليّ من البيع هو المبيع ، لأنّ الانتفاع إنّما يكون بالأعيان ، والأثمان وسيلة للمبادلة ، ولذا اعتبروا التّقوّم في الثّمن شرط صحّة ، وهو في المبيع شرط انعقاد ، وهي تفرقة خاصّة بهم دون الجمهور ، فإن كان الثّمن غير متقوّم لم يبطل البيع عندهم ، بل ينعقد فاسداً ، فإذا أزيل سبب الفساد صحّ البيع .
كما أنّ هلاك الثّمن قبل القبض لا يبطل به البيع ، بل يستحقّ البائع بدله .
أمّا هلاك المبيع فإنّه يبطل به البيع . والثّمن غير القيمة ، لأنّ القيمة هي : ما يساويه الشّيء في تقويم المقوّمين ( أهل الخبرة ) ، أمّا الثّمن فهو كلّ ما يتراضى عليه المتعاقدان ، سواء أكان أكثر من القيمة ، أم أقلّ منها ، أم مثلها .
فالقيمة هي الثّمن الحقيقيّ للشّيء . أمّا الثّمن المتراضى عليه فهو الثّمن المسمّى .
والسّعر هو : الثّمن المقدّر للسّلعة . والتّسعير : تحديد أسعار بيع السّلع .
وقد يكون التّسعير من السّلطان ، ثمّ يمنع النّاس من البيع بزيادة عليها أو أقلّ منها .
حكم التّسعير :
49 - اختلف الفقهاء في التّسعير ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ لوليّ الأمر ذلك ، إذا كان الباعة يتعدّون القيمة ، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلاّ بالتّسعير بمشورة أهل الرّأي والبصر ، وذلك لفعل عمر رضي الله عنه حين مرّ بحاطب في السّوق فقال له :" إمّا أن ترفع السّعر وإمّا أن تدخل بيتك فتبيع كيف شئت ".
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى تحريم التّسعير ، وكراهة الشّراء به ، وحرمة البيع وبطلانه إذا كان بالإكراه . وذلك لحديث « إنّ اللّه هو المسعّر القابض الباسط الرّازق ، وإنّي لأرجو أن ألقى اللّه وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال » .
وتفصيل ذلك في مصطلح ( تسعير ) .
ثانياً : ما يصلح ثمناً وما لا يصلح :
50 - كلّ ما صلح أن يكون مبيعاً صلح أن يكون ثمناً ، والعكس صحيح أيضاً ، هذا ما يفهم من اتّجاه الجمهور .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا عكس ، فما صلح أن يكون ثمناً قد لا يصلح أن يكون مبيعاً .
والثّمن إمّا أن يكون ممّا يثبت في الذّمّة ، وذلك كالنّقود والمثليّات من مكيل أو موزون أو مذروع أو عدديّ متقارب . وإمّا أن يكون من الأعيان القيميّة كما في بيع السّلم ، إذا كان رأس المال عيناً من القيميّات ، وكما في بيع المقايضة .
والذّهب والفضّة أثمان بالخلقة ، سواء كانا مضروبين نقوداً أو غير مضروبين .
وكذلك الفلوس أثمان ، والأثمان لا تتعيّن بالتّعيين عند الحنفيّة والمالكيّة ( واستثنى المالكيّة الصّرف والكراء ) فلو قال المشتري : اشتريت السّلعة بهذا الدّينار ، وأشار إليه ، فإنّ له بعد ذلك أن يدفع سواه ، لأنّ النّقود من المثليّات ، وهي تثبت في الذّمّة ، والّذي يثبت في الذّمّة يحصل الوفاء به بأيّ فرد مماثل ولا يقبل التّعيين .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّها تتعيّن بالتّعيين . أمّا إذا كان الثّمن قيميّاً فإنّه يتعيّن ، لأنّ القيميّات لا تثبت في الذّمّة ، ولا يحلّ فرد منها محلّ آخر إلاّ بالتّراضي .
ثالثاً : تعيين الثّمن وتمييزه عن المبيع :
51 - لتمييز الثّمن عن المبيع صرّح الحنفيّة بالضّابط التّالي ، وهو متّفق مع عبارات المالكيّة والشّافعيّة :
أ - إذا كان أحد العوضين نقوداً اعتبرت هي الثّمن ، وما عداها هو المبيع مهما كان نوعه . ولا ينظر إلى الصّيغة ، حتّى لو قال : بعتك ديناراً بهذه السّلعة ، فإنّ الدّينار هو الثّمن رغم دخول الباء على ( السّلعة ) وهي تدخل عادةً على الثّمن .
ب - إذا كان أحد العوضين أعياناً قيميّةً ، والآخر أموالاً مثليّةً معيّنةً أي مشاراً إليها ، فالقيميّ هو المبيع ، والمثليّ هو الثّمن ، ولا عبرة أيضاً بما إذا كانت الصّيغة تقتضي غير هذا . أمّا إذا كانت الأموال المثليّة غير معيّنة - أي ملتزمة في الذّمّة - فالثّمن هو العوض المقترن بالباء ، كما لو قال : بعتك هذه السّلعة برطل من الأرز ، فالأرز هو الثّمن لدخول الباء عليه . ولو قال : بعتك رطلاً من الأرز بهذه السّلعة ، فالسّلعة هي الثّمن ، وهو من بيع السّلم لأنّه بيع موصوف في الذّمّة مؤجّل بثمن معجّل .
ج - إذا كان كلّ من العوضين مالاً مثليّاً ، فالثّمن هو ما اقترن بالباء كما لو قال : بعتك أرزاً بقمح ، فالقمح هو الثّمن .
د - إذا كان كلّ من العوضين من الأعيان القيميّة فإنّ كلاً منهما ثمن من وجه ومبيع من وجه . وهذا التّفصيل للحنفيّة .
أمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فإنّ الثّمن : هو ، ما دخلت عليه الباء .
وأمّا المالكيّة فقد نصّوا على أنّه لا مانع من كون النّقود مبيعةً ، لأنّ كلاً من العوضين مبيع بالآخر ، وفي البهجة : كلّ من العوضين ثمن للآخر .
ومن أحكام الثّمن عدا ما سبقت الإشارة إليه :
أ - إذا تنازع المتعاقدان فيمن يسلّم أوّلاً ، فإنّه يجب تسليم الثّمن أوّلاً قبل تسليم المبيع .
ب - كلفة تسليم الثّمن على المشتري ، وكلفة تسليم المبيع على البائع .
ج - اشتراط القبض لجواز التّصرّف في العوض خاصّ بالمبيع لا بالثّمن ، على تفصيل يعرف في " بيع منهيّ عنه ، بيع المبيع قبل قبضه " .
د - تأجيل الثّمن - رأس المال - في بيع السّلم لا يجوز ، بخلاف المبيع فهو مؤجّل بمقتضى العقد . وهذا في الجملة . وتفصيله في مصطلح ( ثمن ) .
رابعاً : إبهام الثّمن :
52 - إذا بيّن ثمناً وأطلق ، فلم يبيّن نوعه ، كما لو قال : بكذا ديناراً ، وفي بلد العقد أنواع من الدّنانير مختلفة في القيمة متساوية في الرّواج ، فالعقد فاسد لجهالة مقدار الثّمن . أمّا إذا كان بعضها أروج ، فالعقد صحيح ، وينصرف إلى الأروج ، كما لو قال في الكويت : بعتك بدينار فالعقد صحيح ، والثّمن دنانير كويتيّة ، لأنّها أروج من غيرها من الدّنانير الموجودة في محلّ العقد . هذا وتفصيل أحكام الثّمن تنظر في ( ثمن ) .
خامساً : تحديد الثّمن بالنّظر إلى رأس المال :
53 - تحديد الثّمن إمّا أن يعلم بالمشاهدة والإشارة ، وهي أبلغ طرق التّعريف ، سواء بيّن المقدار أم لم يبيّن . كما لو باع سلعةً بصرّة من الدّنانير ، وأشار إليها .
وإمّا أن يكون الثّمن غائباً عن مجلس العقد ، وحينئذ لا بدّ من بيان نوعه ووصفه وقدره . ثمّ إنّ الثّمن إمّا أن لا يبنى على ثمن الشّراء ( رأس مال البائع ) أو يبنى على ذلك بلا ربح ولا خسارة ، أو بربح معلوم ، أو بخسارة معلومة .
فالأوّل ، وهو ما لا ينظر فيه إلى ثمن الشّراء ، هو : بيع المساومة ، وهو الأغلب في البيوع . أمّا النّوع الآخر فهو بيع الأمانة . وينقسم إلى : تولية ، وهو البيع بمثل الثّمن الأوّل .
وإذا كان لبعض المبيع بنسبته من الثّمن الأوّل فهو إشراك . وإن كان بربح فهو مرابحة .
أو بخسارة فهو وضيعة . وتفصيل هذه البيوع في مصطلحاتها .
أحكام مشتركة بين المبيع والثّمن :
أوّلاً : الزّيادة في البيع أو الثّمن .
54 - يجوز للمشتري أن يزيد في الثّمن بعد العقد ، وكذلك يجوز للبائع أن يزيد في المبيع . على أن يقترن ذلك بقبول الطّرف الآخر في مجلس الزّيادة .
ويشترط أن يكون المبيع قائماً ، إذا كانت الزّيادة في الثّمن ، لأنّه إذا كان هالكاً قوبلت الزّيادة بمعدوم ، وإذا كان في حكم الهالك - وهو ما أخرجه عن ملكه - قوبلت الزّيادة بما هو في حكم المعدوم . ولا فرق فيما لو كانت الزّيادة بعد التّقابض أو قبله ، أو كانت من جنس المبيع أو الثّمن أو من غير جنسه .
وحكم الزّيادة أنّها تعديل للعقد السّابق وليست هبةً ، ولذا لا تحتاج إلى القبض المشروط لتمام الهبة ، وهذا في الجملة . هذا مذهب الحنفيّة .
أمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فإنّ الزّيادة بعد لزوم البيع بانقضاء خيار المجلس وخيار الشّرط لا تلحق ، بل هي في حكم الهبة . وسيأتي تفصيل ذلك .
ثانياً : الحطّ من المبيع أو الثّمن :
55 - يجوز للمشتري الحطّ من المبيع ، ويجوز للبائع الحطّ من الثّمن ، إذا قبل الطّرف الآخر في مجلس الحطّ ، ويستوي أن يكون الحطّ بعد التّقابض أو قبله ، فلو حطّ المشتري أو البائع بعد القبض كان للآخر حقّ الاسترداد للمحطوط .
ولا يشترط لجواز حطّ البائع من الثّمن أن يكون المبيع قائماً ، لأنّ الحطّ إسقاط ، ولا يلزم أن يكون في مقابلة شيء . أمّا في حطّ المشتري بعض المبيع عن البائع ، فيشترط أن يكون المبيع ديناً ثابتاً في الذّمّة ليقبل الحطّ . أمّا لو كان عيناً معيّنةً فإنّه لا يصحّ الحطّ من المبيع حينئذ ، لأنّ الأعيان لا تقبل الإسقاط ( ر : إبراء ، وإسقاط ) .
ثالثاً : آثار الزّيادة أو الحطّ :
56 - من المقرّر عند فقهاء الحنفيّة أنّ الزّيادة والحطّ يلتحقان بأصل العقد السّابق بطريق الاستناد ، ما لم يمنع من ذلك مانع . بمعنى أنّه تثبت للزّيادة في المبيع حصّة من الثّمن ، كما لو كان الثّمن مقسّماً على الأصل والزّيادة ، وكذلك عكسه إذا كانت الزّيادة في الثّمن . ومن آثار ذلك :
أ - إذا تلف المبيع قبل القبض وبقيت الزّيادة ، أو هلكت الزّيادة وبقي المبيع ، سقطت حصّة الهالك من الثّمن . وهذا بخلاف الزّيادة النّاشئة من المبيع نفسه .
ب - للبائع حبس جميع المبيع حتّى يقبض الثّمن الأصليّ والزّيادة عليه .
ج - إمكان البيع بالأمانة من مرابحة أو تولية أو وضيعة ، فإنّ العبرة بالثّمن بعد الزّيادة أو الحطّ .
د - إذا استحقّ المبيع ، وقضي به للمستحقّ ؟ ، رجع المشتري على البائع بالثّمن كلّه من أصل وزيادة . وكذلك في الرّجوع بالعيب .
هـ - في الأخذ بالشّفعة ، يأخذ الشّفيع العقار بما استقرّ عليه الثّمن بعد الحطّ .
ولو زاد البائع شيئاً في المبيع يأخذ الشّفيع أصل العقار بحصّته من الثّمن لا بالثّمن كلّه . وهذا بالاتّفاق في الجملة على ما سيأتي .
وعند المالكيّة : الزّيادة والحطّ يلحقان بالبيع ، سواء أحدث ذلك عند التّقابض أم بعده . والزّيادة في الثّمن تكون في حكم الثّمن الأوّل ، فتردّ عند الاستحقاق ، وعند الرّدّ بالعيب ، وما أشبه ذلك . ويجوز حطّ كلّ الثّمن عن المشتري ، أي هبته له ، وللحطّ أثره في بيع المرابحة وفي الشّفعة . ففي بيع المرابحة ، يقول الدّردير والدّسوقيّ : يجب بيان هبة لبعض الثّمن إن كانت معتادةً بين النّاس ، بأن تشبه عطيّة النّاس ، فإن لم تعتد ( أي لم تجر بها عادة ) أو وهب له جميع الثّمن قبل النّقد أو بعده لم يجب البيان .
وفي الشّفعة ، يقول الشّيخ عليش : من اشترى شقصاً بألف درهم ، ثمّ وضع عنه البائع تسعمائة درهم بعد أخذ الشّفيع أو قبله ، فإن أشبه أن يكون ثمن الشّقص بين النّاس مائة درهم إذا تغابنوا بينهم ، أو اشتروا بغير تغابن ، وضع ذلك عن الشّفيع ، لأنّ ما أظهرا من الثّمن الأوّل إنّما كان سبباً لقلع الشّفعة .
وإن لم يشبه أن يكون ثمنه مائةً ، قال ابن يونس : أراد مثل أن يكون ثمنه ثلاثمائة أو أربعمائة ، لم يحطّ للشّفيع شيئاً ، وكانت الوضيعة هبةً للمبتاع ، وقال في موضع آخر : إن حطّ عن المبتاع ما يشبه أن يحطّ في البيوع وضع ذلك عن الشّفيع وإن كان لا يحطّ مثله فهي هبة ، ولا يحطّ عن الشّفيع شيئاً .
وأمّا الشّافعيّة فقد قالوا : إنّ الزّيادة أو الحطّ في الثّمن أو المثمّن ، إن كانت بعد لزوم العقد بانقضاء الخيار فلا تلحق به ، لأنّ البيع استقرّ بالثّمن الأوّل ، والزّيادة أو الحطّ بعد ذلك تبرّع ، ولا تلحق بالعقد .
وإن كان ذلك قبل لزوم العقد في مدّة خيار المجلس أو خيار الشّرط ، فالصّحيح عند جمهور الشّافعيّة ، وبه قطع أكثر العراقيّين : أنّه يلحق بالعقد في مدّة الخيارين جميعاً ، وهو ظاهر نصّ الشّافعيّ ، لأنّ الزّيادة أو الحطّ في مدّة خيار المجلس تلتحق بالعقد ، وقيس بخيار المجلس خيار الشّرط بجامع عدم الاستقرار . وهذا أحد الأوجه الّتي ذكرها النّوويّ .
وفي وجه آخر : لا يلحق ذلك ، وصحّحه المتولّي .
وفي وجه ثالث : يلحق في خيار المجلس دون خيار الشّرط ، قاله الشّيخ أبو زيد والقفّال . أمّا أثر ذلك في العقود . ففي الشّفعة تلحق الزّيادة الشّفيع كما تلزم المشتري ، ولو حطّ من الثّمن شيء فحكمه كذلك . وينظر التّفصيل في ( شفعة ) .
وفي التّولية والإشراك والمرابحة . جاء في نهاية المحتاج : لو حطّ عن المولّي - بكسر اللّام المشدّدة - من البائع بعض الثّمن بعد التّولية أو قبلها ، ولو بعد اللّزوم ، انحطّ عن المولى - بفتح اللّام - إذ خاصّة التّولية - وإن كانت بيعاً جديداً - التّنزيل على الثّمن الأوّل ، فإن حطّ جميعه انحطّ أيضاً ما لم يكن قبل لزوم التّولية ، وإلاّ - بأن كان قبل التّولية أو بعدها وقبل لزومها - بطلت لأنّها حيث بيع من غير ثمن ، ومن ثمّ لو تقايلا بعد حطّه بعد اللّزوم ، لم يرجع المشتري على البائع بشيء .
والإشراك والمرابحة كالتّولية في ذلك . وينظر التّفصيل في ( مرابحة ، تولية ، إشراك ) . وفي الرّدّ بالعيب جاء في نهاية المحتاج : لو أبرأ البائع المشتري من بعض الثّمن أو كلّه ، ثمّ ردّ المبيع بعيب ، فالأوجه أنّه لا يرجع في الإبراء من جميع الثّمن بشيء ، وفي الإبراء من بعضه إلاّ بالباقي . ولو وهب البائع للمشتري الثّمن ، فقيل : يمتنع الرّدّ ، وقيل : يردّ ، ويطالب ببدل الثّمن ، وهو الأوجه .
والحنابلة كالشّافعيّة في ذلك ، فقد جاء في شرح منتهى الإرادات : ما يزاد في ثمن أو مثمّن زمن الخيارين ( خيار المجلس وخيار الشّرط ) يلحق بالعقد ، فيخبر به في المرابحة والتّولية والإشراك كأصله . وما يوضع من ثمن أو مثمّن زمن الخيارين يلحق بالعقد ، فيجب أن يخبر به كأصله ، تنزيلاً لحال الخيار منزلة حال العقد . وإن حطّ الثّمن كلّه فهبة .
ولا يلحق بالعقد ما زيد أو حطّ بعد لزومه فلا يجب أن يخبر به .
وفي الرّدّ بالعيب جاء في شرح منتهى الإرادات : يأخذ مشتر ردّ المبيع ما دفعه من ثمن ، أو بدل ما أبرأه البائع منه ، أو بدل ما وهب له البائع من ثمنه ، كلاً كان أو بعضاً ، لاستحقاق المشتري بالفسخ استرجاع جميع الثّمن . وقال ابن قدامة في الشّفعة : يستحقّ الشّفيع الشّقص بالثّمن الّذي استقرّ عليه العقد ، فلو تبايعا بقدر ، ثمّ غيّراه في زمن الخيار بزيادة أو نقص ، ثبت ذلك التّغيير في حقّ الشّفيع ، لأنّ حقّ الشّفيع إنّما يثبت إذا تمّ العقد ، وإنّما يستحقّ بالثّمن الّذي هو ثابت حال استحقاقه ، ولأنّ زمن الخيار بمنزلة حالة العقد ، والتّغيير يلحق بالعقد فيه ، لأنّهما على اختيارهما فيه كما لو كان التّغيير في حال العقد . فأمّا إذا انقضى الخيار وانبرم العقد ، فزادا أو نقصا لم يلحق بالعقد ، لأنّ الزّيادة بعده هبة .
رابعاً : موانع التحاق الزّيادة أو الحطّ في حقّ الغير :
57 - يمتنع التحاق الزّيادة بالثّمن ، أو التحاق الحطّ به بأحد أمرين :
أحدهما - إذا ترتّب على التحاق الزّيادة أو الحطّ بالثّمن انتقاص من حقّ الغير ثابت بالعقد ، فيقتصر حكم الالتحاق على المتعاقدين دون الغير سدّاً لذريعة الإضرار به .
ومن آثار هذا المانع : أنّ المشتري إذا زاد في الثّمن ، وكان المبيع عقاراً ، فإنّ الشّفيع يأخذه بالثّمن الأصليّ دون الزّيادة ، سدّاً لباب التّواطؤ لتضييع حقّ الشّفعة .
أمّا الحطّ من الثّمن فيلتحق لعدم إضراره بالشّفيع ، وكذلك الزّيادة في المبيع .
الثّاني : إذا ترتّب على الالتحاق بطلان البيع ، كما لو شمل الحطّ جميع الثّمن ، لأنّه بمنزلة الإبراء المنفصل عن العقد ، وبذلك يخلو عقد البيع من الثّمن ، فيبطل .
ومن آثار هذا المانع : أنّه لو حطّ البائع كلّ الثّمن في العقار ، فإنّ الشّفيع يأخذه بجميع الثّمن الأصليّ ، لأنّ الحطّ إذا اعتبر إبراءً منفصلاً ترتّب عليه خلوّ البيع عن الثّمن ، ثمّ بطلانه ، وبذلك يبطل حقّ الشّفيع ، ولذا يبقى المبيع مقابلاً بجميع الثّمن في حقّه ، ولكن يسقط الثّمن عن المشتري بالحطّ ، ضرورة صحّة الإبراء في ذاته ، وهذا إن حطّ الثّمن بعد القبض ، أمّا إن حطّ قبله فيأخذه الشّفيع بالقيمة .
خامساً : مئونة تسليم المبيع أو الثّمن :
58 - اتّفق الفقهاء على أنّ أجرة الكيّال للمبيع ، أو الوزّان أو الذّراع أو العدّاد تكون على البائع وكذلك مئونة إحضاره إلى محلّ العقد إذا كان غائباً . إذ لا تحصل التّوفية إلاّ بذلك . واتّفقوا على أنّ أجرة كيل الثّمن أو وزنه أو عدّه ، وكذلك مئونة إحضار الثّمن الغائب تكون على المشتري ، إلاّ في الإقالة والتّولية والشّركة عند المالكيّة .
ولكنّهم اختلفوا في أجرة نقّاد الثّمن .
فعند الحنفيّة روايتان عن محمّد رحمه الله . ففي رواية رستم عنه : تكون على البائع ، لأنّ النّقد يكون بعد التّسليم ، ولأنّ البائع هو المحتاج إليه ، ليميّز ما تعلّق به حقّه من غيره ، أو ليعرف المعيب ليردّه . وبهذا قال الشّافعيّة . وفي الرّواية الأخرى عن محمّد ، وهي رواية ابن سماعة عنه : أنّها تكون على المشتري ، لأنّه يحتاج إلى تسليم الجيّد المقدّر ، والجودة تعرف بالنّقد ، كما يعرف القدر بالوزن ، فيكون عليه . وهذا ما ذهب إليه المالكيّة .
وقال الحنابلة : إنّ أجرة النّقّاد على الباذل ، سواء أكان البائع أم المشتري .
قال الشّربينيّ من الشّافعيّة : وأجرة نقّاد الثّمن على البائع ، ثمّ قال : وقياسه أن يكون في المبيع على المشتري ، لأنّ القصد منه إظهار عيب إن كان ليردّ به .
سادساً : هلاك المبيع أو الثّمن المعيّن كلّيّاً أو جزئيّاً قبل التّسليم :
59 - من آثار وجوب البيع : أنّ البائع يلزمه تسليم المبيع إلى المشتري ، ولا يسقط عنه هذا الحقّ إلاّ بالأداء ، ويظلّ البائع مسئولاً في حالة هلاك المبيع ، وتكون تبعة الهلاك عليه ، سواء كان الهلاك بفعل فاعل أو بآفة سماويّة .
وهذا ينطبق على الثّمن إذا كان معيّناً ، وهو ما لم يكن ملتزماً في الذّمّة ، لأنّ عينه في هذه الحال مقصودة في العقد كالمبيع . أمّا الثّمن الّذي في الذّمّة ، فإنّه يمكن البائع أخذ بدله . والهلاك إمّا أن يكون كلّيّاً أو جزئيّاً : فإذا هلك المبيع كلّه قبل التّسليم بآفة سماويّة ، فإنّه يهلك على ضمان البائع ، لحديث : « نهى عن ربح ما لم يضمن » .
ويترتّب على ذلك أنّ البيع ينفسخ ويسقط الثّمن ، وذلك لاستحالة تنفيذ العقد .
وهذا عند الحنفيّة . وكذلك الحكم عند الحنفيّة إن تلف بفعل البائع .
وللشّافعيّة قولان : المذهب أنّه : ينفسخ كالتّلف بآفة سماويّة ، والقول الآخر : يتخيّر المشتري بين الفسخ واسترداد الثّمن ، وبين إمضاء البيع وأخذ قيمة المبيع .
وفائدة انفساخ البيع هنا أنّه يسقط الثّمن عن المشتري إن لم يكن دفعه ، وله استرداده إن كان قد دفعه ، ولو لم ينفسخ لالتزم المشتري بالثّمن ، والتزم البائع بقيمة المبيع بالغةً ما بلغت . واعتبر الحنابلة الهلاك بفعل البائع كالهلاك بفعل الأجنبيّ ، وسيأتي تفصيله .
وإذا هلك المبيع بفعل المشتري ، فإنّ البيع يستقرّ ، ويلتزم المشتري بالثّمن ، ويعتبر إتلاف المشتري للمبيع بمنزلة قبض له ، وهذا بالاتّفاق .
وإذا كان الهلاك بفعل أجنبيّ ( ومثله هلاكه بفعل البائع عند الحنابلة ) فإنّ المشتري مخيّر ، فإمّا أن يفسخ البيع لتعذّر التّسليم ، ويسقط عنه الثّمن حينئذ ، ( وللبائع الرّجوع على من أتلف المبيع ) وإمّا أن يتمسّك بالبيع ، ويرجع على الأجنبيّ ، وعليه أداء الثّمن للبائع ، ورجوعه على الأجنبيّ بالمثل إن كان الهالك مثليّاً ، وبالقيمة إن كان قيميّاً ، وهذا مذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة . ومقابل الأظهر : انفساخ البيع كالتّلف بآفة . وإذا هلك بعض المبيع ، فيختلف الحكم أيضاً تبعاً لمن صدر منه الإتلاف .
فإن هلك بعض المبيع بآفة سماويّة ، وترتّب على الهلاك نقصان المقدار ، فإنّه يسقط من الثّمن بحسب القدر التّالف ، ويخيّر المشتري بين أخذ الباقي بحصّته من الثّمن ، أو فسخ البيع لتفرّق الصّفقة ( ينظر خيار تفرّق الصّفقة ) هذا عند الحنفيّة والحنابلة .
ثمّ قال الحنفيّة : إن كان ما نشأ عن الهلاك الجزئيّ ليس نقصاً في المقدار ، بل في الوصف - وهو ما يدخل في المبيع تبعاً بلا ذكر - لم يسقط من الثّمن شيء ، بل للمشتري الخيار بين فسخ البيع أو إمضائه ، لأنّ الأوصاف لا يقابلها شيء من الثّمن إلاّ بالعدوان ، أو بتفصيل الثّمن ، وتخصيص جزء للوصف أو التّابع .
وإذا هلك البعض بفعل البائع سقط ما يقابله من الثّمن مطلقاً ، مع تخيير المشتري بين الأخذ والفسخ ، لتفرّق الصّفقة .
وإذا هلك البعض بفعل أجنبيّ ، كان للمشتري الخيار بين الفسخ وبين التّمسّك بالعقد والرّجوع على الأجنبيّ بضمان الجزء التّالف .
أمّا إن هلك بفعل المشتري نفسه ، فإنّه على ضمانه ، ويعتبر ذلك قبضاً .
أمّا المالكيّة فقد اعتبروا هلاك المبيع بفعل البائع أو بفعل الأجنبيّ يوجب عوض المتلف على البائع أو الأجنبيّ ، ولا خيار للمشتري ، سواء أكان الهلاك كلّيّاً أم جزئيّاً .
أمّا هلاكه أو تعيّبه بآفة سماويّة فهو من ضمان المشتري ، كلّما كان البيع صحيحاً لازماً ، لأنّ الضّمان ينتقل بالعقد ولو لم يقبض المشتري المبيع . واستثنى المالكيّة ستّ صور هي :
أ - ما لو كان في المبيع حقّ توفية لمشتريه ، وهو المثليّ من مكيل أو موزون أو معدود حتّى يفرغ في أواني المشتري ، فإذا هلك بيد البائع عند تفريغه فهو من ضمان البائع .
ب - السّلعة المحبوسة عند بائعها لأجل قبض الثّمن .
ج - المبيع الغائب على الصّفة أو على رؤية متقدّمة ، فلا يدخل ذلك كلّه في ضمان المشتري إلاّ بالقبض .
د - المبيع بيعاً فاسداً .
هـ - الثّمار المبيعة بعد بدوّ صلاحها ، فلا تدخل في ضمان المشتري إلاّ بعد أمن الجائحة .
و - الرّقيق حتّى تنتهي عهدة الثّلاثة الأيّام عقب البيع . لكنّهم فصلّوا في الهلاك الجزئيّ ، فيما إذا كان الباقي أقلّ من النّصف ، أو كان المبيع متّحداً ، فحينئذ للمشتري الخيار .
أمّا إذا كان الفائت هو النّصف فأكثر ، وتعدّد المبيع ، فإنّه يلزمه الباقي بحصّته من الثّمن .
الآثار المترتّبة على البيع :
أوّلاً : انتقال الملك :
60 - يملك المشتري المبيع ، ويملك البائع الثّمن ، ويكون ملك المشتري للمبيع بمجرّد عقد البيع الصّحيح ، ولا يتوقّف على التّقابض ، وإن كان للتّقابض أثره في الضّمان .
أمّا في عقد البيع الفاسد عند الحنفيّة فلا يملك المشتري المبيع إلاّ بالقبض وتفصيله في مصطلح ( البيع الفاسد ) . ويترتّب على انتقال الملك في البدلين ما يلي :
أ - أن يثبت للمشتري ملك ما يحصل في المبيع من زيادة متولّدة منه ، ولو لم يقبض المبيع . ولا يمنع من انتقال ملكيّة المبيع إلى المشتري كون الثّمن مؤجّلاً .
ب - أن تنفذ تصرّفات المشتري في المبيع ، وتصرّفات البائع في الثّمن ، كما لو أحال شخصاً به على المشتري . هذا بعد القبض ، أمّا تصرّف المشتري قبل القبض فإنّه فاسد أو باطل على خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح ( بيع ما لم يقبض ) .
ج - إذا قبض البائع الثّمن ، ولم يقبض المشتري المبيع ، حتّى لو مات البائع مفلساً ، فإنّ للمشتري حقّ التّقدّم في المبيع على سائر الغرماء .
ويكون المبيع في هذه الحال أمانةً في يد البائع ، ولا يدخل في التّركة .
د - لا يجوز اشتراط بقاء البائع محتفظاً بملكيّة المبيع إلى حين أداء الثّمن المؤجّل ، أو إلى أجل آخر معيّن . هذا ، ولا يمنع من انتقال الملك في المبيع أو الثّمن كونهما ديوناً ثابتةً في الذّمّة إذا لم يكونا من الأعيان ، لأنّ الدّيون تملك في الذّمم ولو لم تتعيّن ، فإنّ التّعيين أمر زائد عن أصل الملك ، فقد يحصل مقارناً له ، وقد يتأخّر عنه إلى أن يتمّ التّسليم كما لو اشترى مقداراً معلوماً من كمّيّة معينة من الأرز ، فإنّ حصّته من تلك الكميّة لا تتعيّن إلاّ بعد التّسليم ، وكذلك الثّمن إذا كان ديناً في الذّمّة .
ثانياً : أداء الثّمن الحالّ :
61 - الأصل في الثّمن الحلول ، وهذا متّفق عليه بين الفقهاء في الجملة ، قال ابن عبد البرّ : الثّمن أبداً حالّ ، إلاّ أن يذكر المتبايعان له أجلاً فيكون إلى أجله .
ونقل الأتاسيّ في شرح المجلّة عن السّراج في تعليل ذلك قوله : لأنّ الحلول مقتضى العقد وموجبه . وفي مجلّة الأحكام العدليّة : البيع المطلق ينعقد معجّلاً . ثمّ استثنت المجلّة ما لو جرى العرف في محلّ على أن يكون البيع المطلق مؤجّلاً أو مقسّطاً . كما صرّح المالكيّة بأنّه لا يجوز النّقد في بيع الخيار ، لا في زمن الخيار ، ولا في زمن عهدة الثّلاث في بيع الرّقيق ، ويفسد البيع باشتراط التّعجيل ، ولا يجوز أن يشترط نقد الثّمن في بيع الغائب على اللّزوم ، ويجوز تطوّعاً . وقد تبيّن ممّا سبق أنّ الثّمن إمّا أن يكون معجّلاً ، وإمّا أن يكون مؤجّلاً .
والثّمن المؤجّل إمّا أن يكون إلى موعد معيّن لجميع الثّمن ، وإمّا أن يكون منجّماً ( مقسّطاً ) على مواعيد معلومة . ومن جهة أخرى : فإنّ الثّمن إمّا عين معيّنة ، وإمّا دين ملتزم في الذّمّة . ففي الثّمن : إذا كان ديناً يختلف الحكم في أدائه بحسب كونه معجّلاً أو مؤجّلاً أو منجّماً ، فإذا كان مؤجّلاً أو منجّماً يتعيّن أن يكون الأجل معلوماً للمتعاقدين على تفصيل ينظر في بحث ( أجل ) . ولو دفع المشتري بعض الثّمن لم يحقّ له تسلّم المبيع ، ولا تسلّم ما يعادل الجزء المدفوع من الثّمن ، سواء أكان المبيع شيئاً واحداً أو أشياء متعدّدةً ، وسواء فصّل الثّمن على تلك الأشياء ، أم وقع عليها جملةً ، ما دام البيع قد تمّ بصفقة واحدة . هذا ما لم يكن هناك شرط على خلاف ذلك .
البدء بتسليم أحد البدلين :
62 - اختلف الفقهاء فيمن يسلّم أوّلاً : البائع أم المشتري حسب نوعي البدلين ، وينقسم ذلك إلى أحوال :
الحالة الأولى : أن يكونا معيّنين " المقايضة " أو ثمنين " الصّرف " :
63 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ المتعاقدين يسلّمان معاً تسويةً بدينهما في العينيّة والدّينيّة . وذهب المالكيّة إلى أنّهما يتركان حتّى يصطلحا ، فإن كان بحضرة حاكم وكلّ من يتولّى ذلك لهما . وعند الشّافعيّة في الأظهر : يجبران على التّسليم لاستواء الجانبين ، لأنّ الثّمن المعيّن كالمبيع في تعلّق الحقّ بالعين . وعند الحنابلة : ينصب الحاكم عدلاً بينهما ، يقبض منهما ، ثمّ يسلّمه إليهما قطعاً للنّزاع ، لاستوائهما في تعلّق حقّهما بعين الثّمن والمثمّن ، فيسلّم العدل المبيع أوّلاً ، لجريان العادة بذلك .
الحالة الثّانية : أن يكون أحدهما معيّناً والآخر ديناً في الذّمّة :
64 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة ، والشّافعيّة في قول : إلى أنّه يطالب المشتري بالتّسليم أوّلاً ، قال الصّاويّ : لأنّ المبيع في يد بائعه كالرّهن على الثّمن . وتوجيه ذلك أنّ حقّ المشتري تعيّن في المبيع ، فيدفع الثّمن ليتعيّن حقّ البائع بالقبض ، تحقيقاً للمساواة .
وذهب الشّافعيّة في المذهب ، والحنابلة : إلى أنّه يجبر البائع على التّسليم أوّلاً ، لأنّ قبض المبيع من تتمّات البيع ، واستحقاق الثّمن مرتّب على تمام البيع ، ولجريان العادة بذلك .
أمّا ما يترتّب على إخلال المشتري بأداء الثّمن الحالّ ، وكذلك الثّمن المؤجّل إذا حلّ أجله ، فقد اتّفق الفقهاء على أنّه : إذا كان المشتري موسراً ، فإنّه يجبر على أداء الثّمن الحالّ ، كما ذهب الجمهور في الجملة إلى أنّ للبائع حقّ الفسخ إذا كان المشتري مفلساً ، أو كان الثّمن غائباً عن البلد مسافة القصر .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه ليس للبائع حقّ الفسخ ، لأنّه يمكنه التّقاضي للحصول على حقّه ، وهو في هذه الحالة دائن ، كغيره من الدّائنين . وهذا عندهم ما لم يشترط لنفسه خيار النّقد ، بأن يقول مثلاً : إن لم تدفع الثّمن في موعد كذا فلا بيع بيننا . واختلف في مقتضى هذا الشّرط ، هل هو انفساخ البيع ، أو استحقاقه الفسخ باعتباره فاسداً ؟ والمرجّح عند الحنفيّة : أنّه يفسد ولا ينفسخ ، وتفصيله في ( خيار النّقد )
وللشّافعيّة والحنابلة تفصيل - في حال إخلال المشتري بأداء الثّمن الحالّ ، لا للفلس ، بل لغياب ماله غيبةً قريبةً في بلده ، أو في أقلّ من مسافة القصر - خلاصته : الحجر على المشتري في المبيع وسائر أمواله حتّى يسلّم الثّمن ، خوفاً من أن يتصرّف في ماله تصرّفاً يضرّ بالبائع .
أمّا إن كان المال غائباً مسافة القصر فأكثر ، فإنّه لا يكلّف البائع الصّبر إلى إحضاره ، بل يحجر على المبيع ومال المشتري كما سبق . ويملك البائع الفسخ في الأصحّ للشّافعيّة ، وهو وجه للحنابلة ، وهذا فضلاً عن حقّه في حبس مبيعه حتّى يقبض ثمنه . وعند الحنابلة وجه بأنّه : لا خيار للبائع في الفسخ فيما دون مسافة القصر ، لأنّه بمنزلة الحاضر . والقول الآخر للشّافعيّة ليس له الفسخ ، بل يباع المبيع ، ويؤدّى حقّه من الثّمن كسائر الدّيون .
اشتراط التّرادّ بالتّخلّف عن الأداء :
65 - ممّا يتّصل بما سبق عن الحنفيّة - من إثبات حقّ الفسخ إذا اشترطه لعدم الأداء في الموعد المحدّد ، وهو ما يسمّى ( خيار النّقد ) - تصريح المالكيّة بمثله فيما إذا قال البائع للمشتري : بعتك لوقت كذا ، أو على أن تأتيني بالثّمن في وقت كذا ، فإن لم تأت به في ذلك الوقت فلا بيع بيننا ، فقد جاء في المدوّنة تصحيح البيع وبطلان الشّرط .
وروي عن مالك قولان آخران : صحّة البيع والشّرط . وفسخ البيع . وتفصيله في ( خيار النّقد ) . هذا وإذا كان الثّمن مؤجّلاً ، فإنّ على البائع تسليم المبيع ، ولا يطالب المشتري بتسليم الثّمن إلاّ عند حلول الأجل . وكذلك إذا كان الثّمن منجّماً . وقد صرّح الشّافعيّة أنّه في الثّمن المؤجّل ليس للبائع حبس المبيع به ، وإن حلّ قبل التّسليم لرضاه بتأخيره .
أمّا إذا كان بعض الثّمن معجّلاً وبعضه مؤجّلاً ، فإنّ للبعض المعجّل حكم تعجيل الثّمن كلّه ، فلا يطالب المشتري البائع بتسليم المبيع ، إلاّ بعد تسليم الجزء المعجّل من الثّمن .
ولا بدّ في جميع الأحوال من أن يكون الأجل معلوماً ، فإذا كان كذلك جاز البيع مهما طال ولو إلى عشرين سنةً . وتفصيله في ( أجل ) .
وقد صرّح المالكيّة بأنّه لا بأس ببيع أهل السّوق على التّقاضي ، وقد عرفوا قدر ذلك بينهم . والتّقاضي : تأخير المطالبة بالدّين إلى مدًى متعارف عليه بين المتعاقدين .
ومن حقّ المشتري إذا كان المبيع معيباً ، أو ظهر أنّه مستحقّ أن يمتنع من أداء الثّمن ، إلى أن يستخدم حقّه في العيب فسخاً أو طلباً للأرش أو إلى أن يتبيّن أمر الاستحقاق .
ويجوز تأخير الدّين الحالّ ، أو المؤجّل بأجل قريب إلى أجل بعيد ، وأخذ مساوي الثّمن أو أقلّ منه من جنسه لأنّه تسليف أو تسليف مع إسقاط البعض وهو من المعروف ، ولكن لا يجوز . تأخير رأس مال السّلم .
وأجاز المالكيّة تأخير رأس المال في حدود ثلاثة أيّام ولو بشرط .
ثالثاً : تسليم المبيع :
66 - قال ابن رشد الحفيد : أجمعوا على أنّه لا يجوز بيع الأعيان إلى أجل ، ومن شرطها تسليم المبيع إلى المبتاع بإثر عقد الصّفقة . وقال التّسوّليّ في البهجة شرح التّحفة : يجب تسليم المبيع المعيّن ، لأنّ وجوب التّسليم حقّ للّه ، والعقد يفسد بالتّأخير .
وأجرة الكيل والوزن أو العدّ على البائع ، إذ لا تحصل التّوفية إلاّ به .
قال ابن قدامة : لأنّ على البائع تقبيض المبيع للمشتري ، والقبض لا يحصل إلاّ بذلك .
أمّا أجرة عدّ الثّمن وكيله ووزنه فعلى المشتري ، وأجرة نقل المبيع المحتاج إليه في تسليم المبيع المنقول على المشتري .
وتسليم المبيع أهمّ الأثّار الّتي يلتزم بها البائع في عقد البيع ، وهو يثبت عند تسليم الثّمن الحالّ ( أمّا في الثّمن المؤجّل فلا يتوقّف تسليم المبيع على أدائه ) ولا يتحقّق تسليم المبيع إلاّ إذا سلّم للمشتري خالياً من أيّ شاغل ، أي كانت العين قابلةً لكمال الانتفاع بها .
فإذا كان مشغولاً لم يصحّ التّسليم ، وأجبر البائع على تفريغ المبيع .
ومن صور شغل المبيع : أن يكون محلاً لعقد إجارة أبرمه البائع ، فإن رضي المشتري بالانتظار إلى نهاية مدّة الإجارة لم تكن له المطالبة بالتّسليم ، ولكن يحقّ له حبس الثّمن إلى أن تنتهي الإجارة ، ويصبح المبيع قابلاً للتّسليم . وكما يجب تسليم المبيع يجب تسليم توابعه . يختلف حكم القبض بين المثليّ من مكيل أو موزون أو معدود ، وبين غيره من عقار أو حيوان ونحوه . ففي قبض العقار تكفي التّخلية اتّفاقاً بشرط فراغه من أمتعة البائع ، فلو جمعت أمتعة البائع في غرفة صحّ قبض ما عداها ، وتوقّف قبضها على تفريغها .
لكن لو أذن البائع للمشتري بقبض الدّار والمتاع صحّ التّسليم ، لأنّ المتاع صار وديعةً عند المشتري . ومن عبارات المالكيّة : أنّ العقار إن كان أرضاً فقبضه بالتّخلية ، وإن كان داراً للسّكنى فقبضها بالإخلاء . فإن لم يحضر العاقدان العقار المبيع . فقد ذهب الشّافعيّة في الأصحّ ( ونقل مثله عن بعض الحنفيّة في العقار البعيد عن العاقدين ) إلى أنّه يعتبر مرور زمن يمكن فيه المضيّ إلى العقار ، لأنّه إذا لم يعتبر حضور العاقدين إلى العقار للمشقّة ، فلا مشقّة في اعتبار مضيّ الزّمان ، ويبدو أنّ الحكمة في ذلك الأمن من تداخل الضّمانين .
أمّا المنقول ، فقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى : أنّ قبض المكيل والموزون والمعدود باستيفاء الكيل أو الوزن أو العدّ . وقال الشّافعيّة : لا بدّ مع ذلك من النّقل .
وهذا ما لم يبع جزافاً ، فيحصل قبضه بالنّقل ، على خلاف وتفصيل . ر : ( بيع الجزاف ) . وأمّا غير ذلك من الحيوان والعروض ، فإنّ قبضها بحسب العرف ، كتسليم الثّوب وزمام الدّابّة وسوقها أو عزلها عن دوابّ البائع أو انصراف البائع عنها .
ولم يفرّق الحنفيّة - وهي رواية عن أحمد - بين المكيلات والموزونات والمعدودات وبين غيرها . فالتّخلية قبض في الجميع ، حتّى لو كانت التّخلية في بيت البائع فإنّها صحيحة . فإن هلك المبيع بعدئذ هلك من ضمان المشتري ، لأنّه كالوديعة عنده .
وينوب القبض السّابق للمبيع عن تجديد قبضه ، إذا كان قد قبض على سبيل الضّمان ، بأن كان المشتري قد غصبه من البائع قبل أن يشتريه منه ، فإنّ ذلك القبض يغني ، لأنّه قبض قويّ بمنزلة قبض المشتري ما اشتراه ، إذ تبعة هلاكه في الحالين على القابض .
أمّا إذا كان القبض السّابق من قبيل قبض الأمانة ، كقبض المستعير والوديع - وهو ما لا ضمانه ممّن هو بيده في حال هلاكه دون تعدّ أو تقصير - فيعتبر ذلك القبض ضعيفاً لا ينوب عن قبض الضّمان .
انتهاء البيع :
67 - بالإضافة إلى ما سبق الكلام عنه من انفساخ البيع بسبب بعض حالات الهلاك الكلّيّ ، فإنّ البيع ينتهي بتمام آثاره من تسليم وتسلّم .
وينتهي البيع أيضاً بالإقالة . وتفصيل الكلام عنها في مصطلح ( إقالة ) .
بيع الاستجرار *
التّعريف :
1 - البيع : مبادلة المال بالمال تمليكاً وتملّكاً .
والاستجرار لغةً : الجذب والسّحب ، وأجررته الدّين : أخّرته له .
وبيع الاستجرار : أخذ الحوائج من البيّاع شيئاً فشيئاً ، ودفع ثمنها بعد ذلك .
الألفاظ ذات الصّلة :
البيع بالتّعاطي :
2 - المعاطاة والتّعاطي : المناولة والمبادلة .
والبيع بالتّعاطي : أن يتقابض البائع والمشتري من غير صيغة ، أي إنّ البائع يعطي المبيع ولا يتلفّظ بشيء ، والمشتري يعطي الثّمن كذلك .
والفرق بين بيع الاستجرار والتّعاطي هو : أنّ بيع الاستجرار أعمّ ، لأنّه قد يكون بإيجاب وقبول ، وقد يكون بالتّعاطي ، كما أنّ الغالب في الاستجرار تأجيل الثّمن ، وعدم تحديده في بعض الصّور .
الأحكام المتعلّقة ببيع الاستجرار :
تتعدّد صور بيع الاستجرار ، ولذلك تختلف أحكامه من صورة لأخرى ، وبيان ذلك فيما يلي : مذهب الحنفيّة :
صور بيع الاستجرار الّتي وردت عند الحنفيّة هي :
3 - الصّورة الأولى : أن يأخذ الإنسان من البيّاع ما يحتاج إليه شيئاً فشيئاً ممّا يستهلك عادةً ، كالخبز والملح والزّيت والعدس ونحوها ، مع جهالة الثّمن وقت الأخذ ، ثمّ يشتريها بعد استهلاكها .
فالأصل عدم انعقاد هذا البيع ، لأنّ المبيع معدوم وقت الشّراء ، ومن شرائط المعقود عليه أن يكون موجوداً ، لكنّهم تسامحوا في هذا البيع وأخرجوه عن هذه القاعدة ( اشتراط وجود المبيع ) وأجازوا بيع المعدوم هنا استحساناً ، وذلك كما في البحر الرّائق والقنية .
وقال بعض الحنفيّة : ليس هذا بيع معدوم ، إنّما هو من باب ضمان المتلفات بإذن مالكها عرفاً ، تسهيلاً للأمر ودفعاً للحرج ، كما هو العادة . ولم يرتض الحمويّ وغيره هذا المعنى . وقال ابن عابدين : إنّ المسألة استحسان ، ويمكن تخريجها على قرض الأعيان ، ويكون ضمانها بالثّمن استحساناً ، كحلّ الانتفاع في الأشياء القيميّة ، لأنّ قرضها فاسد لا يحلّ الانتفاع به وإن ملّكت بالقبض .
4 - الصّورة الثّانية : وهي نفس الصّورة الأولى ، لكن تختلف عنها بالنّسبة لمعرفة الثّمن ، أي إنّ الإنسان يأخذ ما يحتاج إليه شيئاً فشيئاً مع العلم بالثّمن وقت الأخذ ، ثمّ يحاسبه بعد ذلك . وهذا البيع جائز ولا خلاف في انعقاده ، لأنّه كلّما أخذ شيئاً انعقد بيعاً بثمنه المعلوم ، ويكون بيعاً بالتّعاطي ، والبيع بالتّعاطي ينعقد ، سواء أدفع الثّمن وقت الأخذ أم تأجّل . ومثلها في الحكم : أن يدفع الإنسان إلى البيّاع الدّراهم دون أن يقول له : اشتريت ، وجعل يأخذ كلّ يوم خمسة أرطال مع العلم بثمنها .
هذا البيع جائز ، وما أكله حلال ، لأنّه وإن كانت نيّته الشّراء وقت الدّفع إلاّ أنّه لا ينعقد بيعاً بمجرّد النّيّة ، وإنّما انعقد بيعاً الآن بالتّعاطي ، والآن المبيع معلوم فينعقد البيع صحيحاً .
5- الصّورة الثّالثة : أن يدفع الإنسان إلى البيّاع دراهم ، ويقول له : اشتريت منك مائة رطل من خبز مثلاً ، وجعل يأخذ كلّ يوم خمسة أرطال .
هذا البيع فاسد ، وما أكل فهو مكروه ، وذلك لجهالة المبيع ، لأنّه اشترى خبزاً غير مشار إليه فكان المبيع مجهولاً ، ومن شرائط صحّة البيع : أن يكون المبيع معلوماً .
6- الصّورة الرّابعة : وهي أن يدفع الإنسان الدّراهم للبيّاع دون أن يقول له : اشتريت ، وجعل يأخذ كلّ يوم خمسة أرطال ولا يعلم ثمنها .
فهذا لا ينعقد بيعاً بالتّعاطي لجهالة الثّمن ، فإذا تصرّف الآخذ في المبيع ، وقد دفعه البيّاع برضاه بالدّفع وبالتّصرّف فيه على وجه التّعويض عنه ، لم ينعقد بيعاً ، وإن كان على نيّة البيع ، لأنّ البيع لا ينعقد بالنّيّة ، فيكون شبيه القرض المضمون بمثله أو بقيمته ، فإذا توافقا على شيء بدل المثل أو القيمة برئت ذمّة الآخذ .
مذهب المالكيّة :
الصّور الّتي وردت عند المالكيّة هي :
7 - أن يضع الإنسان عند البيّاع دراهم ، ثمّ يأخذ بجزء معلوم من الدّراهم سلعةً معلومةً وهكذا . فهذا البيع صحيح ، لأنّ السّلعة معلومة والثّمن معلوم .
8- أن يضع عند البيّاع درهماً ، ويقول له : آخذ به منك كذا وكذا من التّمر مثلاً ، أو كذا وكذا من اللّبن أو غير ذلك . يقدّر معه فيه سلعةً ما ، ويقدّر ثمنها قدراً ما ، ويترك السّلعة يأخذها متى شاء ، أو يؤقّت لها وقتاً يأخذها فيه ، فهذا البيع جائز أيضاً .
9- أن يترك عند البيّاع درهماً في سلعة معيّنة أو غير معيّنة ، على أن يأخذ منها في كلّ يوم بسعره ، وعقدا على ذلك البيع ، فهذا البيع غير جائز ، لأنّ ما عقدا عليه من الثّمن مجهول ، وذلك من الغرر الّذي يمنع صحّة البيع .
10 - أن يأخذ الإنسان من البيّاع ما يحتاج إليه بسعر معلوم ، فيأخذ كلّ يوم وزناً معلوماً بسعر معلوم ، والثّمن إلى أجل معلوم ، أو إلى العطاء إذا كان العطاء معلوماً مأموناً ، فهذا البيع جائز .
مذهب الشّافعيّة :
لبيع الاستجرار عند الشّافعيّة صورتان :
11 - إحداهما : أن يأخذ الإنسان من البيّاع ما يحتاجه شيئاً فشيئاً ، ولا يعطيه شيئاً ، ولا يتلفّظان ببيع ، بل نويا أخذه بثمنه المعتاد ، ويحاسبه بعد مدّة ويعطيه ، كما يفعل كثير من النّاس . قال النّوويّ : هذا البيع باطل بلا خلاف - أي عند الشّافعيّة - لأنّه ليس ببيع لفظيّ ولا معاطاةً . قال الأذرعيّ : وهذا ما أفتى به البغويّ ، وذكر ابن الصّلاح نحوه في فتاويه . وتسامح الغزاليّ فأباح هذا البيع ، لأنّ العرف جار به ، وهو عمدته في إباحته .
وقال الأذرعيّ : قول النّوويّ - إنّ هذا لا يعدّ معاطاةً ولا بيعاً - فيه نظر ، بل يعدّه النّاس بيعاً ، والغالب أن يكون قدر ثمن الحاجة معلوماً لهما عند الأخذ والعطاء ، وإن لم يتعرّضا له لفظاً .
12 - الثّانية : أن يقول الإنسان للبيّاع : أعطني بكذا لحماً أو خبزاً مثلاً ، فيدفع إليه مطلوبه فيقبضه ويرضى به ، ثمّ بعد مدّة يحاسبه ويؤدّي ما اجتمع عليه ، فهذا البيع مجزوم بصحّته عند من يجوّز المعاطاة .
مذهب الحنابلة :
13 - مسائل بيع الاستجرار عند الحنابلة مبنيّة على البيع بغير ذكر الثّمن ، وقد ذكر المرداويّ في الإنصاف هذه المسائل فقال : البيع بما ينقطع به السّعر لا يصحّ ، وهو المذهب وعليه الأصحاب ، وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد : يصحّ ، واختاره الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة ، وقال : هو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد .
ومن شروط البيع كون الثّمن معلوماً حال العقد على الصّحيح من المذهب ، وعليه الأصحاب ، واختار ابن تيميّة صحّة البيع وإن لم يسمّ الثّمن ، وله ثمن المثل ، نظيره : صحّة النّكاح بدون تسمية مهر ، ولها مهر المثل .
وقد ذكر ابن مفلح في فوائده على مشكل المحرّر اختلاف الرّوايات عن الإمام أحمد في مسائل البيع بغير ذكر الثّمن ، وأورد صورتين اختلف فيهما رأي الإمام أحمد ، فلم يجز البيع في إحداهما ، وأجازه في الأخرى .
14 - قال الخلال في البيع بغير ثمن مسمًّى ، عن حرب : سألت الإمام أحمد قلت : الرّجل يقول لرجل : ابعث لي جريباً من برّ ، واحسبه عليّ بسعر ما تبيع . قال : لا يجوز هذا حتّى يبيّن له السّعر . وعن إسحاق بن منصور قلت للإمام أحمد : الرّجل يأخذ من الرّجل سلعةً فيقول : أخذتها منك على ما تبيع الباقي ، قال : لا يجوز ، وعن حنبل قال عمّي : أنا أكرهه ، لأنّه بيع مجهول ، والسّعر يختلف ، يزيد وينقص .
في هاتين الرّوايتين لا يجيز الإمام أحمد هذا البيع .
15 - أمّا روايتا الجواز فهما : قال أبو داود في مسائله : باب في الشّراء ولا يسمّى الثّمن . سمعت أحمد سئل عن الرّجل يبعث إلى البقّال ، فيأخذ منه الشّيء بعد الشّيء ، ثمّ يحاسبه بعد ذلك ، قال : أرجو أن لا يكون بذلك بأس ، قيل لأحمد : يكون البيع ساعتئذ ؟ قال : لا . قال ابن تيميّة : وظاهر هذا أنّهما اتّفقا على الثّمن بعد قبض المبيع والتّصرّف فيه ، وأنّ البيع لم يكن وقت القبض وإنّما كان وقت التّحاسب ، وأنّ معناه : صحّة البيع بالسّعر ، أي السّعر المعهود بيعه به .
وعن مثنّى بن جامع عن أحمد في الرّجل يبعث إلى مُعَامِل له ، ليبعث إليه بثوب ، فيمرّ به فيسأله عن ثمن الثّوب فيخبره ، فيقول له : اكتبه . والرّجل يأخذ التّمر فلا يقطع ثمنه ، ثمّ يمرّ بصاحب التّمر فيقول له : اكتب ثمنه ؟ فأجازه إذا ثمّنه بسعر يوم أخذه . وهذا صريح في جواز الشّراء بثمن المثل وقت القبض لا وقت المحاسبة ، سواء أذكر ذلك في العقد أم أطلق لفظ الأخذ زمن البيع .
ورواية الجواز هذه هي ما اختارها وأخذ بها ابن تيميّة وابن القيّم . يقول ابن القيّم في إعلام الموقّعين : اختلف الفقهاء في جواز البيع بما ينقطع به السّعر من غير تقدير الثّمن وقت العقد ، وصورتها : البيع ممّن يعامله من خبّاز أو لحّام أو سمّان أو غيرهم ، يأخذ منه كلّ يوم شيئاً معلوماً ، ثمّ يحاسبه عن رأس الشّهر أو السّنة على الجميع ، ويعطيه ثمنه . فمنعه الأكثرون ، وجعلوا القبض فيه غير ناقل للملك ، وهو قبض فاسد يجري مجرى المقبوض بالغصب ، لأنّه مقبوض بعقد فاسد ، هذا وكلّهم إلاّ من شدّد على نفسه يفعل ذلك ، ولا يجد منه بدّاً ، وهو يفتي ببطلانه ، وأنّه باق على ملك البائع ، ولا يمكنه التّخلّص من ذلك إلاّ بمساومته له عند كلّ حاجة يأخذها قلّ ثمنها أو كثر ، وإن كان ممّن شرط الإيجاب والقبول لفظاً ، فلا بدّ مع المساومة أن يقرن بها الإيجاب والقبول لفظاً .
16 - قال ابن القيّم : القول الثّاني وهو الصّواب المقطوع به ، وهو عمل النّاس في كلّ عصر ومصر : جواز البيع بما ينقطع به السّعر ، وهو منصوص الإمام أحمد ، واختاره شيخنا ( يعني ابن تيميّة ) وسمعته يقول : هو أطيب لقلب المشتري من المساومة ، يقول لي : أسوةً بالنّاس ، آخذ بما يأخذ به غيري ، قال : والّذين يمنعون ذلك لا يمكنهم تركه ، بل هم واقعون فيه ، وليس في كتاب اللّه تعالى ولا سنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا إجماع الأمة ولا قول صاحب ولا قياس صحيح ما يحرّمه ، وقد أجمعت الأمّة على صحّة النّكاح بمهر المثل ، وأكثرهم يجوّزون عقد الإجارة بأجرة المثل ، كالغسّال والخبّاز والملاح وقيّم الحمّام والمكاري ، فغاية البيع بالسّعر أن يكون بيعه بثمن المثل ، فيجوز كما تجوز المعاوضة بثمن المثل في هذه الصّور وغيرها ، فهذا هو القياس الصّحيح ، ولا تقوم مصالح النّاس إلاّ به .
بيع الاستنامة *
انظر : استرسال .
بيع الأمانة *
التّعريف :
1 - الأمانة لغةً : الاطمئنان ، يقال : أمن أمناً وأماناً وأمنةً : إذا اطمأنّ ولم يخف ، فهو آمن وأمن وأمين . وأمن الرّجل وأمن أيضاً : صار أميناً ، والمصدر : الأمانة . واستعمل في الأعيان مجازاً فقيل : الوديعة مثلاً أمانة . وأمن فلاناً على كذا : وثق به واطمأنّ إليه .
وفي الاصطلاح : يطلق ( بيع الأمانة ) على ما فيه اطمئنان من قبل البائع ، لأنّه أمانة في يد المشتري ، فبيع الأمانة مبنيّ على الثّقة والاطمئنان في التّعامل بين الطّرفين .
أنواع بيع الأمانة :
2 - بيع الأمانة يطلق على بيع الوفاء ، وبيع التّلجئة ، وبيع المرابحة ، والوضيعة ، والإشراك ، وبيع المسترسل أو البيع بسعر السّوق .
وهذه الأمانة والثّقة تارةً تكون مطلوبةً من قبل المشتري ، وتارةً تكون مطلوبةً من قبل البائع .
3 - فإن كانت مطلوبةً من جانب المشتري ، فإنّها تتحقّق ببيع الوفاء ، لأنّ المشتري أمين على المبيع حتّى يردّ له الثّمن الّذي دفعه ، ويأخذ البائع مبيعه .
أمّا إذا كانت مطلوبةً من جانب البائع - وهو الّذي يجب عليه الصّدق بثمن مبيعه وشرائه له - فإذا كان البيع بمثل الثّمن الّذي اشتراه به من غير زيادة ولا نقصان فهو بيع التّولية ، وإن كان بيع بعض المبيع ببعض الثّمن فهو بيع إشراك ، وإن كان بالثّمن مع زيادة فبيع المرابحة ، وإن كان بأقلّ من الثّمن فهو بيع الوضيعة أو الحطيطة .
وإن كان البيع بغضّ النّظر عن الثّمن الّذي اشترى به المبيع ، من مساواة أو زيادة أو نقصان ، وكان بسعر السّوق ، فهو بيع المسترسل أو البيع بسعر السّوق .
4 - ويقابل بيع الأمانة بيع المساومة ، وهو البيع بالثّمن الّذي يتراضى عليه العاقدان من غير نظر إلى الثّمن الأوّل الّذي اشترى به البائع .
بيع الوفاء :
5 - هو البيع بشرط أنّ البائع متى ردّ الثّمن يردّ المشتري المبيع إليه ، لأنّ المشتري يلزمه الوفاء بالشّرط . وإنّما أطلق عليه ( بيع الأمانة ) عند من سمّاه كذلك من القائلين بجوازه لأنّ المبيع بمنزلة الأمانة في يد المشتري ، لا يحقّ له فيه التّصرّف النّاقل للملك إلاّ لبائعه ، ويسمّيه المالكيّة " بيع الثّنيا " والشّافعيّة " بيع العهدة " والحنابلة " بيع الأمانة " .
وقد ذهب المالكيّة والحنابلة ، والمتقدّمون من الحنفيّة ، والشّافعيّة إلى : أنّ بيع الوفاء فاسد . وذهب بعض المتأخّرين من الحنفيّة والشّافعيّة إلى جوازه . وذهب بعض الحنفيّة أيضاً إلى أنّ بيع الوفاء رهن ، ويثبت له جميع أحكامه . وللتّفصيل انظر مصطلح ( بيع الوفاء ) .
بيع المرابحة :
6 - المرابحة مصدر رابح . تقول : بعته المتاع أو اشتريته منه مرابحةً : إذا سمّيت لكلّ قدر من الثّمن ربحاً . واصطلاحاً : بيع ما ملكه بما قام عليه وبفضل . أو هو : بيع السّلعة بالثّمن الّذي اشتراها به وزيادة ربح معلوم لهما .
وعند المالكيّة : أنّ لفظ المرابحة حقيقة عرفيّة فيما تقدّم ، وفي المساواة والوضيعة ، إلاّ أنّ النّوع الغالب في المرابحة الكثير الوقوع هو ما تقدّم .
وبيع المرابحة من البيوع الجائزة عند الفقهاء ، وذهب المالكيّة إلى أنّه خلاف الأولى ، وتركه أحبّ ، لكثرة ما يحتاج البائع فيه إلى البيان . فالأولى عندهم البيع بطريق المساومة . بيع التّولية :
7 - هو نقل جميع المبيع إلى المولى بما قام عليه ، بلفظ : ولّيتك أو نحوه من غير زيادة ربح ولا نقصان . وللتّفصيل انظر ( تولية ) .
بيع الإشراك :
8 - هو كبيع التّولية ، إلاّ أنّه بيع بعض المبيع ببعض الثّمن . وللتّفصيل انظر مصطلح ( إشراك ، بيع ) .
بيع الوضيعة :
9 - هو بيع الشّيء بنقصان معلوم من الثّمن الأوّل ، وهو ضدّ بيع المرابحة .
وللتّفصيل انظر مصطلح ( وضيعة ) .
بيع المسترسل :
10 - عرّفه المالكيّة بأنّه : قول الشّخص لغيره بعني كما تبيع النّاس ، أو بسعر السّوق ، أو بسعر اليوم ، أو بما يقوله فلان ، أو أهل الخبرة ونحو ذلك .
والمسترسل - كما عرّفه الإمام أحمد - هو الجاهل بقيمة السّلعة ولا يحسن المماكسة أو لا يماكس . وبيع المسترسل بهذا التّعريف ينعقد باتّفاق الفقهاء ، واختلفوا في ثبوت الخيار للمسترسل فيه .
حكم الخيانة في بيوع الأمانة :
سبق أنّ هذه البيوع إنّما سمّيت بيوع الأمانة لأنّها مبنيّة على الثّقة والاطمئنان في التّعامل بين الطّرفين : البائع والمشتري .
11 - فأمّا في بيع الوفاء - عند من يجوّزه - فإنّه يجب على المشتري ردّ المبيع إلى بائعه بعد تسلّم الثّمن ، ولا يجوز له إمساك المبيع ، لأنّ بيع الوفاء لا يسوغ للمشتري التّصرّف النّاقل للملكيّة ، ومن ثمّ فلا يجوز بيعه لغير بائعه وليس فيه الشّفعة ، وخراجه على بائعة ، ولو هلك المبيع في يد المشتري بغير تفريط فلا شيء لواحد منهما على الآخر ، لأنّ يد المشتري على المبيع يد أمانة .
وإذا مات البائع انتقل المبيع بالإرث إلى ورثته . وللتّفصيل انظر ( بيع الوفاء ) .
12 - وأمّا بالنّسبة لبيوع الأمانة الأخرى فإنّه إذا ظهرت الخيانة في المرابحة ، فلا يخلو إمّا أن تكون قد ظهرت في صفة الثّمن ، أو أنّها ظهرت في قدره .
فإن ظهرت الخيانة في صفة الثّمن ، بأن اشترى شيئاً بنسيئة ثمّ باعه مرابحةً على الثّمن الأوّل ، ولم يبيّن أنّه اشتراه بنسيئة ، أو باعه توليةً ولم يبيّن ، ثمّ علم المشتري ، فله الخيار بالإجماع ، إن شاء أخذه وإن شاء ردّه ، لأنّ المرابحة عقد بني على الأمانة ، لأنّ المشتري اعتمد البائع وائتمنه في الخبر عن الثّمن الأوّل ، فكانت الأمانة مطلوبةً في هذا العقد ، فكانت صيانته عن الخيانة مشروطةً دلالةً ، وفواتها يوجب الخيار كفوات السّلامة عن العيب . وإن ظهرت الخيانة في قدر الثّمن في المرابحة والتّولية ، بأن قال : اشتريت بعشرة وبعتك بربح دينار على كلّ عشرة دنانير ، أو قال : اشتريت بعشرة وولّيتك بما تولّيت ، ثمّ تبيّن أنّه كان اشتراه بتسعة ، فقد اختلف في حكمه :
فذهب الشّافعيّة - في الأظهر - وهو المذهب عند الحنابلة ، وقال به أبو يوسف من الحنفيّة : إلى أنّه لا خيار له ، ولكن يحطّ قدر الخيانة فيهما جميعاً ، وذلك درهم في التّولية ودرهم في المرابحة ، وحصّته من الرّبح ، وهو جزء من عشرة أجزاء من درهم ويلزم البيع .
وقال أبو حنيفة : المشتري بالخيار في المرابحة ، إن شاء أخذه بجميع الثّمن وإن شاء ترك ، وفي التّولية لا خيار له ، لكن يحطّ قدر الخيانة ، ويلزم العقد بالثّمن الباقي .
وذهب المالكيّة إلى أنّه إن حطّ البائع الزّائد المكذوب وربحه لزم البيع ، وإن لم يحطّ لم يلزم المشتري وخيّر بين الإمساك والرّدّ .
وفي القول الثّاني للشّافعيّة ، وبه قال محمّد : له الخيار في المرابحة والتّولية جميعاً ، إن شاء أخذه بجميع الثّمن ، وإن شاء ردّه على البائع .
13 - وأمّا المواضعة ، فإنّها تطبّق عليها شروط المرابحة وأحكامها ، إذ هي بيع بمثل الثّمن الأوّل مع نقصان معلوم منه .
وكذا الإشراك حكمه حكم التّولية ، ولكنّه تولية بعض المبيع ببعض الثّمن .
14 - وأمّا بالنّسبة لبيع المسترسل فمن صوره : أن يقول الرّجل للرّجل : بعني كما تبيع النّاس ، فهذا البيع صحيح عند المالكيّة ، ولكن إن غبنه بما يخرج عن العادة فله الخيار .
15 - ومن صوره أيضاً : أن يبيع شخصاً لا يماكس ، أو لا يحسن المماكسة ، فكأنّ المشتري استرسل إلى البائع واطمأنّ إليه ، فأخذ ما أعطاه من غير مماكسة ، ولا معرفة بغبنه . وبيع المسترسل بهذا التّعريف ينعقد باتّفاق الفقهاء ، ولكنّهم اختلفوا في ثبوت الخيار للمسترسل فيه .
فذهب الحنفيّة - في ظاهر الرّواية - والشّافعيّة : إلى أنّه لا يثبت له الخيار ، لأنّ نقصان قيمة السّلعة مع سلامتها لا يمنع لزوم العقد ، ومجرّد كونه مغبوناً لا يثبت له خياراً ، لكنّه مكروه عند الشّافعيّة .
وذهب الحنفيّة في القول المفتى به عندهم ، والمالكيّة والحنابلة : إلى ثبوت الخيار له إذا كان الغبن فاحشاً . وفسّره الحنفيّة بما لا يدخل تحت تقويم المقوّمين ، لأنّ ما لم يرد الشّرع بتحديده يرجع فيه إلى العرف ، وفسّر المالكيّة والحنابلة الغبن الفاحش بأنّه ما زاد على الثّلث ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الوصيّة : « الثّلث ، والثّلث كثير » فقد وصف الثّلث بأنّه كثير ، وقيل : السّدس ، وقيل : ما لا يتغابن به النّاس عادةً .
واستدلّوا بقوله عليه الصلاة والسلام : « غبن المسترسل حرام » ولأنّه غبن حصل لجهله بالمبيع ، فأثبت الخيار ، كالغبن في تلقّي الرّكبان .
البيع الباطل *
التّعريف :
1 - البيع لغةً من الأضداد مثل الشّراء ، والأصل في البيع مبادلة مال بمال ، وذلك حقيقة في وصف الأعيان ، لكنّه أطلق على العقد مجازاً ، لأنّه سبب التّمليك والتّملّك .
والباطل من بَطَل الشّيء : فسد أو سقط حكمه فهو باطل .
والبيع اصطلاحاً : مبادلة مال بمال . والبيع الباطل عند الحنفيّة هو : ما لم يشرع لا بأصله ولا بوصفه . وعند الجمهور - وهم لا يفرّقون بين الفاسد والباطل في الجملة - هو ما لم يترتّب أثره عليه ، فلم يثمر ولم تحصل به فائدته من حصول الملك .
وهو موافق لما عند الحنفيّة أيضاً .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - البيع الصّحيح :
2 - هو : ما شرع بأصله ووصفه ، ويفيد الحكم بنفسه إذا خلا من الموانع . أو هو : ما ترتّب عليه أثره من حصول الملك والانتفاع بالمبيع . وعلى ذلك فهو مباين للبيع الباطل .
ب - البيع الفاسد :
3 - الجمهور على عدم التّفرقة بين البيع الباطل والبيع الفاسد . أمّا الحنفيّة فيجعلون البيع الفاسد مرتبةً بين البيع الصّحيح والبيع الباطل .
ويعرّفه الحنفيّة بأنّه : ما شرع بأصله دون وصفه .
أو هو : ما ترتّب عليه أثره ، ولكنّه مطلوب التّفاسخ شرعاً ، وهو مباين للباطل كما يقول ابن عابدين ، لأنّ ما كان مشروعاً بأصله فقط يباين ما ليس بمشروع أصلاً . وأيضاً حكم الفاسد أنّه يفيد الملك بالقبض ، والباطل لا يفيده أصلاً ، وتباين الحكمين دليل تباينهما .
ج - البيع المكروه :
4 - هو ما كان مشروعاً بأصله ووصفه ، لكن نهي عنه لوصف مجاور غير لازم ، كالبيع عقب النّداء للجمعة ، وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة .
خلافاً للحنابلة ، إذ النّهي عندهم يقتضي الفساد مطلقاً ، وهو يتّفق مع البيع الصّحيح في ترتّب أثره عليه ، ولكنّه مباين له باعتباره منهيّاً عنه .
الحكم التّكليفيّ :
5 - الإقدام على البيع الباطل مع العلم بالبطلان حرام ، ويأثم فاعله ، لارتكابه المعصية بمخالفته المشروع ، وعدم امتثاله لما نهى الشّارع عنه ، لأنّ البيع الباطل لم يشرع لا بأصله ولا بوصفه .
هذا مع استثناء حالة الضّرورة ، كالمضطرّ يشتري الطّعام بزيادة على ثمن المثل ، وكالعقد الّذي يختبر به رشد الصّبيّ . فقد قيل : يشتري الوليّ شيئاً ثمّ يدفعه إلى آخر ، ثمّ يأمر الطّفل بشرائه منه ، وهذا بالنّسبة للبيع المتّفق على بطلانه ، كبيع المجنون والصّبيّ الّذي لا يميّز ، وكبيع الميتة والدّم والملاقيح والمضامين .
أمّا البيع المختلف في بطلانه بين المذاهب بأن كان باطلاً في مذهب وغير باطل في مذهب آخر ، كبيع الفضوليّ ، وبيع المعاطاة ، وبيع الكلب المأذون في اتّخاذه ، فإنّ المقدم عليه إن كان مجتهداً قد بلغ رتبة الاجتهاد فلا يعتبر البيع باطلاً في حقّه ، ولا إثم عليه ، لأنّه تحرّى قصد الشّارع ببذل الجهد ، حتّى وصل إلى دليل يرشده ، بحيث لو ظهر له خلاف ما رآه بدليل أقوى لرجع إليه ، والمخطئ في اجتهاده لا يعاقب ، بل يكون معذوراً ومأجوراً .
إلاّ أنّه يستحبّ الخروج من الخلاف ، بمعنى أنّ من يعتقد جواز الشّيء ، فإنّه يستحبّ له تركه إن كان غيره يعتقده حراماً .
والمقلّد كذلك يأخذ حكم المجتهد في سقوط الإثم عنه ، ما دام مقلّداً لإمامه تقليداً سائغاً . والعامّيّ ينبغي له أن يستفتي من غلب على ظنّه أنّه من أهل العلم والدّين والورع ، وإن اختلف عليه العلماء أخذ بقول أعلمهم وأورعهم وأغلبهم صواباً في قلبه ، ولا يتخيّر ما يميل إليه هواه ، لأنّ ذلك يؤدّي إلى تتبّع المذاهب من غير استناد إلى دليل ، وقال قوم : لا يجب ذلك عليه ، لأنّ الكلّ طرق إلى اللّه .
أسباب بطلان البيع :
6 - يرى جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - أنّه لا فرق بين البيع الفاسد والبيع الباطل ، فهما مترادفان ، لأنّ كلّاً من البيع الفاسد والباطل وقع على خلاف ما طلبه الشّارع ، ولذلك لم يعتبره ، ولم يرتّب عليه الأثر الّذي رتّبه على البيع الصّحيح من حصول الملك وحلّ الانتفاع .
وأسباب فساد البيع هي أسباب بطلانه ، وهي ترجع إلى الخلل الواقع في ركن من أركان العقد ، أو في شرط من شرائط الصّحّة ، أو لورود النّهي عن الوصف الملازم للفعل ، أو عن الوصف المجاور عند الحنابلة . واستدلّ الجمهور على ذلك بما يأتي :
أ - البيع الباطل أو الفاسد منهيّ عنه شرعاً ، والمنهيّ عنه يكون حراماً ، والحرام لا يصلح سبباً لترتّب الأثر عليه ، لأنّ النّهي عن التّصرّف إنّما هو لبيان أنّ ذلك التّصرّف قد خرج عن اعتباره وشرعيّته .
ب - قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ » والبيع المنهيّ عنه وقع على غير ما أمر به الشّارع ، فيكون مردوداً ، فكأنّه لم يوجد .
ج - أجمع سلف الأمّة على الاستدلال بالنّهي على الفساد ، ففهموا فساد الرّبا من قوله تعالى : { وذروا ما بَقِيَ من الرّبا } وقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تبيعوا الذّهب بالذّهب إلاّ مثلاً بمثل » و « نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط » .
هذا عند الجمهور : أمّا الحنفيّة فإنّ سبب بطلان البيع عندهم يرجع إلى اختلال ركن البيع أو شرط من شرائط الانعقاد ، فإذا تخلّف الرّكن أو شرط من شرائط الانعقاد كان البيع باطلاً ولا وجود له ، لأنّه لا وجود للتّصرّف إلاّ من الأهل في المحلّ حقيقةً ، ويكون العقد فائت المعنى من كلّ وجه ، إمّا لانعدام معنى التّصرّف كبيع الميتة والدّم ، أو لانعدام أهليّة التّصرّف كبيع المجنون والصّبيّ الّذي لا يعقل .
أمّا اختلال شرط من شرائط الصّحّة فلا يجعل البيع باطلاً ، كما هو عند الجمهور ، بل يكون فاسداً . واستدلّ الحنفيّة على ذلك بأنّ البيع الفاسد مشروع فيفيد الملك في الجملة ، والدّليل على أنّه مشروع بأصله : النّصوص العامّة المطلقة في باب البيع من نحو قوله تعالى :
{ وأحلَّ اللّه البيعَ } ونحو ذلك ممّا ورد من النّصوص العامّة في هذا الباب .
ويلحظ هنا أنّ بعض الشّافعيّة يسايرون المذهب الحنفيّ في التّفريق بين البيع الباطل والبيع الفاسد ، رغم أنّ القواعد العامّة عندهم تخالف ذلك .
جاء في أسنى المطالب : فرّق الأصحاب بين الباطل والفاسد ، فقالوا : إن رجع الخلل إلى ركن العقد كبيع الصّبيّ فهو باطل ، وإن رجع إلى شرطه أو صفته فهو فاسد .
7- بعد هذا التّفريق بين مذهب الحنفيّة والجمهور ، هناك من البيوع الباطلة ما هو متّفق على بطلانها بين المذاهب الأربعة ، كالبيع الّذي حدث خلل في ركنه ، أو في شرط من شرائط انعقاده ، كبيع الميتة والدّم والملاقيح والمضامين فهذه متّفق على بطلانها .
وهناك من البيوع ما هو مختلف في بطلانه بين المذاهب ، وهو ما رجع الخلل فيها لغير ما سبق . فبيع الفضوليّ مثلاً صحيح ، ولكنّه موقوف على الإجازة عند الحنفيّة والمالكيّة ، وهو باطل في الأصحّ عند الشّافعيّة والحنابلة .
والبيع عند النّداء يوم الجمعة باطل عند الحنابلة . ومثل ذلك يقال في بيع المعاطاة ، وبيع الكلب المأذون في اتّخاذه ، وبيع النّجش ، وهكذا . ويرجع سبب الاختلاف في الحكم على مثل هذه البيوع بالبطلان أو عدمه إلى الاختلاف في الدّليل .
ما يتعلّق بالبيع الباطل من أحكام :
8 - البيع الباطل لا يترتّب عليه أثر ، لأنّه لا وجود له إلاّ من حيث الصّورة ، وهو منقوض من أساسه ، ولا يحتاج لحكم حاكم لنقضه .
ولا تلحقه الإجازة لأنّه معدوم ، والإجازة لا تلحق المعدوم .
وهذا باتّفاق الفقهاء في البيع المجمع على بطلانه ، وأمّا البيع المختلف فيه كبيع الفضوليّ ، فإنّه إذا حكم حاكم بصحّته صحّ العقد قضاءً ، حتّى عند من يقول ببطلانه وهم الشّافعيّة ، والحنابلة في الأصحّ عندهم ، لأنّ حكم الحاكم يرفع الخلاف . ومقابل الأصحّ عندهم : أنّه تلحقه الإجازة . وإذا وقع البيع الباطل ، فإنّ وجوده من حيث الصّورة يتعلّق به بعض الأحكام . وبيان ذلك فيما يلي :
أ - التّرادّ :
9 - إذا وقع البيع الباطل وحدث فيه تسليم شيء من أحد الطّرفين وجب ردّه ، لأنّ البيع الباطل لا يفيد الملك بالقبض ، ويجب على كلّ من الطّرفين ردّ ما أخذه إن كان باقياً ، وهذا باتّفاق . يقول ابن رشد : اتّفق العلماء على أنّ البيوع الفاسدة إذا وقعت ولم تفت ، حكمها الرّدّ ، أي أن يردّ البائع الثّمن ، ويردّ المشتري المثمون .
وردّ المبيع يكون مع نمائه المتّصل والمنفصل وأجرة مثله مدّة بقائه في يده ، وإن نقص ضمن نقصه ، لأنّه مضمون عليه ، فأجزاؤها تكون مضمونةً أيضاً .
صرّح بهذا الشّافعيّة والحنابلة ، وهو ما تفيده قواعد المذهب الحنفيّ .
أمّا عند المالكيّة فإنّ تغيّر الذّات بزيادة أو نقص يعتبر فوتاً ينتقل الحقّ فيه إلى الضّمان
ب - التّصرّف في المبيع :
10 - إذا تصرّف المشتري في المبيع بيعاً باطلاً ببيع أو هبة أو غير ذلك فلا ينفذ تصرّفه ، لأنّه لم يملكه ، فيكون قد تصرّف في ملك غيره بدون إذنه ، وتكون تصرّفاته كتصرّفات الغاصب ، ولذلك فإنّ هذا التّصرّف لا يمنع الرّدّ لعدم نفوذه ، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
أمّا عند المالكيّة فإنّ التّصرّف في المبيع يعتبر مفوّتاً ، وينتقل الحقّ فيه إلى الضّمان .
ج - الضّمان :
11 - إذا تلف المبيع في يد المشتري ، فالصّحيح عند الحنفيّة ، وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة : أنّه يلزمه ضمانه بالمثل في المثليّ والقيمة في المتقوّم .
والقيمة عند الشّافعيّة تقدّر بأقصى القيم في المتقوّم من وقت القبض إلى وقت التّلف ، وفي وجه تعتبر قيمته يوم التّلف ، وفي وجه يوم القبض .
وعند الحنابلة تعتبر القيمة يوم تلف ببلد قبضه فيه ، قاله القاضي ، ونصّ أحمد عليه في الغصب ، ولأنّه قبضه بإذن مالكه فأشبه العاريّة ، وذكر الخرقيّ في الغصب : أنّه يلزمه قيمته أكثر ما كانت ، فيخرج هاهنا كذلك ، وهو أولى ، لأنّ العين كانت على ملك صاحبها في حال زيادتها ، وعليه ضمان نقصها مع زيادتها ، فكذلك في حال تلفها .
وللمالكيّة تفصيل في ذلك ، يقولون : إن فات المبيع بيد المشتري مضى المختلف فيه - ولو كان الخلاف خارج المذهب المالكيّ - بالثّمن الّذي وقع به البيع ، وإن لم يكن مختلفاً فيه - بل متّفقاً على فساده - ضمن المشتري قيمته إن كان مقوّماً حين القبض ، وضمن مثل المثليّ إذا بيع كيلاً أو وزناً ، وعلم كيله أو وزنه ، ولم يتعذّر وجوده ، وإلاّ ضمن قيمته يوم القضاء عليه بالرّدّ . وللحنفيّة رأي آخر ، وهو : أنّ المبيع يكون أمانةً عند المشتري ، لا يضمن إلاّ بالتّعدّي أو التّفريط في الحفظ ، لأنّه مال قبضه بإذن صاحبه في عقد وجد صورةً لا معنًى ، فالتحق بالعدم وبقي إذنه بالقبض .
د - تجزّؤ البيع الباطل :
12 - المراد بتجزّؤ البيع الباطل : أن يشتمل البيع على ما يجوز بيعه وما لا يجوز بيعه صفقةً واحدةً ، فيكون في شقّ منه صحيحاً وفي الشّقّ الآخر باطلاً ، ومن القواعد الفقهيّة : إذا اجتمع الحلال والحرام غلّب الحرام . وأدخل الفقهاء تحت هذه القاعدة ما يسمّى بتفريق الصّفقة ، وهو الجمع بين ما يجوز وما لا يجوز في عقد واحد .
وعقد البيع إذا كان في شقّ منه صحيحاً ، وفي الشّقّ الآخر باطلاً ، كالجمع بين العصير والخمر ، أو بين المذكّاة والميتة ، وبيع ذلك صفقةً واحدةً ، فالصّفقة كلّها باطلة ، وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة - عدا ابن القصّار منهم - وهو أحد قولي الشّافعيّة ( وادّعى الإسنويّ في كتاب المهمّات أنّه المذهب ) وهو رواية عن الإمام أحمد ، وذلك لأنّه متى بطل العقد في البعض بطل في الكلّ ، لأنّ الصّفقة غير متجزّئة ، أو لتغليب الحرام على الحلال عند اجتماعها ، أو لجهالة الثّمن .
والقول الأظهر للشّافعيّة ، والرّواية الثّانية عن الإمام أحمد ، وهو قول ابن القصّار من المالكيّة : أنّه يجوز تجزئة الصّفقة ، فيصحّ البيع فيما يجوز ، ويبطل فيما لا يجوز ، لأنّ الإبطال في الكلّ لبطلان أحدهما ليس بأولى من تصحيح الكلّ لصحّة أحدهما ، فيبقيان على حكمهما ، ويصحّ فيما يجوز ، ويبطل فيما لا يجوز .
وقال أبو يوسف ومحمّد بن الحسن : إن عيّن ابتداءً لكلّ شقّ حصّته من الثّمن ، فعند ذلك تعتبر الصّفقة صفقتين مستقلّتين تجوز فيهما التّجزئة ، فتصحّ واحدة وتبطل الأخرى .
وهذه إحدى صور تفريق الصّفقة .
والصّورة الثّانية : أن يكون العقد في شقّ منه صحيحاً ، وفي الشّقّ الآخر موقوفاً ، كالجمع بين داره ودار غيره ، وبيعهما صفقةً واحدةً ، فإنّ البيع يصحّ فيهما ، ويلزم في ملكه ، ويوقف اللّزوم في ملك الغير على إجازته ، وهذا عند المالكيّة والحنفيّة عدا زفر ، وهو مبنيّ عند الحنفيّة على قاعدة عدم جواز البيع بالحصّة ابتداءً ، وجواز ذلك بقاءً . وعند زفر : يبطل الجميع ، لأنّ العقد وقع على المجموع ، والمجموع لا يتجزّأ . وعند الشّافعيّة والحنابلة : يجري الخلاف السّابق في الصّورة الأولى ، لأنّ العقد الموقوف عندهم باطل في الأصل . والصّورة الثّالثة ذكرها ابن قدامة ، وهي : أن يبيع معلوماً ومجهولاً ، كقوله : بعتك هذه الفرس وما في بطن هذه الفرس الأخرى بألف ، فهذا البيع باطل بكلّ حال .
قال ابن قدامة : ولا أعلم في بطلانه خلافاً .
هـ - تصحيح البيع الباطل :
13 - تصحيح البيع الباطل يمكن تصويره بصورتين .
الأولى : إذا ارتفع ما يبطل العقد ، فهل ينقلب البيع صحيحاً ؟
الثّانية : إذا كانت صيغة البيع الباطل تؤدّي إلى معنى عقد آخر صحيح ، فهل يتحوّل البيع الباطل إلى عقد آخر صحيح ؟ وبيان ذلك فيما يلي :
أمّا الصّورة الأولى : فإنّ الحنفيّة يفرّقون بين البيع الباطل والبيع الفاسد ، فيصحّ عندهم في الجملة تصحيح البيع الفاسد بارتفاع المفسد دون الباطل ، ويعلّلون ذلك بأنّ ارتفاع المفسد في الفاسد يردّه صحيحاً ، لأنّ البيع قائم مع الفساد ، ومع البطلان لم يكن قائماً بصفة البطلان ، بل معدوماً . وعلى ذلك لا يجوز بيع الدّقيق في الحنطة ، والزّيت في الزّيتون ، واللّبن في الضّرع ، والبزر في البطّيخ ، والنّوى في التّمر ، لأنّه معدوم حتّى لو سلّم البائع للمشتري اللّبن ، أو الدّقيق ، أو العصير ، لا ينقلب صحيحاً ، لأنّ المعقود عليه معدوم حالة العقد ، ولا يتصوّر انعقاد العقد بدونه ، فلم ينعقد أصلاً ، فلا يحتمل النّفاذ .
14 - أمّا الجمهور- وهم لا يفرّقون بين البيع الفاسد والباطل - فالحكم عندهم أنّ البيع الباطل لا ينقلب صحيحاً برفع المفسد . ففي كتب الشّافعيّة : لو حذف العاقدان المفسد للعقد ، ولو في مجلس الخيار ، لم ينقلب العقد صحيحاً ، إذ لا عبرة بالفاسد .
وفي المغني لابن قدامة : لو باعه بشرط أن يسلّفه أو يقرضه ، أو شرط المشتري ذلك عليه ، فهو محرّم ، والبيع باطل ، لما روى عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ قال : « لا يحلّ سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك » . ولأنّه اشترط عقداً في عقد ففسد ، كبيعتين في بيعة ، ولأنّه إذا اشترط القرض زاد في الثّمن لأجله ، فتصير الزّيادة في الثّمن عوضاً عن القرض وربحاً له ، وذلك رباً محرّم ، ففسد كما لو صرّح به ، ولأنّه بيع فاسد فلا يعود صحيحاً ، كما لو باع درهماً بدرهمين ثمّ ترك أحدهما . وفي شرح منتهى الإرادات : من باع بشرط ضمان دركه إلاّ من زيد لم يصحّ بيعه له ، لأنّ استثناء زيد من ضمان دركه يدلّ على حقّ له في المبيع ، لأنّه لم يأذن له في بيعه فيكون باطلاً ، ثمّ إن ضمن دركه منه أيضاً لم يعدّ البيع صحيحاً ، لأنّ الفاسد لا ينقلب صحيحاً . والأصل عند المالكيّة أنّ كلّ شرط يناقض مقتضى العقد كبيع الثّنيا ( بيع الوفاء ) - وهو أن يبتاع السّلعة على أنّ البائع متى ردّ الثّمن فالسّلعة له - وكذا كلّ شرط يخلّ بقدر الثّمن كبيع وشرط سلفاً ، فإنّ العقد يكون فاسداً .
لكن يصحّ البيع إن حذف شرط السّلف ، وكذا كلّ شرط يناقض المقصود ، إلاّ بعض الشّروط فلا يصحّ البيع معها ، ولو حذف الشّرط وهي :
- 1 - من ابتاع سلعةً بثمن مؤجّل على أنّه إن مات فالثّمن صدقة عليه ، فإنّه يفسخ البيع ولو أسقط هذا الشّرط ، لأنّه غرر ، وكذا لو شرط : إن مات فلا يطالب البائع ورثته بالثّمن . - 2 - شرط الثّنيا يفسد البيع ولو أسقط الشّرط ، وهو المشهور .
- 3 - شرط النّقد في بيع الخيار : قال ابن الحاجب : لو أسقط شرط النّقد فلا يصحّ .
أمّا الشّرط الّذي يؤدّي إلى الإخلال بشرط من شروط الصّحّة فهذا يوجب الفسخ ، وليس للعاقدين إمضاؤه .
15 - ومناط المسألة عند الفقهاء فيما سبق كما قال ابن رشد هو : هل إذا لحق الفساد بالبيع من قبل الشّرط يرتفع الفساد إذا ارتفع الشّرط أم لا يرتفع الفساد ؟ كما لا يرتفع الفساد اللاحق للبيع الحلال من أجل اقتران المحرّم العين به ؟ كمن باع فرساً بمائة دينار وزقّ خمر ، فلمّا عقد البيع قال : أدع الزّقّ ، وهذا البيع مفسوخ عند العلماء بإجماع .
وهذا أيضاً ينبني على أصل آخر . وهو : هل هذا الفساد حكميّ ( تعبّديّ ) أو معقول ؟ فإن قلنا : حكميّ ، لم يرتفع بارتفاع الشّرط . وإن قلنا : معقول ، ارتفع بارتفاع الشّرط .
فمالك رآه معقولاً ، والجمهور رأوه غير معقول .
والفساد الّذي يوجد في بيوع الرّبا والغرر أكثره حكميّ ، ولذلك لا ينعقد عندهم أصلاً ، وإن ترك الرّبا بعد البيع أو ارتفع الغرر .
16 - أمّا الصّورة الثّانية ، وهي تحوّل البيع الباطل إلى عقد آخر صحيح ، فهذا يرجع إلى اختلاف الفقهاء في قاعدة " العبرة بصيغ العقود أو معانيها " .
يقول السّيوطيّ : هل العبرة بصيغ العقود أو معانيها ؟ خلاف ، والتّرجيح مختلف في الفروع . ومن ذلك : لو باع المبيع للبائع قبل قبضه بمثل الثّمن الأوّل ، فهو إقالة بلفظ البيع ، وخرّجه السّبكيّ على القاعدة ، والتّخريج للقاضي حسين . قال : إن اعتبرنا اللّفظ لم يصحّ ، وإن اعتبرنا المعنى فإقالة ، وهو بيع فاسد لأنّه وقع على المبيع قبل أن يقبض ، ولكنّه مع ذلك يتحوّل إلى إقالة صحيحة ، إذ يشتمل العقد على جميع عناصر الإقالة .
وفي الأشباه لابن نجيم : الاعتبار للمعنى لا للألفاظ ، صرّحوا به في مواضع .
وفي درر الحكّام : العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني ، ولذا يجري حكم الرّهن في بيع الوفاء .
وفي مذهب مالك : أنّ من باع عقاراً أو غيره وشرط على المبتاع أن لا يبيعه ولا يهبه حتّى يعطيه الثّمن فلا بأس بهذا ، لأنّه بمنزلة الرّهن إذا كان إعطاء الثّمن لأجل مسمًّى .
وهكذا يجري حكم تحوّل البيع الباطل إلى عقد آخر صحيح ضمن القاعدة الّتي سبق ذكرها .
بيع التّلجئة *
التّعريف :
1 - يعرّف بعض الحنفيّة بيع التّلجئة بأنّه : عقد ينشئه لضرورة أمر فيصير كالمدفوع إليه . وعرّفه صاحب الإنصاف بقوله : هو أن يظهرا بيعاً لم يريداه باطناً بل خوفاً من ظالم ( ونحوه ) دفعاً له . وسمّاه الشّافعيّة بيع الأمانة ، وصورته كما ذكر النّوويّ في المجموع أن يتّفقا على أن يظهرا العقد ، إمّا للخوف من ظالم ونحوه ، وإمّا لغير ذلك ، ويتّفقا على أنّهما إذا أظهراه لا يكون بيعاً ، ثمّ يعقد البيع .
وأمّا التّلجئة الّتي أضيف هذا البيع إليها فترد في اللّغة بمعنى : الإكراه والاضطرار .
وأمّا في الاصطلاح : فيرجع معناها إلى معنى الإلجاء ، وهو الإكراه التّامّ أو الملجئ ، ومعناه كما يفهم من حاشية ابن عابدين أن يهدّد شخص غيره بإتلاف نفس أو عضو أو ضرب مبرّح إذا لم يفعل ما يطلبه منه .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - بيع الوفاء :
2 - صورته أن يبيعه العين بألف على أنّه إذا ردّ عليه الثّمن ردّ عليه العين فيتّفق بيع التّلجئة وبيع الوفاء في عدم إرادة حقيقة البيع ، ويختلفان في أنّ بيع الوفاء يئول إلى رهن أو بيع وشرط ظاهر ، أمّا بيع التّلجئة فالاتّفاق على عدم إرادة البيع مضمر بينهما وليس هناك بيع أصلاً . هذا ، والفرق بين بيع التّلجئة وبيع الوفاء : أنّ المتعاقدين في بيع التّلجئة يتّفقان على أن يظهرا العقد إمّا خوفاً من ظالم ونحوه وإمّا لغير ذلك ، ويتّفقان أيضاً على أنّهما إذا أظهراه لا يكون بيعاً ، وأمّا في بيع الوفاء فإنّهما يتّفقان على أن يبيعه العين بثمن معيّن ، ويتّفقان أيضاً على أنّ البائع إذا أحضر الثّمن فإنّه يستردّ المبيع ، فبيع الوفاء في حقيقته رهن بلفظ البيع أو قرض إلى أجل بلفظ البيع ، فاشتراط التّلجئة فيه تفسده .
ب - بيع المكره :
3 - المراد ببيع المكره حمل البائع على البيع بغير اختياره ، إذ الإكراه في اللّغة معناه : حمل الإنسان على شيء يكرهه .
وفي الشّرع : فعل يوجد من المكره فيحدث في المحلّ معنًى يصير به مدفوعاً إلى الفعل الّذي طلب منه . والفرق بين بيع التّلجئة وبيع المكره : أنّ بيع التّلجئة بيع في الظّاهر فقط لا في الحقيقة ، وأمّا بيع المكره فإنّه بيع حقيقيّ ، مع الاختلاف في حكمه فساداً ووقفاً .
ج - بيع الهازل :
4 - الهازل في البيع : هو الّذي يتكلّم بكلام البيع لا على إرادة حقيقته .
والهزل : هو أن لا يراد باللّفظ معناه ، لا الحقيقيّ ولا المجازيّ ، وهو ضدّ الجدّ ، وهو أن يراد بالشّيء ما وضع له .
والفرق بين بيع التّلجئة وبيع الهازل : أنّ بيع التّلجئة وإن كان الدّافع إليه في الغالب هو الإكراه إلاّ أنّه في حقيقته هو بيع الهازل ، لأنّ البائع في بيع التّلجئة تلفّظ بصيغة البيع ، وهو في الحقيقة لا يريد البيع ، ولهذا ذكر صاحب البدائع أنّه يشبه بيع الهازل .
إذ الهزل ينافي اختيار الحكم والرّضى به ولا ينافي الرّضى بالمباشرة واختيارها ، فصار بمعنى خيار الشّرط في البيع .
التّلجئة في غير البيع :
5 - تكون التّلجئة في النّكاح ، كما إذا خطب من هو قاهر لشخص بعض بناته ، فأنكحه المخطوب إليه ، وأشهد شهود الاسترعاء سرّاً : أنّي إنّما أفعله خوفاً منه ، وهو ممّن يخاف عداوته ، وأنّه إن شاء اختارها لنفسه بغير نكاح ، فأنكحه على ذلك فهو نكاح مفسوخ أبداً . وتجري التّلجئة أيضاً في التّحبيس ( الوقف ) والطّلاق والهبة وغيرها ، من كلّ تطوّع .
أقسام بيع التّلجئة :
6 - بيع التّلجئة ينقسم إلى قسمين : قسم تكون التّلجئة فيه في نفس البيع ، وقسم تكون التّلجئة فيه في الثّمن . وكلّ قسم من هذين القسمين على ضربين ، لأنّ التّلجئة إن كانت في نفس البيع فإنّها إمّا أن تكون في إنشاء البيع ، وإمّا أن تكون في الإقرار به . وإن كانت في الثّمن فإنّها إمّا أن تكون في قدره ، وإمّا أن تكون في جنسه .
القسم الأوّل : أن تكون التّلجئة في نفس البيع .
وهو على ضربين :
الضّرب الأوّل : بيع تكون التّلجئة في إنشائه :
7 - وذلك بأن يتواضعا في السّرّ لأمر ألجأهما إليه : على أن يظهرا البيع ولا بيع بينهما حقيقةً ، وإنّما هو رياء وسمعة . نحو أن يخاف رجل السّلطان ، فيقول لآخر : إنّي أظهر أنّي بعت منك داري ، وليس ببيع في الحقيقة ، وإنّما هو تلجئة ، فتبايعا ، ففيه ثلاثة أقوال من حيث الجواز والبطلان .
أحدهما : أنّ البيع باطل في ظاهر الرّواية عن أبي حنيفة ، وهو قول أبي يوسف ومحمّد . وهو الوجه الصّحيح والمشهور عند الحنابلة ، واختاره القاضي وغيره .
وذكر البهوتيّ : أنّه باطل قولاً واحداً ، حيث تواطآ عليه .
ووجه القول بالبطلان : أنّ المتبايعين تكلّما بصيغة البيع لا على قصد الحقيقة وهو تفسير الهزل ، والهزل يمنع جواز البيع ، لأنّه يعدم الرّضا بمباشرة السّبب ، فلم يكن هذا بيعاً منعقداً في حقّ الحكم . وكذلك دلالة الحال على أنّهما في مثل هذا البيع لا يريدان البيع ، وإن لم يقولا في العقد تبايعنا هذا تلجئة .
ثانيهما : أنّ البيع جائز ، ورواه أبو يوسف عن أبي حنيفة ، وهو أيضاً ما ذهب إليه الشّافعيّة ، وكذا الحنابلة على الوجه الثّاني عندهم .
ووجه هذا القول هو أنّه لا عبرة بما اتّفقا عليه في السّرّ ، وإنّما العبرة بالعقد الّذي أظهراه ، ولأنّ ما شرطاه في السّرّ لم يذكراه في العقد ، وإنّما عقدا عقداً صحيحاً بشرائطه ، فلا يؤثّر فيه ما تقدّم من الشّرط ، كما إذا اتّفقا على أن يشترطا شرطاً فاسداً عند البيع ، ثمّ باعا من غير شرط .
ثالثهما : وهو المرويّ عن محمّد أنّ البيع جائز ( غير لازم ) ويلزم إن أجازاه معاً ، لأنّ الحكم ببطلان هذا البيع لمكان الضّرورة ، فلو اعتبرنا وجود الشّرط عند البيع لا تندفع الضّرورة ، ولو أجاز أحدهما دون الآخر لم يجز ، وإن أجازاه جاز ، لأنّ الشّرط السّابق وهو المواضعة ( التّواطؤ ) منعت انعقاد العقد في حقّ الحكم ، فكان بمنزلة شرط خيار المتبايعين ، فلا يصحّ إلاّ بتراضيهما ، ولا يملكه المشتري بالقبض .
وفي بيع التّلجئة لم يوجد الرّضا بمباشرة السّبب في الجانبين أصلاً ، فلم ينعقد السّبب في حقّ الحكم ، فتوقّف على أحدهما ، فأشبه البيع بشرط خيار المتبايعين .
8- هذا ويتفرّع على القول ببطلان هذا البيع : أنّ المتبايعين إذا اختلفا ، فادّعى أحدهما التّلجئة ، وأنكر الآخر ، وزعم أنّ البيع بيع رغبة ، فالقول قول منكر التّلجئة ، لأنّ الظّاهر شاهد له ، فكان القول قوله مع يمينه على ما يدّعيه صاحبه من التّلجئة إذا طلب الثّمن . وإن أقام المدّعي البيّنة على التّلجئة تقبل بيّنته ، لأنّه أثبت الشّرط بالبيّنة ، فتقبل بيّنته ، كما لو أثبت الخيار بالبيّنة . وأمّا على القول بجوازه فلا تؤثّر هذه الدّعوى ، لأنّها - وإن صحّت - لا تؤثّر في البيع الظّاهر . أمّا إذا اتّفقا على التّلجئة ، ثمّ قالا عند البيع : كلّ شرط كان بيننا فهو باطل تبطل التّلجئة ويجوز البيع ، لأنّه شرط فاسد زائد ، فاحتمل السّقوط بالإسقاط ، ومتى سقط صار العقد جائزاً .
الضّرب الثّاني : بيع تكون التّلجئة في الإقرار به .
9- التّلجئة إذا كانت في الإقرار بالبيع ، بأن اتّفقا على أن يقرّا ببيع لم يكن ، فأقرّا بذلك ، ثمّ اتّفقا على أنّه لم يكن ، فالبيع باطل كما ذكر صاحب البدائع ، ولا يجوز بإجازتهما ، لأنّ الإقرار إخبار ، وصحّة الإخبار هي بثبوت المخبر به حال وجود الإخبار ، فإن كان ثابتاً كان الإخبار صدقاً وإلاّ فيكون كذباً ، والمخبر به هاهنا - وهو البيع - ليس بثابت ، فلا يحتمل الإجازة ، لأنّها تلحق الموجود لا المعدوم .
القسم الثّاني : بيع تكون التّلجئة فيه في الثّمن أو البدل :
وهو أيضاً على ضربين .
10 - الضّرب الأوّل : بيع تكون التّلجئة فيه في قدر الثّمن .
ومثاله أن يتواضعا في السّرّ والباطن على أنّ الثّمن ألف ، ثمّ يتبايعا في الظّاهر بألفين ، فهل العبرة في مثل هذا البيع بالظّاهر أو الباطن ؟ اختلف الفقهاء في ذلك على قولين : أحدهما : أنّ العبرة بالظّاهر ، أي بما تعاقدا عليه ، وهو الثّمن المعلن .
ذهب إلى ذلك أبو حنيفة فيما رواه عنه أبو يوسف . وهو ما ذهب إليه الشّافعيّة ، وهو أظهر الوجهين عند الحنابلة ، وقطع به القاضي .
ثانيهما : أنّ العبرة بالباطن ، أي بما اتّفقا عليه سرّاً ، وهذا القول رواه محمّد في الإملاء من غير خلاف ، وهو قول أبي يوسف أيضاً . وهو أيضاً ما ذهب إليه الحنابلة على أحد الوجهين عندهم ، وهو مذهب المالكيّة على ما نصّوا عليه في مهر السّرّ ومهر العلانية . ووجه القول بأنّ الثّمن هو الثّمن المعلن : هو أنّ المذكور في العقد هو الّذي يصحّ العقد به ، وما ذكراه سرّاً لم يذكراه حالة العقد ، فسقط حكمه ، وأيضاً فإنّ الاتّفاق السّابق ملغًى ، بدليل أنّهما لو اتّفقا على شرط فاسد ثمّ عقدا بلا شرط صحّ العقد .
ووجه القول بأنّ الثّمن هو ثمن السّرّ : هو أنّهما اتّفقا على أنّهما لم يقصدا الألف الزّائدة ، فكأنّهما هزلا بها . أي فلا تضمّ إلى الثّمن ، ويبقى الثّمن هو الثّمن الّذي اتّفقا عليه في السّرّ ، وهذا عند الحنفيّة والحنابلة القائلين بفساد بيع الهازل .
وأمّا عند الشّافعيّة القائلين بصحّته - في أصحّ الوجهين - فتضمّ إلى الثّمن . هذا ، ويفهم ممّا ذكره صاحب البدائع من أنّ المعتبر هل هو ثمن السّرّ أو الثّمن المعلن ، أنّ محلّه إن قالا عند المواضعة : إنّ أحد الألفين المعلنين رياء وسمعة ، أمّا إذا لم يقولا ذلك عند المواضعة فالثّمن ما تعاقدا عليه ، لأنّ الثّمن اسم للمذكور عند العقد ، والمذكور عند العقد ألفان .
11 - الضّرب الثّاني : بيع تكون فيه التّلجئة في جنس الثّمن .
ومثال ذلك : أن يتّفقا في السّرّ على أنّ الثّمن ألف درهم ، ثمّ يظهرا البيع بمائة دينار ، فهل يبطل هذا البيع أو يصحّ بالثّمن المعلن ؟
ذهب محمّد إلى أنّ هذا البيع يبطل قياساً ، ويصحّ استحساناً ، أي بالثّمن المعلن .
ومحلّه - كما جاء في البدائع - إن قالا عند المواضعة : إنّ الثّمن المعلن رياء وسمعة ، فإن لم يقولا ذلك فالثّمن ما تعاقدا عليه ، لأنّ الثّمن اسم للمذكور عند العقد ، والمذكور عند العقد إنّما هو مائة دينار .
ووجه بطلان هذا البيع على القياس : هو أنّ ثمن السّرّ لم يذكراه في العقد ، وثمن العلانية لم يقصداه فقد هزلا به ، فسقط وبقي بيعاً بلا ثمن فلا يصحّ .
ووجه صحّته استحساناً : هو أنّهما لم يقصدا بيعاً باطلاً بل بيعاً صحيحاً ، فيجب حمله على الصّحّة ما أمكن ، ولا يمكن حمله على الصّحّة إلاّ بثمن العلانية ، فكأنّهما انصرفا عمّا شرطاه في الباطن ، فتعلّق الحكم بالظّاهر ، كما لو اتّفقا على أن يبيعاه بيع تلجئة فتواهبا ، بخلاف الألف والألفين ، لأنّ الثّمن المذكور المشروط في السّرّ مذكور في العقد وزيادة ، فتعلّق العقد به .
12 - هذا وذكر صاحب البدائع أيضاً أنّ هذا كلّه إذا اتّفقا في السّرّ ولم يتعاقدا في السّرّ ، أمّا إذا اتّفقا في السّرّ وتعاقدا أيضاً في السّرّ بثمن ، ثمّ تواضعا على أن يظهرا العقد بأكثر منه أو بجنس آخر ، فإن لم يقولا : إنّ العقد الثّاني رياء وسمعة فالعقد الثّاني يرفع العقد الأوّل ، والثّمن هو المذكور في العقد الثّاني ، لأنّ البيع يحتمل الفسخ والإقالة ، فشروعهما في العقد الثّاني إبطال للأوّل ، فبطل الأوّل وانعقد الثّاني بما سمّي عنده . وإن قالا : رياء وسمعة ، فإن كان الثّمن من جنس آخر فالعقد هو العقد الأوّل ، لأنّهما لمّا ذكرا الرّياء والسّمعة فقد أبطلا المسمّى في العقد الثّاني ، فلم يصحّ العقد الثّاني ، فبقي العقد الأوّل .
وإن كان من جنس الأوّل فالعقد هو العقد الثّاني ، لأنّ البيع يحتمل الفسخ ، فكان العقد هو العقد الثّاني لكن بالثّمن الأوّل ، والزّيادة باطلة لأنّهما أبطلاها حيث هزلا بها .
13 - وأمّا الشّافعيّة فإنّ البيع يصحّ عندهم بالثّمن المعلن ، ولا أثر للاتّفاق السّابق لأنّه ملغًى ، فصار كما لو اتّفقا على شرط فاسد ، ثمّ تبايعا بلا شرط .
14 - وأمّا الحنابلة ، فقد جاء في الفروع في كتاب الصّداق : أنّهما لو اتّفقا قبل البيع على ثمن ، ثمّ عقدا البيع بثمن آخر أنّ فيه وجهين :
أحدهما : أنّ الثّمن ما اتّفقا عليه . والثّاني : ما وقع عليه العقد كالنّكاح .
15 - وأمّا المالكيّة ، فإنّهم لم يصرّحوا في كتبهم ببيع التّلجئة كغيرهم ، وإنّما ذكروا بيع المكره والمضغوط وبيع الهازل ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك ، لكنّهم تكلّموا عن عقد النّكاح وتسمية مهر للسّرّ ومهر للعلانية ، وبيّنوا أنّ العمل بمهر السّرّ إذا كانت هناك بيّنة تشهد على أنّ مهر العلن لا عبرة به ، وإنّما ذكر للأبّهة والفخر . فإذا لم تكن هناك بيّنة واتّفق الزّوجان على مهر السّرّ عمل به ، فإن اختلفا حلّفت الزّوجة الزّوج إن ادّعت الرّجوع عن صداق السّرّ القليل إلى صداق العلانية الكثير ، فإن حلف عمل بصداق السّرّ ، وإن نكل حلفت الزّوجة على الرّجوع وعمل بصداق العلانية ، فإن نكلت عمل بصداق السّرّ .
16 - هذا ، وذكر صاحب التّبصرة في القضاء بشهادة الاسترعاء : أنّ الاسترعاء في البيوع لا يجوز ، مثل أن يشهد قبل البيع أنّه راجع في البيع ، وأنّ بيعه لأمر يتوقّعه ، لأنّ المبايعة خلاف ما يتطوّع به ، وقد أخذ البائع فيه ثمناً وفي ذلك حقّ للمبتاع ، إلاّ أن يعرف الشّهود الإكراه على البيع والإخافة ، فيجوز الاسترعاء إذا انعقد قبل البيع ، وتضمّن العقد شهادة من يعرف الإخافة والتّوقّع الّذي ذكره . وهذا يفيد أنّ المكره على البيع لأمر يتوقّعه أو يخافه لا يلزمه البيع عند المالكيّة ، بل له أن يرجع فيه حتّى بعد أن يقبض الثّمن ، ما دام شهود الاسترعاء قد عرفوا الإكراه على البيع وسبب الإخافة .
أثر الاختلاف بين البائع والمشتري :
17 - لو ادّعى أحدهما بيع التّلجئة ، وأنكر الآخر ، فإن جاء مدّعي التّلجئة ببيّنة قبلت ، وإلاّ فالقول لمدّعي الأصل وهو عدم التّلجئة بيمينه . ولو قدّم كلّ منهما بيّنةً قدّمت بيّنة مدّعي التّلجئة ، لأنّه يثبت خلاف الظّاهر .
ولو تبايعا في العلانية ، فإن اعترفا ببنائه على التّلجئة ، فالبيع في العلانية باطل باتّفاقهما على أنّهما هزلا به ، وإلاّ فالبيع لازم . وهذا بناءً على ما ذهب إليه القائلون بصحّة بيع السّرّ وبطلان البيع المعلن ، وهم أبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة ، والمفهوم من مذهب المالكيّة .
أمّا من ذهب إلى صحّة البيع الثّاني وبطلان الاتّفاق المسبق في السّرّ ، فلا ترد هذه التّفصيلات عندهم ، وهم أبو حنيفة والشّافعيّة والقاضي من الحنابلة .
هذا من حيث الجملة ، وتنظر تفصيلات المسألة والخلاف فيها في مباحث البيع والدّعوى .
بيع التّولية *
انظر : تولية .
بيع الثّنيّة *
انظر : بيع الوفاء .
البيع الجبريّ *
تعريفه :
1 - البيع الجبريّ مركّب من لفظين : " البيع " و"الجبريّ " فالبيع مبادلة مال بمال على وجه مخصوص . والجبريّ : من جبره على الأمر جبراً : حمله عليه قهراً .
فالبيع الجبريّ في استعمال الفقهاء هو : البيع الحاصل من مكره بحقّ ، أو البيع عليه نيابةً عنه ، لإيفاء حقّ وجب عليه ، أو لدفع ضرر ، أو تحقيق مصلحة عامّة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإكراه على البيع :
2 - الإكراه في اللّغة : حمل الإنسان على أمر بغير اختياره .
وفي الشّرع : فعل يوجده المكرِه فيدفع المكرَه إلى ما طلب منه .
فالفرق بينه وبين البيع الجبريّ : أنّ البيع الجبريّ لا يكون إلاّ بحقّ ، أمّا البيع بالإكراه فهو في الأصل أعمّ ، لكنّ الغالب إطلاقه على الإكراه بلا حقّ .
ب - بيع التّلجئة :
3 - بيع التّلجئة في اصطلاح الفقهاء : أن يظهرا عقداً وهما لا يريدانه ، يلجأ إليه صاحب المال خوفاً من عدوّ أو سلطان جائر .
فالفرق بينه وبين البيع الجبريّ أنّ بيع التّلجئة فيه صورة البيع لا حقيقته .
حكمه التّكليفيّ :
4 - يختلف حكم البيع الجبريّ باختلاف سببه ، فإن كان لإيفاء حقّ ، كبيع ماله لإيفاء دين حالّ ، وبطلب صاحب الحقّ فهو واجب ، وكذا إذا كان لمصلحة عامّة ، كتوسعة المسجد الّذي ضاق على المصلّين ، أو الطّريق العامّ .
ويقوم البيع في الفقه الإسلاميّ - كسائر العقود القوليّة - على التّراضي الحرّ على إنشائه من الجانبين لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تأْكلوا أموالَكم بَيْنَكم بالباطلِ إلاّ أنْ تكونَ تِجَارةً عن تَرَاضٍ منكم } وخبر : « إنّما البيعُ عن تَرَاض » ولا يقرّ الفقهاء بيعاً لم يقم على التّراضي من الجانبين : البائع والمشتري ، إلاّ ما توجبه المصلحة العامّة لإحقاق حقّ ، أو تحقيق مصلحة عامّة ، أو دفع ضرر خاصّ أو عامّ ، وهو ما يسمّى في عرفهم : الإكراه المشروع ، أو الإكراه بحقّ . ومنها : العقود الجبريّة الّتي يجريها الحاكم ، إمّا مباشرةً نيابةً عمّن يجب عليه إجراؤها ، إذا امتنع عنها ، أو يجبر هو على إجرائها .
ويذكر الفقهاء أمثلةً للجبر المشروع على البيع منها :
إجبار المدين على بيع ماله :
5 - يجبر المدين على بيع ماله لإيفاء دين حالّ ، إذا امتنع عن أدائه وله مال ظاهر ، فيجبره الحاكم على وفاء الدّين بالتّعزير عليه بالحبس أو الضّرب ، فإن أصرّ على الامتناع قضى الحاكم الدّين من ماله جبراً عليه ، إذا كان له مال ظاهر من جنس الدّين .
هذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء . أمّا إذا كان ماله من غير جنس الدّين كالعقار والعروض ، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الإمام يبيع ماله عليه جبراً نيابةً عنه .
وعند الإمام أبي حنيفة ، لا يبيع الحاكم ماله عليه ، بل يحبسه حتّى يقوم بإيفاء الدّين ببيع ماله أو غيره ، لأنّ ولاية الحاكم - في نظر الإمام - على من عليه الدّين ، لا على ماله ، فلم ينفذ بيعه في ماله بغير إذنه ، ولأنّ البيع تجارة ولا يصحّ إلاّ بتراض ، وفيه أيضاً نوع من الحجر الّذي لا يجيزه أبو حنيفة . وقد خالفه صاحباه في ذلك ، فأجازا بيع الحاكم ماله لوفاء دينه بيعاً جبريّاً ، ورأيهما هو المفتى به في المذهب .
بيع المرهون :
6 - إذا رهن عيناً بدين حالّ أو مؤجّل ، وحلّ الأجل ، وامتنع المدين عن أداء الدّين أجبره الحاكم على بيع المرهون ، أو باع عليه نيابةً عنه ، لأنّه حقّ وجب عليه ، فإذا امتنع عن أدائه قام الحاكم مقامه في أدائه ، كالإيفاء في جنس الدّين . وللتّفصيل ر : ( رهن ) . وقال الإمام أبو حنيفة : لا يبيع عرضه ولا عقاره ، بل يحبسه حتّى يرضى ببيع ماله أو بغيره .
جبر المحتكر :
7 - إذا كان عند إنسان طعام فاضل عن حاجته ، يحتاج إليه النّاس وامتنع عن بيعه لهم ، أجبره الحاكم على بيعه دفعاً للضّرر . وللتّفصيل ر : ( احتكار ) .
الجبر على البيع للنّفقة الواجبة :
8 - إذا امتنع المكلّف عن الإنفاق على من تجب عليه نفقته كالزّوجة والأولاد والأبوين ، ولم يعرف له نقد ظاهر باع الحاكم عروضه أو عقاره للإنفاق عليهم .
وينظر التّفصيل في ( النّفقة ) .
الأخذ بالشّفعة جبراً :
9 - الشّفعة حقّ منحه الشّرع للشّريك القديم ، أو الجار الملاصق ، فيتملّك الشّقص المبيع عن مشتريه بما قام عليه من الثّمن والتّكاليف جبراً عليه .
وللتّفصيل انظر مصطلح ( شفعة ) .
بيع الجزاف *
التّعريف :
1 - الجزاف اسم من جازف مجازفةً من باب قاتل ، والجُزاف بالضّمّ خارج عن القياس والقياس بكسر الجيم . وهو في اللّغة من الجزف ، أي الأخذ بكثرة ، وجزف في الكيل جزفاً : أكثر منه . ويقال لمن يرسل كلامه إرسالاً من غير قانون : جازف في كلامه ، فأقيم نهج الصّواب في الكلام مقام الكيل والوزن . وبيع الجزاف اصطلاحاً : هو بيع ما يكال ، أو يوزن ، أو يُعَدّ ، جملةً بلا كيل ولا وزن ، ولا عدّ .
الحكم التّكليفيّ :
2 - الأصل أنّ من شرط صحّة عقد البيع أن يكون المبيع معلوماً ، ولكن لا يشترط العلم به من كلّ وجه ، بل يشترط العلم بعين المبيع وقدره وصفته ، وفي بيع الجزاف يحصل العلم بالقدر ، كبيع صبرة طعام ، دون معرفة كيلها أو وزنها ، وبيع قطيع الماشية دون معرفة عددها ، وبيع الأرض دون معرفة مساحتها ، وبيع الثّوب دون معرفة طوله .
وبيع الجزاف استثني من الأصل لحاجة النّاس واضطرارهم إليه ، بما يقتضي التّسهيل في التّعامل . قال الدّسوقيّ : الأصل في بيع الجزاف منعه ، ولكنّه خفّف فيما شقّ علمه من المعدود ، أو قلّ جهله في المكيل والموزون .
ودليله حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - « كنّا نشتري الطّعام من الرّكبان جزافاً ، فنهانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتّى ننقله من مكانه » . وفي رواية : « رأيت النّاس في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا ابتاعوا الطّعام جزافاً يضربون في أن يبيعوه في مكانه ، وذلك حتّى يؤووه إلى رحالهم » . وفي رواية : « يحوّلوه » وفي أخرى : أنّ عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما كان يشتري الطّعام جزافاً فيحمله إلى أهله فدلّ على أنّهم كانوا يتعاملون ببيع الجزاف ، فيكون هذا دالّاً على جوازه ، وألفاظ الرّواية تدلّ على أنّه كان في عهد الرّسول صلى الله عليه وسلم ، ممّا يفيد حكم الرّفع . ولهذا اتّفق الفقهاء على جوازه من حيث الجملة ، والأظهر عند الشّافعيّة جوازه مع الكراهة .
شروط بيع الجزاف :
3 - اشترط المالكيّة لجواز بيع الجزاف ستّة شروط :
- أ - أن يرى المبيع جزافاً حال العقد ، أو قبله إذا استمرّ على حاله إلى وقت العقد دون تغيير ، وهذا ما لم يلزم على الرّؤية فساد المبيع ، كقلال الخلّ المطيّنة يفسدها فتحها ، فيكتفى برؤيتها في مجلس العقد .
- ب - أن يجهل المتبايعان معاً قدر الكيل أو الوزن أو العدد ، فإن كان أحدهما يعلم قدرها فلا يصحّ .
- ج - أن يحزرا ويقدّرا قدره عند إرادة العقد عليه .
- د - أن تستوي الأرض الّتي يوضع عليها المبيع .
- هـ - ألا يكون ما يراد بيعه جزافاً كثيراً جدّاً ، لتعذّر تقديره . سواء كان مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً . كما يشترط ألا يقلّ جدّاً إن كان معدوداً ، لأنّه لا مشقّة في معرفة قدره بالعدّ . أمّا إن كان مكيلاً أو موزوناً فيجوز وإن قلّ جدّاً .
- و-أن يشقّ عدّه ولا تقصد أفراده بالبيع ، سواء قلّ ثمنه أو لم يقلّ كالبيض .
وإذا قصدت أفراده جاز بيعه جزافاً إن قلّ ثمنه بالنّسبة لبعضها مع بعض . ومنع من بيعه جزافاً إن لم يقلّ ثمنها كالثّياب .
أمّا إذا لم يشقّ عدّه لم يجز أن يباع جزافاً ، سواء أقصدت أفراده أم لم تقصد ، قلّ ثمنها أو لم يقلّ . وانفرد المالكيّة في تفصيل الشّروط على هذا النّحو ، وإن كان منها ما شاركهم غيرهم في اعتبارها ، كما في الشّرط الأوّل والثّاني والرّابع . كما سيأتي تفصيله .
ولبيع الجزاف صور تختلف أحكامها على التّفصيل التّالي :
بيع الصّبرة جزافاً :
4 - الصّبرة هي : الكومة المجتمعة من الطّعام ونحوه .
والصّبرة المجهولة القدر المعلومة بالرّؤية ، إمّا أن تباع بثمن إجماليّ ، وإمّا أن تباع على أساس السّعر الإفراديّ ، كما لو قال : كلّ صاع منها بكذا .
فأمّا النّوع الأوّل ، فقد قال ابن قدامة : لا نعلم في جوازه خلافاً إن كان ممّا يتساوى أجزاؤه . ويشترط عند الجميع أن لا يكون من الأموال الرّبويّة إذا بيع شيء منها بجنسه كما يأتي . وأمّا الثّاني : وهو بيع الصّبرة الّتي يجهل مقدار كيلها أو وزنها على أساس سعر وحدة الكيل أو الوزن ، فقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن وأبو يوسف من الحنفيّة : إلى جواز بيع الصّبرة الّتي يجهل عدد صيعانها مجازفةً ، بأن يقول : بعتك هذه الصّبرة من الطّعام كلّ صاع بدرهم ، لأنّ رؤية الصّبرة تكفي في تقديرها ، ولا يضرّ الجهل بجملة الثّمن ، لأنّ بالإمكان معرفته بالتّفصيل بكيل الصّبرة ، فيرتفع الغرر ، وتزول الجهالة . وذهب أبو حنيفة : إلى أنّ البيع يجوز في قفيز واحد ، ولا يجوز في الصّبرة كلّها ، إلاّ إذا عرف عدد الصّيعان ، وذلك لتعذّر صرف البيع إلى الكلّ للجهالة بالمبيع والثّمن ، فيصرف إلى الأقلّ وهو معلوم .
فإذا زالت الجهالة بتسمية جملة القفزان ، أو بأن تكال الصّبرة في مجلس العقد ، جاز بيع الصّبرة ويخرج بذلك عن أن يكون جزافاً .
تساوي موضع صبرة الطّعام عند بيعها جزافاً :
5 - لا يحلّ للبائع في بيع صبرة الطّعام جزافاً أن يضعها على موضع ينقصها ، كأن تكون على دكّة أو حجر ونحوه ، وكذلك السّمن ونحوه من المائعات الّتي تباع بوضعها في ظرف أو إناء ، فلا يجوز للبائع - إن باعها جزافاً - أن يكون الظّرف ممّا تختلف أجزاؤه رقّةً وغلظاً ، لأنّ هذا غشّ يؤدّي إلى الغرر والجهالة والنّزاع ، فلا يمكن معه تقديرها بمجرّد رؤيتها . فإذا كانت الصّبرة على دكّة أو ربوة أو حجر لينقصها سواء أقصد البائع أم لم يقصد ، فاشتراها المشتري وهو غير عالم بذلك ، فالبيع صحيح وملزم للبائع ، وللمشتري الخيار في فسخ العقد ، أو الرّجوع بالنّقص في الثّمن على البائع ، بأن تقوّم الصّبرة مغشوشةً مع وضعها على دكّة أو حجر ، وتقوّم بدون ذلك ، فما نقص من ثمنها رجع به المشتري على البائع . وإن باعه صبرة الطّعام ، وظهر أنّ تحتها حفرةً فلا خيار للمشتري ، لأنّ ذلك ينفعه ولا يضرّه ، لأنّه سيزيد في قدرها . وللبائع الخيار إن لم يعلم بالحفرة .
بيع المذروعات والمعدودات المتفاوتة جزافاً :
6 - ذهب الجمهور إلى جواز أن يباع قطيع الماشية مع الجهل بعدده ، كلّ رأس بكذا .
وأن تباع الأرض والثّوب جزافاً ، كلّ ذراع بكذا ، مع الجهل بجملة الذّرعان .
وذهب أبو حنيفة إلى عدم الجواز ، وهو قول ابن القطّان من الشّافعيّة .
والفرق بين المكيلات والموزونات ، وبين المعدودات والمذروعات : أنّ الأولى لا تتفاوت أجزاؤها في العادة تفاوتاً فاحشاً إذا فرّقت ، فتكفي رؤيتها جملةً . أمّا المعدودات والمذروعات كالماشية والأرض ، فتتفاوت أجزاؤها إذا فرّقت ، ولا تكفي رؤيتها جملةً .
البيع جزافاً مع علم أحد المتبايعين بقدر المبيع :
7 - يشترط لصحّة بيع الجزاف أن يكون المتبايعان يجهلان قدر المبيع جميعاً ، أو يعلمانه جميعاً ، ولا يجوز البيع جزافاً مع علم أحد المتعاقدين بقدر المبيع دون الآخر ، وذلك عند المالكيّة والحنابلة وفي وجه للشّافعيّة .
ووجه عدم الجواز عندهم : ما فيه من الغرر ، فإنّ بيع الجزاف جاز للضّرورة والحاجة فيما يباع تخميناً وحزراً ، فإذا عرف قدره لم يجز أن يباع جزافاً إذ لا ضرورة فيه .
ويترتّب عليه أن يردّ المشتري السّلعة الّتي اشتراها جزافاً ، إذا علم بعلم البائع بقدرها ، وللبائع فسخ العقد إذا علم بعلم المشتري بقدرها .
وعند الحنفيّة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة : أنّه يصحّ مع علم أحد المتعاقدين بمقدار المبيع . وعن أحمد رواية بكراهته وعدم تحريمه ، مراعاةً لخلاف العلماء فيه .
بيع الرّبويّ بجنسه جزافاً :
8 - لا يجوز أن يباع المال الرّبويّ بجنسه مجازفةً . لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : { الذّهب بالذّهب ، والفضّة بالفضّة ، والبرّ بالبرّ ، والشّعير بالشّعير ، والتّمر بالتّمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواءً بسواء . يداً بيد } فدلّ الحديث على أنّه لا يباع الرّبويّ بجنسه إلاّ بتحقّق المماثلة بينهما ، وإلاّ بالتّقابض .
ولا يمكن أن تتحقّق المماثلة في البيع الجزاف ، لأنّه قائم على التّخمين والتّقدير ، فيبقى احتمال الرّبا قائماً ، وقد « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن المزابنة وهي بيع الثّمر الرّطب بالثّمر الجافّ » ، وذلك فيما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يبيع الرّجل تمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً ، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً ، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام ، نهى عن ذلك كلّه » .
وذلك لأنّه ينقص إذا جفّ ، فيكون مجهول المقدار .
والقاعدة في الرّبويّات : أنّ الجهل بالتّماثل كالعلم بالتّفاضل .
ضمّ معلوم في البيع أو جزاف إلى جزاف :
9 - إذا ضمّ جزاف إلى جزاف في البيع بثمن واحد أو بثمنين لم يمنع ذلك صحّة البيع ، لأنّهما في معنى الجزاف الواحد ، من حيث تناول الرّخصة لهما . كما لو قال : بعتك صبرتي التّمر والحبّ هاتين ، أو بعتك ثمرة حائطيّ هذين جزافاً بثلاث دنانير ، أو قال : أولاهما بدينار ، والثّانية بدينارين . وكذا لو ضمّ إلى الجزاف سلعةً ممّا لا يباع كيلاً أو وزناً ، كما لو قال : بعتك هذه الصّبرة وهذه الدّابّة بعشرة دنانير .
أمّا إن ضمّ في البيع إلى الجزاف معلوم بكيل أو وزن أو عدد ، فقد يؤدّي ذلك إلى فساد البيع ، لأنّ انضمامه إليه يصيّر في المعلوم جهلاً لم يكن .
وقد قسم المالكيّة انضمام المعلوم القدر بكيل أو وزن أو عدّ إلى أربع صور : لأنّ الجزاف إمّا أن يكون الأصل فيه - بحسب العرف - أن يباع جزافاً كالأرض ، أو أن يباع بالتّقدير كالكيل للحبوب . وكذلك المعلوم القدر المنضمّ إليه ، إمّا أن يكون الأصل فيه أن يباع جزافاً ، أو أن يباع بالتّقدير : فإن كان الجزاف أصله أن يباع جزافاً ، والمعلوم القدر أصله أن يباع بالكيل أو الوزن أو العدّ ، كجزاف أرض مع مكيل حبّ ، صحّ البيع في هذه الصّورة ،لأنّ كلاً منهما بيع على أصله . ويفسد البيع في الصّور الثّلاث الأخرى ، لمخالفة الأصل في كليهما أو في أحدهما ، وأمثلتها :
أ - جزاف حبّ مع مكيل أرض ( أي أرض مقدرة بالمساحة ) .
ب - جزاف حبّ مع مكيل حبّ .
ج - جزاف أرض مع مكيل أرض . هذا كلّه في الجزاف إذا بيع على غير كيل أو نحوه .
أمّا إن بيع الجزاف على كيل أو نحوه فلا يجوز أن يضمّ إليه شيء غيره مطلقاً ، كأن قال : بعتك هذه الصّبرة كلّ صاع بدرهم ، على أنّ مع المبيع سلعة كذا من غير تسمية ثمن لها ، بل ثمنها من جملة ما اشترى به الصّبرة ، لأنّ ما يخصّ السّلعة من الثّمن حين البيع مجهول ، ومعنى مطلقاً : أي سواء كانت السّلعة من جنس الصّبرة ، أو من غير جنسها ، لأنّه إذا سمّى الثّمن فبان أنّه يساوي أكثر ، وسامح فيه البائع من أجل إتمام الصّفقة جزافاً ، كانت التّسمية كعدمها ، لأنّه صار بمثابة الّذي لم يسمّ .
وإذا لم يسمّ ثمنها ، كان ما يخصّ السّلعة من الثّمن مجهولاً .
وعند الحنابلة : لو قال : بعتك هذه الصّبرة وقفيزاً من هذه الصّبرة الأخرى بعشرة دراهم صحّ . أمّا لو قال : بعتك هذه الصّبرة ، كلّ قفيز بدرهم ، على أن أزيدك قفيزاً من هذه الصّبرة الأخرى لم يصحّ . قالوا : لإفضائه إلى جهالة الثّمن في التّفصيل ، لأنّه يصير قفيزاً وشيئاً بدرهم ، والشّيء لا يعرفانه ، لعدم معرفتهما بكمّيّة ما في الصّبرة من القفزان . وذهب الشّافعيّة إلى بطلان البيع في صورة ما إذا قال البائع : بعتك هذه الصّبرة كلّ صاع بدرهم ، على أن أزيدك صاعاً من هذه الصّبرة الأخرى . لأنّه يفضي إلى الجهالة في جملة الثّمن وتفصيله ، فيصير كأنّه باعه صاعاً وشيئاً بدرهم ، والشّيء لا يعرف ، للجهالة بكمّيّة ما في الصّبرة من الصّيعان . ولم نطّلع على تفصيل للحنفيّة في هذه المسألة .
10 - لو باع هذه الصّبرة أو نحوها بمائة درهم ، كلّ صاع أو رأس أو ذراع بدرهم صحّ البيع ، إن خرج ما باعه مائةً ، لتوافق الجملة والتّفصيل فلا غرر ولا جهالة . وإن لم تخرج مائةً ، بأن خرجت أقلّ أو أكثر ، لم يصحّ البيع على الصّحيح عند الشّافعيّة ، وذلك لتعذّر الجمع بين الجملة والثّمن وتفصيله . والوجه الثّاني عندهم أنّه يصحّ تغليباً للإشارة .
ظهور المبيع أقلّ أو أكثر من المسمّى :
11 - من ابتاع صبرة طعام على أنّها مائة قفيز بمائة درهم ، فوجدها أقلّ أو أكثر ، ومن ابتاع ثوباً على أنّه عشرة أذرع بعشرة دراهم ، أو أرضاً على أنّها مائة ذراع بمائة درهم ، فوجدها أقلّ أو أكثر ، ذهب جمهور الفقهاء إلى صحّة البيع في هذه الصّورة ، سواء ظهر المبيع زائداً أم ناقصاً عمّا وقع عليه الاتّفاق في العقد .
وسواء أكان المبيع ثوباً أم أرضاً من المذروعات ، أو صبرة طعام من المكيلات . وفي رواية للحنابلة : أنّ البيع باطل ، إذا كان المعقود عليه أرضاً أو ثوباً ، وذلك لاختلال الوصف فيهما ، لأنّه لا يمكن إجبار البائع على تسليم الزّيادة ، ولا يمكن إجبار المشتري على أخذ البعض ، لأنّه اشترى الكلّ . كما لا يجبران على الشّركة في القدر الزّائد للضّرر الحاصل بسبب الشّركة . واتّفق الفقهاء - من حيث الجملة - على ثبوت الخيار للبائع في حال الزّيادة ، وللمشتري في حال النّقصان في الصّورة المتقدّمة .
وفرّق الحنفيّة والحنابلة بين ما يباع ذرعاً كالثّوب والأرض ، وبين ما يباع كيلاً كصبرة الطّعام ، ولم يفرّق الشّافعيّة بينهما ، بل أثبتوا الخيار لمن عليه الضّرر مطلقاً .
ففي صورة ما إذا ابتاع صبرةً من طعام على أنّها مائة قفيز بمائة درهم فوجدها أقلّ .
ذهب الحنفيّة والحنابلة : إلى أنّ المشتري بالخيار إن شاء أخذ الموجود بحصّته من الثّمن ، وإن شاء فسخ البيع ، وذلك لأنّ الثّمن ينقسم على أجزاء المبيع المثليّ مكيلاً أو موزوناً ، ولم يتمّ رضا المشتري به لأنّه أقلّ ممّا تمّ العقد عليه ، ولهذا كان له خيار أخذ الموجود بحصّته من الثّمن ، وكان له خيار الفسخ لأنّه وجد المبيع ناقصاً .
وفي قول للحنابلة : أنّه ليس له خيار الفسخ ، لأنّ نقصان القدر ليس بعيب في الباقي من الكيل . وعند الشّافعيّة : للمشتري الخيار بين أن يأخذ الموجود بكلّ الثّمن المسمّى ، وبين الفسخ . وإذا وجد الصّبرة أكثر ممّا تمّ عليه الاتّفاق : ردّ المشتري الزّيادة للبائع لأنّه تضرّر بالزّيادة ، ولأنّ البيع وقع على مقدار معيّن ، فما زاد عليه لا يدخل في البيع . وهذا عند الحنفيّة والحنابلة . وعند الشّافعيّة : يثبت الخيار للبائع ، ولا يسقط خياره فيما إذا قال المشتري للبائع : لا تفسخ ، وأنا أقنع بالقدر المشروط ، أو أنا أعطيك ثمن الزّائد .
وإذا كان ما يباع جزافاً مذروعاً كالثّوب والأرض ، وظهر أنّه أقلّ ممّا اتّفق عليه في العقد ، فذهب الحنفيّة والشّافعيّة : إلى أنّ المشتري بالخيار بين أن يأخذ الموجود بجملة الثّمن وبين أن يترك البيع ، ولا يسقط خيار المشتري فيما إذا حطّ البائع من الثّمن قدر النّقص .
وذهب الحنابلة إلى أنّ المشتري بالخيار بين أن يأخذ الموجود بحصّته من الثّمن ، أو أن يترك البيع . وإذا ظهر أنّ المبيع أكثر ممّا اتّفق عليه ، فذهب الحنفيّة إلى أنّ الزّيادة للمشتري بالثّمن نفسه ، لأنّ الذّرع كالوصف ، والأوصاف لا يقابلها شيء من الثّمن ، ولا خيار للبائع . وذهب الحنابلة والشّافعيّة : إلى أنّ البائع بالخيار .
وللحنابلة تفصيل في مذهبهم : فذهبوا إلى تخيير البائع بين تسليم المبيع زائداً ، وبين تسليم القدر الموجود . فإن رضي بتسليم الجميع فلا خيار للمشتري ، لأنّه زاده خيراً . وإن أبى تسليمه زائداً ، فللمشتري الخيار بين الفسخ أو الأخذ بجميع الثّمن المسمّى وقسط الزّائد . فإن رضي بالأخذ أخذ العشرة ، والبائع شريك له في الذّراع .
وفي تخيير البائع في الفسخ وجهان . الأوّل : له الفسخ ، لأنّ عليه ضرراً في المشاركة .
الثّاني : لا خيار له ، لأنّه رضي ببيع الجميع بهذا الثّمن . فإذا وصل إليه الثّمن مع بقاء جزء له فيه كان زيادةً على ما رضي به من الثّمن ، فلا يستحقّ بها الفسخ . فإن بذلها البائع للمشتري بثمن ، أو طلبها المشتري بثمن ، لم يلزم الآخر القبول ، لأنّها معاوضة يعتبر فيها التّراضي منهما ، فلا يجبر واحد منهما عليه . وإن تراضيا على ذلك جاز .
ووجه التّفريق بين المذروعات والمكيلات : أنّ المتّفق عليه في العقد على المكيلات هو القدر ، أمّا في المذروعات فهو الوصف .
والقدر يقابله الثّمن ، أمّا الوصف فهو تابع للمبيع ، ولا يقابله شيء من الثّمن . ولهذا يأخذ المبيع بحصّته من الثّمن ، إذا فات القدر المتّفق عليه . ويأخذ المبيع بالثّمن كاملاً ، إذا فات الوصف المتّفق عليه . فلو قال البائع : بعتك الثّوب على أنّه مائة ذراع بمائة درهم ، كلّ ذراع بدرهم ، فوجدها ناقصةً ، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذها بحصّتها من الثّمن ، وإن شاء ترك . لأنّ الوصف وإن كان تابعاً للمبيع ، إلاّ أنّه صار أصلاً ، لأنّه أفرد بذكر الثّمن ، فينزّل كلّ ذراع منزله ثوب مستقلّ .
لأنّه لو أخذ بكلّ الثّمن لم يكن آخذاً لكلّ ذراع بدرهم . فإن وجدها زائدةً ، فهو بالخيار إن شاء أخذ الجميع كلّ ذراع بدرهم ، وإن شاء فسخ البيع ، لأنّه إن حصل له الزّيادة في الذّرع تلزمه زيادة الثّمن ، فكان نفعاً يشوبه ضرر ، فيخيّر بين أخذ الزّيادة وبين فسخ البيع .
بيع الحاضر للبادي *
التّعريف :
1 - الحاضر : ضدّ البادي ، والحاضرة ضدّ البادية .
والحاضر : من كان من أهل الحضر ، وهو ساكن الحاضرة ، وهي المدن والقرى ، والرّيف وهو أرض فيها - عادةً - زرع وخصب .
وقال الشّلبيّ : الحاضر : المقيم في المدن والقرى . والبادي : ساكن البادية ، وهي ما عدا ذلك المذكور من المدن والقرى والرّيف ، قال تعالى : { وإنْ يأتِ الأحزابُ يَوَدُّوا لو أَنَّهم بَادُونَ في الأَعْرابِ } أي نازلون ، وقال الشّلبيّ : المقيم بالبادية . والنّسبة إلى الحاضرة : حضريّ ، وإلى البادية بدويّ . وعبّر بعض المالكيّة : ببيع حاضر لعموديّ ، والعموديّ هو البدويّ ، نسبةً إلى عمود ، لأنّ البدو يسكنون الخيام .
غير أنّ الحنابلة اعتبروا البدويّ شاملاً للمقيم في البادية ، ولكلّ من يدخل البلدة من غير أهلها ، سواء أكان بدويّاً ، أم كان من قرية أو بلدة أخرى . وهو قول عند المالكيّة .
2 - والمراد ببيع الحاضر للبادي عند الجمهور : أن يتولّى الحضريّ بيع سلعة البدويّ ، بأن يصير الحاضر سمساراً للبادي البائع .
قال الحلوانيّ : هو أن يمنع السّمسار الحاضرُ القرويَّ من البيع ، ويقول له : لا تبع أنت ، أنا أعلم بذلك ، فيتوكّل له ، ويبيع ويغالي ، ولو تركه يبيع بنفسه لرخّص على النّاس . فالبيع - على هذا - هو من الحاضر للحاضر نيابةً عن البادي ، بثمن أغلى .
وعلى هذا التّفسير ، تكون اللّام في « ولا يبيع حاضرٌ لباد » على حقيقتها كما يقول ابن عابدين ، وهي : التّعليل .
3 - وذهب بعض الحنفيّة - كصاحب الهداية - إلى أنّ المراد بالحديث : أن يبيع الحضريّ سلعته من البدويّ ، وذلك طمعاً في الثّمن الغالي ، فهو منهيّ عنه ، لما فيه من الإضرار بأهل البلد . وعلى هذا التّفسير تكون اللّام في « ولا يبيع حاضر لباد » بمعنى من - كما يقول البابرتيّ - : فهذا تفسير من قال : إنّ الحاضر هو المالك ، والبادي هو المشتري .
قال الخير الرّمليّ : ويشهد لصحّة هذا التّفسير ، ما في الفصول العماديّة ، عن أبي يوسف : لو أنّ أعراباً قدموا الكوفة ، وأرادوا أن يمتاروا ( يتزوّدوا من الطّعام ) منها ، ألا ترى أنّ أهل البلدة يمنعون عن الشّراء للحكرة ، فهذا أولى .
وصرّح الحصكفيّ من الحنفيّة ، بأنّ الأصحّ - كما في المجتبى - أنّهما : السّمسار والبائع ( وهو التّفسير الأوّل الّذي عليه الجمهور ) وذلك لوجهين :
أوّلهما : موافقته لآخر الحديث في بعض رواياته : « دعوا النّاس ، يرزق اللّه بعضهم من بعض » الآخر : أنّه عدّي باللام ، لا بمن .
فعلى هذا يكون مذهب الحنفيّة ، كالجمهور في تفسير الحديث .
النّهي عن هذا البيع :
4 - لا يختلف الفقهاء في منع هذا البيع . فقد ورد النّهي عنه في أحاديث كثيرة منها : حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه قال : « لا تَلَقُّوا الرّكبانَ ، ولا يبع بعضُكم على بيعِ بعض ، ولا تَنَاجَشُوا ، ولا يَبع حاضر لباد ، ولا تصرُّوا الغنم » ومنها حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا يبع حاضر لباد ، دعوا النّاس ، يرزق اللّه بعضهم من بعض » ومنها حديث أنس رضي الله عنه قال : « نهينا أن يبيع حاضر لباد ، وإن كان أخاه وأباه » وفي لفظ « وإن كان أخاه لأبيه وأمّه » .
علّة النّهي عن بيع الحاضر للبادي :
اختلف الفقهاء في علّة هذا النّهي :
5 - أ - فمذهب الجمهور ، بناءً على التّفسير الأوّل ، أنّ المعنى في النّهي عن ذلك ، هو ما يؤدّي إليه هذا البيع من الإضرار بأهل البلد ، والتّضييق على النّاس . والقصد أن يبيعوا للنّاس برخص . قال ابن القاسم : لم يختلف أهل العلم في أنّ النّهي عن بيع الحاضر للبادي إنّما هو لنفع الحاضرة ، لأنّه متى ترك البدويّ يبيع سلعته ، اشتراها النّاس برخص ، ويوسّع عليهم السّعر ، فإذا تولّى الحاضر بيعها ، وامتنع من بيعها إلاّ بسعر البلد ، ضاق على أهل البلد ، وقد أشار النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تعليله إلى هذا المعنى .
6- ب - ومذهب بعض الحنفيّة ، كالمرغينانيّ - على ما بيّنّا - والكاسانيّ ، وكذلك التّمرتاشيّ - فيما يبدو بناءً على التّفسير الثّاني - أنّ المعنى في النّهي عن ذلك ، وهو الإضرار بأهل المصر ، من جهة أخرى غير الرّخص ، وهي : أن يكون أهل البلد في حال قحط وعوز إلى الطّعام والعلف ، فلا يبيعهما الحضريّ - مع ذلك - إلاّ لأهل البدو ، بثمن غال .
قيود النّهي :
قيّد جمهور الفقهاء النّهي عن بيع الحاضر للبادي ، بقيود وشروط شتّى منها :
7 - أن يكون ما يقدم به البادي ، ممّا تعمّ الحاجة إليه ، سواء أكان مطعوماً أم غير مطعوم ، فما لا يحتاج إليه إلاّ نادراً ، لا يدخل تحت النّهي .
8- وأن يكون قصد البادي البيع حالاً ، وهو ما عبّروا عنه بالبيع بسعر يومه ، فلو كان قصده البيع على التّدريج ، فسأله البلديّ تفويض ذلك إليه فلا بأس به ، لأنّه لم يضرّ بالنّاس ، ولا سبيل إلى منع المالك منه . وهذان الشّرطان للشّافعيّة والحنابلة .
9- وأن يكون البيع على التّدريج بأغلى من بيعه حالاً ، كما استظهره بعض الشّافعيّة .
قالوا : لأنّه إذا سأل الحضريّ أن يفوّض له بيعه ، بسعر يومه على التّدريج ، لم يحمله ذلك على موافقته ، فلا يكون سبباً للتّضييق ، بخلاف ما إذا سأله أن يبيعه بأغلى ، فالزّيادة ربّما حملته على الموافقة ، فيؤدّي إلى التّضييق .
10 - وأن يكون البادي جاهلاً بالسّعر ، لأنّه إذا علمه لم يزده الحاضر على ما عنده ، ولأنّ النّهي لأجل أن يبيعوا للنّاس برخص ، وهذه العلّة إنّما توجد إذا كانوا جاهلين بالأسعار ، فإذا علموا بالأسعار فلا يبيعون إلاّ بقيمتها كما يبيع الحاضر ، فبيع الحاضر حينئذ بمنزلة بيعهم . وهذا الشّرط للمالكيّة والحنابلة .
ومع ذلك فقد أطلق الخرشيّ النّهي ، سواء أكان البدويّ جاهلاً بالأسعار أم لا .
واختلف في المعتمد عند المالكيّة : فالمعتمد عند العدويّ : شرط الجهل بالأسعار . وهو الّذي نصّ عليه ابن جزيّ . والمعتمد عند آخرين - كما نقله الدّسوقيّ - هو الإطلاق .
11 - واشترط الحنابلة أن يكون البادي قد جلب السّلع ، وحضر لبيعها ، لأنّه إذا حضر لخزنها أو أكلها ، فقصده الحاضر ، وحضّه على بيعها ، كان توسعةً لا تضييقاً .
12 - واشترط المالكيّة أن يكون البيع لحاضر ، فلو باع الحاضر لبدويّ مثله ، فإنّه يجوز ، لأنّ البدويّ لا يجهل أسعار هذه السّلع ، فلا يأخذها إلاّ بأسعارها ، سواء اشتراها من حضريّ أم من بدويّ ، فبيع الحضريّ له بمنزلة بيع بدويّ لبدويّ .
13 - واشترط الحنابلة أن يقصد البدويّ حاضر عارف بالسّعر ، فإن قصده البادي لم يكن للحاضر أثر في عدم التّوسعة .
فإن اختلّ شرط من شروط المنع لم يحرم البيع من الحاضر للبادي عند القائل بذلك الشّرط .
14 - والحنفيّة ، الّذين صوّر بعضهم النّهي : بأن يبيع الحاضر طعاماً أو علفاً للبادي طمعاً في الثّمن الغالي ، قيّدوا التّحريم بأن يضرّ البيع بأهل البلد ، بأن يكونوا في قحط من الطّعام والعلف ، فإن كانوا في خصب وسعة فلا بأس به لانعدام الضّرر ، وعبارة الحصكفيّ : وهذا في حال قحط وعوز ، وإلاّ لا ، لانعدام الضّرر .
15 - أمّا الّذين صوّروا منهم النّهي : بأن يتولّى الحاضر بيع سلعة البدويّ ، ويغالي فيها ، وهذا هو الأصحّ ، فقد قيّدوه .
بأن تكون السّلعة ممّا تعمّ الحاجة إليها كالأقوات ، فإن كانت لا تعمّ ، أو كثر القوت واستغني عنه ، ففي التّحريم تردّد . -وبما إذا كان أهل الحضر يتضرّرون بذلك .
حكم بيع الحاضر للبادي :
16 - أ - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه محرّم مع صحّته ، وصرّح به بعض الحنفيّة وعبّر عنه بعضهم بالكراهة ، وهي للتّحريم عند الإطلاق . كما صرّح به المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لكنّه مع ذلك صحيح عند جمهورهم ، كما هو رواية عن الإمام أحمد .
والنّهي عنه لا يستلزم الفساد والبطلان ، لأنّه لا يرجع إلى ذات البيع ، لأنّه لم يفقد ركناً ، ولا إلى لازمه ، لأنّه لم يفقد شرطاً ، بل هو راجع لأمر خارج غير لازم ، كالتّضييق والإيذاء . قال المحلّيّ : والنّهي للتّحريم : فيأثم بارتكابه العالم به ، ويصحّ البيع .
ب - وفي رواية عن أحمد أنّ البيع صحيح ولا كراهة فيه ، وأنّ النّهي اختصّ بأوّل الإسلام لما كان عليهم من الضّيق ، قال أحمد : كان ذلك مرّةً .
ج - مذهب المالكيّة ، والمذهب عند الحنابلة ، والأظهر عندهم ، أنّ هذا البيع حرام ، وهو باطل أيضاً وفاسد ، كما نصّ عليه الخرقيّ ، لأنّه منهيّ عنه ، والنّهي يقتضي فساد المنهيّ عنه . وكما نصّ عليه البهوتيّ بقوله : فيحرم ، ولا يصحّ لبقاء النّهي عنه وقال أحمد لمّا سئل عن هذا البيع : أكره ذلك ، وأردّ البيع في ذلك . وفصّل المالكيّة في هذا ، وقرّروا : أوّلاً : أنّه يفسخ البيع ما دامت السّلعة قائمةً لم تفت ببيع ، أو عيب ، أو موت ،أو نحو ذلك.
ثانياً : فإن فاتت مضى البيع بالثّمن ( الّذي وقع به البيع ) وهذا هو المعتمد . وقيل : بالقيمة . وفيما يلي بعض الفروع التّفصيليّة عند غير الحنفيّة في هذا البيع :
17 - أوّلاً : نصّ المالكيّة على أنّه - مع فسخ هذا البيع بشرط عدم فوات المبيع - يؤدّب كلّ من المالك والحاضر والمشتري ، إن لم يعذر أحد منهم بجهله ، بأن كان عالماً بالحرمة ، ولا أدب على الجاهل لعذره بالجهل . لكن هل يؤدّب مطلقاً ، أم يؤدّب إن اعتاد هذا البيع ؟ قولان للمالكيّة في هذا .
والشّافعيّة قرّروا الإثم على العالم بالتّحريم ، كما قال المالكيّة ، وكذا الجاهل المقصّر ، ولو فيما يخفى غالباً . قالوا : وللحاكم أن يعزّر في ارتكاب ما لا يخفى غالباً ، وإن ادّعى جهله . قال القليوبيّ : إنّ الحرمة مقيّدة بالعلم أو التّقصير ، وإنّ التّعزير مقيّد بعدم الخفاء .
غير أنّ القفّال من أئمّة الشّافعيّة ، جعل الإثم هنا ، على البلديّ دون البدويّ ، وقرّر أنّه لا خيار للمشتري . ثمّ عمّم الشّافعيّة اشتراط العلم بالحرمة ، في كلّ منهيّ عنه .
قال ابن حجر : ولا بدّ هنا ، وفي جميع المناهي ، أن يكون عالماً بالنّهي ، أو مقصّراً في تعلّمه ، كما هو ظاهر ، أخذاً من قولهم : يجب على من باشر أمراً أن يتعلّم جميع ما يتعلّق به ، ممّا يغلب وقوعه .
18 - ثانياً : بما أنّ النّصّ ورد في النّهي عن البيع للبادي ، فقد اختلف في حكم الشّراء له:
أ - مذهب المالكيّة التّفصيل بين الشّراء له بالنّقد أو بالسّلع :
فمنهم من يرى جواز الشّراء له بالنّقد وبالسّلع مطلقاً ، أي سواء أحصّل السّلع بنقد أم بغير نقد ، وهو ظاهر كلام الشّيخ خليل .
وخصّ الخرشيّ جواز الشّراء بالسّلع الّتي حصّلها بثمن ينقد ، وأمّا الّتي حصّلها بغير النّقد ، فلا يجوز أن يشتري له بها سلعاً ، قال : لأنّ العلّة الّتي في منع البيع له ، تأتي حينئذ . وقال آخرون منهم : ظاهر كلام الأئمّة أنّه لا يجوز الشّراء له إلاّ بالنّقد ، لا بالسّلع مطلقاً ، وإلاّ كان بيعاً لسلعه ، وهو ممنوع مطلقاً على المعتمد - كما تقدّم - واستوجه هذا الدّسوقيّ .
19 - ب - ومذهب الشّافعيّة متردّد في التّأثيم به أيضاً ، فلو قدم من البدو من يريد الشّراء ، فتعرّض له من الحضر من يشتري له رخيصاً :
- 1 - فابن يونس قال : هو حرام ، وبحث الأذرعيّ الجزم بالإثم ، وله وجه - كما قال ابن حجر - وهو : القياس على البيع ، قال الشّروانيّ : وهو المعتمد ، لكن قيّده بأن يكون الثّمن ممّا تعمّ الحاجة إليه . والقول بالمنع نقله أيضاً ابن هانئ من الحنابلة .
- 2 - وجمع من المتأخّرين اختاروا عدم الإثم في الشّراء ، وفرّقوا بين البيع وبين الشّراء للبدويّ ، بأنّ الشّراء غالباً بالنّقد ، وهو لا تعمّ الحاجة إليه .
- 3 - أمّا ابن حجر ، فذهب مذهب التّوفيق بين القولين ، فحمل القول الأوّل بالإثم على ما إذا كان الشّراء بمتاع تعمّ الحاجة إليه ، وحمل القول بعدم الإثم على خلافه ، وهو ما إذا كان الشّراء بمتاع لا تعمّ الحاجة إليه .
20 - ج - ومذهب الحنابلة في الشّراء للبادي : أنّه صحيح روايةً واحدةً ، وذلك لأنّ النّهي غير متناول للشّراء بلفظه ، ولا هو في معناه ، فإنّ النّهي عن البيع للرّفق بأهل الحضر ، ليتّسع عليهم السّعر ويزول عنهم الضّرر ، وليس ذلك في الشّراء لهم ، إذ لا يتضرّرون لعدم الغبن للبادين ، بل هو دفع الضّرر عنه . والخلق في نظر الشّارع على السّواء ، فكما شرع ما يدفع الضّرر عن أهل الحضر ، لا يلزم أن يلزم أهل البدو الضّرر .
21 - ثالثاً : هناك مسألة تتّصل ببيع الحاضر للبادي والشّراء له ، وهي : ما لو أشار الحاضر على البادي ، من غير أن يباشر البيع له : فقد نقل ابن قدامة أنّه كرهه مالك واللّيث . وقال الشّافعيّة : في وجوب إرشاده إلى الادّخار أو البيع وجهان : أوجههما أنّه يجب إرشاده ، لوجوب الإشارة بالأصلح عليه .
ونقل ابن قدامة أيضاً ، أنّه رخّص فيه طلحة بن عبيد اللّه رضي الله عنه ، والأوزاعيّ وابن المنذر . قال ابن قدامة : وقول الصّحابيّ حجّة ، ما لم يثبت خلافه .
22 - رابعاً : نصّ ابن جزيّ من المالكيّة على أنّ تعريف البادي بالسّعر ، هو كالبيع له ، فلا يجوز .
بيع الحصاة *
التّعريف :
1 - بيع الحصاة : هو البيع بإلقاء الحجر ، وكان معروفاً في الجاهليّة ، وورد النّهي عنه ، وذلك في حديث النّهي عن الغرر ، فيما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة ، وعن بيع الغرر » واختلف الفقهاء في تفسيره .
2 - فقال الحنفيّة : هو : أن يلقي حصاةً ، وثمّة أثواب ، فأيّ ثوب وقع عليه كان هو المبيع بلا تأمّل ولا رويّة ، ولا خيار بعد ذلك . وهذا التّفسير للحديث ، ذكره جميع فقهاء المذاهب :
أ - فالمالكيّة قالوا : هو بيع ملزم على ما تقع عليه الحصاة من الثّياب - مثلاً - بلا قصد من الرّامي لشيء معيّن ، وقيّده الدّردير باختلاف السّلع أو الثّياب .
ب - والشّافعيّة قالوا في التّفسير : بعتك من هذه الأثواب ما تقع عليه الحصاة .
ج - والحنابلة قالوا في التّفسير : أن يقول البائع : ارم هذه الحصاة ، فعلى أيّ ثوب وقعت فهو لك بكذا . ولا فرق بين رمي البائع والمشتري ، كما يقول عميرة البرلّسيّ .
3 - وهناك تفسير ثان لهذا النّوع من البيع ، وهو : أن يقول البائع للمشتري : بعتك من هذه الأرض من محلّ وقوفي أو وقوف فلان إلى ما تنتهي إليه رمية هذه الحصاة بكذا . نصّ على هذا التّفسير المالكيّة والحنابلة ، وقيّده الأوّلون ، بأن يقع البيع على اللّزوم .
4 - وفي تفسير آخر للشّافعيّة ، أن يقول البائع : إذا رميت هذه الحصاة ، فهذا الثّوب مبيع منك بعشرة ، أي يجعل الرّمي صيغة البيع .
5 - وفي تفسير رابع للمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أن يقول البائع للمشتري : بعتك هذا بكذا ، على أنّي متى رميت هذه الحصاة وجب البيع ولزم .
6 - وطرح المالكيّة تفسيراً خامساً :
أ - أن يقول البائع للمشتري : ارم بالحصاة فما خرج ووجد من أجزاء تلك الحصاة الّتي تكسّرت كان لي بعدده دنانير أو دراهم .
ب - أو يقول المشتري للبائع : ارم بالحصاة فما خرج من أجزائها المتفرّقة حال رميها ، كان لك بعدده دنانير أو دراهم .
ج - ويحتمل أيضاً عندهم أن يكون المراد بالحصاة الجنس ، أي يقول البائع للمشتري : خذ جملةً من الحصى ، في كفّك أو كفّيك ، وحرّكه مرّةً أو مرّتين - مثلاً - فما وقع فلي بعدده دراهم أو دنانير . ولا يختلف الفقهاء في فساد هذا البيع بهذه الصّور المفسّرة للحديث كلّها ، وقد وضعوا إزاء كلّ صورة ما يشير إلى وجه الفساد فيها .
7- ففي الصّورة الأولى : علّل الحنفيّة الفساد فيها بما فيها من الجهالة ، وتعليق التّمليك بالخطر ، لأنّها في معنى : إذا وقع حجري على ثوب فقد بعته منك ، أو بعتنيه بكذا ، والتّمليكات لا تحتمله ، لأدائه إلى معنى القمار .
ويقرّر الحنفيّة أنّ الفساد لهذا المعنى مشروط بسبق ذكر الثّمن ، فإن لم يذكر الثّمن في هذا البيع ، كان الفساد لعدم ذكر الثّمن ، إن سكت عنه . لأنّ المقرّر عندهم : أنّ البيع مع نفي الثّمن باطل ، ومع السّكوت عنه فاسد .
وكذلك علّل المالكيّة الفساد فيها ، بالجهل بعين المبيع ، لكنّهم شرطوا كما رأينا - علاوةً على اختلاف السّلع ، عدم قصد الرّامي لشيء معيّن منها ، أمّا لو كان الرّمي بقصد جاز ، إن كان الرّمي من المشتري ، أو كان من البائع ، وجعل الخيار للمشتري .
كما أنّه لو اتّفقت السّلع ، جاز البيع ، سواء أكان وقوع الحصاة بقصد أم بغيره .
8- وفي الصّورة الثّانية ، وهي بيع قدر من الأرض ، من حيث يقف الرّامي إلى ما تنتهي إليه رمية الحصاة ، فالفساد للجهل بمقدار المبيع ، لاختلاف الرّمي كما علّله المالكيّة ، وقرّروا أنّ محلّ الفساد بشرط أن يقع البيع على اللّزوم .
9- وفي الصّورة الثّالثة ، الّتي ذكرها الشّافعيّة : علّلوا فسادها بعدم وجود صيغة البيع ، إذ جعل الرّمي للحصاة بيعاً ، اكتفاءً به عن الصّيغة .
10 - وفي الصّورة الرّابعة ، وهي لزوم البيع بوقوع الحصاة ، من أحد المتبايعين أو من غيرهما : الفساد لتعليق لزوم البيع على السّقوط في زمن غير معيّن ، فالبيع فاسد للجهل بزمن وقوعها ، ففيه تأجيل بأجل مجهول - كما يقول المالكيّة - أو جهل بزمن الخيار ، كما يقول الشّافعيّة . أمّا لو عيّن لوقوعها باختياره أجلاً معلوماً ، وكان الأجل قدر زمن الخيار ، وهو في كلّ شيء بحسبه - كما يقول العدويّ - كما لو قال : إن وقعت الحصاة من طلوع الشّمس إلى الظّهر ، أو من اليوم إلى غد ، قصداً ، كان البيع لازماً ولا يفسد .
11 - وفي الصّورة الخامسة الّتي طرحها المالكيّة ، وهي البيع بعدد ما يتناثر من الحصى ، دراهم أو دنانير : فساد البيع للجهل بمقدار الثّمن ، إذ لا يعلم قدر المتناثر من الحصى .
فلا خلاف إذاً في فساد البيع بالحصاة ، بالقيود الّتي ذكرت في الصّور كلّها وتعليلاتها .
وفي هذا يقول ابن قدامة : وكلّ هذه البيوع فاسدة ، لما فيها من الغرر والجهل ، ولا نعلم فيه خلافاً .
بيع السّلم *
انظر : سلم .
بيع الصّرف *
انظر : صرف .
بيع العرايا *
التّعريف :
1 - العرايا : جمع عَرِيَّة ، وهي : النّخلة يعريها صاحبها رجلاً محتاجاً ، فيجعل له ثمرها عامها ، فيعروها ، أي يأتيها ، فعيلة بمعنى مفعولة ، ودخلت الهاء عليها ، لأنّه ذُهب بها مذهب الأسماء ، مثل النّطيحة والأكيلة ، فإذا جيء بها مع النّخلة حذفت الهاء ، وقيل : نخلة عريّ ، كما يقال : امرأة قتيل ، والجمع : العَرايا .
قال في الفتح : هي في الأصل عطيّة ثمر النّخل دون الرّقبة : كانت العرب في الجدب تتطوّع بذلك على من لا ثمر له .
وعرّفها الشّافعيّة اصطلاحاً : بأنّها بيع الرّطب على النّخل بتمر في الأرض ، أو العنب في الشّجر بزبيب ، فيما دون خمسة أوسق .
وعرّفها الحنابلة بأنّها : بيع الرّطب في رءوس النّخل خرصاً ، بماله يابساً ، بمثله من التّمر ، كيلاً معلوماً لا جزافاً .
حكمها :
2 - بيع العرايا جائز في الجملة ، عند جمهور الفقهاء : مالك ، والشّافعيّ ، وأحمد ، وإسحاق ، وابن المنذر ، لكنّ التّحقيق أنّ مالكاً ليس معهم .
واستدلّ الجمهور المجيزون بما يلي :
أ - بحديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التّمر بالتّمر ، ورخّص في العريّة ، أن تباع بخرصها ، يأكلها أهلها رطباً » قال ابن قدامة : والرّخصة : استباحة المحظور مع وجود السّبب الحاظر ، فلو منع مع وجود السّبب من الاستباحة ، لم يبق لنا رخص بحال .
ب - وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رخّص في بيع العرايا ، في خمسة أوسق ، أو دون خمسة أوسق » . قال المحلّيّ - من الشّافعيّة - : شكّ داود بن الحصين أحد رواته ، فأخذ الشّافعيّ بالأقلّ ، في أظهر قوليه .
3 - والحنفيّة - وكذا مالك في التّحقيق - لم يستجيزوا ، بيع العرايا ، وذلك : للنّهي عن المزابنة ، وهي : بيع التّمر على رأس النّخل بتمر مجدود مثل كيله خرصاً
وللحديث الصّحيح المعروف عن عبادة بن الصّامت - . قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « الذّهب بالذّهب ، والفضّة بالفضّة ، والبرّ بالبرّ ، والشّعير بالشّعير ، والتّمر بالتّمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواءً بسواء ، يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ، إذا كان يداً بيد » .
وفي بعض رواياته : « فمن زاد أو استزاد ، فقد أربى ، الآخذ والمعطي فيه سواء » .
فهذه النّصوص ، وأمثالها لا تحصى ، كلّها مشهورة ، وتلقّتها الأمّة بالقبول ، فلا يجوز تركها ولا العمل بما يخالفها ، وهذا لأنّ المساواة واجبة بالنّصّ ، والتّفاضل محرّم به ، وكذا التّفرّق قبل قبض البدلين ، فلا يجوز أن يباع جزافاً ، ولا إذا كان أحدهما متأخّراً ، كما لو كان أكثر من خمسة أوسق . وهذا لأنّ احتمال التّفاضل ثابت ، فصار كما لو تفاضلا بيقين ، أو كانا موضوعين في الأرض .
4 - ومعنى العرايا ، وتأويلها عند المانعين فيما ذكر من الأحاديث :
أ - أن يكون للرّجل النّخلة أو النّخلتان ، في وسط النّخل الكثير لرجل ، وكان أهل المدينة إذا كان وقت الثّمار ، خرجوا بأهليهم إلى حوائطهم ، فيجيء صاحب النّخلة أو النّخلتين ، فيضرّ ذلك بصاحب النّخل الكثير ، فرخّص صلى الله عليه وسلم لصاحب الكثير أن يعطيه خرص ما له من ذلك تمراً ، لينصرف هو وأهله عنه ، روي هذا عن مالك .
ب - وما روي عن أبي حنيفة ، أنّه قال : معنى ذلك عندنا : أن يعري الرّجل الرّجل نخلةً من نخله ، فلا يسلّم ذلك إليه حتّى يبدو له ، فرخّص له أن يحبس ذلك ، ويعطيه مكانه بخرصه تمراً مجذوذاً بالخرص بدله .
وهو جائز عند الحنفيّة - كما قالوا - لأنّ الموهوب له ، لم يملك الثّمرة لعدم القبض ، فصار بائعاً ملكه بملكه ، وهو جائز لا بطريق المعاوضة ، وإنّما هو هبة مبتدأة ، وسمّي ذلك بيعاً مجازاً ، لأنّه لم يملكه ، فيكون برّاً مبتدأً . كما يقول المرغينانيّ .
5- وقد شرط الحنابلة شروطاً جمّةً لجواز بيع العرايا ، ووافقهم الشّافعيّة على بعضها . ولاستكمال شروط العرايا ، وأحكامها ، وصورها . راجع مصطلح ( عرايا ) .
بيع العربون *
التّعريف :
1 - العَرَبون بفتحتين كحَلَزون ، والعُربون وزان عُصفور ، لغة فيه . والعُربان بالضّمّ لغة ثالثة ، بوزن القُربان . وأمّا الفتح مع الإسكان فلحن لم تتكلّم به العرب . وهو معرّب . وفسّروه لغةً : بما عقد به البيع .
وفي الاصطلاح الفقهيّ : أن يشتري السّلعة ، ويدفع إلى البائع درهماً أو أكثر ، على أنّه إن أخذ السّلعة ، احتسب به من الثّمن ، وإن لم يأخذها فهو للبائع .
الحكم الإجماليّ :
2 - والفقهاء مختلفون في حكم هذا البيع :
- أ - فجمهورهم ، من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وأبو الخطّاب من الحنابلة ، يرون أنّه لا يصحّ ، وهو المرويّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما والحسن كما يقول ابن قدامة ، وذلك : للنّهي عنه في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ، قال : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان » ولأنّه من أكل أموال النّاس بالباطل ، وفيه غرر ، ولأنّ فيه شرطين مفسدين : شرط الهبة للعربون ، وشرط ردّ المبيع بتقدير أن لا يرضى .
ولأنّه شرط للبائع شيئاً بغير عوض ، فلم يصحّ ، كما لو شرطه لأجنبيّ .
ولأنّه بمنزلة الخيار المجهول ، فإنّه اشترط أنّ له ردّ المبيع من غير ذكر مدّة ، فلم يصحّ ، كما لو قال : ولي الخيار ، متى شئت رددت السّلعة ، ومعها درهم .
3 - ب - ومذهب الحنابلة جواز هذه الصّورة من البيوع .
وصرّحوا بأنّ ما ذهب إليه الأئمّة من عدم الجواز ، هو القياس ، لكن قالوا : وإنّما صار أحمد فيه إلى ما روي عن نافع بن الحارث ، أنّه اشترى لعمر دار السّجن من صفوان بن أميّة ، فإن رضي عمر ، وإلاّ فله كذا وكذا ، قال الأثرم : قلت لأحمد : تذهب إليه ؟ قال : أيّ شيء أقول ؟ هذا عمر رضي الله عنه .
وضعّف الحديث المرويّ عن عمرو بن شعيب في النّهي عنه . لكن قرّر الشّوكانيّ أرجحيّة مذهب الجمهور ، لأنّ حديث عمرو بن شعيب قد ورد من طرق يقوّي بعضها بعضاً ، ولأنّه يتضمّن الحظر ، وهو أرجح من الإباحة ، كما تقرّر في الأصول .
من أهمّ الأحكام في بيع العربون :
4 - أنّ المشتري إن أعطى العربون على أنّه : إن كره البيع ، أخذه واستردّه ، وإلاّ حاسب به ، جاز كما يقول المالكيّة .
5- وأنّ هذا البيع يفسخ عندهم ، فإن فات ( أي تعذّر الفسخ ) أمضى البيع بالقيمة .
6 - إن دفع المشتري إلى البائع درهماً ، وقال : لا تبع هذه السّلعة لغيري ، وإن لم أشترها منك فهذا الدّرهم لك :
- أ -فإن اشتراها بعد ذلك بعقد مبتدأ ، واحتسب الدّرهم من الثّمن صحّ ، لأنّ البيع خلا عن الشّرط المفسد . ويحتمل أنّ شراء دار السّجن من صفوان بن أميّة الّذي وقع لعمر ، كان على هذا الوجه ، فيحمل عليه ، جمعاً بين فعله وبين الخبر وموافقة القياس والأئمّة القائلين بفساد بيع العربون .
- ب - وإن لم يشتر السّلعة ، لم يستحقّ البائع الدّرهم ، لأنّه يأخذه بغير عوض ، ولصاحبه الرّجوع فيه . ولا يصحّ جعله عوضاً عن انتظاره ، وتأخّر بيعه من أجله ، لأنّه لو كان عوضاً عن ذلك ، لما جاز جعله من الثّمن في حال الشّراء ، ولأنّ الانتظار بالبيع لا تجوز المعاوضة عنه ، ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار ، كما في الإجارة .
بيع العهدة *
انظر : بيع الوفاء .
بيع العينة *
التّعريف :
1 - العينة بكسر العين . معناها في اللّغة : السّلف . يقال : اعتان الرّجل : إذا اشترى الشّيء بالشّيء نسيئةً أو اشترى بنسيئة - كما يقول الرّازيّ .
وقيل : لهذا البيع عِينة ، لأنّ مشتري السّلعة إلى أجل يأخذ بدلها ( أي من البائع ) عيناً ، أي نقداً حاضراً والكمال بن الهمام يرى أنّه سمّي بيع العينة : لأنّه من العين المسترجعة . واستحسن الدّسوقيّ أن يقال : إنّما سمّيت عينةً ، لإعانة أهلها للمضطرّ على تحصيل مطلوبه ، على وجه التّحيّل ، بدفع قليل في كثير . وفي الاصطلاح الفقهيّ ، عرّفت بتعريفات :
أ - ففي ردّ المحتار : هي بيع العين بثمن زائد نسيئةً ، ليبيعها المستقرض بثمن حاضر أقلّ ، ليقضي دينه .
ب - وعرّفها الرّافعيّ : بأن يبيع شيئاً من غيره بثمن مؤجّل ، ويسلّمه إلى المشتري ، ثمّ يشتريه بائعه قبل قبض الثّمن بثمن نقد أقلّ من ذلك القدر . وقريب منه تعريف الحنابلة .
ج - وعرّفها المالكيّة كما في الشّرح الكبير : بأنّها بيع من طلبت منه سلعة قبل ملكه إيّاها لطالبها بعد أن يشتريها .
ويمكن تعريفها - أخذاً ممّا يأتي - بأنّها : قرض في صورة بيع ، لاستحلال الفضل .
صورتها :
2 - للعينة المنهيّ عنها تفسيرات أشهرها :
أن يبيع سلعةً بثمن إلى أجل معلوم ، ثمّ يشتريها نفسها نقداً بثمن أقلّ ، وفي نهاية الأجل يدفع المشتري الثّمن الأوّل ، والفرق بين الثّمنين فضل هو رباً ، للبائع الأوّل .
وتؤول العمليّة إلى قرض عشرة ، لردّ خمسة عشر ، والبيع وسيلة صوريّة إلى الرّبا . حكمها :
3 - اختلف الفقهاء في حكمها بهذه الصّورة : فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : لا يجوز هذا البيع . وقال محمّد بن الحسن : هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال ، اخترعه أكلة الرّبا .
ونقل عن الشّافعيّ - رحمه الله - جواز الصّورة المذكورة ( كأنّه نظر إلى ظاهر العقد ، وتوافر الرّكنيّة ، فلم يعتبر النّيّة ) . وفي هذا استدلّ له ابن قدامة من الحنابلة بأنّه ثمن يجوز بيع السّلعة به من غير بائعها ، فيجوز من بائعها ، كما لو باعها بثمن مثلها .
4 - وعلّل المالكيّة عدم الجواز بأنّه سلف جرّ نفعاً .
ووجه الرّبا فيه - كما يقول الزّيلعيّ من الحنفيّة - أنّ الثّمن لم يدخل في ضمان البائع قبل قبضه ، فإذا أعاد إليه عين ماله بالصّفة الّتي خرج عن ملكه ، وصار بعض الثّمن قصاصاً ببعض ، بقي له عليه فضل بلا عوض ، فكان ذلك ربح ما لم يضمن ، وهو حرام بالنّصّ .
5- واستدلّ الحنابلة على التّحريم بالآتي :
أ - بما روى غندر عن شعبة ، عن أبي إسحاق السّبيعيّ ، عن امرأته العالية ، قالت : « دخلت أنا وأمّ ولد زيد بن أرقم على عائشة رضي الله عنها ، فقالت أمّ ولد زيد بن أرقم : إنّي بعت غلاماً من زيد ، بثمانمائة درهم إلى العطاء ، ثمّ اشتريته منه بستّمائة درهم نقداً . فقالت لها : بئس ما اشتريت ، وبئس ما شريت ، أبلغي زيداً : أنّ جهاده مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بَطَل ، إلاّ أن يتوب » . قالوا : ولا تقول مثل ذلك إلاّ توقيفاً .
ب - ولأنّه ذريعة إلى الرّبا ، ليستبيح بيع ألف بنحو خمسمائة إلى أجل ، والذّريعة معتبرة في الشّرع ، بدليل منع القاتل من الإرث .
ج - وبما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا ضنّ النّاس بالدّينار والدّرهم ، وتبايعوا بالعينة ، واتّبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل اللّه ، أنزل اللّه بهم بلاءً ، فلا يرفعه حتّى يراجعوا دينهم »
وفي رواية : « إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزّرع ، وتركتم الجهاد ، سلّط اللّه عليكم ذلّاً ، لا ينزعه حتّى ترجعوا إلى دينكم . »
بيع الغرر *
انظر : غرر .
البيع الفاسد *
التّعريف :
1 - البيع : مبادلة المال بالمال ، والفساد : ضدّ الصّلاح .
والبيع الفاسد في الاصطلاح : ما يكون مشروعاً أصلاً لا وصفاً . والمراد بالأصل : الصّيغة ، والعاقدان ، والمعقود عليه . وبالوصف : ما عدا ذلك .
وهذا اصطلاح الحنفيّة الّذين يفرّقون بين الفاسد والباطل . فالبيع الفاسد عندهم مرتبة بين البيع الصّحيح والبيع الباطل . ولهذا يفيد الحكم ، إذا اتّصل به القبض ، لكنّه مطلوب التّفاسخ شرعاً .
أمّا جمهور الفقهاء فالفاسد والباطل عندهم سيّان ، فكما أنّ البيع الباطل لا يفيد الحكم فكذلك الفاسد لا أثر له عندهم . وهذا في الجملة .
إلاّ أنّ بعض الشّافعيّة وافقوا الحنفيّة في الفرق بين الفاسد والباطل حيث قالوا : إن رجع الخلل إلى ركن العقد فالبيع باطل ، وإن رجع إلى شرطه ففاسد .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - البيع الصّحيح :
2 - البيع الصّحيح هو : البيع المشروع بأصله ووصفه ، ويفيد الحكم بنفسه إذا خلا عن الموانع . فالبيع الصّحيح يترتّب عليه أثره ، من حصول الملك والانتفاع بالمبيع وغير ذلك ، ولا يحتاج إلى القبض . وهذا متّفق عليه بين المذاهب .
ب - البيع الباطل :
3 - البيع الباطل : ما لا يكون مشروعاً بأصله ولا بوصفه ، فلا يترتّب عليه أثر ، ولا تحصل به فائدة ، ولا يعتبر منعقداً ، فلا حكم له أصلاً ، لأنّ الحكم للموجود ، ولا وجود لهذا البيع شرعاً ، وإن وجد من حيث الصّورة ، كالبيع الواقع من الطّفل والمجنون ، وكبيع الميتة والحرّ ، وكلّ ما لا يعتبر مالاً . ( ر : بطلان ، البيع الباطل ) .
ج - البيع المكروه :
4 - المكروه لغةً : خلاف المحبوب . والبيع المكروه عند جمهور الفقهاء : ما كان مشروعاً بأصله ووصفه ، لكن نهي عنه لوصف مجاور غير لازم . كالبيع عند أذان الجمعة ، وبيع المسلم على بيع أخيه ونحوهما .
والبيع المكروه بيع منعقد صحيح عند الجمهور - الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - فيترتّب عليه أثره ، كثبوت الملكيّة في البدلين ، لكن فيه إثم إن كان مكروهاً تحريماً على اصطلاح الحنفيّة ، لورود النّهي فيه لوصف عارض ، وهو اقترانه بوقت النّداء لصلاة الجمعة مثلاً . أمّا المكروه تنزيهاً فلا إثم فيه كبيع الحاضر للبادي على إحدى الرّوايات عن أحمد .
وقال الحنابلة : لا يصحّ بيع بعد أذان الجمعة عقب جلوس الإمام على المنبر ، لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا نُودِيَ للصّلاةِ من يومِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللّه وَذَرُوا البَيْعَ } والنّهي يقتضي الفساد . ( ر : بيع منهيّ عنه ) .
د - البيع الموقوف :
5 - البيع الموقوف هو : ما يكون مشروعاً بأصله ووصفه ، ويفيد الحكم على سبيل التّوقّف وامتنع تمامه لأجل غيره ، كبيع مال الغير . ويسمّى البائع حينئذ فضوليّاً ، لتصرّفه في حقّ غيره بغير إذن شرعيّ . فمن باع ملك غيره يكون البيع موقوفاً على إجازة المالك ، إن شاء ردّه ، وإن شاء أجاز ، إذا كان المبيع والمتبايعان بحالهم .
والبيع الموقوف بيع صحيح عند الحنفيّة والمالكيّة ، وهو قول عند الشّافعيّة والحنابلة ، لصدوره من أهله في محلّه . وباطل عند الشّافعيّة في الصّحيح ، وهو رواية أخرى عند الحنابلة لعدم الملك والولاية . ( ر : البيع الموقوف ) .
الحكم التّكليفيّ :
6 - يحرم الإقدام على البيع الفاسد إذا كان المتصرّف عالماً بفساده ، لأنّ فيه مخالفةً شرعيّةً ولو في وصف العقد ، والفاسد منهيّ عنه ، والنّهي يدلّ على كونه غير مباح .
أسباب الفساد :
7 - ما يلي من الأسباب تفسد العقد عند الحنفيّة ولا تبطله ، والبيع في هذه الأحوال يفيد الحكم بشرط القبض ، ويطبّق عليه أحكام الفاسد الآتي ذكرها ، وهذه الأسباب تعتبر من أسباب بطلان العقد وعدم اعتباره أصلاً عند جمهور الفقهاء ، وحيث إنّ البيع الفاسد هو مصطلح الحنفيّة فقط فيقتصر على ذكر أسباب الفساد عندهم :
أ - عدم القدرة على التّسليم إلاّ بتحمّل الضّرر :
8 - من شروط البيع الصّحيح : أن يكون المبيع مقدور التّسليم من غير ضرر يلحق البائع ، فإن لم يمكن تسليمه إلاّ بضرر يلزمه فالبيع فاسد ، لأنّ الضّرر لا يستحقّ بالعقد ، ولا يلزم بالتزام العاقد إلاّ تسليم المعقود عليه ، فأمّا ما وراءه فلا .
وعلى ذلك إذا باع جذعاً في سقف ، أو آجرّاً في حائط ، أو ذراعاً في ديباج فإنّه لا يجوز ، لأنّه لا يمكنه تسليمه إلاّ بالنّزع والقطع ، وفيه ضرر بالبائع ، والضّرر غير مستحقّ بالعقد . فكان بيع ما لا يجب تسليمه شرعاً ، فيكون فاسداً .
فإن نزعه البائع وسلّمه إلى المشتري قبل أن يفسخ العقد جاز البيع ، حتّى يجبر المشتري على الأخذ ، لأنّ المانع من الجواز ضرر البائع بالتّسليم ، فإذا سلّم باختياره ورضاه فقد زال المانع . ولو باع حلية سيفه ، فإن كان يتخلّص منه من غير ضرر يجوز ، وإن كان لا يتخلّص إلاّ بضرر فالبيع فاسد ، إلاّ إذا فصل وسلّم .
وكذلك الحكم في بيع ذراع من ثوب يضرّه التّبعيض ، وبيع فصّ خاتم مركّب فيه ، وكذا بيع نصيبه من ثوب مشترك من غير شريكه ، للضّرر في تسليم ذلك كلّه .
ب - جهالة المبيع أو الثّمن أو الأجل :
9 - من شروط صحّة البيع أن يكون المبيع والثّمن معلومين علماً يمنع من المنازعة ، فإن كان أحدهما مجهولاً جهالةً مفضيةً إلى المنازعة فسد البيع . فإذا قال : بعتك شاةً من هذا القطيع ، أو ثوباً من هذا العدل فسد البيع ، لأنّ الشّاة من القطيع أو الثّوب من العدل مجهول جهالةً مفضيةً إلى المنازعة ، لفحش التّفاوت بين شاة وشاة ، وثوب وثوب فيوجب الفساد . لكن إذا عيّن البائع شاةً أو ثوباً وسلّمه إليه ، ورضي به جاز ، ويكون ذلك ابتداءً بيعاً بالمراضاة . ولو باع شيئاً بعشرة دراهم ، وفي البلد نقود مختلفة ، انصرف إلى النّقد الغالب ، فيصحّ العقد ، لكنّه إذا كان في البلد عدّة نقود غالبة فالبيع فاسد ، لأنّ الثّمن مجهول إذ البعض ليس بأولى من البعض .
10 - وإذا كان البيع فيه أجل ، يشترط لصحّته أن يكون الأجل معلوماً ، فإن كان مجهولاً يفسد البيع ، سواء أكانت جهالة الأجل فاحشةً ، كهبوب الرّيح ونزول المطر وقدوم فلان وموته ونحو ذلك ، أم متقاربةً كالحصاد والدّياس والنّيروز والمهرجان وقدوم الحاجّ ونحو ذلك ، لأنّ الأوّل فيه غرر الوجود والعدم ، والنّوع الثّاني ممّا يتقدّم ويتأخّر فيؤدّي إلى المنازعة ، فيوجب فساد البيع .
ت - البيع بالإكراه :
11 - الإكراه إذا كان ملجئاً ، أي بالتّهديد بإتلاف النّفس أو العضو مثلاً ، يعدم الرّضا ويفسد الاختيار ، فيبطل عقد البيع وسائر العقود بغير خلاف .
أمّا الإكراه غير الملجئ ، كالتّهديد بالحبس والضّرر اليسير ، فيفسد البيع عند الحنفيّة ولا يبطله ، فيثبت به الملك عند القبض ، وينقلب صحيحاً لازماً بإجازة المكرَه ، لأنّ الإكراه غير الملجئ لا يعدم الاختيار - الّذي هو : ترجيح فعل الشّيء على تركه - ، وإنّما يعدم الرّضا - الارتياح إلى الشّيء - والرّضا ليس ركناً من أركان البيع ، بل هو شرط من شروط صحّته . كما هو مفصّل في بحث ( إكراه ) . وكذلك بيع المضطرّ فاسد ، كما إذا اضطرّ شخص إلى بيع شيء من ماله ولم يرض المشتري إلاّ بشرائه بأقلّ من ثمن المثل بغبن فاحش .
ث - الشّرط المفسد :
12 - من شروط صحّة البيع أن يكون خالياً عن الشّروط المفسدة ، وهي أنواع .
منها ما في وجوده غرر ، نحو ما إذا اشترى ناقةً على أنّها حامل ، لأنّ الشّرط يحتمل الوجود والعدم ولا يمكن الوقوف عليه للحال ، لأنّ عظم البطن والتّحرّك يحتمل أن يكون لعارض ، فكان في البيع بهذا الشّرط غرر يوجب فساده ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أنّه « نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر » .
ويروي الحسن بن زياد عن أبي حنيفة : أنّ البيع بهذا الشّرط جائز ، لأنّ كونها حاملاً بمنزلة شرط كون العبد كاتباً أو خيّاطاً ونحو ذلك ، وذا جائز ، فكذا هذا .
وقد ألحق بعض الفقهاء بهذا المثال شراء بقرة على أنّها حلوب ، أو قمريّةً على أنّها تصوّت ، أو كبشاً على أنّه نطاح ، أو ديكاً على أنّه مقاتل ، فالبيع فاسد عند أبي حنيفة ، وهو إحدى الرّوايتين عن محمّد ، لأنّه شرط فيه غرر .
وفي الموضوع أمثلة خلافيّة يرجع إليها في مظانّها .
ومن الشّروط الفاسدة الّتي تفسد العقد : كلّ شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة للبائع أو للمشتري ، وليس بملائم ولا ممّا جرى به التّعامل بين النّاس . نحو : إذا باع داراً على أن يسكنها البائع شهراً ثمّ يسلّمها إليه ، أو أرضاً على أن يزرعها سنةً ، أو دابّةً على أن يركبها شهراً ، أو ثوباً على أن يلبسه أسبوعاً ، فالبيع في كلّ هذه الصّور فاسد ، لأنّ زيادة المنفعة المشروطة في البيع تكون رباً ، لأنّها زيادة لا يقابلها عوض في عقد البيع ، والبيع الّذي فيه رباً فاسد . وكذا ما فيه شبهة الرّبا ، فإنّها مفسدة للبيع . ( ر : ربا ) .
ومن الشّروط المفسدة : شرط خيار مؤبّد في البيع ، وكذلك شرط خيار مؤقّت بأجل مجهول جهالةً فاحشةً ، كهبوب الرّيح ومجيء المطر مثلاً ، وتفصيله في مصطلح : ( شرط ) .
ج - اشتمال العقد على التّوقيت :
13 - من شروط صحّة البيع : ألا يكون العقد مؤقّتاً ، فإن أقّته فالبيع فاسد ، لأنّ عقد البيع عقد تمليك العين ، وعقود تمليك الأعيان لا تصحّ مؤقّتةً ، ولهذا عرّف بعض الفقهاء البيع بأنّه : عقد معاوضة ماليّة يفيد ملك عين على التّأبيد .
وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( أجل ، تأقيت ) .
ح - اشتمال العقد على الرّبا :
14 - من شروط صحّة البيع : الخلوّ عن الرّبا ، لأنّ البيع الّذي فيه رباً فاسد عند الحنفيّة ، لأنّ الرّبا حرام بنصّ الكتاب الكريم . قال اللّه تعالى : { وأحلَّ اللّه البيعَ وحرَّمَ الرّبا } . وكذلك يشترط أن يكون البيع خالياً عن شبهة الرّبا ، واحتمال الرّبا . قال الكاسانيّ : حقيقة الرّبا كما هي مفسدة للبيع ، فاحتمال الرّبا مفسد له أيضاً ، ولأنّ الشّبهة ملحقة بالحقيقة في باب الحرمات احتياطاً ، وأصله ما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « الحلال بَيّنٌ والحرام بيّن ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك » .
خ - البيع بغرر :
15 - الغرر هو خطر حصول الشّيء أو عدم حصوله ، فإذا كان الغرر في أصل المبيع ، بأن يكون محتملاً للوجود والعدم ، كبيع الثّمار قبل أن تخلق ، وبيع الطّير في الهواء قبل أن يصطاد ، فالعقد باطل ، وإن كان في أوصافه كبيع الرّطب على النّخل بتمر مقطوع فالعقد فاسد عند الحنفيّة لجهالة قدر المبيع . وتفصيله في مصطلح : ( غرر ) .
د - بيع المنقول قبل قبضه :
16 - من اشترى عيناً منقولةً لا يصحّ بيعه لها قبل قبضها من البائع الأوّل ، لما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطّعام حتّى يقبض » .
ولأنّه بيع فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه ، لأنّه إذا هلك قبل القبض يبطل البيع الأوّل ، فينفسخ الثّاني ، لأنّه بناءً على الأوّل ، وسواء أباعه من بائعه الأوّل أو من غيره . وكذلك لو قبض نصف المبيع المنقول الّذي اشتراه ، فأشرك رجلاً فيما اشتراه جاز فيما قبض ، ولم يجز فيما لم يقبض ، لأنّ الإشراك نوع بيع والمبيع منقول ، فلم يكن غير المقبوض محلاً له شرعاً ، فلم يصحّ في غير المقبوض ، وصحّ في قدر المقبوض . ( ر : قبض ) .
تجزّؤ الفساد :
17 - الأصل اقتصار الفساد على قدر المفسد ، فالصّفقة إذا اشتملت على الصّحيح والفاسد يقتصر الفساد فيه على قدر المفسد ، ويصحّ في الباقي ، وهذا متّفق عليه بين فقهاء الحنفيّة إذا كان الفساد طارئاً . وقد ورد في صور بيع العينة : ما لو باع شيئاً بعشرة ولم يقبض الثّمن ، ثمّ اشتراه بخمسة لم يجز ، أمّا إذا اشترى ذلك الشّيء مضموماً إليه غيره فيصحّ . جاء في الهداية : أنّ من اشترى سلعةً بخمسمائة ، ثمّ باعها وأخرى معها بخمسمائة من البائع قبل نقد الثّمن ، فالبيع جائز في الّتي لم يشترها من البائع ، ولا يجوز في الأخرى لأنّه لا بدّ أن يجعل الثّمن بمقابلة الّتي لم يشترها ، فيكون مشترياً للأخرى بأقلّ ممّا باع قبل نقد الثّمن ، وهو فاسد بشبهة الرّبا . أمّا إذا كان الفساد مقارناً للعقد فكذلك الحكم عند أبي يوسف ومحمّد ، لأنّهما لا يفرّقان بين الفساد الطّارئ والفساد المقارن .
وقال أبو حنيفة : متى فسد العقد في البعض بمفسد مقارن يفسد في الكلّ لأنّه إذا كان الفساد مقارناً يصير قبول العقد في الفاسد شرط قبول العقد في الآخر ، وهذا شرط فاسد ، فيؤثّر في الكلّ ، ولم يوجد هذا المعنى في الفساد الطّارئ ، فاقتصر الفساد فيه على قدر المفسد . وعلى ذلك إذا اشترى ديناراً بعشرة دراهم نسيئةً ، ثمّ نقد بعض العشرة دون البعض في المجلس فسد الكلّ عند أبي حنيفة ، لأنّ الفساد مقارن للعقد ، فيؤثّر في فساد الكلّ . وعندهما يصحّ بقدر ما قبض ويفسد في الباقي ، بناءً على اقتصار الفساد على قدر المفسد .
أمثلة للبيع الفاسد :
18 - ذكر الحنفيّة في كتبهم - بعد بيان البيع الباطل - أمثلةً عن البيع الفاسد ، وذلك بناءً على أصلهم من التّفرقة بينهما ، ومن أمثلة البيع الفاسد :
بيع ما سكت فيه عن الثّمن ، كبيعه بقيمته ، وذراع من ثوب يضرّه التّبعيض ، وبيع الملامسة والمنابذة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الملامسة والمنابذة » وبيع اللّبن في الضّرع ، والصّوف على الظّهر ، واللّحم في الشّاة ، وجذع في سقف ، وثوب من ثوبين إذا لم يشترط فيه خيار التّعيين .
أمّا اللّبن في الضّرع فللجهالة واختلاط المبيع بغيره ، وكذا الصّوف على الظّهر ، ولاحتمال وقوع التّنازع ، وقد « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع لبن في ضرع ، وسمن في لبن » .
وأمّا اللّحم في الشّاة والجذع في السّقف فلا يمكن تسليمه إلاّ بضرر لا يستحقّ عليه . وكذلك ذراع من ثوب وحلية في سيف ، وإن قلعه وسلّمه قبل نقض البيع جاز .
ولو باع عيناً على أن يسلّمها إلى رأس الشّهر فهو فاسد ، لأنّ تأجيل الأعيان باطل ، إذ لا فائدة فيه ، لأنّ التّأجيل شرع في الأثمان تيسيراً على المشتري ، ليتمكّن من تحصيل الثّمن ، وأنّه معدوم في الأعيان فكان شرطاً فاسداً .
ومن البيع الفاسد : بيع المزابنة والمحاقلة ، لنهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم عنهما ، ولشبهة الرّبا فيهما . ولو باع على أن يقرض المشتري دراهم أو ثوباً على أن يخيطه البائع فالبيع فاسد ، « لأنّه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط » ، وهذا شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ، وفيه منفعة لأحد العاقدين فيفسد العقد .
والبيع إلى النّيروز والمهرجان وصوم النّصارى وفطر اليهود إذا جهل المتبايعان ذلك فاسد ، وكذلك البيع إلى الحصاد والقطاف والدّياس وقدوم الحاجّ لجهالة الأجل ، وهي تقضي إلى المنازعة ، وإن أسقط الأجل قبل حلوله جاز البيع عند فقهاء الحنفيّة ، خلافاً لزفر حيث قال : الفاسد لا ينقلب صحيحاً .
19 - هذا ، ومن أمثلة البيع الفاسد الّتي ذكرها الحنفيّة : البيع بالخمر والخنزير ، أو بيعهما مقايضةً بالعين ، فإذا قوبلا بالعين كما إذا اشترى الثّوب بالخمر ، أو باع الخمر بالثّوب فالبيع فاسد ، أمّا إن قوبلا بالدّين كالدّراهم والدّنانير فالبيع باطل .
ووجه الفرق كما ذكره المرغينانيّ : أنّ الخمر والخنزير مال عند أهل الذّمّة ، إلاّ أنّه غير متقوّم ، لأنّ الشّرع أمر بإهانته وترك إعزازه ، وفي تملّكه بالعقد إعزاز له ، وهذا لأنّه متى اشتراها بالدّراهم فالدّراهم غير مقصودة ، لكونها وسيلةً لما أنّها تجب في الذّمّة ، وإنّما المقصود الخمر ، فسقط التّقوّم أصلاً فبطل العقد ، بخلاف مشتري الثّوب بالخمر لأنّ فيه إعزازاً للثّوب دون الخمر . وكذا إذا باع الخمر بالثّوب فيكون العقد فاسداً ، لأنّه يعتبر شراء الثّوب بالخمر ، لكونه مقايضةً .
20 - وهناك صوراً أخرى اختلف فقهاء الحنفيّة في اعتبارها بيعاً فاسداً أو بيعها باطلاً ، كبيع الحمل ، وبيع الطّير في الهواء ، والسّمك في البحر قبل اصطيادهما لو قوبلا بالعرض ، وبيع ضربة القانص والغائص . وبيع لؤلؤ في صدف ، وكذلك بيع الآبق ،واللّبن في الضّرع.
آثار البيع الفاسد :
21 - تقدّم أنّه لا فرق بين بيع البيع الفاسد والبيع الباطل عند جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - في الجملة ، فكلاهما غير منعقد ، فلا اعتبار بالبيع الفاسد شرعاً ، كما أنّه لا اعتبار بالبيع الباطل عندهم .
ولمّا قال خليل في مختصره : وفسد منهيّ عنه ، فسّره الدّردير بقوله : أي بطل ، أي لم ينعقد ، سواء أكان عبادةً ، كصوم يوم العيد ، أم عقداً ، كنكاح المريض والمحرم ، وكبيع ما لا يقدر على تسليمه ، أو مجهول ، لأنّ النّهي يقتضي الفساد .
وكتب على نصّ خليل الدّسوقيّ قوله : أي منهيّ عن تعاطيه . وهذه قضيّة كلّيّة شاملة للعبادات والمعاملات ، وهي العقود . وصرّح الشّافعيّة بأنّه لو حذف المتعاقدان المفسد للعقد ، ولو في مجلس الخيار ، لم ينقلب صحيحاً ، إذ لا عبرة بالفاسد . وهذا يعني أنّ الفاسد عندهم لا تلحقه الإجازة ، كالباطل عند الحنفيّة . وقد أخذ القليوبيّ والجمل وغيرهما على الإمام النّوويّ - رحمه الله تعالى - أنّه أهمل هنا فصلاً في حكم البيع الفاسد والمقبوض بالشّراء الفاسد ، وذكروا أحكامه مختصرةً . أمّا الحنفيّة فيفرّقون بين البيع الفاسد والبيع الباطل ، ويعتبرون الفاسد منعقداً خلافاً للباطل فإنّه غير منعقد ، وله أحكام سبقت في مصطلحه . أمّا البيع الفاسد فله أحكام نجملها فيما يلي :
أوّلاً - انتقال الملك بالقبض :
22 - البيع الفاسد يفيد الملك بقبض المشتري المبيع بإذن البائع صريحاً أو دلالةً عند الحنفيّة ، كما إذا قبضه في المجلس وسكت البائع ، فيجوز للمشتري التّصرّف في المبيع ، ببيع أو هبة أو صدقة أو إجارة ونحو ذلك ، إلاّ الانتفاع .
قال ابن عابدين : إذا ملكه تثبت له كلّ أحكام الملك إلاّ خمسةً : لا يحلّ له أكله ، ولا لبسه ، ولا وطؤها - إن كان المبيع أمةً - ولا أن يتزوّجها منه البائع ، ولا شفعة لجاره لو عقاراً . ودليل جواز التّصرّف في المبيع فاسداً حديث « عائشة رضي الله عنها ، حيث ذكرت لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّها أرادت أن تشتري بريرة ، فأبى مواليها أن يبيعوها إلاّ بشرط : أن يكون الولاء لهم ، فقال لها : خذيها واشترطي لهم الولاء ، فإنّ - الولاء لمن أعتق ، فاشترتها مع شرط الولاء لهم » . فأجاز العتق مع فساد البيع بالشّرط . ولأنّ ركن التّمليك ، وهو قوله : بعت واشتريت ، صدر من أهله ، وهو المكلّف المخاطب مضافاً إلى محلّه وهو المال عن ولاية ، إذ الكلام فيهما ، فينعقد لكونه وسيلةً إلى المصالح ، والفساد لمعنًى يجاوره ، كالبيع وقت النّداء ، والنّهي لا ينفي الانعقاد بل يقرّره ، لأنّه يقتضي تصوّر المنهيّ عنه والقدرة عليه ، لأنّ النّهي عمّا لا يتصوّر ، وعن غير المقدور قبيح ، إلاّ أنّه يفيد ملكاً خبيثاً لمكان النّهي . واشترطوا لإفادة البيع الفاسد الملك شرطين :
أحدهما : القبض ، فلا يثبت الملك قبل القبض ، لأنّه واجب الفسخ رفعاً للفساد ، وفي وجوب الملك قبل القبض تقرّر الفساد .
والثّاني : أن يكون القبض بإذن البائع ، فإن قبض بغير إذن لا يثبت الملك .
23 - هذا ، واختلف علماء الحنفيّة في كيفيّة حصول الملك والتّصرّف في المبيع بيعاً فاسداً . قال بعضهم : إنّ المشتري يملك التّصرّف فيه باعتبار تسليط البائع له ، لا باعتبار تملّك العين ، ولهذا لا يجوز أكل طعام اشتراه شراءً فاسداً . وذهب بعضهم إلى أنّ جواز التّصرّف بناءً على ملك العين ، واستدلّوا بما إذا اشترى داراً بشراء فاسد وقبضها ، فبيعت بجنبها دار ، له أن يأخذها بالشّفعة لنفسه ، ولم يملكها لمّا استحقّ الشّفعة . لكن لا تجب فيه شفعة للشّفيع وإن كان يفيد الملك ، لأنّ حقّ البائع لم ينقطع .
أي لأنّ لكلّ من البائع والمشتري الفسخ .
انتقال الملك بالقيمة لا بالمسمّى :
24 - اتّفق الحنفيّة على أنّ حصول الملك بالقبض في البيع الفاسد في مقابل قيمة المبيع ، لا الثّمن المسمّى الّذي اتّفق عليه الطّرفان . وذلك لأنّ العقد منهيّ عنه ، والتّسمية فاسدة فلا يجب المسمّى ، والمعتبر في القيمة يوم القبض عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، ويوم الإتلاف عند محمّد .
ثانياً : استحقاق الفسخ :
25 - البيع الفاسد ، مع كونه غير مشروع بوصفه ، فالفساد مقترن به ، ودفع الفساد واجب فيستحقّ فسخه ، ولأنّ الفاسد يفيد ملكاً خبيثاً لمكان النّهي ، فكان لكلّ واحد منهما حقّ الفسخ ، إزالةً للخبث ودفعاً للفساد . ولأنّ من أسباب البيع الفاسد اشتراط الرّبا وإدخال الآجال المجهولة ونحو ذلك ، وهذه معصية والزّجر عن المعصية واجب ، واستحقاق الفسخ يصلح زاجراً عن المعصية ، لأنّه إذا علم أنّه يفسخ ، فالظّاهر أنّه يمتنع عن المباشرة كما علّله الفقهاء .
ولا يشترط في فسخه قضاء قاض ، لأنّ الواجب شرعاً لا يحتاج إلى القضاء . ولكن لو أصرّا على إمساك المبيع بيعاً فاسداً وعلم بذلك القاضي فله فسخه جبراً عليهما ، حقّاً للشّرع .
شروط الفسخ :
26 - الفسخ مشروط بما يلي :
أ - أن يكون بعلم المتعاقد الآخر ، ولا يشترط رضاه ، ونقل الكاسانيّ عن الكرخيّ أنّ هذا الشّرط من غير خلاف : ثمّ نقل عن الإسبيجابيّ أنّه شرط عندهما خلافاً لأبي يوسف ، وأنّ الخلاف فيه كالخلاف في خيار الشّرط والرّؤية .
ب - أن يكون المبيع قائماً في يد أحدهما .
ج - أن لا يعرض له ما يتعذّر به الرّدّ .
من يملك الفسخ :
27 - الفسخ إمّا أن يكون قبل القبض أو بعده :
أ - فإن كان الفسخ قبل القبض ، فلكلّ من المتعاقدين الفسخ بعلم صاحبه من غير رضاه ، لأنّ البيع الفاسد قبل القبض لا يفيد الملك ، فكان الفسخ قبل القبض بمنزلة الامتناع من القبول والإيجاب ، فيملكه كلّ واحد منهما ، لكنّه - كما يقول الزّيلعيّ - يتوقّف على علمه ، لأنّ فيه إلزام الفسخ له ، فلا يلزمه بدون علمه .
ب - وإن كان الفسخ بعد القبض : فإمّا أن يكون الفساد راجعاً إلى البدلين أو إلى غيرهما : - 1 - فإن كان الفساد في صلب العقد ، بأن كان راجعاً إلى البدلين : المبيع والثّمن ، كبيع درهم بدرهمين ، وكالبيع بالخمر والخنزير ، فكذلك الحكم ، ينفرد أحدهما بالفسخ ، لأنّ الفساد الرّاجع إلى البدل راجع إلى صلب العقد ، فلا يمكن تصحيحه ، لأنّه لا قوام للعقد إلاّ بالبدلين ، فكان الفساد قويّاً ، فيؤثّر في صلب العقد ، بعدم لزومه في حقّ المتعاقدين جميعاً . - 2 - وإن كان الفساد غير راجع إلى البدلين ، كالبيع بشرط زائد ، كالبيع إلى أجل مجهول ، أو بشرط فيه نفع لأحدهما :
- فالإسبيجابيّ قرّر أنّ ولاية الفسخ لصاحب الشّرط ، بلا خلاف ، لأنّ الفساد الّذي لا يرجع إلى البدل ، لا يكون قويّاً فيحتمل السّقوط ، فيظهر في حقّ صاحب الشّرط ، فلا يلزمه
- وذكر الكرخيّ خلافاً في المسألة : ففي قول أبي حنيفة وأبي يوسف : لكلّ منهما الفسخ ، لعدم اللّزوم ، بسبب الفساد . وفي قول محمّد : الفسخ لمن له منفعة الشّرط ، لأنّه القادر على تصحيح العقد بإسقاط المفسد ، فلو فسخه الآخر ، لأبطل حقّه عليه ، هذا لا يجوز .
طريق فسخ البيع الفاسد :
28 - يفسخ العقد الفاسد بطريقين :
الأوّل : بالقول ، وذلك بأن يقول من يملك الفسخ : فسخت العقد ، أو رددته ، أو نقضته ، فينفسخ بذلك ، ولا يحتاج إلى قضاء ولا رضا البائع ، سواء أكان قبل القبض أم بعده ، لأنّ استحقاق الفسخ ثبت رفعاً للفساد ، ورفع الفساد حقّ للّه تعالى ، فيظهر في حقّ الكافّة ، ولا يتوقّف على قضاء ولا رضاء .
الثّاني : بالفعل ، وذلك بأن يردّ المبيع على بائعه بأيّ وجه ، بهبة أو صدقة ، أو إعارة ، أو بيع أو إجارة ، فإذا فعل ذلك ، ووقع المبيع في يد بائعه - حقيقةً ، أو حكماً كالتّخلية - فهو متاركة للبيع ، وبرئ المشتري من ضمانه .
ما يبطل به حقّ الفسخ :
29 - لا يسقط حقّ الفسخ بصريح الإبطال والإسقاط ، بأن يقول : أسقطت ، أو : أبطلت ، أو : أوجبت البيع ، أو ألزمته ، لأنّ وجوب الفسخ ثبت حقّاً للّه تعالى ، دفعاً للفساد ، وما ثبت حقّاً للّه تعالى خالصاً ، لا يقدر العبد على إسقاطه مقصوداً ، كخيار الرّؤية .
لكن قد يسقط بطريق الضّرورة ، بأن يتصرّف العبد في حقّ نفسه مقصوداً ، فيتضمّن ذلك سقوط حقّ اللّه عزّ وجلّ ، بطريق الضّرورة . وإذا بطل حقّ الفسخ لزم البيع ، وتقرّر الضّمان ، وإذا لم يبطل لا يلزم البيع ، ولا يتقرّر الضّمان . وفيما يلي أهمّ صور ذلك .
الصّورة الأولى : التّصرّف القوليّ في المبيع بيعاً فاسداً .
30 - أطلق الحنفيّة القول بأنّه يبطل حقّ الفسخ بكلّ تصرّف يخرج المبيع عن ملك المشتري لتعلّق حقّ العبد به . وهذا التّعليل هو الّذي أصّله المالكيّة ، وذلك كما لو جعل المبيع مهراً ، أو بدل صلح ، أو بدل إجارة ، وعلّلوه قائلين : لخروجه عن ملكه بذلك .
أو وهبه وسلّمه ، لأنّ الهبة لا تفيد الملك إلاّ بالتّسليم بخلاف البيع .
أو رهنه وسلّمه ، لأنّ الرّهن لا يلزم بدون التّسليم .
أو وقفه وقفاً صحيحاً ، لأنّه استهلكه حين وقفه وأخرجه عن ملكه .
أو أوصى به ثمّ مات ، لأنّه ينتقل من ملكه إلى ملك الموصى له ، وهو ملك مبتدأ ، فصار كما لو باعه . أو تصدّق به وسلّمه أيضاً ، لأنّه لا يخرج عن ملك المتصدّق بدون تسليم .
وكذا العتق ، فقد استثنوه لقوّته وسرايته وتشوّف الشّارع إليه .
31 - ففي هذه الصّور كلّها ، ينفذ البيع الفاسد ، ويمتنع فسخه وذلك :
أ - لأنّ المشتري ملكه ، فملك التّصرّف فيه .
ب - ولأنّه تعلّق حقّ العبد بالعقد الثّاني ، ونقض العقد الأوّل ما كان إلاّ لحقّ الشّرع ، وحقّ العبد عند معارضة حقّ اللّه تعالى يقدّم بإذنه تعالى ، لغناه سبحانه وتعالى وسعة عفوه ، وفقر العبد دائماً إلى ربّه .
ج - ولأنّ العقد الأوّل مشروع بأصله لا بوصفه ، والثّاني مشروع بأصله ووصفه ، فلا يعارضه مجرّد الوصف .
د - ولأنّ البيع الثّاني حصل بتسليط من جهة البائع الأوّل ، لأنّ التّمليك منه - مع الإذن في القبض - تسليط على التّصرّف ، فلا يتمكّن من الاسترداد من المشتري الثّاني ، وإلاّ كان ساعياً في نقض ما تمّ من جهته ، ويؤدّي إلى المناقضة .
32 - استثنى الحنفيّة من ذلك : الإجارة . فقرّروا أنّها لا تمنع من فسخ البيع الفاسد ، لأنّ الإجارة تفسخ بالأعذار ، ورفع الفساد من الأعذار ، بل لا عذر أقوى من الفساد ، كما يقول الكاسانيّ . ولأنّها - كما يقول المرغينانيّ - تنعقد شيئاً فشيئاً ، فيكون الرّدّ امتناعاً . ونصّ الحنفيّة على أنّه إذا زال المانع من ممارسة حقّ الفسخ - كما لو رجع الواهب بهبته ، أو أفتك الرّاهن رهنه - عاد الحقّ في الفسخ ، لأنّ هذه العقود لم توجب الفسخ من كلّ وجه في حقّ الكلّ . لكن يشترط أن يكون ذلك قبل القضاء بالقيمة أو المثل ، لا بعده ، لأنّ قضاء القاضي بذلك يبطل حقّ البائع في العين ، وينقله إلى القيمة أو المثل بإذن الشّرع ، فلا يعود حقّه إلى العين وإن ارتفع السّبب ، كما لو قضى على الغائب بقيمة المغصوب بسبب فقده مثلاً ، ثمّ وجد المغصوب .
الصّورة الثّانية : الأفعال الّتي ترد على المبيع بيعاً فاسداً :
33 - ومنها البناء والغرس ، فلو بنى المشتري في الأرض الّتي اشتراها شراءً فاسداً بناءً أو غرس شجراً :
فذهب أبو حنيفة إلى أنّه يمتنع الفسخ بالبناء والغرس ، وذلك لأنّهما استهلاك عنده ، لأنّه يقصد بهما الدّوام ، وقد حصلا بتسليط من البائع ، فينقطع بهما حقّ الاسترداد ، كالبيع . وذهب الصّاحبان إلى أنّ البناء والغرس لا يمنعان من الفسخ ، وللبائع أن ينقضهما ويستردّ المبيع ، وذلك لأنّ حقّ الشّفعة - مع ضعفه - لا يبطل بالبناء والغرس ، فهذا أولى .
34 - وممّا يمنع الفسخ الزّيادة في المبيع أو النّقص منه .
أ - أمّا الزّيادة : فقد قرّر الحنفيّة أنّ كلّ زيادة متّصلة بالمبيع ، غير متولّدة منه ، كما لو كان المبيع قماشاً فخاطه ، أو ثوباً فصبغه ، أو قمحاً فطحنه ، أو قطناً فغزله ، ففي هذه الصّور كلّها وأمثالها يمتنع الفسخ ، وتلزم المشتري قيمة المبيع .
وأمّا الزّيادة المتّصلة المتولّدة كسمن المبيع ، والزّيادة المنفصلة المتولّدة كالولد ، والزّيادة المنفصلة غير المتولّدة كالكسب والهبة ، فإنّها لا تمنع الفسخ .
ب - وأمّا نقص المبيع ، فقد قرّروا أنّه إذا نقص في يد المشتري ، لا يبطل حقّه في الرّدّ ، ولا يمتنع الفسخ . لكن إن نقص وهو في يده بفعله ، أو بفعل المبيع نفسه ، أو بآفة سماويّة يأخذه البائع منه ، ويضمّنه أرش النّقصان .
ولو نقص وهو في يد المشتري بفعل البائع ، اعتبر البائع بذلك مستردّاً له .
ولو نقص بفعل أجنبيّ ، خيّر البائع بأخذه من المشتري أو من الجاني .
35 - وقد وضع الزّيلعيّ من الحنفيّة ضابطاً لما يمتنع به من الأفعال حقّ الاسترداد والفسخ ، فقال : إنّ المشتري متى فعل بالمبيع فعلاً ، ينقطع به حقّ المالك في الغصب ، ينقطع به حقّ المالك في الاسترداد ، كما إذا كان حنطةً فطحنها .
ثالثاً : من أحكام البيع الفاسد : حكم الرّبح في البدلين بالبيع الفاسد :
36 - صرّح فقهاء الحنفيّة بأنّه يطيب للبائع ما ربح في الثّمن ، ولا يطيب للمشتري ما ربح في المبيع ، فلو اشترى من رجل عيناً بالبيع الفاسد بألف درهم مثلاً وتقابضا ، وربح كلّ واحد منهما فيما قبض ، يتصدّق الّذي قبض العين بالرّبح ، لأنّها تتعيّن بالتّعيين ، فتمكّن الخبث فيها ، ويطيب الرّبح للّذي قبض الدّراهم ، لأنّ النّقد لا يتعيّن بالتّعيين .
ومفاد هذا الفرق : أنّه لو كان بيع مقايضة ( أي بيع عين بعين ) لا يطيب الرّبح لهما ، لأنّ كلّاً من البدلين مبيع من وجه ، فتمكّن الخبث فيهما معاً .
رابعاً : قبول البيع الفاسد للتّصحيح :
37 - البيع الفاسد إمّا أن يكون الفساد فيه ضعيفاً أو قويّاً :
أ - فإذا كان الفساد ضعيفاً ، وهو ما لم يدخل في صلب العقد ، فإنّه يمكن تصحيحه كما في البيع بشرط خيار لم يوقّت ، أو وقّت إلى وقت مجهول كالحصاد والدّياس ، وكما في البيع بثمن مؤجّل إلى أجل مجهول مثلاً ، فإذا أسقط الأجل مَنْ له الحقّ فيه قبل حلوله ، وقبل فسخه ، جاز البيع لزوال المفسد ، ولو كان إسقاط الأجل بعد الافتراق على ما حرّره ابن عابدين كذلك سائر البياعات الفاسدة تنقلب جائزةً بحذف المفسد ، فبيع جذع في سقف فاسد ، وكذلك بيع ذراع من ثوب وحلية في سيف ، لأنّه لا يمكن تسليم المبيع إلاّ بضرر لا يستحقّ عليه ، لكنّه إن قلعه وسلّمه قبل نقض البيع جاز ، وليس للمشتري الامتناع . وبيع ثوب من ثوبين فاسد لجهالة المبيع ، لكنّه لو قال : على أن يأخذ أيّهما شاء جاز لعدم المنازعة . وإن باع بشرط أن يعطيه المشتري رهناً ، ولم يكن الرّهن معيّناً ولا مسمًّى ، فالبيع فاسد ، لكن إذا تراضيا على تعيين الرّهن في المجلس ، ورفعه المشتري إليه قبل أن يتفرّقا ، أو عجّل المشتري الثّمن يبطل الأجل ، فيجوز البيع استحساناً لزوال الفساد .
هذا كلّه عند أكثر فقهاء الحنفيّة ، خلافاً لزفر حيث قال : البيع إذا انعقد على الفساد لا يحتمل الجواز بعد ذلك برفع المفسد ، لما فيه من الاستحالة .
ب - أمّا إذا كان الفساد قويّاً ، بأن يكون في صلب العقد ، وهو البدل أو المبدل ، فلا يحتمل الجواز برفع المفسد اتّفاقاً ، كما إذا باع عيناً بألف درهم ورطل من خمر ، فحطّ الخمر عن المشتري ، فهذا البيع فاسد ولا ينقلب صحيحاً .
خامساً : الضّمان إذا هلك المبيع :
38 - لا يختلف الفقهاء في أنّ المبيع بيعاً فاسداً ، إذا هلك وهو في يد المشتري ، ثبت ضمانه عليه ، وذلك بردّ مثله إن كان مثليّاً - مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً - وردّ قيمته إن كان قيميّاً ، بالغةً ما بلغت ، سواء أكانت أكثر من الثّمن أم أقلّ منه أم مثله .
وتجب القيمة في القيميّ ، عند جمهور الحنفيّة يوم القبض ، لأنّه به يدخل في ضمانه ، فهو اليوم الّذي انعقد به سبب الضّمان . وعند محمّد تعتبر قيمته يوم الإتلاف ( الهلاك ) ، لأنّه بالإتلاف يتقرّر المثل أو القيمة
39 - أمّا لو نقص المبيع بيعاً فاسداً في يد المشتري ، فالنّقص مضمون عليه على النّحو التّالي :
أ - لو نقص في يد المشتري بفعل المشتري ، أو المبيع نفسه ، أو بآفة سماويّة ، أخذه البائع مع تضمين المشتري أرش النّقصان .
ب - ولو نقص بفعل البائع ، صار بذلك مستردّاً للمبيع ، حتّى لو هلك عند المشتري ولم يوجد منه حبس عن البائع ، هلك على البائع .
ج - ولو نقص بفعل أجنبيّ ، خيّر البائع :
- فإن شاء أخذه من المشتري ، ثمّ يرجع المشتري على الجاني .
- وإن شاء اتّبع الجاني ، وهو لا يرجع على المشتري .
سادساً : ثبوت الخيار فيه :
40 - نصّ الحنفيّة على أنّ خيار الشّرط يثبت في البيع الفاسد ، كما يثبت في البيع الجائز حتّى لو باع عبداً بألف درهم ورطل من خمر ، على أنّه بالخيار ، فقبضه المشتري بإذن البائع ، وأعتقه في الأيّام الثّلاثة لا ينفذ إعتاقه ، ولولا خيار الشّرط للبائع لنفذ إعتاق المشتري بعد القبض . قال ابن عابدين : ومفاده صحّة إعتاقه بعد مضيّ المدّة ، لزوال الخيار ، وهو ظاهر . وكما يثبت خيار الشّرط في المبيع بيعاً فاسداً ، يثبت فيه خيار العيب ، وللمشتري بعد قبضه أن يردّه بالعيب بقضاء وبغير قضاء .
بيع الفضوليّ *
التّعريف :
1 - البيع في اللّغة : مبادلة شيء بشيء .
وفي الشّرع هو : مبادلة المال المتقوّم بالمال المتقوّم تمليكاً وتملّكاً .
والفضوليّ لغةً : مَنْ يشتغل بما لا يعنيه .
وأمّا في الاصطلاح فهو : من لم يكن وليّاً ولا أصيلاً ولا وكيلاً في العقد .
وجاء في العناية : أنّ الفضوليّ بضمّ الفاء لا غير ، والفضل : الزّيادة ، وغلب استعمال الجمع ( فضول ) بدلاً من المفرد ( فضل ) فيما لا خير فيه . وقيل : لمن يشتغل بما لا يعنيه فضوليّ ، وهو في اصطلاح الفقهاء : من ليس بوكيل .
وجاء في حاشية الشّلبيّ على تبيين الحقائق : وفي حاشية ابن عابدين أنّ الفضوليّ : هو من يتصرّف في حقّ الغير بغير إذن شرعيّ ، كالأجنبيّ يزوّج أو يبيع . ولم ترد النّسبة إلى الواحد وهو الفضل ، وإن كان هو القياس ، لأنّه صار بالغلبة كالعلم لهذا المعنى ، فصار كالأنصاريّ والأعرابيّ . هذا ، ولفظ الفضوليّ عند الفقهاء يتناول كلّ من يتصرّف بلا ملك ولا ولاية ولا وكالة ، كالغاصب إذا تصرّف في المغصوب بالبيع أو غيره ، والوكيل إذا باع أو اشترى أو تصرّف مخالفاً لما أمره به موكّله ، فهو أيضاً يعتبر بهذه المخالفة فضوليّاً ، لأنّه تجاوز الحدود الّتي قيّده بها موكّله .
الحكم التّكليفيّ :
2 - الفقهاء الّذين يرون أنّ بيع الفضوليّ باطل مقتضى مذهبهم حرمة الإقدام على بيع الفضوليّ لأنّه تسبّب للمعاملات الباطلة . أمّا من رأى صحّته - وهم الحنفيّة والمالكيّة - فقد صرّح المالكيّة بأنّ بيع الفضوليّ بلا مصلحة للمالك حرام ، أمّا إن باع للمصلحة كخوف تلف أو ضياع فغير حرام ، بل ربّما كان مندوباً .
ولم نجد للحنفيّة تصريحاً بالحكم التّكليفيّ .
الحكم الإجماليّ :
3 - للفقهاء في بيع الفضوليّ اتّجاهان من حيث الجملة .
أحدهما : يجيز البيع ويوقف نفاذه على إجازة المالك .
والثّاني : يمنع البيع ويبطله . وأمّا الشّراء ، فإنّ منهم من يجيزه ويجعله موقوفاً على الإجازة كالبيع ، ومنهم من لا يجعله كذلك ، ومنهم من يذكر فيه تفصيلاً .
الأدلّة :
4 - استدلّ القائلون بجواز بيع الفضوليّ بقوله تعالى : { وتعاونوا على البرّ والتّقوى } وفي هذا إعانة لأخيه المسلم . واستدلّوا أيضاً بحديث « عروة بن أبي الجعد البارقيّ ، وهو أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري له به شاةً ، فاشترى له به شاتين ، فباع إحداهما بدينار ، فجاء بدينار وشاة ، فدعا له بالبركة في بيعه ، وكان لو اشترى التّراب لربح فيه » . وبحديث حكيم بن حزام وهو « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه ليشتري له أضحيّةً بدينار ، فاشترى أضحيّةً ، فأربح فيها ديناراً ، فاشترى أخرى مكانها ، فجاء بالأضحيّة والدّينار إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : ضحّ بالشّاة وتصدّق بالدّينار » . فهذا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أجاز هذا البيع ، ولو كان باطلاً لردّه ، وأنكر على من صدر منه ، وأيضاً فإنّ هذا تصرّف تمليك ، وقد صدر من أهله فوجب القول بانعقاده ، إذ لا ضرر فيه للمالك مع تخييره ، بل فيه نفعه ، حيث يكفي مؤنة طلب المشتري وقرار الثّمن ( أي المطالبة ) وغيره ، وفيه نفع العاقد لصون كلامه عن الإلغاء ، وفيه نفع المشتري لأنّه أقدم عليه طائعاً ، فثبتت القدرة الشّرعيّة تحصيلاً لهذه الوجوه .
5- واستدلّ القائلون بعدم الجواز بما روي عن حكيم بن حزام قال : « سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : فقلت : يأتيني الرّجل فيسألني من البيع ما ليس عندي ، أبتاع له من السّوق ثمّ أبيعه ؟ قال : لا تبع ما ليس عندك » .
واستدلّوا أيضاً بحديث عمرو بن شعيب قال : حدّثني أبي عن أبيه حتّى ذكر عبد اللّه بن عمرو رضي الله عنهما ، أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحلّ سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك » . وبما روي أيضاً عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا طلاق إلاّ فيما تملك ، ولا عتق إلاّ فيما تملك ، ولا بيع إلاّ فيما تملك » . فهذه الأحاديث تدلّ على أنّ بيع الفضوليّ باطل ، لأنّه تصرّف بلا ملك ولا إذن ولا ولاية ولا وكالة . وأيضاً فإنّه باع ما لا يقدر على تسليمه فلم يصحّ ، كبيع الآبق والسّمك في الماء والطّير في الهواء .
وفيما يلي تفصيل المذاهب في تصرّف الفضوليّ :
- أ - تصرّف الفضوليّ في البيع :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ من شروط البيع : أن يكون المبيع مملوكاً للبائع ، أو له عليه ولاية أو وكالة تجيز تصرّفه فيه ، واتّفقوا أيضاً على صحّة بيع الفضوليّ ، إذا كان المالك حاضراً وأجاز البيع ، لأنّ الفضوليّ حينئذ يكون كالوكيل . واتّفقوا أيضاً على عدم صحّة بيع الفضوليّ إذا كان المالك غير أهل للإجازة ، كما إذا كان صبيّاً وقت البيع .
7- ومحلّ الخلاف في بيع الفضوليّ إذا كان المالك أهلاً للتّصرّف وبيع ماله وهو غائب ، أو كان حاضراً وبيع ماله وهو ساكت ، فهل يصحّ بيع الفضوليّ أو لا يصحّ ؟
ذهب الحنفيّة والمالكيّة ، والشّافعيّ في القديم ، وهو أحد قوليه في الجديد ، وأحمد في إحدى الرّوايتين عنه : إلى أنّ البيع صحيح ، إلاّ أنّه موقوف على إجازة المالك . وذهب الشّافعيّ في القول الثّاني من الجديد ، وأحمد في الرّواية الأخرى عنه : إلى أنّ البيع باطل .
8- وهذا كلّه من حيث الإجمال فقط ، وذلك لأنّ الحنفيّة يذكرون شروطاً لنفاذ بيع الفضوليّ ، وهي عبارة عن بقاء الملك ، ويتحقّق ببقاء العاقدين : البائع والمشتري ، وبقاء المعقود عليه بلا تغيير ، لأنّ الإجازة تصرّف في العقد ، فلا بدّ من قيامه ، وذلك بقيام العاقدين ومحلّ العقد ، كما هو الحال في إنشاء العقد .
واشترطوا أيضاً أن لا يبيع الفضوليّ الشّيء على أنّه لنفسه . وأمّا الثّمن فإنّهم اشترطوا قيامه إن كان عرضاً ، لأنّ العرض يتعيّن بالتّعيين فصار كالمبيع ، ولم يشترطوا قيام الثّمن إن كان ديناً . واشترطوا أيضاً : بقاء المالك الأوّل ، وهو المعقود له مع علمه بحال المبيع وقت الإجازة من وجوده أو عدمه ، لأنّ العقد موقوف على إجازته ، فلا ينفذ بإجازة غيره ، فلو مات المالك لم ينفذ بإجازة الوارث ، سواء أكان الثّمن ديناً أم عرضاً .
ولو لم يعلم المالك حال المبيع وقت الإجازة من بقائه أو عدمه جاز البيع في قول أبي يوسف أوّلاً ، وهو قول محمّد ، لأنّ الأصل بقاؤه . ثمّ رجع أبو يوسف وقال : لا يصحّ ما لم يعلم المالك قيام المبيع عند الإجازة ، لأنّ الشّكّ وقع في شرط الإجازة ، فلا يثبت مع الشّكّ .
9- وإذا أجاز المالك صار المبيع ملكاً للمشتري والثّمن مملوكاً له أمانةً في يد الفضوليّ ، فلو هلك لا يضمنه كالوكيل ، فإنّ الإجازة اللاحقة بمنزلة الوكالة السّابقة ، من حيث إنّه بها صار تصرّفه نافذاً ، ولذا يسمّى هذا النّوع من الإجازة ( إجازة عقد ) .
هذا إذا كان الثّمن ديناً ، فإن كان عيناً بأن باع الفضوليّ ملك غيره بعرض معين بيع مقايضة ، اشترط قيام الأربعة المذكورة ، وهي : العاقدان والمبيع ومالكه الأوّل ، وخامس وهو ذلك الثّمن العرض ، وإذا أجاز مالك المبيع - والثّمنُ عرض - فالفضوليّ يكون ببيع مال الغير مشترياً للعرض من وجه ، والشّراء لا يتوقّف إذا وجد نفاذاً ، فينفذ على الفضوليّ ، فيصير مالكاً للعرض ، والّذي تفيده الإجازة أنّه أجاز للفضوليّ أن ينقد ثمن ما اشتراه من ذلك العرض من ماله ، ولذا تسمّى إجازة العقد ، كأنّه قال : اشتر هذا العرض لنفسك ، وانقده ثمنه من مالي هذا قرضاً عليك ، فإن كان مثليّاً فعليه مثله ، وإن كان قيميّاً كثوب فقيمته . فيصير مستقرضاً للثّوب .
والقرض وإن لم يجز في القيميّات لكنّ ذلك إذا كان قصداً . وهنا إنّما يثبت ضمناً مقتضًى لصحّة الشّراء ، فيراعى فيه شرائط صحّة المقتضي ، وهو الشّراء لا غير .
10 - وصرّح الحنفيّة بأنّ للفضوليّ أن يفسخ قبل إجازة المالك ، دفعاً للحوق الضّرر عن نفسه ، لأنّ حقوق البيع ترجع إليه ، بخلاف الفضوليّ في النّكاح ، لأنّه معبّر محض .
11 - وذكر الحنفيّة أيضاً أنّ الفضوليّ بعد الإجازة يصير حكمه حكم الوكيل ، حتّى لو حطّ من الثّمن ثمّ أجاز المالك البيع يثبت البيع والحطّ ، سواء علم المالك الحطّ أو لم يعلم ، إلاّ أنّه إذا علم بالحطّ بعد الإجازة يثبت له الخيار . ووجهه كما في جامع الفصولين أنّه يصير بالإجازة كوكيل ، ولو حطّه الوكيل لا يتمكّن الموكّل من مطالبة المشتري به ، كذا هذا .
12 - واشترط المالكيّة لصحّة بيع الفضوليّ ثلاثة شروط :
أحدها : أن لا يكون المالك حاضراً مجلس البيع ، ولكنّه حاضر في البلد ، أو غائب عنه غيبةً قريبةً ، لا بعيدةً بحيث يضرّ الصّبر إلى قدومه أو مشورته . فإن كان حاضراً مجلس العقد وسكت لزمه البيع ، وللبائع الثّمن ، فإن مضى نحو عام ولم يطالب بالثّمن فلا شيء له على البائع ، ولا يعذر بجهل في سكوته إذا ادّعاه . ومحلّ مطالبة المالك للفضوليّ بالثّمن ما لم يمض عام ، فإن مضى العام وهو ساكت سقط حقّه في الثّمن . هذا إن بيع بحضرته ، أمّا إن بيع في غيبته فله نقض البيع إلى سنة ، فإن مضت سقط حقّه في النّقض .
ولا يسقط حقّه في الثّمن ما لم تمض مدّة الحيازة ، وهي عشرة أعوام .
ثانيها : أن يكون في غير الصّرف ، وأمّا فيه فإنّه يفسخ .
ثالثها : أن يكون في غير الوقف ، وأمّا فيه فباطل لا يتوقّف على رضا واقفه ، وإن كان الملك له .
13 - وذكر المالكيّة أيضاً أنّ للمالك نقض بيع الفضوليّ ، غاصباً أو غيره إن لم يفت ، فإن فات بذهاب عينه فقط ، فعليه الأكثر من ثمنه وقيمته .
وقالوا : إنّ للمشتري من الفضوليّ الغلّة قبل علم المالك ، إذا كان المشتري غير عالم بالتّعدّي ، أو كانت هناك شبهة تنفي عن البائع التّعدّي ، لكونه حاضناً للأطفال مثلاً كالأمّ تقوم بهم وتحفظهم ، أو لكونه من سبب المالك أي من ناحيته ممّن يتعاطى أموره ، ويزعم أنّه وكيل ، ثمّ يقدم المالك وينكر ونحو ذلك . ويدلّ له مسألة اليمين : أن لا يبيع لفلان ، فباع لمن هو من سببه . وتذكر كتب المالكيّة أيضاً حكماً آخر فرّعوه على الجواز لم يصرّح به غيرهم ، وهو حكم قدوم الفضوليّ على البيع ، فقد ذكر الدّسوقيّ في حاشيته : أنّه قد قيل بمنعه ، وقيل : بجوازه ، وقيل بمنعه في العقار والجواز في العروض .
14 - هذا والقول ببطلان بيع الفضوليّ عند الشّافعيّة هو الصّحيح المنصوص عليه في الجديد ، وبه قطع صاحب المهذّب وجماهير العراقيّين ، وكثيرون ، أو الأكثرون من الخراسانيّين كما جاء في المجموع .
وأمّا القول بانعقاده موقوفاً على إجازة المالك فهو القول القديم الّذي حكاه الخراسانيّون وجماعة من العراقيّين ، منهم المحامليّ في اللّباب والشّاشيّ وصاحب البيان .
وأمّا قول إمام الحرمين : إنّ العراقيّين لم يعرفوا هذا القول ، وقطعوا بالبطلان ، فمراده متقدّموهم كما جاء في المجموع . ثمّ إنّ كلّ من حكاه إنّما حكاه عن القديم خاصّةً ، وهو نصّ للشّافعيّ في البويطيّ ، وهو من الجديد ، قال الشّافعيّ في آخر باب الغصب من البويطيّ : إن صحّ حديث عروة البارقيّ ، فكلّ من باع أو أعتق ملك غيره بغير إذنه ثمّ رضي ، فالبيع والعتق جائزان . هذا نصّه ، وقد صرّح حديث عروة البارقيّ السّابق نصّه ، فصار للشّافعيّ قولان في الجديد أحدهما موافق للقديم .
وظاهر كلام الشّيخين ( أي الرّافعيّ والنّوويّ ) على قول الوقف أنّ الموقوف الصّحّة ، وقال إمام الحرمين : الصّحّة ناجزة ، وإنّما الموقوف الملك ، وجرى عليه في الأمّ .
والمعتبر عندهم في الإجازة إجازة من يملك التّصرّف عند العقد ، فلو باع الفضوليّ مال الطّفل ، فبلغ وأجاز لم ينفذ . ومحلّ الخلاف في بيع الفضوليّ عندهم كما جاء في نهاية المحتاج ما لم يحضر المالك ، فلو باع مال غيره بحضرته وهو ساكت لم يصحّ قطعاً . والخلاف المذكور عندهم في بيع الفضوليّ من حيث البطلان أو الانعقاد يجري في كلّ من زوّج ابنة غيره ، أو طلّق منكوحته ، أو أجّر داره ، أو وهبها بغير إذنه .
15 - والمذهب عند الحنابلة ، وعليه أكثر الأصحاب : عدم صحّة بيع الفضوليّ كما جاء في الإنصاف . وجاء فيه أيضاً : أنّ هذا هو الّذي جزم به في الوجيز وغيره ، وقدّمه في الفروع ، والمحرّر ، والرّعايتين ، والحاويين ، والنّظم وغيرها .
وذكر صاحب كشّاف القناع أنّ البيع لا يصحّ ، حتّى لو كان المالك حاضراً وسكت ، ثمّ أجازه بعد ذلك لفوات شرطه ، أي لفوات الملك والإذن وقت البيع .
وأمّا الرّواية الّتي تصحّح بيع الفضوليّ وتجعله موقوفاً على الإجازة ، فقد اختارها صاحب الفائق كما جاء في الإنصاف ، وقال : قبض ولا إقباض قبل الإجازة .
ب - تصرّف الفضوليّ في الشّراء :
16 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ شراء الفضوليّ لا يتوقّف على الإجازة ، إذا وجد نفاذاً على العاقد ، فإن لم يجد نفاذاً يتوقّف ، كشراء الصّغير المحجور عليه . وإنّما ينفذ الشّراء على المشتري إذا لم يضفه إلى آخر ووجد الشّراء النّفاذ عليه ، ولم يسبق بتوكيل للمشتري من آخر . فأمّا إن كان كذلك فالشّراء يتوقّف . وفي الوكالة ينفذ على الموكّل ، فإنّه ذكر في شرح الطّحاويّ : ولو اشترى رجل لرجل شيئاً بغير أمره كان ما اشتراه لنفسه ، أجاز الّذي اشتراه له أو لم يجز . أمّا إذ أضافه إلى آخر ، بأن قال للبائع : بع عبدك من فلان ، فقال : بعت ، وقبل المشتري هذا البيع لفلان فإنّه يتوقّف .
17 - أمّا شراء الفضوليّ عند المالكيّة فهو كبيعه ، أي يتوقّف على إجازة المشترى له ، فإن لم يجز الشّراء لزمت السّلعة المشتري الفضوليّ ، فإن كان الثّمن مدفوعاً من مال المشتري له فلا رجوع له على البائع في حال عدم الإجازة ، إلاّ أن يكون الفضوليّ ( المشتري ) أشهد عند الشّراء : أنّه إنّما اشترى لفلان بماله ، وأنّ البائع يعلم ذلك ، أو صدّق المشتري في قوله ، أو تقوم بيّنة على أنّ الشّيء الّذي اشترى به هو ملك المشتري له . فإن أخذ المشتري له ماله ، ولم يجز الشّراء انتقض البيع فيما إذا صدّق البائع ، ولم ينتقض في قيام البيّنة أنّ المال له ، بل يرجع على المشتري بمثل الثّمن ، ويلزمه البيع على قول ابن القاسم وأصبغ . وقال ابن الماجشون : القول قول المشتري له ، فيحلف أنّه ما أمر المشتري ، ويأخذ ماله إن شاء من المشتري ، وإن شاء من البائع . فإن أخذه من البائع كان له أن يرجع على المشتري ويلزمه الشّراء ، وإن أخذه من المشتري لم يكن له رجوع على البائع .
18 - وأمّا الشّافعيّة : فذكروا في شراء الفضوليّ تفصيلاً ، لأنّ الفضوليّ إمّا أن يشتري لغيره بعين مال الغير ، وإمّا أن يشتري لغيره في الذّمّة ، وإمّا أن يشتري لغيره بمال نفسه . فإن اشترى لغيره بعين مال الغير ففيه قولان : الجديد بطلانه ، والقديم وقفه على الإجازة . وإن اشترى في الذّمّة نظر إن أطلق أو نوى كونه للغير ، فعلى الجديد يقع للمباشر ، وعلى القديم يقف على الإجازة ، فإن ردّ نفذ في حقّ الفضوليّ . ولو قال : اشتريت لفلان بألف في ذمّته ، فهو كاشترائه بعين مال الغير . ولو اقتصر على قوله : اشتريت لفلان بألف ، ولم يضف الثّمن إلى ذمّته فعلى الجديد وجهان ، أحدهما : يلغو العقد ، والثّاني : يقع عن المباشر . وعلى القديم يقف على إجازة فلان ، فإن ردّ ففيه الوجهان .
ولو اشترى شيئاً لغيره بمال نفسه نظر : إن لم يسمّه وقع العقد عن المباشر ، سواء أذن ذلك الغير أم لا ، وإن سمّاه نظر : إن لم يأذن له لغت التّسمية ، وهل يقع عنه أم يبطل ؟ وجهان . وإن أذن له ، فهل تلغو التّسمية ، وجهان . فإن قلنا : نعم ، فهل يبطل من أصله ، أم يقع عن المباشر ؟ فيه الوجهان ، وإن قلنا : لا ، وقع عن الآذن .
وهل يكون الثّمن المدفوع قرضاً أم هبةً ؟ وجهان .
19 - وأمّا شراء الفضوليّ عند الحنابلة فإنّه لا يصحّ ، إلاّ إن اشترى في ذمّته ونوى الشّراء لشخص لم يسمّه فيصحّ ، سواء نقد الثّمن من مال الغير أم لا ، لأنّ ذمّته قابلة للتّصرّف ، فإن سمّاه أو اشترى للغير بعين ماله لم يصحّ الشّراء ، ثمّ إن أجازه ( أي الشّراء ) من اشتري له ملكه من حين اشتري له ، لأنّه اشتري لأجله ، فأشبه ما لو كان بإذنه ، فتكون منافعه ونماؤه له . فإن لم يجزه وقع الشّراء للعاقد ولزمه حكمه ، كما لو لم ينو غيره ، وليس له التّصرّف فيه قبل عرضه على من نواه له .
بيع ما لم يقبض *
1- ثبت في الحديث الصّحيح عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يقبضه » . وفي لفظ « حتّى يكتاله » وفي لفظ آخر : « حتّى يستوفيه » قال ابن عبّاس " راوي الحديث " : ولا أحسب كلّ شيء إلاّ مثله .
وفي رواية : « إذا اشتريت بيعاً فلا تبعه حتّى تقبضه » .
وقد ذهب الفقهاء مذاهب في بيع المبيع قبل قبضه .
2 - فمذهب الشّافعيّة ، وهو قول أبي يوسف الأوّل ، وقول محمّد ، وهو أيضاً رواية عن الإمام أحمد : أنّه لا يصحّ بيع المبيع قبل قبضه ، سواء أكان منقولاً أم عقاراً ، وإن أذن البائع ، وقبض الثّمن . وذلك لحديث حكيم بن حزام رضي الله عنه « قال : قلت : يا رسول اللّه : إنّي أشتري بيوعاً ، فما يحلّ لي منها ، وما يحرم عليّ ؟ قال : إذا اشتريت بيعاً فلا تبعه حتّى تقبضه » وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال :« لا يحلّ سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك » . ومعنى « ربح ما لم يضمن » ربح ما بيع قبل القبض . مثل : أن يشتري متاعاً ، ويبيعه إلى آخر قبل قبضه من البائع ، فهذا البيع باطل ، وربحه لا يجوز ، لأنّ المبيع في ضمان البائع الأوّل ، وليس في ضمان المشتري منه ، لعدم القبض .
ولحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه ، « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السّلع حيث تبتاع ، حتّى يحوزها التّجّار إلى رحالهم » . والمراد بحوز التّجّار : وجود القبض ، كما في الحديث قبله . ولضعف الملك قبل القبض ، لانفساخ العقد بتلفه . وهذا هو المعنى الّذي علّل به الشّافعيّة النّهي عن البيع قبل القبض .
وعلّل الحنابلة ، عدم الجواز على هذه الرّواية الّتي اختارها ابن عقيل من أئمّتهم ، بأنّه لم يتمّ الملك عليه ، فلم يجز بيعه ، كما لو كان غير متعيّن ، وكما لو كان مكيلاً أو موزوناً .
3 - ومذهب الحنفيّة أنّه لا يصحّ بيع المنقول قبل قبضه ، ولو كان من بائعه ، وذلك للحديث المذكور برواياته ، فإنّه منهيّ عن بيع المبيع قبل قبضه .
ولأنّ في البيع قبل القبض غرر انفساخ العقد الأوّل ، على تقدير هلاك المبيع في يد البائع ، وإذا هلك المبيع قبل القبض ينفسخ العقد ، فيتبيّن أنّه باع ما لا يملك ، والغرر حرام غير جائز ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن بيع الحصاة ، وعن بيع الغرر » .
ولا يفرّق الحنفيّة في ذلك بين الطّعام وبين غيره من المنقولات ، وذلك : لقول ابن عبّاس كما تقدّم آنفاً : ولا أحسب كلّ شيء إلاّ مثله ، أي مثل الطّعام .
وعضّد قول ابن عبّاس ما روي عن ابن عمر ، قال : « ابتعت زيتاً في السّوق ، فلمّا استوجبته ، لقيني رجل ، فأعطاني فيه ربحاً حسناً ، فأردت أن أضرب على يده " أي أن أقبل إيجابه ، وأتّفق على العقد " فأخذ رجل من خلفي بذراعي ، فالتفتّ ، فإذا زيد بن ثابت رضي الله عنه فقال : لا تبعه حيث ابتعته ، حتّى تحوزه إلى رحلك ، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السّلع حيث تبتاع ، حتّى يحوزها التّجّار إلى رحالهم » .
وعدم الصّحّة هنا ، يعني : الفساد لا البطلان ، وإن كان نفي الصّحّة يحتملهما ، لكنّ الظّاهر عند الحنفيّة هو الفساد ، لأنّ علّة الفساد هي الغرر ، مع وجود ركني البيع ، وكثيراً ما يطلق الباطل على الفاسد .
وأجاز الشّيخان من الحنفيّة - أبو حنيفة وأبو يوسف - بيع العقار قبل قبضه استحساناً ، وذلك استدلالاً بعمومات حلّ البيع من غير تخصيص ، ولا يجوز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد . ولأنّه لا يتوهّم انفساخ العقد في العقار بالهلاك ، بخلاف المنقول . ولأنّ العقار مقدور التّسليم ، ولا يرد عليه الهلاك إلاّ نادراً بغلبة الماء والرّمل ، والنّادر لا يعتدّ به . وقياساً على التّصرّف في الثّمن قبل قبضه ، فإنّه جائز ، لأنّه لا غرر فيه ، كالتّصرّف في المهر وبدل الخلع والعتق وبدل الصّلح عن دم العمد ، لأنّ المطلق للتّصرّف ، وهو الملك ، قد وجد ، لكنّ الاحتراز عن الغرر واجب ما أمكن ، وذلك فيما يتصوّر فيه الغرر ، وهو المبيع المنقول ، لا العقار .
وخالف الإمام محمّد ، فلم يجز بيع العقار أيضاً قبل قبضه ، وهو قول أبي يوسف الأوّل ، وقول الشّافعيّ كما قدّمنا ، وذلك لإطلاق الحديث ، وقياساً على المنقول .
وقياساً أيضاً على الإجارة ، فإنّها في العقار لا تجوز قبل القبض ، والجامع اشتمالهما على ربح ما لم يضمن ، فإنّ المقصود في البيع الرّبح ، وربح ما لم يضمن منهيّ عنه شرعاً . والنّهي يقتضي الفساد ، فيكون البيع فاسداً قبل القبض ، لأنّه لم يدخل في ضمانه ، كما في الإجارة .
4 - ومذهب المالكيّة أنّ المحرّم المفسد للبيع ، هو بيع الطّعام دون غيره من جميع الأشياء قبل قبضه ، سواء أكان الطّعام ربويّاً كالقمح ، أم غير ربويّ كالتّفّاح عندهم .
أمّا غير الطّعام فيجوز بيعه قبل قبضه ، وذلك لحديث ابن عبّاس المتقدّم من « ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يقبضه » . ولغلبة تغيّر الطّعام دونما سواه . لكنّهم شرطوا لفساد هذا النّوع من البيع ، شرطين :
أ - أن يكون الطّعام مأخوذاً بطريق المعاوضة ، أي في مقابلة شيء ، بإجارة أو شراء أو صلح أو أرش جناية ، أو آل لامرأة في صداقها ، أو غير ذلك من المعاوضات ، فهذا الّذي لا يجوز بيعه قبل قبضه .
أمّا لو صار إليه الطّعام بهبة أو ميراث ، ممّا ليس أخذه بعوض ، فيجوز بيعه قبل قبضه .
ب - وأن تكون المعاوضة بالكيل أو الوزن أو العدد ، فيشتريه بكيل ، ويبيعه قبل قبضه ، سواء أباعه جزافاً أم على الكيل . أمّا لو اشتراه جزافاً ، ثمّ باعه قبل قبضه ، فيكون بيعه جائزاً ، سواء أباعه جزافاً أم على الكيل . وعلى هذا : فلو اشترى طعاماً كيلاً ، لم يجز له بيعه قبل قبضه ، لا جزافاً ولا كيلاً .
ولو اشتراه جزافاً ، جاز له بيعه قبل قبضه ، مطلقاً ، جزافاً أو كيلاً .
5- وفي مذهب الحنابلة روايات متعدّدة في الممنوع بيعه قبل قبضه من الأموال ، سبق بعضها : فروي أنّه لا يجوز بيع الطّعام وما أشبهه قبل قبضه مطلقاً ، سواء أكان مكيلاً أم موزوناً ، أم لم يكن كذلك ، خلافاً لمالك الّذي اشترط فيه الكيل أو الوزن كما قدّمنا ، وذلك لحديث ابن عبّاس المتقدّم « من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يقبضه » .
ولقول الأثرم : سألت أبا عبد اللّه ، عن قوله : « نهى عن ربح ما لم يضمن » قال : هذا في الطّعام وما أشبهه ، من مأكول أو مشروب ، فلا يبعه حتّى يقبضه .
ولقول ابن عبد البرّ : الأصحّ أنّ الّذي يمنع من بيعه قبل قبضه : هو الطّعام ، وذلك لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن بيع الطّعام قبل قبضه » فمفهومه إباحة ما سواه قبل قبضه . ولقول ابن عمر رضي الله عنهما : « رأيت الّذين يشترون الطّعام مجازفةً ، يضربون على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتّى يؤووه إلى رحالهم » .
وللحديث المتقدّم : « من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتّى يستوفيه » .
ولقول ابن عمر رضي الله عنهما : « كنّا نشتري الطّعام من الرّكبان جزافاً ، فنهانا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتّى ننقله من مكانه » .
ولقول ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ من اشترى طعاماً ، فليس له أن يبيعه حتّى يستوفيه . قالوا : ولو دخل في ضمان المشتري جاز بيعه ، والتّصرّف فيه ، كما جاز ذلك بعد قبضه . وعلّق الشّرح الكبير على ذلك بقوله : وهذا أي حديث « من ابتاع طعاماً » يدلّ على تعميم المنع في كلّ طعام ، مع تنصيصه على البيع مجازفةً بالمنع . ويدلّ بمفهومه على أنّ ما عدا الطّعام يخالفه في ذلك .
وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد : أنّ ما كان متعيّناً ، كالصّبرة تباع من غير كيل ، يجوز بيعها قبل قبضها ، وما ليس بمتعيّن ، كقفيز من صبرة ، ورطل من زبرة حديد ، فإنّه لا يجوز بيعها قبل قبضها ، بل حتّى تكال أو توزن . وهذا قريب من قول مالك المتقدّم ، في جواز بيع ما شري جزافاً ، لولا تخصيص مالك المبيع بالطّعام .
ووجه هذه الرّواية ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال : « مضت السّنّة أنّ ما أدركته الصّفقة حيّاً مجموعاً ، فهو من مال المبتاع » ، فلمّا جعله من ضمان المشتري مع أنّه لم يقبضه دلّ على البيع قبل القبض في المتعيّن .
ولأنّ المبيع المعيّن لا يتعلّق به حقّ توفية ، فكان من مال المشتري ، كغير المكيل والموزون . وفي رواية ثالثة عن الإمام أحمد : أنّه لا يجوز بيع شيء قبل قبضه . وهي الّتي وافق فيها الإمام الشّافعيّ وغيره ، كما تقدّم .
ورواية المذهب : أنّ المكيل والموزون والمعدود والمذروع ، لا يصحّ تصرّف المشتري فيه قبل قبضه من بائعه . وهذا مرويّ أيضاً : عن عثمان بن عفّان رضي الله عنه ، وسعيد بن المسيّب ، والحسن ، والحكم ، وحمّاد ابن أبي سليمان ، والأوزاعيّ ، وإسحاق .
ومستند هذه الرّواية في التّفرقة بين المكيل والموزون ونحوهما وبين غيرهما : أنّ الحديث المذكور نهى عن بيع الطّعام قبل قبضه ، وكان الطّعام يومئذ مستعملاً غالباً فيما يكال ويوزن ، وقيس عليهما المعدود والمذروع ، لاحتياجهما إلى حقّ التّوفية . وسواء أكان المعدود متعيّناً كالصّبرة ، أم غير متعيّن كقفيز منها .
أمّا ما عدا المكيل والموزون ونحوهما ، فيجوز التّصرّف فيه قبل قبضه ، وذلك : لما روي { عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : « أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت : إنّي أبيع الإبل بالبقيع ، فأبيع بالدّنانير وآخذ الدّراهم ، وأبيع بالدّراهم وآخذ الدّنانير . فقال : لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ، ما لم تفترقا وبينكما شيء » .
قالوا : فهذا تصرّف في الثّمن قبل قبضه ، وهو أحد العوضين .
ضابط ما يمنع من التّصرّف فيه قبل قبضه :
6 - اختلفت ضوابط الفقهاء ، في التّصرّفات الممنوعة شرعاً قبل قبض المبيع :
أ - فاتّفق الحنفيّة والحنابلة ، على هذا الضّابط وهو :
أنّ كلّ عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض ، لم يجز التّصرّف فيه قبل قبضه ، وما لا ينفسخ العقد بهلاكه ، جاز التّصرّف فيه قبل قبضه .
فمثال الأوّل : المبيع والأجرة وبدل الصّلح عن الدّين ، إذا كان الثّمن والأجر والبدل عيناً - عند الحنفيّة - أو كان من المكيل أو الموزون أو المعدود عند الحنبليّة .
ومثال الآخر : المهر إذا كان عيناً - عند الحنفيّة - وكذا بدل الخلع ، والعتق على مال ، وبدل الصّلح عن دم العمد - وكذا أرش الجناية ، وقيمة المتلف ، عند الحنبليّة في هذين - كلّ ذلك إذا كان عيناً ، يجوز بيعه وإجارته قبل قبضه ، وسائر التّصرّفات .
وعلّل الحنابلة هذا الضّابط بقولهم : إنّ المقتضي للتّصرّف هو الملك ، وقد وجد . لكنّ ما يتوهّم فيه غرر الانفساخ ، باحتمال هلاك المعقود عليه لا يجوز بناء عقد آخر عليه تحرّزاً من الغرر ، وما لا يتوهّم فيه ذلك الغرر ، انتفى عنه المانع ، فجاز بناء العقد الآخر عليه .
ب - ووضع محمّد بن الحسن من الحنفيّة هذا الضّابط ، وهو :
- 1 - أنّ كلّ تصرّف لا يتمّ إلاّ بالقبض ، كالهبة والصّدقة والرّهن والقرض والإعارة ونحوها ، يجوز قبل قبض المبيع .
- 2 - وكلّ تصرّف يتمّ قبل القبض ، كالمبيع والإجارة وبدل الصّلح عن الدّين إذا كان عيناً ، ونحوها لا يجوز قبل قبض المبيع .
وتعليله عنده : أنّ الهبة - مثلاً - لمّا كانت لا تتمّ إلاّ بالقبض ، صار الموهوب له نائباً عن الواهب ، وهو المشتري الّذي وهبه المبيع قبل قبضه ، ثمّ يصير قابضاً لنفسه ، فتتمّ الهبة بعد القبض . بخلاف البيع - مثلاً - ونحوه ممّا يتمّ قبل القبض ، فإنّه لا يجوز ، لأنّه إذا قبضه المشتري الثّاني لا يكون قابضاً عن الأوّل ، لعدم توقّف البيع على القبض ، فيلزم منه تمليك المبيع قبل قبضه ، وهو لا يصحّ .
وأشار التّمرتاشيّ إلى أنّ الأصحّ ما ذهب إليه الإمام محمّد .
ج - وضبط الدّردير من المالكيّة ما يمنع بيع الطّعام قبل قبضه ، بأن تتوالى عقدتا بيع لم يتخلّلهما قبض . وهذا مختصّ بالطّعام على رأيهم المتقدّم في حصر المنهيّ عن بيعه قبل قبضه في مطلق الأطعمة الرّبويّة .
ويؤخذ من كلام ابن جزيّ هذا الضّابط ، وهو : أنّ كلّ طعام أخذ معاوضةً - بغير جزاف - فليس له أن يبيعه حتّى يقبضه . وتشمل المعاوضة : الشّراء ، والإجارة ، والصّلح ، وأرش الجناية ، والمهر ، وغيرها - على ما ذكر - فليس له بيعه حتّى يقبضه ، لكن يجوز له أن يهبه أو يسلّفه قبل قبضه .
والتّقييد عند المالكيّة بغير الجزاف ، لإخراج ما بيع جزافاً بغير كيل ولا عدّ ولا وزن من الطّعام ، فإنّه يجوز بيعه قبل قبضه ، لدخوله في ضمان المشتري بمجرّد العقد ، فهو مقبوض حكماً ، فليس فيه توالي عقدتي بيع لم يتخلّلهما قبض .
كما شرط المالكيّة في جواز بيع مطلق طعام المعاوضة - بالإضافة إلى شرط قبضه - أن لا يكون القبض من نفسه لنفسه ، فإن قبض من نفسه لنفسه ، منع بيعه ، لأنّ هذا القبض الواقع بين العقدين كلا قبض .
ومعنى هذا أنّ القبض المعتدّ به في الجواز ، هو القبض القويّ ، فيجوز بيع الطّعام عقبه . أمّا القبض الضّعيف ، فهو كلا قبض ، فلا يعقب الجواز . مثال ذلك :
- إذا وكّله ببيع طعام ، فباعه من أجنبيّ ، وقبل قبض الأجنبيّ الطّعام ، اشتراه الوكيل منه لنفسه ، فإنّه يمتنع بيعه من نفسه ، لأنّه يقبض هذه الحال من نفسه لنفسه .
- وكذلك لو وكّله بشراء طعام ، فاشتراه وقبضه ثمّ باعه لأجنبيّ ، واشتراه منه قبل أن يقبضه الأجنبيّ منه ، فإنّه يمتنع شراؤه من نفسه ، لأنّه في هذه الحال يقبض من نفسه لنفسه . ويستثنى من عدم جواز بيع الطّعام إذا قبض من نفسه لنفسه ، ما إذا كان القابض من نفسه ممّن يتولّى طرفي العقد ، كوصيّ ليتيميه ، ووالد لولديه الصّغيرين ، فإنّه يجوز بيع طعام أحدهما للآخر ، ثمّ بيعه لأجنبيّ ، قبل قبضه لمن اشتراه له .
د - لم يضع الشّافعيّة ضابطاً في هذا الصّدد ، لكنّهم ألحقوا - في الأصحّ من مذهبهم - بالبيع عقوداً أخرى ، من حيث البطلان قبل القبض . فنصّوا على أنّ الإجارة والرّهن والهبة - ولو من البائع - باطلة ، فلا تصحّ لوجود المعنى المعلّل به النّهي فيها ، وهو ضعف الملك ، وكذلك الصّدقة والهديّة وعوض الخلع والصّلح عن نحو دم ، والقرض والقراض والشّركة وغيرها . وجاءت عبارة المنهج عامّةً ، فنصّت على أنّه : لا يصحّ تصرّف ، ولو مع بائع ، بنحو بيع ورهن فيما لم يقبض ، وضمن بعقد .
لكنّهم صحّحوا تصرّف المشتري بالمبيع قبل قبضه بالإعتاق والوصيّة والتّدبير والتّزويج والوقف وقسمة الإفراز والتّعديل لا الرّدّ ، وكذا إباحة طعام اشتراه جزافاً ، بخلاف ما لو اشتراه مكيلاً ، فلا بدّ لصحّة إباحته من كيله وقبضه .
وعلّلوا ذلك بتشوّف الشّارع إلى العتق - على حدّ تعبيرهم - وفي معناه بقيّة التّصرّفات .
7- وألحقوا أيضاً الثّمن المعيّن ، سواء أكان دراهم أم دنانير أم غيرهما بالمبيع في فساد التّصرّف قبل القبض ، فلا يبيعه البائع ، ولا يتصرّف فيه قبل قبضه ، وذلك لعموم النّهي ، وللتّعليل المتقدّم . بل قال ابن حجر : وكلّ عين مضمونة في عقد معاوضة . كذلك ، أي لا يتصرّف فيها قبل قبضها . فأمّا الأموال الّتي تكون للشّخص في يد غيره أمانةً كالوديعة ، والمال المشترك في الشّركة والقراض ، والمرهون بعد انفكاكه ، والموروث ، وما يملكه الغانم من الغنيمة ، والمال الباقي في يد الوليّ بعد بلوغ المولى عليه رشده ونحوها ، فيملك بيعها ، لتمام الملك في المذكورات .
8- ولعلّه لا بأس من الإشارة هاهنا إلى أنّ الإمام الشّوكانيّ - رحمه الله - طرح ضابطاً آخر ، شطره ممّا قرّره الشّافعيّة ، وقال ما نظيره :
إنّ التّصرّفات الّتي تكون بعوض ، تلتحق بالبيع ، فيكون فعلها قبل القبض غير جائز . والتّصرّفات الّتي لا عوض فيها ، تلتحق بالهبة ، فيكون فعلها قبل القبض جائزاً . ورجّح هذا الرّأي ، واستشهد له بإجماعهم على صحّة الوقف والعتق قبل القبض . وبما علّل به النّهي عن بيع ما لم يقبض ، وهو شبهة الرّبا :
فقد روي عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - أنّ طاوساً سأله عن سبب النّهي ، فأجابه : بأنّه إذا باع المشتري المبيع قبل قبضه ، وتأخّر المبيع في يد البائع ، صار كأنّه باعه دراهم بدراهم ، فإذا اشترى طعاماً بمائة دينار مثلاً ، ودفعها إلى البائع ، ولم يقبض منه الطّعام ، ثمّ باع الطّعام من شخص آخر بمائة وعشرين - مثلاً - صار كأنّه اشترى بذهبه ذهبا أكثر منه أي اشترى بمائة مائةً وعشرين . قال الشّوكانيّ : ولا يخفى أنّ مثل هذه العلّة لا ينطبق على ما كان من التّصرّف بغير عوض . وهذا التّعليل أجود ما علّل به النّهي ، لأنّ الصّحابة أعرف بمقاصد الرّسول صلى الله عليه وسلم .
9- وقال بعض المالكيّة : إنّ هذا النّهي تعبّد .
وأشار الدّسوقيّ منهم إلى أنّ هذا هو الصّحيح عند أهل المذهب ، ونقله عن التّوضيح .
وقيل : بل هو معقول المعنى ، ومعلّل بأنّ الشّارع له غرض في ظهوره ، وهو سهولة الوصول إلى الطّعام ، ليتوصّل إليه القويّ والضّعيف .
ولو جاز بيعه قبل قبضه ، لباع أهل الأموال بعضهم من بعض ، من غير ظهور ، ولخفي بإمكان شرائه من مالكه وبيعه خفيةً ، فلم يتوصّل إليه الفقير ، بخلاف ما إذا منع من ذلك ، فإنّه ينتفع به الكيّال ، والحمّال ، ويظهر للفقراء ، فتقوى به قلوب النّاس ، لا سيّما في زمن المسغبة والشّدّة .
تحديد القبض وتحقّقه :
10 - مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ قبض كلّ شيء بحسبه
- أ - فإن كان مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً أو مذروعاً ، فقبضه بالكيل أو الوزن أو العدّ أو الذّرع . وذلك : لحديث عثمان رضي الله عنه قال : « كنت أبتاع التّمر من بطن من اليهود ، يقال لهم : بنو قينقاع ، وأبيعه بربح ، فبلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا عثمان : إذا ابتعت فاكتل ، وإذا بعت فكل » .
وحديث جابر رضي الله عنه ، قال : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الطّعام حتّى يجري فيه الصّاعان : صاع البائع ، وصاع المشتري » .
والمالكيّة شرطوا في قبض المثليّ تسليمه للمشتري ، وتفريغه في أوعيته .
- ب - وإن كان جزافاً فقبضه نقله ، وذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : « كانوا يتبايعون الطّعام جزافاً بأعلى السّوق ، فنهاهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتّى ينقلوه » وفي رواية : « حتّى يحوّلوه » .
- ج - وإن كان منقولاً من عروض وأنعام ، فقبضه بالعرف الجاري بين النّاس كما يقول المالكيّة : كاحتياز الثّوب ، وتسليم مقود الدّابّة . أو ينقله إلى حيّز لا يختصّ به البائع ، عند الشّافعيّة . ويروى هذا عن أبي يوسف ، كالشّارع ودار المشتري .
وفصّل الحنابلة في المنقول من العروض والأنعام فقالوا : إن كان المبيع دراهم أو دنانير ، فقبضها باليد . وإن كان ثياباً فقبضها نقلها . وإن كان حيواناً ، فقبضه تمشيته من مكانه .
- د - وإن كان عقاراً فقبضه بالتّخلية بينه وبين المشتري ، بلا حائل دونه ، وتمكينه من التّصرّف فيه ، بتسليمه المفتاح إن وجد ، بشرط أن يفرّغه من متاع غير المشتري عند الشّافعيّة .
ولم يشترط ذلك المالكيّة إلاّ في دار السّكنى ، فإنّ قبضها بالإخلاء عندهم ، ولا يكتفى بالتّخلية . أمّا غيرها من العقارات ، فيتحقّق القبض بالتّخلية ، وإن لم يخل البائع متاعه منها . ويشير الشّافعيّة إلى أنّ هذا التّفصيل إنّما هو في القبض المصحّح للتّصرّف ، أمّا القبض النّاقل للضّمان من البائع ، فمداره على استيلاء المشتري على المبيع ، سواء أنقله أم لا ، وسواء أخلّى البائع بينه وبينه أم لا ، وسواء أأذن له في القبض أم لا ، وسواء أكان له الحقّ في الحبس أم لا ، فمتى استولى المشتري على المبيع انتفى الضّمان عن البائع ، بمعنى أنّه لو تلف حينئذ لا ينفسخ العقد ، أو تعيّب لا يثبت الخيار للمشتري ، ولو رجع إلى البائع لا يرجع الضّمان إليه .
11 - ولم يفصّل الحنفيّة - وهي رواية ابن الخطّاب عن أحمد - هذا التّفصيل في القبض ، بل اعتبروا التّخلية - وهي : رفع الموانع والتّمكين من القبض - قبضاً حكماً على ظاهر الرّواية ، وروى أبو الخطّاب مثل ذلك عن أحمد وشرط مع التّخلية التّمييز .
نصّ الحنفيّة على مذهبهم هذا في الرّهن ، في التّخلية بينه وبين المرتهن ، وقالوا : إنّ التّخلية فيه قبض ، كما هي في البيع ، فإنّها فيه أيضاً قبض . قالوا : لأنّها تسليم ، فمن ضرورته الحكم بالقبض ، فيترتّب عليه ما يترتّب على القبض الحقيقيّ ، وهذا هو الأصحّ . ومقابل الأصحّ : المرويّ عن أبي يوسف ، وهو : أنّه لا يثبت في المنقول إلاّ بالنّقل .
12 - وعلى هذا لو باع ما اشتراه قبل أن يقبضه فربح ، فهذا هو ربح ما لم يضمن ، الّذي ورد فيه حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « لا يحلّ سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك » . وفسّره محمّد بن الحسن في كتاب الآثار لمّا روى هذا الحديث من طريق آخر برواية أخرى ، فقال : وأمّا ربح ما لم يضمن : فالرّجل يشتري الشّيء ، فيبيعه قبل أن يقبضه . وكذلك فسّره الشّوكانيّ ، حيث قال : يعني لا يجوز أن يأخذ ربح سلعة لم يضمنها ، مثل : أن يشتري متاعاً ، ويبيعه إلى آخر قبل قبضه من البائع ، فهذا البيع باطل ، وربحه لا يجوز ، لأنّ المبيع في ضمان البائع الأوّل ، وليس في ضمان المشتري منه ، لعدم القبض . وكذلك فعل البهوتيّ ، حيث قال : والمراد به ربح ما بيع قبل القبض .
وهذا الحديث وإن كان عاماً ، غير أنّ الإمام أحمد - رحمه الله - خصّه بالطّعام ، في رواية الأثرم عنه ، قال : سألت أبا عبد اللّه ، عن قوله : « نهى عن ربح ما لم يضمن » ، قال : هذا في الطّعام ، وما أشبهه من مأكول أو مشروب ، فلا يبيعه حتّى يقبضه . وقال ابن عبد البرّ : الأصحّ عن أحمد بن حنبل ، أنّ الّذي يمنع من بيعه قبل قبضه : هو الطّعام .
بيع الصّدقة والهبة قبل القبض :
13 - الصّدقة هي : تمليك المال في الحياة من يحتاجه بغير عوض ، تقرّباً إلى اللّه تعالى ، وجوباً أو ندباً . وهذا التّعريف - كما يرى - يشمل الصّدقة المفروضة ، الّتي تؤخذ من مال الغنيّ في آخر الحول وهي زكاة المال ، أو في آخر شهر الصّوم وهي زكاة الفطر تطهيراً للغنيّ والصّائم ، ويشمل الصّدقة المتطوّع بها ، وهي المستحبّة في جميع الأوقات .
وقد جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه المتقدّم آنفاً ، « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن شراء الصّدقات حتّى تقبض » . وفي حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم له : « لا تبع ما ليس عندك » .
14 - ويعتبر جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنبليّة وبعض المالكيّة الصّدقة ونحوها ، كالهبة والرّهن والقرض والإعارة والإيداع ، من عقود التّبرّعات ، الّتي لا تتمّ ولا تملّك إلاّ بالقبض ، والعقد فيها قبل القبض يعتبر عديم الأثر .
وعبارة المرغينانيّ في فصل الصّدقة : والصّدقة كالهبة لا تصحّ إلاّ بالقبض ، لأنّه ( أي التّصدّق ) تبرّع كالهبة .
بل قال الكاسانيّ : القبض شرط جواز الصّدقة ، لا تملّك قبل القبض ، عند عامّة العلماء . واستدلّ لذلك : بما روي « عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال خبراً عن اللّه سبحانه وتعالى : يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك يا بن آدم من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدّقت فأمضيت » اعتبر اللّه سبحانه وتعالى الإمضاء في الصّدقة ، والإمضاء هو التّسليم . فدلّ على أنّه شرط .
وبما روي عن أبي بكر وعمر وابن عبّاس ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم أنّهم قالوا : لا تتمّ الصّدقة إلاّ بالقبض . وبأنّ الصّدقة عقد تبرئة ، فلا يفيد الحكم بنفسه كالهبة .
وفي الهبة يقول : لو صحّت بدون القبض لثبت للموهوب له ولاية مطالبة الواهب بالتّسليم ، فتصير عقد ضمان ، وهذا تغيير المشروع .
وهذا الّذي قاله الحنفيّة ، هو الّذي يقابل المشهور من مذهب المالكيّة ، وهو ضعيف ، عبّروا عنه بقولهم : وقيل : إنّما تملك بالقبض وهذا النّصّ وإن ورد في الهبة ، لكنّ تعريفهم الصّدقة ، كما أشرنا إليه قبلاً وما يأتي من الأحكام ، يفيد التّعميم في الهبة والصّدقة .
وهو أيضاً مذهب الشّافعيّة ، إذ قالوا : لا يملك موهوب - بالمعنى الأعمّ الشّامل للصّدقة والهديّة - إلاّ بقبض بإذن الواهب .
وجاء في نصوص الشّافعيّة : إذا حلف لا يهب له ، فوهب له ولم يقبل ، أو قبل ولم يقبض لا يحنث في الأصحّ . وذلك لأنّه لا بدّ من القبول والقبض حتّى تصحّ الهبة وتتمّ .
وكذلك المذهب عند الحنابلة مطلقاً كما يقول المرداويّ . فقد صرّحوا بأنّ أنواع الهبة : صدقة وهديّة ونحلة ، ومعانيها متقاربة ، وكلّها تمليك في الحياة بلا عوض ، تجري فيها أحكامها أي تجري أحكام كلّ واحدة من المذكورات في البقيّة .
وقالوا : وتلزم الهبة بقبضها بإذن واهب ، ولا تلزم قبله ، أي قبل القبض بإذن الواهب ، ولو كانت الهبة في غير مكيل ونحوه ، ففي جميعها لا تلزم إلاّ بالقبض .
وقد استدلّ الحنابلة لما ذهبوا إليه - من إطلاق شرط القبض في الهبة ونحوها ، كالصّدقة الّتي نواجهها - بما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنّ أبا بكر رضي الله عنه نحلها جذاذ عشرين وسقاً من ماله بالعالية ، فلمّا مرض قال : يا بنيّة : كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقاً ، ولو كنت جذذته أو قبضته كان ذلك ، فإنّما هو اليوم مال وارث ، فاقتسموه على كتاب اللّه تعالى . وذكر البهوتيّ أنّه روي عن عمر وعثمان ، وابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم ، نحو هذا ، ولم يعرف لهم مخالف من الصّحابة . ورتّبوا على اشتراط القبض ، جواز رجوع الواهب في هبته ( وكذا الصّدقة ) قبل القبض ، لعدم تمام العقد .
وخالف في اشتراط القبض المالكيّة في مشهور مذهبهم . فقرّروا أنّ الهبة ( وكذلك الصّدقة كما يؤخذ من تفريعاتهم ) تملك بالقول على المشهور ، وللموهوب له طلبها من الواهب ، إذا امتنع من تسليمها ، ليجبره على تمكين الموهوب له منها .
وأشار الحنابلة في كتبهم إلى دليل المالكيّة وهو حديث ابن عبّاس رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : العائد في هبته كالعائد في قيئه » ويروى « في صدقته » . ويروى « كالكلب يقيء ثمّ يعود في قيئه » . وجاء في نصوص المالكيّة :
أ - لو قال : داري صدقة أو هبة أو حبس على الفقراء ، لا يقضى عليه ( لعدم التّعيين ) .
ب - ولو قال : داري صدقة أو هبة أو حبس على زيد ، فإنّه يقضى عليه بذلك ، لأنّه قصد البرّ والقربة حينئذ .
ج - ولو قال : للّه عليّ دفع درهم لزيد أو للفقراء ، لا يقضى به مطلقاً ، وقيل يقضى . وعلّلوا هذا بأنّ القضاء لا بدّ فيه من تعيين المتصدّق عليه أو الموهوب له ، ولا بدّ فيه من قصد القربة . وفي رواية عن الإمام أحمد أنّه في المكيل والموزون لا تصحّ الهبة والصّدقة ، ولا تلزم فيه الصّدقة والهبة إلاّ بالقبض .
وفي غيرهما يصحّ بغير قبض ، ويلزم بمجرّد العقد . ويثبت فيه الملك بغير قبض .
وحاصل الدّليل في هذه التّفرقة القياس على البيع ، من حيث إنّها تمليك ، ففي البيع ما لا يلزم قبل القبض ، كالصّرف والرّبويّات ، وفيه ما يلزم قبل القبض ، وهو ما عدا ذلك . والخلاصة أنّ جمهور الفقهاء يشترطون القبض في التّبرّعات .
بيع المحاقلة *
1- المحاقلة في اللّغة : بيع الزّرع في سنبله بالبرّ أو بحنطة - كما يقول الفيّوميّ - وفي الاصطلاح : بيع الحنطة في سنبلها بحنطة مثل كيلها خرصاً . والخرص : الحزر .
وعرّفها الحنبليّة بما هو أعمّ ، وقالوا : هي بيع الحبّ في سنبله بجنسه .
2 - ولا يختلف الفقهاء ، في أنّ بيع المحاقلة غير جائز ، وهو فاسد عند الحنفيّة ، باطل عند غيرهم ، وذلك لحديث جابر رضي الله عنه قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة » .
ولأنّه بيع مكيل بمكيل من جنسه ، فلا يجوز خرصاً ، لأنّ فيه شبهة الرّبا الملحقة بالحقيقة في التّحريم . ولعدم العلم بالمماثلة - بتعبير الشّافعيّة عن معنى البطلان - ويقول الحنابلة في تمام التّعليل : والجهل بالتّساوي كالعلم بالتّفاضل .
وأيضاً تزيد المحاقلة - كما قال الشّافعيّة على المزابنة - بأنّ المقصود من المبيع فيها مستور بما ليس من صلاحه فانتفت الرّؤية أيضاً .
ويؤخذ من كتب المالكيّة ، التّعليل العامّ لفساد المزابنة ونحوهما بالغرر والرّبويّة في الرّبويّات في الجنس الواحد . ولزيادة التّفصيل ينظر مصطلح ( محاقلة ) .
بيع المرابحة *
انظر : مرابحة .
بيع المزابنة *
1 - المزابنة : مأخوذة من الزّبن ، وهو في اللّغة : الدّفع لأنّها تؤدّي إلى النّزاع والمدافعة . أي بسبب الغبن كما يقول الشّافعيّة .
وفي الاصطلاح الفقهيّ : عرّفها الجمهور بأنّها : بيع الرّطب على النّخيل بتمر مجذوذ ، مثل كيله خرصاً . ( أي ظنّاً وتقديراً ) والخرص : الحزر . وذلك بأن يقدّر الرّطب الّذي على النّخل بمقدار مائة صاع مثلاً ، بطريق الظّنّ والحزر ، فيبيع بقدره من التّمر . فلو لم يكن الثّمن رطباً فهو جائز بسبب اختلاف الجنس .
وعرّفها الدّردير من المالكيّة بأنّها : بيع مجهول بمعلوم ، ربويّ أو غيره . أو : بيع مجهول بمجهول من جنسه . وعرّفها ابن جزيّ ، منهم أيضاً ، بأنّها : بيع شيء رطب ، بيابس من جنسه ، سواء أكان ربويّاً ، أم غير ربويّ .
حكم بيع المزابنة :
2 - لم يختلف الفقهاء في حكم هذا البيع . فقد اتّفقوا على أنّه بيع فاسد ، ولا يصحّ ، وذلك لما يأتي :
- أ - حديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما قال : { نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة } .
- ب - ولشبهة الرّبا ، لأنّه بيع مكيل بمكيل من جنسه ، مع احتمال عدم المساواة بينهما بالكيل . ويصرّح الشّافعيّة بأنّ فيهما الرّبا ، لعدم العلم بالمماثلة فيهما .
- ج - وللغرر - كما علّله ابن جزيّ - . ومثل بيع الرّطب بالتّمر ، بيع العنب بالزّبيب ، كما ورد في بعض الرّوايات ، زيادةً على المذكور في الحديث السّابق : « وعن بيع العنب بالزّبيب ، وعن كلّ تمر بخرصه » وأطلق المالكيّة - لعلّه لذلك - عدم جواز بيع كلّ رطب بيابس من جنسه ، لا متفاضلاً ولا مثلاً بمثل ، حتّى الحبوب .
بيع المزايدة *
انظر : مزايدة .
بيع المساومة *
انظر : مساومة .
بيع المسترسل *
انظر : استرسال .
بيع الملامسة *
1 - الملامسة من بيوع الجاهليّة أيضاً . وقد ثبت النّهي عنها في الحديث ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة » . وفسّره أبو هريرة في رواية مسلم بقوله : أمّا الملامسة : فأن يلمس كلّ واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمّل . والمنابذة : أن ينبذ كلّ واحد ثوبه إلى الآخر ، ولا ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه . وعن أبي سعيد الخدريّ « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين ولبستين : نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع » . والملامسة : لمس الرّجل ثوب الآخر بيده ، باللّيل أو بالنّهار ، ولا يقلّبه إلاّ بذلك . والمنابذة : أن ينبذ الرّجل إلى الرّجل ثوبه ، وينبذ الآخر إليه ثوبه ، ويكون بذلك بيعهما ، من غير نظر ولا تراض .
2 - وفسّرت الملامسة مع ذلك في الفقه بصور :
أ - أن يلمس ثوباً مطويّاً ، أو في ظلمة ، ثمّ يشتريه على أن لا خيار له إذا رآه ، اكتفاءً بلمسه عن رؤيته . أو يلمس كلّ منهما ثوب صاحبه بغير تأمّل - كما يعبّر الحنفيّة - وذلك على سبيل المشاركة من الجانبين خلافاً لما أشار إليه الشّيخ الدّردير ، وخالفه فيه الشّيخ عليش وهو مأخوذ من التّفسير المأثور .
ب - أو يكون الثّوب مطويّاً ، فيقول البائع للمشتري : إذا لمسته فقد بعتكه ، اكتفاءً بلمسه عن الصّيغة . قال في المغرب : بيع الملامسة واللّماس ، أن يقول لصاحبه : إذا لمست ثوبك أو لمست ثوبي ، فقد وجب البيع .
ج - أو يبيعه شيئاً على أنّه متى لمسه لزم البيع ، وانقطع خيار المجلس وغيره ، وهو مرويّ عن أبي حنيفة ، أو يقول المشتري كذلك .
3 - وهذا البيع بصوره المذكورة كلّها ، فاسد عند عامّة الفقهاء ، قال ابن قدامة : لا نعلم فيه خلافاً ، وذلك لعدم الرّؤية في الصّورة الأولى ، مع لزوم البيع ، اكتفاءً باللّمس عن الرّؤية . ولعدم الصّيغة في الصّورة الثّانية .
كما قال الشّافعيّة . ولتعليق التّمليك على أنّه متى لمسه وجب البيع ، وسقط خيار المجلس في الثّالثة ، في تعبير الحنفيّة ، والتّملّكيّات لا تحتمله لأدائه إلى معنى القمار .
وعلّل الحنابلة الفساد بعلّتين : الأولى : الجهالة . والأخرى : كونه معلّقاً على شرط ، وهو لمس الثّوب . ولعلّ هذا هو الغرر المقصود في تعبير ابن قدامة .
وأجمل الشّوكانيّ التّعليل ، بالغرر والجهالة وإبطال خيار المجلس .
4 - هذا ، ونصّ المالكيّة في فروعهم التّفصيليّة هنا ، على أنّ الاكتفاء في لزوم البيع ، وتحقّقه باللّمس ، من غير أن ينشر الثّوب ويعلم ما فيه ، هو المفسد : قالوا : فلو باعه قبل التّأمّل فيه ، على شرط أن ينظر فيه بعد ذلك ، فإن أعجبه أمسكه وإلاّ ردّه ، كان جائزاً .
بيع المنابذة *
1 - بيع المنابذة أيضاً من بيوع الجاهليّة . وثبت النّهي عنها في صحاح الأحاديث ، كما ثبت عن الملامسة ، وفسّرت في بعضها . وصوّرها الفقهاء فيما يأتي :
أ - أن ينبذ كلّ واحد من المتبايعين ثوبه إلى الآخر ، ولا ينظر كلّ واحد منهما إلى ثوب صاحبه - أو ينبذه إليه بلا تأمّل كما عبّر المالكيّة - على جعل النّبذ بيعاً . وهذا التّفسير المأثور عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه في رواية مسلم : « فيكون ذلك بيعهما ، من غير نظر ولا تراض » وهو المنقول عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى .
ب - أن يجعلا النّبذ بيعاً ، اكتفاءً به عن الصّيغة ، فيقول أحدهما : أنبذ إليك ثوباً بعشرة ، فيأخذه الآخر " والصّورة الأولى فيها مشاركة بخلاف هذه " .
ج - أن يقول : بعتك هذا بكذا ، على أنّي إذا نبذته إليك ، لزم البيع وانقطع الخيار .
د - أن يقول : أيّ ثوب نبذته إليّ فقد اشتريته بكذا ، وهذا ظاهر كلام أحمد - رحمه الله تعالى . هذا ولا بدّ أن يسبق تراوضهما على الثّمن مع ذلك ، وإلاّ كان المنع لعدم ذكر الثّمن . وقد سبق عن الحنفيّة ، أنّ السّكوت عن الثّمن مفسد للبيع ، ونفيه عنه مبطل له .
2 - وكلّ هذه الصّور فاسدة ، بلا خلاف بين أهل العلم ، صرّح بذلك ابن قدامة وغيره ، معلّلين الفساد :
- بالنّهي في الحديث الصّحيح المتقدّم .
- والجهالة ، وعلّل بها الحنفيّة والحنابلة .
- وتعليق التّمليك بالخطر ، لأنّه - في الصّورة الأولى الّتي ذكرها الحنفيّة - في معنى : إذا نبذت إليك الثّوب فقد اشتريته ، والتّمليكات لا تحتمله ، لأدائه إلى معنى القمار .
- ولعدم الرّؤية ، أو عدم الصّيغة ، أو للشّرط الفاسد ، كما علّل الشّافعيّة .
بيع منهيّ عنه *
التّعريف :
1 - البيع في اللّغة والاصطلاح ، سبق الكلام عنه في مصطلح " بيع " . أمّا " المنهيّ عنه " فهو صيغة مفعول من النّهي . والنّهي لغةً : الزّجر عن الشّيء ، وهو : ضدّ الأمر . واصطلاحاً : طلب الكفّ عن الفعل على جهة الاستعلاء .
الأصل في البيع الحلّ إلاّ لطارئ :
2 - أنّ الأصل في البيع هو الإباحة والصّحّة ، حتّى يقوم الدّليل على الحظر أو الفساد . والدّليل على ذلك هو قول اللّه تعالى في كتابه العزيز : { وأحلّ اللّهُ البيعَ } فإنّه عامّ في إباحة جميع البيوع . ودليل العموم هو : أنّ لفظ البيع مفرد محلًّى بالألف واللام ، والمفرد المحلّى بالألف واللّام يفيد العموم عند أهل الأصول ، إذا لم يكن هناك عهد مطلقاً ، ولا قصد إلى إرادة الحقيقة والماهيّة . فصار حاصل معنى الآية : أنّ كلّ بيع حلال ، أخذاً بعموم اللّفظ . غير أنّ أهل العلم لم يختلفوا في أنّ هذه الآية ، وإن كان مخرجها مخرج العموم ، فقد لحقها التّخصيص ، لأنّهم - كما يقول الرّازيّ الجصّاص ، وكما سيأتي - متّفقون على حظر كثير من البياعات ، نحو بيع ما لم يقبض ، وبيع ما ليس عند الإنسان ، وبيع الغرر ، والمجاهيل وعقد البيع على المحرّمات من الأشياء .
وقد كان لفظ الآية يوجب جواز هذه البياعات ، وإنّما خصّت منها بدلائل ، إلاّ أنّ تخصيصها غير مانع من اعتبار عموم لفظ الآية ، فيما لم تقم الدّلالة على تخصيصه .
موجب النّهي :
3 - موجب النّهي عند الجمهور التّحريم إلاّ بقرينة تصرفه عن التّحريم إلى غيره ، كالكراهة أو الإرشاد أو الدّعاء أو نحوها . وهناك خلاف وتفصيل ينظر في الملحق الأصوليّ . وفي مصطلح : ( نهي ) . فإذا وجدت قرينة أو دليل يصرف النّهي عن التّحريم ، كان المراد بالنّهي الكراهة . وهي لغةً : ضدّ المحبّة . واصطلاحاً : تشمل :
أ - المكروه تحريماً ، وهو ما كان إلى الحرمة أقرب ، بمعنى أن يتعلّق به محذور دون استحقاق العقوبة بالنّار كحرمان الشّفاعة ، وهو المحمل عند إطلاق الكراهة - عند الحنفيّة - لكنّه عند الإمام محمّد حرام ثبتت حرمته بدليل ظنّيّ .
ب - كما تشمل المكروه تنزيهاً ، وهو ما كان إلى الحلّ أقرب ، بمعنى أنّه لا يعاقب فاعله أصلاً ، لكن يثاب تاركه أدنى ثواب ، فيكون تركه أولى من فعله . ويرادف المكروه تنزيهاً
( خلاف الأولى ) وكثيراً ما يطلقونه أيضاً . فإذا ذكروا مكروهاً : فلا بدّ من النّظر في دليله : أ - فإن كان نهياً ظنّيّاً ، يحكم بكراهة التّحريم ، إلاّ لصارف للنّهي عن التّحريم إلى النّدب .
ب - وإن لم يكن الدّليل نهياً ، بل كان مفيداً للتّرك غير الجازم ، فهي تنزيهيّة . وبين المكروهين : تحريماً وتنزيهاً ( الإساءة ) وهي دون المكروه تحريماً ، وفوق المكروه تنزيهاً . وتتمثّل بترك السّنّة عامداً غير مستخفّ ، فإنّ السّنّة يندب إلى تحصيلها ، ويلام على تركها ، مع لحوق إثم يسير .
وإذا كان الحنفيّة قد صرّحوا بأنّ لفظ المكروه إذا أطلق في كلامهم فالمراد منه التّحريم ، ما لم ينصّ على كراهة التّنزيه . فإنّ المالكيّة نصّوا على العكس ، فإنّ الكراهة متى أطلقت لا تنصرف إلاّ للتّنزيه . وأمّا الشّافعيّة والحنابلة فإنّهم يطلقون ( الكراهة ) على ما يراد بالكراهة التّنزيهيّة عند غيرهم .
أسباب النّهي عن البيع :
4 - أسباب النّهي عقديّة أو غير عقديّة . والأسباب العقديّة منها ما يتعلّق بمحلّ العقد ، ومنها ما يتعلّق بلازم العقد :
الأسباب الّتي تتعلّق بمحلّ العقد :
محلّ العقد : وهو المعقود عليه . ويشترط فيه الفقهاء جملةً من الشّروط :
الشّرط الأوّل ما يتعلّق بالمعقود عليه :
5 - أن يكون المعقود عليه موجوداً حين العقد ( أي غير معدوم ) فلا يقع عندهم بيع المعدوم ، ويعتبر باطلاً . ويتمثّل هذا في البيوع الآتية : بيع المضامين ، والملاقيح ، وحبل الحبلة ، وبيع الجنين في بطن أمّه .
والمضامين : جمع مضمون ، كمجنون . وهي : ما في أصلاب الفحول ، عند الجمهور وبعض المالكيّة كابن جزيّ .
أمّا الملاقيح : فهي جمع ملقوحة وملقوح ، وهي : ما في أرحام الأنعام والخيل من الأجنّة . وفسّر الإمام مالك المضامين بأنّها : بيع ما في بطون إناث الإبل ، وأنّ الملاقيح بيع ما في ظهور الفحول .
وأمّا بيع حبل الحبلة فهو بيع نتاج النّتاج ، بأن يبيع ولد ما تلده هذه النّاقة أو الدّابّة ، فولد ولدها هو نتاج النّتاج . ولا يختلف الفقهاء في بطلان بيع هذه الجملة من البيوع .
قال ابن المنذر : وقد أجمعوا على أنّ بيع الملاقيح والمضامين غير جائز ، وذلك لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضامين والملاقيح وحبل الحبلة » . ولقول سعيد بن المسيّب : لا ربا في الحيوان ، وإنّما نهي من الحيوان عن ثلاثة : عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة .
ولأنّ في هذا البيع غرراً ، فعسى أن لا تلد النّاقة ، أو تموت قبل ذلك ، فهو بيع معدوم وماله خطر المعدوم . وعلّله الشّافعيّة بأنّه : بيع ما ليس بمملوك ، ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه . وعلّله الحنابلة : بالجهالة ، فإنّه لا تعلم صفته ولا حياته ، وبأنّه غير مقدور التّسليم ، وإذا لم يجز بيع الحمل ، فأولى أن لا يجوز بيع حمله .
6 - ومن قبيل بيع المعدوم أيضاً : بيع عسب الفحل . وقد روي في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ثمن عسب الفحل » ويروى : « عن عسب الفحل » . فقال الكاسانيّ فيها : ولا يمكن حمل النّهي على نفس العسب ، وهو الضّراب ، لأنّ ذلك جائز بالإعارة ، فيحمل على البيع والإجارة ، إلاّ أنّه حذف ذلك ، وأضمره فيه ، كما في قوله تعالى : { واسْأل القرية } .
وذكر الشّافعيّة نحو هذا في تأويل الحديث ، وطرقوا له ثلاثة أوجه من الاحتمالات ، ونصّوا - كغيرهم - على بطلان بيعه ، وقالوا : يحرم ثمن مائة ، ويبطل بيعه ، لأنّه غير معلوم ولا متقوّم ، ولا مقدور على تسليمه .
الشّرط الثّاني ما يتعلّق بمحلّ العقد :
7 - أن يكون المعقود عليه مالاً ، بمعناه الفقهيّ الاصطلاحيّ ، وهو : ما يميل إليه الطّبع ، ويجري فيه البذل والمنع . ( ر : مصطلح : مال ) فلا ينعقد بيع ما ليس بمال . وذلك مثل بيع المسلم الميتة فإنّه باطل ، سواء أماتت حتف أنفها ، أم ماتت بخنق ونحوه من غير تذكية ، وهذا لقوله تعالى : { حُرِّمَتْ عليكم الميتة والدّم } ولا يستثنى من ذلك إلاّ السّمك والجراد ، لحديث : « أحلّت لنا ميتتان ودمان : فأمّا الميتتان فالحوت والجراد ، وأمّا الدّمان فالكبد والطّحال » . أمّا بيع الذّمّيّ للميّتة ، فإن كان موتها حتف أنفها أي بغير ضرب ولا قتل - وهي : ما تنفّست حتّى انقضى رمقها - فهي ليست مالاً بالاتّفاق .
وأمّا ما لم يمت حتف أنفه ، بل مات خنقاً ، أو بما يدين به الذّمّيّ ، وليس تذكيةً في شرعنا فالرّوايات مختلفة عند الحنفيّة في جواز بيعه وفي فساده : فالرّواية عن أبي يوسف الجواز ، والرّواية عن محمّد الفساد ، ولا رواية في البطلان .
وأمّا غير الحنفيّة ، فلا يفرّقون بين ما مات حتف أنفه وما ليس كذلك في بطلان البيع .
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على عدم جواز بيع الميتة أو شيء منها .
ودليل التّحريم حديث : « إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام » ويحرم ولا ينعقد بيع الدّم المسفوح ، لقوله تعالى : { أو دماً مَسْفوحاً } والتّقييد بالمسفوحيّة مخرج ما سواه ، فإنّه يجوز بيعه ، كالكبد والطّحال ، وقد استثنيا من تحريم الدّم ، بحديث
« أحلّت لنا ميتتان ودمان » ... " الآنف الذّكر ، ولا خلاف في ذلك ، وصرّح ابن المنذر والشّوكانيّ بإجماع أهل العلم على تحريم بيعه .
وعلّة تحريم بيع الميتة والدّم ونحوهما عند الحنفيّة انتفاء الماليّة ، وعند الآخرين نجاسة العين . ومن صوّر انتفاء الماليّة في محلّ العقد : بيع الحرّ . وكذلك البيع به ، بجعله ثمناً ، بإدخال الباء عليه ( كأن يقول : بعتك هذا البيت بهذا الغلام ، وهو حرّ ) لأنّ حقيقة البيع : مبادلة مال بمال . ولم يوجد هنا ، لأنّه ليس بمال .
وفي الوعيد الشّديد على تحريم هذا البيع ، ورد حديث : « ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ، ومن كنت خصمه خصمته . رجل أعطى بي ثمّ غدر ، ورجل باع حرّاً فأكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيراً ، فاستوفى منه ولم يعطه أجره » .
الشّرط الثّالث : التّقوّم :
8 - وممّا يتعلّق بمحلّ العقد - بعد كونه مالاً - أن يكون متقوّماً .
والتّقوّم عند الحنفيّة ضربان :
عرفيّ : ويكون بالإحراز ، فغير المحرز ، كالصّيد والحشيش ، ليس بمتقوّم .
وشرعيّ : ويكون بإباحة الانتفاع به ، وهو المراد هنا . فما ليس بمتقوّم من المال بهذا المعنى ، وهو غير ما كان الانتفاع به غير مباح ، يبطل بيعه . ومن الفقهاء من استغنى عن الماليّة والتّقوّم ، بشرطي الطّهارة والنّفع ، كما فعل المالكيّة والشّافعيّة .
ومنهم من استغنى عن شرط التّقوّم هذا بشرط الماليّة ، بتعريف المال عنده بأنّه : ما فيه منفعة غير محرّمة ، ويباح لغير حاجة أو ضرورة . وهؤلاء هم الحنابلة .
فخرج بقيد المنفعة ، ما لا منفعة فيه أصلاً : كالحشرات ، وما فيه منفعة محرّمة كالخمر . وما فيه منفعة مباحة للحاجة كالكلب . وما فيه منفعة مباحة للضّرورة ، كالميتة في حال المخمصة .
9 - فمن أمثلة غير المتقوّم : بيع الخمر والخنزير ، فإنّه فاسد عند جمهور الفقهاء . والمعنى فيه هو نجاسة عينه ، ويلحق بهما باقي نجس العين ، وكذا كلّ ما نجاسته أصليّة أو ذاتيّة ولا يمكن تطهيره . ونقل ابن قدامة عن ابن المنذر إجماع أهل العلم على القول به ودليله حديث جابر المتقدّم : « إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام » . والحنفيّة فرّقوا بين بيع المذكورات بثمن أو بدين ثابت في الذّمّة ، فهو باطل .
وبين بيعها بأعيان أو عروض ، فإنّ البيع يبطل في الخمر ، ويفسد فيما يقابلها من العروض والأعيان . ووجه الفرق : أنّ المبيع هو الأصل في البيع ، وليست الخمر ونحوها محلاً للتّمليك ، فبطل البيع فيها ، فكذا يبطل في ثمنها .
أمّا إذا كان الثّمن عيناً ، فإنّه حينئذ مبيع من وجه ، مقصود بالتّملّك ، ولكن فسدت التّسمية ، فوجبت قيمته دون الخمر المسمّى .
وكذلك فرّق الحنفيّة في بيع المذكورات بين المسلم وبين الذّمّيّ . وفي هذا يقول الكاسانيّ : ولا ينعقد بيع الخنزير من المسلم ، لأنّه ليس بمال في حقّ المسلمين . فأمّا أهل الذّمّة ، فلا يمنعون من تبايع الخمر والخنزير فيما بينهم لما يلي :
أ - أمّا على قول بعض مشايخنا ، فلأنّه مباح الانتفاع به شرعاً لهم ، كالخلّ وكالشّاة لنا ، فكان مالاً في حقّهم ، فيجوز بيعه . وروي عن سيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه :" أنّه كتب إلى عشّاره بالشّام : أن ولّوهم بيعها ، وخذوا العشر من أثمانها ".
ولو لم يجز بيع الخمر منهم لما أمرهم بتوليتهم البيع .
ب - وعن بعض مشايخنا : حرمة الخمر والخنزير ثابتة على العموم في حقّ المسلم والكافر ، لأنّ الكفّار مخاطبون بشرائع هي حرمات ، وهو الصّحيح من مذهب أصحابنا ، فكانت الحرمة ثابتةً في حقّ المسلم والكافر ، لكنّهم لا يمنعون من بيعها ، لأنّهم لا يعتقدون حرمتها ، ويتموّلونها ، ونحن أمرنا بتركهم وما يدينون . فيقول ابن عابدين - رحمه الله - معلّقاً على عبارة الكاسانيّ : وظاهره الحكم بصحّتها فيما بينهم ، ولو بيعت بالثّمن .
10 - ومن أمثلة غير المتقوّم أيضاً عند الحنفيّة ، الميتة الّتي لم تمت حتف أنفها ، بل ماتت بالخنق ونحوه ، فإنّها مال عند الذّمّيّ كالخمر . وسبق الكلام عنها في شرط الماليّة .
11 - ويتّصل بغير المتقوّم : المتنجّس الّذي لا يقبل التّطهير ، كالسّمن والزّيت والعسل واللّبن والخلّ .
والمشهور والأصحّ من مذهب الأكثرين من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : عدم جواز بيعها ، لأنّ أكلها حرام ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « سئل عن الفأرة تموت في السّمن ، فقال : ... وإن كان مائعاً فلا تقربوه » وإذا كان حراماً لم يجز بيعه لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : لعن اللّه اليهود ، حرّمت عليهم الشّحوم ، فجمّلوها " أي أذابوها " فباعوها » ...
ولأنّها نجسة ، فلا يجوز بيعها ، قياساً على شحم الميتة ، فهي في معنى نجس العين .
وقد قرّر المالكيّة أنّ مشهور مذهبهم هو عدم جواز بيعها اختياراً ، أمّا اضطراراً فيصحّ . ومقابل المشهور رواية وقعت لمالك ، هي جواز بيعه ، وكان يفتي بها ابن اللّبّاد .
قال ابن رشد : والمشهور عن مالك ، المعلوم من مذهبه في المدوّنة وغيرها ، أنّ بيعه لا يجوز ، والأظهر أنّ بيعه جائز ممّن لا يغشّ به إذا بيّن ، لأنّ تنجيسه بسقوط النّجاسة فيه لا يسقط ملك ربّه عنه ، ولا يذهب جملة المنافع منه ، ولا يجوز أن يتلف عليه ، فجاز له أن يبيعه ممّن يصرفه فيما كان له هو أن يصرفه فيه ، وهذا في الزّيت على مذهب من لا يجيز غسله . وأمّا على مذهب من يجيز غسله - وروي ذلك عن مالك - فسبيله في البيع سبيل الثّوب المتنجّس . وجعل ابن جزيّ قياس ابن رشد ممّا أجازه ابن وهب إذا بيّن . وأشار إلى الاختلاف في الاستصباح به في غير المساجد .
وفي قول للشّافعيّة ، هو مقابل الأصحّ عندهم : أنّه إذا أمكن تطهيره ، بأن يصبّ عليه في إناء ماء يغلبه ، ويحرّك بخشبة حتّى يصل إلى جميع أجزائه ، جاز بيعه قياساً على الثّوب المتنجّس . والأصحّ عندهم المنع من البيع ، لتعذّر التّطهير ، لحديث الفأرة المتقدّم ، فإنّه لو أمكن تطهيره لم يقل في الحديث : « ألقوها وما حولها » وفي رواية : « فأريقوه » وكذلك الخلاف عندهم في بيع الماء النّجس . فيجوز عند بعضهم ، لإمكان تطهيره بالمكاثرة .
وجزم بعضهم بمنع الجواز ، وهو المعتمد - كما يقول القليوبيّ نقلاً عن شيخه - إن كان دون القلّتين ، وذلك نظراً إلى النّجاسة الآن ، فإن كان أكثر من قلّتين صحّ عندهم .
وكذلك الحنابلة الّذين لم يستجيزوا بيع الدّهن النّجس ، رووا عن الإمام أحمد أنّه يجوز بيعه لكافر يعلم نجاسته ، وذلك لأنّه يعتقد حلّه ، ويستبيح أكله ، ولأنّه روي عن أبي موسى : لتّوا به السّويق وبيعوه ، ولا تبيعوه من مسلم ، وبيّنوه . لكنّ الصّحيح عند الحنابلة عدم الجواز لحديث ابن عبّاس المتقدّم : « لعن اللّه اليهود ، حرّمت عليهم الشّحوم فجمّلوها » . ولأنّه لا يجوز بيعها من مسلم ، فلا يجوز بيعها من كافر ، كالخمر والخنزير ، فإنّهم يعتقدون حلّه ، ولا يجوز بيعه لهم . ولأنّه دهن نجس ، فلم يجز بيعه لكافر ، كشحوم الميتة .
هذا ، وأمّا الثّوب المتنجّس أو الإناء المتنجّس ونحوهما من كلّ ما يطهر بالغسل من المتنجّسات فقد نصّوا على صحّة بيعه ، لما أنّه ينتفع به بعد التّطهير ، وطهارته أصليّة ، وإنّما عرض لها نجاسة يمكن إزالتها .
وقد أوجب المالكيّة تبيين النّجاسة مطلقاً ، سواء أكان الثّوب - مثلاً - جديداً أم قديماً ، وسواء أكان ممّا يفسده الغسل أم لا ، وسواء أكان المشتري يصلّي أم لا ، قالوا : لأنّ النّفوس تكرهه ، فإن لم يبيّن وجب للمشتري الخيار .
أمّا الحنفيّة فقد نصّوا - خلافاً للأصحّ المشهور عند الجمهور - على جواز بيع الدّهن المتنجّس ، وهو الّذي عرضت له النّجاسة ، وأجازوا الانتفاع به في غير الأكل ، كالاستصباح به في غير المساجد والدّبّاغة وغيرهما .
وفرّقوا بين الدّهن المتنجّس وبين دهن الميتة ، فإنّ هذا نجس ، لأنّه جزؤها ، فلا يكون مالاً ، فلا يجوز بيعه اتّفاقاً ، كما لا يجوز الانتفاع به واستدلّ له ابن عابدين - رحمه الله - بحديث : « إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام . فقيل يا رسول اللّه أرأيت شحوم الميتة ، فإنّها يطلى بها السّفن ، ويدهن بها الجلود ، ويستصبح بها النّاس ؟ فقال : لا ، هو حرام » .
12 - ويتّصل بغير المتقوّم والنّجاسات والمتنجّسات ، بيع عظم الميتة وجلدها وصوفها وحافرها وريشها ونحوها . ومذهب الجمهور : أنّه لا يجوز بيعها لنجاستها ، لقوله تعالى : { حرّمت عليكم الميتة } وهذه أجزاء الميتة ، فتكون حراماً ، فلا يجوز بيعها . وقد جاء في الحديث : « لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب » . بل نصّ الحنابلة على عدم جواز بيع شيء من الميتة ، ولو كان ذلك لمضطرّ ، إلاّ السّمك والجراد والجندب ، لحلّ أكلها .
أمّا الحنفيّة ففصّلوا في هذه المسألة بين غير الآدميّ وبين الآدميّ ، وبين جلد الميتة قبل الدّبغ وبين جلدها بعد الدّبغ . قالوا :
أ - إنّ جلد الميتة قبل الدّبغ لا يجوز بيعه ، لما روي في الحديث المتقدّم آنفاً : « لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب » ولأنّ نجاسته من الرّطوبات المتّصلة به بأصل الخلقة ، فصار كلحم الميتة . بخلاف الثّوب النّجس حيث يجوز بيعه ، لأنّ نجاسته ليست بأصل الخلقة ، فلا يمنع من جواز البيع .
ب - أمّا بعد الدّبغ فإنّه يجوز بيعه والانتفاع به ، لأنّه طهر بالدّبّاغ .
ج - أمّا العظم ونحوه ، فإنّه طاهر بأصل الخلقة ، والقاعدة عندهم : أنّ كلّ شيء لا يسري فيه الدّم لا ينجس بالموت ، كالشّعر والرّيش والوبر والقرن والحافر والعظم - كما نصّوا عليه في الطّهارات - فيجوز بيعه والانتفاع به ، ودليلهم على ذلك ، كما ذكره الكاسانيّ : أنّ اللّه تعالى جعل لنا هذه الأشياء ، وامتنّ علينا بها من غير فصل بين الذّكيّة والميّتة ، فيدلّ على تأكّد الإباحة ، قال تعالى : { واللّه جعلَ لكم من بيوتِكم سَكَناً ، وجَعَل لكم من جلودِ الأنعامِ بيوتاً تَسْتَخِفُّونها يومَ ظَعْنِكم ويومَ إقامَتِكم ، ومن أصوافِها وأوبارِها وأشعارِها أثاثاً ومتاعاً إلى حين } .
ولأنّ حرمة الميتة ليست لموتها ، فإنّ الموت موجود في السّمك والجراد ، وهما حلالان بالنّصّ ، بل لما فيها من الرّطوبات السّيّالة والدّماء النّجسة ، لانجمادها بالموت . ولهذا يطهر جلد الميتة بالدّبّاغ ، حتّى يجوز بيعه ، لزوال الرّطوبة عنه ، ولا رطوبة في هذه الأشياء ، فلا تكون حراماً . بل نصّ الحنفيّة ، ومنهم الزّيلعيّ ، على أنّ لحوم السّباع وشحومها وجلودها بعد الذّكاة الشّرعيّة هي كجلود الميتة بعد الدّبّاغ ، حتّى يجوز بيعها والانتفاع بها في غير الأكل ، وذلك لطهارتها بالذّكاة . يستثنى من ذلك جلد الخنزير ، فإنّه نجس العين ( وكذا لحمه وعظمه وشعره ) فلا يطهر بالتّذكية ولا بالدّبّاغ . وإن خالف في ذلك - فيما سوى الخنزير - بعض الحنفيّة ، فقرّر الشّرنبلاليّ أنّه تطهّر الذّكاة الشّرعيّة جلد غير المأكول ، دون لحمه ، على أصحّ ما يفتى به ، ويجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف بيع عظم الفيل والانتفاع به كسائر السّباع . وعند محمّد لا يجوز ، وهو عنده كالخنزير .
أمّا عظم الآدميّ وشعره ، فوافق الحنفيّة . الجمهور في أنّه لا يباع . قال الكاسانيّ : لا لنجاسته " لأنّه طاهر في الصّحيح من الرّواية ، لكن احتراماً له ، والابتذال بالبيع يشعر الإهانة . وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لعن اللّه الواصلة والمستوصلة » فنصّ الحنفيّة على أنّه لا يجوز الانتفاع به للحديث المذكور . وصرّحوا بأنّ الآدميّ مكرّم شرعاً ، وإن كان كافراً ، فإيراد العقد عليه وابتذاله وإلحاقه بالجمادات إذلال له ، وهو غير جائز . وبعض الآدميّ في حكم كلّه . وصرّح الكمال من الحنفيّة ببطلان بيعه .
بيع الكلب :
13 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة ، وهو المشهور عند المالكيّة إلى عدم صحّة بيع الكلب ، أيّ كلب كان ولو كان معلّماً ، للحديث الصّحيح عن أبي جحيفة رضي الله عنه ، « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدّم وثمن الكلب ، وكسب البغيّ ، ولعن الواشمة والمستوشمة ، وآكل الرّبا وموكله ، ولعن المصوّرين » . ولحديث أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه ، قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب ، ومهر البغيّ ، وحلوان الكاهن » . وفرّق بعض المالكيّة بين الكلب المأذون باتّخاذه وبين غيره ، فأجازوا بيع الأوّل ، واختلفوا في الثّاني .
وأمّا الحنفيّة ، فذهبوا إلى صحّة بيع الكلب أيّ كلب كان حتّى العقور . والتّفصيل في مصطلح ( كلب ) . أمّا الهرّ فذهب جمهور الفقهاء إلى جواز بيعه ، لأنّه حيوان منتفع به ، وحملوا حديث جابر رضي الله عنه « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب والسّنّور » على غير المملوك ، أو على ما لا نفع فيه من الهررة ، وتفصيله في مصطلح : ( هرّ ) .
بيع سباع البهائم وجوارح الطّير والهوامّ :
14 - اتّفقت المذاهب على عدم جواز بيع سباع البهائم والطّير ، إذا كانت ممّا لا ينتفع به بحال . فإن كانت ممّا ينتفع به جاز بيعه إلاّ الخنزير ، فإنّه نجس العين ، فلا يجوز الانتفاع به ، فكذلك لا يجوز بيعه . لكنّهم ذهبوا مذاهب في تفسير النّفع الّذي يجيز بيع السّباع :
15 - فالحنفيّة - في ظاهر الرّواية من مذهبهم - والمالكيّة في الرّاجح من المذهب ، ذهبوا إلى إطلاق النّفع ، ولو بالجلد ، وبدون تفرقة بين المعلّم وغيره .
ومن نصوص الحنفيّة في هذا : صحّ بيع الكلب ولو عقوراً ، والفهد والفيل والقرد ، والسّباع بسائر أنواعها ، حتّى الهرّة ، وكذا الطّيور أي الجوارح منها ) علّمت أو لا ، سوى الخنزير ، وهو المختار ، للانتفاع بها وبجلدها .
وعلّل الزّيلعيّ أيضاً جواز بيعها بجواز الانتفاع بها شرعاً ، وبقبولها التّعليم عادةً ، ثمّ طرح هذا الضّابط قائلاً فيه : وكلّ منتفع به شرعاً ، في الحال أو في المآل ، وله قيمة .. جاز بيعه ، وإلاّ فلا . وقال الحصكفيّ : جواز البيع يدور مع حلّ الانتفاع . وقال البابرتيّ : وإذا ثبت أنّ مناط الحكم الانتفاع ، ثبت في الفهد والنّمر والذّئب . بخلاف الهوامّ المؤذية ، كالحيّات والعقارب والزّنابير ، لأنّها لا ينتفع بها . وكذا غير المؤذية من هوامّ الأرض : كالخنافس والفأرة والنّمل والوزغ والقنافذ والضّبّ ، أو من البحر ، كالضّفدع والسّرطان .
16 - أمّا مذهب المالكيّة فهو أنّ بيع الهرّ والسّبع للجلد جائز ، وأمّا للّحم فقط ، أو له وللجلد فمكروه . وهذا مبنيّ على حكم لحم السّباع عندهم .
وأمّا سباع الطّير ذوات المخالب ، فلحمها مباح عندهم ، كالباز والعقاب والرّخم ، وكرهوا الوطواط . وأمّا سباع البهائم ، فلهم فيها ثلاثة أقوال : الكراهة . والمنع . والتّفرقة بين العادي - الّذي يعدو على الآدميّ - كالأسد والفهد والنّمر والذّئب ، فيحرم . وبين غير العادي ، كالدّبّ والثّعلب والضّبع والهرّ مطلقاً ، فيكره . لكنّ الّذي في مختصر خليل كراهتها ، حتّى الفيل عنده - وفي عهدته ، كما قالوا .
17 - أمّا الشّافعيّة : فقد فسّروا النّفع بنحو الصّيد والحراسة ، ولو مآلاً ، بأن يرجى تعلّم الحيوان . أمّا ما لا نفع فيه فلا يصحّ بيعه ، الفواسق الخمس ، وكذا ما لا يرجى تعلّمه للصّيد ، لكبره مثلاً . فالفهد ينتفع به للصّيد ، والفيل للقتال ، والقرد للحراسة ، والهرّة الأهليّة لدفع نحو فأر ، والعندليب للأنس بصوته ، والطّاووس للأنس بلونه .
وكتب الشّيخ عميرة على قول النّوويّ في منهاجه : فلا يصحّ بيع الحشرات وكلّ سبع لا ينفع . مبيّناً خصال انتفاء النّفع ، بقوله : مثل : أن لا يؤكل ، ولا يصال ولا يقاتل عليه ، ولا يتعلّم ، ولا يصلح للحمل .
كما قرّر أنّ انتفاء النّفع قد يكون حسّاً ، وقد يكون شرعاً ، وأنّ انتفاء النّفع ينفي الماليّة ، فأخذ المال في مقابلته قريب - كما نقله عن الرّافعيّ - من أكل المال بالباطل .
18 - أمّا الحنابلة فقد ذهبوا - كما في رواية عن أبي يوسف من الحنفيّة اعتمدها السّرخسيّ إلى أنّه لا يصحّ بيع ما لا يصلح للاصطياد ، ولا يقبل التّعليم بحال :
- أ - ومثّل الحنابلة لما لا يصلح للاصطياد بالأسد والذّئب والنّمر والدّبّ ، وبالرّخم والحدأة والغراب الأبقع والنّسر والعقعق وغراب البين ، وبيضها ، لأنّه لا نفع فيه ، فأخذ ثمنه أكل للمال بالباطل ، ولأنّه ليس فيها نفع مباح كالحشرات ، فأشبهت الخنزير .
فأمّا ما يصلح للاصطياد ، كالفهد وكالصّقر والباز ، بأن كانت معلّمةً أو قابلةً للتّعليم ، فإنّ فيها نفعاً مباحاً ، فيصحّ بيعها ، وبيع أولادها وفراخها ، وبيضها لاستفراخه ، فينتفع به مآلاً . ومع ذلك نصّوا على جواز بيع القرد ، للحفظ لا للّعب ، لأنّ الحفظ - كما قالوا - من المنافع المباحة
- ب - ومثّل الحنفيّة للمرويّ عن أبي يوسف ، بالآتي : مع التّفصيل تطبيقاً عليه :
- الأسد ، إن كان يقبل التّعليم ويصطاد به ، يجوز بيعه وإلاّ فلا .
- الفهد والبازي يقبلان التّعليم ، فيجوز بيعهما على كلّ حال .
- النّمر - كما يقول الكمال - لا يقبل التّعليم لشراسته ، فلا يجوز بيعه بحال ، وكذا الكلب العقور على التّخصيص عند أبي يوسف .
- القرد ، فيه روايتان عن أبي حنيفة :
الأولى : جواز بيعه لإمكان الانتفاع بجلده ، وهي رواية الحسن عنه ، وصحّحها الزّيلعيّ . والأخرى : لا يجوز بيعه ، لأنّه للتّلهّي ، وهو محظور ، فكان بيع الحرام للحرام ، وأنّه لا يجوز . وصحّح هذا الكاسانيّ ، وبنى عليه ابن عابدين أنّه لولا قصد التّلهّي لجاز بيعه . لكنّ قصد التّلهّي يقتضي الكراهة ، لا عدم الصّحّة ، كما قال الحصكفيّ .
بيع آلات اللّهو والمعازف :
19 - ذهب جمهور الفقهاء ، ومنهم الصّاحبان من الحنفيّة ، والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إلى تحريم بيع آلات اللّهو المحرّمة ، والمعازف إلاّ ما جاز استعماله منها ، وصرّحوا بعدم صحّة بيعها .
والتّقييد بالمحرّمة ، لإخراج بيع الشّطرنج ، الّذي يقول الشّافعيّة بحلّه ، وطبل الغزاة ونحوه ، فمن المحرّمات : الطّنبور ، والمزمار ، والشّبّابة ( وهي النّاية ) والعود ، والصّنج والرّباب . فالصّاحبان من الحنفيّة يريان أنّ هذه الآلات أعدّت للمعصية ، فبطل تقوّمها ، ولا ينعقد بيعها ، كالخمر . والمالكيّة قرّروا أنّ من شروط المعقود عليه : أن يكون ممّا ينتفع به انتفاعاً شرعيّاً ، وإن قلّ كالتّراب ، وإن كانت المنفعة لا تجوز فهي كآلات اللّهو .
والشّافعيّة قرّروا أنّ آلة اللّهو المحرّمة لا يقصد منها غير المعصية ، ولا نفع بها شرعاً . والحنابلة قرّروا أنّ كسر هذه الآلات لا يستوجب الضّمان ، وأنّها كالميتات .
وتحريم بيع المعازف مبنيّ على قول الجمهور بتحريم المعازف وآلات اللّهو .
وذهب بعض الفقهاء إلى إباحتها إذا لم يلابسها محرّم ، فيكون بيعها عند هؤلاء مباحاً . والتّفصيل في مصطلح ( معازف ) .
ومذهب أبي حنيفة - خلافاً لصاحبيه - أنّه يصحّ بيع آلات اللّهو كلّها ، وهو أيضاً قول ضعيف عند الشّافعيّة ، مقيّد بأن يمكن اعتبار مكسّرها مالاً ، ففيها نفع متوقّع عندئذ .
وفي الوقت الّذي يرى الصّاحبان أنّ آلات اللّهو معدّة للمعصية ، موضوعة للفسق والفساد - كما هو تعبير الكاسانيّ - فلا تكون أموالاً فيبطل تقوّمها ، كالخمر . يرى أبو حنيفة أنّها أموال لصلاحيتها لما يحلّ من وجوه الانتفاع ، بأن تجعل ظروفاً لأشياء ، ونحو ذلك من المصالح ، وإن صلحت لما لا يحلّ فصارت كالأمة المغنّية ، وهذا لأنّ الفساد بفعل فاعل مختار ، فلا يوجب سقوط التّقوّم . وجواز البيع مرتّب على الماليّة والتّقوّم .
بيع الأصنام ونحوها :
20 - الخلاف المارّ بين الجمهور وبين أبي حنيفة وبعض الشّافعيّة في بيع آلات اللّهو ، جار هنا في بيع الأصنام . ودليل الجمهور على التّحريم انتقاء المنفعة المباحة شرعاً ، ونصّ حديث جابر مرفوعاً « إنّ اللّه حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام » .
ودليل أبي حنيفة والقلّة من الشّافعيّة على الجواز : الانتفاع بها بعد الكسر ، فنفعها متوقّع ، فوجدت الماليّة والتّقوّم في المال ، وجواز البيع مرتّب عليهما .
وقد صرّح الرّافعيّ من الشّافعيّة بأنّ الوجهين يجريان في الأصنام والصّور ، وكذا الشّوكانيّ وفيما يلي بعض ما يلحق بالأصنام مع بعض أحكامها :
نصّ الشّافعيّة على أنّه لا يصحّ بيع الصّور والصّلبان ، وللحنفيّة قولان في الصّور للصّغار صحّةً وضماناً . ونصّوا على صحّة بيع النّقد الّذي عليه صور ، وعلّلوه بأنّها غير مقصودة منه بوجه ما . وتردّدوا في الصّليب المتّخذ من الذّهب والفضّة ، هل يلحق بالأصنام ، أو بالنّقد الّذي عليه صور ؟
- أ - فرجّحوا إلحاقه بالصّنم إذا أريد به ما هو من شعارهم المخصوص بتعظيمهم .
- ب - ورجّحوا إلحاقه بالنّقد الّذي عليه صور إن أريد به ابتذاله بالاستعمال .
الشّرط الرّابع : أن يلي البيعَ المالكُ أو من يقوم مقامه .
21 - نصّ الفقهاء على أنّ من شروط انعقاد البيع : أن يكون المبيع مملوكاً للبائع أو موكّله أو مولّيه ، وهذا إذا كان العاقد يبيع بالأصالة أو النّيابة .
أمّا إذا كان فضوليّاً بأن يصرّح أنّه يبيع ملك غيره دون إذن ، فلا يكون شرط انعقاد عند من أجاز بيع الفضوليّ ، وتفصيله في مصطلح : ( بيع الفضوليّ ) .
ودليل هذا الشّرط ما روي « عن حكيم بن حزام رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول اللّه : يأتيني الرّجل يسألني البيع ، ليس عندي ما أبيعه ، ثمّ أبتاعه من السّوق ، فقال : لا تبع ما ليس عندك » . قالوا : المراد ما ليس في ملكك وقدرتك .
وقال البغويّ : النّهي في هذا الحديث عن بيوع الأعيان الّتي لا يملكها . وما روي أيضاً في الحديث : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان ، ورخّص في السّلَم » . ولأنّ البيع تمليك ، فلا ينعقد فيما ليس بمملوك .
وبناءً عليه : لا ينعقد بيع الكلأ في منابته ، ولو كان في أرض مملوكة ، لأنّه مباح بالنّصّ ، وكذلك الماء في منابعه ما لم يحرز ، وذلك لحديث : « المسلمون شركاء في ثلاث : في الماء والكلأ والنّار » وكذا الطّير في الهواء ، والسّمك في الماء ، كلّ ذلك لا ينعقد بيعه ، لانعدام سبب الملك فيه ، وهو الإحراز .
فإذا جُمِعَ الكلأ ، وصيد الطّير والسّمك ، وحمل الماء من الينابيع والأنهار العامّة ملك ، وجاز بيعه . وفي هذا يروى أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن بيع الماء إلاّ ما حمل منه » . ونذكر هنا فروعاً فقهيّةً تطبيقيّةً لهذا الشّرط :
أ - بيع الفضوليّ :
22 - وهو من ليس بوكيل ولا وليّ عن المالك ، وكذا سائر عقوده :
- فمذهب الحنابلة ، والشّافعيّ في الجديد : أنّه باطل ، وإن أجازه المالك بعد ذلك . للحديث المذكور سابقاً « لا تبع ما ليس عندك » ولأنّه تمليك ما لا يملك ، وبيع ما لا يقدر على تسليمه ، فأشبه بيع الطّير في الهواء .
- ومذهب الحنفيّة والمالكيّة ، والشّافعيّ في القديم ، وروي عن أحمد أيضاً : أنّ هذا العقد صحيح موقوف على إجارة المالك ، فإن أجازه نفذ ولزم البيع ، وإن لم يجزه وردّه بطل . وذلك لإطلاقات النّصوص في حلّ البيع ، من غير تفصيل بين الأصيل والوكيل ، ابتداءً أو بقاءً وانتهاءً . ولحديث « عروة بن الجعد البارقيّ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به شاةً ، فاشترى به شاتين ، فباع إحداهما بدينار ، ثمّ عاد بالدّينار والشّاة ، فدعا له بالبركة في بيعه » ، وفي رواية أنّه قال له : « بارك اللّه في صفقة يمينك » . وتفصيل الكلام عن بيع الفضوليّ ينظر في مصطلحه .
وبناءً على هذا الشّرط صرّح الفقهاء ببطلان بيع ما يلي :
- 1 - بيع الوقف : وقد صرّحوا ببطلانه ، حتّى الحنفيّة ، وقالوا : إنّه باطل لا فاسد ، فلا يملك بالقبض ( ر مصطلح : وقف )
- 2 - بيع أراضي بيت المال : فقد قرّر بعض الفقهاء أنّها تجري على رقبتها أحكام الوقوف المؤبّدة ( ر مصطلح : أرض ) وأراضي الجزي ( ر مصطلح : جزية ) .
- 3 - بيع المساجد ، ورباع مكّة ، والحرم ، وبقاع المناسك على خلاف وتفصيل في بعض ذلك . ر مصطلحات : ( مسجد ، حرم ، مكّة ) .
- 4 - المعادن الجارية والجامدة ، في الأراضي المملوكة والمحيّاة . وخلاف الفقهاء معروف في جواز بيعها . ر مصطلح : ( أرض ، معدن ، إحياء ) .
ب - ضربة الغائص :
23 - الغائص : من يغوص لاستخراج اللّآلئ من البحر ، يقول : أغوص غوصةً ، فما أخرجته من اللّآلئ فهو لك بكذا .
ومثله القانص ، وهو الصّائد ، يقول : بعتك ما يخرج من إلقاء هذه الشّبكة مرّةً ، بكذا .
وقد جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتّى تضع ، وعن بيع ما في ضروعها إلاّ بكيل ، وعن شراء العبد وهو آبق ، وعن شراء المغانم حتّى تقسم ، وعن شراء الصّدقات حتّى تقبض ، وعن ضربة الغائص » . ولا يختلف الفقهاء في فساد هذا البيع ، لأنّه بيع معدوم ، وبيع ما لم يملك ، وبيع مجهول ، وبيع غرر . وصرّح الحنفيّة ببطلانه . ونصّ ابن الهمام على أنّه بيع باطل ، لعدم ملك البائع المبيع قبل العقد ، فكان غرراً ، ولجهالة ما يخرج .
وكذلك الحصكفيّ من الحنفيّة ، وعلّل البطلان بأنّه بيع ما ليس في ملكه .
ج - بيع الصّدقة والهبة قبل القبض :
24 - جمهور الفقهاء يشترطون القبض في التّبرّعات ، كالصّدقة ونحوها ، فما لم تقبض لا تلزم ولا تفيد الملك ، فلا يجوز بيعها قبل قبضها ، كما نصّ عليه حديث « النّهي عن شراء الصّدقات حتّى تقبض » وذلك لعدم الملك . وهذا خلافاً للمشهور في مذهب مالك وآخرين ، والمرويّ عن أحمد في غير المكيلات والموزونات ، من اللّزوم قبل القبض ، وإنّما القبض شرط تمام - كما يقول المالكيّة - لا شرط صحّة ، والانعقاد واللّزوم بالقول . ولذلك يجوز بيعها قبل قبضها لثبوت الملك فيها ، خلافاً لما ملك بالمعاوضة ولم يقبض فلا يجوز بيعه ، كما سيأتي عند الكلام عن بيع ما لم يقبض .
د - بيع الغنيمة قبل القسم :
25 - ممّا يتّصل ببيع ما لم يملك ، مسألة بيع المجاهد نصيبه من الغنيمة ، قبل أن يقسمه له الإمام . وقد ورد النّصّ بها في خصوصها في حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام .. وعن شراء المغانم حتّى تقسم » الحديث .
وفي حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الغنائم حتّى تقسم » . ويرى الفقهاء إباحة أخذ الأطعمة ونحوها من الأقوات من الغنائم قبل قسمتها للحاجة بوجه عامّ ، ولم يبيحوا تملّكها ، ولا تموّلها - كما عبّر الحصكفيّ من الحنفيّة - فدلّ هذا على منع البيع ، ولذلك بحثوا حكم بيعها عند الكلام عن الانتفاع بها . 26 - فنصّ الحنفيّة على أنّه لا يجوز بيع شيء من المذكورات قبل القسمة أصلاً ، ولو كان لحاجة ، وذلك لعدم الملك ، لأنّ الغنائم لا تملك قبل القسمة ، وإنّما أبيح الانتفاع للحاجة ، والمباح لا يملك بالبيع ، وهذا نصّ المرغينانيّ في بدايته : ولا يجوز بيع الغنائم قبل القسمة في دار الحرب .
فلو باع شيئاً من المذكورات المباحة له ، كان بيعه فضوليّاً عندهم ، فإن أجازه الإمام ردّ ثمنه إلى المغانم ، فإن كانت المغانم قد قسمت تصدّق بالثّمن إن كان غير فقير ، لأنّه لقلّته لا يمكن قسمته ، فتعذّر إيصاله إلى مستحقّه ، فيتصدّق به كاللّقطة . وإن كان فقيراً أكله .
27 - والمالكيّة قالوا : يجوز - مع - الكراهة - مبادلة الطّعام بمثله أو غيره ، ولو بتفاضل أو تأخير في الطّعام الرّبويّ المتّحد الجنس .
28 - والشّافعيّة خالفوا في ذلك ، وقرّروا أنّه ليس له الطّعام إلى حاجة أخرى ، بدلاً عن طعامه ، وأنّه لا يجوز له إلاّ أكلة فقط ، لأنّه على سبيل الإباحة لا التّمليك .
وهذا كالنّصّ على عدم جواز البيع .
هذا ما قاله الشّافعيّة في بحث الغنائم ، لكن في بحث حكم بيع المبيع قبل قبضه ، قرّروا خلافه . ولما قرّر النّوويّ في منهاجه أنّ الشّخص له بيع ما له في يد غيره أمانةً ، كوديعة ومشترك وقراض ، ومرهون بعد انفكاكه ، علّق القليوبيّ على قولة : " كوديعة " بما نصّه : ومثلة غلّة وقف وغنيمة ، فلأحد المستحقّين أو الغانمين ، بيع حصّته قبل إفرازها . قاله شيخنا . بخلاف حصّته من بيت المال ، فلا يصحّ بيعها قبل إفرازها ورؤيتها ، واكتفى بعض مشايخنا بالإفراز فقط ، ولو مع غيره .
فكلام القليوبيّ هنا ، نقلاً عن شيخه ، يخالف ما تقدّم ، من أنّ له الأخذ على سبيل الإباحة لا التّمليك . فيبدو أنّ هذا بناءً على أحد أقوال ثلاثة عند الشّافعيّة في ملك الغنيمة قبل القسمة : أوّلها : أنّها لا تملك إلاّ بالقسمة ، لكن لا بمجرّدها ، بل إن قبل ما أحرز له أو رضي به ، لأنّ المعتبر هو اختيار التّملّك ، ولا بدّ من اللّفظ بأن يقول : اخترت ملك نصيبي .
وهذا هو القول المعتمد عندهم .
الثّاني : وقيل يملكون قبل القسمة بالاستيلاء ملكاً ضعيفاً يسقط بالإعراض ، ووجّه هذا الشّيخ عميرة البرلّسيّ : بأنّ ملك الكفّار قد زال ، وبعيد بقاؤه بلا مالك .
الثّالث : إن سلمت الغنيمة إلى القسمة ، بانَ ( أي ظهر ملكهم ) بالاستيلاء ، وإلاّ بأن تلفت أو أعرضوا فلا ملك لهم .
فيبدو أنّ صحّة البيع عند شيخ القليوبيّ قبل القسمة ، بناءً على غير المعتمد عندهم .
29 - أمّا الحنابلة فقد نصّ الخرقيّ منهم على أنّ من تعلف فضلاً عمّا يحتاج إليه ، ردّه على المسلمين ، فإن باعه ردّ ثمنه في المقسم .
وعلّلوا وجوب ردّ من فضل معه طعام كثير من الغنائم وأدخله البلد ، إلى مقسّم تلك الغزوة بأنّه : أخذ ما لا يحتاج إليه ، فيلزمه ردّه ، لأنّ الأصل تحريمه ، لكونه مشتركاً بين الغانمين ، كسائر المال ، وإنّما أبيح منه ما دعت الحاجة إليه ، فما زاد يبقى على أصل التّحريم ، ولهذا لم يبح بيعه .
ورووا في ذلك هذا الأثر ، وهو :" أنّ صاحب جيش الشّام كتب إلى عمر رضي الله عنه : إنّا أصبنا أرضاً كثيرة الطّعام والعلف ، وكرهت أن أتقدّم في شيء . فكتب إليه : دع النّاس يعلفون ويأكلون ، فمن باع منهم شيئاً بذهب أو فضّة ، ففيه خمس للّه وسهام المسلمين" وفصّل القاضي من أئمّتهم تفصيلاً دقيقاً ، في هذه المسألة ، وقد ارتضوه ، فقال : لا يخلو إمّا أن يبيعه من غاز أو غيره .
- فإن باعه لغيره ، فالبيع باطل ، لأنّه يبيع مال الغنيمة بغير ولاية ولا نيابة ، فيجب ردّ المبيع ، ونقض البيع . فإن تعذّر ردّه ، ردّ قيمته أو ثمنه ، إن كان أكثر من قيمته إلى المغنم . قال ابن قدامة : وعلى هذا الوجه حمل كلام الخرقيّ
- وإن باعه لغاز لم يحلّ ، إلاّ أن يبدّله بطعام أو علف ، ممّا له الانتفاع به أو بغيره على النّحو التّالي :
- فإن باعه بمثله ، فليس هذا بيعاً في الحقيقة ، إنّما سلّم إليه مباحاً وأخذ مثله مباحاً ، ولكلّ واحد منهما الانتفاع بما أخذ ، وصار أحقّ به ، لثبوت يده عليه . فعلى هذا لو باع صاعاً بصاعين ، وافترقا قبل القبض جاز ، لأنّه ليس ببيع . وإن باعه نسيئةً ، أو أقرضه إيّاه فأخذه ، فهو أحقّ به ، ولا يلزمه إيفاؤه ، فإن وفّاه أو ردّه إليه ، عادت اليد إليه .
- وإن باعه بغير الطّعام والعلف ، فالبيع أيضاً غير صحيح ، ويصير المشتري أحقّ به ، لثبوت يده عليه ، ولا ثمن عليه . وإن أخذ منه وجب ردّه إليه .
30 - ومن هذا يتّضح أنّ الاتّجاه العامّ في الفقه - بغضّ النّظر عمّا روي من قول للشّافعيّة ، وعن حال مبادلة الطّعام بالمثل وغيره عند المالكيّة والحنابلة - هو عدم جواز بيع المغانم قبل القسمة ، كما هو نصّ الحديث الشّريف ، الّذي نهى عن شراء المغانم حتّى تقسم .
وفي هذا يقول الشّوكانيّ : مقتضى النّهي عدم صحّة بيعها قبل القسمة ، لأنّه لا ملك - على ما هو الأظهر من قول الشّافعيّ وغيره - لأحد من الغانمين قبلها ، فيكون ذلك من أكل أموال النّاس بالباطل .
31 - هذا حكم بيع الغزاة الغانمين أنصبتهم وما يأخذونه من الغنائم ، قبل القسمة .
أمّا حكم بيع الإمام الغنائم قبل القسمة ، فقد عرض له الحنفيّة فذكر الطّحاويّ أنّه يصحّ . لأنّه مجتهد فيه ، يعني أنّه لا بدّ أن يكون الإمام رأى المصلحة في ذلك ، وأقلّها تخفيف إكراه الحمل على النّاس ، أو عن البهائم ونحوه ، وتخفيف مؤنته عنهم ، فيقع عن اجتهاد في المصلحة ، فلا يقع جزافاً ، فينعقد بلا كراهة مطلقاً .
كما عرض له المالكيّة أيضاً ، ولهم فيه قولان :
الأوّل : وجوب بيع الإمام الأربعة الأخماس من الغنائم ، ليقسمها بين المجاهدين ، لأنّ قسمة الأثمان أقرب إلى المساواة ، لما يدخل التّقويم من الخطأ .
الآخر : عدم الوجوب ، بل الإمام مخيّر ، فإن شاء باع وقسم الثّمن ، وإن شاء قسم الأعيان بحسب ما يراه من المصلحة .
الشّرط الخامس : أن يكون المبيع مقدور التّسليم .
32 - نصّ الفقهاء على أنّ من شروط المبيع كونه مقدور التّسليم بعد اشتراط كونه مملوكاً . فقد يملك الإنسان مالاً ، ولا يقدر على تسليمه كالجمل الّذي شرد من صاحبه ، فلا يصحّ بيعه في هذه الحال ، لأنّ ما لا يقدر على تسليمه شبيه بالمعدوم ، والمعدوم لا يصحّ بيعه - كما تقدّم - فكذا ما أشبهه .
وممّا يمثّل بيع غير مقدور التّسليم : السّمك إذا وقع في البحر بعد امتلاكه ، والطّير المملوك إذا طار في الهواء ، والصّيد إذا انفلت بعد صيده ، ومنه بيع العبد الآبق والشّيء المغصوب . والآبق : من ترك سيّده من غير خوف ولا كدّ عمل . ولهذا قيل : إن كان هروبه من خوف أو تعب ، يقال له : هارب .
33 - والفقهاء متّفقون على فساد هذا العقد وإن تردّد الحنفيّة في الفساد والبطلان مع ما يترتّب على ذلك : من أنّ ارتفاع المفسد يردّ العقد صحيحاً ، لقيام العقد مع الفساد ، بخلاف ارتفاع المبطل ، لأنّ العقد معدوم معه وإن رجّح الكمال منهم الفساد ، لانعدام القدرة فيه على التّسليم . وعلّلوا فساد هذا العقد : - بالنّهي عنه في حديث أبي سعيد المتقدّم « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام ... وعن شراء العبد وهو آبق » .
- ولأنّه لا يقدر على تسليمه ، وهو شرط جوازه .
34 - ومع ذلك ، لو حصل بيع العبد وهو آبق ، ففيه هذه الصّور التّفصيليّة المذهبيّة : الأولى : أن يبيعه المالك ممّن هو في يده . وهذه الصّورة جائزة عند الجمهور ، ، بل قطعاً كما يعبّر الشّافعيّة وهو مقتضى نصّ ابن قدامة وغيره من أنّه : إن حصل في يد إنسان جاز بيعه ، لإمكان تسليمه ، لكنّ المصرّح به في المذهب الحنبليّ أنّه لا يجوز بيعه ولو لقادر على تحصيله . غير أنّ الحنفيّة فصّلوا في صيرورة الّذي هو في يده قابضاً بعد البيع :
أ - فإن كان قبض الآبق حين وجده لنفسه ، لا ليردّه على سيّده ، ولم يشهد على قبضه لسيّده ، فإنّه يصير قابضاً ، لأنّ قبضه هذا قبض غصب ، وهو قبض ضمان ،كقبض المبيع.
ب - وإن أشهد على قبضه عندما وجده لا يصير قابضاً ، لأنّ قبضه هو قبض أمانة ، حتّى لو هلك قبل أن يصل إلى سيّده لا يضمنه ، فلا ينوب عن قبض الضّمان ، وهو قبض المبيع ، لأنّه أقوى ، ولأنّه مضمون بالثّمن ، ولهذا لو هلك قبل أن يرجع إلى مالكه ، انفسخ البيع ورجع بالثّمن .
الثّانية : أن يبيعه المالك ممّن هو في يد غيره . وهذه الصّورة جائزة عند الجمهور ، بشرط القدرة على الانتزاع والتّحصيل - لكن بسهولة كما هو نصّ المالكيّة - وهو الصّحيح من مذهب الشّافعيّة ، والقول الثّاني المصوّب عند الحنابلة ، ومقتضى نصّ ابن قدامة وغيره . لكنّ الحنفيّة نصّوا على فساد هذه الصّورة ، وهذا هو الوجه الآخر عند الشّافعيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة . وعلّله الشّافعيّة بعجز البائع عن التّسليم .
الثّالثة : أن يبيعه المالك ممّن يقدر على ردّه ، وليس هو في يد أحد .
وهذه الصّورة جائزة عند الجمهور ، وفي القول الثّاني عند الحنابلة .
لكنّ القليوبيّ من الشّافعيّة ، قيّدها بأن يكون المشري قادراً على ردّه بلا مشقّة لا تحتمل عادةً ، وبلا مؤنة لها وقع . والمذهب عند الحنابلة عدم جوازها .
الرّابعة : أن يبيعه ممّن لا يقدر على تحصيله . والإجماع على عدم جوازها ، وهي محمل الحديث .
35 - ويتّصل ببيع الآبق ، بيع المغصوب :
أ - فإن باعه من غاصبه ، جاز بالاتّفاق ، وعبّر الشّافعيّة بالجواز هنا لأنّ المبيع مسلّم بالفعل إلى المشتري ، ( وقبضه بعد البيع ، كقبضه قبله ، في المضمونيّة ) .. وقيّده - مع ذلك - المالكيّة بشرط أن يعلم أنّ الغاصب عزم على ردّه لربّه .
ب - وإن باعه من قادر على انتزاعه أو ردّه صحّ عند الجمهور ، وهو القول الصّحيح عند الشّافعيّة . لكنّهم قيّدوه بتيسّر وصوله إلى المشتري بلا مؤنة ولا مشقّة ملحوظة عليه ، فإن احتاج الرّدّ إلى مؤنة انتفى المنع . كما قيّده المالكيّة بكون الغاصب مقرّاً مقدوراً عليه ، وإلاّ لا . لأنّ المشهور عندهم منع شراء ما فيه خصومة .
والمقرّر أنّه لا يجوز بيع المغصوب عندهم إلاّ من غاصب ، كالحنابلة .
وفي قول للشّافعيّة : أنّه لا يصحّ ، لعجز البائع بنفسه عن التّسليم . وهو رواية عن الإمام أحمد . وصرّح الحنفيّة بأنّ بيع المغصوب من غير الغاصب ينعقد موقوفاً على التّسليم ، فلو سلّم نفذ ، وإلاّ لا . وفرّقوا بين بيع الآبق - فإنّه فاسد بل غير منعقد - وبين بيع المغصوب - فإنّه صحيح - بأنّ المالك في بيع المغصوب قادر على التّسليم بقدرة الحاكم ، إلاّ أنّه موقوف لم ينفذ للحال لقيام يد الغاصب صورةً ، فإذا سلّم زال المانع فينفذ .
وهذا بخلاف الآبق ، لأنّه - كما قال الكاسانيّ - : معجوز التّسليم على الإطلاق إذ لا تصل إليه يد أحد ، لما أنّه لا يعرف مكانه ، فكان العجز متقرّراً ، والقدرة محتملةً موهومةً ، فلا ينعقد مع الاحتمال ، فأشبه بيع الآبق بيع الطّير الّذي لم يوجد وبيع السّمك الّذي لم يوجد ، وذلك باطل ، كذا هذا .
الأسباب الّتي تتعلّق بلازم العقد :
وهي : الرّبا ، وما هو ذريعة إليه ، والغرر .
وفيما يلي أسباب النّهي المتعلّقة بالرّبا .
36 - الرّبا في اللّغة : الزّيادة . وفي الاصطلاح الفقهيّ : عرّفه الحنفيّة بأنّه : فضل - ولو حكماً - خال عن عوض بمعيار شرعيّ ، مشروط لأحد المتعاقدين ، في المعاوضة .
وقَيْدُ الحكميّة ، لإدخال ربا النّسيئة وأكثر البيوع الفاسدة ، لأنّ الرّبا نوعان : ربا الفضل ، وربا النّسيئة .
والرّبا محرّم بالكتاب والسّنّة وإجماع الأمّة .
قال ابن قدامة : أجمعت الأمّة على أنّ الرّبا محرّم بنوعيه : الفضل والنّسيئة ، ويجري ربا الفضل وربا النّسيئة في بعض مسائل الصّرف وتفصيله في ( الصّرف ) .
والرّبا من الكبائر ، ولم يحلّ في شريعة قطّ لقوله تعالى { يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وذَرُوا ما بَقِيَ من الرّبا إن كنتم مؤمنين ، فإنْ لم تَفْعَلوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ منَ اللّه ورسولِه ، وإنْ تُبْتُم فلكم رؤوسُ أموالِكم لا تَظْلمون ولا تُظْلمون } وفي الحديث « لعن اللّه آكلَ الرّبا وموكِلَه وكاتِبَه وشاهديه ». وقال : « هم سواء » وليس القصد هنا ذكر أحكام الرّبا وشروطه ومسائله ، بل ينظر تفصيل ذلك تحت عنوان ( رباً ) .
والقصد هنا التّعرّف على أحكام بعض البيوع الرّبويّة ، وهي الّتي ورد النّهي عنها في السّنّة ، ومن هذه البيوع ما يلي :
أ - بيع العينة :
37 - هو : بيع العين بثمن زائد نسيئةً ليبيعها المستقرض بثمن حاضر أقلّ ليقضي دينه ، كما عرّفه الحنفيّة وهناك تعريفات وصور أخرى اختلف الفقهاء فيها وفي حكمها .
وينظر تفصيله في مصطلح : ( بيع العينة ) .
ب - بيع المزابنة :
38 - المزابنة : بيع التمر على النخيل بتمر مجذوذ مثل كيله خرصاً ( أي ظناً وتقديراً ) وذلك بأن يقدر الرطب الذي على النخيل بمقدار مائة صاع مثلاً بطريق الظن والحرز، فيبيعه بقدره من التمر .
واتفق الفقهاء على فساد هذا النوع من البيع . وتفصيله في مصطلح ( بيع المزابنة ) .
ت - بيع المحاقلة :
39 - المحاقلة : بيع الحنطة في سنبلها بحنطة مثل كيلها خرصاً .
واتّفق الفقهاء على عدم جواز المحاقلة ، لحديث جابر رضي الله عنه قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة » . وللتّفصيل ( ر : بيع المحاقلة ) .
ث - بيع العرايا :
40 - هو : بيع الرّطب على النّخل بتمر في الأرض ، أو العنب في الشّجر بزبيب .
واختلف الفقهاء في جواز العرايا . وينظر تفصيله في مصطلح ( بيع العرايا ) .
ج - بيع العربون :
41 - بيع العربون هو : أن يشتري السّلعة ويدفع إلى البائع درهماً أو أكثر على أنّه إن أخذ السّلعة احتسب به من الثّمن ، وإن لم يأخذها فهو للبائع .
وقد اختلف الفقهاء في جوازه ، فذهب الجمهور إلى أنّه لا يصحّ ، وذهب الحنابلة إلى جوازه على تفصيل ينظر في ( بيع العربون ) .
ح - النّهي عن بيع الطّعام حتّى يجري فيه الصّاعان :
42 - ورد فيه حديث جابر رضي الله عنه قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطّعام ، حتّى يجري فيه الصّاعان : صاع البائع ، وصاع المشتري » .
وفي معناه ورد أيضاً حديث عثمان رضي الله عنه . « قال : كنت أبتاع التّمر من بطن من اليهود يقال لهم : بنو قينقاع ، وأبيعه بربح ، فبلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا عثمان إذا اشتريت فاكْتَل ، وإذا بعت فَكِلْ » .
كما ورد أيضاً حديث يحيى بن أبي كثير « أنّ عثمان بن عفّان ، وحكيم بن حزام رضي الله عنهما . كانا يبتاعان التّمر ، ويجعلانه في غرائر ، ثمّ يبيعانه بذلك الكيل ، فنهاهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يبيعاه حتّى يكيلا لمن ابتاعه منهما » .
وهذه الأحاديث تدلّ على أنّ من اشترى شيئاً مكايلةً ، وقبضه ثمّ باعه إلى غيره ، لم يجز تسليمه بالكيل الأوّل ، حتّى يكيله على من اشتراه ثانياً ، وإليه ذهب الجمهور ، كما حكاه ابن حجر في فتح الباري .
ونصّ ابن الهمام على أنّ هذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشّافعيّ وأحمد رضي الله عنهم . وقد اشترط الفقهاء القبض قبل بيع المبيع في الجملة . فهذا من تمام القبض - كما يعبّر الحنفيّة - أو هو شرط في ( صحّة ) قبض المنقول مع نقله . كما يقول الشّافعيّة .
لكن قام الإجماع على عدم اعتبار الكيل فيما بيع جزافاً .
واستثناء الجزاف من الشّرط كان أخذاً من معنى النّصّ ، أو من دليل آخر .
43 - ونذكر هنا بعض الأمثلة التّطبيقيّة الفقهيّة عند الشّافعيّة والحنابلة ، لتقاربهما فيها . المثال الأوّل :
لو كان لبكر طعام مقدّر على زيد ، كعشرة آصع ، ولعمرو على بكر مثله ، فليطلب بكر من زيد أن يكيله له ، حتّى يدخل في ملكه ، ثمّ يكيل بكر لعمرو ، ليكون القبض والإقباض صحيحين ، لأنّ الإقباض هنا متعدّد ، ومن شرط صحّته الكيل ، فلزم تعدّده ، لأنّ الكيلين ، قد يقع بينهما تفاوت . فلو قال بكر لعمرو : اقبض يا عمرو من زيد عنّي مالي عليه لنفسك ، ففعل عمرو ، فالقبض بالنّسبة إلى زيد صحيح عند الشّافعيّة ، وفي إحدى روايتين عند الحنابلة ، وتبرأ ذمّته لوجود الإذن ، وهو إذن الدّائن ، وهو بكر في القبض منه له بطريق الاستلزام ، فأشبه قبضه قبض وكيله .
لكنّ هذا القبض فاسد بالنّسبة إلى عمرو ، لكونه قابضاً من نفسه لنفسه ، لأنّ قبضه مشروط بتقدّم قبض بكر ولم يوجد ، ولا يمكن حصولهما ، لما فيه من اتّحاد القابض والمقبض ، وما قبضه عمرو مضمون عليه ، لأنّه قبضه لنفسه ، فحينئذ يكيله المقبوض له ، وهو بكر ، للقابض ، وهو عمرو ، ويصحّ قبضه له . والرّواية الأخرى عند الحنابلة هي : أنّ هذا القبض غير صحيح ، لأنّه لم يجعله نائباً له في القبض ، فلم يقع له ، بخلاف الوكيل .
وعلى هذه الرّواية يكون المقبوض باقياً على ملك المسلّم إليه ، وهو زيد ، لعدم القبض الصّحيح . بخلافه على الرّواية السّابقة ، فإنّه يكون المقبوض ملكاً لبكر . ويبدو أنّ هذه الرّواية الأخيرة هي الرّاجحة ، فعليها متن الإقناع . ولو قال : اقبضه لي ، ثمّ اقبضه لنفسك ، صحّ القبض لكلّ منهما ، لأنّه استنابه في قبضه له ، وإذا قبضه لموكّله جاز أن يقبضه لنفسه ، كما لو كان له وديعة عند من له عليه دين ، وأذنه في قبضها عن دينه .
هذا ، وإن يكن المثال المذكور ، وهو المثال الأوّل ، في السّلم ، لكنّ التّقييد به ، لأنّه الّذي في كلام الأصحاب من الشّافعيّة ، ومثل السّلم - كما قالوا - دين القرض والإتلاف .
المثال الثّاني :
44 - لو قال بكر لعمرو : احضر اكتيالي من زيد لأقبضه لك ، ففعل ، لم يصحّ قبضه لعمرو ، لعدم كيله ، ويكون بكر قابضاً لنفسه لاكتياله إيّاه .
المثال الثّالث :
45 - لو قال بكر لعمرو ، خذه بهذا الكيل الّذي قد شاهدته ، فأخذه به صحّ ، لأنّه شاهد كيله وعلمه ، فلا معنى لاعتبار كيله مرّةً ثانيةً . وفي رواية عن أحمد أنّه لا يجزئ ، وذلك للحديث المتقدّم « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطّعام ، حتّى يجري فيه الصّاعان } ... » وهذا داخل فيه . ولأنّه قبضه من غير كيل ، فأشبه ما لو قبضه جزافاً .
المثال الرّابع :
46 - لو قال بكر لعمرو : احضرنا حتّى أكتاله لنفسي ، ثمّ تكتاله أنت ، وفعلا ، صحّ بغير إشكال . ولو اكتال بكر لنفسه ، ثمّ أخذه عمرو بذلك الكيل الّذي شاهده ، فعلى روايتين .
ولو تركه في المكيال ، ودفعه إلى عمرو ، ليفرّغه لنفسه صحّ ، وكان ذلك قبضاً صحيحاً ، لأنّ استدامة الكيل بمنزلة ابتدائه ، ولا معنى لابتداء الكيل هاهنا ، إذ لا يحصل به زيادة علم . ومع أنّ ابن قدامة أسند إلى الشّافعيّة عدم صحّة القبض ، للنّهي عن بيع الطّعام حتّى يجري فيه الصّاعان ، وقرّر أنّه يمكن القول بموجب الحديث ، وأنّه يعتبر قبض المشتري له في المكيال إجراءً لصاعه فيه ، إلاّ أنّ ابن حجر نصّ على أنّ الاستدامة في نحو المكيال كالتّجديد ، فتكفي .
المثال الخامس :
47 - لو دفع بكر إلى عمرو دراهم ، فقال : اشتر لك بها مثل الطّعام الّذي لك عليّ ، ففعل ، لم يصحّ ، لأنّه فضوليّ إذ اشترى لنفسه بمال غيره ،لأنّ دراهم بكر لا يكون عوضها لعمرو. والشّافعيّة يعلّلون بأنّه : لا يمكن أن يشتري بمال غيره لنفسه ، والدّراهم أمانة في يده ، فإن اشترى بعينها بطل الشّراء ، وإن اشترى بثمن في ذمّته ، صحّ الشّراء له ، والثّمن عليه . وإن قال : اشتر لي بها طعاماً ، ثمّ اقبضه لنفسك ففعل ، صحّ الشّراء ، ولم يصحّ القبض لنفسه . وعلّله الشّافعيّة بأنّ حقّ الإنسان لا يتمكّن غيره من قبضه لنفسه ، وضمنه الغريم القابض لاستيلائه عليه لنفسه .
وقال الحنابلة : إنّ قبضه لنفسه فرع عن قبض موكّله ، ولم يوجد .
وإن قال : اشتر لي بها طعاماً ( واقبضه لي ) ثمّ اقبضه لنفسك ، ففعل ، جاز ، لأنّه وكّله بالشّراء والقبض ، ثمّ الاستيفاء من نفسه لنفسه ، وذلك صحيح .
وقال الشّافعيّة : صحّ الشّراء والقبض الأوّل دون الثّاني ، لاتّحاد القابض والمقبض ، دون الأوّل . لكنّ الحنابلة قاسوه على مسألة شراء الوالد لنفسه من مال ولده الصّغير ، وهبته له ، وقبضه لنفسه من نفسه . والشّافعيّة يمنعون القياس في هذه الصّورة ، وليس لواحد تولّي الطّرفين عندهم ، ولو بوكالة عنهما . كما يمنعه المالكيّة أيضاً ، لأنّه يصير قابضاً من نفسه لنفسه ، وليس هو ممّن يتولّى طرفي العقد ، فقبضه كلا قبض .
المثال السّادس :
48 - اشترى اثنان طعاماً ، فقبضاه ، ثمّ باع أحدهما نصيبه من الآخر قبل أن يقتسماه :
أ - فيحتمل أن لا يجوز ذلك ، لأنّه لم يقبض نصيبه منفرداً ، فأشبه غير المقبوض .
ب - ويحتمل الجواز ، لأنّه مقبوض لهما ، يجوز بيعه لأجنبيّ ، فجاز بيعه لشريكه ، كسائر الأموال . ولو تقاسماه وافترقا ، ثمّ باع أحدهما نصيبه بذلك الكيل الّذي كاله ، لم يجز ، كما لو اشترى من رجل طعاماً ، فاكتاله وتفرّقا ، ثمّ باعه إيّاه بذلك الكيل . أمّا لو تقاسماه ولم يفترقا ، وباع أحدهما نصيبه بذلك الكيل ، ففيه روايتان . كما تقدّم في المثال الرّابع .
49 - وقد تناول الحنفيّة هذه المسألة تناولاً خاصّاً ، بالنّصّ والتّفصيل والتّعليل . فقال المرغينانيّ منهم : من اشترى مكيلاً مكايلةً ( أي بشرط الكيل ) أو موزوناً موازنةً ( أي بشرط الوزن ) فاكتاله أو اتّزنه ، ثمّ باعه مكايلةً أو موازنةً ، لم يجز للمشتري منه أن يبيعه ، ولا أن يأكله ، حتّى يعيد الكيل والوزن وذلك لحديثي جابر وعثمان رضي الله عنهما المذكورين سابقاً . ولأنّه يحتمل أن يزيد على المشروط ، وذلك للبائع في المقدّرات ، والتّصرّف في مال الآخرين حرام ، فيجب التّحرّز عنه .
ولأنّ الكيل والوزن والعدّ من تمام القبض ، فأصل القبض شرط لجواز التّصرّف فيه على ما سبق ، فكذا تمامه .
وقد قيّد الحكم المذكور بالشّراء ، لأنّه لو ملكه بهبة أو إرث أو وصيّة ، جاز التّصرّف فيه قبل الكيل . كما أنّ البيع عند الإطلاق ينصرف إلى الكامل ، وهو البيع الصّحيح ، حتّى لو باع ما اشتراه فاسداً ، بعد قبضه مكايلةً ، لم يحتج المشتري الثّاني إلى إعادة الكيل . قال أبو يوسف : لأنّ البيع الفاسد يملك بالقبض ، كالقرض .
كما ألحقوا بالمكيل والموزون المعدود الّذي لا يتفاوت ، كالجوز والبيض ، إذا اشترى معادّةً . وبه قال أبو حنيفة في أظهر الرّوايتين عنه ، فأفسد البيع قبل العدّ ثانياً لاتّحاد الجامع ، وهو : وجوب تعرّف المقدار ، وزوال احتمال اختلاط المالين ، فإنّ الزّيادة فيه للبائع ، خلافاً لما روي عنهما من جواز البيع الثّاني قبل العدّ . وقد ذكر المعدود مع المكيل والموزون في متن الكنز والتّنوير . واستثنوا من الموزون الدّراهم والدّنانير ، لجواز التّصرّف فيهما بعد القبض قبل الوزن في عقد الصّرف أو السّلم ، كبيع التّعاطي ، فإنّه لا يحتاج في الموزونات إلى وزن المشتري ثانياً ، لأنّه صار بيعاً بالقبض بعد الوزن .
ويلاحظ أنّ الحنفيّة استثنوا من هذا الحكم - كغيرهم - المبيع مجازفةً ، إذا لم يكن البائع اشترى مكايلةً ، لأنّ كلّ المشار إليه للمشتري ، فلا يتصوّر فيه اختلاط الملكين .
وكذلك ما إذا باع الثّوب مذارعةً ، لأنّ الزّيادة للمشتري ، إذ الذّرع وصف في الثّوب ، لا يقابله شيء من الثّمن ، بخلاف القدر .
ويبدو أنّ تحديد الأذرع ليس له ما يقابله من الثّمن في أيّامهم ، لأنّ الثّوب في زمانهم ، يطلق على ما يكفي كساءً واحداً ، فلا تضرّ الزّيادة فيه ، ولا تختلط بملك البائع ، بخلاف الأثواب والأقمشة في أيّامنا ، حيث تقتطع منها أذرع لتخاط ثياباً ، فإنّها مقابلة بالثّمن ، وتعتبر من القدر . ومع أنّ بعض الحنفيّة أطلق تحريم البيع قبل إعادة الكيل ، لكنّ الشّرّاح فسّروه بكراهة التّحريم ، وذلك لأنّ النّهي في الحديث المذكور خبر آحاد ، لا تثبت به الحرمة القطعيّة عند الحنفيّة . ومع ذلك ، فلا يقال لآكله : إنّه أكل حراماً ، فقد نصّ في الجامع الصّغير على أنّه : لو أكله ، وقد قبضه بلا كيل ، لا يقال : إنّه أكل حراماً ، لأنّه أكل ملك نفسه ، إلاّ أنّه آثم ، لتركه ما أمر به من الكيل .
50 - ومع أنّ البيع قبل إعادة الكيل مكروه تحريماً ، لكنّ الحنفيّة صرّحوا بفساده .
وهذه عبارة الإمام محمّد في الجامع الصّغير : عن أبي حنيفة ، قال : إذا اشتريت شيئاً ممّا يكال أو يوزن أو يعدّ ، فاشتريت ما يكال كيلاً ، وما يوزن وزناً ، وما يعدّ عدّاً ، فلا تبعه حتّى تكيله وتزنه وتعدّه ، فإن بعته قبل أن تفعل ، وقد قبضته ، فالبيع فاسد في الكيل والوزن . وعلّق ابن عابدين رحمه الله تعالى على هذا بأنّ الفاسد هو البيع الثّاني ، وهو بيع المشتري قبل كيله ، وأنّ الأوّل وقع صحيحاً ، لكنّه يحرم عليه التّصرّف فيه من أكل أو بيع حتّى يكيله ، فإذا باعه قبل كيله ، وقع البيع الثّاني فاسداً ، لأنّ العلّة كون الكيل من تمام القبض ، فإذا باعه قبل كيله ، فكأنّه باع قبل القبض ، وبيع المنقول قبل قبضه لا يصحّ . 51 - ويمكن أن يتّخذ التّصرّف في المكيل والموزون بعد شرائه هذه الصّور، عند الحنفيّة : الأولى : أن يشتري مكايلةً ، ويبيع مكايلةً ، ففي هذه الصّورة لا يجوز للمشتري من المشتري الأوّل أن يبيعه ، حتّى يعيد الكيل لنفسه ، كما كان الحكم في حقّ المشتري الأوّل ، للنّهي عنه في الحديث المتقدّم ، ولاحتمال الزّيادة كما تقدّم .
الثّانية : أن يشتري مجازفةً ، ويبيع كذلك مجازفةً ، فلا يحتاج إلى كيل ، لعدم الافتقار إلى تعيين المقدار .
الثّالثة : أن يشتري مكايلةً ، ويبيع مجازفةً ، فلا يحتاج المشتري الثّاني إلى كيل ، لأنّه لمّا اشتراه مجازفةً ، ملك جميع ما كان مشاراً إليه ، فكان متصرّفاً في ملك نفسه .
الرّابعة : أن يشتري مجازفةً ، ويبيع مكايلةً ، فيحتاج إلى كيل واحد ، إمّا كيل المشتري ، أو كيل البائع بحضرته ، لأنّ الكيل شرط لجواز التّصرّف فيما بيع مكايلةً ، لمكان الحاجة إلى تعيين المقدار الواقع مبيعاً ، وأمّا المجازفة فلا يحتاج إليه .
فبناءً على هذه الصّورة الأخيرة ، تخرج هذه الصّورة الّتي حقّقها ابن عابدين - رحمه الله - وهي : إذا ملك زيد طعاماً ، بيع مجازفةً أو بإرث ونحوه ، ثمّ باعه من عمرو مكايلةً سقط هنا صاع البائع ، لأنّ ملكه الأوّل لا يتوقّف على الكيل ، وبقي الاحتياج إلى كيل للمشتري فقط ، فلا يصحّ بيعه من عمرو بلا كيل ، فهنا فسد البيع الثّاني فقط . ثمّ إذا باعه عمرو من بكر ، فلا بدّ من كيل آخر لبكر ، فهنا فسد البيع الأوّل والثّاني ، لوجود العلّة في كلّ منهما . 52 - وبصدد الكيل المعتبر شرعاً ، نصّ الحنفيّة على أنّه :
أ - لا معتبر بكيل البائع قبل البيع من المشتري الثّاني ، وإن كان كاله لنفسه بحضرة المشتري عن شرائه هو ، لأنّه ليس صاع البائع والمشتري ، وهو الشّرط بالنّصّ .
ب - ولا معتبر بكيله بعد البيع الثّاني ، بغيبة المشتري ، لأنّ الكيل من باب التّسليم ، لأنّ به يصير المبيع معلوماً ، ولا تسليم إلاّ بحضرته .
ج - وإن كاله أو وزنه بعد البيع ، بحضرة المشتري ، ففيه اختلاف المشايخ :
- قيل : لا يكتفى به ، ولا بدّ من الكيل أو الوزن مرّتين ، احتجاجاً بظاهر الحديث .
- وقال عامّتهم : كفاه ذلك ، حتّى يحلّ للمشتري التّصرّف فيه قبل كيله ووزنه إذا قبضه ، وهذا هو الصّحيح ، لأنّ الغرض من الكيل والوزن صيرورة المبيع معلوماً ، وقد حصل ذلك بكيل واحد ، وتحقّق معنى التّسليم . وقد بحث البابرتيّ ، في الاكتفاء بالكيل الواحد في هذه الصّورة ، ونظر إلى تعليل الحكم في الأصل ، باحتمال الزّيادة على المشروط ، وقرّر : أنّ مقتضى ذلك الاكتفاء بالكيل الواحد في أوّل المسألة أيضاً ، وقال : ولو ثبت أنّ وجوب الكيلين عزيمة ، والاكتفاء بالكيل الواحد رخصة ، أو قياس واستحسان ، لكان ذلك مدفعاً جارياً على القوانين ( أي القواعد ) لكن لم أظفر بذلك .
خ - بيع الكالئ بالكالئ :
53 - الكالئ مأخوذ من : كلأ الدّين يكلأ ، مهموز بفتحتين ، كلوءاً : إذا تأخّر ، فهو كالئ بالهمز ، ويجوز تخفيفه ، فيصير مثل القاضي . وكان الأصمعيّ لا يهمزه . قال : هو مثل القاضي ، ولا يجوز همزه . وبيع الكالئ بالكالئ هو : بيع النّسيئة بالنّسيئة .
قال أبو عبيد : صورته : أن يسلّم الرّجل الدّراهم في طعام إلى أجل ، فإذا حلّ الأجل يقول الّذي عليه الطّعام : ليس عندي طعام ولكن بعني إيّاه إلى أجل . فهذه نسيئة انقلبت إلى نسيئة . فلو قبض الطّعام ، ثمّ باعه منه أو من غيره ، لم يكن كالئاً بكالئ .
ولا يخرج المعنى الشّرعيّ عن المعنى اللّغويّ ، إذ هو بيع الدّين بالدّين .
وقد ورد النّهي عنه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ » ، وقال : « هو النّسيئة بالنّسيئة » .
وفسّر أيضاً ببيع الدّين ، كما ورد التّصريح به في رواية .
وفي بيع الدّين صورتان : بيعه من المدين نفسه ، وبيعه من غيره .
ولا يختلف الفقهاء في عدم جواز بيع الدّين من غير مَنْ عليه الدّين .
وإنّما اختلفوا في جواز بيعه ممّن هو عليه ، وجمهورهم - بوجه عامّ - لا يجيزه ، إلاّ في أحوال معيّنة ، خلافاً للحنفيّة . وفيما يلي عرض لأهمّ الصّور والتّقاسيم الّتي يطرحها الفقهاء في هذا الصّدد ، مع تبيان أحكامها .
54 - مذهب المالكيّة : ويتّخذ العقد على الدّين عندهم صوراً شتّى :
أ - فسخ ما في ذمّة المدين أي إسقاطه في شيء يتأخّر قبضه عن وقت الفسخ ، سواء أحلّ الدّين المفسوخ أم لا ، إن كان المؤخّر من غير جنسه أو من جنسه بأكثر منه ، وسواء أكان المفسوخ فيه معيّناً كالعقار ، أم كان منافع ذات معيّنة كركوب دابّة . فهذا غير جائز ، وهو من ربا الجاهليّة ، وهو أشدّ الأنواع تحريماً ، وتحريمه بالكتاب .
ب - بيع الدّين بدين لغير من هو عليه ولو حالاً : وهذا ممنوع بالسّنّة .
فمن له دين على زيد ، ولآخر دين على عمرو ، فباع كلّ منهما دينه بدين صاحبه ، كان محرّماً بالسّنّة ، وهو فاسد .
أمّا بيعه بمعيّن يتأخّر قبضه كعقار ، أو بمنفعة ذات معيّنة ، كما لو كان لزيد دين على عمرو ، فباع زيد ذلك الدّين لخالد بما ذكر ، فإنّه جائز . وقد اعتبر العقار ومنافع الذّات المعيّنة من قبيل الحاضر ولو تأخّر تسليمه ، لأنّ ذلك ليس ممّا يضمن في الذّمّة إذ لا تثبت المعيّنات في الذّمّة فهما نقد بهذا المعنى . أي حاضر ينقد ولا يثبت بالذّمّة .
ج - تأخير رأس مال السّلم أكثر من ثلاثة أيّام ، وهو عين ، فهذا منهيّ عنه غير جائز ، لما فيه من ابتداء دين بدين . ووجه كون هذا من ابتداء الدّين بالدّين ، أنّ كلّاً منهما شغل ذمّة صاحبه بدين له عليه . أمّا لو كان رأس المال غير عين ، فإنّه يجوز تأخيره أكثر من ثلاثة أيّام ، إن لم يكن بشرط . فكلّ واحد من هذه الصّور الثّلاث يقال له بيع الدّين بالدّين لغةً ، إلاّ أنّ فقهاء المالكيّة سمّوا كلّ واحد منها باسم يخصّه .
هذه أقسام بيع الدّين بالدّين عند المالكيّة إذاً وأحكامها .
أمّا بيع الدّين بالنّقد ، فإنّه لا يجوز ، إلاّ إذا كان المدين حيّاً حاضراً في البلد ، وإن لم يحضر مجلس البيع ، وأقرّ بالدّين ، وكان ممّن تأخذه الأحكام ( أي من المكلّفين ) ، وبيع الدّين بغير جنسه ، أو بيع بجنسه وكان متساوياً ، لا أنقص ولا أزيد ، وليس ذهباً بفضّة ولا عكسه ، وليس بين المشتري والمدين عداوة .
ويشترط أن يكون الدّين ممّا يجوز أن يباع قبل قبضه ، وهذا احتراز من طعام المعاوضة . قال الدّسوقيّ : فإن وجدت تلك الشّروط جاز بيعه ، وإن تخلّف شرط منها منع البيع .
55 - ومذهب الشّافعيّ الجديد ، وهو رواية عن الإمام أحمد : جواز الاستبدال عن الثّمن الّذي في الذّمّة . ومذهبه القديم هو المنع .
ودليل المذهب الجديد ، وهو نفسه دليل الحنابلة في هذه الرّواية ، حديث « ابن عمر رضي الله عنهما قال : كنت أبيع الإبل بالدّنانير ، وآخذ مكانها الدّراهم ، وأبيع بالدّراهم ، وآخذ مكانها الدّنانير ، فأتيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك ، فقال : لا بأس إذا تفرّقتما وليس بينكما شيء » . قالوا : وهذا تصرّف في الثّمن قبل قبضه ، وهو أحد العوضين . ودليل المذهب القديم : حديث : « إذا اشتريت بيعاً فلا تبعه حتّى تقبضه » .
فإن استبدل بموافق في علّة الرّبا ، كدراهم بدنانير ، اشترط قبض البدل في المجلس .
وإن استبدل بغير موافق في علّة الرّبا ، كما لو اشترى ثوباً بدراهم في الذّمّة ، لم يشترط ذلك . أمّا بيع الدّين لغير من هو عليه ، فباطل في الأظهر من مذهب الشّافعيّة ، وهو باطل أيضاً في مذهب الحنابلة . كما لو اشترى ثوباً من زيد بمائة له على عمرو ، وذلك لعدم القدرة على التّسليم . وفي قول ثان للشّافعيّة ، يصحّ ، وصحّحه في أصل الرّوضة ، مخالفاً للرّافعيّ ، وهو المعتمد ، نظراً لاستقرار الدّين ، كبيعه ممّن هو عليه .
لكن يشترط في هذا قبض العوضين في المجلس ، فلو تفرّقا قبل قبض أحدهما في البيع . وإن كان مقتضى كلام الأكثرين يخالفه ، كما ذكره المحلّيّ .
أمّا لو كان لزيد وعمرو دينان على شخص ، فباع زيد عمراً دينه بدينه ، بطل قطعاً بلا خلاف ، اتّفق الجنس أو اختلف ، وذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ » .
56 - ومذهب الحنابلة بطلان بيع الدّين بدين ممّن هو عليه ، أو من غيره مطلقاً . وذكروا له صوراً ، سوى ما وافقوا فيه مذهب الشّافعيّة من بعض الصّور ممّا ذكرنا . وقال في ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ بيع الدّين بالدّين لا يجوز . وقال أحمد : إنّما هو إجماع
57 - بقي أن نشير إلى موقف الحنفيّة المتميّز بالتّفرقة بين بيع الدّين ممّن هو عليه ، وبين بيعه مِنْ غير مَنْ هو عليه ، وأنّ التّصرّف الجائز في الدّين ، هو تمليكه ممّن عليه الدّين ، ولو بعوض ، ولا يجوز من غيره كما نقله الحصكفيّ عن ابن ملك .
واستثنوا ثلاث صور أجازوا فيها تمليك الدّين لغير من هو عليه .
الأولى : إذا سلّط الدّائن غيره على قبض الدّين ، فيكون وكيلاً قابضاً للموكّل ، ثمّ لنفسه . الثّانية : الحوالة واستثناء جوازها إجماع - كما صرّح به الشّافعيّة .
الثّالثة : الوصيّة . ومعنى عدم الجواز هنا : عدم الانعقاد ، وبذلك عبّر الكاسانيّ فقال : ولا ينعقد بيع الدّين من غير من عليه الدّين ، لأنّ الدّين إمّا أن يكون عبارةً عن مال حكميّ في الذّمّة ، وإمّا أن يكون عبارةً عن فعل تمليك المال وتسليمه ، وكلّ ذلك غير مقدور التّسليم في حقّ البائع . ولو شرط التّسليم على المدين لا يصحّ أيضاً ، لأنّه شرط التّسليم على غير البائع ، فيكون شرطاً فاسداً ، فيفسد البيع . ويجوز بيعه ممّن هو عليه ، لأنّ المانع هو العجز عن التّسليم ، ولا حاجة إلى التّسليم هاهنا . ونظيره بيع المغصوب ، فإنّه يصحّ من الغاصب ، ولا يصحّ من غيره ، إذا كان الغاصب منكراً ، ولا بيّنة للمالك . ويمكن لزيادة التّفصيل والتّصوير ، في بيع الكالئ بالكالئ ، مراجعة مصطلح : ( ربا ، صرف ، دين ) .
د - بيع اللّحم بالحيوان :
58 - ورد فيه حديث سعيد بن المسيّب « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللّحم بالحيوان » وفي لفظ : « نهى عن بيع الحيّ بالميّت » .
ويتوزّع البحث في هذه المسألة على النّقاط التّالية :
أوّلاً : هل اللّحم كلّه جنس واحد ؟
59 - هذه مسألة خلافيّة بين الفقهاء ، وهي كالأصل بالنّسبة إلى ما بعدها .
- أ - فمذهب الحنفيّة ، ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة ، والأصحّ عند الحنابلة : هو أنّ اللّحم أجناس ، باختلاف أصوله : فالإبل بأنواعها - العرّاب والبخاتيّ والهجين ، وذي السّنامين ، وذي السّنام الواحد - كلّها جنس واحد ، فكذا لحومها . والبقر والجواميس جنس واحد . والغنم والمعز جنس واحد . ويحتمل أن يكونا صنفين ، لأنّ القرآن فرّق بينهما كما فرّق بين الإبل والبقر ، فقال : { ثمانيةَ أزواجٍ : من الضّأْنِ اثنينِ ومن المعزِ اثنين } .. { ومِنَ الإبِلِ اثنين ، ومن البقرِ اثنينِ } .
والوحش أصناف : بقرها صنف ، وغنمها صنف ، وظباؤها صنف .
والطّير أصناف ، كلّ ما انفرد باسم وصفة فهو صنف .
- ب - والأظهر عند الشّافعيّة ، وقول الخرقيّ من الحنابلة ، ورواية عن الإمام أحمد : أنّ اللّحم كلّه جنس واحد .
- ج - ويبدو من تمثيل المالكيّة للجنس الواحد ببيع لحم بقريّ بكبش حيّ ، ولغير الجنس ببيع الحيوان الحيّ بلحم طير أو سمك : أنّهم يعتبرون لحوم الأنعام جنساً ، ولحوم الطّير جنساً ، ولحوم الأسماك جنساً . ونصّ ابن جزيّ على أنّ اللّحوم عند مالك ثلاثه أصناف : فلحم ذوات الأربع صنف ، ولحم الطّيور صنف ، ولحم الحيتان صنف .
ثانياً : بيع اللّحم بحيوان من جنسه :
60 - لا يستجيز جمهور الفقهاء بيع اللّحم بحيوان من جنسه ، كلحم شاة بشاة حيّة ، وذلك : للنّهي عن بيع اللّحم بالحيوان في الحديث المتقدّم - كما يقول الشّافعيّة - ولأنّه مال ربويّ ، بيع بما فيه من جنسه مع جهالة المقدار ، فلم يجز كبيع السّمسم بالشّيرج . ولأنّه بيع معلوم - وهو اللّحم - بمجهول وهو الحيوان ، وهو المزابنة ، كما يقول المالكيّة .
فهذا قول مالك ، وهو محمل الحديث عنده : أن يباع حيوان مباح الأكل بلحم من جنسه ، وهو مذهب الشّافعيّ ، وهو أيضاً المذهب عند الحنابلة ، بلا خلاف . وأجاز الحنفيّة هذا البيع ، ولكن : منهم من اعتبرهما جنسين مختلفين ( لأنّ أحدهما موزون ، والآخر معدود ) فبنوا عليه جواز بيعهما مجازفةً ، عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، لأنّه باع الجنس بخلاف الجنس . ومنهم من اعتبرهما جنساً واحداً ، وبنوا مذهبهما - أي مذهب الشّيخين - على أنّ الشّاة ليست بموزونة ، فيجوز بيع أحدهما بالآخر ، مجازفةً ومفاضلةً ، لأنّ ربا الفضل يعتمد اجتماع الوصفين : الجنس والقدر ، لكن بشرط التّعيين كما عبّر الحصكفيّ ( أي التّقابض ) أو يداً بيد ، كما عبّر الكاسانيّ - وقال : هو الصّحيح - والبابرتيّ .
أمّا نسيئةً فلا يجوز ، لأنّهما عندئذ سلم ، وهو في كلّ منهما غير صحيح ، كما نقله ابن عابدين عن النّهر . لكنّ الإمام محمّداً ، شرط في جواز بيع اللّحم بحيوان من جنسه ، أن يكون اللّحم المفرز أكثر من الّذي في الشّاة ، ليكون لحم الشّاة بمقابلة مثله من اللّحم ، والباقي بمقابلة الإسقاط ، إذ لو لم يكن كذلك يتحقّق الرّبا ، فلا يجوز عنده ، وذلك عملاً بالحديث المتقدّم . ولأنّهما جنس واحد ، ولهذا لا يجوز بيع أحدهما بالآخر نسيئةً ، فكذا متفاضلاً ، كالزّيت بالزّيتون .
ثالثاً : بيع اللّحم بحيوان من غير جنسه :
61 - كبيع الشّاة الحيّة بلحم الإبل أو البقر عند غير المالكيّة ، وكبيع الشّاة الحيّة بلحم طير أو سمك عند المالكيّة .
أجاز هذه الصّورة جمهور الفقهاء ، من الحنفيّة والمالكيّة ، وهو غير الأظهر عند الشّافعيّة ، اختاره القاضي من الحنابلة ، ورواية عن الإمام أحمد ، عليها متن الإقناع .
وعلّل ذلك الحنفيّة ، بأنّهما أصلان مختلفان ، فهما جنسان مختلفان فيجوز بيعهما ( مطلقاً ) مجازفةً ، نقداً ونسيئةً ، لانعدام الوزن والجنس ، فلا يتحقّق الرّبا أصلاً .
ومع أنّ المالكيّة أجازوا - على اصطلاحهم في أجناس اللّحوم - بيع اللّحم بغير جنسه مطلقاً ، لكنّهم قيّدوه بأن يكون حالاً . أمّا إن كان إلى أجل فلا يجوز ، إذا كان الحيوان لا يراد للقنيّة ، وإلاّ فيجوز بيعه بلحم من غير جنسه لأجل .
كما قرّر الشّافعيّة أنّ القول بالجواز مبنيّ على أنّ اللّحوم أجناس ، وعلّلوا الجواز بأنّه قياس على بيع اللّحم باللّحم . قالوا : وهذا في المأكول ، وأمّا في غيره فوجه الجواز فيه هو : أنّ سبب المنع بيع مال الرّبا بأصله المشتمل عليه ، ولم يوجد ذلك هنا .
وعلّل من قال من الحنابلة بجوازه : بأنّه مال الرّبا بيع بغير أصله فجاز ، كما لو باعه بالأثمان . ولم يجز هذه الصّورة - أعني بيع اللّحم بحيوان من غير جنسه - الشّافعيّة في الأظهر من أقوالهم ، ولا الحنابلة في الظّاهر من مذهبهم ، وصرّحوا بالبطلان ، وذلك : لعموم نصّ الحديثين السّابقين . ولأنّ اللّحم كلّه جنس واحد .
ويلاحظ أنّ صاحب الشّرح الكبير الحنبليّ صرّح بأنّ سبب الاختلاف في بيع اللّحم بغير جنسه ، مبنيّ على الاختلاف في اللّحم ، فإنّ القائلين بأنّه جنس واحد لا يجيزون البيع ، والقائلون بأنّه أجناس يجيزونه . كما يلاحظ أنّ الشّافعيّة : أطلقوا اللّحم في الحديث ، حتّى لو كان لحم سمك أو ألية أو كبداً أو طحالاً . وأطلقوا الحيوان ، حتّى لو كان سمكاً أو جراداً ، مأكولاً كالإبل ، أو غير مأكول كالحمار ، فبيع اللّحم بالحيوان عندهم باطل مطلقاً في الأظهر .
رابعاً : بيع اللّحم بحيوان غير مأكول :
62 - الجمهور من الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة على جواز هذه الصّورة ، وهو قول عند الشّافعيّة . قال ابن قدامة : وإن باعه بحيوان غير مأكول جاز في ظاهر قول أصحابنا ، وهو قول عامّة الفقهاء . كما علّل الشّافعيّة ما ذهب إليه بعضهم من الجواز في هذه الصّورة : بأنّ سبب المنع هو بيع مال الرّبا بأصله المشتمل عليه ، ولم يوجد ذلك هنا . لكنّ الأظهر عندهم - كما تقدّم آنفاً - تحريم بيع اللّحم بالحيوان بإطلاق للحديث .
ذ - بيع الرّطب بالتّمر :
63 - ورد النّهي عن بيع الرّطب بالتّمر في حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه ، « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : سئل عن بيع الرّطب بالتّمر ، فقال : أينقص الرّطب إذا جفّ ؟ قالوا : نعم ، قال : فلا إذاً » وفي رواية أنّه قال : « لا يباع رطب بيابس » .
ولا يستجيز جمهور الفقهاء : مالك والشّافعيّ وأحمد والصّاحبان من الحنفيّة هذا البيع ، ونحوه : كالعنب بالزّبيب ، واللّبن بالجبن ، والحنطة الرّطبة باليابسة ، وذلك :
للحديث المذكور ، قالوا : وفيه إشارة إلى أنّ المماثلة تعتبر عند الجفاف ، وإلاّ فالنّقص أوضح من أن يسأل عنه ، وهي مجهولة الآن .
ولأنّه جنس فيه الرّبا ، بيع بعضه ببعض ، على وجه ينفرد أحدهما بالنّقصان ، فلم يجز . وعبارة الخرقيّ ولا يباع شيء من الرّطب بيابس من جنسه ، إلاّ العرايا .
وربّما اعتبره بعض المالكيّة من المزابنة ، وهي - بتفسير ابن جزيّ - بيع شيء رطب بيابس من جنسه ، سواء أكان ربويّاً أم غير ربويّ ، فتمتنع في الرّبويّ ، لتوقّع التّفاضل والغرر ، وتمتنع في غير الرّبويّ للنّهي الوارد عنها في الحديث ، وللغرر .
64 - وتفرّد أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - بالقول بالجواز - كما يقول الكمال بن الهمام ومتون الحنفيّة عليه . ونصّ الحصكفيّ على أنّه : يجوز بيع رطب برطب ، أو بتمر متماثلاً .. في الحال لا المآل ، خلافاً لهما ، فلو باع مجازفةً لم يجز اتّفاقاً .
وقد استدلّ أبو حنيفة بحديث عبادة بن الصّامت رضي الله عنه ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « الذّهب بالذّهب ، والفضّة بالفضّة ، والبرّ بالبرّ ، والشّعير بالشّعير ، والتّمر بالتّمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواءً بسواء ، يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف ، فبيعوا كيف شئتم ، إذا كان يداً بيد » .
ففي وجه الاستدلال بهذا الحديث يقول أبو حنيفة :
الرُّطَب : إمّا أن يكون تمراً ، أو لا يكون . فإن كان تمراً ، جاز العقد عليه ، لقوله في أوّل الحديث : « التّمر بالتّمر » ، وإن كان غير تمر ، جاز العقد عليه أيضاً ، لقوله في آخر الحديث : « إذا اختلف النّوعان فبيعوا كيف شئتم » . ولم يأخذ بحديث النّهي السّابق لأنّه دائر على زيد بن عيّاش ، وزيد بن عيّاش ممّن لا يقبل حديثه وهو مجهول وعلى تقدير صحّته ، فقد ورد بلفظ « نهى عن بيع الرّطب بالتّمر نسيئةً » وهذه زيادة يجب قبولها . ولاستكمال مبحث بيع الرّطب بالتّمر ، وما يتّصل به من التّفاصيل والأحكام .
يراجع مصطلح ( رباً ) .
ر- بيع وسلف :
65 - ورد فيه حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « لا يحلّ سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك » وفي رواية « عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنّه قال : يا رسول اللّه : إنّا نسمع منك أحاديث ، أفتأذن لنا بكتابتها ؟ قال : نعم . فكان أوّل ما كتب النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكّة : لا يجوز شرطان في بيع واحد ، ولا بيع وسلف جميعاً ، ولا بيع ما لم يضمن ... » الحديث .
وقد فسّر محمّد بن الحسن رحمه الله تعالى السّلف والبيع بأنّه قول الرّجل للرّجل : أبيعك داري هذه بكذا وكذا ، على أن تقرضني كذا وكذا . وبهذا تئول المسألة إلى موضوع البيع بشرط ، ولا يختلف الفقهاء في فساد البيع بذلك ، في الجملة .
وصرّح ابن جزيّ بأنّ البيع باشتراط السّلف من أحد المتبايعين لا يجوز بإجماع ، وإن يكن بطلان الشّرط وحده روايةً واحتمالاً عند الحنابلة .
والمالكيّة ، حينما تحدّثوا عن بيوع الآجال - وهي بيوع ظاهرها الجواز ، لكنّها تؤدّي إلى ممنوع - منعوا بيع ما كثر قصد النّاس إليه ، توصّلاً إلى الرّبا الممنوع ، كأن كان جائزاً في الظّاهر ، وذلك للتّهمة ، وسدّ الذّريعة ، ومثّلوا لها : باجتماع بيع وسلف ، أو سلف جرّ منفعةً ، أو ضمان بجعل . وصوّروا البيع والسّلف بصور ثلاث :
الأولى : بيع جائز في الظّاهر يؤدّي - كما يقول الدّردير - إلى بيع وسلف ، فإنّه يمنع للتّهمة ، على أنّهما قصدا البيع والسّلف الممنوع . وذلك كأن يبيع سلعتين بدينارين لشهر ، ثمّ يشتري إحداهما بدينار نقداً ، فآل الأمر إلى أنّ البائع أخرج من يده سلعةً وديناراً نقداً ، لأنّ السّلعة الّتي خرجت من يده ثمّ عادت إليها ملغاة كما يقول الدّسوقيّ ثمّ أخذ عنهما عند الأجل دينارين ، أحدهما عن السّلعة وهو بيع ، والآخر عن الدّينار وهو سلف .
فهذه الصّورة تؤدّي إلى بيع وسلف ، وهو جائز في ظاهره ، ولا خلاف في المذهب في منعه ، صرّح بذلك ابن بشير وتابعوه ، وغيرهم .
وحيث تكرّر في هذه الصّورة البيع ، منعت عندهم ، لتهمة قصد البيع والسّلف .
الثّانية : بيع وسلف بشرط من البائع أو المشتري . وهذه الصّورة ممنوعة غير جائزة ، لأنّ الانتفاع بالقرض هو من جملة الثّمن ، إن كان شرط السّلف صادراً من البائع ، أو هو من جملة المثمّن - أي المبيع - إن كان شرط السّلف صادراً من المشتري، ففيه سلف جرّ نفعاً. الثّالثة : بيع وسلف بلا شرط ، لا صراحةً ولا حكماً ، وهي جائزة على المعتمد .
ز- بيع وشرط :
66 - ورد النّهي في السّنّة عن ( بيع وشرط ) ومن ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط » .
وينظر تفصيله في مصطلح : ( بيع ، وشرط )
أسباب النّهي المتعلّقة بالغرر :
67 - هذا هو السّبب الثّاني من أسباب النّهي عن البيع ، ممّا يتعلّق بلازم العقد ، وكان الأوّل هو الرّبا . وقد ورد النّهي عن بيوع الغرر ، في حديث أبي هريرة رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة ، وعن بيع الغرر » . وغيره ممّا سيأتي . والغرر في اللّغة هو : الخطر .
وله في اصطلاح الفقهاء تعريفات شتّى . فهو عند الحنفيّة : ما طوي عنك علمه .
وعند بعض المالكيّة : التّردّد بين أمرين : أحدهما على الغرض ، والثّاني على خلافه .
وعند الشّافعيّة : ما انطوت عنّا عاقبته ، أو : ما تردّد بين أمرين أغلبهما أخوفهما .
ويرى بعض المالكيّة أنّ الغرر والخطر لفظان مترادفان بمعنًى واحد ، وهو ما جهلت عينه . ويرى المحقّقون منهم أنّهما متباينان :
فالخطر : ما لم يتيقّن وجوده ، كما لو قال : بعني فرسك بما أربح غداً .
والغرر : ما يتيقّن وجوده ، ويشكّ في تمامه ، كبيع الثّمار قبل بدوّ صلاحها .
68 - وقد تقدّمت صور ينطبق عليها الغرر ، عند الكلام عن شروط انعقاد البيع ، منها : كون المبيع مالاً موجوداً مملوكاً مقدور التّسليم ، فلا يصحّ بيع الحمل في بطن أمّه ، ولا ما سيخرجه الصّيّاد في شبكته ، ولا الطّير في الهواء ، ولا الجمل الشّارد . إلخ .
والغرر نوعان : أحدهما : ما يرجع إلى أصل وجود المعقود عليه ، أو ملكيّة البائع له ، أو قدرته على تسليمه ، فهذا يوجب بطلان البيع ، فلا ينعقد البيع اتّفاقاً في شيء من ذلك . والآخر : ما يرجع إلى وصف في المعقود عليه أو مقداره ، أو يورث فيه أو في الثّمن أو في الأجل جهالةً . فهذا محلّ خلاف . تفصيله في مصطلح ( غرر ) .
وفيما يلي صور الغرر الّتي ورد النّهي فيها بخصوصها ، والحكم الفقهيّ فيها ، من البطلان أو الفساد . إذ النّهي عن بيع الغرر - كما يقول النّوويّ - أصل من أصول الشّرع ، يدخل تحته مسائل كثيرة جدّاً . منها : بيع الحصاة وبيع الملامسة وبيع المنابذة . وتنظر في مصطلحاتها . ومنها ما يلي :
أ - بيع الجنين وهو في بطن أمّه :
69 - وهو بيع الحمل ، كما عبّرت بعض المراجع الفقهيّة .
والجنين هو : الولد ما دام في بطن أمّه ، ويجمع على أَجِنّةً ، كدليل وأدلّة . ومثل الجنين أيضاً : الملقوح والملقوحة ، وجمعهما ملاقيح ، وهي : ما في الأرحام والبطون من الأجنّة ، بتفسير الحنفيّة والجمهور ، خلافاً للمالكيّة في تفسير الملاقيح بما في ظهور الفحول . وورد النّهي في الحديث عن بيع الجنين ما دام مجتنّاً حتّى يولد ، عن أبي سعيد رضي الله عنه ، قال : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتّى تضع » . وتقدّم الإجماع - كما صرّح ابن المنذر - على بطلان هذا البيع ( ر : ف 5 ) للنّهي عنه في الحديث وللغرر ، فعسى أن لا يولد ، ولأنّ فيه جهالةً في صفته وحياته ، ولأنّه غير مقدور على تسليمه . وذكره هنا للغرر فقط ، لكنّه من النّوع الأوّل منه ، وهو الغرر المتعلّق بالمعقود عليه نفسه ، من حيث أصل وجوده ، ولهذا كان النّهي عنه مستوجباً للبطلان عند الجميع ، حتّى في اصطلاح الحنفيّة ، الّذين يفرّقون بين البطلان - وبين الفساد .
ب - بيع الثّمر قبل أن يبدو صلاحه :
70 - ويسمّى أيضاً المخاضرة ، كما ورد في بعض النّصوص . وورد النّهي عن ذلك في أحاديث كثيرة منها : حديث ابن عمر رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثّمار حتّى يبدو صلاحها ، نهى البائع والمبتاع » وفي لفظ آخر : « نهى عن بيع النّخل حتّى تزهو ، وعن بيع السّنبل حتّى يبيضّ ويأمن العاهة » . وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « لا تبتاعوا الثّمار حتّى يبدو صلاحها » . وجاء مفسّراً في حديث أنس رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثّمرة حتّى يبدو صلاحها ، وعن بيع النّخل حتّى يزهو ، قيل : ما يزهو ؟ قال : يَحْمارّ أو يَصْفارّ » . وفي بعض الرّوايات عن أنس « حتّى تُزهي ، فقيل له : وما تزهي ؟ قال : تحمرّ » . كما جاء بدوّ الصّلاح مفسّراً في حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الثّمرة حتّى يبدو صلاحها » . « وكان إذا سئل عن صلاحها ، قال : حتّى تذهب عاهتها » . وفي حديث أنس رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن بيع العنب حتّى يسودّ ، وعن بيع الحبّ حتّى يشتدّ » .
وورد في الصّحيح التّعبير بلفظ ثالث ، وهو : التّشقيح ، وهذا في حديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما قال : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن تباع الثّمرة حتّى تشقح فقيل : ما تشقح ؟ . قال : تَحْمارّ وتصفارّ ، ويؤكل منها » .
معنى بدوّ الصّلاح :
71 - فسّر الفقهاء بدوّ الصّلاح بمعان شتّى :
فالحنفيّة قالوا في تفسيره : أن تؤمن العاهة والفساد ، وإن كان بعضهم - كالكرلانيّ - فسّره بأن تصلح الثّمرة لتناول بني آدم ، وعلف الدّوابّ . والمالكيّة فسّروه تفسيراً مختلفاً نسبيّاً : فهو في التّمر : أن يحمرّ ويصفرّ ويزهو ، وفي العنب : أن يسودّ وتبدو الحلاوة فيه ، وفي غيرهما من الثّمار : حصول الحلاوة ، وفي الخسّ والعصفر : أن ينتفع بهما ، وفي سائر البقول : أن تطيب للأكل ، وفي الزّرع والحبّ : أن ييبس ويشتدّ .
وأرجع الشّافعيّة بدوّ الصّلاح في الثّمر وغيره كالزّرع ، إلى ظهور مبادئ النّضج والحلاوة ، فيما لا يتلوّن منه ، أمّا فيما يتلوّن فبأن يأخذ في الحمرة أو السّواد أو الصّفرة . وذكروا ثماني علامات يعرف بها بدوّ الصّلاح .
أحدها : اللّون ، في كلّ ثمر مأكول ملوّن ، إذا أخذ في حمرة ، أو سواد أو صفرة ، كالبلح والعنّاب والمشمش والإجّاص .
ثانيها : الطّعم ، كحلاوة القصب وحموضة الرّمّان .
ثالثها : النّضج واللّين ، كالتّين والبطّيخ .
رابعها : بالقوّة والاشتداد ، كالقمح والشّعير .
خامسها : بالطّول والامتلاء ، كالعلف والبقول .
سادسها : الكبر كالقثّاء ، بحيث يؤكل .
سابعها : انشقاق أكمامه ، كالقطن والجوز .
ثامنها : الانفتاح ، كالورد . وما لا أكمام له كالياسمين ، فظهوره ، ويمكن دخوله في الأخير . ووضع له القليوبيّ هذا الضّابط ، وهو : بلوغ الشّيء إلى صفة أي حالة يطلب فيها غالباً . ووضع الحنابلة هذا الضّابط : ما كان من الثّمرة يتغيّر لونه عند صلاحه ، كثمرة النّخل والعنب الأسود والإجّاص ، فبدوّ صلاحه بتغيّر لونه ، وإن كان العنب أبيض فصلاحه بتموّهه ، وهو : أن يبدو فيه الماء الحلو ويلين ويصفرّ لونه . وإن كان ممّا لا يتلوّن كالتّفّاح ونحوه ، فبأن يحلو ويطيب . وإن كان بطّيخاً أو نحوه ، فبأن يبدو فيه النّضج . وإن كان ممّا لا يتغيّر لونه ، ويؤكل طيّباً صغاراً وكباراً ، كالقثّاء والخيار ، فصلاحه بلوغه أن يؤكل عادةً . وحكمة النّهي عن بيع الثّمر قبل بدوّ صلاحه : هي خوف تلف الثّمرة ، وحدوث العاهة عليها قبل أخذها . وثبت في حديث أنس رضي الله عنه « أرأيت إذا منع اللّه الثّمرة ، بم يأخذ أحدكم مال أخيه ؟ » .
حكم بيع الثّمر قبل بدوّ صلاحه :
72 - جمهور الفقهاء - بوجه عامّ - على أنّ بيع الثّمر قبل بدوّ صلاحه ، غير جائز ولا صحيح . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث . ومع ذلك فقد فصّلوا فيه القول ، تبعاً لتقييد العقد بشرط وإطلاقه ، ولا يخلو بيع الثّمرة من هذه الأحوال :
الأولى : أن يبيعها قبل الظّهور والبروز ، أي قبل انفراك الزّهر عنها وانعقادها ثمرةً ، فهذا البيع لا يصحّ اتّفاقاً .
الثّانية : أن يبيعها بعد الظّهور ، قبل بدوّ الصّلاح ، بشرط التّرك والتّبقية على الشّجر حتّى تنضج ، فلا يصحّ هذا البيع إجماعاً ، لأنّه شرط لا يقتضيه العقد ، وهو شغل ملك الغير . أو هو صفقة في صفقة أو هو إعارة أو إجارة في بيع . وعلّله ابن قدامة بالنّهي عنه في الحديث المذكور ، والنّهي يقتضي الفساد . قالوا : ومثل بيع الثّمرة قبل بدوّ الصّلاح بشرط التّرك ، بيع الزّرع قبل أن يشتدّ .
الثّالثة : أن يبيعها بعد الظّهور ، قبل بدوّ الصّلاح بشرط القطع في الحال ، فهذا البيع صحيح بالإجماع ، ولا خلاف في جوازه ، وعلّله الحنابلة بأنّ المنع من البيع قبل بدوّ الصّلاح ، إنّما كان خوفاً من تلف الثّمرة ، وحدوث العاهة عليها قبل أخذها ، بدليل حديث أنس المارّ ، وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه : « أرأيت إذا مَنَعَ اللّه الثّمرة ، بم يأخذ أحدكم مال أخيه ؟ » وهذا مأمون فيما يقطع ، فصحّ بيعه كما لو بدا صلاحه .
قالوا : والإجماع على صحّة البيع في هذه الحال ، مخصّص لعموم المنع في مفهوم الحديث السّابق . وفارق ما بعد بدوّ الصّلاح ، لأمن العاهة فيه غالباً ، بخلاف ما قبل بدوّ الصّلاح ، وبهذا الفارق يشعر الحديث الوارد في وضع الجوائح ، وهو : « لو بعت من أخيك تمراً ، فأصابته جائحة ( أي آفة أهلكت الثّمرة ) فلا يحلّ لك أن تأخذ منه شيئاً ، بم تأخذ مال أخيك بغير حقّ » .
73 - غير أنّ الفقهاء قيّدوا هذا الحكم ، وهو جواز بيع الثّمرة قبل بدوّ صلاحها بشرط القطع في الحال ، بقيود بعضها متّفق عليه ، وبعضها انفرد به فريق من الفقهاء ، نشير إليها فيما يلي :
الشّرط الأوّل : أن يكون الثّمر منتفعاً به :
أ - فالحنفيّة - في الأصحّ من مذهبهم - وكذا المالكيّة على إطلاق الانتفاع به ، وصرّح الحنفيّة بشمول الانتفاع لما هو في الحال أو في الزّمان الثّاني ، وهو المآل ، أو في ثاني الحال - كما يعبّرون . فمثل القصيل ( وهو الفصفصة الّتي يعلف بها الحيوان ) والحصرم ممّا يجوز بيعه ، لانتفاع الحيوان وانتفاع الإنسان به .
ب - والشّافعيّة والحنابلة ، قيّدوا الجواز بالانتفاع به في الحال ، وزاد الشّافعيّة تقييد المنفعة بأن تكون مقصودة لغرض صحيح ، وإن لم يكن بالوجه الّذي يراد بالانتفاع به منه كما في الحصرم ، بخلاف الكمّثرى ، لأنّ قطعه في الحال إضاعة مال - كما علّله المالكيّة - وبخلاف ثمرة الجوز ، وزرع التّرمس ، فإنّه لا يصحّ بيعه بالشّرط المذكور نفسه ، لعدم النّفع بالمبيع - كما علّله الحنابلة .
الشّرط الثّاني : أن يحتاج إليه المتبايعان أو أحدهما .
الشّرط الثّالث : أن لا يكثر ذلك بين النّاس ، ولا يتمالؤوا عليه .
وهذان الشّرطان نصّ عليهما المالكيّة ، فإن تخلّف واحد ، منع البيع ، كما يمنع بشرط التّبقية المارّ أو الإطلاق ، كما يأتي .
الشّرط الرّابع : نصّ عليه الحنابلة ، وهو أن لا يكون ما بيع قبل بدوّ صلاحه مشاعاً ، بأن يشتري نصف الثّمرة قبل بدوّ صلاحها مشاعاً بشرط القطع ، وذلك لأنّه لا يمكنه قطع ما يملكه ، إلاّ بقطع ما لا يملكه ، وليس له ذلك .
74 - وقد أجاز الفقهاء أيضاً ، إضافةً إلى هذه الصّورة الجائزة ، وهي بيع ما لم يبد صلاحه بشرط القطع في الحال ، هذه الصّور :
- 1 - أن يبيع الثّمرة الّتي لم يبد صلاحها مع الشّجر ، أو الزّرع الأخضر مع الأرض ، ولا يختلف فيها الفقهاء ، لأنّ الثّمر فيها والزّرع تابعان للشّجر والأرض ، اللّذين لا تعرض لهما عاهة ، كما يقول الشّافعيّة .
- 2 - أن يبيع الثّمرة لمالك الأصل وهو الشّجر ، أو يبيع الزّرع لمالك الأرض ، لأنّه إذا بيع مع أصل دخل تبعاً في البيع ، فلم يضع احتمال الغرر فيه ، كما احتملت الجهالة في بيع اللّبن في الضّرع مع الشّاة . نصّ على هذه الصّورة الحنابلة ، كما نصّ على الأولى الجميع ، وزاد المالكيّة الصّورة التّالية :
- 3 - أن يبيع الأصل ، وهو الشّجر أو الأرض ، ثمّ بعد ذلك بفترة ما ، قربت أو بعدت ، وقبل خروجهما من يد المشتري ، يلحق الثّمر أو الزّرع بالأصل المبيع قبله .
75 - الرّابعة من أحوال بيع الثّمرة : أن يبيعها بعد بدوّ الصّلاح - على الخلاف في تفسيره : بظهور النّضج والحلاوة والتّموّه ونحوها عند الجمهور . وبأمن العاهة والفساد عند الحنفيّة ولا خلاف في جواز البيع في هذه الحال كما هو نصّ ابن الهمام ، ومفهوم الحديث أيضاً عند من يقول بالمفهوم .
وسيأتي بعض التّفصيل المذهبيّ فيما إذا تناهى عظم الثّمرة أو لم يتناه .
غير أنّ المالكيّة قيّدوا الجواز في هذه الحال - زيادةً على بدوّ الصّلاح بتفسيره عندهم - بأن لا يستتر بأكمامه ، كالبلح والتّين والعنب ، والفجل والكرّات والجزر والبصل . فهذا النّوع يجوز بيعه جزافاً ، ووزناً بالأولى .
أمّا ما استتر بأكمامه - أي بغلافه - كالقمح في سنبله ، فإنّه لا يجوز بيعه وحده جزافاً ، ويجوز كيلاً . وإن بيع بقشره أي تبنه ، جاز جزافاً وكذا كيلاً بالأولى .
أمّا ما استتر بورقه كالفول ، فلا يجوز بيعه جزافاً ، لا منفرداً ولا مع ورقه ، ويجوز كيلاً .
76 - الخامسة : أن يبيع الثّمرة قبل بدوّ الصّلاح مطلقاً ، فلا يشترط قطعاً ولا تبقيةً ، وهذه الصّورة محلّ خلاف بين الفقهاء :
- أ - فعند الشّافعيّة والحنابلة ، والقول المعتمد عند المالكيّة - وإن صرّح ابن جزيّ بأنّ فيه قولين - أنّ بيعها كذلك باطل : لإطلاق النّهي في الحديث المذكور عن بيع الثّمرة قبل بدوّ صلاحها ، ولأنّ العاهة تسرع إليه حينئذ ، لضعفه ، فيفوت بتلفه الثّمن ،من غير مقابل. - ب - وفصّل الحنفيّة في هذه المسألة ، فقرّروا أنّه :
إن كان الثّمر بحال لا ينتفع به في الأكل ولا في علف الدّوابّ ، ففيه خلاف بين المشايخ : قيل : لا يجوز ، ونسبه قاضي خان لعامّة مشايخ الحنفيّة للنّهي ، ولأنّ البيع يختصّ بمال متقوّم ، والثّمر قبل بدوّ الصّلاح ليس كذلك .
والصّحيح : أنّه يجوز ، لأنّه مال منتفع به في ثاني الحال ( أي المآل ) إن لم يكن منتفعاً به في الحال . وإن كان بحيث ينتفع به ، ولو علفاً للدّوابّ ، فالبيع جائز باتّفاق أهل المذهب ، إذا باع بشرط القطع ، أو مطلقاً . وقد نصّ المالكيّة أيضاً على جواز البيع قبل بدوّ الصّلاح في المسائل الثّلاث السّابقة . وذكر بعض الفقهاء ، كالحنفيّة والحنابلة ، هذه الصّورة أيضاً . 77 - السّادسة : إذا اشترى الثّمرة ، وقد بدا صلاحها ونضجها ، ولم يتناه عظمها ، وشرط التّرك والتّبقية إلى أن يتناهى عظمها :
- أ - فمذهب الجمهور - كما ينصّ ابن قدامة - جواز البيع في هذه الصّورة ، بل جوازه بإطلاق . - لأنّ الحديث نهى عن بيع الثّمرة حتّى يبدو صلاحها ، فمفهومه إباحة بيعها بعد بدوّ صلاحها ، والمنهيّ عنه قبل بدوّ الصّلاح عندهم البيع بشرط التّبقية ، فيجب أن يكون ذلك جائزاً بعد بدوّ الصّلاح ، وإلاّ لم يكن لبدوّ الصّلاح غاية ، ولا فائدة في ذكره .
- « ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثّمرة حتّى يبدو صلاحها ، وتأمن العاهة » وتعليله بأمن العاهة يدلّ على التّبقية ، لأنّ ما يقطع في الحال لا يخاف العاهة عليه ، وإذا بدا الصّلاح فقد أمنت العاهة ، فيجب أن يجوز بيعه مبقًى ، لزوال علّة المنع .
ولأنّ النّقل والتّحويل يجب في المبيع بحكم العرف ، فإذا شرطه جاز ، كما لو شرط نقل الطّعام من ملك البائع .
- ب - والحنفيّة قرّروا مفصّلين في هذه المسألة : إذا شرط التّرك ، ولم يتناه العظم والنّضج ، فقد شرط فيه الجزء المعدوم ، وهو الّذي يزيد بمعنًى من الأرض والشّجر ، وهذه الزّيادة تحدث بعد البيع من ملك البائع ، فكأنّه ضمّ المعدوم إلى الموجود ، واشتراهما ، فيفسد العقد . وإذا شرط التّرك ، وقد تناهى عظمها ، فكذلك الحكم عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وهو أنّه يفسد العقد أيضاً ، وهو القياس ، لأنّه شرط لا يقتضيه العقد ، وهو شغل ملك غيره ، ولأحد المتعاقدين فيه منفعة ، ومثله يفسد العقد ، وهذا لأنّه يحصل في المبيع زيادة جودة وطراوة ، وللمشتري فيه نفع .
وأمّا محمّد بن الحسن فقد استحسن في هذه الصّورة ، وقال كما قال الأئمّة الثّلاثة : لا يفسد العقد ، لتعارف النّاس ذلك ، بخلاف ما إذا لم يتناه عظمها ، لأنّه شرط في الجزء المعدوم . ومع أنّ البابرتيّ والكرلانيّ ، من شرّاح الهداية ، لم يسلّما بالتّعامل في اشتراط التّرك ، بل قرّرا أنّ المعتاد هو التّرك بلا شرط ، والإذن في تركه بلا شرط في العقد ، لا شرط التّرك . ففي نقل الكرلانيّ عن الأسرار أنّ الفتوى على قول محمّد ، وهو الّذي اختاره الطّحاويّ ، لعموم البلوى .
78 - وإذا اشترى الثّمرة مطلقاً ، فلم يشترط التّرك ولا القطع ، ولم يتناه عظمها ، ثمّ تركها : فإن كان التّرك بإذن مجرّد من البائع ، طاب له الفضل والأكل . وإن كان التّرك بإذن في ضمن الإجارة ، بأن استأجر الأشجار إلى وقت الإدراك ، طاب له الفضل أيضاً ، لأنّ الإجارة باطلة ، لعدم التّعارف بين النّاس على استئجار الأشجار ، ولعدم حاجة المشتري إلى استئجار الأشجار ، لأنّه يمكنه شراء الثّمار مع أصولها ، والأصل في القياس بطلان الإجارة ، وأجيزت شرعاً للحاجة فيما فيه تعامل ، ولا تعامل في إجارة الأشجار المجرّدة ، فبقي الإذن . أمّا لو تركها بغير إذنه ، فإنّه يتصدّق بما زاد في ذاته ، لحصوله بجهة محظوره ، وهي حصولها بقوّة الأرض المغصوبة ، فيقوّم ذلك قبل الإدراك وبعده ، ويتصدّق بفضل ما بينهما . أمّا إذا اشترى الثّمرة بعدما تناهى عظمها ، وتركها ، فإنّه لا يلزمه أن يتصدّق بشيء ، لأنّ هذا تغيّر حالة ، لا تحقّق زيادة .
هل يشترط لصحّة بيع الثّمر بدوّ صلاح كلّه ؟
79 - يمكن القول بوجه عامّ ، أنّه يكفي لصحّة البيع بدوّ صلاح بعضه – وإن قلّ – لبيع كلّه ، بشرط اتّحاد العقد والجنس والبستان ، والحمل عند بعض الفقهاء - كالشّافعيّة - أو الجنس عند آخرين - كالمالكيّة - وإن شرط بعضهم خلافاً لآخرين صلاح كلّه ، فلا يجوز عنده إلاّ بيع ما بدا صلاحه . وفي المسألة تفصيل نذكره فيما يلي :
أوّلاً : إن كانت شجرة واحدة ، وبدا الصّلاح في بعض ثمرها ، جاز بيع جميعها بذلك ، قال ابن قدامة : ولا أعلم فيه اختلافاً .
ثانياً : وإن بدا الصّلاح في شجرة واحدة ، فهل يجوز بيع سائر ما في البستان من ذلك النّوع ؟ فيه قولان : الأوّل : مذهب الجمهور ، ومنهم مالك والشّافعيّ ومحمّد بن الحسن ، وهو الأظهر من مذهب الحنابلة : أنّه يجوز بيع جميع الثّمر من ذلك النّوع ، ووجهه :
- أنّه بدا الصّلاح من نوعه من البستان الّذي هو فيه ، فجاز بيع جميعه ، كالشّجرة الواحدة . - وأنّ اعتبار بدوّ الصّلاح في جميعه يشقّ ، ويؤدّي إلى الاشتراك واختلاف الأيدي ، فوجب أن يتبع الّذي لم يبد صلاحه ما بدا صلاحه . والمالكيّة شرطوا في هذه الصّورة ، أن لا تكون النّخلة باكورةً ، وهي الّتي تسبق بالزّمن الطّويل ، بحيث لا يحصل معه تتابع الطّيّب ، فإن كانت باكورةً لم يجز بيع ثمار البستان بطيّبها ، ويجوز بيعها وحدها .
الآخر : هو رواية عن الإمام أحمد - وهو المتبادر من كلام الحنفيّة ، والمعتمد عند الشّافعيّة - أنّه لا يجوز إلاّ بيع ما بدا صلاحه .
لأنّ ما لم يبد صلاحه داخل في عموم النّهي ، ولأنّه لم يبد صلاحه ، فلم يجز بيعه من غير شرط القطع ، فأشبه الجنس الآخر ، وأشبه الجنس الّذي في البستان الآخر - كما سيأتي -
80 - ثالثاً : إن بدا الصّلاح في شجرة واحدة ، أو أشجار من نوع ما ، فهل يجوز بيع ما في البستان من نوع آخر من ذلك الجنس ؟ في هذه الصّورة أوجه :
الوجه الأوّل : لبعض أصحاب الشّافعيّ ، هو قول القاضي من الحنابلة ، أنّه لا يتبعه ، قرّر ابن قدامة أنّه الأولى ، وذلك :
- لأنّ النّوعين قد يتباعد إدراكهما ، فلم يتبع أحدهما الآخر في بدوّ الصّلاح ، كالجنسين .
- ولأنّ المعنى هنا هو تقارب إدراك أحدهما من الآخر ، ودفع الضّرر الحاصل بالاشتراك ، واختلاف الأيدي ، ولا يحصل ذلك في النّوعين ، فصارا في هذا كالجنسين .
الوجه الثّاني : لمحمّد بن الحسن ، وهو أنّ ما كان متقارب الإدراك ، فبدوّ صلاح بعضه يجوز به بيع جميعه ، وإن كان يتأخّر إدراك بعضه تأخّراً كثيراً ، فالبيع جائز فيما أدرك ، ولا يجوز في الباقي .
الوجه الثّالث : لبعض أصحاب الشّافعيّ ، ولأبي الخطّاب من الحنابلة ، وهو أنّه يجوز بيع ما في البستان من ذلك الجنس ، قاسوه على إكمال النّصاب في الزّكاة ، فإنّ الجنس الواحد يضمّ بعضه إلى بعض في التّكميل ، فيتبعه في جواز البيع ، ويصبح كالنّوع الواحد .
81 - رابعاً : إن بدا صلاح الثّمر في أحد بستانين ( متقاربين ) من دون الآخر ، وقد باعهما في عقد واحد ، والثّمرة من نوع واحد ، ففيه وجهان :
أحدهما : مذهب مالك ، وقول للشّافعيّة ، وهو رواية عن الإمام أحمد : أنّ بدوّ الصّلاح في شجرة من القراح ( المزرعة ) صلاح له ولما قاربه وجاوره ، فيتبعه ، وذلك : لأنّهما يتقاربان في الصّلاح ، فأشبها القراح الواحد . ولأنّ المقصود الأمن من العاهة ، وقد وجد . ولاجتماعهما في صفقة واحدة . والمالكيّة فسّروا القرب هنا والجوار ، بتلاحق الطّيّب بالطّيّب عادةً ، أو بقول أهل المعرفة .
وابن كنانة منهم عمّم الحكم في البساتين ، وإن كان ممّا لا يتلاحق طيّبة بطيّبة .
وابن القصّار عمّم الحكم في غير المتجاورات من البساتين ، فشمل البلد .
ولهم قولان في اشتراط تلاصق البساتين ، لكنّهم استظهروا أنّه لا يشترط أن تكون البساتين المجاورة ملكاً لصاحب البستان الّذي فيه الشّجرة الباكورة الّتي بدا صلاحها . لكنّهم قصروا هذا الحكم على الثّمار ، ومثلها المقثأة ، أمّا الزّروع فلا بدّ فيها من يبس جميع الحبّ .
الآخر : أن لا يتبع أحد البستانين الآخر ، وهذا هو الأصحّ والمعتمد عند الشّافعيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة ، ولو كانا متقاربين ، وذلك :
- لأنّ من شأن اختلاف البقاع اختلاف وقت التّأبير - كما يقول الشّافعيّة - فلا بدّ من شرط القطع في البستان الآخر .
- أنّ إلحاق ما لم يبد صلاحه بالّذي بدا صلاحه ، هو لدفع ضرر الاشتراك ، واختلاف الأيدي ، وهذا الضّرر منتف في البستان الآخر ، فوجب امتناع التّبعيّة ، كما هو الشّأن في البستانين المتباعدين .
82 - خامساً : إن بدا الصّلاح في جنس من الثّمر ، لم يكف في حلّ بيع ما لم يبد صلاحه من جنس آخر ، فبدوّ صلاح البلح لا يكفي في حلّ بيع نحو العنب ، وإذا كان في البستان عنب ورمّان ، فبدا صلاح العنب ، لا يجوز بيع الرّمّان حتّى يبدو صلاحه - نصّ على هذا المالكيّة ، وهو متّفق عليه ، فلو باع كذلك وجب شرط القطع في ثمر الآخر .
83 - ألحق الفقهاء المقاثي بالثّمر ، في الاكتفاء ببدوّ بعضها ، لجواز بيع كلّها ، وذلك بأن تكبر وتطيب للأكل ، وصرّح المالكيّة بأنّ هذا الحكم مختصّ بهما ، فأمّا الزّرع فلا يكفي في حلّ بيعه يبس بعضه ، بل لا بدّ من يبس جميع حبّه ، وذلك :
- لأنّ حاجة النّاس لأكل الثّمار رطبةً للتّفكّه بها أكثر .
- ولأنّ الثّمر إذا بدا صلاح بعضه ، يتبعه الباقي سريعاً غالباً ، ومثله نحو القثّاء ، بخلاف الزّرع ، وليست الحبوب كذلك ، لأنّها للقوت لا للتّفكّه .
وبقي الشّافعيّة والحنابلة على الأصل ، وهو الاكتفاء في الحبّ ببدوّ صلاح بعضه وإن قلّ ، بل صرّح ابن حجر بالاكتفاء باشتداد بعض الحبّ ، ولو سنبلةً واحدةً ، ووجهه : أنّ اللّه تعالى امتنّ علينا بطيب الثّمار على التّدريج ، إطالةً لزمن التّفكّه ، فلو شرط طيب جميعه ، لأدّى إلى أن لا يباع شيء ، لأنّ السّابق قد يتلف ، أو تباع الحبّة ، بعد الحبّة ، وفي كلّ حرج شديد .
84 - ولم يواجه الحنفيّة هذه المسألة ، وهي اشتراط بدوّ صلاح كلّ الثّمر لصحّة بيعه ، ولا التّفصيلات الّتي تندرج فيها ، لأنّ مذهبهم في أصلها ، وهو بيع الثّمر قبل بدوّ صلاحه ( وكذا الحبّ ونحوه ) أنّه إن كان بحيث ينتفع به ، ولو علفاً للدّوابّ ، فالبيع جائز باتّفاق أهل المذهب إذا باع بشرط القطع أو مطلقاً ، ويجب قطعه على المشتري في الحال .
وكلّ الّذي تقدّم من خلاف الأئمّة الثّلاثة في اشتراط صلاح كلّ الثّمر ، وصلاح كلّ الحبّ ، إنّما هو فيما ينتفع به عند الحنفيّة ، وكلّه جائز البيع عندهم .
وإنّما اختلف الحنفيّة فيما لا ينتفع به ، أكلاً ولا علفاً ، قبل بدوّ الصّلاح : فذهب السّرخسيّ ( وشيخ الإسلام خواهر زاده ) إلى عدم الجواز في هذه الجزئيّة ، للنّهي وعدم التّقوّم ، والصّحيح في المذهب - والأصحّ عند المرغينانيّ - جواز بيعه أيضاً ، لأنّه ينتفع به مآلاً ، وإن لم ينتفع به حالاً ، باعتباره مالاً . لهذا لم يبحث الحنفيّة شرطيّة بدوّ صلاح كلّ الثّمر ولا بعضه ( وكذا الحبّ ) وعبارة متونهم في هذا صريحة ، ونصّها :
ومن باع ثمرةً لم يبد صلاحها ، أو قد بدا ، جاز البيع ، وعلى المشتري قطعها في الحال ، وإن شرط تركها على النّخل فسد البيع ، وقيل : لا إذا تناهت ، وبه يفتى .
بيع المتلاحق من الثّمر ونحوه :
85 - ويتّصل ببيع الثّمر قبل بدوّ صلاحه - على الخلاف الّذي فيه - مسألة ما إذا باع ثمرةً قد بدا صلاحها ، وكانت ممّا تطعم بطناً بعد بطن . ويغلب تلاحق ثمرها ، ويختلط ما يحدث منها بالموجود ، كالتّين والقثّاء والبطّيخ ، وكذا في الزّرع كالبرسيم ( وهو الفصفصة ) وكذا في الورد ونحوه ، وتعرف بمسألة الثّمر المتلاحق ، وفيها بعض الخلاف .
- أ - فمذهب جمهور الفقهاء ، من الشّافعيّة والحنابلة ، وظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، وهو الأصحّ عندهم قياساً : أنّه لا يصحّ بيعه ، وذلك : لعدم القدرة على التّسليم لتعذّر التّمييز ، فأشبه هلاكه قبل التّسليم ، كما يقول المرغينانيّ والكمال من الحنفيّة ، واقتصر على صدر التّعليل القاضي زكريّا الأنصاريّ من الشّافعيّة ، وعلّله السّرخسيّ بأنّه جمع في العقد بين الموجود والمعدوم ، والمعدوم لا يقبل البيع ، وحصّة الموجود غير معلومة .
وعلّله الحنابلة بأنّه ثمرة لم تخلق ، فلم يجز بيعها ، كما لو باعها قبل ظهور شيء منها ، والحاجة تندفع ببيع أصوله . وما لم يخلق من ثمرة النّخل ، لا يجوز بيعه تبعاً لما خلق ، وإن كان ما لم يبد صلاحه يجوز بيعه تبعاً لما بدا صلاحه ، لأنّ ما لم يبد صلاحه يجوز إفراده بالبيع في بعض الأحوال كما تقدّم ، وأمّا ما لم يخلق فلا .
86 - ب - ومذهب مالك جوازه ، وهو أيضاً ما أفتى به بعض الحنفيّة كالحلوانيّ وأبي بكر محمّد بن الفضل البخاريّ وآخرين استحساناً ، وذلك بجعل الموجود أصلاً في العقد ، وما يحدث بعده تبعاً له ، من غير تقييد بكون الموجود وقت العقد أكثر . ورجّحه ابن عابدين ووجّهه . ووجه الاستحسان هو تعامل النّاس ، فإنّهم تعاملوا ببيع ثمار الكرم بهذه الصّفّة ، ولهم في ذلك عادة ، وفي نزع النّاس من عادتهم حرج .
وقد روي عن الإمام محمّد - رحمه الله - أنّه أجاز بيع الورد على الأشجار ، ومعلوم أنّ الورد لا يتفتّح جملةً ، بل يتلاحق بعضه إثر بعض . وبدا من هذا أنّ جواز بيع المتلاحقات هو من قبيل استحسان الضّرورة ، عند من أفتى به من الحنفيّة .
والّذين ذهبوا مذهب الجمهور في عدم جواز هذا البيع تمسّكوا بالنّصوص ، ونفوا الضّرورة هنا : - لجواز أن يبيع البائع الأصول .
- أو يشتري المشتري الموجود ببعض الثّمن ، ويؤخّر العقد في الباقي إلى وقت وجوده .
- أو يشتري الموجود بجميع الثّمن ، ويبيح البائع للمشتري الانتفاع بما يحدث منه .
ولهذا قرّروا أنّه لا ضرورة إلى تجويز العقد في المعدوم مصادماً للنص ، وهو : النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان .وفي هذا يقول ابن عابدين رحمه الله تعالى : لا يخفى تحقق الضرورة في زماننا ، ولا سيما في مثل دمشق الشام ، كثيرة الأشجار والثمار ، فإنه لغلبة الجهل على الناس ، لايمكن إلزامهم بالتخلص بأحد الطرق المذكورة ، وإن أمكن ذلك بالنسبة إلى بعض أفراد الناس لا يمكن بالنسبة إلى عامتهم ، وفي نزعهم عن عادتم حرج - كما علمت - ويلزم تحريم أكل الثمار في هذه البلدان ، إذ لا تباع إلا كذلك .
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما رخص في السلم للضرورة ، مع أنه بيع المعدوم ، فحيث تحققت الضرورة هنا أيضاً ، أمكن إلحاقه بالسلم بطريق الدلالة ، فلم يكن مصادماً للنص ، فلذا جعلوه من الاستحسان ، لأن القياس عدم الجواز . وظاهر كلام الفتح الميل
إلى الجواز ، ولذا أورد له الرواية عن محمد ، بل إن الحلواني رواه عن أصحابنا ، وما ضاق الأمر إلا اتسع ، ولا يخفى أن هذا مسوغ للعدول عن ظاهر الرواية .
87 - المالكية ، القائلون بالجواز ، قسموا هذه المتلاحقات ، وهي ذات البطون ، إلى قسمين : - ما تتميز بطونه . - وما لا تتميز بطونه .
والذي لا تتميز بطونه قسمان : ماله آخر ، وما لا آخر له .
وفيما يلي أحكامها :
أولاً :ما تتميز بطونه ، وهو المنفصل غير المتتابع . وذلك في الشجر الذي يطعم في السنة بطنين متميزين . فهذا لا يجوز أن يباع البطن الثّاني بعد وجوده وقبل صلاحه ببدوّ صلاح البطن الأوّل ، وإن كان لا ينقطع الأوّل حتّى يبدو طيب الثّاني . وهذا هو المشهور عندهم . وحكى ابن رشد قولاً بالجواز ، بناءً على أنّ البطن الثّاني يتبع الأوّل في الصّلاح ، لكن ابن جزيّ جعل عدم الجواز في هذه الصّورة اتّفاقاً .
ثانياً : ما يخلف ويطعم بطناً بعد بطن ، ولا تتميّز بطونه ، وله آخر . ( أي نهاية ينتهي إليها ) كالورد والتّين ، وكالمقاثئ من الخيار والقثّاء والبطّيخ والجمّيز والباذنجان وما أشبه ذلك ، فهذا يجوز بيع سائر البطون ببدوّ صلاح الأوّل . قال ابن جزيّ : خلافاً لهم ، أي للأئمّة الثّلاثة . فمن اشترى شيئاً من المذكورات ، يقضي له بالبطون كلّها ، ولو لم يشترطها في العقد . ولا يجوز في هذا التّوقيت بشهر ونحوه ، لاختلاف حملها بالقلّة والكثرة .
ثالثاً : ما يخلف ويطعم بطناً بعد بطن ، ولا تتميّز بطونه وهي متتابعة ، لكن لا آخر ولا نهاية له ، أي أنّ إخلافه مستمرّ ، فكلّما قطع منه شيء خلفه غيره ، وليس له آخر ينتهي إليه ، وهو مستمرّ طول العام ، كالموز - في بعض الأقطار - فهذا النّوع لا يجوز بيعه إلاّ بضرب من الأجل ، وهو غاية ما يمكن ، ولو كثر الأجل - على المشهور - خلافاً لابن نافع الّذي حصر الجواز بسنة واحدة ، ولمن نفى الزّيادة على سنتين .
ومثل ضرب الأجل في الجواز ، استثناء بطون معلومة .
ج - بيع السّنين :
88 - روى جابر رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السّنين » . والمراد به أن يبيع ما سوف تثمره نخلة البائع سنتين أو ثلاثاً أو أكثر ، وذلك لما فيه من الغرر ، فهو أولى بالمنع من منع بيع الثّمار قبل أن يبدو صلاحها .
د - بيع السّمك في الماء :
89 - وممّا ورد النّهي عن بيعه للغرر : السّمك في الماء . وذلك في حديث ابن مسعود رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : لا تشتروا السّمك في الماء ، فإنّه غرر » . وجمهور الفقهاء متّفقون على أنّه لا يصحّ بيعه قبل اصطياده ، كما لا يصحّ بيعه إذا صيد ثمّ ألقي في الماء بحيث لا يمكن أخذه إلاّ بمشقّة ، وأنّه فاسد ، لأنّه بيع ما لم يملك ، وفيه غرر كثير فلا يغتفر إجماعاً ، ولأنّه لا يقدر على تسليمه إلاّ بعد اصطياده ، فأشبه الطّير في الهواء ، كما أنّه مجهول فلا يصحّ بيعه ، كاللّبن في الضّرع والنّوى في التّمر .
ومذهب الحنفيّة أنّه باطل - باصطلاحهم فيه - ومنهم من ذهب إلى أنّه فاسد ، إذا بيع بعرض ، لأنّ السّمك يكون حينئذ ثمناً والعرض مبيعاً ، واذا دخلت الجهالة على الثّمن كان البيع فاسداً ، ولم يكن باطلاً . فإن بيع بالدّراهم والدّنانير فهو باطل ، لعدم الملك في المبيع ، إذ يتعيّن كون السّمك حينئذ مبيعاً ، والدّراهم أو الدّنانير ثمناً . وفيه صور من الجواز بشروط خاصّة وأحكام يرجع في تفصيلها إلى موطنه من مصطلح ( غرر ) .
90 - ومثل بيع السّمك في الماء ، بيع الطّير في الهواء ، ولا يختلف الفقهاء في فساده . وللحنفيّة - خلافاً للشّافعيّة والحنابلة - تفصيل بين ما إذا كان يرجع بعد الإرسال فيصحّ ، وبين ما إذا كان لا يرجع بعد الإرسال ، فلا يصحّ .
أمّا بيعه قبل صيده ، فباطل عندهم ، كما هو الإجماع .
وانظر بعض أحكامه ، وتفصيلاته ، وتعليلات الجواز وعدمه في مصطلح ( غرر ، بيع ) .
هـ - بيع العبد الآبق :
91 - ورد في الحديث عن أبي سعيد رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء العبد وهو آبق » فيحرم عند الجمهور بيعه في الجملة .
وأجاز الحنفيّة بيعه ممّن هو عنده ، أو يقدر على أخذه .
وقيّد الشّافعيّة الجواز ببيعه لمن يقدر على ردّه بلا مشقّة لا تحتمل عادةً ، وبلا مؤنة لها وقع . وأطلق الحنابلة عدم الجواز ، ولو علم مكانه أو قدر على تحصيله ، فإن حصل في يد إنسان ، جاز ، لإمكان تسليمه . وقيس عليه : الجمل الشّارد ، والفرس العاشر ، والضّالّ إلاّ من يسهل عليه ردّه والمغصوب إلاّ لقادر على انتزاعه عند الشّافعيّة . وبيعه من الغاصب صحيح قطعاً . وهناك فروع كثيرة ، تراجع في مصطلح : ( بيع ، غرر ) .
و - بيع اللّبن في الضّرع :
92 - ورد في النّهي عنه حديث ابن عبّاس رضي الله عنه ، قال : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يباع ثمر حتّى يطعم ، أو صوف على ظهر ، أو لبن في ضرع ، أو سمن في لبن » . والشّوكانيّ يصرّح بأنّ الفقهاء مجمعون على فساده للحديث المذكور ، وعلّلوه بأنّه مجهول الصّفّة والمقدار ، فأشبه الحمل .
وتردّد الحنفيّة في القول بفساده لاختلاط الملكين ، أو بطلانه للشّكّ في وجوده .
ووضع ابن الهمام من الحنفيّة لهذا وأمثاله ضابطاً ، وهو : أنّ كلّ ما بيع بغلافه لا يجوز باستثناء الحبوب في قشرها ، وتفصيل أحكامه في ( بيع ، غرر ) .
ز - بيع الصّوف وهو على الظّهر :
93 - ورد فيه الحديث المتقدّم آنفاً . ( ف ) . وممّن نصّ على فساده الحنفيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة . وذهب أبو يوسف إلى جوازه ، وهو رواية أيضاً عن الإمام أحمد ، بشرط جزّه في الحال ، وقال المرداويّ : فيه قوّة .
وذهب المالكيّة إلى جوازه بشرط جزّه خلال أيّام قليلة كنصف شهر .
وحجّة القائلين بالفساد : النّهي الوارد فيه ، وأنّه من أوصاف الحيوان وهي لا تفرد بالبيع ، واختلاط المبيع بغيره لأنّه ينبت من الأسفل ، أو اتّصاله بالحيوان فلم يجز إفراده كأعضائه ، أو الجهالة والتّنازع في موضع القطع . وأبو يوسف - رحمه الله - يقيسه على بيع القصيل ( الفصفصة ، أو البرسيم ) وفسّر بأنّه الشّعير يجزّ أخضر لعلف الدّوابّ . وفيه تفصيلات وصور تراجع في مصطلح ( بيع ، غرر ، جهالة ) .
ح - بيع السّمن في اللّبن :
94 - ورد في النّهي عنه حديث ابن عبّاس رضي الله عنه المتقدّم « ... أو سمن في لبن » ولا يصحّ هذا البيع ، وذلك لاختلاط المبيع بغيره بحيث لا يمتاز عنه ، وفيه جهالة وغرر ، ثمّ هو من الأشياء الّتي في غلفها ، والّتي لا يمكن أخذها وتسليمها إلاّ بإفساد الخلقة .
كما يقول ابن الهمام من الحنفيّة باستثناء الحبوب ، فلا يصحّ بيعه .
ط - الثّنيا أو استثناء المجهول في البيع :
95 - ورد فيها حديث جابر رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن المحاقلة ، والمزابنة ، والثّنيا ، إلاّ أن تعلم » ومعنى الثّنيا : الاستثناء ، وهي في البيع : أن يبيع شيئاً ويستثني بعضه ، فإن كان المستثنى معلوماً ، كشجرة معلومة من أشجار بيعت ، صحّ البيع . وإن كان مجهولاً كبعض الأشجار ، لم يصحّ .
فوضع الفقهاء لذلك هذه القاعدة ، وهي : أنّ ما جاز إيراد العقد عليه بانفراده صحّ استثناؤه منه . وعلّق عليها ابن عابدين قوله : هذه قاعدة مذكورة في عامّة المعتبرات ، مفرّع عليها مسائل . وأشار الشّافعيّة أيضاً إلى هذه القاعدة ، وكذا الحنابلة ، وسمّاها صاحب الشّرح الكبير ضابطاً . فقال : وضابط هذا الباب أنّه لا يصحّ استثناء ما لا يصحّ بيعه منفرداً .
96 - وإليك بعض التّطبيقات :
- أ - لو باع هذا القطيع إلاّ شاةً غير معيّنة ، لم يصحّ في قول أكثر أهل العلم ، وذلك للحديث المذكور في النّهي عن بيع الثّنيا إلاّ أن تعلم ، ولأنّه مبيع مجهول فلم يصحّ ، فصار كما لو قال : بعتك شاةً تختارها من هذا القطيع . وكذلك لو باع بستاناً إلاّ شجرةً غير معيّنة . ومالك - رحمه الله - أجاز ذلك ، فللبائع عنده أن يبيع البستان ، ويستثني خمساً من شجراته ، لأنّ البائع - في الغالب - يعرف جيّد شجر بستانه ورديئه ، فلا يتوهّم فيه أنّه يختار ثمّ ينتقل ، بخلاف المشتري الّذي يتوهّم فيه التّنقّل من واحدة إلى أخرى ، ويؤدّي إلى التّفاضل بين الطّعامين إن كانا ربويّين أو أحدهما ، لأنّ المنتقل إليه يحتمل أن يكون أقلّ من المنتقل عنه أو أكثر أو مساوياً ، والشّكّ في التّماثل كتحقّق التّفاضل ، ويؤدّي إلى بيع الطّعام قبل قبضه إن كانا مكيلين أو أحدهما .
- ب - لو باع هذه الصّبرة من القمح ونحوه ، إلاّ قفيزاً أو رطلاً :
- جاز ذلك عند الحنفيّة ومالك ، وهو رواية عن أحمد ، لأنّ الثّنيا هنا معلومة ، فصار كما لو استثنى منها جزءاً مشاعاً - كما سيأتي -
- ومذهب أحمد أنّه لا يجوز ، لأنّ المبيع إنّما علم بالمشاهدة لا بالقدر ، والاستثناء يغيّر حكم المشاهدة ، لأنّه لا يدري كم يبقى في حكم المشاهدة ، فلم يجز .
- ج - لو باع هذا القطيع إلاّ شاةً معيّنةً ، أو باع هذا البستان إلاّ شجرةً بعينها جاز ذلك ، لأنّ المستثنى معلوم ، ولا يؤدّي إلى الجهالة . والمبيع معلوم بالمشاهدة ، لكون المستثنى معلوماً ، فانتفى المفسد .
- د - لو باع الصّبرة إلاّ أرطالاً معلومةً : - جاز عند الحنفيّة ، لأنّه يصحّ إيراد العقد عليها ، إذا علم أنّه يبقى أكثر من المستثنى ، ويكون استثناء القليل من الكثير ، كما لو استثنى رطلاً واحداً . وكذا يصحّ عندهم لو كان استثناء الأرطال المعلومة من ثمر على رءوس النّخل ، في ظاهر الرّواية .
- وعند أحمد - وهو رواية عن أبي حنيفة ، وهي الأقيس بمذهبه - لا يجوز هنا كما في الصّورة الأولى ، إن جهل المتعاقدان كمّيّة أرطالها ، لأنّ الجهل بذلك يؤدّي إلى الجهل بما يبقى بعد المستثنى .
- هـ - لو استثنى جزءاً غير معيّن بل شائعاً ، كربع وثلث ، فإنّه صحيح بالاتّفاق ، للعلم بالمبيع في أجزائه ، ولصحّة إيراد العقد عليها . ولو باعه أرضاً أو داراً أو ثوباً، إلاّ ذراعاً : - فمذهب الشّافعيّة والحنابلة ، وأحد قولين للصّاحبين من الحنفيّة أنّه : إذا كان المتعاقدان يعلمان عدّة أذرع الأرض أو الدّار أو الثّوب ، كعشرة - مثلاً - صحّ البيع ، وكان المذكور مشاعاً فيها ، كأنّه استثنى العشر ، وإن كانا لا يعلمان ( كلاهما أو أحدهما ) لم يصحّ ، لأنّ المبيع ليس معيّناً ولا مشاعاً ، فيكون مجهولاً .
97 - ويمكن تطبيق قاعدة : ما جاز إيراد العقد عليه بانفراده صحّ استثناؤه من العقد ، على هذه الصّورة كما ذكرها الحنفيّة ، وهي : ما إذا باعه عشرة أذرع من دار أو أرض هي مائة ذراع ، سواء أكانت تحتمل القسمة أم لا :
- فأبو حنيفة لا يجيز العقد لجهالة الموضع ، لأنّ البيع وقع على قدر معيّن من الأرض لا على شائع ، والدّار تتفاوت جوانبها وأجزاؤها ، وهذه جهالة مفضية إلى النّزاع ، وإذا لم يصحّ إيراد العقد عليه لم يصحّ استثناؤه من العقد ، بخلاف مسألة الصّبرة ، لعدم تفاوت أجزائها .
- والصّاحبان يقولان : إذا سمّى جملة الذّرعان صحّ ، وإلاّ لم يصحّ ، للجهالة - كما تقدّم-
- والصّحيح من مذهبهما جواز العقد ، وإن لم يبيّنا جملة مساحة الأرض بالذّرعان ، لأنّ هذه الجهالة بيدهما إزالتها فتقاس وتعلم نسبة العشرة المبيعة منها ، ويكون البيع شائعاً في الأرض كلّها . وإذا صحّ إيراد العقد على العشرة ، جاز استثناؤها منه .
98 - لو باع شاةً واستثنى حملها لم يصحّ البيع اتّفاقاً ، وكذا لو استثنى بعض أعضائها ، لأنّه لا يجوز إفراد المذكور بالعقد ، فكذا لا يجوز استثناؤه منه ، فصار شرطاً فاسداً - كما يقول ابن عابدين - وفيه منفعة للبائع ، فيفسد البيع .
وجوّز الحنابلة استثناء رأس الحيوان المأكول ، وجلده وسواقطه وسلبه وأطرافه ، لأنّ
« النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا خرج من مكّة - أي مهاجراً - إلى المدينة ، ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة رضي الله عنهما مرّوا براعي غنم ، فاشتريا منه شاةً ، وشرطا له سلبها » ويلحق الحضر بالسّفر عندهم كما نصّوا عليه .
وعن مالك صحّة استثناء المذكورات في السّفر دون الحضر ، لأنّ المسافر لا يمكنه الانتفاع بالجلد والسّواقط ، فجوّز له شراء اللّحم دونها .
أسباب النّهي غير العقديّة :
99 - ويراد بها : ما لا يتعلّق بمحلّ العقد ، ولا بوصف ملازم للعقد بحيث لا ينفكّ عنه ، بل يتعلّق بأمر خارج عن ذلك ، فما هو بركن ولا بشرط .
ويمكن تقسيم هذه الأسباب إلى هذين النّوعين :
النّوع الأوّل : ما يؤدّي إلى تضييق أو إيذاء أو ضرر : مادّيّ أو معنويّ ، خاصّ أو عامّ . وذلك كالغبن ، وبيع المسلم على بيع أخيه ، وبيع السّلاح من أهل الحرب .
النّوع الآخر : ما يؤدّي إلى مخالفة دينيّة بحتة ، أو عباديّة محضة ، كالبيع عند أذان الجمعة ، وبيع المصحف من الكافر .
النّوع الأوّل : الأسباب الّتي تؤدّي إلى الضّرر المطلق
100 - من أهمّ ما يشمله هذا النّوع ، البيوع الآتية :
أ - التّفرقة بين الأمّ وبين ولدها في بيع الرّقيق :
101 - اتّفق الفقهاء على منع هذا البيع ، لثبوت النّهي عنه في السّنّة فمن ذلك : حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « ملعون من فرّق بين والدة وولدها » .
وحديث أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « من فرّق بين والدة وولدها ، فرّق اللّه بينه وبين أحبّته يوم القيامة » .
مذاهب الفقهاء في حكم هذا التّفريق :
102 - هذا التّفريق غير جائز - بوجه عامّ ، وعلى التّفصيل الآتي في أحواله - عند عامّة الفقهاء :
مذهب الجمهور : مالك ، والشّافعيّ وأحمد أنّ التّفريق بالبيع حرام .
وعند مالك : يجب فسخه ، وإن لم يمكن جمعهما في حوز ( أو ملك واحد ) . على تفصيل بين عقود المعاوضات وغيرها سيأتي :
وعندهما ( الشّافعيّ وأحمد ) : البيع باطل . وفي قول للشّافعيّة : يمنع من التّفريق .
ومذهب أبي حنيفة ومحمّد ، أنّ البيع جائز مفيد للحكم بنفسه ، لكنّه مكروه ، والبائع آثم بالتّفريق . ومذهب أبي يوسف أنّ البيع فاسد في الوالدين والمولودين ، جائز في سائر ذوي الأرحام . وروي عنه أنّ البيع فاسد في جميع ذلك . وتفصيل أدلّة هذه الاتّجاهات تنظر في مصطلح ( رقّ ) .
103 - هذا ومذهب الحنفيّة والحنابلة تعميم التّحريم ، بحيث يشمل كلّ تفريق بين كلّ ذي رحم محرم . ومذهب المالكيّة قصره على التّفريق بالبيع بين الأمّ الوالدة وبين ولدها الصّغير الّذي لم يثغر ( أي لم يبدّل أسنانه ) فقط .
والشّافعيّة قصروه على قرابة الولاد مهما نزل ، إذا كان الولد صغيراً حتّى يميّز ويستقلّ بنفسه ، في طعامه وشرابه ، ولو لم يبلغ سبع سنين . وتفصيل الأدلّة في مصطلح ( رقّ ) .
حكم التّفرقة بين الحيوان الصّغير وبين أمّه :
104 - الرّاجح عند المالكيّة ، جواز التّفرقة بين الحيوان البهيميّ وبين أمّه ، وأنّ التّفريق الممنوع خاصّ بالعاقل . ويروى عن ابن القاسم منهم : المنع من التّفرقة بين الأمّ وبين ولدها في الحيوان أيضاً ، وهو ظاهر الحديث ، حتّى يستغني عن أمّه بالرّعي .
فعلى هذا ، لو فرّق بينهما بالبيع لم يفسخ . ويجبران على جمعهما في حوز ، وليس هذا كتفريق العاقل .
105 - وهذا الّذي منع منه ابن القاسم ، هو مذهب الشّافعيّة أيضاً ، الّذين نصّوا على أنّ التّفريق بين البهيمة وولدها حرام . ثمّ فصّلوا في المسألة ، وقالوا :
يكره ذبح الأمّ الّتي استغنى الولد عن لبنها ، ويحرم ذبحها إن لم يستغن عن لبنها ، ولا يصحّ البيع ولا التّصرّف ، ولو لم يكن الحيوان مأكولاً وذبح الصّغير وهو مأكول حلال قطعاً . وبيعه ممّن يظنّ أنّه يذبحه قبل استغنائه ، وكذلك بيع الأمّ قبل استغنائه باطل - وإن قال ابن حجر بحلّه - لأنّه ربّما لا يقع الذّبح حالاً أو أصلاً ، فيوجد المحذور ، وشرط الذّبح على المشتري غير صحيح . نعم ، إذا علم المشتري أنّ البائع نذر ذبحه ، وشرط البائع على المشتري الذّبح ، صحّ البيع وكان ذلك افتداءً ، ووجب على المشتري ذبحه ، فإن امتنع ذبحه القاضي ، وفرّقه الذّابح على الفقراء . وبيع الولد المستغني عن أمّه مكروه إلاّ لغرض الذّبح . وذبحهما كليهما لا يحرم . ولم نجد للحنفيّة والحنابلة كلاماً في هذه المسألة .
ب - بيع العصير لمن يتّخذه خمراً :
106 - المراد بالعصير : عصير العنب ، أي معصوره المستخرج منه .
وقد ذهب الفقهاء مذاهب مختلفة في الحكم التّكليفيّ في هذه الجزئيّة .
فذهب المالكيّة والحنابلة إلى حرمة هذا البيع ، وهو الأصحّ والمعتمد عند الشّافعيّة إن كان يعلم أو يظنّ أيلولته إلى الخمر ، فإن شكّ كره . ونحوه قول للصّاحبين - أشار الحصكفيّ لتضعيفه - بأنّه مكروه ، والكراهة إن أطلقت عند الحنفيّة للتّحريم .
وعبارة المالكيّة : وحرّم على المكلّف بيع العنب لمن يعلم أنّه يعصره خمراً . وقد استدلّوا بقوله تعالى : { ولا تَعَاونوا على الإِثمِ والعُدوانِ } قال ابن قدامة : وهذا نهي يقتضي التّحريم . واستدلّوا كذلك بحديث « لعنت الخمر على عشرة أوجه : بعينها ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وآكل ثمنها ، وشاربها ، وساقيها » . ووجه الاستدلال كما يقول عميرة البرلّسيّ : أنّه يدلّ على تحريم التّسبّب إلى الحرام .
ولما روي عن ابن سيرين ، أنّ قيّماً كان لسعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه في أرض له ، فأخبره عن عنب أنّه لا يصلح زبيباً ، ولا يصلح أن يباع إلاّ لمن يعصره ، فأمره بقلعه ، وقال : بئس الشّيخ أنا إن بعت الخمر . ولأنّه يعقد البيع على عصر لمن يعلم أنّه يريده للمعصية ، فأشبه إجارة الرّجل أمته لمن يعلم أنّه يستأجرها ليزني بها .
والقول الآخر للشّافعيّة : أنّه مكروه . والبيع صحيح على القولين .
وذهب أبو حنيفة إلى أنّ هذا البيع جائز ، وحكاه ابن المنذر عن الحسن وعطاء والثّوريّ ، ونقل عن هذا قوله : " بع الحلال ممّن شئت " واستدلّوا بقوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللّه البيعَ } وقد تمّ بأركانه وشروطه .
ولأنّ المعصية لا تقوم بعينه ، بل بعد تغيّره بشربه ، وهو فعل فاعل مختار ، وليس الشّرب من ضرورات الحمل ، لأنّ الشّرب قد يوجد بدون الحمل ، وليس الحمل من ضرورات الشّرب ، لأنّ الحمل قد يوجد للإراقة والتّخليل بالصّبّ في الخلّ ، فليست المعصية من لوازم الحمل ، وصار كالاستئجار لعصر العنب ، وهذا قياس وقولهما استحسان كما قال الكرلانيّ . لكن يبدو أنّ المذهب - مع ذلك - أنّه مكروه تنزيهاً ، وأنّه خلاف الأولى ، فقد قال صاحب الهداية : ولا بأس ببيع العصير ممّن يعلم أنّه يتّخذه خمراً وكلمة لا بأس لكراهة التّنزيه ، فتركه أولى . وقول أبي حنيفة هذا ، هو المذهب عند الحنفيّة ، وهو الّذي عليه المتون .
اشتراط علم البائع بقصد المشتري اتّخاذ العصير للخمر :
107 - اشترط الجمهور للمنع من هذا البيع : أن يعلم البائع بقصد المشتري اتّخاذ الخمر من العصير ، فلو لم يعلم لم يكره بلا خلاف ، كما ذكره القهستانيّ من الحنفيّة ، وهو صريح كلام المرغينانيّ الآنف الذّكر . وكذلك قال ابن قدامة : إنّما يحرم البيع إذا علم البائع قصد المشتري ذلك : إمّا بقوله ، وإمّا بقرائن مختصّة به تدلّ على ذلك .
أمّا الشّافعيّة فاكتفوا بظنّ البائع أنّ المشتري يعصر خمراً أو مسكراً ، واختاره ابن تيميّة .
108 - أمّا إذا لم يعلم البائع بحال المشتري ، أو كان المشتري ممّن يعمل الخلّ والخمر معاً ، أو كان البائع يشكّ في حاله ، أو يتوهّم : - فمذهب الجمهور الجواز ، كما هو نصّ الحنفيّة والحنابلة . - ومذهب الشّافعيّة أنّ البيع في حال الشّكّ أو التّوهّم مكروه .
حكم بيع العصير لذمّيّ يتّخذه خمراً :
109 - إنّ مقتضى العموم والإطلاق في منع بيع العصير ممّن يتّخذه خمراً ، وكذا ما علّلته الشّروح - كما يقول ابن عابدين - أنّه لا فرق بين المسلم والكافر في بيع العصير منهما ، وأنّ من ذهب من الفقهاء إلى أنّ الكفّار غير مخاطبين بفروع الشّريعة ، يرون جواز بيع العصير من الكافر . والأصحّ أنّهم مخاطبون ولا فرق ، وصرّح بذلك الحنابلة أيضاً . والشّافعيّة صرّحوا بذلك ، وقالوا بحرمة البيع للعاصر ولو كان كافراً ، لحرمة ذلك عليه ، وإن كنّا لا نتعرّض له بشرطه ، أي عدم إظهاره .
الحكم في بيع العصير وشموله لغيره :
110 - عمّم جمهور الفقهاء الحكم في بيع العصير ممّن يتّخذه خمراً ، ولم يقصروه على العصير ، بل عدّوه إلى العنب نفسه وإلى الرّطب والزّبيب ، فهي مثل العصير في التّحريم ، كلّما قصد بها اتّخاذ الخمر والمسكر .
فقال الشّافعيّة : وبيع نحو رطب ، كعنب ، لمتّخذه مسكراً .
وقال الحنابلة : ولا يصحّ بيع ما قصد به الحرام ، كعنب وكعصير لمتّخذهما خمراً ، وكذا زبيب ونحوه . وقال المالكيّة : وكذا يمنع بيع كلّ شيء ، علم أنّ المشتري قصد به أمراً لا يجوز . وتردّد الحنفيّة في المسألة :
- فذهب صاحب المحيط منهم إلى : أنّ بيع العنب والكرم ممّن يتّخذه خمراً لا يكره .
- ونقل القهستانيّ عن بعضهم : أنّ بيع العنب هو أيضاً على الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه . فعنده لا بأس به ، وهو مكروه تنزيهاً . وعندهما يمنع ، وهو مكروه تحريماً .
حكم بيع العصير لمتّخذه خمراً ، من حيث الصّحّة والبطلان :
111 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة ، والحنابلة في وجه : إلى صحّة هذا البيع . وعلّله الشّافعيّة بأنّ النّهي - المستفاد من حديث لعن العاصر وإن كان يقتضي الكراهة أو التّحريم ، لأنّ البيع سبب لمعصية متحقّقة أو متوهّمة - لا يقتضي البطلان هنا ، لأنّه راجع إلى معنًى خارج عن ذات المنهيّ عنه وعن لازمها ، لكنّه مقترن به ، نظير البيع بعد نداء الجمعة ، فإنّه ليس لذاته لا لازمها ، بل هو لخشية تفويتها .
وذهب المالكيّة إلى : أنّه يجبر المشتري على إخراجه من ملكه ، من غير فسخ للبيع .
أمّا الحنابلة فنصّوا على : أنّه إذا ثبت التّحريم ، بأن علم البائع قصد المشتري الخمر بشراء العنب ، بأيّ وجه حصل العلم ، فالبيع باطل ، وذلك لأنّه عَقَدَ على عينٍ لمعصية اللّه تعالى بها فلم يصحّ ، ولأنّ التّحريم هنا لحقِّ اللّه تعالى فأفسد العقد ، كبيع درهم بدرهمين .
بيع ما يقصد به فعل محرّم :
112 - ذهب الجمهور إلى أنّ كلّ ما يقصد به الحرام ، وكلّ تصرّف يفضي إلى معصية فهو محرّم ، فيمتنع بيع كلّ شيء علم أنّ المشتري قصد به أمراً لا يجوز .
113 - فمن أمثلته عند المالكيّة : بيع الأمة لأهل الفساد ، والأرض لتتّخذ كنيسةً أو خمّارةً ، وبيع الخشب لمن يتّخذه صليباً ، والنّحاس لمن يتّخذه ناقوساً .
قال الدّسوقيّ : وكذا يمنع أن يباع للحربيّين آلة الحرب ، من سلاح أو كراع أو سرج ، وكلّ ما يتقوّون به في الحرب ، من نحاس أو خباء أو ماعون .
وأمّا بيع الطّعام لهم ، فقال ابن يونس عن ابن حبيب : يجوز في الهدنة ، وأمّا في غير الهدنة فلا يجوز . والّذي في المعيار عن الشّاطبيّ : أنّ المذهب المنع مطلقاً ، وهو الّذي عزاه ابن فرحون في التّبصرة ، وابن جزيّ في القوانين لابن القاسم .
وذكر في المعيار أيضاً عن الشّاطبيّ : أنّ بيع الشّمع لهم ممنوع ، إذا كانوا يستعينون به على إضرار المسلمين ، فإن كان لأعيادهم فمكروه .
114 - ومن أمثلته عند الشّافعيّة : بيع مخدّر لمن يظنّ أنّه يتعاطاه على وجه محرّم ، وخشب لمن يتّخذه آلة لهو ، وثوب حرير لرجل يلبسه بلا نحو ضرورة . وكذا بيع سلاح لنحو باغ وقاطع طريق ، وديك لمن يهارش به ، وكبش لمن يناطح به ، ودابّة لمن يحمّلها فوق طاقتها . كما نصّ الشّروانيّ وابن قاسم العبّاديّ على منع بيع مسلم كافراً طعاماً ، علم أو ظنّ أنّه يأكله نهاراً في رمضان ، كما أفتى به الرّمليّ ، قال : لأنّ ذلك إعانة على المعصية ، بناءً على أنّ الرّاجح أنّ الكفّار مخاطبون بفروع الشّريعة .
115 - ومن أمثلته عند الحنابلة : بيع السّلاح لأهل الحرب ، أو لقطّاع الطّريق ، أو في الفتنة ، أو إجارة داره لبيع الخمر فيها ، أو لتتّخذ كنيسةً ، أو بيت نار وأشباه ذلك ، فهذا حرام . قال ابن عقيل : وقد نصّ أحمد رحمه الله تعالى - على مسائل نبّه بها على ذلك ، فقال في القصّاب والخبّاز : إذا علم أنّ من يشتري منه ، يدعو عليه من يشرب المسكر ، لا يبيعه ، ومن يخترط ( يصنع ) الأقداح لا يبيعها ممّن يشرب فيها ( أي الخمر ) ونهى عن بيع الدّيباج ( أي الحرير ) للرّجال .
116 - ذهب أبو حنيفة إلى أنّه : لا يكره بيع ما لم تقم المعصية به ، كبيع الكبش النّطوح ، والحمامة الطّيّارة ، والخشب ممّن يتّخذ منه المعازف . بخلاف بيع السّلاح من أهل الفتنة ، لأنّ المعصية تقوم بعينه ، وهي الإعانة على الإثم والعدوان ، وإنّه منهيّ عنه . بخلاف بيع ما يتّخذ منه السّلاح كالحديد ، لأنّه ليس معدّاً للقتال ، فلا يتحقّق معنى الإعانة .
وذهب الصّاحبان من الحنفيّة ، إلى أنّه لا ينبغي للمسلم أن يفعل ذلك ، لأنّه إعانة على المعصية ، فهو مكروه عندهما ، خلافاً للإمام ، وليس بحرام ، خلافاً لما ذهب إليه الجمهور . وبحث الحنفيّة نظير هذه المسألة في الإجارة ، كما سبق عند الحنابلة ، كما لو آجر شخص نفسه ليعمل في بناء كنيسة ، أو ليحمل خمر الذّمّيّ بنفسه أو على دابّته ، أو ليرعى له الخنازير ، أو آجر بيتاً ليتّخذ بيت نار ، أو كنيسةً أو بيعةً ، أو يباع فيه الخمر ، جاز له ذلك عند أبي حنيفة ، لأنّه لا معصية في عين العمل ، وإنّما المعصية بفعل المستأجر ، وهو فعل فاعل مختار كشربه الخمر وبيعها ، ففي هذا يقول المرغينانيّ : إنّ الإجارة ترد على منفعة البيت ( ونحوه ) ولهذا تجب الأجرة بمجرّد التّسليم ، ولا معصية فيه ، وإنّما المعصية بفعل المستأجر ، وهو مختار فيه ، فقطع نسبته عنه . ويرى الصّاحبان كراهة ذلك ، لما فيه من الإعانة على المعصية . وطرح بعض الحنفيّة هذا الضّابط : وهو أنّ ما قامت المعصية بعينه ، يكره بيعه تحريماً ( كبيع السّلاح من أهل الفتنة ) وما لم تقم بعينه يكره تنزيهاً .
حكم بيع ما يقصد به فعل محرّم ، من حيث الصّحّة والبطلان :
117 - ذهب الجمهور ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ) وهو أيضاً احتمال عند الحنابلة إلى : أنّ البيع صحيح ، لأنّه لم يفقد ركناً ولا شرطاً . غير أنّ المالكيّة نصّوا مع ذلك ، في مسألة بيع السّلاح ، على إجبار المشتري على إخراجه عن ملكه ، ببيع أو هبة أو نحوهما ، من غير فسخ للبيع .
يقول الدّسوقيّ : يمنع أن يباع للحربيّين آلة الحرب ، من سلاح أو كراع أو سرج ، وكلّ ما يتقوّون به في الحرب ، من نحاس أو خباء أو ماعون ، ويجبرون على إخراج ذلك .
كما نصّ القليوبيّ من الشّافعيّة ، على أنّ من باع أمةً لمن يكرهها على الزّنى ، ودابّةً لمن يحمّلها فوق طاقتها ، فللحاكم أن يبيع هذين على مالكهما قهراً عليه . ومذهب الحنابلة أنّ هذا البيع باطل ، لأنّه عقد على عين لمعصية اللّه تعالى بها ، فلم يصحّ .
ج - بيع الرّجل على بيع أخيه :
118 - من صوره أن يتراضى المتبايعان على ثمن سلعة ، فيجيء آخر ، فيقول : أنا أبيعك مثل هذه السّلعة بأنقص من هذا الثّمن ، أو يقول : أبيعك خيراً منها بثمنها أو بدونه - أي بأقلّ منه - أو يعرض على المشتري سلعةً رغب فيها المشتري ، ففسخ البيع واشترى هذه . وقد ثبت النّهي في الصّحيح عن ذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا يبعْ بعضُكم على بيع بعض » . وفي لفظ آخر : « لا يبع الرّجل على بيع أخيه ، ولا يخطب على خطبة أخيه ، إلاّ أن يأذن له » .
وفي لفظ : « لا يبع بعضكم على بيع بعض ، حتّى يبتاع أو يذر » .
وفي لفظ : « لا يبيع الرّجل على بيع أخيه ، ولا يخطب على خطبة أخيه ، إلاّ أن يأذن له » .
وفي لفظ : « لا يبيع بعضكم على بيع أخيه » .
حكمه :
119 - ذهب الشّافعيّة ، وهو وجه محتمل عند الحنابلة إلى : أنّ هذا البيع محرّم ، لكنّه لا يبطل البيع ، بل هو صحيح لرجوع النّهي إلى معنًى خارج عن الذّات وعن لازمها ، إذ لم يفقد ركناً ولا شرطاً ، لكنّ النّهي لمعنًى مقترن به ، وهو خارج غير لازم ، وهو الإيذاء هنا . هذا تعليل الشّافعيّة . وتعليل الحنابلة : أنّ المحرّم هو عرض سلعته على المشتري ، أو قوله الّذي فسخ البيع من أجله ، وذلك سابق على البيع ، ولأنّه إذا صحّ الفسخ الّذي حصل به الضّرر ، فالبيع المحصّل للمصلحة أولى ، ولأنّ النّهي لحقّ آدميّ ، فأشبه بيع النّجش . وذهب الحنفيّة إلى أنّ هذا البيع ونحوه من البياعات مكروه تحريماً ، قال ابن الهمام : هذه الكراهات كلّها تحريميّة ، لا نعلم خلافاً في الإثم ، وذلك للأحاديث المذكورة ، ولما فيه من الإيحاش والإضرار . والمذهب عند الحنابلة : أنّه غير جائز وهو حرام ، ولا يصحّ هذا البيع ، بل هو باطل لأنّه منهيّ عنه ، لما فيه من الإضرار بالمسلم والإفساد عليه ، والنّهي يقتضي الفساد .
120 - وقيّد الشّافعيّة والحنابلة البيع المنهيّ عنه بما يلي :
- 1 - أن يكون البيع على البيع قبل لزوم البيع ، وذلك لبقاء خيار المجلس أو الشّرط ، وكذا بعد اللّزوم في زمن خيار العيب ، إذا اطّلع المشتري على عيب ، على المعتمد عندهم . وهذا معنى قول الحنابلة : أن يكون البيع زمن الخيارين ، فلو حدث بعد مضيّ الخيار ولزوم البيع لا يحرم ، لعدم تمكّن المشتري من الفسخ إذاً ، ولا معنى له .
- 2 - أن يكون البيع على البيع بغير إذنه له - كما قاله القاضي زكريّا - ( أي بغير إذن البائع الأوّل ، للّذي باع على بيع أخيه ) .
وقيّد الحنفيّة منع البيع على بيع غيره بما إذا تراضى المتبايعان على البيع .
121 - وذكر الشّافعيّة بعض الفروع والأحكام ، في هذه الجزئيّة ، فقرّروا :
- أنّ الحرمة ثابتة ، ولو كان المشتري مغبوناً في صفقته ، إذ النّصيحة الواجبة تحصل بالتّعريف من غير بيع . وقيّد القليوبيّ الحرمة بما إذا لم يعلم الرّضا باطناً .
- مثل البيع على البيع ، أن يبيع بائع المشتري في زمن الخيار سلعةً مثل الّتي اشتراها . وسبب المنع الخشية من أن يردّ المشتري بالخيار السّلعة الأولى ، كما نصّ عليه الشّافعيّ رضي الله عنه .
- يمنع البيع على بيع غيره إلى أن يتبيّن ما يؤول إليه الأمر ، بأن يلزم البيع أو يعرض المشتري عن الشّراء ، فإن أعرض انتهت مدّة المنع ، وجاز للغير أن يبيعه .
- مثل البيع في التّحريم على البيع غيره من بقيّة العقود ، كالإجارة والعاريّة ( أي الاستعارة ) والاقتراض والاتّهاب ، والمساقاة ، والمزارعة ، والجعالة . قال الحنابلة : فتحرم ولا تصحّ إذا سبقت للغير ، قياساً على البيع ، لما في ذلك من الإيذاء .
بل نصّ البرماويّ من الشّافعيّة أيضاً على أنّ من أنعم عليه بكتاب ( عاريّةً ) ليطالع فيه ، حرم على غيره أن يسأل صاحبه فيه ، أي يطلبه من صاحبه ليطالع فيه هو أيضاً ، لما فيه من الإيذاء ، وبنوا على هذا حرمة طلب العاريّة بعد عقدها مطلقاً .
د - السّوم ، والشّراء على شراء أخيه .
122 - أمّا السّوم على السّوم فمن صوره : ما إذا تساوم رجلان ، فطلب البائع بسلعته ثمناً ، ورضي المشتري بذلك الثّمن ، فجاء مشتر آخر ، ودخل على سوم الأوّل ، فاشتراه بزيادة أو بذلك الثّمن نفسه . لكنّه رجل وجيه ، فباعه منه البائع لوجاهته .
123 - وأمّا الشّراء على الشّراء فمن صوره : أن يأمر شخص البائع بفسخ العقد ليشتريه هو بأكثر ، أو يجيء شخص إلى البائع قبل لزوم العقد ، ليدفع في المبيع أكثر من الثّمن الّذي اشتري به ، ليفسخ البيع ويعقد معه .
وقيّد الحنفيّة منع هذا الشّراء أو السّوم بما إذا اتّفق المتبايعان على الثّمن أو تراضيا ، أو جنح البائع إلى البيع بالثّمن الّذي سمّاه المشتري ، وأمّا إذا لم يجنح ولم يرضه ، فلا بأس لغيره أن يشتريه بأزيد ، لأنّ هذا بيع من يزيد ، ولا كراهة فيه ، كما سيأتي .
وقيّد الشّافعيّة المنع بأن يكون الشّراء قبل اللّزوم ، أي زمن الخيار - كما عبّر القاضي - أو يكون بعد اللّزوم ، وقد اطّلع على عيب - كما مرّ في البيع على بيع غيره -
أمّا الحنابلة فللسّوم على السّوم عندهم صور :
الأولى : أن يوجد من البائع تصريح بالرّضا بالبيع ، فهذا يحرم السّوم على غير المشتري . الثّانية : أن يظهر منه ما يدلّ على عدم الرّضا فلا يحرم السّوم .
الثّالثة : أن لا يوجد ما يدلّ على الرّضا أو عدمه ، فلا يجوز السّوم لغيره أيضاً .
الرّابعة : أن يظهر منه ما يدلّ على الرّضا من غير تصريح . فقال القاضي : لا يحرم السّوم . وقال ابن قدامة : يحرم . كما قيّده الشّافعيّة أيضاً بأن يكون بغير إذن له من المشتري ، فلو وقع الإذن من أحدهما لم يحرم ، لأنّ الحقّ لهما وقد أسقطاه ، ولمفهوم الخبر السّابق : « حتّى يبتاع أو يذر » . وقرّروا : أنّ المعتبر إذن المالك ، لا الوليّ والوصيّ والوكيل ، إن كان فيه ضرر على المالك ، وأنّ موضع الجواز مع الإذن إذا دلّت الحال على الرّضا باطناً ، فإن دلّت على عدمه ، وأنّه إنّما أذن ضجراً وحنقاً فلا ، كما قاله الأذرعيّ منهم .
حكمه :
124 - هذا الشّراء أو السّوم بهذه الصّور والقيود منهيّ عنه ، غير جائز عند الجميع ، لكنّه صحيح عند الجمهور ، باطل عند الحنابلة إلاّ في وجه محتمل للصّحّة عندهم كالجمهور . والحنفيّة يعنون بعدم الجواز كراهة التّحريم ، لا الحرمة .
أ - فدليل الشّافعيّة ، والوجه المحتمل عند الحنابلة على الحرمة مع صحّة الشّراء . حديث
« لا يبع بعضكم على بيع بعض » المتقدّم . فقال المحلّيّ : وفي معناه الشّراء على الشّراء . وأشار البهوتيّ إلى أنّ التّحريم بالقياس على البيع ، ولأنّ الشّراء يسمّى بيعاً .
ولأنّ فيه إيذاءً ، قال المحلّيّ : المعنى في تحريم ذلك : الإيذاء للعالم بالنّهي عنه .
ولأنّه إذا صحّ الفسخ الّذي حصل به الضّرر ، فالبيع المحصّل للمصلحة أولى .
ولأنّ النّهي لحقّ آدميّ ، فأشبه بيع النّجش .
ب - ودليل الحنفيّة على الكراهة مع صحّة الشّراء : حديث أبي هريرة « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى أن يتلقّى الرّكبان ، ولا يبيع حاضر لباد ، وأن تسأل المرأة طلاق أختها ، وعن النّجش والتّصرية ، وأن يستام الرّجل على سوم أخيه » .
وقرّر الحنفيّة أنّ هذا الحديث نصّ في النّهي عن الاستيام ، فلا حاجة - كما أوضح ابن الهمام - إلى جعل لفظ البيع في حديث : « لا يبع أحدكم على بيع أخيه » جامعاً للبيع والشّراء مجازاً ، إنّما يحتاج إلى ذلك لو لم يرد حديث الاستيام ، ولأنّ في ذلك إيحاشاً وإضراراً به فيكره . قال الكاسانيّ : والنّهي لمعنًى في غير البيع ، وهو الإيذاء ، فكان نفس البيع مشروعاً ، فيجوز شراؤه ، ولكنّه يكره .
ج - ودليل الحنابلة على التّحريم والبطلان ، أنّ هذا منهيّ عنه ، والنّهي يقتضي الفساد .
125 - وفيما يلي بعض الفروع والتّفصيلات المتعلّقة بالسّوم ، والشّراء على شراء الآخرين :
أ - نصّ الحنفيّة على أنّ السّوم على سوم الآخرين مكروه ، ولو كان المستام عليه ذمّيّاً أو مستأمناً . وقالوا : ذكر الأخ في الحديث ليس قيداً ، بل لزيادة التّنفير ، لأنّ السّوم على السّوم يوجب إيحاشاً وإضراراً ، وهو في حقّ الأخ أشدّ منعاً ، فهو كما في قوله في الغيبة : « ذِكْرُك أخاك بما يَكْره » إذ لا خفاء في منع غيبة الذّمّيّ .
وقرّر الشّافعيّة أنّ ذكر الرّجل خرج مخرج الغالب ، كما أنّ تخصيص الأخ لإثارة الرّقّة والعطف عليه ، وسرعة امتثاله ، فغيرهما مثلهما . فالذّمّيّ والمعاهد والمستأمن مثل المسلم . وخرج الحربيّ والمرتدّ فلا يحرم .
ب - ألحق الحنفيّة الإجارة بالبيع في منع السّوم على السّوم ، إذ هي بيع المنافع .
كما ألحق الحنابلة جملةً من العقود ، كالقرض والهبة وغيرهما ، قياساً على البيع ، وكلّها تحرم ولا تصحّ للإيذاء .
ج - ألحق الماورديّ من الشّافعيّة بالشّراء على الشّراء ، تحريم طلب السّلعة من المشتري بأكثر - والبائع حاضر - قبل اللّزوم ، لأدائه إلى الفسخ أو النّدم .
د - وكذلك قاس الشّافعيّة على كلام الماورديّ في التّحريم ، ما لو طلب شخص من البائع ، في زمن الخيار ، شيئاً من جنس السّلعة المبيعة ، بأكثر من الثّمن الّذي باع به ، لا سيّما إن طلب منه مقداراً لا يكمل إلاّ بانضمام ما بيع منها .
هـ -وصرّحوا أيضاً بحرمة ما ذكر ، سواء أبلغ المبيع قيمته أم نقص عنها – على المعتمد عندهم - .
و - وتكلّموا أيضاً في مسألة تعريف المغبون في الشّراء بغبنه ، فصرّح ابن حجر بأنّه لا محذور فيه ، لأنّه من النّصيحة الواجبة ، لكنّه استظهر أنّ محلّه في غبن نشأ عن نحو غشّ البائع ، فلم يبال بإضراره ، لأنّه آثم . بخلاف ما إذا نشأ لا عن نحو تقصير منه ، لأنّ الفسخ ضرر عليه ، والضّرر لا يزال بالضّرر . وصرّح الشّروانيّ بأنّه إذا علم المشتري الثّاني بالمبيع عيباً ، وجب إعلام المشتري به ، وهذا صادق بما إذا كان البائع جاهلاً بالعيب ، مع أنّه لا تقصير منه حينئذ ، ولا فرق بين هذا وبين الغبن ، لأنّ الملحظ حصول الضّرر ، وأشار إلى أنّ هذا محلّ تأمّل ، ورأى أنّ وجوب النّصيحة يقتضي وجوب تعريف المغبون ، وإن نشأ الغبن من تقصيره ، ولكنّها تحصل بالتّعريف من غير بيع .
126 - واستثنى الفقهاء بيع المزايدة بالمناداة ، ويسمّى بيع الدّلالة . ويسمّى أيضاً : المزايدة . استثنوها من الشّراء على الشّراء ، ومن السّوم على سوم أخيه .
وهي : أن ينادى على السّلعة ، ويزيد النّاس فيها بعضهم على بعض ، حتّى تقف على آخر زائد فيها فيأخذها . وهذا بيع جائز بإجماع المسلمين ، كما صرّح به الحنابلة ، فصحّحوه ولم يكرهوه . وقيّده الشّافعيّة بأمرين : أن لا يكون فيه قصد الإضرار بأحد ، وبإرادة الشّراء ، وإلاّ حرمت الزّيادة ، لأنّها من النّجش .
127 - ودليل جواز بيع المزايدة :
- ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه « أنّ رجلاً من الأنصار أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسأله فقال له : ما في بيتك شيء ؟ قال : بلى ، حِلْس يلبس بعضه ، ويبسط بعضه ، وقَعْب يشرب فيه الماء . قال : ائتني بهما . فأتاه بهما ، فأخذهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال : من يشتري هذين ؟ فقال رجل : أنا آخذهما بدرهم ، قال : من يزيد على درهم ؟ مرّتين أو ثلاثاً ، فقال رجل : أنا آخذهما بدرهمين ، فأعطاهما إيّاه ، وأخذ الدّرهمين ، فأعطاهما الأنصاريّ ، وقال : اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك ، واشتر بالآخر قدوماً ، فائْتني به . فأتاه به ، فشدّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عوداً بيده ، ثمّ قال له : اذهب فاحتطب وبع ، ولا أرينك خمسة عشر يوماً . فذهب الرّجل يحتطب ويبيع ، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم ، فاشترى ببعضها ثوباً ، وببعضها طعاماً ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتةً في وجهك يوم القيامة . إنّ المسألة لا تصلح إلاّ لثلاثة : لذي فقر مدقع ، أو لذي غرم مفظع ، أو لذي دم موجع » . قال الكاسانيّ في تعليقه على هذا الحديث : وما كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ليبيع بيعاً مكروهاً .
- والدّليل الثّاني : أنّ المسلمين لم يزالوا يتبايعون في أسواقهم بالمزايدة .
- وأنّه بيع الفقراء ، كما قال المرغينانيّ ، والحاجة ماسة إليه .
- ولأنّ النّهي إنّما ورد عن السّوم حال البيع ، وحال المزايدة خارج عن البيع .
وتفصيل أحكام ( المزايدة ) في مصطلحها .
هـ - النّجش :
128 - النَجْش هو بسكون الجيم مصدر ، وبالفتح اسم مصدر ، ومن معانيه اللّغويّة : الإثارة . يقال : نجش الطّائر : إذا أثاره من مكانه . قال الفيّوميّ : نجش الرّجل ينجش نجشاً : إذا زاد في سلعة أكثر من ثمنها ، وليس قصده أن يشتريها ، بل ليغرّ غيره ، فيوقعه فيه ، وكذلك في النّكاح وغيره .
وأصل النّجش : الاستتار ، لأنّ النّاجش يستر قصده ، ومنه يقال للصّائد : ناجش لاستتاره . وقد عرّفه الفقهاء بأن يزيد الرّجل في الثّمن ولا يريد الشّراء ، ليرغّب غيره . أو أن يمدح المبيع بما ليس فيه ليروّجه . وقد ورد النّهي عنه ، في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا تلقّوا الرّكبان ، ولا يبيع بعضكم على بيع بعض ، ولا تناجشوا ، ولا يبيع حاضر لباد ، ولا تصرّوا الغنم » . وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن النّجش »
أ - فمذهب جمهور الفقهاء : أنّه حرام ، وذلك لثبوت النّهي عنه ، على ما سبق . ولما فيه من خديعة المسلم ، وهي حرام .
ب - ومذهب الحنفيّة : أنّه مكروه تحريماً إذا بلغت السّلعة قيمتها ، أمّا إذا لم تبلغ فلا يكره ، لانتفاء الخداع . ذلك حكمه التّكليفيّ . أمّا حكمه الوضعيّ :
أ - فمذهب جمهور الفقهاء ، من الحنفيّة والشّافعيّة ، والصّحيح عند الحنابلة : أنّ البيع صحيح ، لأنّ النّجش فعل النّاجش لا العاقد ، فلم يؤثّر في البيع ، والنّهي لحقّ الآدميّ فلم يفسد العقد ، كتلقّي الرّكبان وبيع المعيب والمدلّس ، بخلاف ما كان حقّاً للّه ، لأنّ حقّ العبد ينجبر بالخيار أو زيادة الثّمن .
ب - ومذهب مالك ، وهو رواية عن أحمد : أنّه لا يصحّ بيع النّجش ، لأنّه منهيّ عنه ، والنّهي يقتضي الفساد . ومع ذلك فقد نصّ الفقهاء على خيار الفسخ في هذا البيع :
- فالمالكيّة قالوا : إن علم البائع بالنّاجش وسكت ، فللمشتري ردّ المبيع إن كان قائماً ، وله التّمسّك به ، فإن فات المبيع فالواجب القيمة يوم القبض إن شاء ، وإن شاء أدّى ثمن النّجش . وإن لم يعلم البائع بالنّاجش ، فلا كلام للمشتري ، ولا يفسد البيع ، والإثم على من فعل ذلك . وهذا قول عند الشّافعيّة ، حيث جعلوا للمشتري الخيار عند التّواطؤ .
- والأصحّ عند الشّافعيّة أنّه لا خيار للمشتري لتفريطه .
- ويقول الحنابلة : البيع صحيح سواء أكان النّجش بمواطأة من البائع أم لم يكن ، لكن إن كان في البيع غبن لم تجر العادة بمثله فالخيار للمشتري بين الفسخ والإمضاء ، كما في تلقّي الرّكبان ، وإن كان يتغابن بمثله فلا خيار له .
وفيه أحكام تفصيليّة تراجع في مصطلح : ( نجش ) .
و - تلقّي الجلب أو الرّكبان أو السّلع :
129 - عبّر الحنفيّة بتلقّي الجلب ، وعبّر المالكيّة بتلقّي السّلع . قال خليل : كتلقّي السّلع أو صاحبها . وعبّر ابن جزيّ منهم بتلقّي السّلعة . وعبّر الشّافعيّة والحنابلة بتلقّي الرّكبان . والتّلقّي : هو الخروج من البلد الّتي يجلب إليها القوت ( ونحوه ) .
والجلب - بفتحتين - بمعنى الجالب ، أو هو بمعنى المجلوب ، فهو فعل بمعنى مفعول ، وهو ما تجلبه من بلد إلى بلد ، وهذا هو المراد بتلقّي السّلع في تعبير المالكيّة .
كما أنّ الرّكبان - في تعبير الشّافعيّة والحنابلة - جمع راكب ، والتّعبير به جرى على الغالب ، والمراد القادم ولو واحداً أو ماشياً .
حكم التّلقّي التّكليفيّ :
130 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ بيع التّلقّي محرّم ، لثبوت النّهي عنه في قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تلقّوا الجَلَب ، فمن تلقّاه فاشترى منه ، فإذا أتى سيّده "أي صاحبه" السّوق فهو بالخيار » . والحنفيّة ذهبوا إلى كراهة التّلقّي ، وذلك للضّرر أو الغرر ، أو كما قال الكاسانيّ : لأنّ البيع مشروع في ذاته ، والنّهي في غيره ، وهو الإضرار بالعامّة على التّفسير الأوّل - الّذي ذكرناه عندهم - وتغرير أصحاب السّلع على التّفسير الثّاني ، فإذا لم يكن هناك ضرر أو غرر فلا بأس ، ولا يكره ، كما صرّح بذلك المرغينانيّ والكرلانيّ والكاسانيّ والزّيلعيّ والحصكفيّ ، لانعدام الضّرر . فقول ابن قدامة : وحكي عن أبي حنيفة أنّه لم ير بذلك بأساً ، وسنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحقّ أن تتّبع . ليس على إطلاقه . وفسخ المكروه - من البياعات - واجب على كلّ واحد منهما ، لرفع الإثم ، وهي عند الإطلاق عندهم للتّحريم ، كما هنا ، وكما في كلّ بيع مكروه .
حكم التلقي الوضعي :
131 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أن بيع التلقي صحيح ، ولا يفسد العقد به . ونقل ابن قدامة عن ابن عبد البر أن البيع صحيح في قول الجميع ، وعلل الصحة :
- بإثبات الخيار في حديث أبي هريرة السابق ، والخيار لا يكون إلا في عقد صحيح .
- ولأن النهي لا لمعنى في البيع ، بل يعود إلى ضرب من الخديعة ، يمكن استدراكها بإثبات الخيار ، فأشبه بيع المصراة . وفارق بيع الحاضر للبادي ، فإنه لا يمكن استدراكه بالخيار ، إذ ليس الضرر عليه ، إنما هو على المسلمين .
- وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد ، أن التلقي فاسد ، وذلك لظاهر النهي .
قال ابن قدامة : والأول أصح .
ز - بيع الحاضر للبادي :
132 - ورد النّهي عنه في أحاديث منها ما رواه جابر رضي الله عنه مرفوعاً : « لا يبيع حاضر لباد ، دعوا النّاس يرزق اللّه بعضهم من بعض » .
وقد اختلف الفقهاء في المراد من بيع الحاضر للبادي . فذهب الجمهور إلى أنّ المراد : أن يكون الحاضر سمساراً للبادي ، لما يؤدّي إليه ذلك من الإضرار بأهل البلد لارتفاع السّعر ، وفسّر بغير ذلك . وللمنع شروط وتفصيلات من حيث الجواز وعدمه والصّحّة أو البطلان . وينظر ذلك في مصطلح : ( بيع الحاضر للبادي ) .
النّوع الثّاني : الأسباب الّتي تؤدّي إلى مخالفة دينيّة أو عباديّة محضة :
أ - البيع عند أذان الجمعة :
133 - أمر القرآن الكريم بترك البيع عند النّداء ( الأذان ) يوم الجمعة ، فقال تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا نُودي للصّلاة من يوم الجمعة فاسْعَوا إلى ذِكْر اللَّه وَذَرُوا البيعَ ، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } والأمر بترك البيع نهي عنه . ولم يختلف الفقهاء في أنّ هذا البيع محرّم لهذا النّصّ . غير أنّ للجمعة أذانين ، فعند أيّ الأذانين يعتبر مورد النّهي عن البيع .
أ - فمذهب جمهور الفقهاء ، ومنهم بعض الحنفيّة كالطّحاويّ ، أنّه الأذان الّذي جرى به التّوارث ، ولم يكن على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو أذان خطبة الجمعة بين يدي المنبر ، والإمام على المنبر ، فينصرف النّداء إليه . ولهذا قيّده المالكيّة والحنابلة بالأذان الثّاني . واستدلّوا لذلك بما يلي :
- ما روي عن السّائب بن يزيد رضي الله عنه ، قال : « كان النّداء يوم الجمعة أوّله إذا جلس الإمام على المنبر ، على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فلمّا كان عثمان رضي الله عنه وكثر النّاس ، زاد النّداء الثّالث على الزّوراء » . وفي رواية « زاد الثّاني » . وفي رواية « على دار في السّوق ، يقال لها : الزّوراء » وتسمية الأذان الأوّل في أيّامنا ، أذاناً ثالثاً ، لأنّ الإقامة - كما يقول ابن الهمام تسمّى أذاناً ، كما في الحديث « بين كلّ أذانين صلاة » - ولأنّ البيع عند هذا الأذان يشغل عن الصّلاة ، ويكون ذريعةً إلى فواتها ، أو فوات بعضها .
ب - والقول الأصحّ والمختار عند الحنفيّة ، وهو اختيار شمس الأئمّة ، أنّ المنهيّ عنه هو البيع عند الأذان الأوّل الّذي على المنارة ، وهو الّذي يجب السّعي عنده ، وهو الّذي رواه الحسن عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - إذا وقع بعد الزّوال .
وعلّلوه بحصول الإعلام به . ولأنّه لو انتظر الأذان عند المنبر ، يفوته أداء السّنّة وسماع الخطبة ، وربّما تفوته الجمعة إذا كان بيته بعيداً من الجامع .
بل نقل الطّحاويّ عن صاحب البحر قوله ، فيما ذهب إليه الطّحاويّ : وهو ضعيف .
ج - وهناك رواية عن الإمام أحمد ، حكاها القاضي عنه ، وهي : أنّ البيع يحرم بزوال الشّمس ، وإن لم يجلس الإمام على المنبر .
وهذه الرّواية قريبة من مذهب الحنفيّة ، لكنّ ابن قدامة قرّر أنّها لا تصحّ من وجوه ، وهي : أنّ اللّه تعالى علّق النّهي عن البيع على النّداء ، لا على الوقت . ولأنّ المقصود بهذا إدراك الجمعة ، وهو يحصل بالنّداء عقيب جلوس الإمام على المنبر ، لا بما ذكره القاضي ، وهو زوال الشّمس ، وإن لم يجلس الإمام على المنبر . ولأنّه لو كان تحريم البيع معلّقاً بالوقت ، لما اختصّ بالزّوال ، فإنّ ما قبله وقت أيضاً ، لأنّ وقت الجمعة عند أحمد هو ما بين ارتفاع الشّمس قدر رمح إلى آخر وقت الظّهر .
الحكم التّكليفيّ فيه :
134 - جمهور الفقهاء على أنّ النّهي عن البيع عند الأذان هو للتّحريم ، صرّح به المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . أمّا الحنفيّة فقد ذكروا أنّ أقلّ أحوال النّهي الكراهة ، وأنّ ترك البيع واجب ، فيكره تحريماً من الطّرفين : البائع والمشتري على المذهب ، ويصحّ إطلاق الحرام عليه ، كما عبّر المرغينانيّ ويفترض تركه ، كما عبّر الشّرنبلاليّ .
قيود تحريم هذا البيع :
135 - إنّ هذا النّهي الّذي اقتضى التّحريم أو الكراهة ، مقيّد بقيود :
أ - أن يكون المشتغل بالبيع ممّن تلزمه الجمعة ، فلا يحرم البيع على المرأة والصّغير والمريض ، بل نصّ الحنفيّة على أنّ هذا النّهي قد خصّ منه من لا جمعة عليه . ومع ذلك ، فقد ذكر ابن أبي موسى - من الحنابلة - روايتين في غير المخاطبين ، والصّحيح عندهم أنّ التّحريم خاصّ بالمخاطبين بالجمعة . وذلك : لأنّ اللّه تعالى إنّما نهى عن البيع من أمره بالسّعي ، فغير المخاطبين بالسّعي لا يتناولهم النّهي . ولأنّ تحريم البيع معلّل بما يحصل به من الاشتغال عن الجمعة ، وهذا معدوم في حقّهم .
ب - وأن يكون المشتغل بالبيع عالماً بالنّهي ، كما نصّ عليه الشّافعيّة .
ج - انتفاء الضّرورة إلى البيع ، كبيع المضطرّ ما يأكله ، وبيع كفن ميّت خيف تغيّره بالتّأخير ، وإلاّ فلا حرمة ، وإن فاتت الجمعة - كما يقول الجمل من الشّافعيّة .
د - أن يكون البيع بعد الشّروع في أذان الخطبة - كما عبّر الجمهور - أو عنده - كما عبّر المالكيّة أيضاً .
هـ - ولم يتعرّض الحنفيّة للتّقييد بغير كون الأذان بعد الزّوال .
قياس غير البيع من العقود عليه في التّحريم :
136 - النّهي عند الجمهور شامل البيع والنّكاح وسائر العقود . بل نصّ الحنفيّة على وجوب ترك كلّ شيء يؤدّي إلى الاشتغال عن السّعي إلى الجمعة ، أو يخلّ به .
ونصّ المالكيّة على أنّه يفسخ بيع وإجارة وتولية وشركة وإقالة وشفعة ، لا نكاح وهبة وصدقة وكتابة وخلع .
ونصّ الشّافعيّة على حرمة الاشتغال بالعقود والصّنائع وغيرها ، ممّا فيه تشاغل عن الجمعة . وفي قول عند الحنابلة : أنّه يحرم غير البيع من العقود ، كالإجارة والصّلح والنّكاح ، لأنّها عقود معاوضة فأشبهت البيع .
والمذهب عند الحنابلة : تخصيص عقد البيع والشّراء فقط بالتّحريم وعدم الصّحّة ، بعد الشّروع في الأذان الثّاني ، فتصحّ عندهم سائر العقود من النّكاح والإجارة والصّلح وغيرها ، من القرض والرّهن والضّمان ( الكفالة ) ونحوها . لأنّ النّهي ورد في البيع وحده ، وغيره لا يساويه لقلّة وقوعه ، فلا تكون إباحته ذريعةً لفوات الجمعة ، ولا يصحّ قياسه عليه . ونصّوا على أنّ إمضاء البيع الّذي فيه خيار ، أو فسخه يصحّ ، ولا يعتبر مجرّد الإمضاء والفسخ في الخيار بيعاً .
استمرار تحريم البيع حتّى انقضاء الصّلاة :
137 - لا يكاد الفقهاء يختلفون في أنّ النّهي عن البيع عند الأذان ، يستمرّ حتّى الفراغ من الصّلاة ، ومن نصوصهم في ذلك :
- ويحرم البيع والنّكاح وسائر العقود ، من جلوس الخطيب إلى انقضاء الصّلاة .
- يستمرّ التّحريم إلى الفراغ من الجمعة .
- ويستمرّ تحريم البيع والصّناعات من الشّروع في الأذان الثّاني أو من الوقت الّذي إذا سعى فيه أدركها من منزل بعيد ، إلى انقضاء الصّلاة .
أحكام عامّة في البيع عند الأذان :
أوّلاً : حكم بيع من تلزمه الجمعة ممّن لا تلزمه :
138 - قرّر الفقهاء أنّ من لا تجب عليه الجمعة مستثنًى من حكم تحريم البيع عند الأذان ، إذا لم تجب الجمعة عليهما معاً ، فلو تبايع اثنان ممّن لا تلزمهم الجمعة ، لم يحرم ولم يكره - كما صرّح به الشّافعيّة - أمّا لو وجبت على أحدهما دون الآخر :
- فمذهب الجمهور من الحنفيّة والشّافعيّة ، أنّهما يأثمان جميعاً ، لأنّ الأوّل الّذي وجبت عليه ارتكب النّهي ، والآخر الّذي لم تجب عليه أعانه عليه .
- وفي قول ضُعِّف عند الشّافعيّة : أنّه يكره للآخر الّذي لم تجب عليه ، ولا يأثم .
- ونصّ المالكيّة على أنّ البيع وغيره يفسخ في هذه الحال ، حيث كانت ممّن تلزمه الجمعة ، ولو مع من لا تلزمه .
- ونصّ الحنابلة على أنّ البيع لا يصحّ بالنّسبة إلى من تلزمه الجمعة . ويكره البيع والشّراء للآخر الّذي لا تلزمه ، لما فيه من الإعانة على الإثم .
ثانياً : حكم التّبايع حال السّعي إلى الجامع وقد سمع النّداء :
139 - اختلف الفقهاء في هذه المسألة ، بسبب تحصيل السّاعي المقصود من النّهي مع التّلبّس بالنّهي عنه .
أ - فالرّاجح من مذهب الحنفيّة ، ومذهب الشّافعيّة ، وهو أحد قولين للمالكيّة : أنّهما إذا تبايعا وهما يمشيان ، لا يحرم . وقال ابن نجيم من الحنفيّة ، نقلاً عن السّراج : لا يكره إذا لم . يشغله . وقال الحصكفيّ : لا بأس به .
لكنّ النّهي عن البيع ورد مطلقاً فتخصيصه بالرّأي ببعض الوجوه نسخ على قاعدة الحنفيّة ، فلا يجوز بالرّأي ، وعلّل انتفاء الكراهة : بأنّ النّهي عن البيع عند الأذان ، معلّل بالإخلال بالسّعي ، فإذا انتفى الإخلال بالسّعي انتفى النّهي .
وأنّ النّصّ الكريم خصّ منه من لا جمعة عليه ، والعامّ إذا دخله التّخصيص صار ظنّيّاً ، فيجوز تخصيصه ثانياً بالرّأي ، أي بالاجتهاد . والمالكيّة علّلوا الجواز : بأنّ البيع في هذه الحال لم يشغلهما عن السّعي ، ونقلوه عن ابن عمر رضي الله عنهما .
ب - ومذهب بعض الحنفيّة - كصاحب النّهر والزّيلعيّ ، والحصكفيّ أوّلاً في باب الجمعة والشرنبلالي - وجوب ترك البيع ، ولو مع السّعي . وصرّح صاحب النّهر بأنّه الّذي ينبغي التّعويل عليه . وهذا نفسه قول آخر أيضاً للمالكيّة ، وهو الّذي يبدو من كلام الحنابلة ، وإن لم يواجهوا هذه المسألة بذاتها .
ولا تعليل لهذا الاتّجاه ، إلاّ ما ذهب إليه الشّرنبلاليّ من الحنفيّة ، من أنّه يخلّ بالسّعي ، فيجب تركه لإطلاق الأمر . وما ذهب إليه بعض المالكيّة ، من سدّ الذّريعة .
ثالثاً : حكم البيع في المسجد بعد السّعي :
140 - الفقهاء متّفقون على كراهته :
أ - فقد نصّ الحنفيّة على أنّ البيع على باب المسجد أو فيه عند الأذان الأوّل الواقع بعد الزّوال أعظم وزراً من البيع ماشياً إلى الجمعة .
ب - ونصّ الشّافعيّة على أنّ حرمة البيع ونحوه ، في حقّ من جلس له في غير المسجد ، أمّا إذا سمع النّداء فقعد في الجامع ، أو في محلّ قريب منه وباع ، لا يحرم . لكنّ البيع في المسجد مكروه ، وصرّح ابن حجر وغيره بأنّ كلامهم للتّحريم أقرب .
ج - ونصّ الحنابلة على كراهة شرب الماء بعد النّداء ، بثمن حاضر أو في الذّمّة ( كما يحدث في الحرمين ) بل أشاروا إلى أنّ مقتضى عدم صحّة البيع والشّراء بعد الشّروع في النّداء هو التّحريم ، وخصوصاً إذا كان هذا في المسجد ، إلاّ أن يقال : ليس هذا بيعاً حقيقةً ، بل هو إباحة ، ثمّ تقع الإنابة عنها .
رابعاً : حكم البيع قبل الأذان الثّاني ، بعد الزّوال :
141 - المعتبر عند الحنفيّة في وجوب السّعي وترك البيع ، هو دخول الوقت ، ولهذا قيّدوا به الأذان فيما تقدّم ، فانبغى بذلك ثبوت كراهة البيع بعد الزّوال ، وانتفاؤها قبله .
وقد نصّ الشّافعيّة - كذلك - على كراهة البيع ونحوه ، قبل الأذان الثّاني والجلوس للخطبة إذا كان بعد الزّوال ، وذلك لدخول وقت الوجوب ، أمّا العقد قبل الزّوال فلا يكره .
وهذان الحكمان مقيّدان عندهم ، بما إذا كان العاقد لا يلزمه السّعي حينئذ ، وإلاّ بأن كان لا يدرك الجمعة إلاّ بذهابه في هذا الوقت ، فيحرم عليه ذلك العقد .
خامساً : شمول النّهي كلّ ما يشغل عن الجمعة :
142 - الفقهاء متّفقون على تحريم أو كراهة كلّ ما يشغل عن السّعي إلى الجمعة بعد النّداء - على اختلافهم فيه - ويجب ترك كلّ شيء يشغل عن السّعي إليها : كإنشاء السّفر عند النّداء ، والأكل ، والخياطة ، والصّناعات كلّها : كالمساومة ، والمناداة ، والكتابة ، وكذا الاشتغال بالعبادة ، وكذا المكث في بيته بعياله أو غيرهم ، ولو كان منزله بباب المسجد أو قريباً منه ، بل يجب عليه المبادرة إلى الجامع عملاً بالآية .
سادساً : هل المعتبر في الأذان أوّله أو تمامه ؟
143 - نصّ المالكيّة على أنّ المعتبر في الأذان بأوّله لا بتمامه ، فإن كبّر المؤذّن حرم البيع ، لأنّ التّحريم متعلّق بالنّداء .
الحكم الوضعيّ فيه :
144 - جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة ، وبعض المالكيّة ، يرون أنّ عقد البيع يقع صحيحاً ، لأنّ المنع منه لمعنًى في غير البيع ، خارج عنه ، وهو ترك السّعي ، فكان البيع في الأصل مشروعاً جائزاً ، لكنّه يكره تحريماً ، لأنّه اتّصل به أمر غير مشروع ، وهو ترك السّعي .
ويتفرّع عن صحّة البيع الأمور التّالية :
أ - عدم وجوب فسخه ، في أحد قولين عند الحنفيّة ، وأحد قولين عند المالكيّة أيضاً ، فقد قال الشّيخ العدويّ : وهناك قول آخر يقول : لا فسخ ، والبيع ماض ، ويستغفر اللّه .
ب - وجوب الثّمن لا القيمة .
ج - ثبوت ملك المبيع قبل القبض . لكنّ مشهور مذهب المالكيّة : أنّ هذا البيع كالبيع الفاسد يفسخ ، ويردّ من يد المشتري ما لم يفت بيده ، فإن فات - بتغيّر سوق - مضى العقد ، ولزم المشتري القيمة حين القبض على المشهور . وقيل بالقيمة حين البيع . والّذين نصّوا من المالكيّة على وجوب فسخ البيع ، ألحقوا به نحو البيع ، من الإجارة والشّركة والإقالة والشّفعة - إذا أخذ بها ، لا لو تركت - لكنّهم استثنوا مثل : النّكاح والهبة والصّدقة والعتق ، فلا يفسخ شيء من ذلك ، وإن حرم .
والفرق بين هذه المذكورات ، وبين البيع ونحوه عندهم هو : أنّ البيع ونحوه ممّا فيه العوض ، يرجع لكلّ عوضه بالفسخ ، فلا كبير ضرر فيها ، بخلاف ما لا عوض فيه ، فإنّه يبطل أصلاً لو فسخ . وذكر العدويّ في النّكاح علّةً أخرى ، وهي حصول الضّرر بفسخه ، فربّما يتعلّق أحد الزّوجين بصاحبه .
وهبة الثّواب عندهم ( وهي الّتي تنعقد بشرط المكافأة كما يعبّرون ، أو بشرط العوض ، كما يعبّر الحنفيّة وآخرون ) كالبيع . والخلع ينبغي أن يمضي ولا يفسخ ، على مقتضى العلّة المتقدّمة ، وهي أنّه يبطل أصلاً لو فسخ . أمّا الحنابلة فقد صرّحوا : بأنّ البيع لا يصحّ قليله وكثيره ، ولا ينعقد للّذي في النّصّ الكريم ، وهو ظاهر في التّحريم .
ب - بيع المصحف للكافر :
145 - اتّفق الفقهاء على أنّ هذا البيع ممنوع ، وصرّح جمهورهم بالحرمة ، ويبدو من كلام الحنفيّة ثبوت الكراهة ، وهي بمقتضى قواعدهم وتعليلهم للتّحريم .
يقول المالكيّة : يحرم على المالك أن يبيع للكافر مصحفاً أو جزأه ، وهذا ممّا لا خلاف فيه ، لأنّ فيه امتهان حرمة الإسلام بملك المصحف . وقد قال اللّه تعالى : { ولن يَجْعَل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً } . وأصل هذا التّعليل يرجع إلى ما روي في الصّحيح عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوّ » . ومع ذلك اختلف الفقهاء في صحّة هذا البيع :
أ - فالأظهر عند الشّافعيّة ، ومذهب الحنابلة ، وهو قول عند المالكيّة : عدم صحّة بيع المصحف لكافر ، وذلك لقوله تعالى { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدوّ مخافة أن تناله أيديهم » ، فلا يجوز تمكينهم منه . ولأنّه يمنع الكافر من استدامة الملك عليه ، فمنع من ابتدائه كسائر ما لا يجوز بيعه ، ولما في ملك الكافر للمصحف ونحوه من الإهانة .
وفرّع المالكيّة على هذا فسخ البيع إذا كان المبيع قائماً ، ونسب هذا الرّأي سحنون إلى أكثر أصحاب مالك . ولم يشترط المالكيّة الإسلام - كما يقول ابن جزيّ - في البيع إلاّ في شراء العبد المسلم ، وفي شراء المصحف .
ب - ومذهب الحنفيّة ، ومشهور مذهب المالكيّة ، وهو قول عند الشّافعيّة : أنّ بيع المصحف للكافر صحيح ، لكنّه يجبر على إخراجه من ملكه ، وذلك لحفظ كتاب اللّه عن الإهانة - كما نقل ابن عابدين عن الطّحاويّ - ولأنّ فيه امتهان حرمة الإسلام بملك المصحف - كما يقول الخرشيّ - ولا خلاف في التّحريم . كما قال عميرة .
ملحقات بالبيع :
146 - وكما يمنع بيع المصحف لهم - يمنع التّصدّق به عليهم ، وهبته منهم - كما نصّ عليه المالكيّة - وكذا ارتهانه منهم - كما نصّ عليه الحنابلة . والأوّلون يجبرونهم على إخراجه من ملكهم كما في البيع ، نصّ عليه الدّسوقيّ ، ولا ينبغي أن يخالف فيه الآخرون .
مستثنيات من البيع :
147 - واستثنى الشّافعيّة من حكم بيع المصحف ، أشياء :
- الدّراهم والدّنانير ، الّتي نقش عليها شيء من القرآن للحاجة .
- شراء أهل الذّمّة الدّور ، وقد كتب في جدرانها أو سقوفها شيء من القرآن لعموم البلوى ، فيكون مغتفراً للمسامحة به غالباً ، إذ لا يكون مقصوداً به القرآنيّة .
- واستثنى بعضهم - كابن عبد الحقّ - التّميمة لمن يرجى إسلامه ، وكذا الرّسالة اقتداءً بفعله صلى الله عليه وسلم .
- وكذا استثنوا الثّوب المكتوب عليه شيء من القرآن ، لعدم قصد القرآنيّة بما يكتب عليه ، إلاّ أن يقال : الغالب فيما يكتب على الثّياب التّبرّك بلا لبس ، فأشبه التّمائم ، على أنّ في ملابسته لبدن الكافر امتهاناً له ، بخلاف ما يكتب على السّقوف .
والّذي يأمر بإزالة ملك الكافر للمصحف ، هو الحاكم لا آحاد النّاس ، وذلك لما فيه من الفتنة ، كما نصّ عليه الشّافعيّة فيما يشبه هذه المسألة .
حكم بيع المسلم المصحف وشرائه له :
148 - أ - نصّ الشّافعيّة على أنّ بيع المسلم المصحف وشراءه له مكروه ، والمراد بالمصحف هنا خالص القرآن . ووجه الكراهة - كما يذكر الشّيخ عميرة - هو صون القرآن الكريم عن أن يكون في معنى السّلع المبتذلة ، بالبيع والشّراء . وهذا أيضاً رواية عن الإمام أحمد . ولأنّ المقصود منه كلام اللّه تعالى ، فتجب صيانته عن الابتذال ، وفي جواز شرائه التّسبّب إلى ذلك والمعونة عليه .
- ب - وفي قول آخر للشّافعيّة : أنّه يكره البيع بلا حاجة دون الشّراء . وصرّح القليوبيّ والجمل بأنّ هذا هو المعتمد عندهم . وعلّله الجمل بأنّ في الشّراء تحصيلاً بخلاف البيع فإنّه تفويت وابتذال وانقطاع رغبة .
وهذا الّذي اعتمده الشّافعيّة ، هو أيضاً رواية عن الإمام أحمد ، وقرّر المرداويّ في مسألة الشّراء وجوازه : أنّها المذهب ، وعلّلوها بأنّ الشّراء استنقاذ للمصحف فجاز ، كما جاز شراء رباع مكّة واستئجار دورها ، ولم يجز بيعها ولا أخذ أجرتها ، وكذلك دفع أجرة الحجّام لا يكره ، مع كراهة كسبه . بل جعله البهوتيّ كشراء الأسير .
ج - وفي رواية عن الإمام أحمد : أنّ بيع المصحف لا يجوز ولا يصحّ . قال المرداويّ : وهو المذهب كما روي عنه أنّه يحرم الشّراء ، وإن لم يذكرها بعضهم . وعلّل عدم الجواز : - بأنّ أحمد قال : لا أعلم في بيع المصاحف رخصةً .
- وبأنّه هو المرويّ عن الصّحابة ، ولم يعلم لهم مخالف في عصرهم .
- ولأنّه يشتمل على كتاب اللّه ، فتجب صيانته عن البيع والابتذال .
د - وهناك رواية عن الإمام أحمد ، أنّ بيع المصحف جائز من غير كراهة . قال المرداويّ : ذكرها أبو الخطّاب . وأسند الحنابلة جواز بيع المصحف ، والتّرخيص فيه أيضاً إلى الحسن وعكرمة والشّافعيّ وأصحاب الرّأي ، وعلّلوه لهم ، بأنّ البيع يقع على الورق والجلد ، وبيعه مباح . وهناك روايتان عن الإمام أحمد في كراهة مبادلته . واختيار أحمد جواز إبدال المصحف بمثله ، لأنّه لا يدلّ على الرّغبة عنه ، ولا على الاستبدال به بعوض دنيويّ ، بخلاف أخذ ثمنه .
ومن هذا العرض يتّضح أنّ للإمام أحمد - بالإجمال - ثلاثة أقوال في بيع المصحف : الحرمة والكراهة والجواز . ومثلها في الشّراء . وفي المبادلة قولان . وأنّ المذهب - كما يؤخذ من كلام ابن قدامة والبهوتيّ - هو تحريم البيع ، وعدم الصّحّة ، وهذا معلّل أيضاً بقول ابن عمر : وددت أنّ الأيدي تقطع في بيعها ، ولأنّ تعظيمه واجب ، وفي البيع ترك التّعظيم وابتذال له . ولا يكره الشّراء لأنّه استنقاذ ، ولا الاستبدال بمصحف آخر ، لأنّه لا دلالة فيه على الرّغبة عنه .
آثار البيع المنهيّ عنه :
149 - إنّ الأصل في النّهي عند الجمهور هو البطلان ، فيجري على هذا الأصل إلاّ عند الضّرورة ، والضّرورة مقتصرة على ما إذا دلّ الدّليل على أنّ النّهي لمعنًى . مجاور للمنهيّ عنه فقط ، أمّا إذا دلّ الدّليل على أنّ النّهي لمعنًى في الوصف اللّازم ، فلا ضرورة للخروج على الأصل ، ولا في أن لا يجري النّهي على أصله ، وهو البطلان ، لأنّ بطلان الوصف اللّازم يوجب بطلان الأصل ، بخلاف المجاور لما أنّه ليس بلازم .
ب - وعند الحنفيّة الأصل في التّصرّف المنهيّ عنه أن يكون موجوداً صحيحاً شرعاً ، فيجري النّهي على هذا الأصل ، إلاّ عند الضّرورة ، والضّرورة عندهم منحصرة فيما إذا دلّ الدّليل على أنّ النّهي لمعنًى في ذات المنهيّ عنه ، أو في جزئه فقط ، أمّا إذا دلّ الدّليل على أنّ النّهي لمعنًى في وصف لازم ، فلا ضرورة في الخروج على الأصل ، ولا في أن لا يجري النّهي على أصله ، وهو الصّحّة ، لأنّ صحّة الأجزاء والشّروط فيه كافية لصحّة الشّيء ، وترجيح الصّحّة بصحّة الأجزاء أولى من ترجيح البطلان بالوصف الخارجيّ ، وإذا لم تكن الضّرورة قائمةً ، يجري النّهي على أصله ، وهو أن يكون المنهيّ عنه موجوداً شرعاً ، أي صحيحاً .
الفرق بين الاصطلاحات الثّلاثة : الفساد والبطلان والصّحّة :
150 - اتّضح ممّا سبق أنّ الجمهور لا يفرّقون بين الفساد وبين البطلان ، خلافاً للحنفيّة . فالصّحّة هنا - في العقود ، ومنها البيع - تقتضي بأن يكون العقد سبباً لترتّب آثاره المطلوبة منه شرعاً ، كالبيع بالنّسبة إلى الملك .
أمّا البطلان ، فمعناه تخلّف الأحكام عن العقود ، وخروج العقود عن أن تكون أسباباً مفيدةً للأحكام . والفساد يرادف البطلان عند الجمهور .
وعند الحنفيّة : هو قسم ثالث مغاير للصّحيح فهو : ما كان مشروعاً بأصله غير مشروع بوصفه . بخلاف الباطل ، فهو ما كان غير مشروع بأصله ولا بوصفه .
فيستوي عند الجمهور بيع الملاقيح والمضامين ، وبيع الأجنّة والميتات في البطلان : كبيع الثّمر قبل بدوّ صلاحه ، وكبيع الطّعام قبل قبضه ، وبيع العينة ، والبيع المشتمل على الرّبا ، والبيع بالشّرط ، فلا يترتّب على هذه البيوع كلّها أيّ أثر لها .
لكنّ الحنفيّة يقولون مفصّلين : ببطلان بيع الملاقيح والمضامين والأجنّة والميتات ، لانعدام المحلّيّة والرّكنيّة كالجمهور ، وهذا هو عدم مشروعيّة الأصل بتعبيرهم ، فلا يترتّب عليها أيّ أثر . وبفساد الباقيات ، لا ببطلانها :
أ - ففي البيع بشرط مثلاً النّهي راجع للشّرط ، فيبقى أصل العقد صحيحاً ، مفيداً للملك ، لكن بصفة الفساد والحرمة ، فالشّرط أمر زائد على البيع ، لازم له لكونه مشروطاً في نفس العقد ، وهو المراد بالوصف في هذا المقام .
ب - وفي البيع المشتمل على الرّبا يقولون : إنّ ركن البيع ، وهو المبادلة الماليّة من أهلها في محلّها موجودة ، فيكون مشروعاً ، لكن لم توجد المبادلة التّامّة ، فأصل المبادلة حاصل ، لا وصفها ، وهو كونها تامّةً . وهذا بخلاف بيع الميتة والأجنّة ، لأنّها ليست بمال ، ولا متقوّمةً ، فهو غير مشروع أصلاً . وفيما يلي أحكام البيع الباطل - من وجهة نظر الحنفيّة الّذين قرّروه - ثمّ أحكام البيع الفاسد ، ثمّ أحكام البيع المكروه .
أوّلاً : أحكام البيع الباطل عند الحنفيّة :
151 - لا ينعقد البيع الباطل أصلاً ، وليس له وجود معتبر شرعاً ، وإذا قبض المشتري المبيع فلا يكون ملكاً له . قال الكاسانيّ : ولا حكم لهذا البيع أصلاً ، لأنّ الحكم للموجود ، ولا وجود لهذا البيع إلاّ من حيث الصّورة ، لأنّ التّصرّف الشّرعيّ لا وجود له بدون الأهليّة والمحلّيّة شرعاً ، إذ لا وجود للتّصرّف الحقيقيّ إلاّ من الأهل في المحلّ حقيقةً ، وذلك نحو بيع الميتة والدّم والعذرة والبول وبيع الملاقيح والمضامين وكلّ ما ليس بمال .
وإذا هلك المبيع عند المشتري ، ففي ضمانه خلاف عند الحنفيّة :
أ - قيل : لا يضمن ، لأنّه أمانة في يده ، وذلك لأنّ العقد إذا بطل بقي مجرّد القبض بإذن المالك ، وهو لا يضمن إلاّ بالتّعدّي ، كما نقله ابن عابدين عن الدّرر . وقيل : إنّ هذا قول أبي حنيفة .
ب - وقيل : يكون مضموناً ، لأنّه يصير كالمقبوض على سوم الشّراء . واختار السّرخسيّ وغيره أن يكون مضموناً بالمثل أو بالقيمة ، لأنّه لا يكون أدنى حالاً من المقبوض على سوم الشّراء . وقيل : إنّ هذا قول الصّاحبين . وفي القنية : أنّه الصّحيح ، لكونه قبضه لنفسه فشابه الغصب ، وفي الدّرّ : قيل : وعليه الفتوى . وللتّفصيل ينظر : ( البيع الباطل ) .
ثانياً : أحكام البيع الفاسد :
152 - ينبني على البيع الفاسد عدّة آثار هي : انتقال الملك بالقبض ، واستحقاق الفسخ لحقّ الشّرع ، وعدم طيب الرّبح النّاشئ من المبيع ، وقبوله للتّصحيح ، وضمان المبيع بالهلاك ، وثبوت الخيار فيه . وينظر تفصيل هذه الآثار وما يتعلّق بها في مصطلح : ( البيع الفاسد ) . هذا عند الحنفيّة . أمّا أحكامه عند الجمهور فهي أحكام البيع الباطل لعدم تفرقتهم بينهما ، وانظر في مصطلح : ( البيع الباطل ) .
ثالثاً : أحكام البيع المكروه :
153 - حكم البيع المكروه : المنع شرعاً وترتّب الإثم ، ولكنّه مع هذا صحيح . لأنّ النّهي باعتبار معنًى مجاور للبيع ، لا في صلبه ، ولا في شرائط صحّته ، ومثل هذا النّهي لا يوجب الفساد ، بل الكراهية . فالبيع عند الأذان للجمعة ، وبيع النّجش ، وبيع الإنسان على بيع أخيه ، وسومه على سومه ، ونحوها بيوع منهيّ عنها ، وهي - كما يقول الحصكفيّ مكروهة كراهة تحريم ، لكنّها صحيحة وليست باطلةً ، مع النّهي عنها عند الجمهور ، إلاّ في روايات عن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - وذلك لأنّ النّهي لا يرجع إلى ذات المنهيّ عنه ، ولا إلى شرائط الصّحّة ، بل إلى معنًى يقترن به .
154 - ومن أهمّ أحكام البيع المكروه : - أنّه بيع صحيح ، كما هو مذهب الجمهور .
- وأنّه يملك فيه المبيع قبل قبضه .
- وأنّه يجب فيه الثّمن ، لا القيمة .
- وأنّه لا يجب فسخه . وقيل : إنّ فسخه واجب على كلّ منهما ، صوناً لهما عن المحظور ، ولأنّ رفع المعصية واجب بقدر الإمكان .
ووفّق ابن عابدين - رحمه الله تعالى - بين القولين بأنّ الوجوب عليها ديانةً . بخلاف البيع الفاسد ، فإنّهما إذا أصرّا عليه يفسخه القاضي جبراً عليها ، ووجّهه أنّ البيع هنا صحيح ، فلا يلي القاضي فسخه لحصول الملك الصّحيح . لكن قرّر ابن جزيّ من المالكيّة ، أنّه إذا كان النّهي عن البيع يتعلّق بمحظور خارج عن باب البيوع ، كالبيع والشّراء في موضع مغصوب ، فهذا لا يفسخ ، فات أو لم يفت . وإذا كان النّهي عن البيع ، ولم يخلّ فيه بشرط مشترط في صحّة البيوع ، كالبيع وقت الجمعة ، وبيع الحاضر للبادي ، وتلقّي الجلب ، فاختلف فيه : فقيل فسخ . وقيل : لا يفسخ ، وقيل : يفسخ إن كانت السّلعة قائمةً .
البيع الموقوف *
التّعريف :
1- البيع : مبادلة المال بالمال .
وأمّا الموقوف فهو مشتقّ من " وقف " يقال : وقفت الدّابّة وقوفاً سكنت ، ووقفتها أنا وقفاً : جعلتها تقف . ووقفت الدّار وقفاً حبستها في سبيل اللّه ، ووقفت الأمر على حضور زيد : علّقت الحكم على حضوره ، ووقفت قسمة الميراث إلى الوضع : أخّرتها حتّى تضع الحبلى . ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن معانيه اللّغويّة . وأمّا البيع الموقوف ، فقد عرّفه الفقهاء الّذين أجازوه بأنّه : البيع المشروع بأصله ووصفه ، ويفيد الملك على وجه التّوقّف ، ولا يفيد تمامه لتعلّق حقّ الغير به ، وهو من البيع الصّحيح .
ويقابله البيع النّافذ ، وهو : البيع الصّحيح الّذي لا يتعلّق به حقّ الغير . ويفيد الحكم في الحال . فالنّافذ هو ضدّ الموقوف ، فمتى قيل : بيع نافذ أريد به أنّه بيع غير موقوف .
مشروعيّة البيع الموقوف :
2 - يرى الحنفيّة والمالكيّة ، والحنابلة في إحدى الرّوايتين ، وهو قول الشّافعيّة في المذهب القديم - كما حكي عن الجديد أيضاً - مشروعيّة البيع الموقوف واعتباره قسماً من أقسام البيع الصّحيح ، لعمومات البيع نحو قوله تعالى { وأحَلَّ اللّه البيعَ } وقوله عزّ شأنه { يا أيّها الّذينَ آمنوا لا تَأْكُلوا أمْوالَكُمْ بينكمْ بالبَاطِلِ إلاّ أنْ تكُونَ تجارةً عن تراضٍ مِنْكُمْ }
وجه الدّلالة من هذه الآيات : أنّ اللّه سبحانه وتعالى شرع البيع والشّراء والتّجارة من غير فصل ، بين ما إذا وجد من المالك بطريق الأصالة ، وبين ما إذا وجد من الوكيل في الابتداء ، أو بين ما إذا وجدت الإجازة من المالك في الانتهاء وبين وجود الرّضا في التّجارة عند العقد أو بعده ، فيجب العمل بعمومها إلاّ ما خصّ بدليل .
ولما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أنّه دفع ديناراً إلى عروة البارقيّ رضي الله عنه ، وأمره أن يشتري له أضحيّةً ، فاشترى شاتين ، ثمّ باع إحداهما بدينار ، وجاء بدينار وشاة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فدعا له بالبركة ، وقال عليه الصلاة والسلام : بارك اللّه في صفقة يمينك » ومعلوم أنّه لم يكن مأموراً ببيع الشّاة ، فلو لم ينعقد البيع الموقوف ، لما باع ولما دعا له بالخير والبركة على ما فعل ، ولأنكر عليه ، لأنّ الباطل ينكر .
كما أنّ البيع الموقوف تصرّف صدر من أهله في محلّه فلا يلغو ، كما لو حصل من المالك ، وكالوصيّة بالمال ممّن عليه الدّين ، والوصيّة بأكثر من الثّلث ممّن لا دين عليه .
والتّصرّف إذا صدر من أهله في محلّه تحقّق به وجوده ، ثمّ قد يمتنع نفاذه شرعاً لمانع ، فيتوقّف على زوال ذلك المانع ، وبالإجازة يزول المانع ، وهو عدم رضا المالك به .
ولأنّ البيع الموقوف يفيد الملكيّة بدون قبض تماماً ، كما هو الحكم في البيع الصّحيح ، فالبيع الموقوف هو بيع صحيح لصدق تعريفه وحكمه عليه . وانعقاد هذا البيع موقوفاً على الإجازة لا ينافي كونه صحيحاً .
3 - وذهب الشّافعيّة على المشهور من المذهب ، والحنابلة في إحدى الرّوايتين ، وهو قول أبي ثور وابن المنذر إلى بطلان العقد الموقوف . واستدلّوا بحديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال : « سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقلت : يأتيني الرّجل يسألني من البيع ما ليس عندي ، أأبتاع له من السّوق ثمّ أبيعه منه ؟ قال : لا تبع ما ليس عندك » .
كما احتجّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا بيع ولا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك ابن آدم » ولأنّ وجود السّبب بكماله بدون آثاره يدلّ على فساده .
ويقيسون البيع الموقوف على الطّلاق والعتاق
أنواع البيع الموقوف :
4 - عقد البيع يكون موقوفاً إذا تعلّق به حقّ الغير ، وهو أن يكون ملك الغير أو يكون لغير المالك حقّ في المبيع . وقد حصر صاحب " الخلاصة " أنواع البيع الموقوف في خمسة عشر نوعاً ، وأوصلها صاحب " النّهر " إلى ثمانية وثلاثين نوعاً ، وذكر ابن نجيم في " البحر الرّائق " تسعاً وعشرين صورةً للبيع الموقوف أهمّها :
- بيع الصّبيّ المحجور موقوف على إجازة الأب أو الوصيّ .
- بيع غير الرّشيد موقوف على إجازة القاضي .
- بيع المرهون موقوف على إجازة المرتهن .
- بيع العين المستأجرة موقوف على إجازة المستأجر .
- بيع ما في مزارعة الغير موقوف على إجازة المزارع .
- بيع البائع للشّيء المبيع بعد القبض من غير المشتري موقوف على إجازة المشتري الأوّل . - بيع المرتدّ عند الإمام أبي حنيفة موقوف على توبته من الرّدّة .
- بيع الشّيء برقمه موقوف على تبيّن الثّمن .
- البيع بما باع به فلان والمشتري لا يعلم ، فهو موقوف على العلم في المجلس .
- البيع بمثل ما يبيع النّاس موقوف على تبيّن الثّمن .
- البيع بمثل ما أخذ به فلان موقوف على تبيّن الثّمن .
- بيع المالك العين المغصوبة موقوف على إقرار الغاصب ، أو البرهان بعد إنكاره .
- بيع مال الغير موقوف على إجازته ( وهو بيع الفضوليّ ) .
- بيع الشّريك نصيبه من مشترك بالخلط الاختياريّ ، أو الاختلاط بغير فعل المالكين موقوف على إجازة شريكه .
- بيع المريض مرض الموت عيناً من أعيان ماله لبعض ورثته ، موقوف على إجازة باقي الورثة ولو كان بمثل القيمة عند أبي حنيفة .
- بيع الوارث التّركة المستغرقة بالدّين موقوف على إجازة الغرماء .
- أحد الوكيلين أو الوصيّين أو النّاظرين إذا باع بحضرة صاحبه يتوقّف على إجازته ( إذا كان مشروطاً اجتماعهما على التّصرّف ) .
- بيع المعتوه موقوف .
حكم البيع الموقوف :
5 - حكم البيع الموقوف هو أنّه يقبل الإجازة عند توافر الشّروط الآتية :
أ - وجود البائع حيّاً ، لأنّه يلزمه حقوق العقد بالإجازة ، ولا تلزم إلاّ حيّاً .
ب - وجود المشتري حيّاً ليلزمه الثّمن ، وبعد الموت لا يلزمه ، ما لم يكن لزمه حال أهليّته .
ج - وجود المبيع ، لأنّ الملك لم ينتقل فيه ، وإنّما ينتقل بعد الإجازة ، ولا يمكن أن ينتقل بعد الهلاك . والمراد بكون المبيع قائماً ، أن لا يكون متغيّراً بحيث يعدّ شيئاً آخر ، فإنّه لو باع ثوب غيره بغير أمره ، فصبغه المشتري ، فأجاز المالك البيع جاز ، ولو قطعه وخاطه ثمّ أجاز البيع لا يجوز ، لأنّه صار شيئاً آخر .
د - وجود الثّمن في يد البائع إذا كان عيناً كالعروض ، أمّا إذا كان الثّمن ديناً كالدّراهم والدّنانير والفلوس فوجود الثّمن في يد البائع ليس بشرط .
هـ - وجود المالك ، لأنّ الإجازة تكون منه ، حتّى لو مات المالك قبل إجازته البيع لا يجوز بإجازة ورثته كما يقول الحنفيّة . ويرى المالكيّة انتقال حقّ إجازة البيع الموقوف إلى الوارث . هذا ، وللتّوسّع فيما تثبت به الإجازة وسائر المسائل المتعلّقة بها ( ر : إجازة ) وإذا أجيز البيع الموقوف يستند أثره ( أي يسري منذ العقد ) على ما سيأتي .
أثر البيع الموقوف :
6 - البيع النّافذ يفيد الحكم في الحال ، وهو ملكيّة البائع للثّمن والمشتري للمبيع ، وتصرّف كلّ منهما فيما في يده من غير حاجة في ذلك إلى شيء آخر ، سواء أذكر في العقد تملّك البائع للثّمن والمشتري للمبيع أم لم يذكر ، لأنّ النّصّ على المقتضى بعد حصول الموجب ليس بشرط . ويشترط لنفاذ البيع أن يكون البائع مالكاً للمبيع ، أو وكيلاً لمالكه أو وصيّه ، وأن لا يكون في المبيع حقّ آخر .
وإذا تخلّف شرط منها فإنّ العقد يكون موقوفاً فلا يفيد الحكم إلاّ عند إجازة صاحب الشّأن ، فإن أجاز نفذ وإلاّ بطل . فقبل أن تصدر الإجازة ممّن يملكها لا يظهر أثر البيع الموقوف ، ويكون ظهور أثره موقوفاً على الإجازة ، فبيع الفضوليّ مثلاً لا ينفذ ابتداءً لانعدام الملك والولاية ، لكنّه ينعقد موقوفاً على إجازة المالك ، فإن أجاز ينفذ وإلاّ يبطل . ( ر : بيع الفضوليّ ) وكذلك إذا باع الرّاهن الرّهن بلا إذن المرتهن ، فالبيع موقوف - في أصحّ الرّوايات عند الحنفيّة - لتعلّق حقّ المرتهن به فيتوقّف على إجازته ، إن أجاز المرتهن أو قضى الرّاهن دينه نفذ ، وإذا نفذ البيع بإجازة المرتهن انتقل حقّه إلى بدله . وللتّفصيل ( ر : رهن ) . هذا ، وينبغي التّنويه إلى أنّ البيع الموقوف لا يتوقّف دائماً نفاذه ، وظهور أثره على إجازة شخص غير العاقد ، بل هذا هو الأغلب ، فقد يكون متوقّف النّفاذ لا على إجازة أحد ، بل على زوال حالة أوجبت عدم النّفاذ ، كما في بيع المرتدّ عن الإسلام ، فإنّ نفاذ بيعه يتوقّف على عودته إلى الإسلام عند أبي حنيفة .
التّصرّفات الواقعة على المعقود عليه أثناء التّوقّف :
7 - التّصرّفات الواقعة على المعقود عليه في البيع الموقوف أثناء التّوقّف منها ما يستند أثره إلى وقت إنشاء العقد ، ومنها ما يبدأ أثره من حين الإجازة . فالإجازة تارةً تكون إنشاءً ، وتارةً تكون إظهاراً . وفيما يلي أمثلة لهذين النّوعين من التّصرّفات .
أوّلاً : التّصرّفات الّتي تستند إلى وقت إنشاء العقد :
أ - إذا أجيز بيع الفضوليّ لمال الغير فإنّه يعتبر نافذاً مستنداً حكمه إلى وقت إنشاء العقد ، فيصير المبيع ملكاً للمشتري ، والثّمن ملكاً للممالك أمانةً في يد الفضوليّ ، لأنّ الإجازة اللّاحقة بمنزلة الوكالة السّابقة . فإذا هلك الثّمن في يد الفضوليّ قبل الإجازة ، ثمّ أجيز العقد لم يضمنه كالوكيل ، وكذلك إذا حطّ البائع الفضوليّ من الثّمن ثمّ أجاز المالك البيع يثبت البيع والحطّ ، سواء أعلم البائع بالحطّ أم لم يعلم ، إلاّ أنّه إذا علم بالحطّ بعد الإجازة يثبت له الخيار . ووجه ذلك أنّ الفضوليّ يصير بالإجازة كوكيل ، ولو حطّه الوكيل لا يتمكّن الموكّل من مطالبة المشتري به ، كذا هذا .
ب - إذا أجاز المالك البيع الموقوف ، فإن ملك المبيع يثبت للمشتري من وقت الشّراء ، ويثبت له بالتّالي الحقّ في كلّ ما يحدث بالمبيع قبل الإجازة من نماء أو زيادة ، كالكسب والولد والأرش وما إلى ذلك .
ثانياً : التّصرّفات الّتي يقتصر حكمها على وقت صدور الإجازة :
أ - لا يجوز للمشتري من الفضوليّ التّصرّف في المبيع قبل صدور الإجازة ، سواء أقبضه أم لم يقبضه . فإذا باع المشتري من الفضوليّ المبيع من غيره ، ثمّ أجاز المالك بيع الفضوليّ لا ينفذ بيع المشتري من الفضوليّ ، كما يقول الحنفيّة ، لأنّ المشتري من الفضوليّ لم يملك ما اشتراه إلاّ بعد الإجازة ، فبيعه وقع على ما لم يملك .
ب - إذا باع الفضوليّ شيئاً مملوكاً لغيره ، فإنّ طلب الشّفعة في الشّيء الّذي باعه يكون وقت الإجازة .
بيع وشرط *
1 - وردت في الشّريعة الإسلاميّة نصوص شرعيّة تقرّر للعقود آثارها ، ووردت فيها نصوص أخرى ، بعضها عامّ ، وبعضها خاصّ ، فيما يتّصل بمبلغ حقّ المتعاقدين في تعديل آثار العقود ، بالإضافة عليها ، أو النّقص منها ، وذلك بشروط يشترطانها في عقودهما . ففي القرآن الكريم ، ورد قوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا أوْفوا بالعقود } ، وقوله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطلِ ، إلاّ أنْ تكونَ تجارةً عن تراضٍ منكم } .
وفي السّنّة النّبويّة ورد حديث : « ... المسلمون على شروطهم ، إلاّ شرطاً حرّم حلالاً » وفي رواية : « عند شروطهم » ، وحديث : « مقاطع الحقوق عند الشّروط » ، وحديث :
« ما كان من شرط ليس في كتاب اللّه ، فهو باطل » أي ليس فيما كتبه اللّه وأوجبه في شريعته الّتي شرعها . وحديث : عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ، « عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه : نهى عن بيع وشرط » .
فهذه النّصوص - في مجموعها - تشير إلى أنّ هناك : شروطاً مباحةً للمتعاقدين ، يتخيّرون منها ما يشاءون للالتزام بها في عقودهما ، وشروطاً محظورةً ، لا حقّ لأحد من المتعاقدين في اشتراطها في عقودهما ، لما أنّها تناقض المقصود ، أو تخالف القواعد العامّة الشّرعيّة ، أو تصادم مقصداً من مقاصد الشّريعة . وفيما يلي تفصيل مذاهب الفقهاء في البيع والشّرط ، كلّ مذهب على حدة للاختلاف الشّديد بينها في ذلك .
أوّلاً : مذهب الحنفيّة :
2 - وضع الحنفيّة هذا الضّابط للشّرط المنهيّ عنه ، الّذي يفسد العقد ، وهو : كلّ شرط لا يقتضيه العقد ، ولا يلائمه وفيه نفع لأحدهما ، أو لأجنبيّ ، أو لمبيع هو من أهل الاستحقاق ، ولم يجر العرف به . ولم يرد الشّرع بجوازه .
3 - أمّا إذا كان الشّرط ممّا يقتضيه العقد ، أي يجب بالعقد من غير شرط ، فإنّه يقع صحيحاً ، ولا يوجب فساد البيع . كما إذا اشترى بشرط أن يتملّك المبيع ، أو باع بشرط أن يتملّك الثّمن ، أو باع بشرط أن يحبس المبيع لاستيفاء الثّمن ، أو اشترى على أن يسلّم إليه المبيع ، أو اشترى دابّةً على أن يركبها ، أو ثوباً على أن يلبسه ، أو حنطةً في سنبلها وشرط الحصاد على البائع ، ونحو ذلك ، فالبيع جائز لأنّ البيع يقتضي هذه المذكورات من غير شرط ، فكان ذكرها في معرض الشّرط تقريراً لمقتضى العقد ، فلا توجب فساد العقد .
4 - وكذلك إذا كان الشّرط ملائماً للعقد ، بأن يؤكّد موجبه ، فإنّه لا يفسد العقد ، ولو كان لا يقتضيه العقد ، لأنّه يقرّر حكمه من حيث المعنى ويؤكّده ، فيلتحق بالشّرط الّذي هو من مقتضيات العقد ، كشرط رهن معلوم بالإشارة أو التّسمية ، وشرط كفيل حاضر قبل الكفالة ، أو غائب فحضر وقبلها قبل التّفرّق . واشتراط الحوالة كالكفالة ، فلو باع على أن يحيل المشتري البائع على غيره بالثّمن ، قالوا : فسد قياساً ، وجاز استحساناً .
لكنّ الكاسانيّ اعتبر شرط الحوالة مفسداً ، لأنّه لا يقتضيه العقد ، ولا يقرّر موجبه ، لأنّ الحوالة إبراء عن الثّمن وإسقاط له ، فلم يكن ملائماً للعقد ، بخلاف الكفالة والرّهن .
5- ويشمل شرط المنفعة عندهم ما يأتي :
أ - أن يكون شرط المنفعة لأحد المتعاقدين : كما إذا باع داراً على أن يسكنها البائع شهراً ، ثمّ يسلّمها إليه ، أو أرضاً على أن يزرعها سنةً ، أو دابّةً على أن يركبها شهراً ، أو ثوباً على أن يلبسه أسبوعاً ، أو على أن يقرضه المشتري قرضاً ، أو على أن يهبه هبةً ، أو يزوّجه ابنته ، أو يبيع منه كذا ، ونحو ذلك ، أو اشترى ثوباً على أن يخيطه البائع قميصاً ، أو حنطةً على أن يطحنها ، أو ثمرةً على أن يجذّها ، أو شيئاً له حمل ومؤنة على أن يحمله البائع إلى منزله ، ونحو ذلك . فالبيع في هذا كلّه فاسد ، لأنّ زيادة منفعة مشروطة في البيع تكون رباً ، لأنّها زيادة لا يقابلها عوض في عقد البيع ، وهو تفسير الرّبا ، والبيع الّذي فيه الرّبا فاسد ، أو فيه شبهة الرّبا ، وإنّها مفسدة للبيع ، كحقيقة الرّبا .
ب - ويشمل ما إذا كانت المنفعة لأجنبيّ ، كما إذا باع ساحةً على أن يبني فيها مسجداً ، أو طعاماً على أن يتصدّق به ، فهو فاسد ، وإن يكن في مذهب الحنفيّة قولان في اشتراط القرض ونحوه من المنفعة لأجنبيّ .
ج - ويشمل ما إذا كانت المنفعة للمعقود عليه ، كما لو باع جاريةً على أن يوصي المشتري بعتقها ، فالبيع فاسد ، لأنّه شرط فيه منفعةً للمبيع ، وإنّه مفسد . وكذا لو شرط عليه أن يعتقها في ظاهر الرّواية . وكذا لو شرط عليه أن لا يبيعها أو لا يهبها ، لأنّ المملوك يسرّه أن لا تتداوله الأيدي . وروى الحسن عن الإمام أبي حنيفة جواز اشتراط الإعتاق على المشتري . أمّا ما لا منفعة فيه لأحد فلا يتناوله الشّرط المذكور ، ولا يوجب الفساد ، كما لو باعه ثوباً وشرط عليه أن لا يبيعه ، أو لا يهبه ، أو باعه دابّةً على أن لا يبيعها ، أو طعاماً على أن يأكله ولا يبيعه ، فهذا شرط لا منفعة فيه لأحد ، فلا يوجب في الصّحيح الفساد ، لأنّ الفساد في مثل هذه الشّروط - كما يقول الكاسانيّ - لتضمّنها الرّبا بزيادة منفعة مشروطة لا يقابلها عوض ، ولم يوجد في هذا الشّرط ، لأنّه لا منفعة فيه لأحد ، ولا مطالب له به ، فلا يؤدّي إلى الرّبا ، ولا إلى المنازعة ، فالعقد جائز ، والشّرط باطل .
6- أمّا ما فيه مضرّة لأحدهما ، كما لو باع الثّوب بشرط أن يخرقه المشتري ، أو الدّار على أن يخرّبها ، فالبيع جائز ، والشّرط باطل ، لأنّ شرط المضرّة لا يؤثّر في البيع . ونقل ابن عابدين أنّ هذا مذهب محمّد . ومذهب أبي يوسف هو فساد البيع . وما لا مضرّة ولا منفعة فيه لأحد ، فهو جائز ، كما لو اشترى طعاماً بشرط أكله ، أو ثوباً بشرط لبسه .
7- واستثنى الحنفيّة من شرط المنفعة المفسد ، ما جرى به العرف ، وتعامل به النّاس من غير إنكار ، ومثّلوا له بشراء حذاء بشرط أن يضع له البائع نعلاً ( أو كعباً ) أو القبقاب بشرط أن يسمّر له البائع سيراً ، أو صوفاً منسوجاً ليجعله له البائع قلنسوةً ( أو معطفاً ) أو اشترى قلنسوةً بشرط أن يجعل لها البائع بطانةً من عنده ، أو خفّاً أو ثوباً خلقاً على أن يرقّعه أو يرفوه له البائع . فهذا ونحوه من الشّروط الجائزة عند الحنفيّة ، فيصحّ البيع بها ، ويلزم الشّرط استحساناً ، للتّعامل الّذي جرى به عرف النّاس .
والقياس فساده - كما يقول زفر - لأنّ هذه الشّروط لا يقتضيها العقد ، وفيها نفع لأحد المتعاقدين ، وهو المشتري هنا ، لكنّ النّاس تعاملوها ، وبمثله يترك القياس .
8- ونصّ ابن عابدين - رحمه الله - على اعتبار العرف الحادث . فلو حدث عرف في غير الشّرط المذكور في بيع الثّوب بشرط رفوه ، والنّعل بشرط حذوه ، يكون معتبراً ، إذا لم يؤدّ إلى المنازعة . ونقل ابن عابدين - رحمه الله - عن المنح ، أنّه لا يلزم من اعتبار العرف في هذه الحال أن يكون قاضياً على حديث : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط » لأنّ الحديث معلّل بوقوع النّزاع المخرج للعقد عن المقصود به ، وهو قطع المنازعة ، والعرف ينفي النّزاع ، فكان موافقاً لمعنى الحديث ، فلم يبق من الموانع إلاّ القياس ، والعرف قاض عليه .
9- كما يستثنى من شرط مخالفة اقتضاء العقد ، ما ورد به الشّرع ، وهذا كشرط الأجل في دفع الثّمن ، لحاجة النّاس إلى ذلك ، لكنّه يشترط أن يكون معلوماً لئلاّ يفضي إلى النّزاع . وكذا شرط الخيار في البيع ، لأنّه ثبت في حديث حبّان بن منقذ رضي الله عنه المعروف :
« إذا بايعت فقل لا خلابة ثمّ أنت بالخيار في كلّ سلعة ابتعتها ثلاث ليال ، فإن رضيت فأمسك ، وإن سخطت فاردد » . وقد عدّد الحنفيّة اثنين وثلاثين موضعاً لا يفسد فيها البيع بالشّرط . 10 - وهل يشترط اقتران الشّرط الفاسد بالعقد ؟ وما حكم التّنصيص على الشّرط بعد العقد ، وما حكم ابتناء العقد عليه ؟
أ – أمّا التحاقه بالعقد بعد الافتراق عن المجلس ، ففيه روايتان مصحّحتان في المذهب : إحداهما عن أبي حنيفة : أنّه يلتحق بأصل العقد ، والأخرى عن الصّاحبين – وهي الأصحّ – أنّه لا يلتحق .
وأيّدت هذه الرّواية : بما لو باع مطلقاً ، ثمّ أجّل الثّمن ، فإنّه يصحّ التّأجيل ، لأنّه في حكم الشّرط الفاسد ، وبما لو باعا بلا شرط ، ثمّ ذكرا الشّرط على وجه الوعد ، جاز البيع ، ولزم الوفاء بالوعد ، إذ المواعيد قد تكون لازمةً ، فيجعل لازماً لحاجة النّاس . وبما لو تبايعا بلا ذكر شرط ( الوفاء ) ثمّ شرطاه ، يكون من قبيل بيع الوفاء ، إذ الشّرط اللّاحق يلتحق بأصل العقد ، عند أبي حنيفة لا عند صاحبيه ، والصّحيح أنّه لا يشترط لالتحاقه مجلس العقد .
ب - وأمّا ابتناء العقد على الشّرط الفاسد ، كما لو شرطا شرطاً فاسداً قبل العقد ، ثمّ عقدا العقد ، فقد نقل ابن عابدين عن جامع الفصولين عدم فساد العقد ، لكنّه حقّق ابتناء الفساد لو اتّفقا على بناء العقد عليه ، وذلك : بالقياس على ما صرّحوا به في بيع الهزل . وبالقياس على ما أفتى به الرّمليّ - نقلاً عن كتب المذهب - في رجلين تواضعا على بيع الوفاء قبل عقده ، وعقدا البيع خالياً عن الشّرط : بأنّه يكون على ما تواضعا عليه .
ثانياً : مذهب المالكيّة :
11 - فصّل المالكيّة في الشّرط الّذي يتصوّر حصوله عند البيع ، فقالوا : إنّه إمّا أن لا يقتضيه العقد وينافي المقصود منه . وإمّا أن يخلّ بالثّمن . وإمّا أن يقتضيه العقد ، وإمّا أن لا يقتضيه ولا ينافيه . فالّذي يضرّ بالعقد ويبطله هو الشّرط الّذي فيه مناقضة المقصود من البيع ، أو إخلال بالثّمن ، وهذا عندهم محمل حديث « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط » ، دون الأخيرين .
فمثال الأوّل ، وهو الّذي لا يقتضيه العقد وينافي المقصود منه - ووصفه ابن جزيّ : بالّذي يقتضي التّحجير على المشتري - أن يشترط البائع على المشتري أن لا يبيع السّلعة لأحد أصلاً ، أو إلاّ من نفر قليل ، أو لا يهبها ، أو لا يركبها ، أو لا يلبسها ، أو لا يسكنها ، أو لا يؤاجرها ، أو على أنّه إن باعها من أحد فهو أحقّ بالثّمن . أو يشترط الخيار إلى أمد بعيد . ففي هذه الأحول كلّها يبطل الشّرط والبيع .
12 - واستثنى المالكيّة من منافاة الشّرط مقتضى العقد بعض الصّور :
الأولى : أنّه لو طلب البائع من المشتري الإقالة ، فقال له المشتري : على شرط إن بعتها غيري فأنا أحقّ بها بالثّمن . فهذه الصّورة مستثناة من عدم البيع من أحد ، وهي مع ذلك جائزة عندهم ، لأنّه يغتفر في الإقالة ما لا يغتفر في غيرها .
الثّانية : أن يشترط البائع على المشتري أن يقف المبيع ، أو أن يهبه ، أو أن يتصدّق به على الفقراء ، فهذه من الجائزات ، لأنّها من ألوان البرّ الّذي يدعو إليه الشّرع .
الثّالثة : أن يبيع أمةً بشرط تنجيز عتقها ، فإنّه جائز ، وإن كان منافياً لمقتضى العقد ، وهذا لتشوّف الشّارع إلى الحرّيّة ، بخلاف اشتراط التّدبير والكتابة ، واتّخاذ الأمة أمّ ولد ، فإنّه لا يجوز ، لما فيه من التّضييق على المشتري .
13 - أمّا الشّرط الثّاني ، وهو الإخلال بالثّمن ، فهو مصوّر بأمرين :
الأوّل : الجهل بالثّمن ، وهذا يتمثّل بالبيع بشرط السّلف ، أي القرض من أحدهما للآخر . فإن كان شرط السّلف صادراً من المشتري ، أخلّ ذلك بالثّمن ، لأنّه يؤدّي إلى جهل في الثّمن ، بسبب الزّيادة ، لأنّ انتفاعه بالسّلف من جملة الثّمن ، وهو مجهول . وإن كان شرط السّلف صادراً من البائع ، أخلّ ذلك بالثّمن ، لأنّه يؤدّي إلى جهل في الثّمن ، بسبب النّقص ، لأنّ انتفاعه بالسّلف من جملة المثمّن ، وهو مجهول .
الآخر : شبهة الرّبا ، لأنّ البيع بشرط السّلف ، يعتبر قرضاً جرّ نفعاً : فإن كان المشتري هو المقترض ، صار المقرض له هو البائع ، فينتفع البائع بزيادة الثّمن - وإن كان البائع هو المقترض ، صار المقرض له هو المشتري ، فينتفع المشتري بنقص الثّمن .
وقد صرّح ابن جزيّ في هذا الصّدد بأنّ اشتراط السّلف من أحد المتبايعين لا يجوز بإجماع .
14 - أمّا الشّرط الثّالث ، وهو الّذي يقتضيه العقد ، فهو كشرط تسليم المبيع إلى المشتري ، والقيام بالعيب ، وردّ العوض عند انتقاض البيع ، فهذه الأمور لازمة دون شرط ، لاقتضاء العقد إيّاها ، فشرطها تأكيد - كما يقول الدّسوقيّ .
15 - وأمّا الرّابع من الشّروط ، فهو كشرط الأجل المعلوم ، والرّهن ، والخيار ، والحميل ( أي الكفيل ) فهذه الشّروط لا تنافي العقد ، ولا يقتضيها ، بل هي ممّا تعود عليه بمصلحة ، فإن شرطت عمل بها ، وإلاّ فلا . وصحّحوا اشتراط الرّهن ، ولو كان غائباً ، وتوقّف السّلعة حتّى يقبض الرّهن الغائب . أمّا اشتراط الكفيل الغائب فجائز إن قربت غيبته ، لا إن بعدت ، لأنّه قد يرضى وقد يأبى ، فاشترط فيه القرب .
16 - وقد عرض ابن جزيّ لصور من الشّرط ، تعتبر استثناء ، أو ذات حكم خاصّ ، منها هذه الصّورة ، وهي : ما إذا شرط البائع منفعةً لنفسه ، كركوب الدّابّة أو سكنى الدّار مدّةً معلومةً ، فإنّ البيع جائز ، والشّرط صحيح .
فيبدو أنّ هذا كالاستثناء من التّفصيل الرّباعيّ المتقدّم . ودليله حديث جابر المعروف وهو : « أنّه كان يسير على جمل له ، قد أعيا ، فأراد أن يسيّبه . قال : ولحقني النّبيّ صلى الله عليه وسلم فدعا لي ، وضربه ، فسار سيراً لم يسر مثله ، فقال : بعنيه ، فقلت : لا . ثمّ قال : بعنيه ، فبعته ، واستثنيت حملانه إلى أهلي » وفي رواية : « وشرطت ظهره إلى المدينة » . ويبدو أنّ هذا شرط جائز عند كثيرين ، فقد علّق الشّوكانيّ على هذا الحديث بقوله : وهو يدلّ على جواز البيع مع استثناء الرّكوب ، وبه قال الجمهور ، وجوّزه مالك إذا كانت مسافة السّفر قريبةً ، وحدّها بثلاثة أيّام . وقال الشّافعيّ وأبو حنيفة وآخرون : لا يجوز ذلك ، سواء أقلّت المسافة أم كثرت . والحديث - وإن كان في الانتفاع اليسير بالمبيع إذا كان ممّا يركب من الحيوان - لكنّ المالكيّة قاسوا عليه الانتفاع اليسير بكلّ مبيع بعد بيعه ، على سبيل الاستمرار ، تيسيراً ، نظراً لحاجة البائعين .
17 - والجدير بالذّكر عند المالكيّة ، هو أنّه : إن أسقط الشّرط المخلّ بالعقد ، سواء أكان شرطاً يناقض المقصود من البيع كاشتراط عدم بيع المبيع ، أم كان شرطاً يخلّ بالثّمن كاشتراط السّلف من أحد المتبايعين ، فإنّه يصحّ البيع . ولا يشترط في هذه الحال سوى أن يكون الإسقاط مع قيام السّلعة .
فقد علّل الخرشيّ صحّة البيع هنا ، بحذف شرط السّلف ، بقوله : لزوال المانع .
18 - وهل يستوي الحكم في الإسقاط ، في مثل شرط القرض ، بين أن يكون قبل التّمكّن من الانتفاع به ، وبين أن يكون بعد التّمكّن ؟ قولان لهم في المسألة :
أ - فمشهور المذهب ، وهو قول ابن القاسم ، أنّه : إذا ردّ القرض على المقرض ، والسّلعة قائمة ، صحّ البيع ، ولو بعد غيبة المقترض على القرض غيبةً يمكنه الانتفاع به .
ب - وقول سحنون وابن حبيب ، هو : أنّ البيع ينقض مع الغيبة على القرض ، ولو أسقط شرط القرض ، لوجود موجب الرّبا بينهما ، أو لتمام الرّبا بينهما - كما عبّر الشّيخ الدّردير - فلا ينفع الإسقاط . والمعتمد الأوّل عند الدّردير ، كما صرّح به ، ومال الدّسوقيّ إلى الآخر ، كما يبدو من كلامه ونقله الآخر ، فقد حكى تشهيره ، وكذا الّذي يبدو من كلام العدويّ . وهنا سؤالان يطرحان :
19 - السّؤال الأوّل : ما الّذي يلزم لو وقع البيع بشرط القرض ، وهو الشّرط المخلّ بالثّمن ، وفاتت السّلعة عند المشتري ، بمفوّت البيع الفاسد ( كما لو هلكت ) سواء أسقط مشترط الشّرط شرطه ، أم لم يسقطه ؟ وفي الجواب أقوال :
الأوّل : وهذا في المدوّنة - إمّا أن يكون المقرض هو المشتري أو البائع :
أ - فإن كان المشتري هو الّذي أقرض البائع ، فإنّ المشتري يلزمه الأكثر من الثّمن الّذي وقع به البيع ، ومن القيمة يوم القبض .
فإذا اشتراها بعشرين والقيمة ثلاثون ، لزمه ثلاثون .
ب - وإن كان البائع هو الّذي أقرض المشتري ، فعلى المشتري للبائع الأقلّ من الثّمن ومن القيمة ، فيلزمه في المثال المذكور عشرون ، لأنّه أقرض ليزداد ، فعومل بنقيض قصده . الثّاني : يقابل الّذي في المدوّنة ، وهو لزوم القيمة مطلقاً ، سواء أكان المسلّف هو البائع أم المشتري .
الثّالث : أنّ تغريم المشتري الأقلّ ، إذا اقترض من البائع محلّه إذا لم يغب على ما اقترضه ، وإلاّ لزمه القيمة بالغةً ما بلغت . وهذا كلّه إذا كان المبيع قيميّاً ، فإن كان مثليّاً ، فإنّما يجب فيه المثل ، لأنّه كعينه ، فلا كلام لواحد ، فهو بمثابة ما لو كان قائماً ، وردّ بعينه .
السّؤال الثّاني :
20 - ما الّذي يلزم ، لو وقع البيع بشرط مناقض للمقصود ، وفاتت السّلعة عند المشتري ، سواء أأسقط ذلك الشّرط ، أم لم يسقط ؟ قالوا : الحكم هو : أنّ للبائع الأكثر من قيمتها يوم القبض ومن الثّمن ، لوقوع البيع بأنقص من الثّمن المعتاد ، لأجل الشّرط .
ثالثاً : مذهب الشّافعيّة :
21 - التزم الشّافعيّة نهي الشّارع عن بيع وشرط في الحديث المتقدّم . والتزموا حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحلّ سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك » ولم يستثنوا إلاّ ما ثبت استثناؤه بالشّرع ، وقليلاً ممّا رأوا أنّه من مقتضيات العقد أو مصالحه ، فكان مذهبهم بذلك أضيق المذاهب الثّلاثة . ومع ذلك ، فقد قسّم بعضهم الشّرط ، فقال :
الشّرط إمّا أن يقتضيه مطلق العقد ، كالقبض والانتفاع والرّدّ بالعيب ، أوْ لا .
فالأوّل : لا يضرّ بالعقد .
والثّاني - وهو الّذي لا يقتضيه العقد - إمّا أن يتعلّق بمصلحة العقد ، كشرط الرّهن ، والإشهاد والأوصاف المقصودة - من الكتابة والخياطة والخيار ونحو ذلك - أوْ لا .
فالأوّل : لا يفسده ، ويصحّ الشّرط نفسه .
والثّاني : - وهو الّذي لا يتعلّق بمصلحة العقد - إمّا أن لا يكون فيه غرض يورث تنازعاً ، كشرط أن لا تأكل الدّابّة المبيعة إلاّ كذا ، فهو لاغ ، والعقد صحيح . وإمّا أن يكون فيه غرض يورث تنازعاً ، فهذا هو الفاسد المفسد ، كالأمور الّتي تنافي مقتضاه ، نحو عدم القبض ، وعدم التّصرّف وما أشبه ذلك . وخلاصة هذا التّقسيم :
- 1 - أنّ اشتراط ما يقتضيه العقد ، أو يتعلّق بمصلحته أو بصحّته ، صحيح .
- 2 - وأنّ اشتراط ما لا غرض فيه لاغ ، ولا يفسد العقد .
- 3 - وأمّا اشتراط ما فيه غرض يورث تنازعاً ، فهو الشّرط المفسد ، وذلك كاشتراط ما يخالف مقتضاه .
22 - ومن أهمّ ما نصّوا عليه تطبيقاً للحديثين ولهذا التّقسيم :
- 1 - البيع بشرط بيع ، كأن يقول : بعتك هذه الأرض بألف ، على أن تبيعني دارك بكذا ، أو تشتري منّي داري بكذا ، فهذا شرط فاسد مفسد ، لا يقتضيه العقد .
- 2 - البيع بشرط القرض ، كأن يبيعه أرضه بألف ، بشرط أن يقرضه مائةً ، ومثل القرض الإجارة ، والتّزويج ، والإعارة .
- 3 - شراء زرع بشرط أن يحصده البائع ، أو ثوب بشرط أن يخيطه ، ومنه كما يقول عميرة البرلّسيّ : شراء حطب بشرط أن يحمله إلى بيته ، فالمذهب في هذا وأمثاله بطلان الشّراء ، لاشتماله على شرط عمل فيما لم يملكه بعد ، وذلك فاسد ، ولأنّه - كما قال الإسنويّ - شرط يخالف مقتضى العقد ، فيبطل البيع والشّرط في الأصحّ . وإن يكن عندهم قولان آخران في هذه الجزئيّة :
أحدهما : أنّه يصحّ البيع ، ويلزم الشّرط ، وهو في المعنى بيع وإجارة ، ويوزّع المسمّى عليهما باعتبار القيمة .
وثانيهما : يبطل الشّرط ، ويصحّ البيع بما يقابل المبيع من المسمّى .
23 - واستثنى الشّافعيّة مسائل معدودةً من النّهي صحّحوها مع الشّرط وهي :
أ - البيع بشرط الأجل المعيّن ، لقوله تعالى : { إذا تداينتم بِدَيْنٍ إلى أجلٍ مسمًّى فاكْتبوه }
ب - البيع بشرط الرّهن ، وقيّدوه بالمعلوميّة .
ج - البيع بشرط الكفيل المعلوم أيضاً ، لعوض ما ، من مبيع أو ثمن ثابت في الذّمّة ، وذلك للحاجة إليهما في معاملة من لا يرضى إلاّ بهما .
د - الإشهاد على جريان البيع ، للأمر به في الآية قال تعالى : { وأَشْهدوا إذا تَبَايَعْتُم } .
هـ - البيع بشرط الخيار ، لثبوته بحديث حبّان بن منقذ ، المعروف .
24 - البيع بشرط عتق المبيع ، وفيه أقوال عندهم :
القول الأوّل : وهو أصحّها ، أنّ الشّرط صحيح ، والبيع صحيح ، وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها ، « أنّها أرادت أن تشتري بريرة للعتق ، فاشترطوا ولاءها ، فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : اشتريها وأعتقيها ، فإنّما الولاء لمن أعتق ولم ينكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ شرط الولاء لهم ، إذ قال : ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب اللّه ؟ من اشترط شرطاً ليس في كتاب اللّه فهو باطل » ولأنّ استعقاب البيع العتق عهد في شراء القريب ، فاحتمل شرطه . ولتشوّف الشّارع للعتق . على أنّ فيه منفعةً للمشتري ، دنيا بالولاء ، وأخرى بالثّواب ، وللبائع بالتّسبّب فيه .
القول الثّاني : أنّ الشّرط باطل والبيع باطل ، كما لو شرط بيعه أو هبته .
والقول الثّالث : أنّه يصحّ البيع ، ويبطل الشّرط .
25 - وممّا استثناه الشّافعيّة أيضاً من النّهي : شرط الولاء لغير المشتري مع العتق ، في أضعف القولين عندهم ، فيصحّ البيع ويبطل الشّرط ، لظاهر حديث بريرة في بعض رواياته ، « وقوله - عليه الصلاة والسلام - لعائشة رضي الله عنها : واشترطي لهم الولاء » .
لكنّ الأصحّ بطلان الشّرط والبيع في هذه الحال ، لما تقرّر في الشّرع ، من أنّ الولاء لمن أعتق . فأجاب هؤلاء عن حديث عائشة « واشترطي لهم الولاء » بأنّ الشّرط لم يقع في عقد البيع ، وبأنّه خاصّ بقضيّة عائشة ، وبأنّ قوله : « لهم » بمعنى : عليهم
26 - وممّا استثنوه أيضاً : شرط البراءة من العيوب في المبيع ، لأنّه يحتاج البائع فيه إلى شرط البراءة ، ليثق بلزوم البيع فيما لا يعلمه من الخفيّ ، دون ما يعلمه ، مطلقاً في حيوان أو غيره ، فالبيع مع الشّرط المذكور صحيح مطلقاً ، سواء أصحّ الشّرط أم لم يصحّ ، لأنّه شرط يؤكّد العقد ، ويوافق ظاهر الحال ، وهو السّلامة من العيوب .
وتأيّد هذا بما روي أنّ ابن عمر رضي الله عنهما :" باع عبداً له بثمانمائة درهم ، بالبراءة فقال له المشتري : به داء لم تسمّه لي . فاختصما إلى عثمان رضي الله عنه فقضى على ابن عمر أن يحلف : لقد باعه العبد وما به داء يعلمه ، فأبى أن يحلف ، وارتجع العبد ، فباعه بألف وخمسمائة ". قالوا : فدلّ قضاء عثمان المشهور بين الصّحابة على جواز اشتراط البراءة من العيب ، وهو مشهور بين الصّحابة ، فصار من الإجماع السّكوتيّ .
27 - وممّا استثنوه أيضاً :
أ - شرط نقل المبيع من مكان البائع ، قالوا : لأنّه تصريح بمقتضى العقد .
ب - شرط قطع الثّمار أو تبقيتها بعد صلاحها ونضجها ، فهو جائز في عقد البيع ، كما أنّه جائز بيعها بعد النّضج مطلقاً من الشّرط . لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ، « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثّمار حتّى يبدو صلاحها » . وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا تتبايعوا الثّمار حتّى يبدو صلاحها » فالحديث يدلّ على جواز بيع الثّمر بعد بدو صلاحه ، وهو صادق بكلّ الأحوال الثّلاثة : بيعه من غير شرط ، وبشرط قطعه ، وبشرط إبقائه .
ج - شرط أن يعمل البائع عملاً معلوماً في المبيع ، كما لو اشترى ثوباً بشرط أن يخيطه البائع ، في أضعف أقوال ثلاثة ، وقد تقدّمت .
د - اشتراط وصف مقصود في المبيع عرفاً ، ككون الدّابّة حاملاً أو ذات لبن ، فالشّرط صحيح ، وللمشتري الخيار إن تخلّف الشّرط . قالوا : ووجه الصّحّة : أنّ هذا الشّرط يتعلّق بمصلحة العقد . ولأنّه التزام موجود عند العقد ولا يتوقّف التزامه على إنشاء أمر مستقبل ، ذاك الّذي هو حقيقة الشّرط ، فلم يشمله النّهي عن بيع وشرط .
هـ - اشتراط أن لا يسلّم المبيع حتّى يستوفي الثّمن .
و - شرط الرّدّ بالعيب ، لأنّه مقتضى العقد .
ز - خيار الرّؤية فيما إذا باع ما لم يره ، على القول بصحّته ، للحاجة إلى ذلك .
رابعاً : مذهب الحنابلة :
28 - قسم الحنابلة الشّروط في البيع إلى قسمين :
الأوّل : صحيح لازم ، ليس لمن اشترط عليه فكّه . الآخر : فاسد يحرم اشتراطه .
- 1 - فالأوّل : وهو الشّرط الصّحيح اللّازم ، ثلاثة أنواع :
أحدها : ما هو مقتضى العقد بحكم الشّرع ، كالتّقابض ، وحلول الثّمن ، وتصرّف كلّ واحد منهما فيما يصير إليه ، وخيار المجلس ، والرّدّ بعيب قديم . فهذا الشّرط وجوده كعدمه ، لا يفيد حكماً ، ولا يؤثّر في العقد ، لأنّه بيان وتأكيد لمقتضى العقد .
الثّاني : شرط من مصلحة العقد ، أي تتعلّق به مصلحة تعود على المشترط من المتعاقدين : الخيار ، والشّهادة ، أو اشتراط صفة في الثّمن ، كتأجيله كلّه أو بعضه ، أو رهن معيّن به ، أو كفيل معيّن به ، أو اشتراط صفة مقصودة في المبيع ، كالصّناعة والكتابة ، أو اشتراط كون الدّابّة ذات لبن ، أو غزيرة اللّبن ، أو الفهد صيوداً ، أو الطّير مصوّتاً ، أو يبيض ، أو يجيء من مسافة معلومة ، أو كون خراج الأرض كذا .. فيصحّ الشّرط في كلّ ما ذكر ، ويلزم الوفاء به ، وذلك لحديث : « المسلمون عند شروطهم إلاّ شرطاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً » ، ولأنّ الرّغبات تختلف باختلاف ذلك ، فلو لم يصحّ اشتراط ذلك لفاتت الحكمة الّتي لأجلها شرع البيع . فهذا الشّرط إن وفّى به لزم ، وإلاّ فللمشترط له الفسخ لفواته ، أو أرش فقد الصّفة ، فإن تعذّر الرّدّ تعيّن أرش فقد الصّفة ، كالمعيب إذا تلف عند المشتري . الثّالث : شرط ليس من مقتضى العقد ، ولا من مصلحته ، ولا ينافي مقتضاه ، لكن فيه نفعاً معلوماً للبائع أو للمشتري .
أ - كما لو شرط البائع سكنى الدّار المبيعة شهراً ، أو أن تحمله الدّابّة ( أو السّيّارة ) إلى موضع معلوم ، فإنّه يصحّ لحديث « جابر رضي الله عنه ، حين باع جمله من النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ قال فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي » وحديث : جابر أيضاً ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن المحاقلة والمزابنة ، والثّنيا إلاّ أن تعلم » والمراد بالثّنيا الاستثناء . وقياساً على ما لو باعه داراً مؤجّرةً .
ومثل ما تقدّم أيضاً : اشتراط البائع أن يحبس المبيع حتّى يستوفي ثمنه ، وكذا اشتراطه المنفعة لغيره مدّةً معلومةً ، فلو تلفت العين المشترط استثناء نفعها ، قبل استيفاء البائع النّفع : فإن كان التّلف بفعل المشتري وتفريطه ، لزمه أجرة مثله ، لتفويته المنفعة المستحقّة على مستحقّها . وإن تلفت بغير ذلك ، لم يلزمه العوض .
ب - وكما لو شرط المشتري على البائع حمل الحطب ، أو تكسيره ، أو خياطة ثوب ، أو تفصيله ، أو حصاد زرع ، أو جزّ رطبه ، فيصحّ إن كان النّفع معلوماً ، ويلزم البائع فعله . ولو شرط عليه أن يحمل متاعه إلى منزله ، والبائع لا يعرفه ، فلهم فيه وجهان .
ثمّ إن تعذّر العمل المشروط بتلف المبيع ، أو استحقّ النّفع بالإجارة الخاصّة ، أو تعذّر بموت البائع ، رجع المشتري بعوض ذلك النّفع ، كما لو انفسخت الإجارة بعد قبض عوضها ، رجع المستأجر بعوض المنفعة . وإن تعذّر العمل على البائع بمرض ، أقيم مقامه من يعمل ، والأجرة على البائع ، كما في الإجارة .
29 - استثنى الحنابلة من جواز اشتراط النّفع المعلوم ، ما لو جمع في الاستثناء بين شرطين ، وكانا صحيحين : كحمل الحطب وتكسيره ، أو خياطة الثّوب وتفصيله ، فإنّ البيع لا يصحّ ، لحديث : عبد اللّه بن عمر رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحلّ سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك » . أمّا إن كان الشّرطان المجموعان من مقتضى العقد ، كاشتراط حلول الثّمن مع تصرّف كلّ منهما فيما يصير إليه ، فإنّه يصحّ بلا خلاف . أو يكونا من مصلحة البيع ، كاشتراط رهن وكفيل معيّنين بالثّمن ، فإنّه يصحّ ، كما لو كانا من مقتضاه .
- 2 - والآخر : وهو الشّرط الفاسد المحرّم ، تحته أيضاً ثلاثة أنواع :
النّوع الأوّل :
30 - أن يشترط أحدهما على صاحبه عقداً آخر : كعقد سلم ، أو قرض ، أو بيع ، أو إجارة ، أو شركة ، فهذا شرط فاسد ، يفسد به البيع ، سواء اشترطه البائع أم المشتري . وهذا مشهور المذهب ، وإن كان بطلان الشّرط وحده احتمالاً عندهم ، وهو رواية عن الإمام أحمد . ودليل المشهور :
أ - أنّه بيعتان في بيعة ، « وأنّ النّبيّ نهى عن بيعتين في بيعة » . والنّهي يقتضي الفساد .
ب - وقول ابن مسعود رضي الله عنه : صفقتان في صفقة رباً .
ج - ولأنّه شرط عقداً في آخر ، فلم يصحّ ، كنكاح الشّغار . وكذلك كلّ ما كان في معنى ذلك ، مثل أن يقول : بعتك داري بكذا على أن تزوّجني ابنتك ، أو على أن تنفق على دابّتي ، أو على حصّتي من ذلك ، قرضاً أو مجّاناً .
النّوع الثّاني :
31 - أن يشترط في العقد ما ينافي مقتضاه . مثل : أن يشترط البائع على المشتري أن لا يبيع المبيع ، ولا يهبه ، ولا يعتقه ، أو يشترط عليه أن يبيعه ، أو يقفه ، أو أنّه متى نفق ( هلك ) المبيع فبها ، وإلاّ ردّه ، أو إن غصبه غاصب رجع عليه بالثّمن ، وإن أعتقه فالولاء له ، فهذه وما أشبهها شروط فاسدة . وفي فساد البيع بها روايتان في المذهب . والمنصوص عن أحمد أنّ البيع صحيح ، ولا يبطله الشّرط ، بل يبطل الشّرط فقط ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبطل الشّرط في حديث بريرة المعروف ، ولم يبطل العقد .
32 - وقد استثنى الحنابلة من هذا الشّرط الباطل العتق ، فيصحّ أن يشترطه البائع على المشتري ، لحديث بريرة المذكور ، ويجبر المشتري على العتق إن أباه ، لأنّه حقّ للّه تعالى كالنّذر ، فإن امتنع المشتري من عتقه أعتقه الحاكم عليه ، لأنّه عتق مستحقّ عليه ، لكونه قربةً التزمها ، كالنّذر .
33 - وبناءً على الحكم بصحّة البيع فيما تقدّم ، وبفساد الشّرط فقط بناءً على مذهبهم - فإنّه يجوز للّذي فات غرضه بفساد الشّرط ، من البائع والمشتري ، سواء أعلم بفساد الشّرط أم لم يعلم - ما يلي :
أ - فسخ البيع ، لأنّه لم يسلم له ما دخل عليه من الشّرط .
ب - للبائع الرّجوع بما نقصه الشّرط من الثّمن بإلغاء الشّرط ، لأنّه إنّما باع بنقص ، لما يحصل له من الغرض الّذي اشترطه ، فإذا لم يحصل له غرضه رجع بالنّقص .
ج - وللمشتري الرّجوع بزيادة الثّمن بإلغاء الشّرط ، لأنّه إنّما اشترى بزيادة الثّمن ، لما يحصل له من الغرض الّذي اشترطه ، فإذا لم يحصل له غرضه رجع بالزّيادة الّتي سمح بها ، كما لو وجده معيباً . فللبائع الخيار بين الفسخ وبين أخذ أرش النّقص .
وللمشتري الخيار بين الفسخ وبين أخذ ما زاده على الثّمن .
ومع ذلك فقد ذكر الحنابلة أيضاً احتمال ثبوت الخيار ، بدون الرّجوع بشيء ، وذلك : قياساً على من شرط رهناً أو ضميناً ، فامتنع الرّاهن والضّمين . ولأنّه ما ينقصه الشّرط من الثّمن مجهول ، فيصير الثّمن مجهولاً . ولأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحكم لأرباب بريرة بشيء » ، مع فساد الشّرط ، وصحّة البيع .
النّوع الثّالث :
34 - أن يشترط البائع أو المشتري شرطاً يعلّق عليه البيع والشّراء ، كقول البائع : بعتك إن جئتني بكذا ، أو بعتك إن رضي فلان ، وكقول المشتري : اشتريت إن جاء زيد ، فلا يصحّ البيع ، وذلك لأنّ مقتضى البيع نقل الملك حال التّبايع ، والشّرط هنا يمنعه . ولأنّه علّق البيع على شرط مستقبل ، فلم يصحّ ، كما إذا قال : بعتك إذا جاء آخر الشّهر . واستثنوا من ذلك قول البائع : بعتك إن شاء اللّه ، وقول المشتري : قبلت إن شاء اللّه ، وبيع العربون ، فإنّه يصحّ ، لأنّ نافع بن الحارث اشترى لعمر دار السّجن من صفوان ، فإن رضي عمر ، وإلاّ له كذا وكذا . ( ر : مصطلح عربون )
بيعتان في بيعة :
35 - ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة » . وورد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه . قال : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة » . والمراد بهذه المسألة : جمع بيعتين في عقد واحد . وتسمية ذلك العقد بيعتين باعتبار تعدّد الثّمن . وأشار الكمال بن الهمام من الحنفيّة إلى توهّم من يتكلّم في الحديث : أنّ الحديثين بمعنًى واحد ، وليس كذلك ، بل حديث البيعتين أخصّ من حديث الصّفقتين ، لأنّ الأوّل خصوص صفقة من الصّفقات ، وهي البيع ، وأمّا حديث الصّفقتين فهو أعمّ لشموله البيع وغيره ، كالإجارة . واختلفت الصّور الّتي ألقاها الفقهاء لتصوّر المنهيّ عنه . على تفصيل ينظر في مصطلح : ( بيعتان في بيعة ) .
بيع الوضيعة *
انظر : وضيعة .
بيع الوفاء *
التّعريف :
1 - البيع هو : مبادلة مال بمال .
والوفاء لغةً : ضدّ الغدر ، يقال : وفّى بعهده وأوفى بمعنًى واحد ، والوفاء : الخلق الشّريف العالي الرّفيع ، وأوفى الرّجل حقّه ووفّاه إيّاه بمعنى : أكمله له وأعطاه وافياً .
وفي اصطلاح الفقهاء ، بيع الوفاء هو : البيع بشرط أنّ البائع متى ردّ الثّمن يردّ المشتري المبيع إليه ، وإنّما سمّي ( بيع الوفاء ) لأنّ المشتري يلزمه الوفاء بالشّرط .
هذا ، ويسمّيه المالكيّة " بيع الثّنيا " والشّافعيّة " بيع العهدة " والحنابلة " بيع الأمانة " ويسمّى أيضاً " بيع الطّاعة " " وبيع الجائز " وسمّي في بعض كتب الحنفيّة " بيع المعاملة "
حكم بيع الوفاء :
2 - اختلف الفقهاء في الحكم الشّرعيّ لبيع الوفاء .
فذهب المالكيّة والحنابلة والمتقدّمون من الحنفيّة والشّافعيّة إلى : أنّ بيع الوفاء فاسد ، لأنّ اشتراط البائع أخذ المبيع إذا ردّ الثّمن إلى المشتري يخالف مقتضى البيع وحكمه ، وهو ملك المشتري للمبيع على سبيل الاستقرار والدّوام . وفي هذا الشّرط منفعة للبائع ، ولم يرد دليل معيّن يدلّ على جوازه ، فيكون شرطاً فاسداً يفسد البيع باشتراطه فيه .
ولأنّ البيع على هذا الوجه لا يقصد منه حقيقة البيع بشرط الوفاء ، وإنّما يقصد من ورائه الوصول إلى الرّبا المحرّم ، وهو إعطاء المال إلى أجل ، ومنفعة المبيع هي الرّبح ، والرّبا باطل في جميع حالاته .
وذهب بعض المتأخّرين من الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ بيع الوفاء جائز مفيد لبعض أحكامه ، وهو انتفاع المشتري بالمبيع - دون بعضها - وهو البيع من آخر .
وحجّتهم في ذلك : أنّ البيع بهذا الشّرط تعارفه النّاس وتعاملوا به لحاجتهم إليه ، فراراً من الرّبا ، فيكون صحيحاً لا يفسد البيع باشتراطه فيه ، وإن كان مخالفاً للقواعد ، لأنّ القواعد تترك بالتّعامل ، كما في الاستصناع .
3 - وذهب أبو شجاع وعليّ السّغديّ والقاضي أبو الحسن الماتريديّ من الحنفيّة إلى : أنّ بيع الوفاء رهن وليس ببيع ، فيثبت له جميع أحكام الرّهن فلا يملكه المشتري ولا ينتفع به ، ولو استأجره لم تلزمه أجرته ، كالرّاهن إذا استأجر المرهون من المرتهن ، ويسقط الدّين بهلاكه ولا يضمن ما زاد عليه ، وإذا مات الرّاهن كان المرتهن أحقّ به من سائر الغرماء . وحجّتهم في ذلك : أنّ العبرة في العقود للمعاني ، لا للألفاظ والمباني . ولهذا كانت الهبة بشرط العوض بيعاً ، وكانت الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالةً ، وأمثال ذلك كثير في الفقه . وهذا البيع لمّا شرط فيه أخذ المبيع عند ردّ الثّمن كان رهناً ، لأنّه هو الّذي يؤخذ عند أداء الدّين .
4 - قال ابن عابدين : في بيع الوفاء قولان : الأوّل : أنّه بيع صحيح مفيد لبعض أحكامه من حلّ الانتفاع به ، إلاّ أنّه لا يملك المشتري بيعه ، قال الزّيلعيّ في الإكراه : وعليه الفتوى . الثّاني : القول الجامع لبعض المحقّقين : أنّه فاسد في حقّ بعض الأحكام حتّى ملك كلّ منهما الفسخ ، صحيح في حقّ بعض الأحكام كحلّ الإنزال ومنافع المبيع ، ورهن في حقّ البعض حتّى لم يملك المشتري بيعه من آخر ولا رهنه وسقط الدّين بهلاكه . فهو مركّب من العقود الثّلاثة ، كالزّرافة فيها صفة البعير والبقرة والنّمر ، جوّز لحاجة النّاس إليه بشرط سلامة البدلين لصاحبهما ، قال في البحر : وينبغي أن لا يعدل في الإفتاء عن القول الجامع . وفي النّهر : والعمل في ديارنا على ما رجّحه الزّيلعيّ .
5- وقال صاحب بغية المسترشدين من متأخّري الشّافعيّة : بيع العهدة صحيح جائز وتثبت به الحجّة شرعاً وعرفاً على قول القائلين به ، ولم أر من صرّح بكراهته ، وقد جرى عليه العمل في غالب جهات المسلمين من زمن قديم وحكمت بمقتضاه الحكّام ، وأقرّه من يقول به من علماء الإسلام ، مع أنّه ليس من مذهب الشّافعيّ ، وإنّما اختاره من اختاره ولفّقه من مذاهب ، للضّرورة الماسّة إليه ، ومع ذلك فالاختلاف في صحّته من أصله وفي التّفريع عليه ، لا يخفى على من له إلمام بالفقه .
شرط بيع الوفاء عند من يجيزه :
6 - لتطبيق أحكام بيع الوفاء شرطان عند من يجيزه لا بدّ من توافرهما وهما :
أ - أن ينصّ في العقد على أنّه متى ردّ البائع الثّمن ردّ المشتري المبيع .
ب - سلامة البدلين ، فإن تلف المبيع وفاءً وكانت قيمته مساويةً للدّين ( أي الثّمن ) سقط من الدّين في مقابلته ، وإن كانت زائدةً على مقدار الدّين ، وهلك المبيع في يد المشتري ، سقط من قيمته قدر ما يقابل الدّين ، وهو في هذا كالرّهن عند الحنفيّة .
الآثار المترتّبة على بيع الوفاء :
هناك آثار تترتّب على بيع الوفاء عند من يجيزه من متأخّري الحنفيّة وغيرهم مجملها فيما يلي :
أوّلاً - عدم نقله للملكيّة :
7 - أنّ بيع الوفاء لا يسوّغ للمشتري التّصرّف النّاقل للملك كالبيع والهبة عند من يجيزه ، ويترتّب على ذلك عدّة مسائل :
أ - عدم نفاذ بيع المبيع وفاءً من غير البائع ، وذلك لأنّه كالرّهن ، والرّهن لا يجوز بيعه .
ب - لا يحقّ للمشتري في بيع الوفاء الشّفعة ، وتبقى الشّفعة للبائع ، ففي الفتاوى الهنديّة نقلاً عن فتاوى أبي الفضل : أنّه سئل عن كرم بيد رجل وامرأة ، باعت المرأة نصيبها من الرّجل ، واشترطت أنّها متى جاءت بالثّمن ردّ عليها نصيبها ، ثمّ باع الرّجل نصيبه ، هل للمرأة فيه شفعة ؟ قال ( أبو الفضل ) : إن كان البيع بيع معاملة ففيه الشّفعة للمرأة ، سواء كان نصيبها من الكرم في يدها أو في يد الرّجل .
وبيع الوفاء وبيع المعاملة واحد ، كذا في التّتارخانيّة .
ج - الخراج في الأرض المبيعة بيع وفاء على البائع .
د - لو هلك المبيع في يد المشتري فلا شيء لواحد منهما على الآخر .
هـ - منافع المبيع بيع وفاء للبائع كالإجارة وثمرة الأشجار ونحوها ، فلو باع داره من آخر بثمن معلوم بيع وفاء ، وتقابضا ، ثمّ استأجرها من المشتري مع شرائط صحّة الإجارة وقبضها ومضت المدّة ، هل يلزمه الأجر ؟ قال : لا ، فتبيّن أنّ الملك لم ينتقل للمشتري ، إذ لو انتقل لوجبت الأجرة ، وكذلك ثمر الشّجر للبائع دون المشتري ، فإنّ المشتري لو أخذ من ثمر الأشجار شيئاً ، فإن أخذه بإذن البائع برئت ذمّته ، وإن أخذه بغير إذنه ورضاه ضمنها .
و - انتقال المبيع وفاءً بالإرث إلى ورثة البائع ، فلو باع رجل بستانه من آخر بيع وفاء ، وتقابضا ، ثمّ باعه المشتري من آخر بيعاً باتّاً وسلّم وغاب ، فللبائع أو ورثته أن يخاصموا المشتري الثّاني ، ويستردّوا منه البستان . وكذا إذا مات البائع والمشتريان ، ولكلّ ورثة ، فلورثة المالك أن يستخلصوه من أيدي ورثة المشتري الثّاني ، ولورثة المشتري الثّاني أن يرجعوا بما أدّى من الثّمن إلى بائعه في تركته الّتي في أيدي ورثته ، ولورثة المشتري الأوّل أن يستردّوه ، ويحبسوه بدين مورثهم إلى أن يقضوا الدّين .
ثانياً : حقّ البائع في استرداد المبيع :
8 - يحقّ للبائع أن يستردّ مبيعه إذا دفع الثّمن للمشتري في حالتي التّوقيت وعدمه .
ثالثاً : أثر موت أحد المتعاقدين في بيع الوفاء :
9 - سبق قريباً أنّه إذا مات المشتري أو البائع بيع وفاء فإنّ ورثته يقومون مقامه في أحكام الوفاء ، نظراً لجانب الرّهن .
رابعاً : اختلاف المتعاقدين في بيع الوفاء :
10 - من أهمّ الأحكام الّتي تتعلّق باختلاف المتعاقدين في بيع الوفاء ما يلي :
أ - إذا اختلف المتعاقدان في أصل بيع الوفاء ، كأن قال أحدهما : كان البيع باتّاً أو وفاءً ، فالقول لمدّعي الجدّ والبتات إلاّ بقرينة الوفاء ، وهناك قول آخر عند الحنفيّة أنّ القول لمدّعي الوفاء استحساناً .
ب - إذا أقام كلّ من المشتري والبائع البيّنة تقدّم بيّنة الوفاء ، لأنّها خلاف الظّاهر .
ج - إذا لم يكن لأحدهما بيّنة فالقول قول مدّعي البتات .
قال ابن عابدين : فتحصّل أنّ الاستحسان في الاختلاف في البيّنة ترجيح بيّنة الوفاء ، وفي الاختلاف في القول ترجيح قول مدّعي البتات . ومن القرائن الدّالّة على الوفاء نقصان الثّمن كثيراً ، وهو ما لا يتغابن فيه النّاس عادةً إلاّ أن يدّعي صاحبه تغيّر السّعر .
بيعتان في بيعة *
التّعريف :
1 - البيعتان لغةً : مثنّى البيعة . والبيعة : اسم المرّة الواحدة من البيع .
والبيعتان في بيعة في الاصطلاح قد اختلف العلماء فيها على أقوال :
الأوّل : معناه أن يبيع الرّجل السّلعة فيقول : هي نقداً بكذا ، ونسيئةً بكذا . أي بثمن أكثر من الثّمن الأوّل . وقد فسّره بهذا سماك - راوي حديث النّهي عن البيعتين في بيعة - عن ابن مسعود رضي الله عنه عند الإمام أحمد . وقد أخذ بهذا التّفسير . قوم ، ولو بيّن المتبايعان أحد الثّمنين بعد ذلك ، ومن هنا منعوا الزّيادة في بيعة السّلعة نسيئةً عن سعر يومها كما سيأتي .
الثّاني : فسّره بعضهم بالتّفسير السّابق نفسه ، لكن بقيد الافتراق على الإبهام بين الثّمنين ، فقالوا : معناه أن يقول : بعتك هذا نقداً بكذا ، أو نسيئةً بكذا . ثمّ يفترقان قبل أن يلتزما بكون البيع على أحد الثّمنين ، بل يفترقان على الإبهام . قال الشّافعيّ : هو أن يقول : بعتك هذا بألف نقداً أو ألفين إلى سنة ، فخذ بأيّهما شئت أنت وشئت أنا . قال القاضي من الشّافعيّة : المسألة مفروضة على أنّه قبل على الإبهام . أمّا لو قال : قبلت بألف نقداً ، أو قال : قبلت بألفين نسيئةً ، صحّ ذلك وفسّره بذلك أبو عبيد والثّوريّ وإسحاق والمالكيّة والحنابلة أيضاً ، مع تفسيرهم له بتفسيرات أخرى كما يأتي .
الثّالث : قال مالك أيضاً : هو أن يشتري سلعةً بدينار أو بشاة ، أو يشتري بدينار شاةً أو ثوباً ، قد وجب أحدهما للمشتري .
قال الباجيّ : سواء كان الإلزام لهما أو لأحدهما ، فيدخل في هذا الوجه الوجه السّابق أيضاً ، والمدار على التّخيير بين ثمنين أو سلعتين مع الإلزام بأحدهما لا بعينه .
الرّابع : ما قاله ابن القيّم في تهذيب السّنن : هو أن يقول : بعتك هذه السّلعة بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك - أي بعد ذلك - بثمانين حالّةً . قال : وهذا معنى الحديث الوارد في البيعتين في بيعة ، وهو الّذي لا معنى له غيره ، وهو مطابق لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « فلَه أَوْكَسُهما أو الرّبا » فإنّه إمّا أن يأخذ الثّمن الزّائد فيربي ، أو الثّمن الأوّل فيكون هو أوكسهما . وهو قد قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجّلة أكثر منها ، ولا يستحقّ إلاّ رأس ماله . ووجه كونه من باب البيعتين في بيعة : أنّهما بيعتان إحداهما بثمن مؤجّل ، والأخرى بثمن معجّل ، وقد أبرمتا في صفقة واحدة .
الخامس : هو أن يشترطا بيعاً في بيع .
وقد فسّره بهذا الوجه أيضاً الشّافعيّ ، فقال : هو أن يقول : بعتك هذه الفرس بألف على أن تبيعني دارك بكذا ، أي إذا وجب لك عندي فقد وجب لي عندك . قال الشّوكانيّ : وهذا يصلح تفسيراً للرّواية الأولى من حديث أبي هريرة لا للأخرى ، فإنّ قوله « أوكسهما » يدلّ على أنّه باع الشّيء الواحد بيعتين : بيعة بأقلّ ، وبيعة بأكثر .
وجعل منه مسروق أن يقول : بعتك هذا البزّ بكذا وكذا ديناراً تعطيني بالدّينار عشرة دراهم ، أي لأنّه جمع بين بيع وصرف .
السّادس : وهو عند الحنفيّة أعمّ من الوجه الخامس ، إذ يدخل فيه أن يبيع داراً بشرط أن يسكنها البائع شهراً ، أو دابّةً على أن يستخدمها المشتري ولو مدّةً معيّنةً ، ونحو ذلك . السّابع : قال الخطّابيّ : هو أن يشتري منه بدينار صاع حنطة سلماً إلى شهر ، فلمّا حلّ الأجل ، وطالبه بالحنطة ، قال له : بعني الصّاع الّذي لك عليّ بصاعين إلى شهرين ، قال الخطّابيّ : فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأوّل ، فيردّان إلى أوكسهما وهو الأوّل . ونقل هذا التّفسير عن شرح سنن أبي داود لابن رسلان ، ونقله ابن الأثير في النّهاية ، وواضح أنّ مثل هذا البيع باطل عند الجميع ، لكونه بيع ربويّ بجنسه متفاضلاً ونسيئةً .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الصّفقتان في الصّفقة :
2 - الصّفقة هي : المرّة من الصّفق ، وهو في اللّغة : الضّرب الّذي يسمع له صوت . وأطلق في العرف اللّغويّ على المرّة الواحدة من المبايعات ، فقد كان أحدهم إذا أوجب البيع صفّق بيده على يد المشتري ، وعلى بيعة الإمام ، ومنه الحديث « من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه » ... وتطلق الصّفقة في الاصطلاح كذلك على البيعة وعلى غيرها من العقود ، فالمرّة من الإجارة صفقة ، ومن القرض صفقة ، وهكذا
ويراد ب " الصّفقتين في صفقة " جمع صفقتين في عقد واحد ، كأن يبيع بيته من فلان ويشتري منه دابّته ، على أنّه إذا وجبت هذه وجبت الصّفقة الأخرى ، أو يبيع بيته من فلان ويستأجر منه دابّته ، على أنّه إذا وجب البيع وجبت الإجارة . فاصطلاح ( الصّفقتين في صفقة ) أعمّ من اصطلاح ( البيعتين في بيعة ) .
ب - البيع والشّرط :
3 - البيع والشّرط أعمّ من البيعتين في بيعة ، لأنّ الاشتراط قد يكون اشتراط عقد آخر ، وقد يكون اشتراطاً لمصلحة أحد المتعاقدين ، من غير أن يكون المشروط عقداً آخر .
حكم البيعتين في بيعة :
4 - البيعتان في بيعة أحد البيوع المنهيّ عنها ، وقد ورد النّهي عنها في ثلاث روايات : الأولى : رواية أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة » ومثلها رواية عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما . ورواية عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة ، وعن ربح ما لم يضمن » .
الثّانية : عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من باع بيعتين في بيعة فَلَه أَوْكسهما أو الرّبا » وقال الشّوكانيّ : في إسناده محمّد بن عمرو بن علقمة ، وقد تكلّم فيه غير واحد .
الثّالثة : عن ابن مسعود رضي الله عنه قال « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة » وفي رواية عنه « لا تحلّ الصّفقتان في الصّفقة » وفي أخرى موقوفة « الصّفقة في الصّفقتين رباً » فالبيعتان في بيعة عقد محرّم ، يأثم من يقدم عليه لمخالفته النّهي ، وهو عقد فاسد ، لكنّ الفقهاء يختلفون فيما يحكمون بفساده ، طبقاً لاختلافهم في تعريفهم للبيعتين في بيعة كما تقدّم ، وفيما يلي بيان ذلك :
النّوع الأوّل : أن يقول البائع : هو بكذا حالّاً ، وبأعلى منه مؤجّلاً .
5- البيع بثمن آجل معلوم القدر والأجل ، متّفق على جوازه من حيث الجملة . ولا خلاف فيه لأحد من الفقهاء ، وذلك لقول اللّه تعالى { يا أيّها الّذين آمَنوا إذا تَدَاينتم بِدَيْن إلى أجلٍ مسمًّى فاكتبوه } قال المفسّرون : المراد به كلّ معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً والآخر نسيئةً فما قدّم فيه الثّمن وأجّل فيه تسليم المثمّن ، فهو السّلم ، وقد ورد الشّرع بجوازه ، وانعقد عليه الإجماع ، فهذا مثله ، لأنّه تأجيل لأحد العوضين ، وهذا كلّه بشرط أن لا يكون العوضان ممّا يجري بينهما ربا النّسيئة ، كالذّهب بالذّهب أو بالفضّة ، وكالقمح بالشّعير . هذا ، غير أنّ الإمام أحمد كره أن يختصّ الرّجل بالبيع بالنّسيئة ، لا يبيع إلاّ بها ، ولا يبيع بنقد . قال ابن عقيل : وإنّما كره النّسيئة لمضارعتها الرّبا ، فإنّ الغالب أنّ البائع بنسيئة يقصد الزّيادة بالأجل ، لكنّ البيع بنسيئة ليس بمحرّم اتّفاقاً ، ولا يكره إلاّ أن لا يكون له تجارة غيره . غير أنّه إن كان الثّمن الّذي وقع عليه البيع بالنّسيئة أعلى من الثّمن الحاضر لتلك السّلعة : فقد نقل الخلاف فيه عن زين العابدين عليّ بن الحسين ، فقد نقل الشّوكانيّ عنه : أنّه كان يرى حرمة بيع الشّيء بأكثر من سعر يومه لأجل النّساء .
ونقل صاحب سبل السّلام الخلاف فيه عن قوم لم يسمّهم .
قال الشّوكانيّ : متمسّكهم رواية « فله أَوْكَسُهما أو الرّبا » قال : وقد عرفتَ ما في راويه من المقال ، ومع ذلك فالمشهور عن أبي هريرة رضي الله عنه اللّفظ الّذي رواه غيره ، وهو النّهي عن بيعتين ، ولا حجّة فيه على المطلوب ، ثمّ قال : على أنّ غاية ما فيها الدّلالة على المنع من البيع إذا وقع على هذه الصّورة ، وهي أن يقول : نقداً بكذا ونسيئةً بكذا ، لا إذا قال من أوّل الأمر : نسيئةً بكذا فقط ، وكان أكثر من سعر يومه . مع أنّ المتمسّكين بهذه الرّواية يمنعون من هذه الصّورة ، ولا يدلّ الحديث على ذلك ، فالدّليل أخصّ من الدّعوى . وظاهر ما تقدّم عن سماك ( ر : ف 1 ) أنّه كان يرى المحرّم أن يقول : هو نقداً بكذا ونسيئةً بكذا ، فدلالة الحديث عليه مطابقة .
النّوع الثّاني : البيع بثمنين معجّل ومؤجّل أعلى منه ، مع الإبهام :
6 - إذا باع سلعةً بألف حالّةً أو ألف ومائة إلى سنة ، وقد وجب عليه أحدهما ، فإن عيّنا أحد الثّمنين قبل الافتراق جاز البيع ، وإن افترقا على الإبهام لم يجز .
وقد نصّ الشّافعيّ كما تقدّم على أنّ هذا من البيعتين في بيعة المنهيّ عنه ، وأخذ بذلك جمهور الفقهاء . وقد علّل الشّافعيّة والحنابلة لهذا المنع بعلّتين :
الأولى : الجهالة في الثّمن وعدم استقراره . قال ابن قدامة : لأنّ الثّمن مجهول فلم يصحّ ، كالبيع بالرّقم المجهول ، ولأنّ أحد العوضين غير معيّن ولا معلوم ، فلم يصحّ ، كما لو قال : بعتك إحدى دوري . قال : وإنّما يصحّ إذا قال المشتري بعد ذلك : أنا آخذه بالنّسيئة بكذا ، فقال البائع : خذه ، أو قد رضيت ، أو نحو ذلك ، فيكون عقداً كافياً . أمّا إن لم يوجد ما يقوم مقام الإيجاب أو يدلّ عليه فلا يصحّ ، لأنّ ما مضى من القول - أي على التّرديد والإبهام - لا يصلح أن يكون إيجاباً . ثمّ خرّج وجهاً آخر بالصّحّة .
الثّانية : أنّ في ذلك رباً ، والتّعليل بهذه العلّة مستند إلى بعض الرّوايات عن ابن مسعود رضي الله عنه ، ففيها : « الصّفقة في الصّفقتين رباً » وحديث أبي هريرة رضي الله عنه : « فله أوكسهما أو الرّبا » .
وقد علّل بهذه العلّة الإمام مالك وشيخه ربيعة وسائر المالكيّة . جاء في المدوّنة تفسير ما كره من ذلك : أنّه إذا ملك ثوباً بدينار نقداً أو دينارين إلى أجل ، تأخذه بأيّهما شئت وشئت أنا ، وقد وجب عليك أحدهما ، فهذا كأنّه وجب عليك بدينار نقداً ، فأخّرته فجعلته بدينارين إلى أجل ، أو فكأنّه وجب عليك بدينارين إلى أجل فجعلتهما بدينار نقداً .
توضيح مذهب المالكيّة في هذه المسألة :
7 - قد توسّع المالكيّة في شرح هذه المسألة وبيان ضوابط ما يحرم من البيعتين في بيعة ، وحاصل كلامهم ما يلي :
أ - أنّ التّحريم شامل لما إذا كان التّرديد بين سلعتين مختلفتين ، كما لو قال : أبيعك بدينار هذه السّلعة ، أو هذه الشّاة . ولما إذا كان التّرديد بين ثمنين ، كما إذا قال : أبيعك هذه السّلعة بعشرة نقداً أو بعشرين إلى سنة .
ب - ولا يحرم ذلك إلاّ إذا كان العقد على سبيل الإلزام للمتبايعين ، أو لأحدهما بأحد الأمرين ، أمّا إن كان على سبيل التّخيير لكليهما من غير إلزام جاز .
ج - وهذا إن كانت السّلعتان اللّتان حصل التّخيير بينهما مختلفتين بالجنس ، أمّا إن كانتا متّفقتين بالجنس ، والاختلاف بينهما بالجودة أو الرّداءة فقط فلا بأس به ، لأنّه لا يختار إلاّ الأفضل . قال مالك : لا بأس بشراء ثوب من ثوبين يختاره بثمن كذا ، أو خمسين من مائة ثوب في عدل يختارها إن كانت جنساً واحداً ووصف رقاعها - أي نسجها - وطولها ، وإن اختلفت القيم ، بعد أن تكون كلّها مَرويّةً أو هَرَويّةً ( نسبةً إلى مَرْو وهَرَاة ) .
د - ويستثنى من هذه الحالة أن تكون السّلم طعاماً يدخله ربا الفضل ، فلا يجوز أن تشتري منه على أن تختار صبرةً من صبر ، أو تختار من نخيل - أي من ثمر نخيل - نخلةً - أي ثمرها أو من شجر مثمر عدداً يسمّيه ، اتّفق الجنس أو اختلف ، وإنّما نصّ المالكيّة على الطّعام في هذه المسألة ، لأنّ علّة ربا الفضل عندهم في غير النّقدين : الطّعم .
وقالوا في تصوير وجود ربا الفضل هنا : إنّه يختار إحدى الصّبر ثمّ يتركها ، ويأخذ أخرى ، وبينهما فضل في الكيل والسّلعة من المطعوم فيكون من ربا الفضل .
ولم يقبل الحنفيّة التّعليل بهذه العلّة أصلاً قال ابن الهمام : إنّ كون الثّمن على تقدير النّقد ألفاً ، وعلى تقدير النّسيئة ألفين ليس في معنى الرّبا .
8- وأمّا البيع مع التّخيير بين السّلع أو بين أثمان مختلفة للسّلعة الواحدة ، فهو فاسد عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أيضاً للجهالة ، ولكون البيع على تلك الصّفة مثاراً للتّنازع ، واستثنى الحنفيّة على سبيل الاستحسان أن يبيع من الثّياب مثلاً أحد ثوبين أو ثلاثة على أنّه بالخيار بينها ثلاثة أيّام فأقلّ ، فإن كانت أربعة أثواب فالبيع فاسد . قالوا : والقياس أن يفسد البيع في الكلّ ، وهو قول زفر والشّافعيّ . وجه الاستحسان : أنّ شرع الخيار للحاجة إلى دفع الغبن ليختار ما هو الأوفق والأرفق ، والحاجة متحقّقة لأنّ المشتري يحتاج إلى اختيار من يثق به ، أو اختيار من يشتريه لأجله ، غير أنّ هذه الحاجة تندفع بالثّلاث لوجود الجيّد والرّديء والوسط فيها ، أمّا الأربعة فما زاد فالحاجة إليها غير متحقّقة .
أمّا لو باع أحد قيميّين على الإبهام دون تخيير ، كدار وثوب بدينار مثلاً ، فهو فاسد عند الجميع للجهالة بالمبيع .
النّوع الثّالث : ما ورد في كلام ابن القيّم من أن يبيع الشّيء بثمن مؤجّل ، ويشترط أن يعود فيشتريه من مشتريه بثمن حالّ أقلّ من ثمنه المؤجّل .
9 - وهذا النّوع أيضاً بيع فاسد عند كلّ من يرى بطلان بيع العينة ، فإنّ بيع العينة : أن يبيع لرجل بثمن معجّل سلعةً كان قد اشتراها منه بثمن مؤجّل أكثر منه . وهي من حيل الرّبا ، فإنّ السّلعة رجعت إلى صاحبها ، وثبت له ألف ومائتان مثلاً في ذمّة صاحبه إلى أجل ، وأخذ في مقابلها ألفاً حالّةً ( انظر : بيع العينة ) .
فالّذين قالوا بتحريم بيع العينة قالوا : يحرم ذلك ويفسد إذا وقع ، سواء وقع البيع الثّاني اتّفاقاً ، أو تواطآ عليه عند العقد الأوّل . فإذا وقع على أساس اشتراط العقد الثّاني في العقد الأوّل فهو أولى بالتّحريم والفساد . أمّا الّذين أجازوا بيع العينة - ومنهم الشّافعيّ وأصحابه - فيحرم هذا البيع عندهم كذلك ، ويفسد ، وهو عندهم من البيعتين في بيعة المنهيّ عنه ، ومن البيع أو الشّرط كذلك ، وهو داخل في النّوع التّالي .
النّوع الرّابع : أن يشترط في عقد البيع بيعاً آخر أو غيره من العقود :
10 - وهو على طريقتين :
الأولى : أن يشترط في عقد البيع بيعاً آخر ولا يحدّد المبيع الثّاني أو الثّمن . فهذا لا يصحّ من وجهين . الأوّل : أنّه من " البيع والشّرط " المنهيّ عنه . والثّاني : الجهالة ، وهذا بالإضافة إلى كونه من البيعتين في بيعة عند الأكثر .
الثّانية : أن يشترط في البيع بيعاً آخر ويحدّد المبيع والثّمن ، كأن يقول : بعتك داري هذه بألف على أن تبيعني دارك بألف وخمسمائة ، أو على أن تشتري منّي داري الأخرى بألف وخمسمائة . وقد صرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بأنّ هذا من البيعتين في بيعة المنهيّ عنه . وهو عند الحنفيّة والشّافعيّة أيضاً من باب البيع والشّرط المنهيّ عنه في السّنّة النّبويّة . ( ر : بيع وشرط ) .
11 - والنّهي عن البيع والشّرط وإن اختلف الفقهاء في الأخذ به - فمنعه الحنفيّة والشّافعيّة ، وأجازه الحنابلة إذا كان شرطاً واحداً - على تفصيل عند الجميع ليس هذا موضع بيانه ، إلاّ أنّ المشروط إن كان بيعاً آخر فإنّه يفسد الشّرط ، ويفسد البيع أيضاً حتّى عند الحنابلة . وهذا النّوع يفسد أيضاً سواء أكان المشروط في عقد البيع بيعاً أو غيره ، كسلف أو إجارة أو قرض أو غير ذلك من العقود ، قياساً على اشتراط البيع ، ولدخوله في عموم الرّواية الأخرى « نهى عن صفقتين في صفقة » فإنّ الصّفقة بمعنى العقد ، فتشمل كلّ عقدين جمع بينهما في عقد واحد . وورد في الجمع بين البيع والسّلف نهي خاصّ ، هو قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « لا يحلّ سلَف وبيع » . قال ابن قدامة : وهذا مذهب مالك والشّافعيّ ولا أعلم فيه خلافاً ، إلاّ أنّ مالكاً قال : إن ترك مشترط السّلف شرطه صحّ البيع . وعلّل ابن قدامة لفساد البيع بالإضافة إلى كونه من الصّفقتين في صفقة ، بأنّه إذا اشترط القرض مثلاً زاد في الثّمن لأجله ، فتصير الزّيادة في الثّمن عوضاً عن القرض وربحاً له ، وذلك رباً محرّم ، ففسد كما لو صرّح به .
ولو كان العقدان ليس فيهما بيع فسدا كذلك ، كما لو شرط في الإجارة سلفاً أو نكاحاً ، أو شرط في النّكاح نكاحاً ، وهو الشّغار المنهيّ عنه على أحد القولين في تفسيره ( ر : شغار ) . ومن جملة ما يدخل في هذا النّوع أيضاً : أن يبيع سلعةً بدنانير ذهبيّة ، ويشترط أن يسلّمه الثّمن دراهم بسعر صرف يتّفقان عليه في عقد البيع نفسه . قال ابن قدامة : وهذا باطل لأنّه شرط في العقد أن يصارفه بالثّمن الّذي وقع العقد به ، والمصارفة عقد ، فيكون من باب البيعتين في بيعة ، ثمّ قال : وقال مالك : لا ألتفت إلى اللّفظ الفاسد إذا كان معلوماً حلالاً ، فكأنّه باع السّلعة بالدّراهم الّتي يأخذها بدل الدّنانير .
12 - وينبغي التّفريق بين هذه الحالة المبيّنة أعلاه ، وبين أن يبيع سلعتين مختلفتين بثمن واحد ، كما لو باع دابّةً وداراً بألف دينار ، فإنّ هذا جائز اتّفاقاً وليس من البيعتين في بيعة . وكذا لو باع الدّار بدابّة وألف دينار .
13 - ومثله ما لو جمع بين بيع وإجارة ، أو بيع وصرف ، أو إجارة ونكاح بعوض واحد ، كما لو قال بعتك داري هذه وآجرتك داري الأخرى سنةً بألف دينار ، فهذا جائز لأنّهما عينان يجوز أخذ العوض عن كلّ واحدة منهما منفردةً ، فجاز أخذ العوض عنهما مجتمعتين ، كما لو قال : بعتك هذّبن الثّوبين بألف . وهذا قول الحنابلة الأصحّ عندهم ، والأظهر عند الشّافعيّة ، ويوزّع العوض عند التّرادّ في أحدهما حسب قيمتهما ( أي قيمة المؤجّر مثلاً من حيث الأجرة للمدّة المضروبة ، وقيمة رقبة المبيع )
والقول الآخر عند كلّ من الفريقين : لا يصحّ ، لأنّ حكمهما مختلف ، فإنّ المبيع يضمن بمجرّد البيع . والإجارة بخلافه ، وقد يعرض - لاختلاف حكمهما باختلاف أسباب الفسخ والانفساخ وغير ذلك - ما يقتضي فسخ أحدهما ، فيحتاج إلى التّوزيع ، ويلزم الجهل عند العقد بما يخصّ كلّاً منهما من العوض ، وذلك محذور ، غير أنّه إن كان أحد العقدين نكاحاً صحّ بمهر المثل . لأنّ التّسمية ليست بشرط في صحّته .
وعند المالكيّة - على المشهور عندهم - التّصريح بأنّه لا يجوز أن يجتمع مع البيع صرف ولا جعالة ولا مساقاة ولا شركة ولا قراض ولا نكاح ولا سلف ، ولا يجوز اجتماع شيء منها مع غيره منها . والسّلف لا يجتمع معه أيضاً صدقة أو هبة أو نحوهما من جانب المتسلّف .
النّوع الخامس : اشتراط منفعة لأحد المتعاقدين :
14 - ومثاله أن يقول : بعتك هذه الدّار على أن أسكنها سنةً ، أو قال : بعتك هذه الدّابّة على أن أستخدمها شهراً . وقد أدخل الحنفيّة هذا النّوع في البيعتين في بيعة المنهيّ عنه ، وقالوا : بأنّه يفسد البيع لذلك ، ولأنّه من باب البيع والشّرط المنهيّ عنه ( ر : البيع والشّرط ) . ووجه كونه من البيعتين في بيعة - كما في الهداية وفتح القدير - أنّه لو كانت الخدمة والسّكنى يقابلهما شيء من الثّمن ، بأن يعتبر المسمّى ثمناً بإزاء المبيع ، وأجرةً بإزاء الخدمة والسّكنى ، يكون إجارةً في بيع . ولو كان لا يقابلهما شيء يكون إعارةً في بيع . ووجه كونه ربا : أنّ المشروط زيادة في العقد عاريّة عن العوض ، وهو معنى الرّبا .
ومثله عند الحنفيّة ما لو باع شجراً عليه ثمر ، اشترط بقاء الثّمر على الشّجر مدّةً .
ووجه منعه أنّه يكون إجارةً أو إعارةً في بيع ، فيكون من باب صفقتين في صفقة كذلك . ويوافق الشّافعيّة على أنّ هذا البيع ممنوع ، وأنّ مثل هذا الشّرط يفسد العقد ، لأنّه من باب البيع والشّرط .
أمّا عند المالكيّة والحنابلة : فهو بيع جائز ، حيث كانت المنفعة المشروطة معلومةً . وقالوا : قد صحّ من حديث جابر رضي الله عنه « أنّه باع من النّبيّ صلى الله عليه وسلم جملاً واستثنى حمله إلى المدينة » ولأنّه صلى الله عليه وسلم « نهى عن الثّنيا إلاّ أن تعلم » .
بيعة *
التّعريف :
1- للبيعة في اللّغة معان ، فتطلق على : المبايعة على الطّاعة . وتطلق على : الصّفقة من صفقات البيع ، ويقال : بايعته ، وهي من البيع والبيعة جميعاً والتّبايع مثله . قال اللّه تعالى { إنّ الّذين يُبايِعونك إنّما يُبايعون اللّه } وفي الحديث « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لمجاشع حينما سأله : علام تبايعنا ؟ قال : على الإسلام والجهاد » . وهو عبارة عن المعاقدة والمعاهدة . كأنّ كلّاً منهما باع ما عنده لصاحبه ، وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره . ومثله : أيمان البيعة . وهي : الّتي رتّبها الحجّاج مشتملةً على أمور مغلّظة من طلاق وعتق وصوم ونحو ذلك .
والبيعة اصطلاحاً ، كما عرّفها ابن خلدون في مقدّمته : العهد على الطّاعة ، كأنّ المبايع يعاهد أميره على أن يسلّم له النّظر في أمر نفسه وأمور المسلمين ، لا ينازعه في شيء من ذلك ، ويطيعه فيما يكلّفه به من الأمر على المنشط والمكره ، وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد ، فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري ، وصارت البيعة تقترن بالمصافحة بالأيدي .
هذا مدلولها في اللّغة ومعهود الشّرع ، وهو المراد في الحديث في بيعة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ، وعند الشّجرة ، وحيثما ورد هذا اللّفظ . ومنه : بيعة الخلفاء ، ومنه أيمان البيعة . فقد كان الخلفاء يستحلفون على العهد ويستوعبون الأيمان كلّها لذلك . فسمّي هذا الاستيعاب أيمان البيعة .
2 - هذا وقد استفاض عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ النّاس كانوا يبايعونه تارةً على الهجرة والجهاد ، وتارةً على إقامة أركان الإسلام ، وتارةً على الثّبات والقرار في معركة الكفّار ، وتارةً على التّمسّك بالسّنّة واجتناب البدعة والحرص على الطّاعات .
هذا ، والكلام عن البيعة بمعنى ( المرّة من البيع ) موطنه مصطلح : ( بيع ) .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - العقد :
3 - العقد وجمعه عقود ، وله في اللّغة معان منها : عقد الحبل ونحوه ، ومنها العهد .
وفي الاصطلاح : ربط أجزاء التّصرّف بإيجاب وقبول شرعاً . فالعقد أعمّ من البيعة .
ب - العهد :
4 - من معانيه في اللّغة : كلّ ما عوهد اللّه عليه ، وكلّ ما بين العباد من المواثيق . والعهد : الّذي يكتب للولاة عند تقليدهم الأعمال ، والجمع : عهود ، وقد عهد إليه عهداً . والعهد : الموثق واليمين يحلف بها الرّجل . تقول : عليّ عهد اللّه وميثاقه ، وأخذت عليه عهد اللّه وميثاقه . فالبيعة نوع من العهود .
الحكم التّكليفيّ للبيعة :
5 - يختلف حكم المبايعة باختلاف المبايعين ، فأهل الحلّ والعقد يجب عليهم بيعة من يختارونه للإمامة ممّن قد استوفى الشّروط الشّرعيّة لها .
وأمّا سائر النّاس ، فالأصل وجوب البيعة على كلّ واحد منهم بناءً على بيعة أهل الحلّ والعقد ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتةً جاهليّةً » ولكنّ المالكيّة ذهبوا إلى أنّه يكفي سائر النّاس أن يعتقدوا أنّهم تحت أمر الإمام المبايع ، وأنّهم ملتزمون بالطّاعة له . هذا بالنّسبة للمبايعين من أهل الحلّ والعقد وسائر النّاس ،
أمّا من جهة المختار ليكون إماماً فيجب عليه قبول البيعة إن تعيّنت الإمامة ، بأن لا يوجد غيره مستوفياً للشّروط ، فإن كان المستوفون للشّروط أكثر من واحد ، كان قبول البيعة فرض كفاية ( وانظر مصطلح : الإمامة الكبرى ، وأهل الحلّ والعقد ) .
أدلّة مشروعيّة البيعة :
6 - مبايعة المسلمين للرّسول صلى الله عليه وسلم إنّما هي مبايعة للّه تبارك وتعالى ، وذلك كما في قوله سبحانه : { إنّ الّذين يبايعونك إنّما يبايعون اللّه ، يَدُ اللّه فوق أيديهم } فَيَدُه سبحانه في الثّواب فوق أيديهم في الوفاء ، ويده في المنّة عليهم بالهداية فوق أيديهم في الطّاعة . والمراد بالمبايعة في الآية بيعة الرّضوان بالحديبية ، وقد أنزل اللّه تعالى فيمن بايعه فيها قوله جلّ شأنه : { لقد رضي اللّه عن المؤمنين إذْ يبايعونك تحت الشّجرةِ فَعَلِمَ ما في قلوبِهم فأَنْزَلَ السّكينةَ عليهم وأَثَابهم فَتْحاً قريباً } وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال : « كنّا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة ، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشّجرة وهي سمرة . وقال : بايعناه على أن لا نفرّ ، ولم نبايعه على الموت »
وفي بيعة العقبة الأولى بايع المسلمون الرّسول صلى الله عليه وسلم على بيعة النّساء قبل أن تفرض عليهم الحرب . « فعن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه ، وكان شهد بدراً ، وهو أحد النّقباء ليلة العقبة ، أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه : بايعوني على أن لا تشركوا باللّه شيئاً ، ولا تَسْرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوا في معروف ، فمن وفّى منكم فأجره على اللّه ، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدّنيا فهو كفّارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثمّ ستره اللّه ، فهو إلى اللّه ، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه . فبايعناه على ذلك » 7 - أمّا بيعة النّساء فقد بيّنت في قول اللّه تبارك وتعالى : { يا أيّها النّبيّ إذا جاءك المؤمناتُ يُبَايعْنك على أن لا يُشْرِكْنَ باللّه شيئاً ولا يَسْرقْن ولا يزنين ولا يقتلن أولادَهنّ ولا يأتين بِبُهْتانٍ يَفْترِينَه بين أيديهنّ وأرجلهنّ ولا يَعْصينَك في مَعْروف فبايِعْهنّ واستغفرْ لهنّ اللّهَ إنَّ اللّهَ غفور رحيم } ولمّا فتح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مكّة جاءه نساء أهلها يبايعنه فأخذ عليهنّ : أن لا يشركن .. إلخ . ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : « كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يمتحنّ بقول اللّه تعالى : { يا أيّها النّبيّ إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن باللّه شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين } » إلى آخر الآية ، قالت عائشة : فمن أقرّ بهذا من المؤمنات فقد أقرّ بالمحنة . وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهنّ ، قال لهنّ : انطلقن فقد بايعتكنّ ولا واللّه ما مسّت يد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يد امرأة قطّ ، غير أنّه بايعهنّ بالكلام . قالت عائشة : واللّه ما أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على النّساء قطّ إلاّ بما أمره اللّه عزّ وجلّ ، وما مسّت كفّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كفّ امرأة قطّ ، وكان يقول لهنّ إذا أخذ عليهنّ قد بايعتكنّ كلاماً » . ( أي دون مصافحة ) .
وقالت أمّ عطيّة رضي الله عنها « لمّا قدم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت ، ثمّ أرسل إلينا عمر بن الخطّاب فقام على الباب ، فسلّم ، فرددن عليه السّلام ، فقال : أنا رسول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إليكنّ : أن لا تشركن باللّه شيئاً فقلن : نعم . فمدّ يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثمّ قال : اللّهمّ اشهد » . وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا بايع النّساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ، ثمّ أمر النّساء فغمسن أيديهنّ فيه » .
فبيعة رجال المسلمين للرّسول صلى الله عليه وسلم كانت بالمصافحة مع الكلام . أمّا بيعة نسائهم له صلى الله عليه وسلم فكانت بالكلام من غير مصافحة . قال النّوويّ في شرح مسلم ، إنّ بيعة النّساء بالكلام من غير أخذ كفّ ، وبيعة الرّجال بأخذ الكفّ مع الكلام . وحين تخوّف عمر بن الخطّاب الاختلاف بين المسلمين قال لأبي بكر : ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسطها ، فبايعه ، ثمّ بايعه المهاجرون ، ثمّ بايعه الأنصار .
الفرق بين مبايعة الصّحابة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم وبين مبايعة غيره من الأئمّة :
8 - إنّ موضوع بيعة الرّسول صلى الله عليه وسلم يقتصر على التزام المبايعين وتعهّدهم بالسّمع والطّاعة ، وخاصّةً الالتزام بما بايعوا عليه ، أمّا تعيينه صلى الله عليه وسلم للإمامة فإنّما كان ذلك بالوحي . وأمّا بيعة غيره فهي التزام من كلّ من الطّرفين ، فهي من أهل الحلّ والعقد التزام للإمام بالسّمع والطّاعة والإقرار بإمامته ، والتزام من المبايع بإقامة العدل والإنصاف والقيام بفروض الإمامة .
ويترتّب عليها إذا تمّت على الوجه المشروع انعقاد الإمامة لمن بايعه أهل الحلّ والعقد ، وأمّا سائر النّاس غير أهل الحلّ والعقد فعليهم أن يبايعوه بعد ذلك تبعاً لأهل الحلّ والعقد .
هل البيعة عقد ؟ وتتوقّف على القبول ؟
9 - البيعة عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار ، وهو عقد بين طرفين أحدهما : أهل الحلّ والعقد . وثانيهما : الشّخص الّذي أدّاهم اجتهادهم إلى اختياره ممّن قد استوفوا شرائط الإمامة ليكون إماماً لهم . فإذا اجتمع أهل الحلّ والعقد للاختيار ، وتصفّحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها ، فقدّموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً وأكملهم في تلك الشّروط ، ومن يسرع النّاس إلى طاعته ولا يتوقّفون عن بيعته . فإذا تعيّن لهم من بين الجماعة من أدّاهم الاجتهاد إلى اختياره عرضوها عليه ، فإن أجاب إليها بايعوه عليها ، وانعقدت ببيعتهم له الإمامة ، فلزم كافّة الأمة الدّخول في بيعته والانقياد لطاعته ، وإن امتنع من الإمامة ولم يجب إليها لم يحبر عليها ، وعدل عنه إلى من سواه من مستحقّيها .
أثر البيعة في انعقاد الإمامة :
10 - اختيار أهل الحلّ والعقد للإمام وبيعتهم له هي الأصل في انعقاد الإمامة ، وأهل الحلّ والعقد هم العلماء وجماعة أهل الرّأي والتّدبير الّذين اجتمع فيهم العلم بشروط الأمانة والعدالة والرّأي . ( ر : أهل الحلّ والعقد ) .
أمّا انعقاد الإمامة بولاية العهد أو بالتّغلّب فينظر حكم ذلك في مصطلح ( إمامة كبرى ) . وليس لمن كان في بلد الإمام على غيره من أهل البلاد فضل مزيّة يتقدّم بها على غيره في الاختيار ، وإنّما صار من يحضر ببلد الإمام متولّياً لعقد الإمامة عرفاً لا شرعاً ، لسبق علمهم بموته ، لأنّ من يصلح للخلافة في الأغلب موجودون في بلده .
عدد من تنعقد بمبايعتهم الإمامة :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّ الإمامة تنعقد بإجماع أهل الحلّ والعقد على المبايعة ، وبمبايعة جمهور أهل الحلّ والعقد من كلّ بلد ، وذهب بعض الفقهاء إلى أنّها لا تنعقد بأقلّ من ذلك ، ليتمّ الرّضا به والتّسليم لإمامته . وقد روى البخاريّ عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال : « من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الّذي بايعه » .
قال أبو يعلى : أمّا انعقاد الإمامة باختيار أهل الحلّ والعقد فلا تنعقد إلاّ بجمهور أهل الحلّ والعقد ، قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم : الإمام الّذي يجتمع قول أهل الحلّ والعقد عليه ، كلّهم يقول هذا إمام . قال أبو يعلى : وظاهر هذا أنّها تنعقد بجماعتهم .
وقيل : تنعقد بأقلّ من ذلك . وممّن قال بعدم انعقادها إلاّ بجمهور أهل الحلّ والعقد المالكيّة والحنابلة ، وقال المعتزلة بانعقادها بخمسة ، وقال الشّافعيّة بانعقادها بالأربعة والثّلاثة والاثنين ، وقال الحنفيّة بانعقادها بواحد ، وانظر للتّفصيل مصطلح ( إمامة كبرى ) .
كيفيّة البيعة :
12- كيفيّتها أن يقول كلّ من أهل الحلّ والعقد المبايعين لمن يبايعونه بالخلافة : قد بايعناك على إقامة العدل والإنصاف والقيام بفروض الإمامة . ولا يحتاج ذلك إلى صفقة اليد ، وقد كانت البيعة على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وخلفائه الرّاشدين بالمصافحة ، فلمّا ولي الحجّاج رتّبها أيماناً تشتمل على اليمين باللّه والطّلاق والعتاق وصدقة المال . وزاد ابن القيّم في إعلام الموقّعين : وبيعة النّساء بالكلام « وما مسّت يد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يد امرأة لا يملك عصمتها » .
وفي مبايعة أبي بكر رضي الله عنه حين تخوّف عمر بن الخطّاب رضي الله عنه الاختلاف بين المسلمين ، قال لأبي بكر رضي الله عنه : ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعه ، ثمّ بايعه المهاجرون ، ثمّ بايعه الأنصار . وحديث عائشة رضي الله عنها في بيعة النّساء ، وأنّها كانت كلاماً من غير أن يضرب يده على أيديهنّ كما كان يبايع الرّجال .
نقض البيعة :
13 - يحرم على المسلم إذا بايع الإمام أن ينقض بيعته أو يترك طاعته ، إلاّ لموجب شرعيّ يقتضي انتقاض البيعة ، كردّة الإمام ونحو ذلك من الأسباب الّتي تقدّم ذكرها في مبحث ( الإمامة الكبرى ) فإن نقض البيعة لغير ذلك فهو حرام ، وقد ورد النّهي عنه في قول اللّه تعالى : { إنّ الّذين يبايعونك إنّما يبايعون اللّه يد اللّه فوق أيديهم ، فمن نَكَثَ فإنّما يَنْكُثُ على نفسه ومن أَوْفى بما عاهَدَ عليهُ اللّه فسيؤتيه أجراً عظيماً } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع » .
تأبيد *
التّعريف :
1- التّأبيد : مصدر أبّد بتشديد الباء ، ومعناه لغةً : التّخليد . وأصله من أبد الحيوان يأبد ، ويأبد أبوداً ، أي : انفرد وتوحّش .
وفي اصطلاح الفقهاء : تقييد التّصرّف بالأبد ، وهو : الزّمان الدّائم بالشّرع أو العقد . ويقابله التّوقيت والتّأجيل ، فإنّ كلّاً منهما يكون إلى زمن ينتهي .
الألفاظ ذات الصّلة :
تخليد :
2 - التّخليد لغةً : إدامة البقاء . قال في الصّحاح : الخلد دوام البقاء ، تقول : خلد الرّجل يخلد خلوداً ، وأخلده اللّه وخلّده تخليداً .
والفقهاء استعملوا التّخليد في المعنى الوارد في اللّغة ، كما في تخليد حبس المتمرّد . وكما في دوام حبس الكفيل إلى حضور المكفول . والفرق بين التّأبيد والتّخليد ، أنّ التّأبيد لما لا ينتهي ، والتّخليد قد يكون لما لا ينتهي ، وقد يكون لما ينتهي ، كما في تخليد عصاة المؤمنين في النّار لا يقتضي دوامهم فيها ، بل يخرجون منها . فإذا قيّد التّخليد بالأبد كان لما لا ينتهي ، كقوله تعالى في شأن الكفّار { خالدين فيها أبداً } .
التّصرّفات من حيث التّأبيد أو عدمه :
3 - التّصرّفات من حيث التّأبيد أو عدمه على ثلاثة أنواع :
الأوّل : ما هو مؤبّد لا يقبل التّأقيت : كالنّكاح والبيع والهبة والرّهن ، وكالوقف عند الجمهور .
الثّاني : ما هو مؤقّت لا يقبل التّأبيد كالإجارة والمزارعة والمساقاة .
والثّالث : ما هو قابل للتّوقيت والتّأبيد كالكفالة .
وانظر للتّفصيل مصطلح ( تأقيت ) وانظر أيضاً ( بيع . هبة . إجارة . إلخ ) .
تأبين *
انظر : رثاء .
تأجيل *
انظر : أجل .
تأخّر *
انظر : تأخير .
تأخير *
التّعريف :
1- التّأخير لغةً : ضدّ التّقديم ، ومؤخّر كلّ شيء : خلاف مقدّمه .
واصطلاحاً : هو فعل الشّيء في آخر وقته المحدّد له شرعاً ، كتأخير السّحور والصّلاة ، أو خارج الوقت ( سواء أكان الوقت محدّداً شرعاً أو متّفقاً عليه ) كتأخير الزّكاة والدّين .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّراخي :
2 - التّراخي في اللّغة : الامتداد في الزّمان . يقال : تراخى الأمر تراخياً : امتدّ زمانه ، وفي الأمر تراخ أي فسحة .
ومعنى التّراخي عند الفقهاء : هو مشروعيّة فعل العبادة في وقتها الممتدّ ، وهو ضدّ الفور كالصّلاة والحجّ . وعلى هذا فيتّفق التّأخير مع التّراخي في فعل العبادة في آخر وقتها ، ويختلفان في حال إيقاع العبادة خارج الوقت ، فيسمّى ذلك تأخيراً لا تراخياً .
ب - الفور :
3 - الفور في اللّغة : كون الشّيء على الوقت الحاضر الّذي لا تأخير فيه . يقال : فارت القِدْر فوراً وفوراناً : غلت ، ومنه قولهم : الشّفعة على الفور .
وفي الاصطلاح : هو مشروعيّة الأداء في أوّل أوقات الإمكان بحيث يلحقه الذّمّ بالتّأخير عنه . ويتبيّن من هذا أنّ بين الفور والتّأخير تبايناً .
ج - التّأجيل :
4 - التّأجيل في اللّغة : أن تضرب للشّيء أجلاً . يقال : أجّلته تأجيلاً أي جعلت له أجلاً . ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن معناه اللّغويّ .
وعلى هذا فالتّأخير أعمّ من التّأجيل ، إذ يكون التّأخير بأجل وبغير أجل .
هـ – التّعجيل :
5 - التّعجيل : الإسراع بالشّيء . يقال : عجّلت إليه المال : أسرعت إليه بحضوره فتعجّله أي أخذه بسرعة . وهو عند الفقهاء : الإتيان بالفعل قبل الوقت المحدّد له كتعجيل الزّكاة ، أو في أوّل الوقت كتعجيل الفطر ، قال عليه الصلاة والسلام : « لا تزال أمّتي بخير ما عجّلوا الفطر ، وأخّروا السّحور » . فتبيّن من هذا أنّ بين التّأخير والتّعجيل تبايناً .
الحكم الإجماليّ :
6 - الأصل في الشّرع عدم تأخير الفعل إلى آخر وقته أو خارج الوقت المحدّد له شرعاً ، كتأخير العبادة الواجبة مثل الصّلاة ، أو عن الوقت المتّفق عليه بين المتعاقدين كأداء ما في الذّمّة ، إلاّ إذا وجد نصّ يجيز التّأخير ، أو قاعدة عامّة من قواعد الشّريعة أو عذر شرعيّ خارج عن مقدور العبد .
وقد يعرض ما يخرج التّأخير عن هذا الأصل إلى الوجوب أو النّدب أو الكراهة أو الإباحة . فيجب التّأخير في إقامة الحدّ على الحامل حتّى تلد ، ويستغني عنها وليدها . أمّا المريض ، فإن كان يرجى برؤه يؤخّر عنه الحدّ حتّى يبرأ ، وإن كان لا يرجى برؤه يقام عليه الحدّ ولا يؤخّر . وذلك في غير القصاص بالنّفس .
ويندب : كتأخير السّحور إلى آخر اللّيل ، وتأخير الوتر إلى وقت السّحر لمن وثق بصلاته فيه ، وكتأخير أداء الدّين عن وقته بالنّسبة للمعسر لوجود عذر الإعسار . قال تعالى : { وإنْ كان ذو عُسْرة فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرة } ويكره : كتأخير الإفطار للصّائم بعد غروب الشّمس ، إذ السّنّة في الإفطار التّعجيل .
ويباح : كتأخير الصّلاة عن أوّل الوقت ما لم يدخل في وقت الكراهة .
تأخير الصّلاة :
7 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة تأخير صلاة المغرب لتصلّى جمعاً مع العشاء ، وذلك للحاجّ ليلة المزدلفة . وأمّا في غير ذلك فقد اختلفوا في جواز جمع صلاتي الظّهر والعصر في وقت إحداهما ، وكذا في جمع صلاة المغرب والعشاء في وقت إحداهما : فذهب الجمهور إلى جوازه في أعذار معيّنة ، ومَنَعَهُ الحنفيّة ، وينظر الخلاف والتّفصيل في مصطلح ( جمع الصّلاة ) .
تأخير الصّلاة لفاقد الماء :
8 - اتّفق الفقهاء على سنّيّة تأخير الصّلاة إلى آخر الوقت المختار إذا تيقّن وجود الماء في آخره ، وقيّد الحنفيّة ذلك بألاّ يدخل وقت الكراهة .
أمّا إذا ظنّ وجود الماء ، أو رجاه في آخر الوقت ، فالجمهور على أنّ تأخير الصّلاة أفضل بشرطه عند الحنفيّة ، وذهب المالكيّة إلى أنّ المتردّد يتيمّم في وسط الوقت ندباً ،
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ التّعجيل في هذه الحالة أفضل .
تأخير الصّلاة بلا عذر :
9 - اتّفق الفقهاء على تحريم تأخير الصّلاة حتّى يخرج وقتها بلا عذر شرعيّ .
أمّا من ترك الصّلاة كسلاً وهو موقن بوجوبها ، وكان تركه لها بلا عذر ولا تأوّل ولا جهل ، فقال الحنفيّة : يحبس حتّى يصلّي . قال الحصكفيّ : لأنّه يحبس لحقّ العبد ، فحقّ ( الحقّ ) أحقّ . وقيل : يضرب حتّى يسيل منه الدّم .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة ، وهو إحدى الرّوايتين عن أحمد : إلى أنّه إذا أخّر الصّلاة عن وقتها دعي إلى فعلها ، فإن تضيّق وقت الّتي تليها ، وأبى الصّلاة ، يقتل حدّاً . والرّواية الثّانية عن أحمد أنّه يقتل لكفره . قال في الإنصاف : وهو المذهب ، وعليه جمهور الأصحاب . أمّا تأخير الصّلاة إلى آخر وقتها فهو خلاف الأولى لقوله صلى الله عليه وسلم : « أوّل الوقت رضوان اللّه ، ووسطه رحمة اللّه ، وآخره عفو اللّه » ويكره التّأخير إلى أحد أوقات الكراهة . وينظر التّفصيل في مصطلح ( أوقات الصّلاة ) .
تأخير دفع الزّكاة :
10 - ذهب جمهور العلماء ، ومنهم الحنفيّة على المفتى به عندهم ، إلى أنّه لا يجوز تأخير دفع الزّكاة عن وقت استحقاقها ، وأنّها يجب إخراجها على الفور ، لقوله تعالى : { وآتُوا حقَّه يومَ حصادِه } وهذا في زكاة الزّروع ، ويلحق بها غيرها .
والّذي عليه عامّة مشايخ الحنفيّة ، وصحّحه الباقلّانيّ والجصّاص : أنّها تجب على التّراخي ، ففي أيّ وقت أدّى يكون مؤدّياً للواجب ، وإذا لم يؤدّ إلى آخر عمره يتضيّق عليه الوجوب ، حتّى لو لم يؤدّ إلى أن مات يأثم . وقد ذهب جمهور العلماء إلى أنّه إن أخّر الزّكاة بعد الحول مع التّمكّن من الإخراج فتلف بعض المال أو كلّه فإنّه ضامن لها ، ولا تسقط عنه . وعند المالكيّة إذا أخّرها يوماً أو يومين فلا ضمان عليه ، إلاّ أن يقصّر في حفظها .
وذهب الحنفيّة إلى سقوط الزّكاة بهلاك المال بعد الحول ، سواء تمكّن من الأداء أم لم يتمكّن . والتّفصيل في مصطلح ( زكاة ) .
تأخير قضاء الصّوم :
11 - الأصل المبادرة إلى قضاء ما فات من صيام رمضان ، ويجوز تأخير القضاء ما لم يتضيّق الوقت ، بألاّ يبقى بينه وبين رمضان القادم إلاّ ما يسع أداء ما عليه . فيتعيّن ذلك الوقت للقضاء عند الجمهور . فإن لم يقض فيه فقد نصّ الشّافعيّة والحنابلة على تأثيمه بالتّأخير إذا فات وقت القضاء من غير عذر ، لقول عائشة رضي الله عنها : « كان يكون عليّ الصّوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلاّ في شعبان لمكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم » قالوا : ولو أمكنها لأخّرته ، ولأنّ الصّوم عبادة متكرّرة ، فلم يجز تأخير الأولى عن الثّانية كالصّلوات المفروضة .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه يجوز تأخير القضاء مطلقاً ولا إثم عليه ، وإن هلّ عليه رمضان آخر . لكنّ المستحبّ عندهم المتابعة مسارعةً إلى إسقاط الواجب .
12 - هذا ، وإذا أخّر القضاء حتّى دخل رمضان آخر ، فقد ذهب الجمهور إلى أنّه إن كان مفرّطاً فإنّ عليه القضاء مع الفدية ، وهي إطعام مسكين عن كلّ يوم ، لما روي « أنّه صلى الله عليه وسلم قال في رجل مرض في رمضان فأفطر ، ثمّ صحّ فلم يصم حتّى أدركه رمضان آخر : يصوم الّذي أدركه ثمّ يصوم الّذي أفطر فيه ، ويطعم عن كلّ يوم مسكيناً » ولما روي عن ابن عمر وابن عبّاس وأبي هريرة أنّهم قالوا : أطعم عن كلّ يوم مسكيناً ، ولم يرد خلاف في ذلك عن غيرهم من الصّحابة .
ثمّ الأصحّ عند الشّافعيّة أنّ الفدية تتكرّر بتكرّر السّنين ، لأنّ الحقوق الماليّة لا تتداخل ، ومقابل الأصحّ : لا تتكرّر كالحدود . ومحلّ الخلاف إذا لم يكن أخرج الفدية ، فإن أخرجها ثمّ لم يقض حتّى دخل رمضان آخر وجبت ثانياً .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ من أخّر قضاء رمضان حتّى هلّ عليه رمضان آخر ، فإنّ عليه القضاء ولا فدية ، واستدلّوا بإطلاق قوله تعالى : { فعِدَّةٌ من أيّامٍ أُخَر } من غير قيد . وقالوا : إنّ إطلاق الآية يدلّ على وجوب القضاء على التّراخي ، فلا يلزمه بالتّأخير شيء ، غير أنّه تارك للأولى من المسارعة .
تأخير الحجّ :
13 - ذهب جمهور العلماء إلى أنّ الحجّ يجب على الفور ، أي الإتيان به في أوّل أوقات الاستطاعة . لقوله تعالى : { وَلِلّه على النّاسِ حِجُّ البيت مَن استطاعَ إليه سبيلاً } ولقوله تعالى : { وأتمُّوا الحجَّ والعمرةَ للّه } والأمر للفور ، ولخبر ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعاً قال : « تعجّلوا إلى الحجّ فإنّ أحدكم لا يدري ما يَعْرِض له » .
وذهب الشّافعيّة ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة ، وهو المشهور عند المالكيّة إلى أنّ الحجّ يجب على التّراخي ، لكنّ جواز التّأخير عندهم مشروط بأمرين : العزم على الفعل في المستقبل ، وأن يغلب على الظّنّ السّلامة إلى وقت فعله .
واحتجّوا بأنّ فريضة الحجّ نزلت بعد الهجرة سنة ستّ ، وفتح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مكّة في رمضان سنة ثمان ، وانصرف عنها في شوّال من سنته .
وحجّ النّاس سنة ثمان ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم مقيم بالمدينة هو وأزواجه وعامّة أصحابه ، ثمّ في سنة تسع بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر للحجّ ، والنّبيّ مع عامّة أصحابه في المدينة ، وهم قادرون على الحجّ غير مشتغلين بقتال ولا غيره .
ثمّ في السّنة العاشرة حجّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . فدلّ على جواز التّأخير .
تأخير رمي الجمار :
14 - اتّفق الفقهاء على أنّ من أخّر الرّمي حتّى غروب اليوم الثّالث من أيّام التّشريق ، عليه دم . واختلفوا فيما لو أخّره حتّى غروب الشّمس في غير اليوم الثّالث منها .
فذهب الحنفيّة إلى أنّه لو أخّر الرّمي فيما قبل اليوم الثّالث يرمي في اللّيلة الّتي تلي ذلك اليوم الّذي أخّر رميه ويقع أداءً ، لأنّها تابعة له وكره لتركه السّنّة ، وإن أخّره إلى اليوم التّالي كان قضاءً ، ولزمه الجزاء . وكذا لو أخّر الكلّ إلى الثّالث ما لم تغرب شمسه .
وذهب المالكيّة إلى أنّه لو أخّر الرّمي إلى اللّيل وقع قضاءً ولا شيء عليه .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لو أخّر رمي يوم أو يومين من أيّام التّشريق تداركه في باقي الأيّام ولا شيء عليه ، فإن رمى ليلاً لم يجزئه الرّمي ويعيد .
تأخير طواف الإفاضة عن أيّام التّشريق :
15 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا آخر للوقت الّذي يصحّ فيه طواف الإفاضة ، خلافاً للمالكيّة الّذين نصّوا على أنّ آخر وقت طواف الإفاضة آخر ذي الحجّة .
ثمّ اختلف الفقهاء فيمن أخّر طواف الإفاضة عن أيّام التّشريق :
فذهب الحنفيّة إلى أنّه يكره تحريماً تأخيره عن أيّام النّحر ولياليها ( وهي يوم العيد ويومان بعده ) ويلزمه دم لترك الواجب ، وهو إيقاع طواف الإفاضة في وقته .
وذهب المالكيّة إلى أنّ من أخّر طواف الإفاضة حتّى خرجت أيّام التّشريق - وهي الأيّام الثّلاثة التّالية ليوم العيد - فإنّ عليه دماً .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يكره تأخيره عن يوم النّحر ، وتأخيره عن أيّام التّشريق أشدّ كراهةً ، وعن خروجه من مكّة أشدّ .
وذهب الحنابلة إلى أنّ من أخّر طواف الإفاضة عن أيّام منًى ( أيّام التّشريق ) جاز ، ولا شيء عليه لأنّ وقته غير محدود .
ونصّوا على أنّ أوّل وقته بعد نصف ليلة النّحر ، والأفضل فعله يوم النّحر ، لقول ابن عمر : « أفاض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم النّحر » .
تأخير الحلق أو التّقصير :
16 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في رواية إلى أنّه يجوز تأخير الحلق أو التّقصير إلى آخر أيّام النّحر ، لأنّه إذا جاز تأخير النّحر - وهو في التّرتيب مقدّم على الحلق - فتأخير الحلق أولى ، فإن أخّر الحلق حتّى خرجت أيّام النّحر لزمه دم بالتّأخير .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة في رواية إلى أنّه إن أخّر الحلق حتّى خرجت أيّام التّشريق فلا شيء عليه ، لأنّ الأصل عدم التّأقيت ، لأنّ اللّه تعالى بيّن أوّل وقته بقوله : { ولا تَحْلِقوا رءوسَكم حتّى يَبْلُغَ الهديُ مَحِلَّه } . ولم يبيّن آخره ، فمتى أتى به أجزأه ، كطواف الزّيارة والسّعي ، وقد نصّ الشّافعيّة على كراهية تأخيره . وتفصيل ذلك كلّه في ( الحجّ ) .
تأخير دفن الميّت :
17 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى كراهة تأخير دفن الميّت ، ويستثنى من ذلك من مات فجأةً أو بهدم أو غرق ، فيجب التّأخير حتّى يتحقّق الموت .
وقال الشّافعيّة : يحرم تأخير الدّفن ، وقيل : يكره ، واستثنوا تأخير الدّفن إذا كان الميّت بقرب مكّة أو المدينة أو بيت المقدس ، نصّ عليه الشّافعيّ ، فيجوز التّأخير هنا لدفنه في تلك الأمكنة . قال الإسنويّ : والمعتبر في القرب مسافة لا يتغيّر فيها الميّت قبل وصوله .
تأخير الكفّارات :
من تأخير الكفّارات ما يلي :
أ - تأخير كفّارة اليمين :
18 - ذهب جمهور العلماء إلى أنّه لا يجوز تأخير كفّارة اليمين ، وأنّها تجب بالحنث على الفور ، لأنّه الأصل في الأمر المطلق .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ كفّارة اليمين تجب على التّراخي . ( وانظر : أيمان ف 138 ) .
ب - تأخير كفّارة الظّهار :
19 - ذهب جمهور العلماء إلى أنّ كفّارة الظّهار واجبة على التّراخي ، فلا يأثم بالتّأخير عن أوّل أوقات الإمكان . وزاد الحنفيّة أنّها تتضيّق عند آخر عمره ، فيأثم بموته قبل أدائها ، ولا تؤخذ من تركته بلا وصيّة من الثّلث ، ولو تبرّع الورثة بها جاز ، وقيل : يأثم بالتّأخير ، ويجبر عن التّكفير للظّهار . وانظر مصطلح : ( ظهار ) . وينظر أحكام تأخير كفّارة القتل في مصطلح ( جناية ) ، وأحكام تأخير كفّارة الوقاع في رمضان في مصطلح ( صوم ) .
تأخير زكاة الفطر :
20 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة ، وهو أحد قولين مشهورين للمالكيّة إلى : أنّ زكاة الفطر تجب عند غروب شمس آخر أيّام رمضان . والقول الآخر للمالكيّة : تجب بطلوع فجر يوم العيد . ويجوز عند الجمهور إخراجها إلى غروب شمس يوم العيد ، ويسنّ عندهم ألاّ تتأخّر عن صلاة العيد . ويحرم عندهم جميعاً تأخيرها عن يوم العيد من غير عذر ، ولا تسقط بهذا التّأخير بل يجب قضاؤها ، وقد رجّح ابن الهمام من الحنفيّة ، وتبعه ابن نجيم هذا القول ، لقوله عليه الصلاة والسلام في الفقراء : « أغنوهم عن طواف هذا اليوم » .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ وجوب زكاة الفطر هو وجوب موسّع في العمر كلّه ، ففي أيّ وقت أدّى كان مؤدّياً لا قاضياً ، غير أنّ المستحبّ إخراجها قبل الخروج إلى المصلّى ، ولو مات فأدّاها وارثه جاز .
لكن ذهب الحسن بن زياد من أصحاب أبي حنيفة إلى أنّ زكاة الفطر تسقط بتأخيرها عن يوم الفطر كالأضحيّة . قال ابن عابدين : والظّاهر أنّ هذا قول ثالث خارج عن المذهب .
تأخير نيّة الصّوم :
21 - ذهب الحنفيّة إلى جواز تأخير نيّة الصّوم في صوم رمضان والنّذر المعيّن والنّفل إلى الضّحوة الكبرى ، أمّا في غير هذه الثّلاثة فمنعوا تأخير النّيّة فيها . وقالوا بوجوب تبييتها أو قرانها مع الفجر ، كقضاء رمضان ، والنّذر المطلق ، وقضاء النّذر المعيّن ، والنّفل بعد إفساده ، والكفّارات وغيرها .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الصّوم لا يجزئ إلاّ إذا تقدّمت النّيّة على سائر أجزائه فإن طلع الفجر ولم ينوه لم يجزه في سائر أنواع الصّيام ، إلاّ يوم عاشوراء ففيه قولان : المشهور من المذهب أنّه كغيره . وفرّق الشّافعيّة والحنابلة بين الفرض والنّفل ، فاشترطوا للفرض التّبييت ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من لم يُجْمِع الصّيام قبل الفجر فلا صيام له » وأمّا النّفل فاتّفقوا على صحّة صومه بنيّة قبل الزّوال ، لحديث عائشة « أنّه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة يوماً : هل عندكم شيء ؟ قالت : لا . قال : فإنّي إذن أصوم » وزاد الحنابلة ، وهو قول عند الشّافعيّة : أنّ النّفل يصحّ بنيّة بعد الزّوال أيضاً للحديث السّابق ، ولأنّ النّيّة وجدت في جزء النّهار فأشبه وجودها قبل الزّوال بلحظة .
تأخير قضاء الصّلاة :
22 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجب على من نام عن صلاة أو نسيها قضاء تلك الصّلاة على الفور ويحرم تأخيرها . لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من نسي صلاةً أو نام عنها فليصلّها إذا ذكرها » فأمر بالصّلاة عند الذّكر والأمر للوجوب ، وقد ألحق الجمهور مطلق التّرك بالنّوم والنّسيان في وجوب القضاء من باب أولى ، ويجوز عندهم تأخير الفائتة لغرض صحيح كالأكل والشّرب والنّوم الّذي لا بدّ منه ، وقضاء حاجة الإنسان وتحصيل ما يحتاج له في معاشه . واستثنى الشّافعيّة من ترك الصّلاة لعذر ، فإنّه يستحبّ له أن يقضيها على الفور ، فإن أخّرها جاز ، كما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فاتته صلاة الصّبح فلم يصلّها حتّى خرج من الوادي » . قالوا : ولو كانت على الفور لما أخّرها .
تأخير الوتر :
23 - اتّفق الفقهاء على استحباب تأخير الوتر إلى وقت السّحر ، وهذا الاستحباب لمن وثق بأنّه يصلّيه آخر اللّيل ، فإن لم يثق بذلك أوتر قبل أن يرقد ، لحديث جابر « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : أيّكم خاف ألاّ يقوم من آخر اللّيل فليوتر ثمّ ليرقد ، ومن وثق بقيامه من اللّيل فليوتر من آخره ، فإنّ قراءة آخر اللّيل محضورة ، وذلك أفضل » .
تأخير السّحور :
24 - اتّفق الفقهاء على أنّ تأخير السّحور وتقديم الفطر من السّنّة ، لحديث زيد بن ثابت قال : « تسحّرنا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ قام إلى الصّلاة . قلت : كم كان بين الأذان والسّحور ؟ قال : قدر خمسين آيةً » . ولحديث أبي ذرّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا تزال أمّتي بخير ما عجّلوا الفطر وأخّروا السّحور » .
وموطن السّنّيّة فيما إذا تحقّق من غروب الشّمس ولم يقع منه الشّكّ في طلوع الفجر ، فإن شكّ في ذلك ، كأن تردّد في بقاء اللّيل لم يسنّ التّأخير بل الأفضل تركه .
تأخير أداء الدّين :
25 - إذا حلّ أجل الدّين ولم يؤدّه المدين ، فإن كان قادراً على الوفاء وأخّره بلا عذر منعه القاضي من السّفر وحبسه إلى أن يوفي دينه ، قال عليه الصلاة والسلام : « ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته » . فإن لم يؤدّ ، وكان له مال ظاهر ، باعه الحاكم عليه ، على خلاف وتفصيل في ذلك بين المذاهب ، وإذا كان تأخير سداد الدّين لعذر كالإعسار أمهل إلى أن يوسر ، لقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة فَنَظِرَة إلى ميسرة } . أمّا إذا كان للمدين مال ، ولكنّه لا يفي بالدّيون ، وطلب الغرماء الحجر عليه لزم القاضي إجابتهم . على خلاف وتفصيل في المذاهب ينظر في مصطلح ( أداء ) وبابي ( الحجر والتّفليس ) .
تأخير المهر :
26 - يجب المهر بنفس عقد الزّواج ، ويجوز تأخير الصّداق كلّه أو بعضه عن الدّخول . على خلاف وتفصيل ينظر في ( النّكاح ) .
تأخير نفقة الزّوجة :
27 - يجب على الزّوج الإنفاق على زوجته ومن يعول ، ويجوز له ولزوجته الاتّفاق على تعجيل أو تأخير النّفقة ، ويعتبر كلّ زوج بحسب حال مورده ، فإن أخّر النّفقة عن زوجته بعذر الإعسار جاز عند بعض الفقهاء طلب التّطليق من قبل الزّوجة أو الإنفاق عليها .
ثمّ إن أخّر النّفقة وتراكمت عليه هل تسقط بالتّقادم أم تبقى ديناً في ذمّته ؟ في كلّ ذلك خلاف وتفصيل ينظر في باب ( النّفقة ) .
تأخير تسليم أحد البدلين في الرّبويّات :
28 - يشترط لبيع الرّبويّ بالرّبويّ الحلول - لا التّأخير - والتّقابض قبل التّفرّق ، سواء أكان جنساً واحداً أم جنسين مختلفين ، ويزاد شرط التّماثل إذا كان جنساً واحداً ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « الذّهب بالذّهب ، والفضّة بالفضّة ، والبرّ بالبرّ ، والشّعير بالشّعير ، والتّمر بالتّمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواء بسواء ، يداً بيد ، فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم يداً بيد » فيحرم التّأخير في تسليم أحد البدلين في الرّبويّات .
وللتّفصيل ر : ( الرّبا ، والبيع ) .
التّأخير في إقامة الحدّ :
29 - الحدّ عقوبة مقدّرة شرعاً تقام على مرتكب ما يوجب الحدّ زجراً له وتأديباً لغيره ، والأصل أنّ الجاني يحدّ فوراً بعد ثبوت الحكم دون تأخير لكن قد يطرأ ما يوجب التّأخير أو يستحبّ معه التّأخير :
أ - فيجب تأخير الحدّ بالجلد في الحرّ الشّديد والبرد الشّديد ، لما في إقامة الحدّ فيهما من خوف الهلاك خلافاً للحنابلة . ولا يقام على مريض يرجى برؤه حتّى يبرأ ، لأنّه يجتمع عليه وجع المرض وألم الضّرب فيخاف الهلاك ، خلافاً للحنابلة . ولا يقام على النّفساء حتّى ينقضي النّفاس ، لأنّ النّفاس نوع مرض ، ويقام الحدّ على الحائض ، لأنّ الحيض ليس بمرض . ولا يقام على الحامل حتّى تضع وتطهر من النّفاس - لأنّ فيه هلاك الولد والوالدة - وحتّى يستغني ولدها عنها بمن ترضعه ، حفاظاً على حياة ولدها .
وللتّفصيل انظر مصطلح ( حدّ ) .
ب - أمّا في القصاص وحدّ الرّجم فلا تأخير إلاّ للحامل بالقيد السّابق . هذا إذا كان الأولياء في القصاص موجودين ، أمّا إذا كانوا صغاراً أو غائبين فيؤخّر القصاص حتّى يكبر الصّغار ويقدم الغائب . على خلاف وتفصيل ينظر في ( قصاص ) .
ج - وكذلك المرتدّ يؤخّر ثلاثة أيّام وجوباً عند بعض الفقهاء ، وندباً عند بعضهم ، ويحبس في هذه الفترة ولا يخلّى سبيله بقصد استتابته وإزالة الشّبه الّتي علقت به ، فإن تاب خلّي سبيله ، وإلاّ قتل حدّاً لكفره بعد الإسلام .
د - ويؤخّر حدّ السّكران باتّفاق الفقهاء حتّى يزول عنه السّكر تحصيلاً للمقصود - وهو الانزجار - بوجدان الألم ، والسّكران زائل العقل كالمجنون . فلو حدّ قبل الإفاقة فإنّ الحدّ يعاد عند جمهور الفقهاء ، ويسقط الحدّ على أحد قولين مصحّحين للشّافعيّة ، وهو الظّاهر عند بعض الحنابلة ، نسبه المرداويّ إلى ابن نصر اللّه في حواشي الفروع ، وقال : الصّواب إن حصل به ألم يوجب الزّجر سقط ، وإلاّ فلا ، ومثله في كشّاف القناع .
تأخير إقامة الدّعوى :
30 - إذا تأخّر المدّعي في إقامة دعواه خمس عشرة سنةً سقطت دعواه بالتّقادم ، ومن ثمّ فلا تسمع ، قال ابن عابدين : لنهي السّلطان عن سماعها بعد هذه المدّة إلاّ في الوقف والإرث وعند وجود عذر شرعيّ ، وسبب هذا النّهي قطع الحيل والتّزوير في الدّعاوى . ثمّ قال : ونقل في الحامديّة فتاوى من المذاهب الأربعة بعدم سماع الدّعوى بعد نهي السّلطان . وأفتى في الخيريّة بأنّه إذا مات السّلطان لا بدّ من تجديد النّهي ولا يستمرّ النّهي بعده .
تأخير أداء الشّهادة :
31 - تأخير أداء الشّهادة بلا عذر - كمرض أو بعد مسافة أو خوف - يؤدّي إلى عدم قبولها لتهمة الشّاهد إلاّ في حدّ القذف ، فإنّ التّقادم فيه لا يؤثّر على قبولها لما فيه من حقّ العبد ، وكذلك يضمن السّارق المال المسروق ، لأنّه حقّ العبد فلا يسقط بالتّأخير .
ويسقط حدّ الخمر لتأخير الشّهادة شهراً على الأصحّ عند الحنفيّة ، وتأخير الشّهادة في القصاص لا يمنع من قبول الشّهادة . والضّابط في قبول الشّهادة كما قال ابن عابدين : أنّ التّقادم مانع في حقوق اللّه غير مانع في حقوق العباد ، على خلاف وتفصيل بين الفقهاء ينظر في باب ( الشّهادة ) ومصطلح ( تقادم ) .
تأخير النّساء والصّبيان في صفوف الصّلاة :
32 - من السّنّة أن يقف الرّجال خلف الإمام ، ويقف بعد الرّجال الصّبيان ، ويندب تأخّر النّساء خلف الجميع . لقول أبي مالك الأشعريّ : « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى وأقام الرّجال يلونه ، وأقام الصّبيان خلف ذلك ، وأقام النّساء خلف ذلك » .
تأديب *
التّعريف :
1- التّأديب لغةً : مصدر أدّبه تأديباً ، أي علّمه الأدب ، وعاقبه على إساءته ، وهو رياضة النّفس ومحاسن الأخلاق . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّعزير :
2 - التّعزير لغةً : التّأديب والمنع والنّصرة . ومن هذا المعنى : قول الحقّ تبارك وتعالى :
{ فالّذين آمنوا به وَعَزّروه } .
وشرعاً : تأديب على معصية لا حدّ فيها ولا كفّارة . قال الخطيب الشّربينيّ : وتسمية ضرب الوليّ والزّوج والمعلّم تعزيراً هو أشهر الاصطلاحين ، كما ذكره الرّافعيّ . قال : ومنهم من يخصّ لفظ التّعزير بالإمام أو نائبه ، وضرب الباقي بتسميته تأديباً لا تعزيراً .
أمّا الحنفيّة : فقد جروا على أنّ التّعزير يصدق على العقوبة الصّادرة من الزّوج أو الأب أو غيرهما - كما يصدق على فعل الإمام . قال ابن عابدين : التّعزير يفعله الزّوج والسّيّد ، وكلّ من رأى أحداً يباشر المعصية . هذا ، وينظر تفصيل ما يتّصل بالعقوبة الصّادرة من الإمام في غير الحدود في مصطلح ( تعزير ) . فالتّأديب أعمّ من التّعزير في أحد إطلاقيه .
حكمه التّكليفيّ :
3 - قال ابن قدامة : لا نعلم خلافاً بين الفقهاء في جواز تأديب الزّوج زوجته فيما يتعلّق بحقوقه الزّوجيّة ، وفي أنّه غير واجب . واختلفوا في جواز تأديبه لحقّ اللّه تعالى كترك الصّلاة ، فذهب بعضهم إلى المنع ، وجوّزه آخرون ، كما سيأتي إن شاء اللّه .
كما اتّفقوا على أنّه يجب على الوليّ تأديب الصّبيّ لترك الصّلاة والطّهارة ، ولتعليم الفرائض ونحو ذلك ، وذلك بالقول إذا بلغ سبع سنين ، وبالضّرب إن لزم لإصلاحه إذا بلغ عشراً ، لحديث : « علّموا الصّبيّ الصّلاة لسبع سنين ، واضربوه عليها ابن عشر سنين » .
واختلفوا في حكم تأديب الإمام ونوّابه لمن رفع إليهم :
فذهب الأئمّة : أبو حنيفة ومالك وأحمد ، إلى وجوب إقامة التّأديب عليهم فيما شرع التّأديب فيه ، إلاّ إذا رأى الإمام أنّ في ترك التّأديب مصلحةً ، وقالوا : إنّه إن كان التّأديب منصوصاً عليه ، كوطء جارية امرأته وجارية مشتركة ، يجب امتثال الأمر فيه ، وإن لم يكن منصوصاً عليه ورأى الإمام مصلحةً في إقامة التّأديب ، أو علم أنّ المذنب لا ينزجر إلاّ بالضّرب وجب ، لأنّه زاجر مشروع لوجه اللّه فوجب كالحدّ .
ويرى الشّافعيّة أنّه لا يجب على الإمام إقامة التّأديب ، وله تركه .
وحجّتهم : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعرض عن جماعة استحقّوه ، ولم يقم عليهم التّأديب كالغالّ في الغنيمة » ، فلو كان واجباً لما أعرض عنهم ، ولأقامه عليهم .
هذا إذا كان التّأديب حقّاً للّه . أمّا إذا كان حقّاً لآدميّ ، وطالب به مستحقّه ، وجب على الإمام إقامته باتّفاق الفقهاء ، ولكن إذا عفا عنه صاحب الحقّ فهل للإمام إقامة التّأديب ؟
ذهب الشّافعيّة - في الأصحّ من قولين عندهم - إلى : أنّه يجوز للإمام ذلك ، وإن لم يكن له قبل المطالبة إقامة التّأديب . لأنّه لا يخلو عن حقّ اللّه ، ولأنّه يتعلّق بنظر الإمام فلم يؤثّر فيه إسقاط غيره . وينظر التّفصيل في مصطلح ( تعزير ) .
ولاية التّأديب :
4 - تثبت ولاية التّأديب :
أ - للإمام ونوّابه كالقاضي بالولاية العامّة ، فلهم الحقّ في تأديب من ارتكب محظوراً ليس فيه حدّ ، مع الاختلاف بين الفقهاء في الوجوب عليهم وعدمه كما مرّت الإشارة إليه . ( ر : تعزير ) .
ب - للوليّ بالولاية الخاصّة ، أباً كان أو جدّاً أو وصيّاً ، أو قيّماً من قبل القاضي لحديث :
« مروا أولادكم بالصّلاة ... » إلخ
ج - للمعلّم على التّلميذ بإذن الوليّ .
د - للزّوج على زوجته فيما يتّصل بالحقوق الزّوجيّة ، لقوله تعالى : { واللّاتي تخافون نُشُوزَهنَّ فَعِظُوهنّ واهْجروهنّ في المضاجِعِ واضربوهنّ } ، وهذا متّفق عليه بين الفقهاء . ولكنّهم اختلفوا في جواز تأديب الزّوج لزوجته في حقّ اللّه تعالى ، كترك الصّلاة ونحوها من الفرائض . فذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه يجوز تأديبها على ذلك .
وقيّده المالكيّة بما قبل الرّفع للإمام . وعند الحنفيّة والشّافعيّة ليس له التّأديب لحقّ اللّه ، لأنّه لا يتعلّق به ولا ترجع المنفعة إليه . هذا ولم نقف على قول للفقهاء بوجوب التّأديب على الزّوج ، بل يفهم من عباراتهم أنّ التّرك أولى .
جاء في الأمّ للإمام الشّافعيّ : في نهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ضرب النّساء ، ثمّ إذنه في ضربهنّ ، وقوله : « لن يضربَ خيارُكم » يشبه أن يكون عليه الصلاة والسلام نهى عنه على اختيار النّهي ، وأذن فيه بأن أباح لهم الضّرب في الحقّ ، واختار لهم ألاّ يضربوا ، لقوله : « لن يضرب خياركم » . وليس لغير هؤلاء ولاية التّأديب عند جمهور الفقهاء . غير أنّ الحنفيّة قالوا : يقيم التّأديب - إذا كان حقّاً للّه - كلّ مسلم في حال مباشرة المعصية ، لأنّه من باب إزالة المنكر ، والشّارع ولّى كلّ مسلم ذلك ، لقوله صلى الله عليه وسلم « من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده ... » أمّا بعد الفراغ من المعصية فليس بنهي ، لأنّ النّهي عمّا مضى لا يتصوّر ، فيتمحّض تعزيراً وذلك إلى الإمام .
ما يجوز فيه التّأديب لغير الحاكم .
5- أ - نشوز الزّوجة وما يتّصل به من الحقوق ، كتركها الزّينة له مع القدرة عليها ، وترك الغسل عند الجنابة ، والخروج من المنزل بغير إذنه ، وترك الإجابة إلى الفراش ، إلى غير ذلك ممّا له صلة بالعلاقة الزّوجيّة ، وهذا متّفق عليه بين الفقهاء .
واختلفوا في جواز تأديبه إيّاها لحقّ اللّه تعالى كترك الصّلاة ونحوها ، فجوّزه البعض ، ومنعه آخرون . : مصطلح ( نشوز ) .
ب - وتثبت على الصّبيّ لوليّه ، أباً كان ، أو جدّاً ، أو وصيّاً ، أو قيّماً من قبل القاضي لخبر : « مروا أولادكم بالصّلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين ... » ويؤدّب على ترك الطّهارة والصّلاة وكذا الصّوم ، وينهى عن شرب الخمر ليألف الخير ويترك الشّرّ ، ويؤمر بالغسل إذا جامع ، ويؤمر بجميع المأمورات ، وينهى عن جميع المنهيّات . ويكون التّأديب بالضّرب والوعيد ، والتّعنيف بالقول . وهذا التّأديب واجب على الوليّ باتّفاق الفقهاء للحديث المتقدّم . وهو في حقّ الصّبيّ لتمرينه على الصّلاة ونحوها ليألفها ويعتادها ولا يتركها عند البلوغ . ولا تجب عليه الصّلاة عند جمهور الفقهاء لخبر « رُفع القلمُ عن ثلاثة ... » ذكر منهم الصّبيّ حتّى يبلغ .
ج - على التّلميذ : ويؤدّب المعلّم من يتعلّم منه بإذن الوليّ ، وليس له التّأديب بغير إذن الوليّ عند جمهور الفقهاء .
ونقل عن بعض الشّافعيّة قولهم : الإجماع الفعليّ مطّرد بجواز ذلك بدون إذن الوليّ .
نفقة التّأديب :
6 - تجب أجرة التّعليم في مال الطّفل إن كان له مال . فإن لم يكن له مال فعلى من تجب عليه نفقته ، والإنفاق من مال الصّبيّ لتعليمه الفرائض واجب بالاتّفاق ، كما يجوز أن يصرف من ماله أجرة تعليم ما سوى الفرائض من : القرآن ، والصّلاة ، والطّهارة ، كالأدب ، والخطّ ، إن تأهّل لديه لأنّه مستمرّ معه وينتفع به . ونقل الخطيب الشّربينيّ عن النّوويّ قوله في الرّوضة : يجب على الآباء والأمّهات تعليم أولادهم الطّهارة والصّلاة والشّرائع . وأجرة تعليم الفرائض في مال الطّفل ، فإن لم يكن فعلى من تلزمه نفقته .
طرق التّأديب :
7 - تختلف طرق التّأديب باختلاف من له التّأديب ومن عليه التّأديب :
فطرق تأديب الإمام لمن يستحقّ من الرّعيّة غير محصورة ولا مقدّرة شرعاً ، فيترك لاجتهاده في سلوك الأصلح لتحصيل الغرض من التّأديب ، لاختلاف ذلك باختلاف الجاني والجناية ، وعليه أن يراعي التّدرّج اللّائق بالحال والقدر كما يراعي دفع الصّائل ، فلا يرقى إلى مرتبة وهو يرى ما دونها كافياً وموثّراً . والتّفصيل في مصطلح ( تعزير ) .
طرق تأديب الزّوجة :
8 - أ - الوعظ .
ب - الهجر في المضجع .
ج - الضّرب غير المبرّح .
وهذا التّرتيب واجب عند جمهور الفقهاء ، فلا ينتقل إلى الهجر إلاّ إذا لم يجد الوعظ ، هذا لقوله تعالى : { واللّاتي تخافون نشوزَهنّ فعِظُوهنّ واهجروهنّ في المضاجِع واضربوهنّ } . جاء في المغني لابن قدامة : في الآية إضمار تقديره : واللّاتي تخافون نشوزهنّ فعظوهنّ ، فإن نشزن فاهجروهنّ في المضاجع ، فإن أصررن فاضربوهنّ .
وذهب الشّافعيّة - في الأظهر من قولين عندهم - إلى أنّه يجوز للزّوج أن يؤدّبها بالضّرب بعد ظهور النّشوز منها بقول أو فعل ، ولا ترتيب على هذا القول بين الهجر والضّرب بعد ظهور النّشوز ، والقول الآخر يوافق رأي الجمهور .
ويجب أن يكون الضّرب غير مبرّح ، وغير مدم ، وأن يتوقّى فيه الوجه والأماكن المخوفة ، لأنّ المقصود منه التّأديب لا الإتلاف . لخبر : « إنّ لكم عليهنّ ألاّ يوطئن فُرُشَكم أحداً تكرهونه ، فإنْ فعلنَ فاضربوهنّ ضرباً غير مبرّح » .
ويشترط الحنابلة ألاّ يجاوز به عشرة أسواط لحديث : « لا يجلد أحدٌ فوق عشرة أسواطٍ إلاّ في حدّ من حدود اللّه » ر : مصطلح ( نشوز ) .
طرق تأديب الصّبيّ :
9 - يؤدّب الصّبيّ بالأمر بأداء الفرائض والنّهي عن المنكرات بالقول ، ثمّ الوعيد ، ثمّ التّعنيف ، ثمّ الضّرب ، إن لم تجد الطّرق المذكورة قبله ، ولا يضرب الصّبيّ لترك الصّلاة إلاّ إذا بلغ عشر سنين . لحديث : « مروا أولادكم بالصّلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين ، وفرّقوا بينهم في المضاجع » .
ولا يجاوز ثلاثاً عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة .
وهي أيضاً على التّرتيب ، فلا يرقى إلى مرتبة إذا كان ما قبلها يفي بالغرض وهو الإصلاح .
تجاوز القدر المعتاد في التّأديب :
10 - اتّفق الفقهاء على منع التّأديب بقصد الإتلاف ، وعلى ترتّب المسئوليّة على ذلك ، واختلفوا في البلوغ بالتّأديب أو التّعزير مبلغ الحدّ . وتفصيله في مصطلح ( تعزير ) .
الهلاك من التّأديب المعتاد :
11 - اختلف الفقهاء أيضاً في حكم الهلاك من التّأديب المعتاد :
فاتّفق الأئمّة الثّلاثة : أبو حنيفة ، ومالك ، وأحمد على أنّ الإمام لا يضمن الهلاك من التّأديب المعتاد ، لأنّ الإمام مأمور بالحدّ والتّعزير ، وفعل المأمور لا يتقيّد بسلامة العاقبة .
واختلفوا في تضمين الزّوج والوليّ ، إذا حصل التّلف من تأديبهما ولم يتجاوزا القدر المشروع . فذهب مالك وأحمد إلى أنّه لا ضمان على الزّوج والوليّ من التّلف الّذي ينشأ من التّأديب المعتاد .
وعند الحنفيّة يضمن الزّوج إذا أفضى تأديبه المعتاد إلى الموت ، لأنّ تأديب الزّوجة إذا تعيّن سبيلاً لمنع نشوزها مشروط بأن يكون غير مبرّح ، فإذا ترتّب عليه الموت تبيّن أنّه قد جاوز الفعل المأذون فيه ، فيجب عليه الضّمان . ولأنّه غير واجب ، فشرط فيه سلامة العاقبة .
واختلف أبو حنيفة وصاحباه في تضمين الأب والجدّ والوصيّ ونحوهم : فذهب أبو حنيفة إلى أنّه يضمن الجميع إذا ترتّب على تأديبهم التّلف ، لأنّ الوليّ مأذون له بالتّأديب لا بالإتلاف ، فإذا أدّى إلى التّلف تبيّن أنّه جاوز الحدّ ، ولأنّ التّأديب قد يحصل بغير الضّرب كالزّجر وفرك الأذن . وخلاصة رأي أبي حنيفة : أنّ الواجب لا يتقيّد بسلامة العاقبة ، والمباح يتقيّد بها ، ومن المباح ضرب الأب أو الأمّ ولدهما تأديباً ومثلهما الوصيّ ، فإذا أفضى إلى الموت وجب الضّمان ، وإن كان الضّرب للتّعليم فلا ضمان ، لأنّه واجب ، والواجب لا يتقيّد بسلامة العاقبة . وذهب الصّاحبان إلى أنّه لا ضمان عليهم لأنّ التّأديب منهم فعل مأذون فيه لإصلاح الصّغير ، كضرب المعلّم ، بل أولى منه ، لأنّ المعلّم يستمدّ ولاية التّأديب من الوليّ ، والموت نتج من فعل مأذون فيه ، والمتولّد من فعل مأذون لا يعدّ اعتداءً فلا ضمان عليهم . ونقل عن بعض الحنفيّة أنّ الإمام رجع إلى قول الصّاحبين .
وذهب الشّافعيّة إلى وجوب الضّمان في التّأديب وإن لم يتجاوز القدر المعتاد في مثله ، فإن كان ممّا يقتل غالباً ففيه القصاص على غير الأصل ( الأب والجدّ ) وإلاّ فدية شبه العمد على العاقلة ، لأنّه فعل مشروط بسلامة العاقبة ، إذ المقصود التّأديب لا الهلاك ، فإذا حصل به هلاك تبيّن أنّه جاوز القدر المشروع فيه ، ولا فرق عندهم بين الإمام وغيره ممّن أوتوا سلطة التّأديب ، كالزّوج والوليّ .
تأديب الدّابّة :
12 - للمستأجر ورائض الدّابّة تأديبها بالضّرب والكبح بقدر ما جرت به العادة ، ولا يضمن إن تلفت بذلك عند الأئمّة الثّلاثة ( مالك والشّافعيّ وأحمد بن حنبل ) وصاحبي أبي حنيفة ، لأنّه صحّ « عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه نخس بعير جابر وضربه » .
وذهب أبو حنيفة إلى أنّه يضمن لأنّه تلف حصل بجنايته فضمنه كغيره ، ولأنّ المعتاد مقيّد بشرط السّلامة ، ولأنّ السّوق يتحقّق بدون الضّرب ، وإنّما يضرب للمبالغة فيضمن .
مواطن البحث :
13 - يذكر الفقهاء التّأديب أساساً في أبواب كثيرة مثل : الصّلاة ، النّشوز ، التّعزير ، دفع الصّائل ، ضمان الولاة ، والحسبة .
تأريخ *
التّعريف :
1 - التّأريخ : مصدر أرّخ ، ومعناه في اللّغة : تعريف الوقت ، يقال : أرّخت الكتاب ليوم كذا : إذا وقّتّه وجعلت له تاريخاً .
وأمّا معناه في الاصطلاح : فيؤخذ من كلام السّخاويّ : أنّه تحديد وقائع الزّمن من حيث التّعيين والتّوقيت .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الأجل :
2 - أجل الشّيء في اللّغة - كما جاء في المصباح - مدّته ووقته الّذي يحلّ فيه ، وهو مصدر ، ويجمع على آجال ، كسبب وأسباب ، والآجل على فاعل خلاف العاجل .
وأمّا الأجل في اصطلاح الفقهاء : فهو المدّة المستقبلة الّتي يضاف إليها أمر من الأمور ، سواء أكانت هذه الإضافة أجلاً للوفاء بالتزام ، أم أجلاً لإنهاء التزام .
وسواء أكانت هذه المدّة مقرّرةً بالشّرع ، أم بالقضاء ، أم بإرادة الملتزم : فرداً أو أكثر .
والنّسبة بينهما هي أنّ التّاريخ أعمّ من الأجل : لأنّه يتناول المدّة الماضية والحاضرة ، والمستقبلة ، والأجل لا يتناول إلاّ المستقبلة .
ب - الميقات :
3 - الميقات في اللّغة ، كما جاء في الصّحاح : الوقت المضروب للفعل والموضع ، وجاء في المصباح أنّه الوقت ، والجمع مواقيت ، وقد استعير الوقت للمكان ، ومنه مواقيت الحجّ لمواضع الإحرام . واصطلاحاً : ما قدّر فيه عمل من الأعمال . سواء أكان زمناً أم مكاناً ، وهو أعمّ من التّاريخ .
حكمه التّكليفيّ :
4 - قد يكون التّأريخ واجباً ، إذا تعيّن طريقاً للوصول إلى معرفة حكم شرعيّ ، كتوريث ، وقصاص ، وقبول رواية ، وتنفيذ عهد ، وقضاء دين ، وما إلى ذلك .
التّأريخ قبل الإسلام :
5 - لم يكن للعرب قبل الإسلام تأريخ يجمعهم ، وإنّما كانت كلّ طائفة منهم تؤرّخ بالحادثة المشهورة فيها .
وبيان ذلك أنّ بني إبراهيم عليه السلام ، كانوا يؤرّخون من نار إبراهيم إلى بنيان البيت ، حين بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، ثمّ أرّخ بنو إسماعيل من بنيان البيت حتّى تفرّقوا ، فكان كلّما خرج قوم من تهامة أرّخوا بمخرجهم ، ومن بقي بتهامة من بني إسماعيل يؤرّخون من خروج سعد ونهد وجهينة بني زيد ، من تهامة حتّى مات كعب بن لؤيّ ، وأرّخوا من موته إلى الفيل ، ثمّ كان التّاريخ من الفيل حتّى أرّخ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه من الهجرة . وأمّا غيرهم من العرب فإنّهم كانوا يؤرّخون بالأيّام والحوادث المشهورة ، كحرب البسوس وداحس والغبراء ، وبيوم ذي قار ، والفجّار ونحوه .
أمّا قبل ذلك ، وفي البداية عندما كثر بنو آدم في الأرض ، فإنّهم أرّخوا من هبوط آدم إلى الطّوفان ، ثمّ إلى نار الخليل عليه الصلاة والسلام ، ثمّ إلى زمان يوسف عليه السلام ، ثمّ إلى خروج موسى عليه السلام من مصر ببني إسرائيل ، ثمّ إلى زمان داود عليه السلام ، ثمّ إلى زمان سليمان عليه السلام ، ثمّ إلى زمان عيسى عليه السلام .
وأرّخت حِمير بالتّبابعة ، وغسّانُ بالسّدّ ، وأهل صنعاء بظهور الحبشة على اليمن ، ثمّ بغلبة الفرس . وأرّخت الفرس بأربع طبقات من ملوكها ، والرّوم بقتل دارا بن دارا إلى ظهور الفرس عليهم . وأرّخ القبط ببخت نصّر إلى قلابطرة ( كليوبترا ) صاحبة مصر .
واليهود أرّخوا بخراب بيت المقدس . والنّصارى برفع عيسى عليه السلام .
سبب وضع التّاريخ الهجريّ :
6 - يروى أنّ أبا موسى الأشعريّ كتب إلى عمر : أن يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ ، فجمع عمر النّاس ، فقال بعضهم : أرّخ بالمبعث ، وبعضهم : أرّخ بالهجرة ، فقال عمر : الهجرة فرّقت بين الحقّ والباطل فأرّخوا بها ، وذلك سنة سبع عشرة ، فلمّا اتّفقوا قالوا : ابدءوا برمضان ، فقال عمر : بل بالمحرّم ، فإنّه منصرف النّاس من حجّهم ، فاتّفقوا عليه . هذا ولا يخفى أنّ المسلمين احتاجوا إلى التّأريخ لضبط أمورهم الدّينيّة كالصّوم والحجّ وعدّة المتوفّى عنها زوجها ، والنّذور الّتي تتعلّق بالأوقات .
ولضبط أمورهم الدّنيويّة كالمداينات والإجارات والمواعيد ومدّة الحمل والرّضاع .
التّأريخ بالسّنة الشّمسيّة ، وهو التّأريخ غير الهجريّ :
7 - السّنة الشّمسيّة تتّفق مع السّنة القمريّة في عدد الشّهور ، وتختلف معها في عدد الأيّام ، إذ تزيد أيّامها على أيّام السّنة القمريّة بأحد عشر يوماً تقريباً .
وقد اعتمد عليها الرّوم والسّريان والفرس والقبط في تأريخهم . فهناك السّنة الرّوميّة ، والسّنة السّريانيّة ، والسّنة الفارسيّة ، والسّنة القبطيّة .
وهذه السّنون ، وإن كانت متّفقةً في عدد شهور كلّ سنة منها ، إلاّ أنّها تختلف في أسماء تلك الشّهور وعدد أيّامها وأسماء الأيّام ، وفي موعد بدء كلّ سنة منها .
حكم استعمال التّأريخ غير الهجريّ في المعاملات :
8 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو الصّحيح عند الحنابلة إلى أنّ المتعاقدين إذا استعملا التّأريخ غير الهجريّ في المعاملات تنتفي الجهالة ويصحّ العقد ، إذا كان ذلك التّأريخ معلوماً عند المسلمين ، كأن يؤرّخ بشهر من أشهر الرّوم ، ككانون ، وشباط ، لأنّ تلك الشّهور معلومة مضبوطة ، أو يؤرّخ بفطر النّصارى بعدما شرعوا في صومهم ، لأنّ ذلك يكون معلوماً . أمّا إذا أرّخ بتأريخ قد لا يعرفه المسلمون ، مثل أن يؤرّخ بعيد من أعياد الكفّار ، كالنّيروز والمهرجان ، وفصح النّصارى ، وصومهم الميلاد ، وفطر اليهود ، والشّعانين ، فقد ذكر الحنفيّة في البيع إلى تلك الأوقات : أنّه يصحّ إذا علم المتعاقدان ذلك ، ولا يصحّ مع جهلهما ومعرفة غيرهما به ، لأنّه يفضي إلى المنازعة . وصحّح المالكيّة ذلك ، لأنّ تلك الأيّام إن كانت معلومةً فإنّها تكون كالمنصوصة .
وذكر الشّافعيّة كما جاء في الرّوضة أنّ التّأقيت بالنّيروز والمهرجان مجزئ على الصّحيح ، وفي وجه : لا يصحّ لعدم انضباط وقتهما .
أمّا التّأريخ بفصح النّصارى فقد نصّ الشّافعيّ على أنّه لا يصحّ ، وتمسّك بظاهره بعض الأصحاب من الشّافعيّة اجتناباً لمواقيت الكفّار ، وقال جمهور الأصحاب من الشّافعيّة : إن اختصّ بمعرفته الكفّار لم يصحّ ، لأنّه لا اعتماد على قولهم ، وإن عرفه المسلمون جاز كالنّيروز . ثمّ اعتبر جماعة فيهما معرفة المتعاقدين ، وقال أكثر الأصحاب : يكفي معرفة النّاس ، وسواء اعتبرنا معرفتهما أم لا ، فلو عرفا كفى على الصّحيح ، وفي وجه يشترط معرفة عدلين من المسلمين سواهما ، لأنّهما قد يختلفان فلا بدّ من مرجّح ، وفي معنى الفصح سائر أعياد أهل الملل كفطر اليهود ونحوه .
وأمّا الحنابلة فإنّهم لم يفرّقوا بين التّأريخ بغير الشّهور الهلاليّة ، كالشّهور الرّوميّة ، وأعياد الكفّار ، فإنّ ذلك عندهم يصحّ على الصّحيح من المذهب إذا عرف المسلمون ذلك ، وقد اختار هذا القول جماعة منهم القاضي ، وقدّمه صاحب الكافي والرّعايتين والحاويين والفروع وغيرهم . وقيل : لا يصحّ كالشّعانين وعيد الفطير ونحوهما ممّا يجهله المسلمون غالباً ، وهو ظاهر كلام الخرقيّ وابن أبي موسى وابن عبدوس في تذكرته ، حيث قالوا بالأهلّة .
مواطن البحث :
9 - يبحث عن الأحكام الخاصّة بمصطلح التّأريخ في مصطلح ( آجل ) ومصطلح ( تأقيت ) لأنّ الفقهاء في الغالب لا يذكرون في كتبهم لفظ التّأريخ ، وإنّما يذكرون لفظ الأجل ، ولفظ التّأقيت ، فكلّ ما يتعلّق بالتّصرّفات من التّأقيت أو التّأجيل يرجع فيه إلى هذين المصطلحين ( الأجل والتّأقيت ) .
تأقيت *
التّعريف :
1 - التّأقيت أو التّوقيت : مصدر أقّت أو وقّت بتشديد القاف ، فالهمزة في المصدر والفعل مبدلة من الواو ، ومعناه في اللّغة : تحديد الأوقات . وهو يتناول الشّيء الّذي قدّر له حيناً أو غايةً . وتقول : وقّتّه ليوم كذا مثل أجّلته . وقال في القاموس في بيان معنى الوقت : وأنّه يستعمل بمعنى تحديد الأوقات كالتّوقيت ، والوقت المقدار من الدّهر .
وقال في الصّحاح : وقّتّه فهو موقوت ، إذا بيّن للفعل وقتاً يفعل فيه ، ومنه قوله تعالى : { إنَّ الصّلاةَ كانت على المؤمنين كتاباً مَوْقوتاً } . أي مفروضاً في الأوقات . وقد استعير الوقت للمكان ، ومنه مواقيت الحجّ لمواضع الإحرام .
والتّأقيت في الاصطلاح : تحديد وقت الفعل ابتداءً وانتهاءً . والتّأقيت قد يكون من الشّارع في العبادات مثلاً ، وقد يكون من غيره .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الأجل :
2 - أجل الشّيء في اللّغة ، كما جاء في المصباح : مدّته ووقته الّذي يحلّ فيه .
وفي اصطلاح الفقهاء هو : المدّة المستقبلة الّتي يضاف إليها أمر من الأمور ، سواء أكانت هذه الإضافة أجلاً للوفاء بالتزام ، أو أجلاً لإنهاء التزام ، وسواء أكانت هذه المدّة مقرّرةً بالشّرع ، أو بالقضاء ، أو بإرادة الملتزم فرداً أو أكثر . والفرق بينه وبين التّأقيت واضح ، فإنّ التّصرّفات في التّأقيت تثبت في الحال غالباً وتنتهي في وقت معيّن .
ب - الإضافة :
3 - الإضافة في اللّغة تأتي لمعان منها : الإسناد ، والتّخصيص .
ويستعملها الفقهاء بهذين المعنيين ، كما يستعملونها أيضاً بمعنى إضافة الحكم إلى الزّمن المستقبل ، أي إرجاء نفاذ حكم التّصرّف إلى الزّمن المستقبل الّذي حدّده المتصرّف بغير كلمة شرط . والفرق بينهما وبين التّأقيت : أنّ التّصرّفات في التّأقيت تثبت في الحال ، وتنتهي في وقت معيّن . بخلاف الإضافة ، فإنّها تؤخّر ترتّب الحكم على السّبب إلى الوقت الّذي أضيف إليه السّبب .
ج - التّأبيد :
4 - التّأبيد في اللّغة معناه : التّخليد أو التّوحّش كما جاء في الصّحاح .
وقال في المصباح : فإذا قلت : لا أكلّمه أبداً ، فالأبد من لدن تكلّمت إلى آخر عمرك .
وأمّا عند الفقهاء فيعرف من استعمالاتهم : أنّه تقييد صيغة التّصرّفات بالأبد وما في معناه . والفرق بين التّأبيد والتّأقيت واضح ، فإنّه وإن كان التّصرّف في كلّ منهما ثابتاً في الحال ، إلاّ أنّ التّصرّفات في التّأقيت مقيّدة بوقت معيّن ينتهي أثرها عنده ، بخلاف التّأبيد . وللتّوسّع ر : ( تأبيد ) .
د - التّأجيل :
5 - التّأجيل في اللّغة : مصدر أجّل - بتشديد الجيم - ومعناه : أن تجعل للشّيء أجلاً ، وأجل الشّيء : مدّته ووقته الّذي يحلّ فيه .
وفي الاصطلاح معناه : تأخير الثّابت في الحال إلى زمن مستقبل ، كتأجيل المطالبة بالثّمن إلى مضيّ شهر مثلاً . والفرق بين التّأجيل والتّأقيت : أنّ التّأقيت يترتّب عليه ثبوت التّصرّف في الحال ، بخلاف التّأجيل فإنّه على العكس من ذلك .
هـ - التّعليق :
6 - التّعليق في اصطلاح الفقهاء - كما قال ابن نجيم - : ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى .
وفسّره الحمويّ بأنّه ترتيب أمر لم يوجد على أمر سيوجد ، بإن أو إحدى أدوات الشّرط الأخرى . والفرق بين التّعليق والتّأقيت : أنّ التّأقيت تثبت فيه التّصرّفات في الحال ، فلا يمنع ترتّب الحكم على السّبب ، بخلاف التّعليق فإنّه يمنع المعلّق عن أن يكون سبباً للحكم في الحال . ر : ( تعليق ) .
أثر التّأقيت في التّصرّفات :
7 - التّصرّفات من حيث قبولها التّأقيت أو عدم قبولها له على ثلاثة أقسام هي : تصرّفات لا تقع إلاّ مؤقّتةً كالإجارة والمزارعة والمساقاة والمكاتبة ، وتصرّفات لا تصحّ مؤقّتةً كالبيع والرّهن والهبة والنّكاح ، وتصرّفات تكون مؤقّتةً وغير مؤقّتة كالعاريّة والكفالة والمضاربة والوقف وغيرها ، وبيان ذلك فيما يلي :
أوّلاً : التّصرّفات الّتي لا تقع إلاّ مؤقّتةً :
أ - الإجارة :
8 - اتّفق الفقهاء على أنّ الإجارة لا تصحّ إلاّ مؤقّتةً بمدّة معيّنة ، أو بوقوعها على عمل معلوم . فمن الأوّل : إجارة الأرض أو الدّور أو الدّوابّ والأجير الخاصّ .
ومن الثّاني : الاستئجار على عمل كخياطة ثوب مثلاً ، وهو الأجير المشترك .
ب - المزارعة والمساقاة :
9 - ذهب أبو حنيفة إلى عدم جواز المزارعة ، خلافاً لأبي يوسف ومحمّد ، فقد قالا بجوازها . وأنّ من شروط صحّتها بيان المدّة ، فهي من العقود المؤقّتة عندهما .
وأمّا المساقاة فلا يشترط توقيتها عندهما ، فإن ترك تأقيتها جازت استحساناً ، لأنّ وقت إدراك الثّمر معلوم .
وأمّا المالكيّة فلم يتعرّضوا لذكر التّأقيت في المزارعة فتصحّ عندهم بلا تقدير مدّة .
وأمّا المساقاة عندهم فإنّها تؤقّت بالجذاذ ، أي : جني الثّمر ، حتّى أنّ بعضهم يرى فسادها إن أطلقت ولم تؤقّت ، أو أقّتت بوقت يزيد على الجذاذ . ويرى ابن الحاجب من المالكيّة أنّها إن أطلقت صحّت وحملت على الجذاذ ، وذكر صاحب الشّرح الكبير : أنّ التّأقيت ليس شرطاً في صحّتها ، وغاية ما في الأمر أنّها إن أقّتت فإنّها تؤقّت بالجذاذ .
وأمّا الشّافعيّة فإنّهم يرون أنّ المزارعة إذا أفردت بالعقد فلا بدّ فيها من تقرير المدّة ، وأمّا إذا كانت تابعةً للمساقاة فإنّ ما يجري على المساقاة يجري عليها .
وأمّا المساقاة فإنّ من شروط صحّتها عندهم أن تكون مؤقّتةً إذ يشترط فيها معرفة العمل بتقدير المدّة كسنة . وأمّا الحنابلة فلا يشترطون لصحّة المزارعة والمساقاة التّأقيت ، بل تصحّ مؤقّتةً وغير مؤقّتة ، فلو زارعه أو ساقاه دون أن يذكر مدّةً جاز ، « لأنّه صلى الله عليه وسلم لم يضرب لأهل خيبر مدّةً » . وكذا خلفاؤه من بعده صلى الله عليه وسلم . ولكلّ من العاقدين فسخها متى شاء ، فإن كان الفسخ من ربّ المال قبل ظهور الثّمر وبعد شروع العامل بالعمل فعليه للعامل أجرة مثل عمله . وإن فسخ العامل قبل ظهور الثّمر فلا شيء له .
ثانياً : التّصرّفات غير المؤقّتة :
وهي تلك التّصرّفات الّتي لا تقبل التّأقيت ، أي : أنّ التّأقيت يفسدها ، وهي البيع والرّهن والهبة والنّكاح ، وبيان ذلك في ما يلي :
أ - البيع :
10 - البيع عند الفقهاء مقابلة مال بمال على وجه مخصوص ، وهو لا يقبل التّأقيت عند الفقهاء ، فقد ذكروا أنّ من شرائط صحّة البيع العامّة ألاّ يكون مؤقّتاً . ر : ( بيع ) .
وذكر السّيوطيّ في أشباهه أنّ البيع لا يقبل التّأقيت بحال ، ومتى أقّت بطل .
ب - الرّهن :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّ الرّهن لا يقبل التّأقيت ، ومتى أقّت فسد ، لأنّ حكم الرّهن كما قال الحنفيّة : الحبس الدّائم إلى انتهاء الرّهن بالأداء أو الإبراء . وقد ذكر المالكيّة أنّ من رهن رهناً على أنّه إن مضت سنة خرج من الرّهن ، فإنّ هذا لا يعرف من رهون النّاس ، ولا يكون رهناً . والرّهن عند الشّافعيّة إنّما شرع للاستيثاق ، فتأقيته بمدّة ينافي ذلك . والرّهن عند الحنابلة لا يقبل التّأقيت أيضاً ، فقد جاء في كشّاف القناع : أنّه لو شرط المتعاقدان تأقيت الرّهن ، بأن قالا : هو رهن عشرة أيّام ، فالشّرط فاسد ، لمنافاته مقتضى العقد ، والرّهن صحيح . ر : ( رهن ) .
ج - الهبة :
12 - اتّفق الفقهاء على أنّ الهبة لا تقبل التّأقيت ، لأنّها كما قال الحنفيّة : تمليك للعين في الحال بلا عوض ، فلا تحتمل التّأقيت قياساً على البيع .
ولأنّ تأقيتها أو تأجيلها يؤدّي إلى الغرر كما قال المالكيّة .
وذكر النّوويّ أنّ الهبة لا تقبل التّعليق على الشّرط ، ولا تقبل التّأقيت على المذهب .
وذكر الحنابلة كما جاء في المغني أنّه لو وقّت لهبة بأن قال : وهبتك هذا سنةً ثمّ يعود إليّ لم يصحّ ، لأنّه عقد تمليك لعين فلم يصحّ مؤقّتاً كالبيع .
العمرى والرّقبى :
13 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة العمرى ، إلاّ أنّهم اختلفوا في قبولها التّأقيت ، فذهب الحنفيّة ، والشّافعيّة في الجديد ، وأحمد إلى جواز العمرى للمعمر له حال حياته ، ولورثته من بعده . وصورة العمرى : أن يجعل داره للغير مدّة عمره ، وإذا مات تردّ عليه ، فيصحّ التّمليك له ولورثته ، ويبطل شرط العمر الّذي يفيد التّأقيت عند جمهور الفقهاء .
أمّا عند مالك ، والشّافعيّ في القديم : فالعمرى تمليك المنافع لا تمليك العين ، ويكون للمعمر له السّكنى ، فإذا مات عادت الدّار إلى المعمر ، فالعمرى من التّصرّفات المؤقّتة عندهم . أمّا الرّقبى فصورتها أن يقول الرّجل لغيره : داري لك رقبى . وهي باطلة عند أبي حنيفة ومحمّد ، فلا تفيد ملك الرّقبة ، وإنّما تكون عاريّةً ، يجوز للمعمر أن يرجع فيه ويبيعه في أيّ وقت شاء ، لأنّه تضمّن إطلاق الانتفاع .
فالرّقبى عندهما من التّصرّفات المؤقّتة لأنّها عاريّة . ويرى الشّافعيّ وأحمد وأبو يوسف جواز الرّقبى ، لأنّ قوله : " داري لك " تمليك ، وقوله " رقبى " شرط فاسد فيلغو . فكأنّه قال : رقبة داري لك . فصارت الرّقبى عندهم كالعمرى في الجواز . فهي من التّصرّفات الّتي لا تقبل التّأقيت . والرّقبى لم يجزها الإمام مالك . وللتّفصيل ر : ( عمرى ، رقبى ) .
د - النّكاح :
14 - النّكاح لا يقبل التّأقيت اتّفاقاً . فالنّكاح المؤقّت غير جائز ، سواء أكان بلفظ المتعة أم بلفظ التّزويج . كما صرّح المالكيّة بمنع ذكر الأجل مهما طال .
والنّكاح المؤقّت عند الشّافعيّة والحنابلة باطل ، سواء قيّد بمدّة مجهولة أو معلومة .
لأنّه نكاح المتعة ، وهو حرام كحرمة الميتة والدّم ولحم الخنزير . ر : ( نكاح ) .
الفرق بين النّكاح المؤقّت ونكاح المتعة :
15 - يفرّق بينهما من جهة اللّفظ ، فنكاح المتعة هو الّذي يكون بلفظ التّمتّع ، كأن يقول لها : أعطيك كذا على أن أتمتّع بك يوماً أو شهراً أو سنةً ونحو ذلك ، وهو غير صحيح عند عامّة العلماء . وأمّا النّكاح المؤقّت فهو الّذي يكون بلفظ التّزويج والنّكاح ، وما يقوم مقامهما ويقيّد بمدّة ، كأن يقول لها : أتزوّجك عشرة أيّام ونحو ذلك ، وهو غير صحيح عند عامّة العلماء ، وقال زفر : يصحّ العقد ويبطل التّأقيت .
هذا ، ولتأقيت النّكاح صور ، كأن يتزوّجها إلى مدّة معلومة ، أو مجهولة ، أو إلى مدّة لا يبلغها عمرهما ، أو عمر أحدهما . وسيأتي تفصيل ذلك كلّه في مصطلح ( نكاح ) .
إضمار التّأقيت في النّكاح :
16 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ إضمار التّأقيت في النّكاح لا يؤثّر في صحّته ولا يجعله مؤقّتاً ، فله تزوّجها وفي نيّته أن يمكث معها مدّةً نواها ، فالنّكاح صحيح ، لأنّ التّأقيت إنّما يكون باللّفظ . وذهب المالكيّة إلى أنّ التّأقيت إذا لم يقع في العقد ، ولم يعلمها الزّوج بذلك ، وإنّما قصده في نفسه ، وفهمت المرأة أو وليّها المفارقة بعد مدّة فإنّه لا يضرّ . وهذا هو الرّاجح ، وإن كان بهرام صدّر في شرحه وفي " شامله " بالفساد ، إذا فهمت منه ذلك الأمر الّذي قصده في نفسه ، فإن لم يصرّح للمرأة ولا لوليّها بذلك ، ولم تفهم المرأة ما قصده في نفسه ، فليس نكاح متعة .
وصرّح الشّافعيّة بكراهة هذا النّكاح الّذي أضمر فيه التّأقيت ، لأنّ كلّ ما لو صرّح به أبطل يكون إضماره مكروهاً عندهم .
والصّحيح المنصوص عليه في مذهب الحنابلة ، وهو الّذي عليه الأصحاب : أنّ إضمار التّأقيت في النّكاح كاشتراطه ، فيكون شبيهاً بنكاح المتعة في عدم الصّحّة .
وحكى صاحب الفروع عن الشّيخ ابن قدامة القطع بصحّته مع النّيّة .
وجاء في المغني أيضاً أنّه إن تزوّجها بغير شرط ، إلاّ أنّ في نيّته طلاقها بعد شهر ، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد ، فالنّكاح صحيح في قول عامّة أهل العلم إلاّ الأوزاعيّ ، قال : هو نكاح متعة . والصّحيح أنّه لا بأس به ، ولا تضرّ نيّته ، وليس على الرّجل أن ينوي حبس امرأته ، وحسبه إن وافقته وإلاّ طلّقها .
ثالثاً : التّصرّفات الّتي تكون مؤقّتةً وغير مؤقّتة :
المراد بها تلك التّصرّفات الّتي لا يفسدها التّأقيت ، كالإيلاء والظّهار والعاريّة وغيرها ، وبيان ذلك فيما يلي :
أ - الإيلاء :
17 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الإيلاء قد يقع مؤقّتاً أو مطلقاً . وتفصيل أحكامه ينظر في مصطلح : ( إيلاء ) .
ب - الظّهار :
18 - الأصل في الظّهار إن أطلقه أن يقع مؤبّداً ، فإن أقّته كأن يظاهر من زوجته يوماً أو شهراً أو سنةً ، فقد اختلف الفقهاء في حكمه ، فذهب الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة في القول الأظهر إلى أنّه يقع مؤقّتاً ، ولا يكون المظاهر عائداً إلاّ بالوطء في المدّة ، فإن لم يقربها حتّى مضت المدّة سقطت عنه الكفّارة ، وبطل الظّهار عملاً بالتّأقيت ، لأنّ التّحريم صادف ذلك الزّمن دون غيره ، فوجب أن ينقضي بانقضائه ، ولأنّ الظّهار منكر من القول وزور ، فترتّب عليه حكمه كالظّهار المعلّق .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة في غير الأظهر إلى أنّ الظّهار لا يقبل التّأقيت ، فإن قيّده بوقت تأبّد كالطّلاق ، فيلغى تقييده ، ويصير مظاهراً أبداً لوجود سبب الكفّارة .
وذكر الشّافعيّة في قول ثالث عندهم أنّ الظّهار المؤقّت لغو ، لأنّه لم يؤبّد التّحريم فأشبه ما إذا شبّهها بامرأة لا تحرم على التّأبيد .
ج - العاريّة :
19 - العاريّة الّتي هي تمليك للمنافع بغير عوض ، إمّا أن تكون مؤقّتةً بمدّة معلومة ، وتسمّى حينئذ العاريّة المقيّدة ، وإمّا أن تكون غير مؤقّتة ، وتسمّى العاريّة المطلقة ، وهي عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة من العقود غير اللّازمة ، فلكلّ من المعير والمستعير الرّجوع فيها متى شاء ، مطلقةً كانت أو مقيّدةً ، إلاّ في بعض الصّور كالإعارة للدّفن أو البناء أو الغراس . وللتّفصيل ر : ( إعارة ) .
ويرى المالكيّة أنّ العاريّة إذا كانت مقيّدةً بعمل كزراعة أرض بطناً ( زرعةً واحدةً ) أو بوقت كسكنى دار شهراً مثلاً ، فإنّها تكون لازمةً إلى انقضاء ذلك العمل أو الوقت ، وإن لم تكن مقيّدةً بعمل ولا بوقت فإنّها تلزم إلى انقضاء مدّة ينتفع فيها بمثلها عادةً ، لأنّ العادة كالشّرط . فإن انتفى المعتاد مع عدم التّقييد بالعمل أو الوقت فقد ذكر اللّخميّ أنّ للمعير الخيار في تسليم ذلك أو إمساكه ، وإن سلّم فله استرداده .
د - الكفالة :
20 - اختلف الفقهاء في جواز تأقيت الكفالة ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والشّافعيّة - في غير الأصحّ عندهم - إلى جواز تأقيتها إلى أجل معلوم كشهر وسنة . ومنع ذلك الشّافعيّة في الأصحّ عندهم . ثمّ اختلف المجيزون لذلك في التّوقيت إلى أجل مجهول .
فذهب الحنفيّة إلى جواز التّوقيت بوقت مجهول جهالةً غير فاحشة ، جرى العرف بين النّاس على التّوقيت به ، كوقت الحصاد والدّياس ، فإن كان الوقت المجهول غير متعارف عليه بين النّاس ، كمجيء المطر وهبوب الرّيح ، فلا يصحّ تأقيت الكفالة به .
وأجاز المالكيّة توقيت الكفالة إلى أجل مجهول ، كما نقل عن ابن يونس في كتاب الحمالة ( الكفالة ) أنّ الحمالة بالمال المجهول جائزة ، فكذا الحمالة به إلى أجل مجهول .
والحنابلة يجيزون تأقيت الكفالة ولو إلى أجل مجهول لا يمنع حصول المقصود منها كوقت الحصاد والجذاذ ، لأنّها تبرّع من غير عوض فتصحّ كالنّذر . ر : ( كفالة ) .
هـ - المضاربة :
21 - يجوز تأقيت المضاربة عند الحنفيّة والحنابلة ، فقد ذكر الحنفيّة أنّه ليس للعامل فيها تجاوز بلد أو سلعة أو وقت أو شخص عيّنه المالك .
والحنابلة صحّحوا تأقيت المضاربة بأن يقول ربّ المال : ضاربتك على هذه الدّراهم أو الدّنانير سنةً ، فإذا مضت السّنة فلا تبع ولا تشتر ، لأنّه تصرّف يتعلّق بنوع من المتاع فجاز توقيته بالزّمان كالوكالة .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ المضاربة لا تقبل التّأقيت ، لأنّها كما قال المالكيّة : ليست بعقد لازم ، فحكمها أن تكون إلى غير أجل ، فلكلّ واحد منهما تركها متى شاء .
ولأنّ تأقيتها - كما قال الشّافعيّة - يؤدّي إلى التّضييق على العامل في عمله ، فقد ذكر النّوويّ في الرّوضة : أنّه لا يعتبر في القراض ( المضاربة ) بيان المدّة ، فلو وقّت فقال : قارضتك سنةً ، فإن منعه من التّصرّف بعدها مطلقاً ، أو من البيع فسد ، لأنّه يخلّ بالمقصود ، وذكر النّوويّ أيضاً أنّه إن قال : على ألاّ تشتري بعد السّنة ، ولك البيع ، صحّ على الأصحّ ، لأنّ المالك يتمكّن من منعه من الشّراء متى شاء ، بخلاف البيع ، ولو اقتصر على قوله : قارضتك سنةً فسد على الأصحّ ، وعلى الثّاني يجوز ، ويحمل على المنع من الشّراء استدامةً للعقد . ولو قال : قارضتك سنةً على ألاّ أملك الفسخ قبل انقضائها فسد .
و - النّذر :
22 - اتّفق الفقهاء على أنّ النّذر يقبل التّأقيت ، كما لو نذر صوم يوم من شهر المحرّم لزمه ذلك . أمّا إن لم يؤقّت ، بل قال : للّه عليّ أن أصوم يوماً لزمه ، وتعيين وقت الأداء إليه في هذه الحال .
ز - الوقف .
23 - اختلف الفقهاء في تأقيت الوقف ، فذهب الحنفيّة والشّافعيّة - في الصّحيح عندهم - والحنابلة - في أحد الوجهين - إلى أنّ الوقف لا يقبل التّأقيت ، ولا يكون إلاّ مؤبّداً .
وذهب المالكيّة والشّافعيّة - في مقابل الصّحيح عندهم والحنابلة على الوجه الآخر - إلى جواز تأقيت الوقف ، ولا يشترط في صحّة الوقف التّأبيد ، أي كونه مؤبّداً دائماً بدوام الشّيء الموقوف ، فيصحّ وقفه مدّةً معيّنةً ثمّ ترفع وقفيّته ، ويجوز التّصرّف فيه بكلّ ما يجوز التّصرّف به في غير الموقوف . وينظر تفصيل ذلك والخلاف فيه في مصطلح : ( وقف ) .
ح - الوكالة :
24 - يصحّ تأقيت الوكالة عند الفقهاء . ففي جامع الفصولين : أنّه لو وكّله بالبيع أو الشّراء اليوم ففعل ذلك في الغد ، ففي صحّته روايتان ، ورجّح عدم الصّحّة بناءً على أنّ ذكر اليوم للتّوقيت .
وذكر صاحب البدائع أنّه لو وكّله بأن يبيع هذه الدّار غداً ، فإنّه لا يكون وكيلاً قبل الغد . وذكر المالكيّة أنّ الوكيل إذا خالف ما أمره به الموكّل ، بأن باع أو اشترى قبل أو بعد الوقت الّذي عيّنه له الموكّل ، فللموكّل الخيار في قبول ذلك أو عدم قبوله .
وصرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّه يمتنع على الوكيل التّصرّف بعد انتهاء وقت الوكالة ر : ( وكالة ) .
ط - اليمين :
25 - اتّفق الفقهاء على أنّ اليمين يقبل التّأقيت ، وتأقيتها تارةً يكون بألفاظ التّأقيت مثل ( ما دام ) ( وما لم ) ( وحتّى ) ( وأنّى ) ونحوها ، وتارةً يكون بالتّقييد بوقت كشهر ويوم . فمن حلف ألاّ يفعل شيئاً ، وحدّد وقتاً معيّناً لذلك ، اختصّت يمينه بما حدّده .
ويرجع للتّفصيل إلى بحث ( الأيمان ) .