ثانياً : التّشهير من الحاكم :
تشهير الحاكم لبعض النّاس يكون في الحدود أو في التّعزير .
أ - بالنّسبة للحدود :
7 - قال الفقهاء : ينبغي أن تقام الحدود في ملأ من النّاس ، لقوله تعالى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهما طَائِفَةٌ من المُؤْمنين } ، قال الكاسانيّ : والنّصّ وإن ورد في حدّ الزّنى ، لكنّ النّصّ الوارد فيه يكون واردا في سائر الحدود دلالة ، لأنّ المقصود من الحدود كلّها واحد ، وهو زجر العامّة ، وذلك لا يحصل إلّا وأن تكون الإقامة على رأس العامّة ، لأنّ الحضور ينزجرون بأنفسهم بالمعاينة ، والغائبين ينزجرون بإخبار الحضور ، فيحصل الزّجر للكلّ . وقال عبد الملك بن حبيب : ينبغي أن يكون إقامة الحدّ علانية وغير سرّ ، ليتناهى النّاس عمّا حرّم اللّه عليهم . وقال مطرّف : ومن أمر النّاس عندنا الشّهر لأهل الفسق رجالا ونساء ، والإعلام بجلدهم في الحدود وما يلزمهم من العقوبة وكشف وجه المرأة .
وسئل الإمام مالك عن المجلود في الخمر والفِرية : أترى أن يطاف بهم وبشُرّاب الخمر ؟ قال : إذا كان فاسقاً مدمناً فأرى أن يطاف بهم ، ونعلن أمرهم ويفضحون .
وفي حدّ السّرقة قال الفقهاء : يندب أن يعلّق العضو المقطوع في عنق المحدود ، لأنّ في ذلك ردعا للنّاس ، وقد روى فضالة بن عبيد رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أُتيَ بسارق قطعت يده ، ثمّ أمر بها فعلّقت في عنقه » وفعل ذلك عليّ رضي الله عنه.
وذكر في الدّرّ المختار حديث : « ما بالُ العاملِ نبعثه ، فيأتي فيقول : هذا لك وهذا لي . فهلا جلس في بيت أبيه وأمّه فينظرُ أيهدى له أم لا ؟ والّذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته ، إن كان بعيراً له رُغاء ، أو بقرة لها خُوار ، أو شاة تَيْعَرُ » . قال ابن عابدين : ويؤخذ من هذا الحديث - كما قال ابن المنير - أنّ الحكّام أخذوا بالتّجريس بالسّارق ونحوه من هذا الحديث .
كذلك قال الفقهاء في قاطع الطّريق إذا صلب : يصلب ثلاثة أيّام ليشتهر الحال ويتمّ النّكال . قال ابن قدامة : إنّما شرع الصّلب ردعا لغيره ليشتهر أمره .
ب - بالنّسبة للتّعزير :
8 - التّشهير نوع من أنواع التّعزير ، أي أنّه عقوبة تعزيريّة .
ومعلوم أنّ التّعزير يرجع في تحديد جنسه وقدره إلى نظر الحاكم ، فقد يكون بالضّرب أو الحبس أو التّوبيخ أو التّشهير أو غير ذلك ، حسب اختلاف مراتب النّاس ، واختلاف المعاصي ، واختلاف الأعصار والأمصار . وعلى ذلك فالتّعزير بالتّشهير جائز إذا علم الحاكم أنّ المصلحة فيه ، وهذا الحكم هو بالنّسبة لكلّ معصية لا حدّ فيها ولا كفّارة في الجملة . يقول الماورديّ : للأمير إذا رأى من الصّلاح في ردع السّفلة : أن يشهّرهم وينادي عليهم بجرائمهم ، ساغ له ذلك . ويقول : يجوز في نكال التّعزير أن يجرّد من ثيابه ، إلا قدر ما يستر عورته ، ويشهّر في النّاس ، وينادى عليه بذنبه إذا تكرّر منه ولم يتب .
وفي التّبصرة لابن فرحون : إن رأى القاضي المصلحة في قمع السّفلة بإشهارهم بجرائمهم فعل . ويقول ابن فرحون أيضا : إذا حكم القاضي بالجور ، وثبت ذلك عليه بالبيّنة ، فإنّه يعاقب العقوبة الموجعة ، وعزل ويشهّر ويفضح .
وفي كشّاف القناع : القوّادة - الّتي تفسد النّساء والرّجال - أقلّ ما يجب فيها الضّرب البليغ ، وينبغي شهرة ذلك بحيث يستفيض في الرّجال والنّساء لتجتنب .
غير أنّه يلاحظ أنّ الفقهاء دائما يذكرون التّشهير في تعزير شاهد الزّور ممّا يوحي بأنّ التّشهير واجب بالنّسبة لشاهد الزّور ، وذلك لاعتبار هذه المعصية من الكبائر .
قال الإمام أبو حنيفة في شاهد الزّور في المشهور : يطاف به ويشهّر ، ولا يضرب استنادا إلى ما فعله القاضي شريح ، وزاد الصّاحبان ضربه وحبسه .
ويذكر ابن قدامة حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ألا أُنَبِّئكُم بأكبر الكبائر ؟ قالوا : بلى يا رسولَ اللّه قال : الإشراكُ باللّه وعقوق الوالدين ، وكان متّكئاً فجلس ، فقال : ألا وقولُ الزّور وشهادة الزّور . فما زال يكرّرها حتّى قلنا : ليته سكت » .
ثمّ يقول ابن قدامة : فمتى ثبت عند الحاكم عن رجل أنّه شهد بزور عمدا عزّره وشهّره في قول أكثر أهل العلم . روي ذلك عن عمر رضي الله عنه ، وبه يقول شريح والقاسم بن محمّد وسالم بن عبد اللّه والأوزاعيّ وابن أبي ليلى ومالك والشّافعيّ وعبد الملك بن يعلى قاضي البصرة . وفي كشّاف القناع : إذا عزّر من وجب عليه التّعزير وجب على الحاكم أن يشهّره لمصلحة كشاهد زور ليجتنب .
وجاء في التّبصرة : التّعزير لا يختصّ بالسّوط واليد والحبس ، وإنّما ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام . قال أبو بكر الطّرطوشيّ في أخبار الخلفاء المتقدّمين : إنّهم كانوا يعاملون الرّجل على قدره وقدر جنايته ، فمنهم من يضرب ، ومنهم من يحبس ، ومنهم من يقام واقفاً على قدميه في المحافل ، ومنهم من تنزع عمامته . قال القرافيّ : إنّ التّعزير يختلف باختلاف الأعصار والأمصار ، فربّ تعزير في بلد يكون إكراماً في بلد آخر ، كقطع الطّيلسان ليس تعزيراً في الشّام فإنّه إكرام ، وكشف الرّأس بالأندلس ليس هواناً وبمصر والعراق هوان . ثمّ قال صاحب التّبصرة : والتّعزير لا يختصّ بفعل معيّن ولا قول معيّن ، فقد « عزّر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالهجر » ، وذلك في حقّ الثّلاثة الّذين ذكرهم اللّه تعالى في القرآن الكريم ، فهجروا خمسين يوماً لا يكلّمهم أحد . « وعزّر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالنّفي ، فأمر بإخراج المخنّثين من المدينة ونفيهم » .
وفي مغني المحتاج : يجتهد الإمام في جنس التّعزير وقدره ، لأنّه غير مقدّر شرعاً ، فيجتهد في سلوك الأصحّ ، فله أن يشهّر في النّاس من أدّى اجتهاده إليه .
ويجوز له حلق رأسه ، ويجوز أن يصلب حيّاً ، وهو ربطه في مكان عال لما لا يزيد عن ثلاثة أيّام ثمّ يرسل ، ولا يمنع في تلك المدّة عن الطّعام والشّراب والصّلاة .
وهذه النّصوص تدلّ على أنّه يجوز أن يكتفى بالتّشهير كعقوبة تعزيريّة إذا رأى الإمام ذلك ، ويجوز أن يضمّ إليه عقوبة أخرى كالضّرب والحبس .
وقد كان أبو بكر البحتريّ - وهو أمير المدينة - إذا أتي برجل ، قد أخذ معه الجرّة من المسكر ، أمر به فصبّ على رأسه عند بابه ، كيما يعرف بذلك ويشهّر به .
تشوّف *
التّعريف :
1 - التّشوّف لغة : مصدر تشوّف . يقال : تشوّفتِ الأوعالُ : إذا علت رءوس الجبال تنظر السّهل وخلوّه ممّا تخافه لتَرِدَ الماء .
ومنه قيل تشوّف فلان لكذا : إذا طمح بصره إليه . ثمّ استعمل في تعلّق الآمال ، والتّطلّب .
والمُشوِّفة من النّساء : الّتي تظهر نفسها ليراها النّاس .
وتشوّفت المرأة : تزيّنت وتطلّعت للخطاب - من شفّت الدّرهم : إذا جلوته . ودينار مشوّف : أي مجلوّ - وهو أن تجلو المرأة وجهها وتصقل خدّيها .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ للفظ تشوّف عن معانيه الواردة في اللّغة .
وقيل : التّشوّف بمعنى التّزيّن خاصّ بالوجه ، والتّزيّن عامّ يستعمل في الوجه وغيره .
الحكم الإجماليّ :
أ - تشوّف الشّارع لإثبات النّسب :
2 - من القواعد المقرّرة في الشّريعة الإسلاميّة : أنّ الشّارع متشوّف للحاق النّسب ، لأنّ النّسب أقوى الدّعائم الّتي تقوم عليها الأسرة ، ويرتبط به أفرادها ، قال تعالى : { وَهو الّذي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَرَاً فَجَعَلَهُ نَسَبَاً وَصِهْرَاً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرَاً } .
ولاعتناء الشّريعة بحفظ النّسب وتشوّفها لإثباته تكرّر فيها الأمر بحفظه عن تطرّق الشّكّ إليه ، والتّحذير من ذرائع التّهاون به . ولمراعاة هذا المقصد اتّفق الفقهاء على اعتبار الأحوال النّادرة في إلحاق النّسب ، لتشوّف الشّارع لإثباته . وللتّفصيل ( ر : نسب ) .
ب - التّشوّف إلى العتق :
3 - من محاسن الإعتاق أنّه إحياء حكميّ ، يخرج العبد من كونه ملحقا بالجمادات إلى كونه أهلا للكرامات البشريّة ، من قبول الشّهادة والولاية والقضاء .
ويقع العتق عند الفقهاء من كلّ : مكلّف مسلم - ولو سكران أو هازلا ولو دون نيّة - لتشوّف الشّارع إلى الحرّيّة بلا خلاف بين الفقهاء .
وقد أجمعوا على أنّه من حيث الأصل تصرّف مندوب إليه ، ويجب لعارض ، ويحصل به القربة لقوله تعالى : { فتحرير رقبة مؤمنة } وقوله عزّ وجلّ { فكّ رقبة } . ولخبر « أيّما مسلم أعتق مؤمنا أعتق اللّه بكلّ عضو منه عضوا من النّار » ( ر : عتق ، إعتاق ) .
ج - التّشوّف في العدّة :
4 - المطلّقة الرّجعيّة لها أن تتزيّن ، لأنّها حلال للزّوج ، لقيام نكاحها ما دامت في العدّة ، والرّجعة مستحبّة ، والتّزيّن حامل عليها فيكون مشروعاً .
وهذا عند الحنفيّة ، والمالكيّة ، والحنابلة .
أمّا الشّافعيّة : فيرون أنّه يستحبّ لها الإحداد . فلا يستحبّ لها التّزيّن . ومنهم من قال : الأولى أن تتزيّن بما يدعو الزّوج إلى رجعتها . ( ر : عدّة ) ولا خلاف بين الفقهاء في تحريم الزّينة على المتوفّى عنها زوجها مدّة عدّتها ، لوجوب الإحداد عليها .
وأمّا المبانة في الحياة بينونة كبرى ، فقد اختلف الفقهاء فيها على أقوال : فذهب الحنفيّة ، والشّافعيّة في قول إلى أنّه يحرم عليها الزّينة ، حدادا وأسفا على زوجها ، وإظهارا للتّأسّف على فوت نعمة النّكاح ، الّذي هو سبب لصونها وكفاية مئونتها ، ولحرمة النّظر إليها ، وعدم مشروعيّة الرّجعة . وقال الشّافعيّة : يستحبّ لها الإحداد .
وفي قول : الإحداد واجب على ما تقدّم ، وأمّا المالكيّة فقالوا : لا إحداد إلا على المتوفّى عنها زوجها فقط . ومفاده : لا إحداد على المبانة وإن استحبّ لها في عدّتها .
ولا يسنّ لها الإحداد عند الحنابلة ، ولهذا لا يلزمها أن تتجنّب ما يرغّب في النّظر إليها من الزّينة . وللتّفصيل ( ر : عدّة ) .
د - التّشوّف للخطاب :
5 - يرى الفقهاء أنّه لا يجوز للّتي تكون صالحة للخطبة والزّواج أن تتزيّن استعداداً لرؤية من يرغب في خطبتها والزّواج بها .
وأجمعوا على أنّه يجوز للخاطب أن يرى بنفسه من يرغب في زواجها لكي يقدم على العقد إن أعجبته ، ويحجم عنه إن لم تعجبه ، لخبر « إذا خطب أحدكم امرأة ، فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل » وذلك لأنّه من أسباب الألفة والوئام .
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه « أنّه خطب امرأة ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أنظرتَ إليها ؟ قال : لا . فقال : اذهب فانظر إليها ، فإنّه أحرى أن يُؤْدَم بينكما » .
ويرى أكثر الفقهاء أنّ للخاطب أن ينظر إلى الوجه والكفّين فقط ، لأنّ رؤيتهما تحقّق المطلوب من الجمال وخصوبة الجسد وعدمها . فيدلّ الوجه على الجمال أو ضدّه لأنّه مجمع المحاسن ، والكفّان على خصوبة البدن . وأجاز بعض الحنفيّة النّظر إلى الرّقبة والقدمين . وأجاز الحنابلة النّظر إلى ما يظهر عند القيام بالأعمال ، وهي ستّة أعضاء : الوجه ، والرّأس ، والرّقبة ، واليد ، والقدم ، والسّاق ، لأنّ الحاجة داعية إلى ذلك ، ولإطلاق الأحاديث السّابقة . وللتّفصيل ( ر : نكاح ، خطبة ) .
تشييع الجنازة *
انظر : جنازة .
تصادق *
التّعريف :
1 - التّصادق لغة واصطلاحاً : ضدّ التّكاذب يقال : تصادقا في الحديث والمودّة ضدّ تكاذبا ومادّة تفاعل لا تكون غالباً إلا بين اثنين يقال : تحابّا وتخاصما ، أي أحبّ أو خاصم كلّ منهما الآخر . واستعمل المالكيّة أيضاً ( التّقارر ) بمعنى التّصادق .
حكم التّصادق :
2 - حكم التّصادق في الجملة - في حقّ المتصادقين إذا تعلّقت به حقوق العباد ، أو كان في حقوق اللّه الّتي لا تدرأ بالشّبهات - اللّزوم ، وهو أبلغ من الشّهادة ، لأنّه نوع من الإقرار . قال أشهب : قول كلّ أحد على نفسه أوجب من دعواه على غيره .
أمّا بالنّسبة لحقوق اللّه تعالى الّتي تدرأ بالشّبهات فليس بلازم .
من يعتبر تصادقه :
3 - التّصادق الّذي يعتدّ به ويترتّب عليه حكم يكون من البالغ العاقل المختار ، فلا يعتبر تصديق الصّغير وغير العاقل .
صفة التّصادق :
4 - صفة التّصديق لفظ أو ما يقوم مقامه يدلّ على توجّه الحقّ قبل المقرّ ( المصدّق ) . ويقوم مقام اللّفظ : الإشارة والكتابة والسّكوت . فالإشارة من الأبكم ومن المريض . فإذا قيل للمريض : لفلان عندك كذا ، فأشار برأسه أن نعم ، فهذا تصديق إذا فهم عنه مراده .
ما يشترط في المصادق :
5 - يشترط في المصادق أن يكون أهلاً للاستحقاق ، وألا يكذّبه المصادق ، فإذا كذّب المصادق المصادق ثمّ رجع لم يفد رجوعه ، إلّا أن يرجع المصادق إلى ما أقرّ به .
محلّ التّصادق :
6 - يكون التّصديق في النّسب والمال . والتّصديق في النّسب ينظر تحت عنوان ( نسب ) . والتّصديق في المال نوعان : مطلق ومقيّد .
فالمطلق : ما صدر غير مقترن بما يقيّده أو يرفع حكمه أو حكم بعضه ، فإذا كان التّصديق على هذا الوجه فهو ملزم لمن صدّق، وعليه أداء ما صدّق فيه ، ولا يجوز له الرّجوع عنه. وإذا كان التّصديق مقيّداً بقيد ففي لزومه أو عدمه تفصيل ينظر في مصطلح ( إقرار ) .
التّصادق في حقوق اللّه تعالى :
7 - إذا تصادق اثنان أو أكثر على إسقاط حقّ من حقوق اللّه تعالى فلا عبرة بتصادقهم ، ولا يترتّب عليه حكم ، إلّا إذا قامت بيّنة على هذا التّصادق ، فيكون الحكم في هذه الحال ثابتا بالبيّنة لا بالتّصادق ، ويتّضح ذلك من الأمثلة الآتية :
إن طلّق الزّوج زوجته قبل الدّخول ، وكان قد خلا بها ، لزمتها العدّة إن كان الزّوج بالغاً ، وكانت المرأة مطيقة للوطء ، سواء أكانت خلوة اهتداء أم خلوة زيارة .
وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . وتجب العدّة حينئذ ولو تصادقا على نفي الوطء ، لأنّ العدّة حقّ اللّه تعالى ، فلا تسقط بالتّصادق .
ويؤخذ بتصادقهما على نفي الوطء فيما هو حقّ لهما : فلا نفقة لها ، ولا يتكمّل لها الصّداق ، ولا رجعة له عليها . أي كلّ من أقرّ منهما أخذ بإقراره اجتماعاً أو انفراداً .
ويترتّب على قبول التّصادق أو ردّه أحكام كثيرة ، كثبوت النّسب من تاريخ الخلوة ، وتأكيد المهر ، والنّفقة والسّكن والعدّة ، وحرمة نكاح أختها في عدّتها وأربع سواها . وفي هذه المذاهب اختلاف في الحقوق الّتي تترتّب على الخلوة . تفصيله في باب : ( النّكاح ) .
وعند الشّافعيّة في القديم قولان أحدهما : الخلوة مؤثّرة ، وتصدّق المرأة في ادّعاء الإصابة ( الوطء ) والقول الثّاني أنّها كالوطء . وفي الجديد : إنّ الخلوة وحدها لا تؤثّر في المهر . وعلى هذا لو اتّفقا على حصول الخلوة ، وادّعت الإصابة لم يترجّح جانبها ، بل القول قوله بيمينه . ويفهم من ذلك أنّه لو صدّقها يتقرّر المهر كلّه .
التّصادق في النّكاح :
8 - لا يثبت النّكاح بالتّصادق ، لأنّ الشّهادة شرط فيه ، ووقتها عند غير المالكيّة وقت العقد ، وعند المالكيّة يندب الإشهاد وقت العقد ، فإن لم يشهد عند العقد اشترط وجوبا عند الدّخول ، ولا حدّ عندهم إن فشا النّكاح بوليمة أو ضرب دفّ أو دخان ، أو كان على العقد أو الدّخول شاهد واحد غير الوليّ ، لصحّة النّكاح في هذه الصّور .
وقال المالكيّة : تثبت الزّوجيّة بالتّقارر - أي التّصادق - حقّ الزّوجين إذا كانا بلديّين ، أو كان أحدهما بلديّا ، وأمّا الطّارئان - أي من لم يكونا من أهل البلد ، سواء قدما معاً أو مفترقين - فلا تثبت الزّوجيّة بينهما بمجرّد التّصادق .
حكم تصادق الزّوجين على طلاق سابق :
9 - إذا أقرّ رجل في حالة الصّحّة بطلاق بائن أو رجعيّ متقدّم على وقت إقراره ، ولا بيّنة له ، استأنفت امرأته العدّة من وقت إقراره ، فيصدّق في الطّلاق ، لا في إسناده للوقت السّابق ولو صدّقته ، لأنّه يتّهم على إسقاط العدّة وهي حقّ للّه تعالى . فإن كانت له بيّنة ، فالعدّة من الوقت الّذي أسندت إليه البيّنة . هذا بالنّسبة للعدّة لأنّها حقّ اللّه تعالى .
أمّا بالنّسبة لحقوق الزّوجين فيعامل كلّ حسب إقراره ، فلو ماتت الزّوجة ، وكانت العدّة قد انقضت بحسب إقراره ، فلا يرثها لأنّها صارت أجنبيّة على مقتضى دعواه ، ولا رجعة له عليها إن كان الطّلاق رجعيّاً ، وورثته إن مات في العدّة المستأنفة ، حيث كان الطّلاق رجعيّا إن لم تصدّقه . ولا يتزوّج أختها ولا أربعا سواها في العدّة ، ولو صادقته على حصول الطّلاق في الماضي نفيا لتهمة التّواطؤ بينهما .
وإن صدّقته فلا نفقة لها معاملة لها بتصديقها إيّاه . وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة .
وعند الشّافعيّة : أنّه لو أسند الزّوج الطّلاق إلى زمن ماض ، وصدّقت الزّوجة الزّوج في الإسناد ، فالعدّة من التّاريخ الّذي أسند إليه الطّلاق ، ولو لم يقم على ذلك بيّنة .
والمفهوم من كلام الحنابلة أنّ الحكم عندهم كذلك . فقد جاء في شرح منتهى الإرادات : لو جاءت امرأة حاكماً وادّعت أنّ زوجها طلّقها وانتهت عدّتها ، فله تزويجها بشرطه إن ظنّ صدقها ، ولا سيّما إن كان الزّوج لا يعرف ، لأنّ الإقرار ( أي بالزّوجيّة ) لمجهول لا يصحّ. وأيضاً الأصل صدقها - أي فيما ادّعته من خلوّها عن الزّوجيّة - ولا منازع .
حكم مصادقة الزّوجة على إعسار الزّوج :
10 - يكتفى بتصديق الزّوجة زوجها في دعواه الإعسار ، وتصديقها يقوم مقام البيّنة ، ويترتّب عليه ما يترتّب على ثبوت الإعسار بالبيّنة من حيث الحكم بالتّطليق بشروطه المفصّلة في أبوابها وينظر ( إعسار ، نفقة ، مهر ) .
الرّجوع في التّصديق :
11 - تقدّم أنّ التّصديق ملزم لمن صدّق ، وعلى ذلك فلا يجوز الرّجوع فيه بالنّسبة لحقوق العباد وحقوق اللّه الّتي لا تدرأ بالشّبهات ، كالزّكاة ، فمن صدّق المدّعي فيما ادّعاه عليه من حقّ فلا يجوز له الرّجوع متى توافرت شروط التّصديق .
ولو أقرّ بنسب ، وصدّقه المقرّ له ، ثمّ رجع المقرّ عن إقراره لا يقبل منه الرّجوع .
أمّا بالنّسبة لحقوق اللّه تعالى الّتي تدرأ بالشّبهات كالحدود فإنّه إذا ثبت الحدّ بالإقرار فقط ، فإنّه يجوز للمقرّ الرّجوع ، سواء أكان الرّجوع قبل الحدّ أم بعده ، وسقط الحدّ ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عرّض لماعز بالرّجوع » ، فلولا أنّه يفيد لما عرّض له به .
وعلّل الفقهاء عدم جواز الرّجوع في التّصديق بحقوق الآدميّين وحقوق اللّه الّتي لا تدرأ بالشّبهات : بأنّ رجوعه نقض لما صدر منه وتعلّق به حقّ الغير ، فإذا قال : هذه الدّار لزيد ، لا بل لعمرو ، أو ادّعى زيد على ميّت شيئا معيّنا من تركته فصدّقه ابنه ، ثمّ ادّعاه عمرو فصدّقه ، حكم به لزيد ، ووجبت عليه غرامته لعمرو ، وهذا ظاهر أحد قولي الشّافعيّ . وفي القول الآخر : لا يغرم لعمرو شيئا ، وهو قول أبي حنيفة ، لأنّه أقرّ له بما عليه الإقرار به وإنّما منعه الحكم من قبوله وذلك لا يوجب الضّمان .
تصحيح *
التّعريف :
1 - التّصحيح لغة : مصدر صحّح ، يقال : صحّحت الكتاب والحساب تصحيحاً : إذا أصلحت خطأه ، وصحّحته فصحّ . والتّصحيح عند المحدّثين هو : الحكم على الحديث بالصّحّة ، إذا استوفى شرائط الصّحّة الّتي وضعها المحدّثون . ويطلق التّصحيح أيضاً عندهم على كتابة
( صحّ ) على كلام يحتمل الشّكّ بأن كرّر لفظ مثلا لا يخلّ تركه .
والتّصحيح عند أهل الفرائض : إزالة الكسور الواقعة بين السّهام والرّءوس .
والتّصحيح عند الفقهاء هو : رفع أو حذف ما يفسد العبادة أو العقد .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّعديل :
2 - التّعديل : مصدر عدّل ، يقال : عدّلت الشّيء تعديلا فاعتدل : إذا سوّيته فاستوى . ومنه قسمة التّعديل . وعدّلت الشّاهد : نسبته إلى العدالة . وتعديل الشّيء : تقويمه .
ب - التّصويب :
3 - التّصويب : مصدر صوّب من الصّواب ، الّذي هو ضدّ الخطأ ، والتّصويب بهذا المعنى يرادف التّصحيح ، وصوّبت قوله : قلت : إنّه صواب .
ج - التّهذيب :
4 - التّهذيب كالتّنقية ، يقال : هذّب الشّيء ، إذا نقّاه وأخلصه . وقيل : أصلحه .
د - الإصلاح :
5 - الإصلاح ضدّ الإفساد ، وأصلح الشّيء بعد فساده : أقامه، وأصلح الدّابّة : أحسن إليها. هـ – التّحرير :
6 - تحرير الكتابة : إقامة حروفها وإصلاح السّقط وتحرير الحساب : إثباته مستوياً لا غلت فيه ، ولا سقط ولا محو . وتحرير الرّقبة : عتقها .
الحكم التّكليفيّ :
7 - تصحيح الفساد والخطأ أمر واجب شرعا متى عرفه الإنسان ، سواء أكان ذلك في العبادات : كمن اجتهد في معرفة القبلة وصلّى ، ثمّ تبيّن الخطأ أثناء الصّلاة ، فيجب تصحيح هذا الخطأ بالاتّجاه إلى القبلة ، وإلا فسدت الصّلاة .
أم كان ذلك في المعاملات : كالبيع بشرط مفسد للعقد ، فيجب إسقاط هذا الشّرط ليصحّ البيع ، وإلا وجب فسخ البيع دفعاً للفساد.
ما يتعلّق بالتّصحيح من أحكام :
أوّلا : تصحيح الحديث :
8 - تصحيح الحديث هو : الحكم عليه بالصّحّة لتوافر شروط خاصّة اشترطها علماء الحديث . وقد يختلف المحدّثون في صحّة بعض الأحاديث لاختلافهم في بعض الشّروط ، وفي تقديم بعضها على بعض .
فقد قرّر ابن الصّلاح والنّوويّ وغيرهما أنّه يحكم بصحّة الحديث المسند الّذي يتّصل إسناده بنقل العدل الضّابط عن العدل الضّابط إلى منتهاه ، ولا يكون شاذّاً ولا معلَّلاً .
قال ابن الصّلاح : فهذا هو الحديث الّذي يحكم له بالصّحّة بلا خلاف بين أهل الحديث . فإذا وجدت الشّروط المذكورة حكم للحديث بالصّحّة ، ما لم يظهر بعد ذلك أنّ فيه شذوذاً . والحكم بتواتر الحديث حكم بصحّته . وقال بعض المحدّثين : يحكم للحديث بالصّحّة إذا تلقّاه النّاس بالقبول ، وإن لم يكن له إسناد صحيح . قال ابن عبد البرّ - لما حكى عن التّرمذيّ أنّ البخاريّ صحّح حديث البحر : « هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته » وأهل الحديث لا يصحّحون مثل إسناده - لكنّ الحديث عندي صحيح ، لأنّ العلماء تلقّوه بالقبول .
وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايينيّ : تعرف صحّة الحديث إذا اشتهر عند أئمّة الحديث بغير نكير منهم . وقال نحوه ابن فورك .
على أنّ هناك من اشترط غير ذلك للحكم بالصّحّة ، كاشتراط الحاكم أن يكون راوي الحديث مشهوراً بالطّلب - أي طلب الحديث وتتبّع رواياته - وعن مالك نحوه ، وكاشتراط أبي حنيفة فقه الرّاوي ، وكاشتراط بعض المحدّثين العلم بمعاني الحديث ، حيث يروى بالمعنى ، قال السّيوطيّ : وهو شرط لا بدّ منه ، لكنّه داخل في الضّبط ، وكاشتراط البخاريّ ثبوت السّماع لكلّ راو من شيخه ، ولم يكتف بإمكان اللّقاء والمعاصرة .
أثر عمل العالم وفتياه في التّصحيح :
9 - قال النّوويّ والسّيوطيّ : عمل العالم وفتياه على وفق حديث رواه ليس حكماً منه بصحّة الحديث ولا بتعديل رواته ، لإمكان أن يكون ذلك منه احتياطا ، أو لدليل آخر وافق ذلك الخبر . وصحّح الآمديّ وغيره من الأصوليّين أنّه حكم بذلك . وقال إمام الحرمين : إن لم يكن في مسالك الاحتياط - أي لم تكن الفتيا بمقتضى صحّة الحديث ، بل للاحتياط - . وفرّق ابن تيميّة بين أن يعمل به في التّرغيب وغيره . كما أنّ مخالفة العالم للحديث لا تعتبر قدحا منه في صحّته ولا في رواته ، لإمكان أن يكون ذلك لمانع من معارض أو غيره .
وقد روى الإمام مالك حديث الخيار ، ولم يعمل به لعمل أهل المدينة بخلافه ، ولم يكن ذلك قدحاً في نافعٍ راويه . وممّا لا يدلّ على صحّة الحديث أيضا - كما ذكر أهل الأصول - موافقة الإجماع له على الأصحّ ، لجواز أن يكون المستند غيره .
وقيل : يدلّ على صحّة الحديث .
تصحيح المتأخّرين من علماء الحديث :
10 - يرى الشّيخ ابن الصّلاح أنّه قد انقطع التّصحيح في هذه الأعصار ، فليس لأحد أن يصحّح ، بل يقتصر في الحكم بصحّة الحديث على ما اعتمده السّابقون ، كما يرى عدم اعتبار الحديث صحيحا بمجرّد صحّة إسناده ما لم يوجد في مصنّفات أئمّة الحديث المعتمدة المشهورة ، فأغلب الظّنّ أنّه لو صحّ عندهم لما أهملوه لشدّة فحصهم واجتهادهم .
وقد خالف الإمام النّوويّ ابن الصّلاح في ذلك ، فقال : والأظهر عندي جوازه لمن تمكّن وقويت معرفته . قال الحافظ العراقيّ : وهو الّذي عليه عمل أهل الحديث .
وقد صحّح جماعة من العلماء المتأخّرين أحاديث لم يعرف تصحيحهما عن الأقدمين .
ثانياً : تصحيح العقد الفاسد :
11 - الفقهاء عدا الحنفيّة لا يفرّقون في الجملة بين العقد الباطل والعقد الفاسد ، فالحكم عند الشّافعيّة والحنابلة : أنّ العقد لا ينقلب صحيحاً برفع المفسد .
ففي كتب الشّافعيّة : لو حذف العاقدان المفسد للعقد - ولو في مجلس الخيار - لم ينقلب العقد صحيحاً ، إذ لا عبرة بالفاسد .
وفي المغني لابن قدامة : لو باعه بشرط أن يسلّفه أو يقرضه ، أو شرط المشتري ذلك عليه ، فهو محرّم والعقد باطل ، لما روى عبد اللّه بن عمرو رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن ، وعن بيع ما لم يقبض ، وعن بيعتين في بيعة ، وعن شرطين في بيع ، وعن بيع وسلف » . ولأنّه اشترط عقدا في عقد ففسد كبيعتين في بيعة ، ولأنّه إذا اشترط القرض زاد في الثّمن لأجله ، فتصير الزّيادة في الثّمن عوضا عن القرض وربحا له ، وذلك ربا محرّم ، ففسد كما لو صرّح به ، ولأنّه بيع فاسد فلا يعود صحيحا كما لو باع درهما بدرهمين ثمّ ترك أحدهما . وفي باب الرّهن قال : لو بطل العقد لما عاد صحيحا . وفي شرح منتهى الإرادات : العقد الفاسد لا ينقلب صحيحاً .
وعند المالكيّة يصحّ العقد إذا حذف الشّرط المفسد للعقد ، سواء أكان شرطا ينافي مقتضى العقد ، أم كان شرطا يخلّ بالثّمن في البيع ، إلّا أربعة شروط فلا يصحّ البيع معها ولو حذف الشّرط ، وهي :
أ - من ابتاع سلعة بثمن مؤجّل على أنّه إن مات فالثّمن صدقة عليه ، فإنّه يفسخ البيع ولو أسقط هذا الشّرط لأنّه غرر ، وكذا لو شرط : إن مات فلا يطالب البائع ورثته بالثّمن .
ب - شرط ما لا يجوز من أمد الخيار، فيلزم فسخه وإن أسقط لجواز كون إسقاطه أخذاً به. ج - من باع أمة وشرط على المبتاع أن لا يطأها ، وأنّه إن فعل فهي حرّة ، أو عليه دينار مثلا ، فيفسخ ولو أسقط الشّرط لأنّه يمين .
د - شرط الثّنيا يفسد البيع ولو أسقط الشّرط . وزاد ابن الحاجب شرطا خامسا وهو :
هـ - شرط النّقد ( أي تعجيل الثّمن ) في بيع الخيار قال ابن الحاجب : لو أسقط شرط النّقد فلا يصحّ . وفي الإجارة جاء في الشّرح الصّغير : تفسد الإجارة بالشّرط الّذي يناقض مقتضى العقد ، ومحلّ الفساد إن لم يسقط الشّرط ، فإن أسقط الشّرط صحّت .
ويوضّح ابن رشد سبب اختلاف الفقهاء في صحّة العقد بارتفاع المفسد أو عدم صحّته . فيقول : هل إذا لحق الفساد بالبيع من قبل الشّرط يرتفع الفساد إذا ارتفع الشّرط ، أو لا يرتفع ؟ كما لا يرتفع الفساد اللاحق للبيع الحلال من أجل اقتران المحرّم العين به ، كمن باع غلاما بمائة دينار وزقّ خمر ، فلمّا عقد البيع قال : أدّع الزّقّ . وهذا البيع مفسوخ عند العلماء بإجماع . وهذا أيضا ينبني على أصل آخر . هو : هل هذا الفساد معقول المعنى أو غير معقول ؟ فإن قلنا : هو غير معقول المعنى ، لم يرتفع الفساد بارتفاع الشّرط .
وإن قلنا : معقول ، ارتفع الفساد بارتفاع الشّرط . فمالك رآه معقولا ، والجمهور رأوه غير معقول ، والفساد الّذي يوجد في بيوع الرّبا والغرر هو أكثر ذلك غير معقول المعنى ، ولذلك ليس ينعقد عندهم أصلا ، وإن ترك الرّبا بعد البيع وارتفع الغرر .
12 - ويفرّق الحنفيّة بين العقد الباطل والعقد الفاسد فيصحّ عندهم - خلافا لزفر - تصحيح العقد الفاسد ، بارتفاع المفسد دون الباطل ، ويقولون في عقد البيع : إنّ ارتفاع المفسد في الفاسد يردّه صحيحاً ، لأنّ البيع قائم مع الفساد ، ومع البطلان لم يكن قائماً بصفة البطلان ، بل كان معدوماً . وعند زفر : العقد الفاسد لا يحتمل الجواز برفع المفسد .
لكنّ تصحيح العقد الفاسد عند الحنفيّة مقيّد بما إذا كان الفساد ضعيفا . يقول الكاسانيّ : الأصل عندنا أنّه ينظر إلى الفساد ، فإن كان قويّا بأن دخل في صلب العقد - وهو البدل أو المبدل - لا يحتمل الجواز برفع المفسد ، كما إذا باع عبدا ألف درهم ورطل من خمر ، فحطّ الخمر عن المشتري فهو فاسد ولا ينقلب صحيحاً .
وإن كان الفساد ضعيفاً ، وهو ما لم يدخل في صلب العقد ، بل في شرط جائز يحتمل الجواز برفع المفسد ، كما في البيع بشرط خيار لم يوقّت ، أو وقّت إلى وقت مجهول كالحصاد ، أو لم يذكر الوقت ، وكما في البيع بثمن مؤجّل إلى أجل مجهول ، فإذا أسقط الأجل من له الحقّ فيه قبل حلوله وقبل فسخه جاز البيع لزوال المفسد ، ولو كان إسقاط الأجل بعد الافتراق على ما حرّره ابن عابدين .
وعلى هذا سائر البياعات الفاسدة بسبب ضرر يلحق بالبائع في التّسليم إذا سلّم البائع برضاه واختياره - كما إذا باع جذعا له في سقف ، أو آجرّا له في حائط ، أو ذراعا في ديباج - أنّه لا يجوز لأنّه لا يمكنه تسليمه إلّا بالنّزع والقطع ، وفيه ضرر بالبائع ، والضّرر غير مستحقّ بالعقد ، فكان هذا على التّقدير بيع ما لا يجب تسليمه شرعا ، فيكون فاسدا . فإن نزعه البائع أو قطعه وسلّمه إلى المشتري قبل أن يفسخ المشتري البيع جاز البيع ، لأنّ المانع من الجواز ضرر البائع بالتّسليم ، فإذا سلّم باختياره ورضاه فقد زال المانع ، فجاز البيع ولزم . وعلى هذا سائر العقود الفاسدة عند الحنفيّة طبقا لقاعدة : إذا زال المانع مع وجود المقتضي عاد الحكم . ومن ذلك أنّ هبة المشاع فاسدة ، فإن قسّمه وسلّمه جاز . واللّبن في الضّرع ، والصّوف على ظهر الغنم ، والزّرع والنّخل في الأرض ، والتّمر في النّخيل بمنزلة المشاع ، لأنّها موجودة ، وامتناع الجواز للاتّصال ، فإذا فصّلها وسلّمها جاز لزوال المانع . ومثل ذلك : إذا رهن الأرض بدون البناء ، أو بدون الزّرع والشّجر ، أو رهن الزّرع والشّجر بدون الأرض ، أو رهن الشّجر بدون الثّمر ، أو رهن الثّمر بدون الشّجر أنّه لا يجوز ، لأنّ المرهون متّصل بما ليس بمرهون ، وهذا يمنع صحّة القبض . ولو جذّ الثّمر وحصد الزّرع وسلّم منفصلا جاز لزوال المانع .
تصحيح العقد باعتباره عقداً آخر :
13 - هذا ، ويمكن تصحيح العقد الفاسد إذا أمكن تحويله إلى عقد آخر صحيح لتوافر أسباب الصّحّة فيه ، سواء أكانت الصّحّة عن طريق المعنى عند بعض الفقهاء ، أم عن طريق اللّفظ عند البعض الآخر نظراً لاختلافهم في قاعدة " هل العبرة بصيغ العقود أو معانيها " . ونوضّح ذلك بالأمثلة الآتية :
14 - في الأشباه لابن نجيم : الاعتبار للمعنى لا للألفاظ ، صرّحوا به في مواضع منها : الكفالة ، فهي بشرط براءة الأصيل حوالة ، وهي بشرط عدم براءته كفالة .
وفي الاختيار : شركة المفاوضة يشترط فيها أن يتساوى الشّريكان في التّصرّف والدّين والمال الّذي تصحّ فيه الشّركة . . فلا تنعقد المفاوضة بين المسلم والذّمّيّ عند أبي حنيفة ومحمّد ، فإذا عقد المسلم والذّمّيّ المفاوضة صارت عنانا عندهما ، لفوات شرط المفاوضة ووجود شرط العنان ، وكذلك كلّ ما فات من شرائط المفاوضة يجعل عنانا إذا أمكن ، تصحيحاً لتصرّفهما بقدر الإمكان .
وفي الاختيار أيضاً : عقد المضاربة ، إن شرط فيه الرّبح للمضارب فهو قرض ، لأنّ كلّ ربح لا يملك إلّا بملك رأس المال ، فلمّا شرط له جميع الرّبح فقد ملّكه رأس المال ، وإن شرط الرّبح لربّ المال كان إبضاعا ، وهذا معناه عرفاً وشرعاً .
وجاء في منح الجليل : من أحال على من ليس له عليه دين ، وأعلم المحال ، صحّ عقد الحوالة ، فإن لم يعلمه لم تصحّ ، وتنقلب حمالة أي كفالة . وفي أشباه السّيوطيّ : هل العبرة بصيغ العقود أو معانيها ؟ خلاف . التّرجيح مختلف في الفروع .
ومن ذلك : إذا قال : أنت حرّ غدا على ألف . إن قلنا : بيع فسد ولا تجب قيمة العبد ، وإن قلنا : عتق بعوض ، صحّ ووجب المسمّى .
ومنها : لو باع المبيع للبائع قبل قبضه بمثل الثّمن الأوّل ، فهو إقالة بلفظ البيع ، وخرّجه السّبكيّ على القاعدة ، والتّخريج للقاضي حسين قال : إن اعتبرنا اللّفظ لم يصحّ ، وإن اعتبرنا المعنى فإقالة .
ثالثاً - تصحيح العبادة إذا طرأ عليها ما يفسدها :
15 - من الأمور الّتي تطرأ على العبادة ما لا يمكن إزالته أو تلافيه كالأكل والشّرب والكلام والحدث والجماع ، فهذه الأمور لا يمكن تلافيها، وهي تعتبر من مفسدات العبادة في الجملة. هذا مع اختلاف الفقهاء في التّفصيل فيها بين القليل والكثير ، وبين العمد والسّهو والجهل ، وما هو معفوّ عنه أو غير معفوّ عنه . فإذا طرأ شيء من ذلك على العبادة ففسدت فعلا - عند من يعتبر ذلك مفسدا - فلا مجال لتصحيح هذه العبادة ، ويلزم إعادتها إن اتّسع وقتها ، أو قضاؤها إن خرج الوقت . وينظر تفصيل ذلك في : ( إعادة - قضاء ) .
والكلام هنا إنّما هو فيما يطرأ على العبادة ممّا يعتبر من المفسدات مع إمكان إزالة المفسد أو تلافيه لتصحّ العبادة ، مثل طروء النّجاسة أو كشف العورة وما شابه ذلك .
والفقهاء متّفقون في الجملة على : أنّه إذا طرأ على العبادة ما شأنه أن يفسدها لو استمرّ وأمكن تلافيه وإزالته وجب فعل ذلك لتصحيح العبادة . ونظراً لتعذّر حصر مثل هذه المسائل لكثرة فروعها في أبواب العبادة المختلفة ، فيكتفى بذكر بعض الأمثلة الّتي توضّح ذلك :
16 - من اجتهد في معرفة القِبلة ، وتغيّر اجتهاده أثناء الصّلاة استدار إلى الجهة الثّانية الّتي تغيّر اجتهاده إليها ، وبنى على ما مضى من صلاته .
وكذلك إذا اجتهد فأخطأ ، وبان له يقين الخطأ وهو في الصّلاة ، بمشاهدة أو خبر عن يقين فإنّه يستدير إلى جهة الصّواب ويبني على ما مضى .
والدّليل على ذلك أنّ أهل قباء لمّا بلغهم نسخ القبلة وهم في صلاة الفجر استداروا إليها ،
« واستحسن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعل أهل قباء ، ولم يأمرهم بالإعادة » .
وينظر تفصيل ذلك في : ( استقبال - قبلة - صلاة ) .
17 - من وقعت عليه نجاسة يابسة - وهو في الصّلاة - فأزالها سريعاً صحّت صلاته ، لحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال : « بينما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلّي بأصحابه ، إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره ، فلمّا رأى القوم ذلك ألقوا نعالهم ، فلمّا قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلاته قال : ما حملكم على إلقاء نعالكم ؟ . قالوا : رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا . فقال صلى الله عليه وسلم : إنّ جبريل أتاني ، فأخبرني أنّ فيهما قذراً » . وينظر تفصيل ذلك في : ( نجاسة - صلاة ) .
18 - من انكشفت عورته وهو في الصّلاة - بأن أطارت الرّيح سترته فانكشفت عورته - فإن أعادها سريعاً صحّت صلاته .
ولو صلّى عرياناً لعدم وجود سترة ، ثمّ وجد سترة قريبة منه ستر بها ما وجب ستره ، وبنى على ما مضى من صلاته ، قياساً على أهل قباء لمّا علموا بتحويل القبلة استداروا إليها وأتمّوا صلاتهم . وينظر تفصيل ذلك في : ( عورة - صلاة ) .
19 - إن خفّ في الصّلاة معذور بعذر مسوّغ للاستناد أو الجلوس أو الاضطجاع انتقل للأعلى ، كمستند قدر على الاستقلال ، وجالس قدر على القيام انتقل وجوباً ، فإن تركه بطلت صلاته . وينظر تفصيل ذلك في : ( عذر - صلاة ) .
20 - من علم في أثناء طوافه بنجس في بدنه أو ثوبه طرحه أو غسلهما ، وبنى على ما تقدّم من طوافه إن لم يطل ، وإلا بطل طوافه لعدم الموالاة .
وينظر تفصيل ذلك في ( طواف ) .
21 - هذا ، ومن تصحيح العبادة ما يدخل تحت قاعدة : بطلان الخصوص لا يبطل العموم . جاء في المنثور : لو تحرّم بالفرض منفردا فحضرت جماعة ، قال الشّافعيّ : أحببت أن يسلّم من ركعتين وتكون نافلة ، ويصلّي الفرض ، فصحّح النّفل مع إبطال الفرض .
وإذا تحرّم بالصّلاة المفروضة قبل وقتها ظانّا دخوله بطل خصوص كونها ظهرا ، ويبقى عموم كونها نفلا في الأصحّ .
وإذا أحرم بالحجّ قبل أشهره ففي انعقاده عمرة قولان أصحّهما : نعم .
وحكاه في المهذّب قولاً واحداً ، قال : لأنّها عبادة مؤقّتة ، فإذا عقدها في غير وقتها انعقد غيرها من جنسها ، كصلاة الظّهر إذا أحرم بها قبل الزّوال ، فإنّه ينعقد إحرامه بالنّفل .
22 - وهذه القاعدة تكاد تكون مطّردة في بقيّة المذاهب في الجملة ، ففي شرح منتهى الإرادات : من أتى بما يفسد الفرض في الصّلاة - كترك القيام بلا عذر - انقلب فرضه نفلا ، لأنّه كقطع نيّة الفرضيّة ، فتبقى نيّة الصّلاة . وينقلب نفلا كذلك من أحرم بفرض ، ثمّ تبيّن له أنّه لم يدخل وقته ، لأنّ الفرض لم يصحّ ، ولم يوجد ما يبطل النّفل .
23 - وهذه القاعدة عند الحنفيّة من قبيل ما ذكروه من أنّه : ليس من ضرورة بطلان الوصف بطلان الأصل . جاء في الهداية : من صلّى العصر وهو ذاكر أنّه لم يصلّ الظّهر فهي فاسدة ، إلا إذا كان في آخر الوقت ، وهي مسألة التّرتيب .
وإذا فسدت الفرضيّة لا يبطل أصل الصّلاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما اللّه تعالى ، لأنّ التّحريمة عقدت لأصل الصّلاة بوصف الفرضيّة ، فلم يكن من ضرورة بطلان الوصف بطلان الأصل . وقال الكاسانيّ في باب الزّكاة : حكم المعجّل من الزّكاة ، إذا لم يقع زكاة أنّه إن وصل إلى يد الفقير يكون تطوّعا ، سواء وصل إلى يده من يد ربّ المال ، أو من يد الإمام ، أو نائبه وهو السّاعي ، لأنّه حصل أصل القربة ، وصدقة التّطوّع لا يحتمل الرّجوع فيها بعد وصولها إلى يد الفقير .
رابعاً - تصحيح المسائل في الميراث :
24 - تصحيح مسائل الفرائض : أن تؤخذ السّهام من أقلّ عدد يمكن على وجه لا يقع الكسر على واحد من الورثة ، سواء كان ذلك بدون الضّرب - كما في صورة الاستقامة - أو بعد ضرب بعض الرّءوس - كما في صورة الموافقة - أو في كلّ الرّءوس - كما في صورة المباينة .
ما يحتاج إليه في تصحيح المسائل الفرضيّة :
25 - لتصحيح المسائل الفرضيّة قواعد يكتفى منها بما أورده عنها شارح السّراجيّة من الحنفيّة ، قال : يحتاج ذلك إلى سبعة أصول :
ثلاثة منها بين السّهام المأخوذة من مخارجها وبين الرّءوس من الورثة .
وأربعة منها بين الرّءوس والرّءوس .
أمّا الأصول الثّلاثة :
26 - فأحدها : إن كانت سهام كلّ فريق من الورثة منقسمة عليهم بلا كسر ، فلا حاجة إلى الضّرب ، كأبوين وبنتين . فإنّ المسألة حينئذ من ستّة ، فلكلّ من الأبوين سدسها وهو واحد ، وللبنتين الثّلثان أعني أربعة ، فلكلّ واحدة منهما اثنان ، فاستقامت السّهام على رءوس الورثة بلا انكسار ، فلا يحتاج إلى التّصحيح ، إذ التّصحيح إنّما يكون إذا انكسرت السّهام بقسمتها على الرّءوس .
27 - والثّاني من الأصول الثّلاثة : أن يكون الكسر على طائفة واحدة ، ولكن بين سهامهم ورءوسهم موافقة بكسر من الكسور ، فيضرب وفق عدد رءوسهم - أي عدد رءوس من انكسرت عليهم السّهام ، وهم تلك الطّائفة الواحدة - في أصل المسألة إن لم تكن عائلة ، وفي أصلها وعولها معا إن كانت عائلة ، كأبوين وعشر بنات، أو زوج وأبوين وستّ بنات. فالأوّل : مثال ما ليس فيها عول . إذ أصل المسألة من ستّة . السّدسان وهما اثنان للأبوين ويستقيمان عليهما ، والثّلثان وهما أربعة للبنات العشرة ولا يستقيم عليهنّ ، لكن بين الأربعة والعشرة موافقة بالنّصف ، فإنّ العدد العادّ لهما هو الاثنان ، فرددنا عدد الرّءوس أعني العشرة إلى نصفها وهو خمسة ، وضربناها في السّتّة الّتي هي أصل المسألة فصار الحاصل ثلاثين ، ومنه تصحّ المسألة .
إذ قد كان للأبوين من أصل المسألة سهمان ، وقد ضربناهما في المضروب الّذي هو خمسة فصار عشرة ، لكلّ منهما خمسة ، وكان للبنات العشر ، منه أربعة ، وقد ضربناها أيضا في خمسة فصار عشرين ، لكلّ واحدة منهنّ اثنان .
والثّاني : مثال ما فيها عول . فإنّ أصلها من اثني عشر لاجتماع الرّبع والسّدسين والثّلثين. فللزّوج ربعها وهو ثلاثة ، وللأبوين سدساها وهما أربعة ، وللبنات السّتّ ثلثاها وهما ثمانية . فقد عالت المسألة إلى خمسة عشر ، وانكسرت سهام البنات - أعني الثّمانية - على عدد رءوسهنّ فقط . لكن بين عدد السّهام وعدد الرّءوس توافق بالنّصف ، فرددنا عدد رءوسهنّ إلى نصفه وهو ثلاثة ، ثمّ ضربناها في أصل المسألة مع عولها وهو خمسة عشر ، فحصل خمسة وأربعون ، فاستقامت منها المسألة .
إذ قد كان للزّوج من أصل المسألة ثلاثة ، وقد ضربناها في المضروب الّذي هو ثلاثة فصار تسعة فهي له ، وكان للأبوين أربعة وقد ضربناها في ثلاثة فصار اثني عشر فلكلّ منهما ستّة ، وكان للبنات ثمانية فضربناها في ثلاثة فحصل أربعة وعشرون ، فلكلّ واحدة منهنّ أربعة .
28 - والثّالث من الأصول الثّلاثة : أن تنكسر السّهام أيضا على طائفة واحدة فقط ، ولا يكون بين سهامهم وعدد رءوسهم موافقة ، بل مباينة ، فيضرب حينئذ عدد رءوس من انكسرت عليهم السّهام في أصل المسألة إن لم تكن عائلة ، وفي أصلها مع عولها إن كانت عائلة ، كزوج وخمس أخوات لأب وأمّ، فأصل المسألة من ستّة : النّصف وهو ثلاثة للزّوج، والثّلثان وهو أربعة للأخوات ، فقد عالت إلى سبعة ، وانكسرت سهام الأخوات فقط عليهنّ ، وبين عدد سهامهنّ وعدد رءوسهنّ مباينة ، فضربنا عدد رءوسهنّ في أصل المسألة مع عولها وهو سبعة ، فصار الحاصل خمسة وثلاثين ، ومنه تصحّ المسألة .
وقد كان للزّوج ثلاثة ، وقد ضربناها في المضروب وهو خمسة فصار خمسة عشر فهي له ، وكان للأخوات الخمس أربعة ، وقد ضربناها أيضا في خمسة فصار عشرين ، فلكلّ واحدة منهنّ أربعة . ومثال غير المسائل العائلة : زوج وجدّة وثلاث أخوات لأمّ .
فالمسألة من ستّة ، للزّوج منها نصفها وهو ثلاثة ، وللجدّة سدسها وهو واحد ، وللأخوات لأمّ ثلثها وهو اثنان ، ولا يستقيمان على عدد رءوسهنّ ، بل بينهما تباين ، فضربنا عدد رءوس الأخوات في أصل المسألة فصار الحاصل ثمانية عشر ، فتصحّ المسألة منها .
وقد كان للزّوج ثلاثة فضربناها في المضروب الّذي هو ثلاثة فصار تسعة ، وضربنا نصيب الجدّة في المضروب أيضا فكان ثلاثة ، وضربنا نصيب الأخوات لأمّ في المضروب فصار ستّة ، فأعطينا كلّ واحدة منهنّ اثنين . وينبغي أن يعلم أنّه متى كانت الطّائفة المنكسرة عليهم ذكورا وإناثا - ممّن يكون للذّكر مثل حظّ الأنثيين ، كالبنات وبنات الابن الأخوات لأب وأمّ أو لأب - ينبغي أن يضعّف عدد الذّكور ، ويضمّ إلى عدد الإناث ، ثمّ تصحّ المسألة على هذا الاعتبار ، كزوج وابن وثلاث بنات . أصل المسألة من أربعة : للزّوج سهم عليه يستقيم ، والباقي ثلاثة ، للأولاد للذّكر مثل حظّ الأنثيين ، فيجعل عدد رءوسهم خمسة بأن ينزّل الابن منزلة بنتين ، ولا تستقيم الثّلاثة على الخمسة ، فتضرب الخمسة في أصل المسألة ، فتبلغ عشرين ، ومنها تصحّ .
وأمّا الأصول الأربعة الّتي بين الرّءوس والرّءوس :
29 - فأحدها : أن يكون انكسار السّهام على طائفتين من الورثة أو أكثر ، ولكن بين أعداد رءوس من انكسر عليهم مماثلة ، فالحكم في هذه الصّورة أن يضرب أحد الأعداد المماثلة في أصل المسألة ، فيحصل ما تصحّ به المسألة على جميع الفرق . مثل : ستّ بنات ، وثلاث جدّات : أمّ أمّ أمّ ، وأمّ أمّ أب ، وأمّ أب أب مثلا على مذهب من يورّث أكثر من جدّتين ، وثلاثة أعمام . المسألة من ستّة : للبنات السّتّ الثّلثان وهو أربعة ، ولا يستقيم عليهنّ ، لكن بين الأربعة وعدد رءوسهنّ موافقة بالنّصف ، فأخذنا نصف عدد رءوسهنّ وهو ثلاثة . وللجدّات الثّلاث السّدس وهو واحد ، فلا يستقيم عليهنّ ولا موافقة بين الواحد وعدد رءوسهنّ ، فأخذنا جميع عدد رءوسهنّ وهو أيضا ثلاثة . وللأعمام الثّلاثة الباقي وهو واحد أيضا ، وبينه وبين عدد رءوسهم مباينة ، فأخذنا جميع عدد رءوسهم . ثمّ نسبنا هذه الأعداد المأخوذة بعضها إلى بعض فوجدناها متماثلة ، فضربنا أحدها وهو ثلاثة في أصل المسألة - أعني السّتّة - فصار ثمانية عشر ، فمنها تستقيم المسألة . وكان للبنات أربعة سهام ضربناها في المضروب الّذي هو ثلاثة ، فصار اثني عشر ، فلكلّ واحدة منهنّ اثنان . وللجدّات سهم واحد ضربناه أيضا في ثلاثة فكان ثلاثة ، فلكلّ واحدة واحد . وللأعمام واحد أيضا ضربناه أيضا في الثّلاثة ، وأعطينا كلّ واحد سهماً واحداً . ولو فرضنا في الصّورة المذكورة عمّا واحدا بدل الأعمام الثّلاثة ، كان الانكسار على طائفتين فقط ، وكان وفق عدد رءوس البنات مماثلا لعدد رءوس الجدّات ، إذ كلّ منهما ثلاثة ، فيضرب الثّلاثة في أصل المسألة ، فيصير ثمانية عشر ، وتصحّ السّهام على الكلّ كما مرّ .
30 - والأصل الثّاني من الأصول الأربعة : أن يكون بعض الأعداد - أي بعض أعداد رءوس الورثة المنكسرة عليهم سهامهم من طائفتين أو أكثر - متداخلا في البعض ، فالحكم فيها أن يضرب ما هو أكثر تلك الأعداد في أصل المسألة ، كأربع زوجات وثلاث جدّات واثني عشر عمّا . فأصل المسألة من اثني عشر : للجدّات الثّلاث السّدس وهو اثنان ، فلا يستقيم عليهنّ ، وبين رءوسهنّ وسهامهنّ مباينة ، فأخذنا مجموع عدد رءوسهنّ وهو ثلاثة . وللزّوجات الأربع الرّبع وهو ثلاثة ، فبين عدد رءوسهنّ وعدد سهامهنّ مباينة ، فأخذنا عدد الرّءوس بتمامه . وللأعمام الاثني عشر الباقي وهو سبعة ، فلا يستقيم عليهم بل بينهما تباين ، فأخذنا عدد الرّءوس بأسره . فنجد الثّلاثة والأربعة متداخلين في الاثني عشر الّذي هو أكبر أعداد الرّءوس ، فضربناه في أصل المسألة ، وهو أيضا اثنا عشر فصار مائة وأربعة وأربعين ، فتصحّ منها المسألة .
وقد كان للجدّات من أصل المسألة اثنان ، ضربناهما في المضروب - الّذي هو اثنا عشر - فصار أربعة وعشرين ، فلكلّ واحدة منهنّ ثمانية . وللزّوجات من أصلها ثلاثة ضربناها في المضروب المذكور فصار ستّة وثلاثين ، فلكلّ واحدة منهنّ تسعة . وللأعمام سبعة ضربناها في اثني عشر أيضا فحصل أربعة وثمانون ، فلكلّ واحد منهم سبعة .
ولو فرضنا في هذه الصّورة زوجة واحدة بدل الزّوجات الأربع ، كان الانكسار على طائفتين فقط ، أعني الجدّات الثّلاث والأعمام الاثني عشر ، وكان عدد رءوس الجدّات متداخلا في عدد رءوس الأعمام ، فيضرب أكثر هذين العددين المتداخلين ، أي الاثني عشر في أصل المسألة ، فيحصل مائة وأربعة وأربعون ، فيقسم على الكلّ قياس ما سبق .
31 - والأصل الثّالث من الأصول الأربعة : أن يوافق بعض أعداد رءوس من انكسرت عليهم سهامهم من طائفتين أو أكثر بعضا . والحكم في هذه الصّورة أن يضرب وفق أحد أعداد رءوسهم في جميع العدد الثّاني ، ثمّ يضرب جميع ما بلغ في وفق العدد الثّالث - إن وافق ذلك المبلغ العدد الثّالث - وإن لم يوافق المبلغ الثّالث فحينئذ يضرب المبلغ في جميع العدد الثّالث . ثمّ يضرب المبلغ الثّاني في العدد الرّابع كذلك ، أي في وفقه إن وافقه المبلغ الثّاني ، أو في جميعه إن لم يوافقه . ثمّ يضرب المبلغ الثّالث في أصل المسألة ، كأربع زوجات وثماني عشرة بنتا وخمس عشرة جدّة وستّة أعمام . أصل المسألة أربعة وعشرون : للزّوجات الأربع الثّمن وهو ثلاثة ، فلا يستقيم عليهنّ وبين عدد سهامهنّ وعدد رءوسهنّ مباينة ، فحفظنا جميع عدد رءوسهنّ . وللبنات الثّماني عشرة : الثّلثان وهو ستّة عشر فلا يستقيم عليهنّ ، وبين رءوسهنّ وسهامهنّ موافقة بالنّصف ، فأخذنا نصف عدد رءوسهنّ وهو تسعة وحفظناه . وللجدّات الخمس عشرة السّدس وهو أربعة فلا يستقيم عليهنّ ، وبين عدد رءوسهنّ وعدد سهامهنّ مباينة ، فحفظنا جميع عدد رءوسهنّ . وللأعمام السّتّة الباقي وهو واحد لا يستقيم عليهم ، وبينه وبين عدد رءوسهم مباينة ، فحفظنا عدد رءوسهم . فحصل لنا من أعداد الرّءوس المحفوظة : أربعة وستّة وتسعة وخمسة عشر . والأربعة موافقة للسّتّة بالنّصف فرددنا إحداهما إلى نصفها وضربناه في الأخرى ، فحصل اثنا عشر ، وهو موافق للتّسعة بالثّلث ، فضربنا ثلث أحدهما في جميع الآخر فحصل ستّة وثلاثون ، وبين هذا المبلغ الثّاني وبين خمسة عشر موافقة بالثّلث أيضا ، فضربنا ثلث خمسة عشر - وهو خمسة - في ستّة وثلاثين فحصل مائة وثمانون ، ثمّ ضربنا هذا المبلغ الثّالث في أصل المسألة - أعني أربعة وعشرين - فحصل أربعة آلاف وثلاثمائة وعشرون ، ومنها تصحّ المسألة . كان للزّوجات من أصل المسألة ثلاثة ، ضربناها في المضروب - وهو مائة وثمانون - فحصل خمسمائة وأربعون ، فلكلّ من الزّوجات الأربع مائة وخمسة وثلاثون . وكان للبنات الثّماني عشرة ستّة عشر ، وقد ضربناها في ذلك المضروب ، فصار ألفين وثمانمائة وثمانين ، لكلّ واحدة منهنّ مائة وستّون . وكان للجدّات الخمس عشرة أربعة ، وقد ضربناها في المضروب المذكور فصار سبعمائة وعشرين ، لكلّ واحدة منهنّ ثمانية وأربعون . وكان للأعمام السّتّة واحد ضربناه في المضروب ، فكان مائة وثمانين لكلّ واحد منهم ثلاثون . وإذا جمعت جميع أنصباء الورثة بلغ أربعة آلاف وثلاثمائة وعشرين سهماً . 32 - والأصل الرّابع من الأصول الأربعة : أن يكون أعداد رءوس من انكسر عليهم سهامهم من طائفتين أو أكثر متباينة لا يوافق بعضها بعضا . والحكم فيها : أن يضرب أحد الأعداد في جميع الثّاني ، ثمّ يضرب ما بلغ في جميع الثّالث ، ثمّ ما بلغ في جميع الرّابع ، ثمّ يضرب ما اجتمع في أصل المسألة . كزوجتين وستّ جدّات وعشر بنات وسبعة أعمام . أصل المسألة : أربعة وعشرون . للزّوجتين الثّمن وهو ثلاثة لا يستقيم عليهما ، وبين عدد رءوسهما وعدد سهامهما مباينة ، فأخذنا عدد رءوسهما وهو اثنان . وللجدّات السّتّ : السّدس وهو أربعة لا يستقيم عليهنّ ، وبين عدد رءوسهنّ وعدد سهامهنّ موافقة بالنّصف ، فأخذنا نصف عدد رءوسهنّ وهو ثلاثة ، وللبنات العشر : الثّلثان هو ستّة عشر فلا يستقيم عليهنّ ، وبين عدد رءوسهنّ وعدد سهامهنّ موافقة بالنّصف ، فأخذنا نصف عدد رءوسهنّ وهو خمسة . وللأعمام السّبعة الباقي وهو واحد ، لا يستقيم عليهم ، وبينه وبين عدد رءوسهم مباينة فأخذنا عدد رءوسهم وهو سبعة . فصار معنا من الأعداد المأخوذة للرّءوس : اثنان وثلاثة وخمسة وسبعة . وهذه كلّها أعداد متباينة . فضربنا الاثنين في الثّلاثة فحصل ستّة ، ثمّ ضربنا السّتّة في خمسة فحصل ثلاثون ، ثمّ ضربنا هذا المبلغ في سبعة فصار مائتين وعشرة ، ثمّ ضربنا هذا المبلغ في أصل المسألة - وهو أربعة وعشرون - فصار المجموع خمسة آلاف وأربعين . ومنها تستقيم المسألة على جميع الطّوائف . إذ كان للزّوجتين من أصل المسألة ثلاثة ، فضربناها في المضروب - الّذي هو مائتان وعشرة - فحصل ستّمائة وثلاثون ، لكلّ واحدة منهما ثلاثمائة وخمسة عشر . وكان للجدّات السّتّ أربعة ، فضربناها في ذلك المضروب المذكور فصار ثمانمائة وأربعين ، لكلّ واحدة منهم مائة وأربعون . وكان للبنات العشر ستّة عشر ، ضربناها في المضروب المذكور فبلغ ثلاثة آلاف وثلاثمائة وستّين ، لكلّ واحدة منهنّ ثلاثمائة وستّة وثلاثون . وكان للأعمام السّبعة واحد ، ضربناه في ذلك المضروب فكان مائتين وعشرة ، لكلّ واحد منهم ثلاثون . ومجموع هذه الأنصباء خمسة آلاف وأربعون . وذكر بعض الشّافعيّة والحنابلة أنّه قد علم بالاستقراء أنّ انكسار السّهام لا يقع على أكثر من أربع طوائف .
33 - هذا ولا يختلف فقهاء المذاهب الأخرى عن الحنفيّة ، فيما ذهبوا إليه في تصحيح المسائل الفرضيّة ، توصّلا إلى معرفة نصيب كلّ وارث على نحو ما ذكر .
تصحيف *
انظر : تحريف .
تصدّق *
انظر : صدقة .
تصديق *
انظر : تصادق .
تصرّف *
التّعريف :
1 - التّصرّف لغة : التّقلّب في الأمور والسّعي في طلب الكسب .
وأمّا في الاصطلاح فلم يذكر الفقهاء في كتبهم تعريفا للتّصرّف ، ولكن يفهم من كلامهم أنّ التّصرّف هو : ما يصدر عن الشّخص بإرادته ، ويرتّب الشّرع عليه أحكاماً مختلفة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الالتزام :
2 - الالتزام مصدر التزم . ومادّة لزم تأتي في اللّغة بمعنى : الثّبوت والدّوام والوجوب والتّعلّق بالشّيء أو اعتناقه .
وفي الاصطلاح : إلزام الشّخص نفسه ما لم يكن لازماً له ، أي ما لم يكن واجباً عليه قبل فهو أعمّ من التّصرّف ، لأنّ التّصرّف إنّما يكون بالاختيار والإرادة .
ب - العقد :
3 - العقد في اللّغة : الضّمان والعهد . واصطلاحا : ارتباط الإيجاب بالقبول الالتزاميّ ، كعقد البيع والنّكاح وغيرهما على وجه تترتّب عليه آثاره .
وذكر الزّركشيّ أنّ العقد باعتبار الاستقلال به وعدمه على ضربين : ضرب ينفرد به العاقد ، كالتّدبير والنّذور وغيرها . وضرب لا بدّ فيه من متعاقدين كالبيع والإجارة والنّكاح وغيرها.
الفرق بين التّصرّف والالتزام والعقد :
4 - يتّضح ممّا قاله الفقهاء في معنى الالتزام والعقد والتّصرّف : أنّ التّصرّف أعمّ من العقد بمعنييه العامّ والخاصّ ، لأنّ التّصرّف قد يكون في تصرّف لا التزام فيه كالسّرقة والغصب ونحوهما ، وهو كذلك أعمّ من الالتزام .
أنواع التّصرّف :
5 - التّصرّف نوعان : تصرّف فعليّ وتصرّف قوليّ .
النّوع الأوّل : التّصرّف الفعليّ :
6 - هو ما كان مصدره عملا فعليّا غير اللّسان ، بمعنى أنّه يحصل بالأفعال لا بالأقوال . ومن أمثلته .
أ - الغصب : وهو في اللّغة : أخذ الشّيء قهراً وظلماً .
واصطلاحاً : أخذ مال قهرا تعدّيا بلا حرابة . فالغصب فعل وليس قولاً .
ب - قبض البائع الثّمن من المشتري ، وتسلّم المشتري المبيع من البائع .
وهكذا سائر التّصرّفات الّتي يعتمد المتصرّف في مباشرتها على الأفعال دون الأقوال .
النّوع الثّاني : التّصرّف القوليّ :
7 - وهو الّذي يكون منشؤه اللّفظ دون الفعل ، ويدخل فيه الكتابة والإشارة ، وهو نوعان : تصرّف قوليّ عقديّ ، وتصرّف قوليّ غير عقديّ .
أ - التّصرّف القوليّ العقديّ :
8 - وهو الّذي يتمّ باتّفاق إرادتين ، أي أنّه يحتاج إلى صيغة تصدر من الطّرفين وتبيّن اتّفاقهما على أمر ما ، ومثال هذا النّوع : سائر العقود الّتي لا تتمّ إلا بوجود طرفين أي الموجب والقابل ، كالإجارة والبيع والنّكاح والوكالة ، فإنّ هذه العقود لا تتمّ إلّا برضا الطّرفين . وتفصيل ذلك محلّه المصطلحات الخاصّة بتلك العقود .
ب - التّصرّف القوليّ غير العقديّ . وهو ضربان :
9 - أحدهما : ما يتضمّن إرادة إنشائيّة وعزيمة مبرمة من صاحبه على إنشاء حقّ أو إنهائه أو إسقاطه ، وقد يسمّى هذا الضّرب تصرّفا عقديّا لما فيه من العزيمة والإرادة المنشئة أو المسقطة للحقوق ، وهذا على قول من يرى أنّ العقد بمعناه العامّ يتناول العقود الّتي تكون بين طرفين كالبيع والإجارة ، والعقود الّتي ينفرد بها المتصرّف كالوقف والطّلاق والإبراء والحلف وغيرها كما سبق ، ومن أمثلته الوقف والطّلاق ، وتفصيل ذلك في المصطلحات الخاصّة بهما .
10 - الضّرب الثّاني : تصرّف قوليّ لا يتضمّن إرادة منشئة ، أو منهيّة ، أو مسقطة للحقوق ، بل هو صنف آخر من الأقوال الّتي تترتّب عليها أحكام شرعيّة ، وهذا الضّرب تصرّف قوليّ محض ليس له شبه بالعقود ، ومن أمثلته : الدّعوى ، والإقرار .
وتفصيل ذلك في المصطلحات الخاصّة بهما .
11 - هذا والعبرة في تميّز التّصرّف القوليّ عن الفعليّ مرجعها موضوع التّصرّف وصورته ، لا مبناه الّذي بني عليه .
12 - والتّصرّف بنوعيه القوليّ والفعليّ يندرج فيه جميع أنواع التّصرّفات ، سواء أكانت تلك التّصرّفات عبادات كالصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ .
أم تمليكات ومعاوضات كالبيع ، والإقالة ، والصّلح والقسمة ، والإجارة ، والمزارعة ، والمساقاة ، والنّكاح ، والخلع ، والإجازة ، والقراض .
أم تبرّعات كالوقف ، والهبة ، والصّدقة ، والإبراء عن الدّين . أم تقييدات كالحجر ، والرّجعة ، وعزل الوكيل .
أم التزامات كالضّمان ، والكفالة ، والحوالة ، والالتزام ببعض الطّاعات .
أم إسقاطات كالطّلاق ، والخلع ، والتّدبير ، والإبراء عن الدّين . أم إطلاقات كالإذن للعبد بالتّجارة ، والإذن المطلق للوكيل بالتّصرّف .
أم ولايات كالقضاء ، والإمارة ، والإمامة ، والإيصاء . أم إثباتات كالإقرار ، والشّهادة ، واليمين ، والرّهن . أم اعتداءات على حقوق الغير الماليّة وغيرها كالغصب والسّرقة .
أم جنايات على النّفس والأطراف والأموال أيضا . لأنّ تلك التّصرّفات على اختلاف أنواعها لا تخرج عن كونها أقوالا أو أفعالا فيكون التّصرّف بنوعيه القوليّ والفعليّ شاملاً لها .
هذا ، وأمّا شروط صحّة التّصرّف ونفاذه فليس هذا البحث محلّ ذكرها ، سواء ما كان منها يرجع إلى المتصرّف أم إلى نفس التّصرّف ، لأنّ محلّ ذكر تلك الشّروط المصطلحات الخاصّة بكلّ من هذه التّصرّفات .
تصريح *
انظر : صريح .
تَصْرِية *
التّعريف :
1 - التّصرية لغة : مصدر صرّى ، يقال : صرّ النّاقة أو غيرها تصرية : إذا ترك حلبها ، فاجتمع لبنها في ضرعها . وفي الاصطلاح : ترك البائع حلب النّاقة أو غيرها عمدا مدّة قبل بيعها ، ليوهم المشتري كثرة اللّبن .
الحكم التّكليفيّ :
2 - التّصرية حرام باتّفاق الفقهاء ، إذا قصد البائع بذلك إيهام المشتري كثرة اللّبن ، لحديث : « مَنْ غَشّنا فليس منّا » وحديث : { بَيعُ المحفَّلات خِلابة ، ولا تَحِلُّ الخلابة لمسلم } . ولما فيه من التّدليس والإضرار .
الحكم الوضعيّ ( الأثر ) :
3 - ذهب الأئمّة : مالك والشّافعيّ وأحمد ، وأبو يوسف إلى أنّ تصرية الحيوان عيب يثبت الخيار للمشتري . ويستوي في ذلك الأنعام وغيرها ممّا يقصد إلى لبنه . وذلك لما فيه من الغشّ والتّغرير الفعليّ ، ولحديث : « لا تصرّوا الإبل والغنم ، فمن ابتاعها بعد فإنّه بخير النّظرين بعد أن يحتلبها : إن شاء أمسك ، وإن شاء ردّها وردّ معها صاعا من تمر » ويردّ معها عوضا عن لبنها إن احتلب ، وهذا محلّ اتّفاق بين هؤلاء الأئمّة ، وإن اختلفوا في نوع العوض كما سيأتي . كما اتّفقوا على أنّ العوض خاصّ بالأنعام .
وذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا يردّ الحيوان بالتّصرية ، ولا يثبت الخيار بها ، لأنّ التّصرية ليست بعيب ، بدليل أنّه لو لم تكن مصرّاة فوجدها أقلّ لبنا من أمثالها لم يملك ردّها ، والتّدليس بما ليس بعيب لا يثبت الخيار . ولا يردّ معها صاعا من تمر ، لأنّ ضمان العدوان بالمثل أو القيمة ، والتّمر ليس مثلا ولا قيمة ، بل يرجع المشتري بأرش النّقصان على البائع - والأرش هنا : هو التّعويض عن نقصان المبيع - .
نوع العوض عن اللّبن :
4 - اختلف الفقهاء في ردّ العوض ، وفي نوعه .
فذهب الإمام أحمد ، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ، إلى أنّ العوض هو صاع من تمر ، وذلك للحديث السّابق ، وقد نصّ فيه على التّمر : « وإن شاء ردّها وردّ معها صاعا من تمر » .
وذهب الإمام مالك إلى أنّ العوض هو صاع من غالب قوت البلد ، وهو القول الآخر للشّافعيّة . وقال مالك : إنّ بعض ألفاظ الحديث جاء فيها : « فإن ردّها ردّ معها صاعاً من طعام » وتنصيص التّمر في الحديث ليس لخصوصه ، وإنّما كان غالب قوت المدينة آنذاك . وعند أبي يوسف يردّ قيمة اللّبن المحتلب ، لأنّه ضمان متلف ، فكان مقدّرا بقيمته كسائر المتلفات . ثمّ عند الجمهور : هل يجب ردّ اللّبن نفسه إذا كان موجوداً ؟ ذهب أحمد إلى أنّ للمشتري ردّ اللّبن إذا لم يتغيّر ، ولا يلزمه شيء آخر ، ولا يجوز للبائع رفضه .
الواجب عند انعدام التّمر :
5 - ذهب الحنابلة إلى أنّ الواجب في هذا الحال قيمة التّمر في الموضع الّذي وقع فيه العقد وذهب الشّافعيّة - في الوجه الأصحّ - إلى أنّ عليه قيمة التّمر في أقرب البلاد الّتي فيها تمر ، وفي الوجه الآخر عليه قيمة التّمر بالحجاز . ولا يختلف الحكم عند مالك بانعدام التّمر ، لأنّ الواجب عنده مطلقا صاع من غالب قوت أهل البلد .
هل يختلف الحكم بين كثرة اللّبن وقلّته ؟
6 - لا خلاف بين من يرى ردّ صاع مع المصرّاة في أنّه لا عبرة بكثرة اللّبن وقلّته ، ولا بين أن يكون الصّاع مثل قيمة لبن الحيوان أو أقلّ أو أكثر ، لأنّه بدل قدّره الشّرع . ويشترط في جواز ردّ المصرّاة :
أ - أن لا يعلم المشتري أنّها مصرّاة ، فإن علم قبل الشّراء وقبل حلبها فلا يثبت له الخيار . ب - أن يقصد البائع التّصرية ، فإن لم يقصد ذلك كأن ترك حلبها ناسيا أو لشغل ، أو تصرّت بنفسها فوجهان عند الشّافعيّة في ثبوت الخيار . وعند الحنابلة يثبت له الخيار لدفع الضّرر اللّاحق بالمشتري ، والضّرر واجب الدّفع شرعا ، قصد أم لم يقصد ، فأشبه العيب . ج - وأن يردّها بعد الحلب ، فإن ردّها قبل الحلب فلا شيء عليه بالاتّفاق ، لأنّ الصّاع إنّما وجب عوضا عن اللّبن المحلوب ولم يحلب .
وللخبر الّذي قيّد ردّ الصّاع بالاحتلاب ، ولم يوجد .
وإذا أراد المشتري إمساك المصرّاة وطلب الأرش لم يكن له ذلك ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يجعل للمصرّاة أرشا ، وإنّما خيّر المشتري بين شيئين : « إن شاء أمسك ، وإن شاء ردّها وصاعا من تمر » ولأنّ التّصرية ليست بعيب ، فلم يستحقّ من أجلها عوضاً .
7 - وإذا اشترى مصرّاتين أو أكثر في عقد واحد فردّهنّ ، ردّ مع كلّ مصرّاة صاعا ، وبهذا قال الشّافعيّ وبعض أصحاب مالك . وقال بعضهم : في الجميع صاع واحد ، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من اشترى غنما مصرّاة فاحتلبها ، فإن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر » . وللحنابلة عموم قوله صلى الله عليه وسلم « من اشترى مصرّاة » و « من اشترى محفّلة » وهذا يتناول الواحدة ، ولأنّ ما جعل عوضاً عن الشّيئين في صفقتين ، وجب إذا كانا في صفقة واحدة كأرش العيب .
مدّة الخيار :
8 - الرّدّ يكون على الفور كالرّدّ في خيار العيب عند الشّافعيّة .
وللحنابلة في المدّة ثلاثة أقوال :
الأوّل : أنّها مقدّرة بثلاثة أيّام ، وليس له الرّدّ قبل مضيّها ، ولا إمساكها بعدها ، وهو ظاهر قول أحمد . لحديث مسلم : « فهو بالخيار ثلاثةَ أيّامٍ » .
والثّاني : أنّه متى ثبتت التّصرية جاز له الرّدّ قبل الثّلاثة وبعدها ، لأنّه تدليس يثبت الخيار ، فملك الرّدّ إذا تبيّنه كسائر التّدليس .
والثّالث : أنّه متى علم التّصرية ثبت له الخيار في الأيّام الثّلاثة إلى تمامها .
وعند المالكيّة : لا يردّ إن حلبها في اليوم الثّالث إن حصل الاختيار في اليوم الثّاني .
تصفيق *
التّعريف :
1 - للتّصفيق في اللّغة معان ، منها : الضّرب الّذي يسمع له صوت . وهو كالصّفق في ذلك . يقال : صفّق بيديه وصفّح سواء .
وفي الحديث : « التّسبيح للرّجال ، والتّصفيق للنّساء » والمعنى : إذا ناب المصلّي شيء في صلاته فأراد تنبيه من بجواره صفّقت المرأة بيديها ، وسبّح الرّجل بلسانه .
والتّصفيق باليد : التّصويت بها . كأنّه أراد معنى قوله تعالى : { وما كانَ صَلاتُهم عِنْدَ البَيتِ إلا مُكَاءً وتَصْدِيةً } . كانوا يصفّقون ويصفّرون وقد كان ذلك عبادة في ظنّهم .
وقيل في تفسيرها أيضاً : إنّهم أرادوا بذلك أن يشغلوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين في القراءة والصّلاة .
ويجوز أن يكون أراد الصّفق على وجه اللّهو واللّعب . ويقال : صفّق له بالبيع والبيعة : أي ضرب يده على يده عند وجوب البيع ، ثمّ استعمل ولو لم يكن هناك ضرب يد على يد . وربحت صفقتك للشّراء . وصفقة رابحة وصفقة خاسرة .
وصفّق بيديه بالتّثقيل : ضرب إحداهما على الأخرى .
وهو في الاصطلاح : لا يخرج عن هذا المعنى . وسواء كان من المرأة في الصّلاة ، بضرب كفّ على كفّ على نحو ما سيأتي في بيان كيفيّته . أو كان منها ومن الرّجل بضرب باطن كفّ بباطن الكفّ الأخرى ، كما هو الحال في المحافل والأفراح .
حكمه التّكليفيّ :
2 - قد يكون التّصفيق من مصلّ ، وقد يكون من غيره .
فما كان من مصلّ : فإمّا أن يكون لتنبيه إمامه على سهو في صلاته ، أو لدرء مارّ أمامه لتنبيهه على أنّه في صلاة ، ومنعه عن المرور أمامه . أو يكون منه فيها على وجه اللّعب .
وما كان من غير المصلّي : فإمّا أن يكون في المحافل كالموالد والأفراح ، أو في أثناء خطبة الجمعة ، أو لطلب الإذن له من مصلّ بالدّخول ، أو للنّداء . ولكلّ من ذلك حكمه .
تصفيق المصلّي لتنبيه إمامه على سهو في صلاته :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّه لو عرض للإمام شيء في صلاته سهواً منه استحبّ لمن هم مقتدون به تنبيهه .
واختلفوا في طريقته بالنّسبة لكلّ من الرّجل والمرأة . هل يكون بالتّسبيح أو بالتّصفيق ؟ فاتّفقوا على استحبابه بالتّسبيح بالنّسبة للرّجل ، واختلفوا في التّصفيق بالنّسبة للمرأة .
فقال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : إنّه يكون منها بالتّصفيق . لما روى سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا نابكم شيء في صلاتكم فليسبّح الرّجال ولتصفّق النّساء » ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « التّسبيح للرّجال والتّصفيق للنّساء » ومثلهنّ الخناثى في ذلك .
وكره المالكيّة تصفيق المرأة في الصّلاة لقوله صلى الله عليه وسلم : « من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان اللّه » ( ومَنْ ) مِنْ صيغ العموم فشملت النّساء في التّنبيه بالتّسبيح . ولذا قال خليل : ولا يصفّقن . أي النّساء في صلاتهنّ لحاجة . وقوله صلى الله عليه وسلم : « التّصفيق للنّساء » ذمّ له ، لا إذن لهنّ فيه بدليل عدم عملهنّ به .
تصفيق المصلّي لمنع المارّ أمامه :
4 - يختلف حكم درء المارّ بين يدي المصلّي بين كونه رجلاً أو امرأة . فإذا كان المصلّي رجلا كان درؤه للمارّ أمامه بالتّسبيح أو بالإشارة بالرّأس أو العين ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « التّسبيح للرّجال » وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا نابكم في صلاتكم شيء فليسبّح الرّجال » . وكما « فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بولدي أمّ سلمة وهما عمر وزينب رضي الله عنهما حيث كان صلى الله عليه وسلم يصلّي في بيتها فقام ولدها عمر ليمرّ بين يديه ، فأشار إليه أن قف فوقف . ثمّ قامت بنتها زينب لتمرّ بين يديه ، فأشار إليها أن قفي فأبت ومرّت ، فلمّا فرغ صلى الله عليه وسلم من صلاته قال : هنّ أغلب »
وإن كان المصلّي امرأة كان درؤها للمارّ بالإشارة أو بالتّصفيق ببطن كفّها اليمنى على ظهر أصابع كفّها اليسرى ، لأنّ لها التّصفيق . لا ترفع صوتها بالقراءة والتّسبيح ، لأنّ مبنى حال النّساء على السّتر ، ولا يطلب منها الدّرء به لقوله صلى الله عليه وسلم : « والتّصفيقُ للنّساء » وقوله : « ولْيصفّق النّساء » وهذا هو المسنون عند الحنفيّة .
أمّا الشّافعيّة والحنابلة فلم يقولوا بالتّسبيح للرّجل ، ولا بالتّصفيق للمرأة في دفع المارّ ، بل قالوا : يدفعه المصلّي بما يستطيعه ويقدّم في ذلك الأسهل فالأسهل .
وقال المالكيّة : يندب للمصلّي دفع المارّ بين يديه دفعا خفيفا لا يتلف له شيء ولا يشغله ، فإن كثر منه ذلك أبطل صلاته . وتفصيل ذلك في الكلام على ( سترة الصّلاة ) .
تصفيق الرّجل في الصّلاة :
5 - اتّفق الفقهاء على كراهة تصفيق الرّجل في الصّلاة مطلقاً لما روي عن سهل بن سعد السّاعديّ رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بلغه أنّ بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء ، فخرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلح بينهم في أناس معه ، فحبس رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وحانت الصّلاة ، فجاء بلال رضي الله عنه إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال : يا أبا بكر إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد حبس ، وقد حانت الصّلاة ، فهل لك أن تؤمّ النّاس ؟ قال : نعم إن شئت . فأقام بلال وتقدّم أبو بكر رضي الله عنه ، فكبّر للنّاس . وجاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يمشي في الصّفوف ، حتّى قام في الصّفّ فأخذ النّاس في التّصفيق ، وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يلتفت في صلاته ، فلمّا أكثر النّاس التفت فإذا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأشار إليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يأمره أن يصلّي ، فرفع أبو بكر رضي الله عنه يديه ، فحمد اللّه ورجع القهقرى وراءه حتّى قام في الصّفّ . فتقدّم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصلّى للنّاس . فلمّا فرغ أقبل على النّاس فقال : يا أيّها النّاس ما لكم حين نابكم شيء في الصّلاة أخذتم في التّصفيق ؟ إنّما التّصفيق للنّساء . من نابه شيء في صلاته فليقل : سبحان اللّه ، فإنّه لا يسمعه أحد حين يقول : سبحان اللّه إلا التفت . يا أبا بكر ما منعك أن تصلّي للنّاس حين أشرت إليك ؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه : ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يصلّي بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . » " ففي هذا الحديث « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم التّصفيق ، ولم يأمرهم بإعادة الصّلاة » . وفيه الدّليل على كراهة التّصفيق للرّجل في الصّلاة .
التّصفيق من مصلّ للإذن للغير بالدّخول :
6 - أجاز المالكيّة والشّافعيّة تنبيه المصلّي غيره . وذلك عند المالكيّة بالتّسبيح مطلقاً ، وأمّا الشّافعيّة فالتّسبيح للرّجال والتّصفيق للنّساء لما سبق بيانه ، وكرهه الحنفيّة والحنابلة.
التّصفيق في الصّلاة على وجه اللّعب :
7 - قال الشّافعيّة ، وهو أحد قولي الحنابلة : إنّ التّصفيق في الصّلاة على وجه اللّعب يبطلها وإن كان قليلا ، لمنافاة اللّعب للصّلاة . والأصل في ذلك حديث الصّحيحين : « من نابه شيء في صلاته فليسبّح ، وإنّما التّصفيق للنّساء » . ولمنافاته للصّلاة .
والقول الآخر للحنابلة : أنّه لا يبطلها إن قلّ ، وإن كثر أبطلها ، لأنّه عمل من غير جنسها ، فأبطلها كثيره عمدا كان أو سهوا . وأمّا الحنفيّة فقد قالوا : إنّ ما يعمل عادة باليدين يكون كثيراً ، بخلاف ما يعمل باليد الواحدة فقد يكون قليلاً ، والعمل الكثير الّذي ليس من أفعال الصّلاة ولا لإصلاحها يفسدها . والتّصفيق لا يتأتّى عادة إلا باليدين كلتيهما ، فإنّه والحالة هذه يكون عملا كثيرا في الصّلاة تبطل به ، لمنافاته لأفعالها .
وعند المالكيّة لا يخلو عن كونه عبثا فيها ، ويجري عليه حكم الفعل الكثير ، لأنّه ليس من جنس أفعال الصّلاة كالنّفخ من الفم فيها فإنّه يبطلها ، كالكلام فيها ، يدلّ عليه قول ابن عبّاس رضي الله عنهما : النّفخ في الصّلاة كالكلام .
وقوله صلى الله عليه وسلم لرباح وهو ينفخ في التّراب : « من نفخ في الصّلاة فقد تكلّم » وإذ جرى على التّصفيق في الصّلاة على وجه اللّعب حكم الفعل الكثير فيها كان مبطلاً لها .
كيفيّة التّصفيق :
8 - للمرأة في كيفيّة تصفيقها في الصّلاة طريقتان عند الحنفيّة والشّافعيّة .
إحداهما : أن تضرب بظهور أصابع اليد اليمنى على صفحة الكفّ اليسرى .
ثانيتهما : أن تضرب ببطن كفّها اليمنى على ظهر كفّها اليسرى ، وهو الأيسر والأقلّ عملاً ، وهذا هو المشهور عندهم .
وعند المالكيّة على القول به أن تضرب بظهر أصبعين من يمينها على باطن كفّها اليسرى . وعند الحنابلة : أن تضرب ببطن كفّ على ظهر الأخرى .
التّصفيق أثناء الخطبة :
9 - ذهب جمهور الفقهاء إلى وجوب الإنصات للخطيب - وهو عند الشّافعيّة مستحبّ - وعليه يحرم عند الجمهور كلّ ما ينافي الإنصات إلى الخطيب ، من أكل وشرب ، وتحريك شيء يحصل منه صوت كورق أو ثوب أو سبحة أو فتح باب أو مطالعة في كرّاس . والتّصفيق في أثناء الخطبة يحدث صوتا يشوّش على الخطيب والسّامعين لخطبته ، ولذا كان حراماً لإخلاله بآداب الاستماع وانتهاكه لحرمة المسجد . والحرمة على من صفّق بالمسجد في أثناء الخطبة أو في رحبته آكد ممّن فعل ذلك خارج المسجد ممّن لا يسمعون الخطيب .
التّصفيق في غير الصّلاة والخطبة :
10 - التّصفيق في غير الصّلاة والخطبة جائز إذا كان لحاجة معتبرة كالاستئذان والتّنبيه ، أو تحسين صناعة الإنشاد ، أو ملاعبة النّساء لأطفالهنّ . أمّا إذا كان لغير حاجة ، فقد صرّح بعض الفقهاء بحرمته ، وبعضهم بكراهته . وقالوا : إنّه من اللّهو الباطل ، أو من التّشبّه بعبادة أهل الجاهليّة عند البيت كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ صلاتهم عند البيت إلّا مكاء وتصدية } . أو هو من التّشبّه بالنّساء ، لما جاء في الحديث من اختصاص النّساء بالتّصفيق إذا ناب الإمام شيء في الصّلاة ، في حين أنّ التّسبيح للرّجال .
تصفية *
التّعريف :
1 - التّصفية لغة : مأخوذ من صفّى الشّيء : إذا أخذ خلاصته . ومنه : صفّيت الماء من القذى تصفية : أزلته عنه . كما في لسان العرب والمصباح المنير .
ويراد بالتّصفية في الاصطلاح : مجموع الأعمال الّتي غايتها حصر حقوق المتوفّى والتزاماته وأداء الحقوق المتعلّقة بالتّركة لأصحابها من الدّائنين والموصى لهم والورثة .
الحكم الإجماليّ :
2 - التّصفية بهذا المعنى اصطلاح حديث تعارف عليه أهل القانون .
ولم يتكلّم عنه الفقهاء بالعنوان المذكور ، وإن كانوا قد عنوا عناية شديدة ببيان أحكام الحقوق الّتي للتّركة أو عليها وحقوق القصر ضمانا لأصحاب تلك الحقوق حتّى لا يبغي بعضهم على بعض ، وضمانا بصفة خاصّة لحقوق الدّائنين والموصى لهم بشيء من التّركة.
وهذه الأحكام مفصّلة في مصطلح : ( تركة ، إرث ، وصيّة ، وإيصاء ) .
تصليب *
التّعريف :
1 - التّصليب في اللّغة : مصدر صلّب ، وهو يأتي لمعان : منها :
أ - القتلة المعروفة يقال : صلب فلان صلباً ، وصلّب تصليباً . ففي التّنزيل العزيز : { وَمَا قَتَلُوه ومَا صَلَبُوه ولكنْ شُبِّهَ لهم } وفيه حكاية قول فرعون : { وَلأصَلِّبَنَّكم في جُذوعِ النَّخْلِ } وأصله على ما في لسان العرب " الصّليب " وهو في اللّغة دهن الإنسان أو الحيوان ، قال : والصّلب هذه القِتلة المعروفة ، مشتقّ من ذلك ، لأنّ ودك المصلوب ( أي دهنه ) يسيل . ومنه سمّي الصّليب . وهو الخشبة الّتي يصلب عليها من يقتل كذلك ثمّ استعمل لما يتّخذه النّصارى على ذلك الشّكل وجمعه الصّلبان ، والصُلُب .
ب - والتّصليب أيضاً صناعة الصّليب ، أو عمل نقش في ثوب أو جدار أو قرطاس أو غيرها بشكل الصّليب ، أو التّصليب بالإشارة . قال ابن عابدين : والصّليب خطّان متقاطعان . وفي حديث عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه » أي قطع موضع التّصليب فيه ، وفي رواية « نهى عن الصّلاة في الثّوب المصلّب » . وهو الّذي فيه نقش كالصّلبان .
ج - ورد في الحديث : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصّلب في الصّلاة » وهيئة الصّلب في الصّلاة أن يضع المصلّي يديه على خاصرتيه ، ويجافي عضديه عن جنبيه في القيام . وإنّما نهى عنه لمشابهته شكل المصلوب . وتنظر أحكام ذلك في الصّلاة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّمثيل :
2 - التّمثيل : مصدر مثّل من مثّلت بالقتيل مثلاً : إذا جدعته وظهرت آثار فعلك عليه تنكيلاً ، والتّشديد في مثّل للمبالغة فبين التّصليب والتّمثيل مباينة ، لأنّ التّصليب ربط للعقوبة ، أمّا التّمثيل فهو مجرّد الجدع والتّقطيع .
ب - الصّبر :
3 - الصّبر من معانيه في اللّغة : نصب الإنسان للقتل ، أو أن يمسك الطّائر أو غيره من ذوات الرّوح يصبر حيّاً ، ثمّ يرمى بشيء حتّى يقتل .
فالصّبر أعمّ من التّصليب ، لأنّه قد يكون بلا صلب .
الحكم التّكليفيّ :
يتناول الحكم أمرين :
أ - الصّلب ، وهو القتلة المعروفة .
ب - الأحكام المتعلّقة بالصّليب .
أوّلا : حكم التّصليب " بمعنى القِتلة المعروفة "
4 - الصّلب قتلة معروفة ، وهي أن يرفع المراد قتله على جذع أو شجرة أو خشبة قائمة ، وتمدّ يداه على خشبة معترضة ، وتربط رجلاه بالخشبة القائمة ، ويترك عليها هكذا حتّى يموت . وقد تسمّر يداه ورجلاه بالخشب . وقد يقتل أوّلاً ، ويصلب بعد زهوق روحه على الخشبة للتّشهير به . وكانت هذه القتلة شائعة في الأمم السّابقة كالفرس والرّومان ومن قبلهم . ونصّ القرآن على أنّها كانت من فعل فرعون بأعدائه . وفي قصّة يوسف { يَا صَاحِبَي السِّجْنِ أمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّه خَمْرَاً ، وأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأكُلُ الطَّيرُ منْ رَأْسِه } وقد حرّم الإسلام هذه القتلة لما فيها من التّعذيب الشّديد والمثلة والتّشهير ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم « إنّ اللّه كتب الإحسان على كلّ شيء ، فإذا قَتَلْتُم فأَحْسِنُوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة ، ولْيُحِدَّ أحدُكم شَفْرَتَه ، وَلْيُرِحْ ذبيحته » « ونهى عن المُثْلَة ولو بالكلب العَقُور » .
5 - ويستثنى من هذا الأصل جرائم محدّدة جعلت عقوبتها الصّلب بعد القتل لعوارض خاصّة اقتضتها . وهذه الجرائم هي ما يلي :
أ - الإفساد في الأرض :
جعلت عقوبة الإفساد في الأرض بالمحاربة " قطع الطّريق " الصّلب ، لقوله تعالى { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَه وَيَسْعَونَ في الأَرضِ فَسَادَاً أنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أو تُقَطَّعَ أَيدِيهمْ وَأَرْجُلُهمْ مِنْ خِلافٍ أَو يُنْفَوْا مِنَ الأرضِ ذَلكَ لَهمْ خِزْيٌ في الدُّنْيا وَلَهمْ في الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إلا الّذينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيهمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وإنّما كان الصّلب عقوبة في هذه الجريمة ، لأنّ قطّاع الطّرق يستأسدون على النّاس ، فيروّعون الآمنين ، ويظهرون الفساد ، فجعل الصّلب عقوبة لهم ، ليرتدع به من سواهم من المفسدين . وقد اختلف الفقهاء في الصّلب :
فقيل : هو حدّ لا بدّ من إقامته . وقيل : الإمام مخيّر فيه وفي غيره من العقوبات المذكورة في الآية . على ترتيب وتفصيل ينظر في مصطلح : ( حرابة ) .
كيفيّة تنفيذ عقوبة الصّلب في قاطع الطّريق :
6 - باستقراء كلام الفقهاء يتبيّن اتّفاقهم على أنّه ليس المراد بصلب قاطع الطّريق : أن يحمل على الخشبة حيّاً ، ثمّ يترك عليها حتّى يموت . ثمّ اختلفوا : فقال أبو حنيفة ومالك والأوزاعيّ : يصلب حيّاً ، ثمّ يقتل مصلوباً بطعنه بحربة ، لأنّ الصّلب عقوبة ، وإنّما يعاقب الحيّ لا الميّت ، ولأنّه جزاء على المحاربة ، فيشرع في الحياة كسائر الجزاءات .
وقال الشّافعيّ وأحمد : يقتل أوّلا ، ثمّ يصلب بعد قتله ، لأنّ اللّه تعالى قدّم ذكر القتل على ذكر الصّلب ، فيلتزم هذا التّرتيب حيث اجتمعا ، ولأنّ القتل إذا أطلق في الشّرع كان قتلاً بالسّيف ، ولأنّ في قتله بالصّلب تعذيبا له ومثلة ، وقد نهى الشّرع عن المثلة .
أمّا المدّة الّتي يبقى فيها المصلوب على الخشبة بعد قتله ، فقال أبو حنيفة والشّافعيّ : يصلب ثلاثة أيّام . وقال الحنابلة : يصلب قدر ما يشتهر أمره ، دون تحديد بمدّة .
وعند المالكيّة ينزل إذا خيف تغيّره .
ب - من قتل غيره عمداً بالصّلب حتّى مات :
7 - مذهب مالك والشّافعيّ ، وهو رواية عن أحمد : أنّ لوليّ المقتول أن يطالب بقتل الجاني قصاصا بمثل ما قتل به . قالوا : وهذا معنى القصاص ، وهو المساواة والمماثلة ، وله أن يقتله بالسّيف . فإن قتل بالسّيف ، وكان الجاني قد قتل بأشدّ منه كان الوليّ قد ترك المماثلة ، وهي شيء من حقّه . ومقتضى هذا القول : أنّه يجوز للوليّ صلب القاتل حتّى الموت ، إن كانت جنايته بالصّلب . ومذهب أبي حنيفة ، وهو رواية عن أحمد : أنّه لا قَوَدَ إلّا بالسّيف ، فعلى هذا لا يتأتّى عقوبة الصّلب قصاصاً .
ومع ذلك صرّح الحنفيّة بأنّ الوليّ إذا اقتصّ بغير السّيف عزّر ، ووقع القصاص موقعه .
ج - التّصليب في عقوبة التّعزير :
8 - قال الماورديّ من الشّافعيّة : يجوز صلب المعزّر حيّاً ثلاثة أيّام فقط " أي ويطلق بعدها " فقد « صَلَب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجلاً على جبل يقال له أبو ناب » قال : ولا يمنع مدّة صلبه من طعام ولا شراب ولا وضوء لصلاة . ويصلّي مومئاً ، ويعيد الصّلاة بعد أن يطلق سراحه . ونقل ذلك متأخّرو الشّافعيّة وأقرّوه . وقال صاحب مغني المحتاج : ينبغي أن يقال بتمكين المصلوب في هذه الحال من الصّلاة مطمئنّا ، يعني أن يصلّي مرسلا صلاة تامّة ، ثمّ يعاد صلبه . ونقل ابن فرحون من المالكيّة في التّبصرة قول الماورديّ وأقرّه . ويجوز التّعزير بالصّلب عند الحنابلة ، ويراعى ما ذكره الماورديّ . وقالوا : يصلّي المصلوب حينئذ بالإيماء إن لم يمكنه إلّا ذلك ، ولا إعادة عليه بعد إطلاقه .
ثانياً : الأحكام المتعلّقة بالصّلبان
صناعة الصّليب واتّخاذه :
9 - لا يجوز للمسلم أن يصنع صليباً ، ولا يجوز له أن يأمر بصناعته ، والمراد صناعة ما يرمز به إلى التّصليب . وليس له اتّخاذه ، وسواء علّقه أو نصبه أو لم يعلّقه ولم ينصبه . ولا يجوز له إظهار هذا الشّعار في طرق المسلمين وأماكنهم العامّة أو الخاصّة ، ولا جعله في ثيابه ، لما روى عديّ بن حاتم رضي الله عنه قال : « أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب . فقال : يا عديّ ! اطرح عنك هذا الوثن » وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : " قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « إنّ اللّه بعثني رحمة وهدى للعالمين ، وأمرني بمحق المزامير والمعازف والأوثان والصّلب وأمر الجاهليّة » .
10 - يكره الصّليب في الثّوب ونحوه كالقلنسوة والدّراهم والدّنانير والخواتم .
قال ابن حمدان : ويحتمل التّحريم ، وهو ظاهر ما نقله صالح عن الإمام أحمد ، وصوّبه صاحب الإنصاف . ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله عنها الّذي يفيد « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقطع صورة الصّليب من الثّوب » ، وفي بعض رواياته عند أحمد عن أمّ عبد الرّحمن بن أذينة قالت : « كنّا نطوف مع عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها فرأت على امرأة برداً فيه تصليب ، فقالت أمّ المؤمنين : اطرحيه . اطرحيه . فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى نحو هذا في الثّوب قضبه » . وقال إبراهيم :" أصاب أصحابنا خمائص فيها صلب فجعلوا يضربونها بالسّلوك يمحونها بذلك ".
المصلّي والصّليب :
11 - يكره للمصلّي أن يكون في قبلته صليب ، لأنّ فيه تشبّها بالنّصارى في عبادتهم ، والتّشبّه بهم في المذموم مكروه ، وإن لم يقصده .
ولم نجد عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة نصّاً في ذلك .
القطع في سرقة الصّليب :
12 - لا قطع عند الحنفيّة والحنابلة في سرقة الصّليب ولو كان من ذهب أو فضّة ، ولو جاوزت قيمته نصاباً . وذلك لأنّه منكر ، فتتأوّل الإباحة للسّارق بتأويل نيّة الكسر نهيا عن المنكر . قال في فتح القدير : بخلاف الدّرهم الّذي عليه الصّورة ، فإنّه ما أعدّ للعبادة ، فلا تثبت شبهة إباحة الكسر . وعن أبي يوسف يقطع به إن كان في يد رجل في حرز لا شبهة فيه ، لكمال الماليّة ولوجود الحرز . أمّا إن كان في مصلّاهم فسرقه ، فلا قطع لعدم الحرز . قال ابن عابدين : وعلى الأوّل لو كان السّارق ذمّيّا وسرق من حرز فيقطع ، لأنّ الذّمّيّ لا تأويل له . قال : إلا أن يقال تأويل غيره يكفي في وجود الشّبهة فلا يقطع .
ويظهر أنّ مذهب المالكيّة جار على مثل ما قال ابن عابدين في آخر كلامه ، فإنّه لا قطع عندهم في سرقة الخمر ، ولو سرقها ذمّيّ من ذمّيّ ، فيكون الحكم في سرقة الصّليب كذلك. وفرّق الشّافعيّة في سرقة المحرّم من صليب وغيره بين حالتين ، فقالوا : إن سرقه بقصد الإنكار فلا قطع، وإلا فالأصحّ - على ما قاله النّوويّ - أنّه يقطع به إن بلغ مكسوره نصاباً.
إتلاف الصّليب :
13 - من كسر صليبا لمسلم فلا ضمان فيه اتّفاقا . وإن كان لأهل الذّمّة ، فإن أظهروه كانت إزالته واجبة ، ولا ضمان أيضاً . وإن كان اقتناؤهم له على وجه يقرّون عليه ، كالّذي يجعلونه في داخل كنائسهم أو بيوتهم ، يسرّونه عن المسلمين ولا يظهرونه ، فإن غصبه غاصب وجب ردّه اتّفاقاً . أمّا إن أتلفه متلف ، فقد اختلف الفقهاء في وجوب الضّمان بذلك : فعند الحنفيّة : فيه الضّمان ، بناء على أصلهم في ضمان المسلم خمر الذّمّيّ ، لأنّه مال متقوّم في حقّهم كتقوّم الخلّ في حقّنا . وقد أمرنا بتركهم وما يدينون .
وعند الشّافعيّة والحنابلة : لا يضمن المسلم الخمر والخنزير لمسلم ولا لذمّيّ ، وهكذا إذا أتلفهما ذمّيّ على ذمّيّ ، لأنّه سقط تقوّمهما في حقّ المسلم فكذا في حقّ الذّمّيّ ، لأنّهم تبع لنا في الأحكام ، فلا يجب بإتلافهما مال متقوّم ، وهو الضّمان ، فكذا ينبغي أن يكون الحكم في الصّليب ، ولأنّ الكفّار مخاطبون بفروع الشّريعة ، فالتّحريم ثابت في حقّهم ، لكنّا أمرنا بترك التّعرّض لهم فيما لا يظهرونه من ذلك ، وهذا لا يقتضي الضّمان نظرا إلى أصل التّحريم . وفي شرح المنهاج : إنّ الأصنام والصّلبان لا يجب في إبطالها شيء ، لأنّها محرّمة الاستعمال ، ولا حرمة لصنعتها - أي ليست محترمة - وإنّ الأصحّ أنّها لا تكسر الكسر الفاحش ، بل تفصل لتعود كما كانت قبل التّأليف ، لزوال الاسم بذلك .
والقول الثّاني : تكسر وترضّض حتّى تنتهي إلى حدّ لا يمكن إعادته صنماً أو صليباً أو غير ذلك من المحرّمات . ونقل صاحب كشّاف القناع من الحنابلة عن القاضي ابن عقيل أنّ الصّليب إن كان من الذّهب أو الفضّة فلا يضمن إذا كسر ، أمّا إذا أتلف فيضمن مكسوراً . وفرّق بينه وبين الصّليب من الخشب بأنّ الصّنعة في الذّهب والفضّة تابعة ، لأنّها أقلّ قيمة ، وفي الخشب أو الحجر هي الأصل فلا يضمن .
فعليه يضمن الصّليب المستور للذّمّيّ إن كان من ذهب أو فضّة إذا أتلف بمثله ذهبا بالوزن ، وتلغى صنعته . قال الحارثيّ : ولا خلاف فيه .
أهل الذّمّة والصّلبان :
14 - يجوز إقرار أهل الذّمّة والصّلح معهم على إبقاء صلبانهم ، ولكن يشترط عليهم أن لا يظهروها ، بل تكون في كنائسهم ومنازلهم الخاصّة . وفي فتح القدير : إنّ المراد بكنائسهم كنائسهم القديمة الّتي أقرّوا عليها . وفي عهد عمر رضي الله عنه الّذي أخذه على نصارى الشّام " بسم الله الرحمن الرحيم . هذا كتاب لعمر أمير المؤمنين من نصارى الشّام : لما قدمتم علينا سألناكم الأمان . إلى أن قالوا : وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نظهر صليباً ولا كتاباً " أي من كتب دينهم " في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ، ولا نظهر الصّليب في كنائسنا إلخ " وقولهم : " في كنائسنا " المراد به خارجها ممّا يراه المسلم . قال ابن القيّم : لا يمكّنون من التّصليب على أبواب كنائسهم وظواهر حيطانها ، ولا يتعرّض لهم إذا نقشوا داخلها .
وعن ميمون بن مهران أنّ عمر بن عبد العزيز كتب : أن يمنع نصارى الشّام أن يضربوا ناقوساً ، ولا يرفعوا صليبهم فوق كنائسهم ، فإن قدر على من فعل ذلك منهم فإنّ سلبه لمن وجده . وكذا لو جعلوا ذلك في منازلهم وأماكنهم الخاصّة لا يمنعون منه. ويمنعون من لبس الصّليب وتعليقه في رقابهم أو أيديهم ، ولا ينتقض عهدهم بذلك الإظهار ، ولكن يؤدّب من فعله منهم . ويلاحظون في مواسم أعيادهم بالذّات ، إذ قد يحاولون إظهار الصّليب فيمنعون من ذلك ، لما في عهد عمر عليهم عدم إظهاره في أسواق المسلمين .
ويؤدّب من فعله منهم ، ويكسر الصّليب الّذي يظهرونه ، ولا شيء على من كسره .
الصّليب في المعاملات الماليّة :
15 - لا يصحّ لمسلم بيع الصّليب شرعاً ، ولا الإجارة على عمله .
ولو استؤجر عليه فلا يستحقّ صانعه أجرة ، وذلك بموجب القاعدة الشّرعيّة العامّة في حظر بيع المحرّمات ، إجارتها ، والاستئجار على عملها .
وقال القليوبيّ : لا يصحّ بيع الصّور والصّلبان ولو من ذهب أو فضّة أو حلوى .
ولا يجوز بيع الخشبة لمن يعلم أنّه يتّخذها صليباً .
وسئل ابن تيميّة عن خيّاط خاط للنّصارى سير حرير فيه صليب ذهب فهل عليه إثم في خياطته ؟ وهل تكون أجرته حلالا أم لا ؟ فقال : إذا أعان الرّجل على معصية اللّه كان آثما . . . ثمّ قال : والصّليب لا يجوز عمله بأجرة ولا غير أجرة ، كما لا يجوز بيع الأصنام ولا عملها . كما ثبت في الصّحيح عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إنّ اللّه حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام » . وثبت أنّه « لعن المصوّرين » .
وصانع الصّليب ملعون لعنه اللّه ورسوله .
ومن أخذ عوضاً عن عين محرّمة مثل أجرة حامل الخمر وأجرة صانع الصّليب وأجرة البغيّ ونحو ذلك ، فليتصدّق به ، وليتب من ذلك العمل المحرّم ، وتكون صدقته بالعوض كفّارة لما فعله ، فإنّ هذا العوض لا يجوز الانتفاع به ، لأنّه عوض خبيث . نصّ عليه الإمام أحمد في مثل حامل الخمر ، ونصّ عليه أصحاب مالك وغيرهم .
تصوير *
التّعريف :
1 - التّصوير لغة : صنع الصّورة . وصورة الشّيء هي هيئته الخاصّة الّتي يتميّز بها عن غيره . وفي أسمائه تعالى :" المصوِّر "، ومعناه : الّذي صوّر جميع الموجودات ورتّبها ، فأعطى كلّ شيء منها صورته الخاصّة وهيئته المفردة ، على اختلافها وكثرتها .
وورد في حديث ابن عمر تسمية الوجه صورة ، قال رضي الله عنه : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن تضرب الصّورة ، أو نهى عن الوسم في الوجه » أي : أن يضرب الوجه أو يوسم الحيوان في وجهه . والتّصوير أيضاً : ذكر صورة الشّيء ، أي : صفته ، يقال : صوّرت لفلان الأمر ، أي : وصفته له . والتّصوير أيضاً : صنع الصّورة الّتي هي تمثال الشّيء ، أي : ما يماثل الشّيء ويحكي هيئته الّتي هو عليها ، سواء أكانت الصّورة مجسّمة أو غير مجسّمة ، أو كما يعبّر بعض الفقهاء : ذات ظلّ أو غير ذات ظلّ .
والمراد بالصّورة المجسّمة أو ذات الظّلّ ما كانت ذات ثلاثة أبعاد ، أي لها حجم ، بحيث تكون أعضاؤها نافرة يمكن أن تتميّز باللّمس ، بالإضافة إلى تميّزها بالنّظر .
وأمّا غير المجسّمة ، أو الّتي ليس لها ظلّ ، فهي المسطّحة ، أو ذات البعدين ، وتتميّز أعضاؤها بالنّظر فقط ، دون اللّمس ، لأنّها ليست نافرة ، كالصّور الّتي على الورق ، أو القماش ، أو السّطوح الملساء .
والتّصوير والصّورة في اصطلاح الفقهاء يجري على ما جرى عليه في اللّغة .
وقد تسمّى الصّورة تصويرة ، وجمعها تصاوير ، وقد ورد من ذلك في السّنّة حديث عائشة رضي الله عنها في شأن السّتر قوله صلى الله عليه وسلم : « أميطي عنّا قرامك هذا ، فإنّه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي » .
أنواع الصّور :
2 - إنّ الصّورة - بالإضافة إلى ما ذكرناه من الصّور الثّابتة - قد تكون صورة مؤقّتة كصورة الشّيء في المرآة ، وصورته في الماء والسّطوح اللامعة ، فإنّها تدوم ما دام الشّيء مقابلاً للسّطح ، فإن انتقل الشّيء عن المقابلة انتهت صورته .
ومن الصّور غير الدّائمة : ظلّ الشّيء إذا قابل أحد مصادر الضّوء . ومنه ما كانوا يستعملونه في بعض العصور الإسلاميّة ، ويسمّونه : صور الخيال ، أو صور خيال الظّلّ . فإنّهم كانوا يقطعون من الورق صوراً للأشخاص ، ثمّ يمسكونها بعصيّ صغيرة ، ويحرّكونها أمام السّراج ، فتنطبع ظلالها على شاشة بيضاء يقف خلفها المتفرّجون ، فيرون ما هو في الحقيقة صورة الصّورة . ومن الصّور غير الدّائمة : الصّور التّليفزيونيّة ، فإنّها تدوم ما دام الشّريط متحرّكاً فإذا وقف انتهت الصّورة .
3 - ثمّ إنّ الصّورة قد تكون لشيء حيّ عاقل ذي روح ، كصورة الإنسان .
أو غير عاقل ، كصورة الطّائر أو الأسد . أو لحيّ غير الحيوان كصور الأشجار والزّهور والأعشاب . أو للجمادات كصور الشّمس والقمر والنّجوم والجبال ، أو صور المصنوعات الإنسانيّة كصورة منزل أو سيّارة أو منارة أو سفينة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّماثيل :
4 - التّماثيل جمع تمثال " بكسر التّاء " وتمثال الشّيء : صورته في شيء آخر . وهو من المماثلة ، وهي المساواة بين الشّيئين . والتّمثيل : التّصوير . يقال : مثّل له الشّيء إذا صوّره له كأنّه ينظر إليه ، ومثّلت له كذا : إذا صوّرت له مثاله بكتابة أو غيرها ، وفي الحديث : « أشدّ النّاس عذاباً ممثّل من الممثّلين » أي مصوّر . وظلّ كلّ شيء تمثاله . فالفرق بين التّمثال وبين الصّورة : أنّ صورة الشّيء قد يراد بها الشّيء نفسه ، وقد يراد به غيره ممّا يحكي هيئة الأصل ، أمّا التّمثال فهو الصّورة الّتي تحكي الشّيء وتماثله ، ولا يقال لصورة الشّيء في نفسه : إنّها تمثاله .
5 - وممّا يبيّن أنّ التّمثال أيضاً في اللّغة يستعمل لصور الجمادات ما ورد في صحيح البخاريّ أنّ المسيح الدّجّال يأتي ومعه تمثال الجنّة والنّار .
أمّا في عرف الفقهاء ، فإنّه باستقراء كلامهم تبيّن أنّ أكثرهم لا يفرّقون في الاستعمال بين لفظي ( الصّورة ) ( والتّمثال ) ، إلا أنّ بعضهم خصّ التّمثال بصورة ما كان ذا روح ، أي صورة الإنسان أو الحيوان ، سواء أكان مجسّماً أو مسطّحاً ، دون صورة شمس أو قمر أو بيت ، وأمّا الصّورة فهي أعمّ من ذلك . نقله ابن عابدين عن المغرب .
وهذا البحث جار على الاصطلاح الأغلب عند الفقهاء ، وهو أنّ الصّورة الّتي تحكي الشّيء ، والتّمثال بمعنى واحد .
ب - الرّسم :
6 - الرّسم في اللّغة : أثر الشّيء . وقيل : بقيّة الأثر . وأثر الشّيء قد يشاكله في الهيئة . ومن هنا سمّوا " الرّوسم " ، وهو الخشبة الّتي فيها نقوش يختم بها الأشياء المراد بقاؤها مخفاة ، لئلا تستعمل . وقال ابن سيده : " الرّوسم الطّابع " . ومنه " المرسوم " لأنّه يختم بخاتم . والرّسم في الاستعمال المعاصر بمعنى : الصّورة المسطّحة ، أو التّصوير المسطّح ، إذا كان معمولا باليد . ولا تسمّى الصّورة الفوتوغرافيّة رسما . بل يقال : رسمت دارا ، أو إنسانا ، أو شجرة .
ج - التّزويق ، والنّقش ، والوشي ، والرّقم :
7 - هذه الكلمات الأربع تكاد تكون بمعنى واحد ، وهو تجميل الشّيء المسطّح أو غير المسطّح بإضافة أشكال تجميليّة إليه ، سواء أكانت أشكالا هندسيّة أو نمنمات أو صورا أو غير ذلك . قال صاحب اللّسان : ثوب منمنم أي : موقوم موشّى ، وقال : النّقش : النّمنمة . فكلّ منها يكون بالصّور أو بغيرها .
د - النّحت :
8 - النّحت : الأخذ من كتلة صلبة كالحجر أو الخشب بأداة حادّة كالإزميل أو السّكّين ، حتّى يكون ما يبقى منها على الشّكل المطلوب ، فإن كان ما بقي يمثّل شيئا آخر فهو تمثال أو صورة ، وإلا فلا .
ترتيب هذا البحث :
9 - يحتوي هذا البحث على ما يلي :
أوّلاً : ما يتعلّق من الأحكام بالصّورة الإنسانيّة .
ثانياً : أحكام التّصوير ، أي : صناعة الصّور .
ثالثاً : أحكام اقتناء الصّور ، أي : اتّخاذها واستعمالها .
رابعاً : أحكام الصّور من حيث التّعامل والتّعرّف فيها .
القسم الأوّل : ما يتعلّق من الأحكام بالصّورة الإنسانيّة :
10 - ينبغي للإنسان أن يعتني بتجميل صورته الظّاهرة ، بالإضافة إلى اعتنائه بتكميل صورته الباطنة ، ويقوم بحقّ اللّه تعالى بشكره على أنّه جمّل صورته .
والعناية بالصّورة الباطنة تكون بالإيمان والتّطهّر من الذّنوب والشّكر للّه ، والتّجمّل بالأخلاق الحميدة .
والعناية بالصّورة الظّاهرة تكون بالتّطهّر بالوضوء والاغتسال والتّنظّف وإزالة التّفث ، والتّزيّن بالزّينة المشروعة من العناية بالشّعر والملابس الحسنة وغير ذلك ، ( ر : زينة ) .
11 - ولا يحلّ للإنسان أن يشوّه جسمه بإتلاف عضو من أعضائه ، أو إخراجه عن وضعه الّذي خلقه اللّه عليه . كما لا يحلّ له أن يفعل ذلك بغيره ، إلا حيث أذن اللّه تعالى بذلك وقد « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن النُهْبى والمثلة » . ( ر : مثلة ) . كما لا يحلّ له أن يقصد تشويه نفسه بلبس ما ينفر النّاس منه ويخرجه عن المعتاد ( ر : ألبسة ) .
ومن ذلك أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يمشي الرّجل في نعل واحدة » أي : في إحدى قدميه دون الأخرى . وشرع للمسلم أن يتطيّب ويتعطّر . وللمرأة زينتها الخاصّة . وراجع مباحث ( اكتحال . اختضاب . حليّ ، إلخ ) .
12 - أمّا الزّينة الباطنة ، فقد قال ابن القيّم : الجمال الباطن هو محلّ نظر اللّه من عبده وموضع محبّته ، كما في الحديث : « إنّ اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم » . وهذا الجمال الباطن يزيّن الصّورة الظّاهرة وإن لم تكن ذات جمال ، فتكسو صاحبها من الجمال والمهابة والحلاوة بحسب ما اكتسبت روحه من تلك الصّفات . فإنّ المؤمن يعطى مهابة وحلاوة بحسب إيمانه ، فمن رآه هابه ، ومن خالطه أحبّه ، وهذا أمر مشهود بالعيان . فإنّك ترى الرّجل الصّالح ذا الأخلاق الجميلة من أحلى النّاس صورة ، وإن كان غير جميل ، ولا سيّما إذا رزق حظّا من صلاة اللّيل ، فإنّها تنوّر الوجه .
قال : وأمّا الجمال الظّاهر فزينة خصّ اللّه بها بعض الصّور عن بعض ، وهي من زيادة الخلق الّتي قال اللّه فيها : { يَزِيدُ في الخَلْقِ مَا يَشَاءُ } قال المفسّرون : هو الصّوت الحسن والصّورة الحسنة . والقلوب مطبوعة على محبّته ، كما هي مفطورة على استحسانه .
قال : وكلّ من الجمال الظّاهر والجمال الباطن نعمة من اللّه تعالى توجب على العبد شكراً بالتّقوى والصّيانة ، وبهما يزداد جمالاً على جماله .
وإن استعمل جماله في معاصي اللّه قلب اللّه محاسنه شينا وقبحا . وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو النّاس إلى جمال الباطن بجمال الظّاهر ، « قال جرير بن عبد اللّه البجليّ رضي الله عنه : قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أنت امرؤ حسّن اللّه خَلْقَك ، فحسِّنْ خُلُقَكَ » . « وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أجمل الخلق وأحسنهم وجهاً » . « وقد سئل البراء بن عازب : أكان وجه النّبيّ صلى الله عليه وسلم مثل السّيف ؟ فقال : لا ، بل مثل القمر » . وكان صلى الله عليه وسلم يستحبّ أن يكون الرّسول الّذي يرسل إليه حسن الوجه حسن الاسم ، فكان يقول : « إذا أَبْرَدْتُم إليّ بَرِيداً فاجعلوه حسنَ الوجه حسنَ الاسم » وقد أمتع اللّه عباده المؤمنين في دار كرامته بحسن الصّور ، كما في الحديث « أوّل زُمْرة تدخل الجنّةَ على صورةِ القمر ليلةَ البدر ، والّذين على أثرهم كأشدِّ كوكبٍ إضاءةً ، قلوبُهم على قلبِ رجل واحد ، يسبّحون اللّه بُكرة وعشيّة . صورهم على صورة القمر ليلة البدر ».
القسم الثّاني : حكم التّصوير " صناعة الصّور "
أ - تحسين صورة الشّيء المصنوع :
13 - يستحسن للصّانع إذا صنع شيئا أن يحسّن صورة ذلك الشّيء ، إذ إنّ ذلك من إتقان العمل وإحسانه . وقد مدح اللّه تعالى نفسه بقوله : { ذَلكَ عَالِمُ الغَيبِ والشَّهَادةِ العَزيزُ الرَّحيمُ الّذي أَحْسنَ كلَّ شَيءٍ خَلَقَه وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسانِ منْ طِينٍ } وقال : { خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرضَ بِالحَقِّ وصَوَّرَكم فَأَحْسَنَ صُوَرَكم وإليه المَصِيرُ } وفي الحديث عن النّبيّ أنّه قال : « إنّ اللّه يُحِبُّ إذا عَمِلَ أحدُكم عملاً أنْ يُتقنه » وقال : « إنّ اللّه كَتَبَ الإحسانَ على كلّ شيء ، فإذا قتلتم فأَحسِنُوا القِتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة . . . الحديث » .
ب - تصوير المصنوعات :
14 - لا بأس بتصوير الأشياء الّتي يصنعها البشر ، كصورة المنزل والسّيّارة والسّفينة والمسجد وغير ذلك اتّفاقا ، لأنّ للإنسان أن يصنعها ، فكذلك له أن يصوّرها .
ج - صناعة تصاوير الجمادات المخلوقة :
15 - لا بأس بتصوير الجمادات الّتي خلقها اللّه تعالى - على ما خلقها عليه - كتصوير الجبال والأودية والبحار ، وتصوير الشّمس والقمر والسّماء والنّجوم ، دون اختلاف بين أحد من أهل العلم ، إلّا من شذّ . غير أنّ ذلك لا يعني جواز صناعة شيء منها إذا علم أنّ الشّخص المصنوعة له يعبد تلك الصّورة من دون اللّه ، وذلك كعبّاد الشّمس أو النّجوم . أشار إلى ذلك ابن عابدين . ويستدلّ لحكم هذه المسألة وأنّ ذلك ليس بداخل في التّصوير المنهيّ عنه بما يأتي في المسألة التّالية وما بعدها .
وقد نقل ابن حجر في الفتح عن أبي محمّد الجوينيّ أنّه نقل وجهاً بمنع تصوير الشّمس والقمر ، لأنّ من الكفّار من عبدهما من دون اللّه ، فيمتنع تصويرهما لذلك .
ووجّهه ابن حجر بعموم قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الّذين يضاهون بخلق اللّه » وقوله في الحديث القدسيّ : « ومن أظلم ممّن ذهب يخلُق خلقاً كخلقي » فإنّه يتناول ما فيه روح وما لا روح فيه . غير أنّ هذا مُؤوَّل وخاصّ بما فيه روح كما يأتي .
د - تصوير النّباتات والأشجار :
16 - جمهور الفقهاء على أنّه لا بأس شرعاً بتصوير الأعشاب والأشجار والثّمار وسائر المخلوقات النّباتيّة ، وسواء أكانت مثمرة أم لا ، وأنّ ذلك لا يدخل فيما نهي عنه من التّصاوير . ولم ينقل في ذلك خلاف ، إلا ما روي عن مجاهد أنّه رأى تحريم تصوير الشّجر المثمر دون الشّجر غير المثمر . قال عياض : هذا لم يقله أحد غير مجاهد .
قال ابن حجر : وأظنّ مجاهداً سمع حديث أبي هريرة ، ففيه : « فَلْيَخْلقوا ذرّة ، وليخلقوا شعيرة » فإنّ في ذكر الذّرّة إشارة إلى ما فيه روح ، وفي ذكر الشّعيرة إشارة إلى ما ينبت ممّا يؤكل ، وأمّا ما لا روح فيه ولا يثمر فلم تقع الإشارة إليه .
وكراهة تصوير النّباتات والأشجار وجه في مذهب أحمد ، والمذهب على خلافه .
وقد احتجّ الجمهور بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من صوّر صورة في الدّنيا كلّف أن ينفخ فيها الرّوح ، وليس بنافخ » فخصّ النّهي بذوات الأرواح وليس الشّجر منها ، وبحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه نهى المصوّر عن التّصوير ، ثمّ قال له : " إن كنت فاعلاً فصوّر الشّجر وما لا روح فيه "قال الطّحاويّ : ولأنّ صورة الحيوان لمّا أبيحت بعد قطع رأسها - لأنّها لا تعيش بدونه - دلّ ذلك على إباحة تصوير ما لا روح فيه أصلاً .
بل إنّ في بعض روايات حديث عائشة رضي الله عنها « أنّ جبريل عليه السلام قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم مر برأس التّمثال فليقطع حتّى يكون كهيئة الشّجرة » فهذا تنبيه على أنّ الشّجرة في الأصل لا يتعلّق النّهي بتصويرها .
هذا ما يذكره الفقهاء في الاستدلال على أنّه لا يحرم تصوير الشّجر والنّبات وما لا روح فيه
وفي مسند أحمد من حديث عليّ رضي الله عنه « أنّ جبريل قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم إنّها ثلاث، لن يلج عليك مَلَكٌ ما دام فيها واحد منها : كلب ، أو جنابة ، أو صورة روح » .
هـ – تصوير صورة الحيوان أو الإنسان :
17 – هذا النّوع من التّصوير فيه اختلاف بين الفقهاء وتفصيل يتبيّن فيما يلي ، وإلى هذا النّوع خاصّة ينصرف قول من يطلق تحريم التّصوير ، دون غيره من الأنواع المتقدّم ذكرها.
التّصوير في الدّيانات السّابقة :
18 - قال مجاهد قوله تعالى في حقّ سليمان عليه السلام وطاعة الجنّ له : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالجَوَابِ } قال : كانت صوراً من نحاس . أخرجه الطّبريّ . وقال قتادة : كانت من الزّجاج والخشب أخرجه عبد الرّزّاق .
قال ابن حجر : كان ذلك جائزاً في شريعتهم ، وكانوا يعملون أشكال الأنبياء والصّالحين منهم على هيئتهم في العبادة ليتعبّدوا كعبادتهم . وقال أبو العالية : لم يكن ذلك في شريعتهم حراماً . وقال مثل ذلك الجصّاص .
قال ابن حجر : ولكن ثبت في الصّحيحين « أنّ أمّ حبيبة وأمّ سلمة رضي الله عنهما ذكرتا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم كنيسة رأينها بأرض الحبشة ، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم أولئك قوم كانوا إذا مات فيهم الرّجل الصّالح بنوا على قبره مسجدا ، وصوّروا فيه تلك الصّور . أولئك شرار الخلق عند اللّه » .
قال : فإنّ ذلك يشعر بأنّه لو كان جائزاً في شريعتهم ما أطلق على الّذي فعله أنّه شرّ الخلق ، هكذا قال . لكنّ الأظهر أنّه ذمّهم لبناء المساجد على القبور ، ولجعلهم الصّور في المساجد ، لا لمطلق التّصوير ، ليوافق الآية ، واللّه أعلم .
تصوير صورة الإنسان والحيوان في الشّريعة الإسلاميّة :
19 - اختلف العلماء في حكم تصوير ذوات الأرواح من الإنسان أو الحيوان على ثلاثة أقوال :
20 - القول الأوّل : إنّ ذلك غير حرام . ولا يحرم منه إلا أن يصنع صنماً يعبد من دون اللّه تعالى ، لقوله تعالى : { قال أَتَعْبُدونَ ما تَنْحِتُونَ واللّهُ خَلَقَكم وما تَعْمَلونَ } ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه ورسولَه حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام » .
- واحتجّ القائلون بالإباحة بقوله تعالى في حقّ سليمان عليه السلام : { يَعْمَلونَ له مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ } .
قالوا : وشرع من قبلنا شرع لنا لقوله تعالى : { أولئك الّذين هدى اللّه فبهداهم اقتده } .
واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حقّ المصوّرين « الّذين يضاهون بخلق اللّه » وفي بعض الرّوايات « الّذين يشبّهون بخلق اللّه » وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه تبارك وتعالى : « ومن أظلم ممّن ذهب يخلق خلقاً كخلقي فليخلقوا حبّة ، أو ليخلقوا ذرّة » قالوا : ولو كان هذا على ظاهره لاقتضى تحريم تصوير الشّجر والجبال والشّمس والقمر ، مع أنّ ذلك لا يحرم بالاتّفاق ، فتعيّن حمله على من قصد أن يتحدّى صنعة الخالق عزّ وجلّ ويفتري عليه بأنّه يخلق مثل خلقه .
21 - واستدلّوا بقوله صلى الله عليه وسلم في حقّ المصوّرين « إنّ أشدّ النّاس عذاباً عند اللّه يوم القيامة المصوّرون » قالوا : لو حمل على التّصوير المعتاد لكان ذلك مشكلاً على قواعد الشّريعة . فإنّ أشدّ ما فيه أن يكون معصية كسائر المعاصي ليس أعظم من الشّرك وقتل النّفس والزّنا ، فكيف يكون فاعله أشدّ النّاس عذاباً ، فتعيّن حمله على من صنع التّماثيل لتعبد من دون اللّه .
- واحتجّوا أيضاً بما يأتي من استعمال الصّور في بيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبيوت أصحابه ، ومن جملة ذلك تعاملهم بالدّنانير الرّوميّة والدّراهم الفارسيّة دون نكير ، وبالأحوال الفرديّة للاستعمال الواقع منهم ممّا يرد ذكره في تضاعيف هذا البحث ، دون تأويل . وقد نقل الألوسيّ هذا القول في تفسيره عند تفسير الآية " 13 " من سورة سبأ ، حيث ذكر أنّ النّحّاس ومكّيّ بن أبي طالب وابن الفرس نقلوه عن قوم ولم يعيّنهم .
من أجل ذلك فإنّ هذا القول يغفل ذكره الفقهاء في كتبهم المطوّلة والمختصرة ، ويقتصرون في ذكر الخلاف على الأقوال الآتية :
22 - القول الثّاني : وهو مذهب المالكيّة وبعض السّلف ، ووافقهم ابن حمدان من الحنابلة ، أنّه لا يحرم من التّصاوير إلا ما جمع الشّروط الآتية :
الشّرط الأوّل : أن تكون صورة الإنسان أو الحيوان ممّا له ظلّ ، أي تكون تمثالاً مجسّداً ، فإن كانت مسطّحة لم يحرم عملها ، وذلك كالمنقوش في جدار ، أو ورق ، أو قماش .
بل يكون مكروهاً . ومن هنا نقل ابن العربيّ الإجماع على أنّ تصوير ما له ظلّ حرام .
الشّرط الثّاني : أن تكون كاملة الأعضاء ، فإن كانت ناقصة عضو ممّا لا يعيش الحيوان مع فقده لم يحرم ، كما لو صوّر الحيوان مقطوع الرّأس أو مخروق البطن أو الصّدر .
الشّرط الثّالث : أن يصنع الصّورة ممّا يدوم من الحديد أو النّحاس أو الحجارة أو الخشب أو نحو ذلك ، فإن صنعها ممّا لا يدوم كقشر بطّيخ أو عجين لم يحرم ، لأنّه إذا نشف تقطّع . على أنّ في هذا النّوع عندهم خلافاً ، فقد قال الأكثر منهم : يحرم ولو كان ممّا لا يدوم . ونقل قصر التّحريم على ذوات الظّلّ عن بعض السّلف أيضاً كما ذكره النّوويّ .
وقال ابن حمدان من الحنابلة : المراد بالصّورة أي : المحرّمة ما كان لها جسم مصنوع له طول وعرض وعمق .
23 - القول الثّالث : أنّه يحرم تصوير ذوات الأرواح مطلقاً ، أي سواء أكان للصّورة ظلّ أو لم يكن . وهو مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
وتشدّد النّوويّ حتّى ادّعى الإجماع عليه . وفي دعوى الإجماع نظر يعلم ممّا يأتي .
وقد شكّك في صحّة الإجماع ابن نجيم كما في الطّحطاويّ على الدّرّ ، وهو ظاهر ، لما تقدّم من أنّ المالكيّة لا يرون تحريم الصّور المسطّحة . لا يختلف المذهب عندهم في ذلك .
وهذا التّحريم عند الجمهور هو من حيث الجملة .
ويستثنى عندهم بعض الحالات المتّفق عليها أو المختلف فيها ممّا سيذكر فيما بعد .
- والتّصوير المحرّم صرّح الحنابلة بأنّه من الكبائر . قالوا : لما في الحديث من التّوعّد عليه بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « إنّ أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة المصوّرون » . أدلّة القولين الثّاني والثّالث بتحريم التّصوير من حيث الجملة :
24 - استند العلماء في تحريم التّصوير من حيث الجملة إلى الأحاديث التّالية :
الحديث الأوّل : عن عائشة رضي الله عنها قالت : « قدم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من سفر ، وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل ، فلمّا رآه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هتكه ، وتلوّن وجهه . فقال : يا عائشة : أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة الّذين يضاهون بخلق اللّه . قالت عائشة : فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين » . وفي رواية أنّه قال : « إنّ من أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة الّذين يشبّهون بخلق اللّه » . وفي رواية أخرى قال : « إنّ أصحاب هذه الصّور يعذّبون يوم القيامة ، ويقال لهم : أحيوا ما خلقتم ». وفي رواية : « إنّها قالت : فأخذت السّتر فجعلته مرفقة أو مرفقتين ، فكان يرتفق بهما في البيت » . وهذه الرّوايات متّفق عليها .
هذا وإنّ قوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون » رواه الشّيخان أيضا مرفوعاً من حديث ابن مسعود رضي الله عنه .
وقوله : « إنّ أصحاب هذه الصّور يعذّبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم » روياه أيضاً من حديث عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما .
الحديث الثّاني : عن عائشة رضي الله عنها قالت : « واعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جبريل أن يأتيه في ساعة ، فجاءت تلك السّاعة ولم يأته . قالت : وكان بيده عصاً فطرحها ، وهو يقول : ما يخلف اللّه وعده ولا رسله . ثمّ التفت ، فإذا جرو كلب تحت سرير ، فقال : متى دخل هذا الكلب ؟ فقلت : واللّه ما دريت به . فأمر به فأخرج ، فجاءه جبريل ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : وعدتني فجلست لك ولم تأتني ؟ فقال : منعني الكلب الّذي كان في بيتك . إنّا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة » .
وروت ميمونة رضي الله عنها حادثة مثل هذه ، وفيها قول جبريل : « إنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة » . وروى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أخبره بحادثة جبريل ، وما قال له . وروى القصّة أيضاً أبو هريرة رضي الله عنه . الحديث الثّالث : عن أبي هريرة رضي الله عنه « أنّه دخل داراً تبنى بالمدينة لسعيد ، أو لمروان ، فرأى مصوّراً يصوّر في الدّار ، فقال سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : قال اللّه تعالى : ومن أظلم ممّن ذهب يخلق خلقاً كخلقي ، فليخلقوا ذرّة ، أو ليخلقوا حبّة ، أو ليخلقوا شعيرة » .
الحديث الرّابع : عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه جاءه رجل فقال : إنّي رجل أصوّر هذه الصّور فأفتني فيها . فقال : ادن منّي ، فدنا منه ، ثمّ قال : ادن منّي ، فدنا منه ، حتّى وضع يده على رأسه ، وقال : أنبّئك بما سمعت من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « كلّ مصوّر في النّار ، يجعل له بكلّ صورة صوّرها نفساً ، فيعذّبه في جهنّم » ثمّ قال : إن كنت لا بدّ فاعلاً فاصنع الشّجر وما لا نفس له .
الحديث الخامس : عن أبي الهيّاج الأسديّ أنّ عليّا رضي الله عنه قال له : « ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ألا تدع صورة إلا طمستها ، ولا قبراً مشرفا إلا سوّيته » .
تعليل تحريم التّصوير :
25 - اختلف العلماء في علّة تحريم التّصوير على وجوه :
الوجه الأوّل : أنّ العلّة هي ما في التّصوير من مضاهاة خلق اللّه تعالى وأصل التّعليل بذلك وارد في الأحاديث المتقدّمة ، كلفظ حديث عائشة رضي الله عنها : « الّذين يضاهون بخلق اللّه » وحديث أبي هريرة رضي الله عنه : « ومن أظلم ممّن ذهب يخلق خلقا كخلقي » ويشهد لذلك حديث : « من صوّر صورة كلّف أن ينفخ فيها الرّوح »
وحديث : « أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة المصوّرون . يقال لهم : أحيوا ما خلقتم » .
وممّا يكدّر على التّعليل بهذا أمران :
الأوّل : أنّ التّعليل بهذا يقتضي منع تحريم تصوير الشّمس والقمر والجبال والشّجر وغير ذلك من غير ذوات الأرواح .
والثّاني : أنّ التّعليل بذلك يقتضي أيضاً منع تصوير لعب البنات والعضو المقطوع ، وغير ذلك ممّا استثناه العلماء من قضيّة التّحريم
- من أجل ذلك ذهب بعض العلماء إلى أنّ المقصود بالتّعليل بهذه العلّة من صنع الصّورة متحدّياً قدرة الخالق عزّ وجلّ ، ورأى أنّه قادر أن يخلق كخلقه ، فيريه اللّه تعالى عجزه يوم القيامة ، بأن يكلّفه أن ينفخ الرّوح في تلك الصّور .
قال النّوويّ : أمّا رواية « أشدّ النّاس عذاباً » فهي محمولة على من فعل الصّورة لتعبد ، وقيل : هي فيمن قصد المعنى الّذي في الحديث من مضاهاة خلق اللّه ، واعتقد ذلك ، فهذا كافر له من أشدّ العذاب ما للكفّار ، ويزيد عذابه بزيادة كفره " . ويتأيّد التّعليل بهذا بأنّ اللّه تعالى قال شبيهاً بذلك في حقّ من ادّعى أنّه ينزّل مثل ما أنزل اللّه ، وأنّه لا أحد أظلم منه ، فقال تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبَاً أو قَالَ أُوحِيَ إليَّ ولمْ يُوحَ إليهِ شَيءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثلَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ } فهذا فيمن ادّعى مساواة الخالق في أمره ووحيه ، والأوّل فيمن ادّعى مساواته في خلقه ، وكلاهما من أشدّ النّاس عذاباً .
وممّا يحقّق هذا ما توحي به رواية أبي هريرة رضي الله عنه أنّ اللّه تعالى يقول في الحديث القدسيّ : « ومن أظلم ممّن ذهب يخلق خلقا كخلقي » فإنّ " ذهب " بمعنى قصد ، بذلك فسّرها ابن حجر . وبذلك يكون معناها أنّه أظلم النّاس بهذا القصد ، وهو أن يقصد أن يخلق كخلق اللّه تعالى. ونقل الجصّاص قولاً أنّ المراد بهذه الأحاديث " من شبّه اللّه بخلقه".
26 - الوجه الثّاني : كون التّصوير وسيلة إلى الغلوّ في غير اللّه تعالى بتعظيمه حتّى يئول الأمر إلى الضّلال والافتنان بالصّور ، فتعبد من دون اللّه تعالى . وذلك أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعث والنّاس ينصبون تماثيل يعبدونها ، يزعمون أنّها تقرّبهم إلى اللّه زلفى ، فجاء الإسلام محطّماً للشّرك والوثنيّة ، معلناً أنّ شعاره الأكبر " لا إله إلا اللّه " ومسفّهاً لعقول هؤلاء . ومن المناهج الّتي سلكتها الشّريعة الحكيمة لذلك - بالإضافة إلى الحجّة والبيان والسّيف والسّنان - أن جاءت إلى ما من شأنه أن يكون وسيلة إلى الضّلال ولا منفعة ، أو منفعته أقلّ ، فمنعت إتيانه ، قال ابن العربيّ : والّذي أوجب النّهي عن التّصوير في شرعنا - واللّه أعلم - ما كانت العرب عليه من عبادة الأوثان والأصنام ، فكانوا يصوّرون ويعبدون ، فقطع اللّه الذّريعة ، وحمى الباب .
ثمّ أشار ابن العربيّ أنّ التّعليل بالمضاهاة وهو منصوص ، لا يمنع من التّعليل بهذه العلّة المستنبطة ، قال : نهى عن الصّورة ، وذكر علّة التّشبّه بخلق اللّه ، وفيها زيادة على هذا عبادتها من دون اللّه ، فنبّه على أنّ عملها معصية ، فما ظنّك بعبادتها .
واستند القائلون بهذا الوجه في التّعليل إلى ما في صحيح البخاريّ في تفسير سورة نوح ، معلّقاً . عن عطاء عن ابن عبّاس في : ودّ ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر . قال : " هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلمّا هلكوا أوحى الشّيطان إلى قومهم : أن انصبوا إلى مجالسهم الّتي كانوا يجلسون إليها أنصاباً ، وسمّوها بأسمائهم ، ففعلوا ، فلم تعبد ، حتّى إذا هلك أولئك ، وتنسخ العلم ، عبدت ".
لكن إلى أيّ مدى أرادت الشّريعة المنع من التّصوير لتكفل سدّ الذّريعة : هل إلى منع التّصوير مطلقاً ، أو منع الصّور المنصوبة دون غير المنصوبة ، أو منع الصّور المجسّمة الّتي لها ظلّ ، لأنّها الّتي كانت تعبد ؟ هذا موضع الخلاف بين العلماء .
وبناء على هذا الوجه رأى بعض العلماء أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم شدّد أوّلاً وأمر بكسر الأوثان ولطّخ الصّور ، ثمّ لمّا عرف ذلك الأمر واشتهر رخّص في الصّور المسطّحة وقال : « إلا رقماً في ثوب » .
27 - الوجه الثّالث : أنّ العلّة مجرّد الشّبه بفعل المشركين الّذين كانوا ينحتون الأصنام ويعبدونها ، ولو لم يقصد المصوّر ذلك ، ولو لم تعبد الصّورة الّتي يصنعها ، لكنّ الحال شبيهة بالحال . كما نهينا عن الصّلاة عند طلوع الشّمس وعند غروبها ، لئلا نكون في ذلك مثل من يسجد لها حينئذ . كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « فإنّه يسجد لها حينئذ الكفّار » فكرهت الصّلاة حينئذ لما تجرّه المشابهة من الموافقة .
أشار إلى هذا المعنى ابن تيميّة . ونبّه عليه ابن حجر حيث قال : إنّ صورة الأصنام هي الأصل في منع التّصوير لكن إذا قيل بهذه العلّة فهي لا تقتضي أكثر من الكراهة .
28 - الوجه الرّابع : أنّ وجود الصّورة في مكان يمنع دخول الملائكة إليه .
وقد ورد النّصّ على ذلك في حديث عائشة وحديث عليّ .
وردّ التّعليل بهذا كثير من العلماء ، منهم الحنابلة ، كما يأتي ، وقالوا : إنّ تنصيص الحديث على أنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة لا يقتضي منع التّصوير ، كالجنابة ، فإنّها تمنع دخول الملائكة أيضا لما في بعض الرّوايات « لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب » فلا يلزم من ذلك منع الجنابة .
ولعلّ امتناع دخول الملائكة إنّما هو لكون الصّورة محرّمة ، كما يحرم على المسلم أن يجلس على مائدة يدار عليها الخمر . فامتناع دخولهم أثر التّحريم ، وليس علّة. واللّه أعلم.
تفصيل القول في صناعة الصّور :
أوّلاً : الصّور المجسّمة " ذوات الظّلّ "
29 - صنعة الصّور المجسّمة محرّمة عند جمهور العلماء أخذا بالأدلّة السّابقة .
ويستثنى منها ما كان مصنوعا كلعبة للصّغار ، أو كان ممتهناً ، أو كان مقطوعاً منه عضو لا يعيش بدونه ، أو كان ممّا لا يدوم كصور الحلوى أو العجين ، على خلاف وتفصيل يتبيّن في المباحث التّالية .
ثانياً : صناعة الصّور المسطّحة :
القول الأوّل في صناعة الصّور المسطّحة
30 - مذهب المالكيّة ومن ذكر معهم جواز صناعة الصّور المسطّحة مطلقاً ، مع الكراهة . لكن إن كانت فيما يمتهن فلا كراهة بل خلاف الأولى .
وتزول الكراهة إذا كانت الصّور مقطوعة عضو لا تبقى الحياة مع فقده .
31 - ومن الحجّة لهذا المذهب ما يلي :
- 1 - حديث أبي طلحة وعنه زيد بن خالد الجهنيّ ، ورواه سهل بن حنيف الصّحابيّ رضي الله عنهم ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ، إلا رقماً في ثوب » فهذا الحديث مقيّد ، فيحمل عليه كلّ ما ورد من النّهي عن التّصاوير ولعن المصوّرين .
- 2 - حديث أبي هريرة مرفوعا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : يقول اللّه تعالى : في الحديث القدسيّ « ومن أظلم ممّن ذهب يخلق خلقا كخلقي ، فليخلقوا ذرّة ، أو ليخلقوا حبّة » ووجه الاحتجاج به : أنّ اللّه تعالى لم يخلق هذه الأحياء سطوحا ، بل اخترعها مجسّمة .
- 3 - استعمال الصّور في بيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما تقدّم أنّها جعلت السّتر مرفقتين ، فكان يرتفق بهما ، وفي بعض الرّوايات " وإنّ فيهما الصّور " .
وفي بعض روايات الحديث قالت : « كان لنا ستر فيه تمثال طائر ، وكان الدّاخل إذا دخل استقبله ، فقال لي النّبيّ صلى الله عليه وسلم : حوّلي هذا ، فإنّي كلّما دخلت فرأيته ، ذكرت الدّنيا » فعلّل بذلك ، وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على ألا يشغله أمر الدّنيا وزهرتها عن الدّعوة إلى اللّه والتّفرّغ لعبادته . وذلك لا يقتضي التّحريم على أمّته . وفي رواية أنس رضي الله عنه أنّه قال لها : « أميطي عنّا قرامك هذا ، فإنّ تصاويره لا تزال تعرض لي في صلاتي » وعلّل في رواية ثالثة بغير هذا عندما هتك السّتر فقال « يا عائشة لا تستري الجدار » وقال « إنّ اللّه لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطّين » .
ويوضّح هذا المعنى جليّاً حديث سفينة رضي الله عنه مولى النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أنّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه دعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى بيته ، فجاء فوضع يده فرجع ، فقالت فاطمة لعليّ : الحقه فانظر ما رجعه . فتبعه ، فقال : يا رسول اللّه ما ردّك ؟ قال : إنّه ليس لي - أو قال : لنبيّ - أن يدخل بيتاً مزوّقاً » .
ورواه عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما عند البخاريّ وأبي داود وفي روايته : « فرأى سترا موشيّا ، وفيها أنّه صلى الله عليه وسلم قال ما لنا وللدّنيا ، ما لنا وللرّقم فقالت فاطمة فما تأمرنا فيه ؟ قال : ترسلين به إلى أهل حاجة » .
وفي رواية النّسائيّ أنّه كان في السّتر تصاوير .
- 4 - استعمال النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه الدّنانير الرّوميّة والدّراهم الفارسيّة وعليها صور ملوكهم ولم يكن عندهم نقود غيرها إلّا الفلوس .
وقد ضرب عمر بن الخطّاب رضي الله عنه - على ما تذكره الكتب المؤلّفة في تاريخ النّقود - الدّراهم على السّكّة الفارسيّة ، فكان فيها الصّور ، وضرب الدّنانير معاوية رضي الله عنه وعليها الصّور بعد أن محا منها الصّليب ، وضربها عبد الملك وعليها صورته متقلّداً سيفاً ، ثمّ ضربها عبد الملك والوليد خالية من الصّور .
- 5 - ما نقل عن بعض الصّحابة والتّابعين من استعمال الصّور في السّتور وغيرها من المسطّحات . من ذلك استعمال زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنه للسّتور ذات الصّور ، وحديثه في الصّحيحين . واستعمله أبو طلحة رضي الله عنه وأقرّه سهل بن حنيف رضي الله عنه ، وحديثهما في الموطّأ وعند التّرمذيّ والنّسائيّ .
واعتمدوا على ما رووه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من قوله « إلا رقماً في ثوب » .
وأخرج ابن أبي شيبة عن عروة بن الزّبير أنّ عروة كان يتّكئ على المرافق " الوسائد " الّتي فيها تصاوير الطّير والرّجال . وروى الطّحاويّ بأسانيده أنّ نقش خاتم عمران بن حصين الصّحابيّ رضي الله عنه كان رجلاً متقلّداً سيفاً . وأنّ نقش خاتم النّعمان بن مقرّن رضي الله عنه قائد فتح فارس ، كان إيلا قابضاً إحدى يديه باسطاً الأخرى ، وعن القاسم قال كان نقش خاتم عبد اللّه ذبّابان ، وكان نقش خاتم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه كركيّان ، وروي أنّ نقش خاتم أبي هريرة رضي الله عنه ذبابتان .
ونقل ابن أبي شيبة بسنده عن ابن عون أنّه دخل على القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنهم وهو بأعلى مكّة ببيته ، قال : فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير القندس والعنقاء . قال ابن حجر : والقاسم بن محمّد أحد فقهاء المدينة ، وهو راوي حديث عائشة ، وكان من أفضل أهل زمانه .
وروى أحمد بسنده عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال : دخلت على ابن عبّاس رضي الله عنهما أعوده من وجع كان به . قلت : فما هذه التّصاوير في الكانون ؟ قال : ألا ترى قد أحرقناها بالنّار . فلمّا خرج المسور قال : اقطعوا رءوس هذه التّماثيل . قالوا : يا أبا العبّاس لو ذهبت بها إلى السّوق كان أنفق لها قال : لا . فأمر بقطع رءوسها .
القول الثّاني في صناعة الصّور غير ذوات الظّلّ " أي المسطّحة " :
32 - إنّها محرّمة كصناعة ذوات الظّلّ . وهذا قول جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ونقل عن كثير من السّلف . واستثنى بعض أصحاب هذا القول الصّور المقطوعة والصّور الممتهنة وأشياء أخرى كما سيأتي في بقيّة هذا البحث .
واحتجّوا للتّحريم بإطلاق الأحاديث الواردة في لعن النّبيّ صلى الله عليه وسلم للمصوّرين ، وأنّ المصوّر يعذّب يوم القيامة بأن يكلّف بنفخ الرّوح في كلّ صورة صوّرها . خرج من ذلك صور الأشجار ونحوها ممّا لا روح فيه بالأدلّة السّابق ذكرها، فيبقى ما عداها على التّحريم. قالوا : وأمّا الاحتجاج لإباحة صنع الصّور المسطّحة باستعمال النّبيّ صلى الله عليه وسلم الوسادتين اللّتين فيهما الصّور ، واستعمال الصّحابة والتّابعين لذلك ، فإنّ الاستعمال للصّورة حيث جاز لا يعني جواز تصويرها ، لأنّ النّصّ ورد بتحريم التّصوير ولعن المصوّر ، وهو شيء آخر غير استعمال ما فيه الصّورة . وقد علّل في بعض الرّوايات بمضاهاة خلق اللّه والتّشبيه به ، وذلك إثم غير متحقّق في الاستعمال .
ثالثاً : الصّور المقطوعة والصّور النّصفيّة ونحوها :
33 - تقدّم أنّ المالكيّة لا يرون تحريم تصوير الإنسان أو الحيوان - سواء أكانت الصّورة تمثالا مجسّما أو صورة مسطّحة إن كانت ناقصة عضو من الأعضاء الظّاهرة ممّا لا يعيش الحيوان بدونه . كما لو كان مقطوع الرّأس ، أو كان مخروق البطن أو الصّدر .
وكذلك يقول الحنابلة ، كما جاء في المغني" إذا كان في ابتداء التّصويرة صورة بدن بلا رأس أو رأس بلا بدن ، أو جعل له رأس وسائر بدنه صورة غير حيوان ، لم يدخل في النّهي ". وفي الفروع : إن أزيل من الصّور ما لا تبقى الحياة معه لم يكره ، في المنصوص . ومثله صورة شجرة ونحوه وتمثال ، وكذا تصويره .
وهذا مذهب الشّافعيّة أيضاً ، ولم ينقل بينهم في ذلك خلاف إلا ما شذّ به المتولّي ، غير أنّهم اختلفوا فيما إذا كان المقطوع غير الرّأس وقد بقي الرّأس . والرّاجح عندهم في هذه الحالة التّحريم ، جاء في أسنى المطالب وحاشيته للرّمليّ : وكذا إن قطع رأس الصّورة .
قال الكوهكيوني : وكذا حكم ما صوّر بلا رأس ، وأمّا الرّءوس بلا أبدان فهل تحرم ؟ فيه تردّد . والحرمة أرجح . قال الرّمليّ : وهما وجهان في الحاوي وبناهما على أنّه هل يجوز تصوير حيوان لا نظير له : إن جوّزناه جاز ذلك ، وإلا فلا ، وهو الصّحيح .
ويشملهما قوله : ويحرم تصوير حيوان .
وظاهر ما في تحفة المحتاج جوازه ، فإنّه قال : وكفقد الرّأس فقد ما لا حياة بدونه .
رابعاً : صنع الصّور الخياليّة
34 - ينصّ الشّافعيّة على أنّ الصّور الخياليّة للإنسان أو الحيوان داخلة في التّحريم .
قالوا : يحرم ، كإنسان له جناح ، أو بقر له منقار ، ممّا ليس له نظير في المخلوقات . وكلام صاحب روض الطّالب يوحي بوجود قول بالجواز .
وواضح أنّ هذا في غير اللّعب الّتي للأطفال ، وقد ورد في حديث عائشة رضي الله عنها : « أنّه كان في لعبها فرس له جناحان ، وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ضحك لمّا رآها حتّى بدت نواجذه » .
خامساً : صنع الصّور الممتهنة
35 - يأتي أنّ أغلب العلماء على جواز اقتناء واستعمال الصّور المجسّمة والمسطّحة . سواء أكانت مقطوعة أم كاملة ، إذا كانت ممتهنة ، كالّتي على أرض أو بساط أو فراش أو وسادة أو نحو ذلك . وبناء على هذا ، ذهب بعض العلماء إلى جواز صنع ما يستعمل على ذلك الوجه ، كنسج الحرير لمن يحلّ له .
وهو في الجملة مذهب المالكيّة ، إلا أنّه عندهم خلاف الأولى .
وعند الشّافعيّة وجهان : أصحّهما التّحريم . وهو مذهب الحنفيّة كما صرّح به ابن عابدين . ونقل ابن حجر عن المتولّي من الشّافعيّة أنّه أجاز التّصوير على الأرض .
ولم نجد للحنابلة تصريحا في هذه المسألة فالظّاهر أنّه عندهم مندرج في تحريم التّصوير . وسيأتي تفصيل القول في معنى الامتهان .
سادساً : صناعة الصّور من الطّين والحلوى وما يسرع إليه الفساد
36 - للمالكيّة قولان في صناعة الصّور الّتي لا تتّخذ للإبقاء ، كالّتي تعمل من العجين وأشهر القولين المنع . وكذا نقلهما العدويّ وقال : إنّ القول بالجواز هو لأصبغ . ومثّل له بما يصنع من عجين أو قشر بطّيخ ، لأنّه إذا نشف تقطّع .
وعند الشّافعيّة : يحرم صنعها ولا يحرم بيعها . ولم نجد عند غيرهم نصّا في ذلك .
سابعاً : صناعة لعب البنات
37 - استثنى أكثر العلماء من تحريم التّصوير وصناعة التّماثيل صناعة لعب البنات .
وهو مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . وقد نقل القاضي عياض جوازه عن أكثر العلماء ، وتابعه النّوويّ في شرح مسلم ، فقال :" يستثنى من منع تصوير ما له ظلّ ، ومن اتّخاذه لعب البنات ، لما ورد من الرّخصة في ذلك ".
وهذا يعني جوازها ، سواء أكانت اللّعب على هيئة تمثال إنسان أو حيوان ، مجسّمة أو غير مجسّمة ، وسواء أكان له نظير في الحيوانات أم لا ، كفرس له جناحان .
وقد اشترط الحنابلة للجواز أن تكون مقطوعة الرّءوس ، أو ناقصة عضو لا تبقى الحياة بدونه . وسائر العلماء على عدم اشتراط ذلك .
38 - واستدلّ الجمهور لهذا الاستثناء بحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كنت ألعب بالبنات عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي ، فكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمّعن منه ، فيسرّبهنّ إليّ ، فيلعبن معي » .
وفي رواية قالت : « قدم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر ، وفي سهوتها ستر ، فهبّت ريح ، فكشفت ناحية السّتر عن بنات لعائشة لعب ، فقال : ما هذا يا عائشة ؟ قالت : بناتي . ورأى بينهنّ فرساً لها جناحان من رقاع ، فقال : ما هذا الّذي أرى وسطهنّ ؟ قالت : فرس . قال : وما هذا الّذي عليه ؟ قالت : جناحان . فقال : فرس له جناحان ؟ قالت : أما سمعت أنّ لسليمان خيلاً لها أجنحة ؟ قالت : فضحك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتّى رأيت نواجذه » . وقد علّل المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة هذا الاستثناء لصناعة اللّعب بالحاجة إلى تدريبهنّ على أمر تربية الأولاد .
وهذا التّعليل يظهر فيما لو كانت اللّعب على هيئة إنسان ، ولا يظهر في أمر الفرس الّذي له جناحان ، ولذا علّل الحليميّ بذلك وبغيره ، وهذا نصّ كلامه ، قال : للصّبايا في ذلك فائدتان : إحداهما عاجلة والأخرى آجلة . فأمّا العاجلة ، فالاستئناس الّذي في الصّبيان من معادن النّشوء والنّموّ . فإنّ الصّبيّ إن كان أنعم حالاً وأطيب نفساً وأشرح صدراً كان أقوى وأحسن نموّاً ، وذلك لأنّ السّرور يبسط القلب ، وفي انبساطه انبساط الرّوح ، وانتشاره في البدن ، وقوّة أثره في الأعضاء والجوارح . وأمّا الآجلة فإنّهنّ سيعلمن من ذلك معالجة الصّبيان وحبّهم والشّفقة عليهم ، ويلزم ذلك طبائعهنّ ، حتّى إذا كبرن وعاين لأنفسهنّ ما كنّ تسرّين به من الأولاد كنّ لهم بالحقّ كما كنّ لتلك الأشباه بالباطل . هذا وقد نقل ابن حجر في الفتح عن البعض دعوى أنّ صناعة اللّعب محرّمة ، وأنّ جوازها كان أوّلاً ، ثمّ نسخ بعموم النّهي عن التّصوير . ويردّه أنّ دعوى النّسخ معارضة بمثلها ، وأنّه قد يكون الإذن باللّعب لاحقاً . على أنّ في حديث عائشة رضي الله عنها في اللّعب ما يدلّ على تأخّره ، فإنّ فيه أنّ ذلك كان عند رجوع النّبيّ صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك ، فالظّاهر أنّه كان متأخّراً .
ثامناً : التّصوير للمصلحة كالتّعليم وغيره :
39 - لم نجد أحداً من الفقهاء تعرّض لشيء من هذا ، عدا ما ذكروه في لعب الأطفال :
أنّ العلّة في استثنائها من التّحريم العامّ هو تدريب البنات على تربية الأطفال كما قال جمهور الفقهاء ، أو التّدريب واستئناس الأطفال وزيادة فرحهم لمصلحة تحسين النّموّ كما قال الحليميّ ، وأنّ صناعة الصّور أبيحت لهذه المصلحة ، مع قيام سبب التّحريم ، وهي كونها تماثيل لذوات الأرواح . والتّصوير بقصد التّعليم والتّدريب نحوهما لا يخرج عن ذلك .
القسم الثّالث :
اقتناء الصّور واستعمالها :
40 - يذهب جمهور العلماء إلى أنّه لا يلزم من تحريم تصوير الصّورة تحريم اقتنائها أو تحريم استعمالها ، فإنّ عمليّة التّصوير لذوات الأرواح ورد فيها النّصوص المشدّدة السّابق ذكرها ، وفيها لعن المصوّر ، وأنّه يعذّب في النّار ، وأنّه أشدّ النّاس أو من أشدّ النّاس عذابا . ولم يرد شيء من ذلك في اقتناء الصّور ، ولم تتحقّق في مستعملها علّة تحريم التّصوير من المضاهاة لخلق اللّه تعالى .
ومع ذلك فقد ورد ما يدلّ على منع اقتناء الصّورة أو استعمالها ، إلا أنّ الأحاديث الواردة في ذلك ليس فيها ذكر عذاب أو أيّ قرينة تدلّ على أنّ اقتناءها من الكبائر . وبهذا يكون حكم مقتني الصّورة الّتي يحرم اقتناؤها : أنّه قد فعل صغيرة من الصّغائر ، إلا على القول بأنّ الإصرار على الصّغيرة كبيرة ، فيكون كبيرة إن تحقّق الإصرار لا إن لم يتحقّق ، أو لم نقل بأنّ الإصرار على الصّغيرة من الكبائر .
وقد نبّه إلى الفرق بين التّصوير وبين اقتناء الصّور في الحكم النّوويّ في شرحه لحديث الصّور في صحيح مسلم ، ونبّه إليه الشبراملسي من الشّافعيّة أيضاً ، وعليه يجري كلام أكثر الفقهاء . والأحاديث الدّالّة على منع اقتناء الصّور منها :
- 1 - « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم هتك السّتر الّذي فيه الصّورة » وفي رواية قال لعائشة : « أخّريه عنّي » . وتقدّم .
- 2 - ومنها أنّه قال : « إنّ البيت الّذي فيه الصّور لا تدخله الملائكة » .
- 3 - ومنها حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أرسله إلى المدينة وقال : لا تدع صورة إلا طمستها » وفي رواية : « "إلا لطّختها " ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته » وفي رواية : « ولا صنما إلا كسرته » .
41 - وفي مقابل ذلك نقل استعمال النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتّابعين لأنواع من الصّور لذوات الرّوح . وقد تقدّم ذكر الرّوايات المبيّنة لذلك فيما تقدّم ( ف /31 ) ونزيد هنا ما روي أنّ خاتم دانيال النّبيّ - عليه السلام - كان عليه أسد ولبؤة وبينهما صبيّ يلمسانه . وذلك أنّ بختنصّر قيل له : يولد مولود يكون هلاكك على يده ، فجعل يقتل كلّ مولود يولد . فلمّا ولدت أمّ دانيال ألقته في غيضة رجاء أن يسلم . فقيّض اللّه له أسداً يحفظه ولبؤة ترضعه . فنقشه على خاتمه ليكون بمرأى منه ليتذكّر نعمة اللّه .
ووجدت جثّة دانيال والخاتم في عهد عمر رضي الله عنه فدفع الخاتم إلى أبي موسى الأشعريّ . فهذا فعل صحابيّين . وسيأتي بيان أقوال الفقهاء فيما يجوز استعماله من الصّور وما لا يجوز ، وتوفيقهم بين هذه الأحاديث المتعارضة .
البيت الّذي فيه الصّور لا تدخله الملائكة :
42 - ثبت هذا بهذا اللّفظ من قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الصّحيحين وغيرهما من رواية عائشة ، وابن عبّاس ، وابن عمر . وفي غير الصّحيحين من رواية عليّ وميمونة وأبي سعيد وأبي طلحة وزيد بن خالد وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين .
قال النّوويّ : قال العلماء : سبب امتناعهم من دخول بيت فيه صورة كونها معصية فاحشة، وفيها مضاهاة لخلق اللّه تعالى ، وبعضها في صورة ما يعبد من دون اللّه ، فعوقب متّخذها بحرمانه دخول الملائكة بيته ، وصلاتها فيه ، واستغفارها له ، وتبريكها عليه وفي بيته ، ودفعها أذى الشّيطان . وقال القرطبيّ كما في الفتح : إنّما لم تدخل لأنّ متّخذ الصّور قد تشبّه بالكفّار الّذين يتّخذون الصّور في بيوتهم ويعظّمونها ، فكرهت الملائكة ذلك .
قال النّوويّ : وهؤلاء الملائكة الّذين لا يدخلون بيتا فيه صورة هم ملائكة الرّحمة .
وأمّا الحَفَظَة فيدخلون كلّ بيت ، ولا يفارقون بني آدم في حال ، لأنّهم مأمورون بإحصاء أعمالهم وكتابتها . ثمّ قال النّوويّ : وهو عامّ في كلّ صورة حتّى ما يمتهن .
ونقل الطّحطاويّ عنه : أنّها تمتنع من الدّخول حتّى من الصّور الّتي على الدّراهم والدّنانير . وفي قول النّوويّ هذا مبالغة وتشدّد ظاهر ، فإنّ في حديث عائشة رضي الله عنها : « أنّها هتكت السّتر وجعلت منه وسادتين ، فكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتّكئ عليهما وفيهما الصّور » . وكان لا يتحرّج من إبقاء الدّنانير أو الدّراهم في بيته وفيها الصّور . ولو كان ذلك يمنع دخول الملائكة بيته ما أبقاها فيه . ولذا قال ابن حجر : يترجّح قول من قال : إنّ الصّورة الّتي تمتنع الملائكة من دخول المكان الّذي تكون فيه هي الّتي تكون على هيئتها مرتفعة غير ممتهنة ، فأمّا لو كانت ممتهنة ، أو غير ممتهنة لكنّها غيّرت هيئتها بقطعها من نصفها أو بقطع رأسها ، فلا امتناع .
وفي كلام ابن عابدين ما يدلّ على أنّ ظاهر مذهب الحنفيّة : أنّ كلّ صورة لا يكره إبقاؤها في البيت ، لا تمنع دخول الملائكة ، سواء الصّور المقطوعة أو الصّور الصّغيرة أو الصّور المهانة ، أو المغطّاة ونحو ذلك ، ولأنّه ليس في هذه الأنواع تشبّه بعبّادها ، لأنّهم لا يعبدون الصّور الصّغيرة أو المهانة ، بل ينصبونها صورة كبيرة ، ويتوجّهون إليها .
وقال ابن حبّان : إنّ عدم دخول الملائكة بيتا فيه صور خاصّ بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم . قال : وهو نظير الحديث الآخر : « لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس » إذ هو محمول على رفقة فيها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذ محال أن يخرج الحاجّ والمعتمر لقصد البيت على رواحل لا تصحبها الملائكة وهم وفد اللّه . ومآل هذا القول أنّ المراد بالملائكة ملائكة الوحي ، وهو جبريل عليه السلام دون غيره من الملائكة .
ونقله ابن حجر عن الدّاوديّ وابن وضّاح ، ومآله إلى اختصاص النّهي بعهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبالمكان الّذي يكون فيه ، وأنّ الكراهة انتهت بوفاته صلى الله عليه وسلم لأنّ الوحي قد انقطع من السّماء .
اقتناء واستعمال صور المصنوعات البشريّة والجوامد والنّباتات :
43 - يجوز اقتناء واستعمال صور المصنوعات البشريّة والجوامد والنّباتات ، وسواء أكانت منصوبة أو معلّقة أو موضوعة ممتهنة ، وكذلك لو كانت منقوشة في الحوائط أو السّقوف أو الأرض ، وسواء كانت مسطّحة كما هو معهود ، أو مجسّمة كالزّهور والنّباتات الاصطناعيّة ، ونماذج السّفن والطّائرات والسّيّارات والمنازل والجبال وغيرها ، ومجسّمات تماثيل القبّة السّماويّة بما فيها من الكواكب والنّجوم والقمرين . وسواء استعمل ذلك لحاجة ونفع ، أو لمجرّد الزّينة والتّجميل : فكلّ ذلك لا حرج فيه شرعاً ، إلا أن يحرم لعارض ، كما لو كان خارجا عن المعتاد إلى حدّ الإسراف ، على الأصل في سائر المقتنيات .
اقتناء واستعمال صور الإنسان والحيوان :
44 - يجمع العلماء على تحريم استعمال نوع من الصّور ، وهو ما كان صنماً يعبد من دون اللّه تعالى . وأمّا ما عدا ذلك فإنّه لا يخلو شيء منه من خلاف .
إلا أنّ الّذي تكاد تتّفق كلمة الفقهاء على منعه : هو ما جمع الأمور التّالية :
أ - أن يكون صورة لذي روح إن كانت الصّورة مجسّمة .
ب - أن تكون كاملة الأعضاء ، غير مقطوعة عضو من الأعضاء الظّاهرة الّتي لا تبقى الحياة مع فقدها .
ج - أن تكون منصوبة أو معلّقة في مكان تكريم ، لا إن كانت ممتهنة .
د - أن لا تكون صغيرة .
هـ - أن لا تكون من لعب الأطفال أو نحوها .
و - أن لا تكون ممّا يسرع إليه الفساد . وقد خالف فيما جمع هذه الشّروط قوم لم يسمّوا ، كما تقدّم نقله إلّا أنّه خلاف ضعيف . ونحن نبيّن حكم كلّ نوع ممّا خرج عن هذه الشّروط . أ - استعمال واقتناء الصّور المسطّحة :
45 - يرى المالكيّة ومن وافقهم أنّ استعمال الصّور المسطّحة ليس محرّما ، بل هو مكروه إن كانت منصوبة ، فإن كانت ممتهنة فاستعمالها خلاف الأولى .
أمّا عند غير المالكيّة : فالصّور المسطّحة والمجسّمة سواء في التّحريم من حيث الاستعمال، إذا تمّت الشّروط على ما تقدّم .
ب - استعمال واقتناء الصّور المقطوعة :
46 - إذا كانت الصّورة - مجسّمة كانت أو مسطّحة - مقطوعة عضو لا تبقى الحياة معه ، فإنّ استعمال الصّورة حينئذ جائز ، وهذا قول جماهير العلماء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . وقد وافق على الإباحة هنا بعض من خالف ، فرأى تحريم التّصوير ولكن لم يرد تحريم الاقتناء ، كالشّافعيّة .
وسواء أكانت الصّورة قد صنعت مقطوعة من الأصل ، أو صوّرت كاملة ثمّ قطع منها شيء لا تبقى الحياة معه . وسواء أكانت منصوبة أو غير منصوبة كما يأتي في المسألة التّالية .
47 - والحجّة لذلك ما مرّ « أنّ جبريل قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْ برأس التّمثال فليقطع حتّى يكون كهيئة الشّجرة » وفي رواية أنّه قال : « إنّ في البيت ستراً ، وفي الحائط تماثيل ، فاقطعوا رءوسها فاجعلوها بساطا أو وسائد فأوطئوه ، فإنّا لا ندخل بيتاً فيه تماثيل » ولا يكفي أن تكون قد أزيل منها العينان أو الحاجبان أو الأيدي أو الأرجل ، بل لا بدّ أن يكون العضو الزّائل ممّا لا تبقى الحياة معه ، كقطع الرّأس أو محو الوجه ، أو خرق الصّدر أو البطن . قال ابن عابدين : وسواء أكان القطع بخيط خيّط على جميع الرّأس حتّى لم يبق له أثر ، أو بطليه بمغرة ، أو بنحته ، أو بغسله .
وأمّا قطع الرّأس عن الجسد بخيط مع بقاء الرّأس على حاله فلا ينفي الكراهة ، لأنّ من الطّيور ما هو مطوّق فلا يتحقّق القطع بذلك . وقال صاحب شرح الإقناع من الحنابلة : إن قطع من الصّورة رأسها فلا كراهة ، أو قطع منها ما لا تبقى الحياة بعد ذهابه فهو كقطع الرّأس كصدرها أو بطنها ، أو جعل لها رأسا منفصلا عن بدنها لأنّ ذلك لم يدخل في النّهي. وقال صاحب منح الجليل من المالكيّة : إنّ ما يحرم ما يكون كامل الأعضاء الظّاهرة الّتي لا يعيش بدونها ولها ظلّ . غير أنّ الشّافعيّة اختلفوا فيما لو كان الباقي الرّأس ، على وجهين : أحدهما : يحرم وهو الرّاجح ، والآخر : لا يحرم . وقطع أيّ جزء لا تبقى الحياة معه يبيح الباقي ، كما لو قطع الرّأس وبقي ما عداه . جاء في أسنى المطالب وحاشيته : وكذا إن قطع رأسها ، قال : الكوهكيوني : وكذا حكم ما صوّر بلا رأس ، وأمّا الرّءوس بلا أبدان فهل تحرم ؟ فيه تردّد . والحرمة أرجح . قال الرّمليّ : وهو وجهان في الحاوي ، وبناهما على أنّه هل يجوز تصوير حيوان لا نظير له : إن جوّزناه جاز ذلك وإلّا فلا ، وهو الصّحيح. وفي حاشية الشّروانيّ وابن قاسم : إنّ فقد النّصف الأسفل كفقد الرّأس .
48 - ويكفي للإباحة أن تكون الصّورة قد خرق صدرها أو بطنها ، بذلك صرّح الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة . قال ابن عابدين : هل من ذلك ما لو كانت مثقوبة البطن مثلا : الظّاهر أنّه لو كان الثّقب كبيرا يظهر به نقصها فنعم ، وإلا فلا ، كما لو كان الثّقب لوضع عصا تمسك بها ، كمثل صور خيال الظّلّ الّتي يلعب بها ، لأنّها تبقى معه صورة تامّة ، وهذا الّذي قاله في صور الخيال خالفه فيه بعض الشّافعيّة ، فرأوا أنّ الخرق الّذي يكون في وسطها كاف في إزالة الكراهة كما صرّح بذلك الشّيخ إبراهيم الباجوريّ ، ويأتي النّقل عنه في بحث النّظر إلى الصّور
ج - استعمال واقتناء الصّور المنصوبة والصّور الممتهنة :
49 - يرى الجمهور أنّ الصّور لذوات الأرواح - مجسّمة كانت أو غير مجسّمة - يحرم اقتناؤها على هيئة تكون فيها معلّقة أو منصوبة ، وهذا في الصّور الكاملة الّتي لم يقطع فيها عضو لا تبقى الحياة معه ، فإن قطع منها عضو - على التّفصيل المتقدّم في الفقرة السّابقة - جاز نصبها وتعليقها ، وإن كانت مسطّحة جاز تعليقها مع الكراهة عند المالكيّة . ونقل عن القاسم بن محمّد إجازة تعليق الصّور الّتي في الثّياب ، وهو راوي حديث عائشة في لعن المصوّرين ، وكان من خير أهل المدينة فقهاً وورعاً .
وأمّا إذا اقتنيت الصّورة - وهي ممتهنة - فلا بأس بذلك عند الجمهور ، كما لو كانت في الأرض أو في بساط مفروش أو فراش أو نحو ذلك . وقد نصّ الحنابلة والمالكيّة على أنّها غير مكروهة أيضاً ، إلا أنّ المالكيّة قالوا : إنّها حينئذ خلاف الأولى .
ووجّهوا التّفريق بين المنصوب والممتهن : بأنّها إذا كانت مرفوعة تكون معظّمة وتشبه الأصنام . أمّا الّذي في الأرض ونحوه فلا يشبهها ، لأنّ أهل الأصنام ينصبونها ويعبدونها ولا يتركونها مهانة . وقد يظنّ أنّه لا يجوز بقاء الصّورة المقطوعة منصوبة ، إلا أنّه قد ورد في السّنّة ما يدلّ على جوازها ، وهو ما نقلناه سابقاً من « أنّ جبريل عليه السلام قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم مُرْ برأس التّمثال فليقطع حتّى يكون كهيئة الشّجرة » وقوله في حديث آخر : « فإن كنت لا بدّ فاعلاً فاقطع رءوسها أو اقطعها وسائد أو اجعلها بسطاً » فإنّها تدلّ على جواز بقائها بعد القطع منصوبة . ومن الدّليل على بقاء الصّورة الممتهنة في البيت الحديث المتقدّم عن عائشة رضي الله عنها : « أنّها قطعت السّتر وجعلته وسادتين ، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتّكئ عليهما وفيهما الصّور » .
وقد ورد عن عكرمة قال : كانوا يكرهون ما نصب من التّماثيل ولا يرون بأساً بما وطئته الأقدام . وكان القاسم بن محمّد يتّكئ على مخدّة فيها تصاوير .
ولذا قال ابن حجر بعد ذكر قطع رأس التّمثال : في هذا الحديث ترجيح قول من ذهب إلى أنّ الصّورة الّتي تمتنع الملائكة من دخول البيت الّذي هي فيه : ما تكون فيه منصوبة باقية على هيئتها . أمّا لو كانت ممتهنة ، أو كانت غير ممتهنة لكنّها غيّرت هيئتها إمّا بقطع رأسها أو بقطعها من نصفها فلا امتناع .
50 - والنّصب المنهيّ عنه قال بعض الشّافعيّة : أيّ نصب كان . حتّى إنّ استعمال إبريق فيه صور تردّد فيه صاحب المهمّات ، ومال إلى المنع ، أي لأنّه يكون منصوباً .
وقالوا في الوساد : إن استعملت منصوبة حرم ، وإن استعملت غير منصوبة جاز .
وذهب بعض آخر من العلماء إلى أنّ النّصب المنهيّ عنه خاصّة ما يظهر فيه التّعظيم ، فقد قال الجوينيّ : إنّ ما على السّتور والثّياب من الصّور لا يحرم ، لأنّ ذلك امتهان له .
وهذا يوافق ما تقدّم عن القاسم بن محمّد .
وقال الرّافعيّ : إنّ نصب الصّور في حمّام أو ممرّ لا يحرم ، بخلاف ما كان منصوبا في المجالس وأماكن التّكريم . أي لأنّها في الممرّ والحمّام مهانة ، وفي المجالس مكرّمة . وظاهر كلام صاحب المغني من الحنابلة أنّ نصب الصّور في الحمّام ونحوه محرّم .
هذا ، وممّا نصّ الشّافعيّة على أنّه من الصّور المهانة : ما كان في نحو قصعة وخوان وطبق . ويلتحق بالممتهنة - عند بعض الشّافعيّة - الصّور الّتي على النّقود . قال الرّمليّ : وعندي أنّ الدّنانير الرّوميّة الّتي عليها الصّور من القسم الّذي لا ينكر ، لامتهانها بالإنفاق والمعاملة ، وقد كان السّلف رضي الله عنهم يتعاملون بها من غير نكير ، ولم تحدث الدّراهم الإسلاميّة إلا في عهد عبد الملك بن مروان كما هو معروف . وقال مثله الزّركشيّ .
51 - هذا بيان حكم ما ظهر فيه التّعظيم ، أو ظهرت فيه الإهانة . أمّا ما لم يظهر فيه أيّ من المعنيين ، وذلك في مثل الصّورة المطبوعة في كتاب ، أو الموضوعة في درج أو خزانة أو على منضدة ، من غير نصب . ففي كلام القليوبيّ نقلا عن ابن حجر وغيره : يجوز لبس ما عليه صورة الحيوان ودوسه ووضعه في صندوق أو مغطّى .
وفي مختصر المزنيّ ما يدلّ على قصر التّحريم على المنصوب ، وذلك في قوله : وصورة ذات روح إن كانت منصوبة .
وروى ابن شيبة عن حمّاد عن إبراهيم أنّه قال : لا بأس في حلية السّيف ولا بأس بها - أي بالتّماثيل - في سماء البيت - أي السّقف - ، وإنّما يكره منها ما نصب نصباً .
وأصل ذلك مرويّ عن سالم بن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهم ، ففي مسند الإمام أحمد عن ليث بن أبي سليم أنّه قال : دخلت على سالم وهو متّكئ على وسادة فيها تماثيل طير ووحش ، فقلت : أليس يكره هذا ؟ قال : لا ، إنّما يكره منها ما نصب نصباً .
استعمال لعب الأطفال المجسّمة وغير المجسّمة :
52 - تقدّم أنّ قول الجمهور جواز صناعة اللّعب المذكورة . فاستعمالها جائز من باب أولى ، ونقل القاضي عياض جوازه عن العلماء ، وتابعه النّوويّ في شرح صحيح مسلم ، قال : قال القاضي : يرخّص لصغار البنات . والمراد بصغار البنات من كان غير بالغ منهنّ . وقال الخطّابيّ : وإنّما أرخص لعائشة فيها لأنّها إذ ذاك كانت غير بالغ . قال ابن حجر : وفي الجزم به نظر ، لكنّه محتمل ، لأنّ عائشة رضي الله عنها كانت في غزوة خيبر بنت أربع عشرة ، وأمّا في غزوة تبوك فكانت قد بلغت قطعا فهذا يدلّ على أنّ التّرخيص ليس قاصراً على من دون البلوغ منهنّ، بل يتعدّى إلى مرحلة ما بعد البلوغ ما دامت الحاجة قائمة لذلك. 53 - والعلّة في هذا التّرخيص تدريبهنّ عن شأن تربية الأولاد ، وتقدّم النّقل عن الحليميّ : أنّ من العلّة أيضاً استئناس الصّبيان وفرحهم . وإنّ ذلك يحصل لهم به النّشاط والقوّة والفرح وحسن النّشوء ومزيد التّعلّم . فعلى هذا لا يكون الأمر قاصراً على الإناث من الصّغار ، بل يتعدّاه إلى الذّكور منهم أيضاً .
وممّن صرّح به أبو يوسف : ففي القنية عنه : يجوز بيع اللّعبة ، وأن يلعب بها الصّبيان .
54 - وممّا يؤكّد جواز اللّعب المصوّرة للصّبيان - بالإضافة إلى البنات - ما ثبت في الصّحيحين عن الرّبيّع بنت معوّذ الأنصاريّة رضي الله عنها أنّها قالت :
« أرسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار الّتي حول المدينة : من كان أصبح صائماً فليتمّ صومه ، ومن كان أصبح مفطراً فليتمّ بقيّة يومه . فكنّا بعد ذلك نصومه ونصوّم صبياننا الصّغار منهم إن شاء اللّه ، ونذهب بهم إلى المسجد ، فنجعل - وفي رواية : فنصنع - لهم اللّعبة من العهن ، فإذا بكى أحدهم على الطّعام أعطيناه إيّاه حتّى يكون عند الإفطار » .
55 - وانفرد الحنابلة باشتراط أن تكون اللّعبة المصوّرة بلا رأس ، أو مقطوعة الرّأس كما تقدّم ، ومرادهم أنّه لو كان الباقي الرّأس ، أو كان الرّأس منفصلا عن الجسد جاز ، كما تقدّم . وقالوا : للوليّ شراء لعب غير مصوّرة لصغيرة تحت حجره من مالها نصّاً، للتّمرين.
لبس الثّياب الّتي فيها الصّور :
56 - يكره عند الحنفيّة والمالكيّة لبس الثّياب الّتي فيها الصّور ، قال صاحب الخلاصة من الحنفيّة : صلّى فيها أو لا . لكن تزول الكراهة عند الحنفيّة بما لو لبس الإنسان فوق الصّورة ثوبا آخر يغطّيها ، فإن فعل فلا تكره الصّلاة فيه .
وعند الشّافعيّة : يجوز لبس الثّياب الّتي فيها صور حيث نصّوا على أنّ الصّورة في الثّوب الملبوس منكر ، لكنّ اللّبس امتهان له فيجوز حينئذ . كما لو كان ملقى بالأرض ويداس . والأوجه كما قال الشّروانيّ أنّه لا يكون من المنكر إذا كان ملقى بالأرض ( أي مطلقا ) .
أمّا الحنابلة : فقد اختلف قولهم في لبس الثّوب الّذي فيه الصّورة على وجهين :
أحدهما : التّحريم ، وهو قول أبي الخطّاب قدّمه في الفروع والمحرّر .
والآخر : أنّه مكروه فقط وليس محرّما ، قدّمه ابن تميم .
ووجه القول بعدم التّحريم أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إلا رقماً في ثوب » .
استعمال واقتناء الصّور الصّغيرة في الخاتم والنّقود أو نحو ذلك :
57 - يصرّح الحنفيّة أنّ الصّور الصّغيرة لا يشملها تحريم الاقتناء والاستعمال ، بناء على أنّه ليس من عادة عبّاد الصّور أن يستعملوها كذلك . وضبطوا حدّ الصّغر بضوابط مختلفة . قال بعضهم : أن تكون بحيث لا تبدو للنّاظر إلا بتبصّر بليغ .
وقال بعضهم : أن لا تبدو من بعيد . وقال صاحب الدّرّ : هي الّتي لا تتبيّن تفاصيل أعضائها للنّاظر قائما وهي على الأرض . وقيل : هي ما كانت أصغر من حجم طائر . وهذا يذكرونه في بيان أنّها لا تكره للمصلّي . لكن قال ابن عابدين : ظاهر كلام علمائنا أنّ ما لا يؤثّر كراهة في الصّلاة لا يكره إبقاؤه . وقد صرّح في الفتح وغيره بأنّ الصّورة الصّغيرة لا تكره في البيت ، ونقل أنّه كان على خاتم أبي هريرة ذبابتان .
وفي التتارخانية : لو كان على خاتم فضّة تماثيل لا يكره ، وليست كتماثيل في الثّياب ، لأنّه صغير . وقد تقدّم النّقل عن بعض الصّحابة أنّهم استعملوا الصّور في الخواتم ، فكان نقش خاتم عمران بن حصين رضي الله عنه رجلاً متقلّدا سيفاً ، وكان نقش خاتم حذيفة رضي الله عنه كركيّين ، وكان على خاتم النّعمان بن مقرّن رضي الله عنه إيّل .
ولا يختلف حكم الصّور الصّغيرة عن الصّور الكبيرة عند غير الحنفيّة . إلا أنّ الصّور الّتي على الدّراهم والدّنانير جائزة عند الشّافعيّة لا لصغرها ، ولكن لأنّها ممتهنة كما تقدّم .
وقد صرّح الحنابلة أنّه لا ينبغي لبس الخاتم الّذي فيه الصّورة .
النّظر إلى الصّور :
58 - يحرم التّفرّج على الصّور المحرّمة عند المالكيّة والشّافعيّة . لكن إذا كانت مباحة الاستعمال - كما لو كانت مقطوعة أو مهانة - فلا يحرم التّفرّج عليها .
قال الدّردير في تعليل تحريم النّظر : لأنّ النّظر إلى الحرام حرام .
ولا يحرم النّظر إلى الصّورة المحرّمة من حيث هي صور عند الحنابلة .
ونقل ابن قدامة أنّ النّصارى صنعوا لعمر رضي الله عنه حين قدم الشّام طعاماً فدعوه ، فقال :" أين هو ؟ قال : في الكنيسة . فأبى أن يذهب : وقال لعليّ رضي الله عنه : امض بالنّاس فليتغدّوا . فذهب عليّ رضي الله عنه بالنّاس فدخل الكنيسة ، وتغدّى هو والنّاس ، وجعل عليّ ينظر إلى الصّور ، وقال : ما على أمير المؤمنين لو دخل فأكل ".
ولم نجد نصّاً عند الحنفيّة في ذلك . لكن قال ابن عابدين : هل يحرم النّظر بشهوة إلى الصّورة المنقوشة ؟ محلّ تردّد ، ولم أره ، فليراجع .
فظاهره أنّه مع عدم الشّهوة لا يحرم . على أنّه قد علم من مذهب الحنفيّة دون سائر المذاهب : أنّ الرّجل إذا نظر إلى فرج امرأة بشهوة ، فإنّها تنشأ بذلك حرمة المصاهرة ، لكن لو نظر إلى صورة الفرج في المرآة فلا تنشأ تلك الحرمة ، لأنّه يكون قد رأى عكسه لا عينه . ففي النّظر إلى الصّورة المنقوشة لا تنشأ حرمة المصاهرة من باب أولى .
59 - وعند الشّافعيّة : لا يحرم النّظر - ولو بشهوة - في الماء أو المرآة .
قالوا : لأنّ هذا مجرّد خيال امرأة وليس امرأة .
وقال الشّيخ الباجوريّ : يجوز التّفرّج على صور حيوان غير مرفوعة . أو على هيئة لا تعيش معها ، كأن كانت مقطوعة الرّأس أو الوسط ، أو مخرّقة البطون .
قال : ومنه يعلم جواز التّفرّج على خيال الظّلّ المعروف ، لأنّها شخوص مخرّقة البطون .
وفي صحيح البخاريّ عن عائشة رضي الله عنها قالت : « قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أريتك في المنام ، يجيء بك الملك في سرقة من حرير ، فقال لي : هذه امرأتك ، فكشفت عن وجهك الثّوب ، فإذا أنت هي » قال ابن حجر : عند الآجرّيّ من وجه آخر عن عائشة : « لقد نزل جبريل بصورتي في راحته حين أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يتزوّجني » ففي هذا الحديث نظر الرّجل إلى المرأة الّتي يحلّ له النّظر إليها ، ما لم تكن الصّورة محرّمة ، على ما تقدّم من التّفصيل والخلاف . واللّه أعلم .
الدّخول إلى مكان فيه صور :
60 - يجوز الدّخول إلى مكان يعلم الدّاخل إليه أنّ فيه صوراً منصوبة على وضع محرّم ، ولو كان يعلم بذلك قبل الدّخول ، ولو دخل لا يجب عليه الخروج .
هذا كلّه مذهب الحنابلة . قال أحمد في رواية الفضل عنه ، لمن سأله قائلاً : إن لم ير الصّور إلا عند وضع الخوان بين أيديهم . أيخرج ؟ قال : لا تضيِّق علينا . إذا رأى الصّور وبّخهم ونهاهم . يعني : ولا يخرج . قال المرداويّ في تصحيح الفروع : هذا هو الصّحيح من قولين عندهم ، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد . وقطع به في المغني ، قال : لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فرأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام ، فقال : قاتلهم اللّه ، لقد علموا أنّهما لم يستقسما بها قطّ » قالوا : ولأنّه كان في شروط عمر رضي الله عنه على أهل الذّمّة أن يوسّعوا أبواب كنائسهم للمسلمين ، ليدخلوها للمبيت بها ، وللمارّة بدوابّهم . وذكروا قصّة عليّ في دخولها بالمسلمين ونظره إلى الصّورة كما تقدّم . قالوا : ولا يمنع من ذلك ما ورد « أنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة » ، لأنّ ذلك لا يوجب علينا تحريم دخوله ، كما لا يوجب علينا الامتناع من دخول بيت فيه كلب أو جنب أو حائض ، مع أنّه قد ورد أنّ الملائكة لا تدخله .
61 - ومثل هذا مذهب المالكيّة في الصّور المجسّمة الّتي ليست على وضع محرّم عندهم ، أو غير المجسّمة . أمّا المحرّمة فإنّها تمنع وجوب إجابة الدّعوة على ما يأتي .
ولم نجد في كلامهم ما يبيّن حكم الدّخول إلى مكان هي فيه .
62 - واختلف مذهب الشّافعيّة في ذلك ، والرّاجح عندهم - وهو القول المرجوح عند الحنابلة - أنّه يحرم الدّخول إلى مكان فيه صور منصوبة على وضع محرّم .
قالوا : لأنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة . قال الشّافعيّ رحمه الله :" إن رأى صوراً في الموضع ذوات أرواح لم يدخل المنزل الّذي فيه تلك الصّور إن كانت منصوبة لا توطأ ، فإن كانت توطأ فلا بأس أن يدخله ". والقول الثّاني للشّافعيّة : عدم تحريم الدّخول ، بل يكره . وهو قول صاحب التّقريب والصّيدلانيّ ، والإمام ، والغزاليّ في الوسيط ، والإسنويّ .
قالوا : وهذا إن كانت الصّور في محلّ الجلوس ، فإن كانت في الممرّ أو خارج باب الجلوس لا يكره الدّخول ، لأنّها تكون كالخارجة من المنزل . وقيل : لأنّها في الممرّ ممتهنة .
إجابة الدّعوة إلى مكان فيه صور :
63 - إجابة الدّعوة إلى الوليمة - وهي طعام العرس - واجبة عند الجمهور ، لحديث
« من لم يجب الدّعوة فقد عصى اللّه ورسوله » وقيل هي : سنّة . وإجابة الدّعوة لغيرها مستحبّة . وفي جميع الأحوال إذا كان في المكان صور على وضع محرّم - ومثلها أي منكر ظاهر - وعلم بذلك المدعوّ قبل مجيئه ، فقد اتّفق الفقهاء على أنّ الإجابة لا تكون واجبة ، لأنّ الدّاعي يكون قد أسقط حرمة نفسه بارتكابه المنكر ، فتترك الإجابة عقوبة له وزجراً عن فعله . وقال البعض - كالشّافعيّة - : تحرم الإجابة حينئذ .
ثمّ قيل : إنّه إذا علم أنّها بحضوره تزال ، أو يمكنه إزالتها ، فيجب الحضور لذلك .
وفي المسألة اختلاف وتفصيل ينظر تحت عنوان ( دعوة )
ما يصنع بالصّورة المحرّمة إذا كانت في شيء ينتفع به :
64 - ينبغي إخراج الصّورة عن وضعها المحرّم إلى وضع تخرج فيه عن الحرمة ، ولا يلزم إتلافها بالكلّيّة ، بل يكفي حطّها إن كانت منصوبة . فإن كان لا بدّ من بقائها في مكانها ، فيكفي قطع الرّأس عن البدن ، أو خرق الصّدر أو البطن ، أو حكّ الوجه من الجدار ، أو محوه أو طمسه بطلاء يذهب معالمه ، أو يغسل الصّورة إن كانت ممّا يمكن غسله . وإن كانت في ثوب معلّق أو ستر منصوب ، فيكفي أن ينسج عليها ما يغطّي رأسها .
قال ابن عابدين : ولو أنّه قطع الرّأس عن الجسد بخيط - مع بقاء الرّأس على حاله - فلا ينفي الكراهة ، لأنّ من الطّيور ما هو مطوّق ، فلا يتحقّق القطع بذلك .
65 - والدّليل لهذه المسألة ما في حديث عليّ رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه إلى المدينة وأمره أن يسوّي كلّ قبر ، ويكسر كلّ صنم ، ويطمس كلّ صورة » . وفي روايات مسند أحمد للحديث وردت العبارات الآتية : أن يلطّخ الصّورة ، أو أن يلطّخها ، أو ينحتها ، أو يضعها ، ورواية الوضع صحيحة . وليس في شيء من تلك الرّوايات كسر الصّورة أو إتلافها كما نصّ على كسر الأصنام . ومن الدّليل أيضا حديث عائشة رضي الله عنها في شأن السّتر الّذي فيه الصّور ، وفيه أنّه قال : « أخّريه عنّي » ، وفي رواية « أنّه هتكه بيده » ، وفي أخرى « أنّه أمر بجعله وسائد » .
الصّور والمصلّي :
66 - اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ من صلّى وفي قبلته صورة حيوان محرّمة فقد فعل مكروها ، لأنّه يشبه سجود الكفّار لأصنامهم ، وإن لم يقصد التّشبّه .
أمّا إن كانت الصّورة في غير القبلة : كأن كانت في البساط ، أو على جانب المصلّي في الجدار ، أو خلفه ، أو فوق رأسه في السّقف ، فقد اختلفت كلمتهم في ذلك . فقال الحنفيّة - كما في الدّرّ وحاشية الطّحطاويّ - يكره للمصلّي لبس ثوب فيه تماثيل ذي روح ، وأن يكون فوق رأسه ، أو بين يديه ، أو بحذائه يمنة أو يسرة ، أو محلّ سجوده تمثال .
واختلف فيما إذا كان التّمثال خلفه . والأظهر : الكراهة . ولا يكره لو كانت تحت قدميه أو محلّ جلوسه إن كان لا يسجد عليها ، أو في يده ، أو كانت مستترة بكيس أو صرّة أو ثوب ، أو كانت صغيرة ، لأنّ الصّغيرة لا تعبد ، فليس لها حكم الوثن .
ونصّ الشّافعيّة - كما في أسنى المطالب - على أنّه يكره للمصلّي أن يلبس ثوباً فيه تصوير ، وأن يصلّي إليه أو عليه . ونصّ الحنابلة على أنّه تكره الصّلاة إلى صورة منصوبة ، نصّ عليه أحمد . قال البهوتيّ : وظاهره ولو كانت الصّورة صغيرة لا تبدو للنّاظر إليها ، ولا تكره إلى غير منصوبة ، ولا يكره سجود ولو على صورة ، ولا صورة خلفه في البيت ، ولا فوق رأسه في السّقف أو عن أحد جانبيه . وأمّا السّجود على الصّورة فيكره عند الشّيخ تقيّ الدّين يعني ابن تيميّة ، وقال في الفروع : لا يكره ، لأنّه لا يصدق عليه أنّه صلّى إليها. ويكره حمله فصّاً فيه صورة أو حمله ثوباً ونحوه كدينار أو درهم فيه صورة .
ولم نجد للمالكيّة تعرّضا لهذه المسألة ، إلا أنّهم ذكروا تزويق قبلة المسجد أو أيّ جزء منه كما يأتي بعد هذا .
الصّور في الكعبة والمساجد وأماكن العبادة :
67 - ينبغي تنزيه أماكن العبادة عن وجود الصّور فيها ، لئلا يئول الأمر إلى عبادتها ، كما تقدّم من قول ابن عبّاس : أنّ أصل عبادة قوم نوح لأصنامهم ، أنّهم كانوا رجالاً صالحين ، فلمّا ماتوا صوّروهم ثمّ عبدوهم . وأيضاً فقد تقدّم أنّ من الفقهاء من يقول بكراهة الصّلاة مع وجود الصّورة ، ولو كانت إلى جانب المصلّي أو خلفه أو في مكان سجوده .
والمساجد تجنّب المكروهات كما تجنّب المحرّمات .
68 - وقد ورد من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فوجد فيها صورة إبراهيم وصورة مريم عليهما السلام فقال : أمّا هم فقد سمعوا أنّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة ، هذا إبراهيم مصوّر فما له يستقسم » وفي رواية « أنّه لمّا رأى الصّور في البيت لم يدخل حتّى أمر بها فمحيت ، ورأى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما الأزلام . فقال : قاتلهم اللّه ، واللّه إن استقسما بالأزلام قطّ » . وورد « أنّ النّبيّ أمر بالصّور كلّها فمحيت ، فلم يدخل الكعبة وفيها من الصّور شيء » . وفي الصّحيحين عن عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا اشتكى ذكر بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية ، وكانت أمّ سلمة وأمّ حبيبة أتتا أرض الحبشة ، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها ، فرفع رأسه فقال : أولئك إذا مات فيهم الرّجل الصّالح بنوا على قبره مسجدا ، ثمّ صوّروا فيه تلك الصّور ، أولئك شرار الخلق » فهذا يفيد تحريم الصّور في المساجد . واللّه أعلم .
الصّور في الكنائس والمعابد غير الإسلاميّة :
69 - الكنائس والمعابد الّتي أقرّت في بلاد الإسلام بالصّلح لا يتعرّض لما فيها من الصّور ما دامت في الدّاخل . ولا يمنع ذلك من دخول المسلم الكنيسة عند الجمهور . وتقدّم ما نقله صاحب المغني أنّ عليّا رضي الله عنه دخل الكنيسة بالمسلمين ، وأخذ يتفرّج على الصّور . وأنّ عمر رضي الله عنه أخذ على أهل الذّمّة أن يوسّعوا أبواب كنائسهم ، ليدخلها المسلمون والمارّة . ولذا قال الحنابلة : للمسلم دخول الكنيسة والبيعة ، والصّلاة فيهما من غير كراهة على الصّحيح من المذهب .
وفي قول آخر للحنابلة ، وهو قول الحنفيّة : يكره دخولها لأنّها مأوى الشّياطين .
وقال أكثر الشّافعيّة : يحرم على المسلم أن يدخل الكنيسة الّتي فيها صور معلّقة .
رابعاً : أحكام الصّور :
أ - الصّور وعقود التّعامل :
70 - الصّور الّتي صناعتها حلال - كالصّور المسطّحة مطلقا عند المالكيّة ، والصّور المقطوعة ، ولعب الأطفال ، والصّور من الحلوى ، وما يسرع إليه الفساد ، ونحو ذلك - على التّفصيل والخلاف الّذي تقدّم - يصحّ شراؤها وبيعها والأمر بعملها والإجارة على صنعها . وثمنها حلال والأجرة المأخوذة على صناعتها حلال .
وكذلك سائر عقود التّعامل الّتي تجري عليها . ويجوز للوليّ أن يشتري لمحجورته اللّعب من مالها ، لما فيها من مصلحة التّمرين كما تقدّم . أمّا الصّور المحرّمة صناعتها ، فإنّها على القاعدة العامّة في المحرّمات لا تحلّ الإجارة على صنعها ، ولا تحلّ الأجرة ولا الأمر بعملها ، ولا الإعانة على ذلك . قال القليوبيّ : ويسقط المروءة حرفة محرّمة كالمصوّر .
وشذّ الماورديّ فجعل للمصوّر أجرة المثل كما في تحفة المحتاج .
71 - وأمّا ما يحرم اقتناؤه واستعماله ، فلا يصحّ شراؤه ولا بيعه ولا هبته ولا إيداعه ولا رهنه ، ولا الإجارة على حفظه ، ولا وقفه ، ولا الوصيّة به كسائر المحرّمات .
وقد « قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام » .ومن أخذ على شيء من ذلك ثمنا أو أجرة فهو كسب خبيث يلزمه التّصدّق به. قال ابن تيميّة : ولا يعاد إلى صاحبه ، لأنّه قد استوفى العوض ، كما نصّ عليه الإمام أحمد في مثل حامل الخمر ، ونصّ عليه أصحاب مالك وغيرهم .
72 - وهذا إن كانت الصّور المحرّمة فيما لا منفعة فيه إلّا ما فيه من الصّورة المحرّمة ، أمّا لو كانت تصلح لمنفعة بعد شيء من التّغيير ، فظاهر كلام بعض الشّافعيّة منعه .
وقال الرّمليّ الشّافعيّ : مقتضى كلام الإمام في باب الوصيّة صحّة البيع في هذه الحال ، وينبغي أن لا يكون فيه خلاف . ويؤيّده ما نقله في الرّوضة عن المتولّي - ولم يخالفه - في جواز بيع النّرد إذا صلح لبيادق الشّطرنج ، وإلّا فلا . ومثله ما في الدّرّ وحاشية ابن عابدين : اشترى ثورا أو فرسا من خزف لأجل استئناس الصّبيّ ، لا يصحّ ، ولا قيمة له . وقيل بخلافه يصحّ ويضمن متلفه ، فلو كانت من خشب أو صفر جاز اتّفاقا فيما يظهر ، لإمكان الانتفاع به . وعن أبي يوسف يجوز بيع اللّعبة ، وأن يلعب بها الصّبيان .
الضّمان في إتلاف الصّور وآلات التّصوير :
73 - الّذين قالوا بتحريم نوع من الصّور مستعملة على وضع معيّن ، قالوا : ينبغي إخراج الصّورة إلى وضع لا تكون فيه محرّمة . وقد بوّب البخاريّ لنقض الصّور ، لكن لم يذكر فيها حديثا ينصّ على ذلك ، بل ذكر حديثا آخر هو قول عائشة رضي الله عنها « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلّا نقضه » . وفي رواية : « إلّا قضبه » ولعلّه أراد بذلك قياس نقض الصّور المحرّمة على نقض الصّلبان ، لاشتراكهما في أنّهما عبدا من دون اللّه . لكنّه صلى الله عليه وسلم « قال لعائشة رضي الله عنها في شأن السّتر الّذي عليه التّصاوير أخّريه عنّي » وفي رواية « أنّه هتكه » ، أي نزعه من مكانه حتّى لم يعد منصوبا ، وفي حديث جبريل أنّه « أمر بصنع وسادتين من السّتر » وهذا يعني أنّه لا يتلف ما فيه الصّورة إن كان يمكن أن يستعمل على وجه آخر مباح .
لكن إن كانت الصّورة المحرّمة لا تزول إلّا بالإتلاف وجب الإتلاف ، وذلك لا يتصوّر إلّا نادرا ، كالتّمثال المجسّم المثبّت في جدار أو نحوه الّذي إذا أزيل من مكانه أو خرق صدره أو بطنه أو قطع رأسه يتلف . وهذا النّوع لا يضمن متلفه ، لأنّ المعصية لا تزول إلا بإتلافه . أمّا من أتلف الصّورة الّتي يمكن الانتفاع بها على وضع غير محرّم ، فينبغي أن يضمن ما أتلفه خاليا عن تلك الصّنعة المحرّمة على الأصل في ضمان المتلفات .
وهذا مقتضى مذهب أبي حنيفة ، والأصحّ عند الشّافعيّة ، وظاهر كلام المالكيّة .
وقياس مذهب الحنابلة : أنّه يجوز الإتلاف ولا ضمان ، لسقوط حرمة الشّيء بما فيه من المنفعة باستعماله في المحرّم ، وفي رواية : يضمن .
القطع في سرقة الصّور :
74 - لا قطع في سرقة الصّور الّتي ليس لمكسورها قيمة ، أو له قيمة لا تبلغ نصابا .
أمّا في غير ذلك ، فمذهب الحنفيّة ، وهو القول المرجوح عند الشّافعيّة ، وقول عند الحنابلة عليه المذهب : أنّه لا قطع في سرقة آلة اللّهو ، لأنّ صلاحيّته للّهو صارت شبهة من أنّ السّارق قد يقصد الإنكار ، وأنّ سرقته للشّيء لتأويل الكسر ، فمنع ذلك القطع . فكذا ينبغي أن يقال عندهم في الصّور المحرّمة ، ولو كان مكسورها يبلغ نصاباً . قال صاحب المقنع من الحنابلة : إن سرق آنية فيها الخمر أو صليبا أو صنم ذهب لم يقطع .
قال صاحب الإنصاف : هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب . أي لأنّ الصّنعة المحرّمة أهدرت بسببها حرمة الشّيء فلم يعد لمكسوره حرمة تستحقّ أن يثبت بسببها القطع .
وسواء قصد بالسّرقة الإنكار أم لم يقصده . ومذهب المالكيّة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة وجوب القطع فيما لو كان المكسور يبلغ نصاباً .
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لو كان على الدّراهم والدّنانير المسروقة صور فلا يمنع ذلك وجوب القطع ، قال الحنفيّة : لأنّ النّقود إنّما تعدّ للتّموّل فلا يثبت فيها تأويل . لكن في قول عند الحنابلة التّفريق بين أن يقصد إنكارا فلا يقطع ، ويقطع إن لم يقصده . واللّه أعلم .
تضبيب *
التّعريف :
1 - التّضبيب والضّبّ في اللّغة : تغطية الشّيء وإدخال بعضه في بعض وقيل : هو شدّة القبض على الشّيء ، لئلّا ينفلت من اليد . ويقال : ضبّب الخشب بالحديد أو الصّفر : إذا شدّه به ، وضبّب أسنانه شدّها بذهب أو فضّة أو غيرهما .
والضّبّة : حديدة عريضة يضبّب بها الباب ويشعّب بها الإناء عند التّصدّع .
والاصطلاح الشّرعيّ للتّضبيب لا يختلف عن المعنى اللّغويّ في شيء .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الجبر : من معانيه أن يغنى الرّجل من فقر ، أو يصلح عظمه من كسر .
ب - الوصل : من وصل الثّوب أو الخفّ وصلة .
ج - التّشعيب : وهو جمع الشّيء وضمّ بعضه إلى بعض ، أو تفريقه ، فهو من الأضداد . التّطعيم : مصدر طعّم ، وأصله طعّم ، يقال : طعّم الغصن أو الفرع : قبل الوصل بغصن من غير شجره وطعّم كذا بعنصر كذا لتقويته أو تحسينه ، أو اشتقاق نوع آخر منه .
وطعّم الخشب بالصّدف ركّبه فيه للزّخرفة والزّينة .
وعند الفقهاء هو : أن يحفر في إناء من خشب أو غيره حفراً ، ويضع فيها قطعاً من ذهب أو فضّة ونحوهما على قدر الحفر . فالفرق بين التّضبيب والتّطعيم : أنّ التّضبيب يكون للإصلاح ، أمّا التّطعيم فلا يكون إلّا بالحفر ، وهو للزّينة غالباً .
6 - التّمويه : هو الطّلاء بماء الذّهب أو الفضّة ونحوهما .
الحكم التّكليفيّ :
7 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه يجوز التّضبيب واستعمال المضبّب بذهب أو فضّة ، لأنّه تابع للمباح ، وهو باقي الإناء ، فأشبه المضبّب باليسير . ولكنّه مكروه عندهم . ولكن عليه أن يجتنب في النّصل والقبضة واللّجام موضع اليد .
وفي الشّرب من الإناء المضبّب يتّقي مسّ الضّبّة بالفم . قال ابن عابدين : المراد بالاتّقاء : الاتّقاء بالعضو الّذي يقصد الاستعمال به ، وفي ذلك خلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه . ينظر في المطوّلات . وسيأتي تفصيل أحكام التّضبيب في مصطلحي ( ذهب ، فضّة ، آنية ) .
وأمّا المالكيّة : فقد ذهبوا - في الرّاجح عندهم - إلى حرمة ذلك كلّه ، يستوي عندهم : الفضّة والذّهب ، والصّغيرة والكبيرة ، لحاجة أو لغير حاجة .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ تضبيب الإناء بذهب حرام مطلقا ، وتضبيبه بضبّة كبيرة عرفا من الفضّة - لغير حاجة بأن كانت لزينة - حرام كذلك .
فإن كانت الضّبّة الفضّيّة صغيرة لحاجة الإناء إلى الإصلاح لم تكره ، لما روى البخاريّ
« أنّ قدح النّبيّ صلى الله عليه وسلم انكسر فاتّخذ مكان الشّعب سلسلة من فضّة » .
وإن كانت الضّبّة فوق الحاجة - وهي صغيرة ، أو كبيرة لحاجة - كرهت في الأصحّ . وفي ذلك تفصيل أتمّ ينظر في مصطلح ( ذهب - فضّة - آنية ) .
تضمير *
التّعريف :
1 - التّضمير لغة : من الضّمر بسكون الميم والضّمر ( بضمّها ) بمعنى : الهزال ولحاق البطن . وهو : أن تعلف الخيل حتّى تسمن وتقوى ، ثمّ يقلّل علفها ، فتعلف بقدر القوت ، وتدخل بيتا وتغشى بالجلال حتّى تحمى فتعرق ، فإذا جفّ عرقها ، خفّ لحمها ، وقويت على الجري . ومدّة التّضمير عند العرب أربعون يوما ، وتسمّى هذه المدّة ، وكذلك الموضع الّذي تضمر فيه الخيل مضماراً .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - السّباق :
2 - السّباق والمسابقة بمعنى . يقال : سابقه مسابقة وسباقا . والسّباق مأخوذ من السّبق بسكون الباء ، بمعنى : التّقدّم في الجري وفي كلّ شيء .
وأمّا السّبق بالفتح فمعناه : الجعل الّذي يسابق عليه .
والعلاقة بينه وبين التّضمير : أنّ عمليّة التّضمير تتّخذ في بعض الأحيان لأجل إحراز التّقدّم في السّباق .
حكمه الإجماليّ ومواطن البحث :
3 - يرى جمهور الفقهاء إباحة تضمير الخيل مطلقاً ، واستحباب تضميرها إذا كانت معدّة للغزو . وورد في هذا الباب أحاديث كثيرة منها :
حديث نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : « سابق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين الخيل الّتي قد ضمّرت فأرسلها من الحفياء ، وكان أمدها ثنيّة الوداع . فقلت لموسى بن عقبة : فكم كان بين ذلك ؟ قال ستّة أميال أو سبعة . وسابق بين الخيل الّتي لم تضمّر ، فأرسلها من ثنيّة الوداع ، وكان أمدها مسجد بني زريق . قلت : فكم بين ذلك ؟ قال : ميل أو نحوه . فكان ابن عمر ممّن سابق فيها » . وبهذا الحديث ونحوه يندفع قول من قال : إنّ تضمير الخيل لا يجوز ، لما فيه من مشقّة سوقها .
وأمّا اشتراط تضمير الخيل للسّبق ، وجواز السّباق بين الخيل المضمّرة وغير المضمّرة ، والمغايرة بين غاية السّباق للخيل المضمّرة وغيرها ، ففيها خلاف وتفصيل يرجع فيه إلى مصطلح ( سباق ) وإلى مواطنها من كتب الفقه .
تطبيب *
التّعريف :
1 - للتّطبيب في اللّغة معان ، منها وهو المراد هنا : أنّه المداواة . يقال : طبّب فلان فلاناً : أي داواه . وجاء يستطبّ لوجعه : أي يستوصف الأدوية أيّها يصلح لدائه .
والطِّبُّ : علاج الجسم والنّفس ، ورجل طَبُّ وطبيب : عالم بالطّبّ .
والطَّبُّ . والطُّبُّ : لغتان في الطِّبّ . وتطبَّب له : سأل له الأطبّاء .
والطّبيب في الأصل : الحاذق بالأمور العارف بها ، وبه سمّي الطّبيب الّذي يعالج المرضى ونحوهم . ولا يخرج معناه الاصطلاحيّ عن معناه اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّداوي :
2 - التّداوي : تعاطي الدّواء ، ومنه المداواة أي المعالجة : يقال : فلان يُدَاوَى : أي يُعالَج. والفرق بين التّطبيب والتّداوي : أنّ التّطبيب تشخيص الدّاء ومداواة المريض ، والتّداوي تعاطي الدّواء .
حكمه التّكليفيّ :
3 - التّطبيب تعلُّماً من فروض الكفاية ، فيجب أن يتوفّر في بلاد المسلمين من يعرف أصول حرفة الطّبّ ، وينظر التّفصيل في مصطلح : ( احتراف ) .
أمّا التّطبيب مُزاولةً فالأصل فيه الإباحة . وقد يصير مندوبا إذا اقترن بنيّة التّأسّي بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في توجيهه لتطبيب النّاس ، أو نوى نفع المسلمين لدخوله في مثل قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْياها فَكَأنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعَاً } وحديث : « من استطاع منكم أن ينفعَ أخاه فلْينفعه » . إلا إذا تعيّن شخص لعدم وجود غيره أو تعاقد فتكون مزاولته واجبة .
ويدلّ لذلك ما روى « رجل من الأنصار قال : عاد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجلاً به جرح ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ادعوا له طبيب بني فلان . قال : فدعوه فجاء ، فقالوا : يا رسول اللّه ، ويغني الدّواء شيئاً ؟ فقال : سبحان اللّه . وهل أنزل اللّه من داء في الأرض إلا جعل له شفاء » .
وعن جابر رضي الله عنه قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الرّقى . فجاء آل عمرو بن حزم ، فقالوا : يا رسول اللّه ، إنّه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب ، وإنّك نهيت عن الرّقى . قال : فعرضوها عليه . فقال : ما أرى بها بأساً ، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه » . وقال صلى الله عليه وسلم : « لا بأس بالرّقى ما لم يكن فيها شرك » . ولما ثبت من فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه تداوى ، فقد روى الإمام أحمد في مسنده « أنّ عروة كان يقول لعائشة رضي الله عنها : يا أمّتاه ، لا أعجب من فهمك . أقول : زوجة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بنت أبي بكر . ولا أعجب من علمك بالشّعر وأيّام النّاس ، أقول : ابنة أبي بكر ، وكان أعلم النّاس أو من أعلم النّاس . ولكن أعجب من علمك بالطّبّ ، كيف هو ؟ ومن أين هو ؟ قال فضربتْ على منكبه وقالت : " أي عُرَيّة ؟ إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يسقم عند آخر عمره ، أو في آخر عمره ، فكانت تقدم عليه وفود العرب من كلّ وجه ، فتنعت له الأنعات ، وكنت أعالجها ، فمن ثمّ » . وفي رواية « أنّ رسول اللّه كثرت أسقامه ، فكان يقدم عليه أطبّاء العرب والعجم ، فيصفون له فنعالجه » . وقال الرّبيع : سمعت الشّافعيّ يقول : العلم علمان : علم الأديان وعلم الأبدان .
نظر الطّبيب إلى العورة :
4 - اتّفق الفقهاء على جواز نظر الطّبيب إلى العورة ولمسها للتّداوي .
ويكون نظره إلى موضع المرض بقدر الضّرورة . إذ الضّرورات تقدّم بقدرها . فلا يكشف إلا موضع الحاجة ، مع غضّ بصره ما استطاع إلّا عن موضع الدّاء .
وينبغي قبل ذلك أن يعلّم امرأة تداوي النّساء ، لأنّ نظر الجنس إلى الجنس أخفّ .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى : أنّه إذا كان الطّبيب أجنبيّاً عن المريضة فلا بدّ من حضور ما يؤمن معه وقوع محظور .
لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ألا لا يخلونّ رجل بامرأة إلّا كان ثالثهما الشّيطان » .
واشترط الشّافعيّة عدم وجود امرأة تحسن التّطبيب إذا كان المريض امرأة ، ولو كانت المرأة المداوية كافرة ، وعدم وجود رجل يحسن ذلك إذا كان المريض رجلا . كما شرطوا أن لا يكون غير أمين مع وجود أمين ، ولا ذمّيّا مع وجود مسلم ، أو ذمّيّة مع وجود مسلمة . قال البلقينيّ : يقدّم في علاج المرأة مسلمة ، فصبيّ مسلم غير مراهق ، فمراهق ، فكافر غير مراهق ، فمراهق ، فامرأة كافرة ، فمحرم مسلم ، فمحرم كافر ، فأجنبيّ مسلم ، فكافر. واعترض ابن حجر الهيثميّ على تقديم الكافرة على المحرم . وقال : والّذي يتّجه تقديم نحو محرم مطلقا على كافرة ، لنظره ما لا تنظر هي .
ونصّ الشّافعيّة كذلك على تقديم الأمهر مطلقا ولو من غير الجنس والدّين على غيره . ونصّوا على أنّه إن وجد من لا يرضى إلّا بأكثر من أجرة المثل فإنّه يكون كالعدم حينئذ حتّى لو وجد كافر يرضى بدونها ومسلم لا يرضى إلّا بها احتمل أنّ المسلم كالعدم . وصرّح المالكيّة بأنّه لا يجوز النّظر إلى فرج المرأة إلّا إذا كان لا يتوصّل إلى معرفة ذلك إلا برؤيته بنفسه . أمّا لو كان الطّبيب يكتفي برؤية النّساء لفرج المريضة فلا يجوز له النّظر إليه .
استئجار الطّبيب للعلاج :
5 - اتّفق الفقهاء على جواز استئجار الطّبيب للعلاج ، لأنّه فعل يحتاج إليه ومأذون فيه شرعاً ، فجاز الاستئجار عليه كسائر الأفعال المباحة .
غير أنّ الشّافعيّة شرطوا لصحّة هذا العقد أن يكون الطّبيب ماهراً ، بمعنى أن يكون خطؤه نادراً ، ويكفي في ذلك التّجربة عندهم ، وإن لم يكن ماهرا في العلم .
واستئجار الطّبيب يقدّر بالمدّة لا بالبرء والعمل ، فإن تمّت المدّة وبرئ المريض أو لم يبرأ فله الأجرة كلّها . وإن برئ قبل تمام المدّة انفسخت الإجارة فيما بقي من المدّة لتعذّر استيفاء المعقود عليه ، وكذا الحكم لو مات المريض في أثناء المدّة .
وقد نصّ الحنابلة على أنّه لا يصحّ اشتراط الدّواء على الطّبيب ، وهو قول عند المالكيّة لما فيه من اجتماع الجعل والبيع . وعند المالكيّة قول آخر بالجواز .
والطّبيب يستحقّ الأجرة بتسليمه نفسه مع مضيّ زمن إمكان المداواة ، فإن امتنع المريض من العلاج مع بقاء المرض استحقّ الطّبيب الأجر ، ما دام قد سلّم نفسه ، ومضى زمن المداواة ، لأنّ الإجارة عقد لازم وقد بذل الطّبيب ما عليه .
وأمّا إذا سلّم الطّبيب نفسه وقبل مضيّ زمن إمكان المداواة سكن المرض ، فجمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة - متّفقون على انفساخ الإجارة حينئذ .
6 - ولا تجوز مشارطة الطّبيب على البرء . ونقل ابن قدامة عن ابن أبي موسى الجواز ، إذ قال : لا بأس بمشارطة الطّبيب على البرء ، لأنّ أبا سعيد الخدريّ رضي الله عنه حين رقى الرّجل شارطه على البرء . وقال ابن قدامة : إنّه الصّحيح إن شاء اللّه ، لكن يكون جعالة لا إجارة ، فإنّ الإجارة لا بدّ فيها من مدّة أو عمل معلوم . وأجاز ذلك المالكيّة أيضا ، ففي الشّرح الصّغير : لو شارطه طبيب على البرء فلا يستحقّ الأجرة إلا بحصوله .
وسبق تفصيل ذلك في مصطلح : ( إجارة ) .
وإذا زال الألم وشفي المريض قبل مباشرة الطّبيب كان عذراً تنفسخ به الإجارة .
يقول ابن عابدين : إذا سكن الضّرس الّذي استؤجر الطّبيب لخلعه ، فهذا عذر تنفسخ به الإجارة ، ولم يخالف في ذلك أحد ، حتّى من لم يعتبر العذر موجبا للفسخ ، فقد نصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّ من استأجر رجلاً ليقلع له ضرساً فسكن الوجع ، أو ليكحّل له عينا فبرئت قبل أن يقوم بالعمل ، انفسخ العقد لتعذّر استيفاء المعقود عليه .
ضمان الطّبيب لما يتلفه :
7 - يضمن الطّبيب إن جهل قواعد الطّبّ أو كان غير حاذق فيها ، فداوى مريضاً وأتلفه بمداواته ، أو أحدث به عيباً . أو علم قواعد التّطبيب وقصّر في تطبيبه ، فسرى التّلف أو التّعييب . أو علم قواعد التّطبيب ولم يقصّر ولكنّه طبّب المريض بلا إذن منه . كما لو ختن صغيراً بغير إذن وليّه ، أو كبيراً قهراً عنه ، أو وهو نائم ، أو أطعم مريضاً دواء قهراً عنه فنشأ عن ذلك تلف وعيب ، أو طبّب بإذن غير معتبر لكونه من صبيّ ، إذا كان الإذن في قطع يد مثلا ، أو بعضد أو حجامة أو ختان ، فأدّى إلى تلف أو عيب ، فإنّه في ذلك كلّه يضمن ما ترتّب عليه . أمّا إذا أذن له في ذلك ، وكان الإذن معتبرا ، وكان حاذقا ، ولم تجن يده ، ولم يتجاوز ما أذن فيه ، وسرى إليه التّلف فإنّه لا يضمن ، لأنّه فعل فعلا مباحا مأذونا فيه . ولأنّ ما يتلف بالسّراية إن كان بسبب مأذون فيه - دون جهل أو تقصير - فلا ضمان . وعلى هذا فلا ضمان على طبيب وبزّاغ ( جرّاح ) وحجّام وختّان ما دام قد أذن لهم بهذا ولم يقصّروا ، ولم يجاوزوا الموضع المعتاد ، وإلا لزم الضّمان .
يقول ابن قدامة : إذا فعل الحجّام والختّان والمطبّب ما أمروا به ، لم يضمنوا بشرطين : أحدهما : أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم ، فإذا لم يكونوا كذلك كان فعلا محرّما ، فيضمن سرايته .
الثّاني : ألا يتجاوز ما ينبغي أن يقطع ، فإن كان حاذقاً وتجاوز ، أو قطع في غير محلّ القطع ، أو في وقت لا يصلح فيه القطع وأشباه هذا ، ضمن فيه كلّه ، لأنّه إتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ ، فأشبه إتلاف المال .
وكذلك الحكم في القاطع في القصاص وقاطع يد السّارق . ثمّ قال : لا نعلم فيه خلافا .
قال الدّسوقيّ : إذا ختن الخاتن صبيّا ، أو سقى الطّبيب مريضا دواء ، أو قطع له شيئا ، أو كواه فمات من ذلك ، فلا ضمان على واحد منهما لا في ماله ولا على عاقلته ، لأنّه ممّا فيه تغرير ، فكأنّ صاحبه هو الّذي عرّضه لما أصابه . وهذا إذا كان الخاتن أو الطّبيب من أهل المعرفة ، ولم يخطئ في فعله . فإذا كان أخطأ في فعله - والحال أنّه من أهل المعرفة - فالدّية على عاقلته .
فإن لم يكن من أهل المعرفة عوقب . وفي كون الدّية على عاقلته أو في ماله قولان :
الأوّل : لابن القاسم . والثّاني : لمالك . وهو الرّاجح لأنّ فعله عمد، والعاقلة لا تحمل العمد.
وفي القنية : سئل محمّد نجم الدّين عن صبيّة سقطت من سطح ، فانفتح رأسها ، فقال كثير من الجرّاحين : إن شققتم رأسها تموت . وقال واحد منهم : إن لم تشقّوه اليوم تموت ، وأنا أشقّه وأبرئها ، فشقّه فماتت بعد يوم أو يومين . هل يضمن ؟ فتأمّل مليّا ثمّ قال : لا ، إذا كان الشّقّ بإذن ، وكان الشّقّ معتادا ، ولم يكن فاحشا خارج الرّسم – أي العادة - . قيل له : فلو قال : إن ماتت فأنا ضامن ، هل يضمن ؟ فتأمّل مليّا ، ثمّ قال : لا . فلم يعتبر شرط الضّمان ، لأنّ شرطه على الأمين باطل على ما عليه الفتوى .
وفي مختصر الطّحاويّ : من استؤجر على عبد يحجمه ، أو على دابّة يبزّغها ، ففعل ذلك فعطبا بفعله ، فلا ضمان عليه ، لأنّ أصل العمل كان مأذونا فيه ، فما تولّد منه لا يكون مضمونا عليه إلّا إذا تعدّى ، فحينئذ يضمن .
وكذلك إذا كان في يده آكلة ، فاستأجر رجلا ليقطع يده فمات ، فلا ضمان عليه . ومن استؤجر ليقلع ضرسا لمريض ، فأخطأ ، فقلع غير ما أمر بقلعه ضمنه ، لأنّه من جنايته . وإن أخطأ الطّبيب ، بأن سقى المريض دواء لا يوافق مرضه ، أو زلّت يد الخاتن أو القاطع فتجاوز في القطع ، فإن كان من أهل المعرفة ولم يغرّ من نفسه فذلك خطأ - أي تتحمّله عاقلته - إلا أن يكون أقلّ من الثّلث ففي ماله . وإن كان لا يحسن ، أو غرّ من نفسه فيعاقب . ومن أمر ختّانا ليختن صبيّا ، ففعل الختّان ذلك فقطع حشفته ، ومات الصّبيّ من ذلك ، فعلى عاقلة الختّان نصف دية ، لأنّ الموت حصل بفعلين : أحدهما : مأذون فيه ، وهو قطع القلفة . والآخر : غير مأذون فيه ، وهو قطع الحشفة ، فيجب نصف الضّمان . أمّا إذا برئ ، جعل قطع الجلدة - وهو مأذون فيه - كأن لم يكن ، وقطع الحشفة غير مأذون فيه ، فوجب ضمان الحشفة كاملا ، وهو الدّية .
تطبيق *
التّعريف :
1 - التّطبيق في اللّغة : مصدر طبّق ، ومن معانيه : المساواة والتّعميم والتّغطية قال في المصباح : وأصل الطّبق : الشّيء على مقدار الشّيء مطبقا له من جميع جوانبه كالغطاء له ويقال : طبّق السّحاب الجوّ : إذا غشّاه ، وطبّق الماء وجه الأرض : إذا غطّاه ، وطبّق الغيم : عمّ بمطره . وهو في الاصطلاح الفقهيّ : أن يجعل المصلّي بطن إحدى كفّيه على بطن الأخرى ، ويجعلهما بين ركبتيه وفخذيه .
الحكم الإجماليّ :
2 - يرى جمهور الفقهاء كراهة التّطبيق في الرّكوع . واحتجّوا بما روي « عن مصعب بن سعد بن أبي وقّاص أنّه قال : صلّيت إلى جنب أبي ، فطبّقت بين كفّيّ ، ثمّ وضعتهما بين فخذيّ ، فنهاني أبي وقال : كنّا نفعله فنهينا عنه ، وأمرنا أن نضع أيدينا على الرّكب » . ومن المعروف أنّ قول الصّحابيّ : كنّا نفعل ، وأمرنا ونهينا ، محمول على أنّه مرفوع . واستدلّوا أيضا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأنس رضي الله عنه : « إذا ركعت فضع يديك على ركبتيك ، وفرّج بين أصابعك » .
قال النّوويّ في شرح صحيح مسلم : وذهب عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه وصاحباه علقمة والأسود إلى أنّ السّنّة التّطبيق ، فقد أخرج مسلم عن « علقمة والأسود أنّهما دخلا على عبد اللّه رضي الله عنه فقال : أصلّي من خلفكم ؟ قالا : نعم . فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه ، والآخر عن شماله ، ثمّ ركعنا ، فوضعنا أيدينا على ركبنا ، فضرب أيدينا ، ثمّ طبّق بين يديه ، ثمّ جعلهما بين فخذيه ، فلمّا صلّى قال : هكذا فعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم » . قال العينيّ : وأخذ بذلك إبراهيم النّخعيّ وأبو عبيدة .
وعلّل النّوويّ فعلهم : بأنّه لم يبلغهم النّاسخ ، وهو حديث مصعب بن سعد المتقدّم .
تطفّل *
التّعريف :
1 - التّطفّل في اللّغة : مصدر تطفّل . يقال : هو متطفّل في الأعراس والولائم أي : هو طفيليّ . قال الأصمعيّ : الطّفيليّ : هو الّذي يدخل على القوم من غير أن يدعوه .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن هذا المعنى . فقد عرّفه في نهاية المحتاج : بدخول الشّخص لمحلّ غيره لتناول طعامه بغير إذنه ولا علم رضاه ، أو ظنّه بقرينة معتبرة. الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الضّيف :
2 - الضّيف في اللّغة : النّزيل الزّائر . وأصله مصدر ضاف ، ولذا يطلق على الواحد وغيره ، ومن ذلك قوله تعالى { قالَ : إِنَّ هَؤلاءِ ضَيفِي فَلا تَفْضَحُون } وتجوز المطابقة ، فيقال : هذان ضيفان . أمّا ( الضّيفن ) فهو من يجيء مع الضّيف متطفّلا ، فالضّيفن أخصّ من الطّفيليّ ، ويطلق على الدّاخل على القوم في شرابهم بلا دعوة ( الواغل ) .
وفي اصطلاح الفقهاء : الضّيف : هو من حضر طعام غيره بدعوته ولو عموما ، أو بعلم رضاه وضدّ الضّيف الطّفيليّ .
ب - الفضوليّ :
3 - الفضوليّ : من الفضول ، جمع فضل . وقد استعمل الجمع استعمال الفرد فيما لا خير فيه . ولهذا نسب إليه على لفظه ، فقيل فضوليّ : لمن يشتغل بما لا يعنيه .
وفي الاصطلاح : هو التّصرّف عن الغير بلا إذن ولا ولاية . وأظهر ما يكون في العقود . أمّا التّطفّل فأكثر ما يكون في المادّيّات ، وقد يستعمل في المعنويّات .
الحكم التّكليفيّ للتّطفّل :
4 - صرّح المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - وهو المتبادر من أقوال الحنفيّة - أنّ حضور طعام الغير بغير دعوة ، وبغير علم رضاه حرام ، بل يفسّق به إن تكرّر . لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من دعي فلم يجب فقد عصى اللّه ورسوله ، ومن دخل على غير دعوة دخل سارقاً ، وخرج مغيراً » فكأنّه شبّه دخوله على الطّعام الّذي لم يدع إليه بدخول السّارق الّذي يدخل بغير إرادة المالك ، لأنّه اختفى بين الدّاخلين . وشبّه خروجه بخروج من نهب قوماً ، وخرج ظاهرا بعدما أكل . بخلاف الدّخول ، فإنّه دخل مختفيا ، خوفا من أن يمنع ، وبعد الخروج قد قضى حاجته ، فلم يبق له حاجة إلى التّستّر . وصرّح الشّافعيّة أنّ من التّطفّل : أن يدعى عالم أو صوفيّ ، فيحضر جماعته من غير إذن الدّاعي ولا علم رضاه بذلك . ويرى بعض الفقهاء : أنّه إذا عرف من حال المدعوّ أنّه لا يحضر إلا ومعه أحد ممّن يلازمه يعتبر ذلك كالإذن ، والتّفصيل في مصطلح ( دعوة ) .
شهادة الطّفيليّ :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّ الطّفيليّ - إن تكرّر تطفّله - تردّ شهادته للحديث المذكور ، ولأنّه يأكل محرّما ، ويفعل ما فيه سفه ودناءة وذهاب مروءة .
قال ابن الصّبّاغ : وإنّما اشترط تكرّر ذلك ، لأنّه قد يكون له شبهة حتّى يمنعه صاحب الطّعام ، وإذا تكرّر صار دناءة وقلّة مروءة .
تطفيف *
التّعريف :
1 - التّطفيف لغة : البخس في الكيل والوزن . ومنه قوله تعالى : { وَيْلٌ لِلمطفِّفين } فالتّطفيف : نقص يخون به صاحبه في كيل أو وزن .
ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّوفية :
2 - توفية الشّيء : بذله وافياً . فالتّطفيف ضدّ التّوفية .
الحكم الإجماليّ :
3 - التّطفيف منهيّ عنه ، وهو ضرب من الخيانة وأكل المال بالباطل ، مع ما فيه من عدم المروءة . ومن ثمّ عظّم اللّه أمر الكيل والوزن ، وأمر بالوفاء فيهما في عدّة آيات ، فقال سبحانه : { أَوْفُوا الكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ المُخْسِرِينَ ، وَزِنُوا بِالقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُم وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ } وقال تعالى : { وَأَوْفُوا الكَيْلَ إذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ } كما توعّد اللّه المطفّفين بالويل ، وهدّدهم بعذاب يوم القيامة فقال : { وَيْلٌ لِلمُطَفِّفِينَ الّذِينَ إذا اكْتَالُوا على النَّاسِ يَسْتَوفُونَ وَإِذَا كَالُوهم أَو وزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولئكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ }. وفي الحديث : « خمس بخمس ، قيل : يا رسول اللّه وما خمس بخمس ؟ قال : ما نقض قوم العهد إلّا سلّط اللّه عليهم عدوّهم ، وما حكموا بغير ما أنزل اللّه إلّا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلّا فشا فيهم الموت ، ولا طفّفوا الكيل إلا منعوا النّبات وأخذوا بالسّنين ، ولا منعوا الزّكاة إلّا حبس عنهم المطر » . قال نافع : كان ابن عمر يمرّ بالبائع فيقول له : اتّق اللّه ، أوف الكيل والوزن ، فإنّ المطفّفين يوقفون يوم القيامة حتّى يلجمهم العرق . ونقل ابن حجر تصريح العلماء بأنّه من الكبائر ، واستظهره .
منع التّطفيف ، وتدابيره :
4 - ممّا يتأكّد على المحتسب : المنع من التّطفيف والبخس في المكاييل والموازين والصّنجات . فينبغي له أن يحذر الكيّالين والوزّانين ويخوّفهم عقوبة اللّه تعالى ، وينهاهم عن البخس والتّطفيف . ومتى ظهر له من أحد منهم خيانة عزّره على ذلك وأشهره ، حتّى يرتدع به غيره . وإذا وقع في التّطفيف تخاصم جاز أن ينظر فيه المحتسب ، إن لم يكن مع التّخاصم فيه تجاحد وتناكر . فإن أفضى إلى التّجاحد والتّناكر كان القضاة أحقّ بالنّظر فيه من ولاة الحسبة ، لأنّهم بالأحكام أحقّ . وكان التّأديب فيه إلى المحتسب .
فإن تولّاه الحاكم جاز لاتّصاله بحكمه .
وقد فصّل الفقهاء القول في التّدابير الّتي تتّخذ للحيلولة دون التّطفيف والبخس في الكيل والوزن ، من قيام المحتسب بتفقّد عيار الصّنج ونحوها على حين غفلة من أصحابها ، وتجديد النّظر في المكاييل ورعاية ما يطفّفون به المكيال وما إلى ذلك ، فليرجع إليه في مواطنه من كتب الحسبة ، وفي مصطلحي ( حسبة ، وغشّ ) .
تطهّر *
انظر : طهارة .
تطهير *
انظر : طهارة .
تطوّع *
التّعريف :
1 - التّطوّع : هو التّبرّع ، يقال : تطوّع بالشّيء : تبرّع به .
وقال الرّاغب : التّطوّع في الأصل : تكلّف الطّاعة ، وهو في التّعارف : التّبرّع بما لا يلزم كالتّنفّل . قال تعالى : { فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيرَاً فَهُوَ خَيْرٌ لَه } .
والفقهاء عندما أرادوا أن يعرّفوا التّطوّع ، عدلوا عن تعريف المصدر إلى تعريف ما هو حاصل بالمصدر ، فذكروا له في الاصطلاح ثلاثة معان :
الأوّل : أنّه اسم لما شرع زيادة على الفرائض والواجبات ، أو ما كان مخصوصا بطاعة غير واجبة ، أو هو الفعل المطلوب طلبا غير جازم . وكلّها معان متقاربة .
وهذا ما ذكره بعض فقهاء الحنفيّة ، وهو مذهب الحنابلة ، والمشهور عند الشّافعيّة .
وهو رأي الأصوليّين من غير الحنفيّة ، وهو ما يفهم من عبارات فقهاء المالكيّة .
والتّطوّع بهذا المعنى يطلق على : السّنّة والمندوب والمستحبّ والنّفل والمرغّب فيه والقربة والإحسان والحسن ، فهي ألفاظ مترادفة .
الثّاني : أنّ التّطوّع هو ما عدا الفرائض والواجبات والسّنن ، وهو اتّجاه الأصوليّين من الحنفيّة ، ففي كشف الأسرار : السّنّة هي الطّريقة المسلوكة في الدّين من غير افتراض ولا وجوب ، وأمّا حدّ النّفل - وهو المسمّى بالمندوب والمستحبّ والتّطوّع - فقيل : ما فعله خير من تركه في الشّرع . . . إلخ .
الثّالث : التّطوّع : هو ما لم يرد فيه نقل بخصوصه ، بل ينشئه الإنسان ابتداء ، وهو اتّجاه بعض المالكيّة والقاضي حسين وغيره من الشّافعيّة .
هذه هي الاتّجاهات في معنى التّطوّع وما يرادفه . غير أنّ المتتبّع لما ذكره الأصوليّون من غير الحنفيّة ، وما ذكره الفقهاء في كتبهم - بما في ذلك الحنفيّة - يجد أنّهم يتوسّعون بإطلاق التّطوّع على ما عدا الفرائض والواجبات ، وبذلك يكون التّطوّع والسّنّة والنّفل والمندوب والمستحبّ والمرغّب فيه ألفاظا مترادفة ، ولذلك قال السّبكيّ : إنّ الخلاف لفظيّ . غاية الأمر أنّ ما يدخل في دائرة التّطوّع بعضه أعلى من بعض في الرّتبة ، فأعلاه هو السّنّة المؤكّدة ، كالعيدين ، والوتر عند الجمهور ، وكركعتي الفجر عند الحنفيّة . ويلي ذلك المندوب أو المستحبّ كتحيّة المسجد ، ويلي ذلك ما ينشئه الإنسان ابتداء ، لكنّ كلّ ذلك يسمّى تطوّعا . والأصل في ذلك « قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم للرّجل - الّذي سأل بعدما عرف فرائض الصّلاة والصّيام والزّكاة : هل عليّ غيرها ؟ فقال له : لا ، إلا أن تطوّع » . أنواع التّطوّع :
2 - من التّطوّع ما يكون له نظير من العبادات ، من صلاة وصيام وزكاة وحجّ وجهاد ، وهذا هو الأصل ، وهو المتبادر حين يذكر لفظ التّطوّع . والتّطوّع في العبادات يختلف في جنسه باعتبارات ، فهو يختلف من حيث الرّتبة ، إذ منه ما هو مؤكّد كالرّواتب مع الفرائض ، ومنه ما هو أقلّ رتبة كتحيّة المسجد ، ومنه ما هو أقلّ كالنّوافل المطلقة ليلاً أو نهاراً . ومن ذلك في الصّوم : صيام يومي عاشوراء وعرفة ، فهما أعلى رتبة من الصّيام في غيرهما ، والاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان أفضل منه في غيرها .
كما أنّ التّطوّع في العبادات يختلف في جنسه كذلك من حيث الإطلاق والتّقييد ، فمنه ما هو مقيّد ، سواء أكان التّقييد بوقت أو بسبب ، كالضّحى وتحيّة المسجد والرّواتب مع الفروض . ومنه ما هو مطلق كالنّفل المطلق باللّيل أو بالنّهار .
ويختلف كذلك من حيث العدد كالرّواتب من الفروض ، إذ هي عند الجمهور عشر ، وعند الحنفيّة اثنتا عشرة ركعة : اثنتان قبل الصّبح ، واثنتان قبل الظّهر ( وعند الحنفيّة أربع ) واثنتان بعده ، واثنتان بعد المغرب ، واثنتان بعد العشاء .
والتّطوّع في النّهار واللّيل مثنى مثنى عند الجمهور ، وعند الحنفيّة الأفضل أربع بتسليمة واحدة . ومثل ذلك تطوّع اللّيل عند أبي حنيفة خلافا للصّاحبين ، وبهذا يفتى .
وفي كلّ ما سبق تفصيل كثير ينظر في مصطلح ( السّنن الرّواتب ، ونفل ) وفيما له أبواب من ذلك مثل : عيد - كسوف - استسقاء . . . إلخ .
ومن التّطوّع ما يكون في غير العبادات كطلب علم غير مفروض .
وكذلك من أنواع البرّ والمعروف ، كالتّطوّع بالإنفاق على قريب لم تجب عليه نفقته ، أو على أجنبيّ محتاج ، أو قضاء الدّين عنه ، أو إبراء المعسر ، أو العفو عن القصاص ، أو الإرفاق المعروف بجعل الغير يحصل على منافع العقار ، أو إسقاط الحقوق . . . وهكذا .
ومنه ما يعرف بعقود التّبرّعات ، كالقرض والوصيّة والوقف والإعارة والهبة ، إذ أنّها قربات شرعت للتّعاون بين النّاس .
3 - ومن التّطوّع ما هو عينيّ مطلوب ندبا من كلّ فرد ، كالتّطوّع بالعبادات غير المفروضة من صلاة وصيام . . . ومنه ما هو على الكفاية كالأذان وغيره .
قال النّوويّ وغيره : ابتداء السّلام سنّة مستحبّة ليس بواجب ، وهو سنّة على الكفاية ، فإن كان المسلّم جماعة كفى عنهم تسليم واحد منهم . وتشميت العاطس سنّة على الكفاية .
حكمة مشروعيّة التّطوّع :
4 - التّطوّع يقرّب العبد من ربّه ويزيده ثوابا ، وفي الحديث القدسيّ : « وما يزال عبدي يتقرّبُ إليّ بالنّوافلِ حتّى أحبَّه . . . » الحديث .
والحكمة من مشروعيّة التّطوّع هي :
أ - اكتساب رضوان اللّه تعالى :
وكذلك نيل ثوابه ومضاعفة الحسنات ، وقد ورد في ثواب التّطوّع بالعبادة أحاديث كثيرة منها : قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من ثابر على اثنتي عشرة ركعة في اليوم واللّيلة بنى اللّه له بيتاً في الجنّة » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « ركعتا الفجر خير من الدّنيا وما فيها » وغير ذلك كثير في شأن الصّلاة .
وفي صوم يوم عاشوراء يقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّي لأحتسب على اللّه أن يكفّر السّنة الّتي قبله » والمراد الصّغائر . حكاه في شرح مسلم عن العلماء ، فإن لم تكن الصّغائر رجي التّخفيف من الكبائر ، فإن لم تكن رفعت الدّرجات ، وقال صلى الله عليه وسلم : « من صام رمضان ، ثمّ أتبعه ستّاً من شوّال كان كصيام الدّهر » .
وقال الزّهريّ : في الاعتكاف تفريغ القلب عن أمور الدّنيا ، وتسليم النّفس إلى بارئها ، والتّحصّن بحصن حصين ، وملازمة بيت اللّه تعالى . وقال عطاء : مثل المعتكف كمثل رجل له حاجة إلى عظيم يجلس على بابه ، ويقول : لا أبرح حتّى تقضى حاجتي .
ومثل ذلك في غير العبادات . يقول اللّه تعالى : { مَنْ ذَا الَّذيْ يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضَاً حَسَنَاً فَيُضَاعِفَهُ لَه أَضْعَافَاً كَثِيرَةً } ، ويقول ابن عابدين : من محاسن العاريّة أنّها نيابة عن اللّه تعالى في إجابة المضطرّ ، لأنّها لا تكون إلّا لمحتاج كالقرض ، فلذا كانت الصّدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر .
ب - الأنس بالعبادة والتّهيّؤ لها :
5 - قال ابن دقيق العيد : في تقديم النّوافل على الفرائض معنى لطيف مناسب ، لأنّ النّفوس لانشغالها بأسباب الدّنيا تكون بعيدة عن حالة الخشوع والخضوع والحضور ، الّتي هي روح العبادة ، فإذا قدّمت النّوافل على الفرائض أنست النّفوس بالعبادة ، وتكيّفت بحالة تقرّب من الخشوع .
ج - جبران الفرائض :
6 - قال ابن دقيق العيد : النّوافل الّتي بعد الفرائض هي لجبر النّقص الّذي قد يقع في الفرائض ، فإذا وقع نقص في الفرض ناسب أن يقع بعده ما يجبر الخلل الّذي قد يقع فيه . وفي الحديث : « فإن انتقص من فريضته شيء ، قال الرّبّ عزّ وجلّ : انظروا هل لعبدي من تطوّع ؟ فيكمل به ما انتقص من الفريضة » .
قال المناويّ في شرحه الكبير على الجامع عند قوله صلى الله عليه وسلم : « أوّل ما افترض اللّه على أمّتي الصّلاة ...» واعلم أنّ الحقّ سبحانه وتعالى لم يوجب شيئا من الفرائض غالبا إلا وجعل له من جنسه نافلة ، حتّى إذا قام العبد بذلك الواجب - وفيه خلل ما - يجبر بالنّافلة الّتي هي من جنسه ، فلذا أمر بالنّظر في فريضة العبد ، فإذا قام بها كما أمر اللّه جوزي عليها ، وأثبتت له ، وإن كان فيها خلل كمّلت من نافلته حتّى قال البعض : إنّما تثبت لك نافلة إذا سلمت لك الفريضة . ولذلك يقول القرطبيّ في شرح مسلم : من ترك التّطوّعات ولم يعمل بشيء منها فقد فوّت على نفسه ربحا عظيما وثوابا جسيما .
د - التّعاون بين النّاس وتوثيق الرّوابط بينهم واستجلاب محبّتهم :
7 - التّطوّع بأنواع البرّ والمعروف ينشر التّعاون بين النّاس ، ولذلك دعا اللّه إليه في قوله : { وَتَعَاوَنُوا على البِرِّ وَالتَّقْوَى } ، ويقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « واللّه في عَوْنِ العبد ما دام العبد في عون أخيه » وفي فتح الباري عند قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
« اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا » . يقول ابن حجر : في الحديث الحضّ على الخير بالفعل ، وبالتّسبّب إليه بكلّ وجه ، والشّفاعة إلى الكبير في كشف كربة ومعونة ضعيف ، إذ ليس كلّ أحد يقدر على الوصول إلى الرّئيس . كذلك يقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « تَهَادُوا تحابُّوا » .
أفضل التّطوّع :
8 - اختلف الفقهاء في أفضل التّطوّع ، فقيل : أفضل عبادات البدن الصّلاة .
ففرضها أفضل من فرض غيرها ، وتطوّعها أفضل من تطوّع غيرها ، لأنّها أعظم القربات ، لجمعها أنواعاً من العبادات لا تجمع في غيرها .
قال بهذا المالكيّة ، وهو المذهب عند الشّافعيّة ، ولهم قول آخر بتفضيل الصّيام .
قال صاحب المجموع : وليس المراد بقولهم : الصّلاة أفضل من الصّوم : أنّ صلاة ركعتين أفضل من صيام أيّام أو يوم ، فإنّ الصّوم أفضل من ركعتين بلا شكّ ، وإنّما معناه أنّ من لم يمكنه الجمع بين الاستكثار من الصّلاة والصّوم ، وأراد أن يستكثر من أحدهما ، أو يكون غالبا عليه ، منسوبا إلى الإكثار منه ، ويقتصر من الآخر على المتأكّد منه ، فهذا محلّ الخلاف والتّفصيل . والصّحيح تفضيل الصّلاة .
ويقول الحنابلة : إنّ أفضل تطوّعات البدن الجهاد لقوله تعالى : { فَضَّلَ اللّهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهمْ على القَاعِدينَ دَرَجَةً } ثمّ النّفقة فيه لقوله تعالى : { مَثَلُ الّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } الآية .
ثمّ تعلّم العلم وتعليمه ، لحديث : « فضل العاِلمِ على العابِدِ كفضلي على أدناكم » .
ثمّ الصّلاة أفضل بعد ذلك ، للإخبار بأنّها أحبّ الأعمال إلى اللّه ، ومداومته صلى الله عليه وسلم على نفلها . ونصّ الإمام أحمد على أنّ الطّواف لغريب أفضل منها ، أي من الصّلاة بالمسجد الحرام ، لأنّه خاصّ به يفوت بمفارقته بخلاف الصّلاة ، فالاشتغال بمفضول يختصّ بقعة أو زمنا أفضل من فاضل لا يختصّ ، واختار عزّ الدّين بن عبد السّلام تبعاً للغزاليّ في الإحياء : أنّ أفضل الطّاعات على قدر المصالح النّاشئة عنها .
9 - ويتفاوت ما يتعدّى نفعه في الفضل ، فصدقة على قريب محتاج أفضل من عتق أجنبيّ ، لأنّها صدقة وصلة ونحو ذلك .
وفي المنثور في القواعد للزّركشيّ : لو ملك عقاراً ، وأراد الخروج عنه ، فهل الأولى الصّدقة به حالا ، أم وقفه ؟ قال ابن عبد السّلام : إن كان ذلك في وقت شدّة وحاجة فتعجيل الصّدقة أفضل ، وإن لم يكن كذلك ففيه وقفة ، ولعلّ الوقف أولى ، لكثرة جدواه . وأطلق ابن الرّفعة تقديم صدقة التّطوّع به ، لما فيه من قطع حظّ النّفس في الحال بخلاف الوقف . وفي المنثور أيضاً : مراتب القرب تتفاوت ، فالقربة في الهبة أتمّ منها في القرض ، وفي الوقف أتمّ منها في الهبة ، لأنّ نفعه دائم يتكرّر ، والصّدقة أتمّ من الكلّ ، لأنّ قطع حظّه من المتصدّق به في الحال . وقيل : إنّ القرض أفضل من الصّدقة .
لأنّ « رسول اللّه رأى ليلة أسري به مكتوباً على باب الجنّة : درهم القرض بثمانية عشر ، ودرهم الصّدقة بعشر ، فسأل جبريل : ما بال القرض أفضل من الصّدقة : فقال : لأنّ السّائل يسأل وعنده ، والمقترض لا يقترض إلا من حاجة » .
وتكسّب ما زاد على قدر الكفاية - لمواساة الفقير أو مجازاة القريب - أفضل من التّخلّي لنفل العبادة ، لأنّ منفعة النّفل تخصّه ، ومنفعة الكسب له ولغيره ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : « خير النّاس أنفعهم للنّاس »
وعن عمر بن الخطّاب قال :" إنّ الأعمال تتباهى ، فتقول الصّدقة : أنا أفضلكم ".
وفي الأشباه لابن نجيم : بناء الرّباط بحيث ينتفع به المسلمون ، أفضل من الحجّة الثّانية .
الحكم التّكليفيّ :
10 - الأصل في التّطوّع أنّه مندوب . سواء أكان ذلك في العبادات من صلاة وصيام . . . أم كان في غيرها من أنواع البرّ والمعروف ، كالإعارة والوقف والوصيّة وأنواع الإرفاق . والدّليل على ذلك من الكتاب آيات منها : قوله تعالى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى } ، وقوله تعالى : { مَنْ ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضَاً حَسَنَاً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافَاً كَثِيرَةً } .
ومن السّنّة قوله صلى الله عليه وسلم : « من صلّى ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بُنِيَ له بهنّ بيت في الجنّة »
قوله : « من صام رمضان ثمّ أتبعه ستّاً من شوّال كان كصيام الدّهر » وقوله : « اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة » وقوله : « لا يمنع أحدُكم جارَه أن يَغْرِزَ خشبه في جداره » .
وقد يعرض له الوجوب ، كبذل الطّعام للمضطرّ ، وكإعارة ما يستغنى عنه لمن يخشى هلاكه بعدمها ، وكإعارة الحبل لإنقاذ غريق .
وقد يكون حراماً ، كالعبادة الّتي تقع في الأوقات المحرّمة كالصّلاة وقت طلوع الشّمس أو غروبها ، وكصيام يومي العيد ، وأيّام التّشريق ، وكتصدّق المدين مع حلول دينه والمطالبة به ، وعدم وجود ما يسدّد به دينه .
وقد يكون مكروهاً ، كوقوع الصّلاة في الأوقات المكروهة ، كما أنّه يكره ترك التّسوية في العطيّة لأولاده .
أهليّة التّطوّع :
11 - التّطوّع يكون في العبادات وغيرها ،
أمّا العبادات فإنّه يشترط في المتطوّع بها ما يلي :
أ - أن يكون مسلما ، فلا يصحّ التّطوّع بالعبادات من الكافر ، لأنّه ليس من أهل العبادة .
ب - أن يكون عاقلا ، فلا تصحّ العبادة من المجنون ، لعدم صحّة نيّته . وهذا في غير الحجّ ، لأنّه في الحجّ يحرم عنه وليّه ، وكذلك يحرم الوليّ عن الصّبيّ غير المميّز .
ج - التّمييز ، فلا يصحّ التّطوّع من غير المميّز ، ولا يشترط البلوغ ، لأنّ تطوّع الصّبيّ بالعبادات صحيح .
وأمّا بالنّسبة لغير العبادات : فإنّ الشّرط هو أهليّة التّبرّع من عقل وبلوغ ورشد ، فلا يصحّ تبرّع محجور عليه لصغر أو سفه أو دين أو غير ذلك . وتفصيل هذا ينظر في ( أهليّة ) .
أحكام التّطوّع :
12 - أحكام التّطوّع منها ما يخصّ العبادات ، ومنها ما يشمل العبادات وغيرها ، ومنها ما يخصّ غير العبادات ، وبيان ذلك فيما يأتي :
أوّلاً ما يخصّ العبادات :
أ - ما تسنّ له الجماعة من صلاة التّطوّع :
13 - تسنّ الجماعة لصلاة الكسوف باتّفاق بين المذاهب ، وتسنّ للتّراويح عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . وهي مندوبة عند المالكيّة ، إذ الأفضل الانفراد بها - بعيدا عن الرّياء - إن لم تعطّل المساجد عن فعلها فيها . وتسنّ الجماعة كذلك لصلاة الاستسقاء عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، أمّا عند الحنفيّة فتصلّى جماعة وفرادى عند محمّد ، ولا تصلّى إلّا فرادى عند أبي حنيفة . وتسنّ الجماعة لصلاة العيدين عند المالكيّة والشّافعيّة . أمّا عند الحنفيّة والحنابلة فالجماعة فيها واجبة . ويسنّ الوتر جماعة عند الحنابلة .
وبقيّة التّطوّعات تجوز جماعة وفرادى عند الشّافعيّة والحنابلة ، وتكره جماعة عند الحنفيّة إذا كانت على سبيل التّداعي ، وعند المالكيّة الجماعة في الشّفع والوتر سنّة والفجر خلاف الأولى . أمّا غير ذلك فيجوز فعله جماعة ، إلا أن تكثر الجماعة أو يشتهر المكان فتكره الجماعة حذر الرّياء . والتّفصيل ينظر في ( صلاة الجماعة - نفل ) .
مكان صلاة التّطوّع :
14 - صلاة التّطوّع في البيوت أفضل ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « صلّوا أيّها النّاس في بيوتكم ، فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة » ويستثنى من ذلك ما شرعت له الجماعة ، ففعله في المسجد أفضل ، ويستثنى كذلك عند المالكيّة صلاة الرّواتب مع الفرائض ، فيندب فعلها في المسجد ، كما أنّ تحيّة المسجد تصلّى في المسجد . ويستحبّ للمصلّي عند الجمهور أن يتنفّل في غير المكان الّذي صلّى فيه المكتوبة .
وقال الكاسانيّ من الحنفيّة : يكره للإمام أن يصلّي شيئا من السّنن في المكان الّذي صلّى فيه المكتوبة ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « أيعجز أحدُكم إذا صلّى أن يتقدّمَ أو يتأخّر » ، ولا يكره ذلك للمأموم ، لأنّ الكراهة في حقّ الإمام للاشتباه ، وهذا لا يوجد في حقّ المأموم ، لكن يستحبّ له أن يتنحّى أيضاً ، حتّى تنكسر الصّفوف ، ويزول الاشتباه على الدّاخل من كلّ وجه .
وقال ابن قدامة : قال أحمد : لا يتطوّع الإمام في مكانه الّذي صلّى فيه المكتوبة . كذا قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه . قال أحمد : ومن صلّى وراء الإمام فلا بأس أن يتطوّع مكانه ، فعل ذلك ابن عمر رضي الله عنهما . وبهذا قال إسحاق ، وروى أبو بكر حديث عليّ بإسناده . وبإسناده عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : لا يتطوّع الإمام في مقامه الّذي يصلّي فيه المكتوبة » .
صلاة التّطوّع على الدّابّة :
15 - يجوز باتّفاق المذاهب صلاة التّطوّع على الدّابّة في السّفر .
قال ابن قدامة : لا نعلم خلافاً بين أهل العلم في إباحة التّطوّع على الرّاحلة في السّفر الطّويل قال التّرمذيّ : هذا عند عامّة أهل العلم ،
وقال ابن عبد البرّ : أجمعوا على أنّه جائز لكلّ من سافر سفراً يقصر فيه الصّلاة أن يتطوّع على دابّته حيثما توجّهت ، يومئ بالرّكوع والسّجود ، ويجعل السّجود أخفض من الرّكوع .
ويجوز عند الحنابلة التّطوّع على الرّاحلة في السّفر القصير أيضا ، لقوله تعالى : { وَلِلّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ } ، قال ابن عمر رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في التّطوّع خاصّة حيث توجّه به بعيرك .
وهذا يتناول بإطلاقه محلّ النّزاع ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يوتر على بعيره » ، وفي رواية : « كان يسبّح على ظهر راحلته حيث كان وجهه ، يومئ برأسه » وكان ابن عمر يفعله . وللبخاريّ : « إلا الفرائض » ولمسلم وأبي داود : « غير أنّه لا يصلّي عليها المكتوبة » ولم يفرّق بين قصير السّفر وطويله ، ولأنّ إباحة الصّلاة على الرّاحلة تخفيف في التّطوّع ، كي لا يؤدّي إلى قطعها وتقليلها .
والوتر واجب عند الحنفيّة ، ولهذا لا يؤدّى على الرّاحلة عند القدرة على النّزول . كذلك روى الحسن عن أبي حنيفة أنّ من صلّى ركعتي الفجر على الدّابّة من غير عذر وهو يقدر على النّزول لا يجوز ، لاختصاص ركعتي الفجر بزيادة توكيد وترغيب بتحصيلها وترهيب وتحذير على تركها ، فالتحقت بالواجبات كالوتر . وينظر تفصيل ذلك في : ( نفل - نافلة ).
صلاة التّطوّع قاعداً :
16 - تجوز صلاة التّطوّع من قعود باتّفاق بين المذاهب .
قال ابن قدامة : لا نعلم خلافاً في إباحة التّطوّع جالساً ، وأنّه في القيام أفضل ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من صلّى قائما فهو أفضل ، ومن صلّى قاعدا فله نصف أجر القائم » ولأنّ كثيراً من النّاس يشقّ عليه القيام ، فلو وجب في التّطوّع لترك أكثره ، فسامح الشّارع في ترك القيام فيه ترغيبا في تكثيره .
الفصل بين الصّلاة المفروضة وصلاة التّطوّع :
17 - يستحبّ أن يفصل المصلّي بين الصّلاة المفروضة وصلاة التّطوّع بعدها بالأذكار الواردة ، كالتّسبيح والتّحميد والتّكبير ، وهذا عند الجمهور . وعند الحنفيّة يكره الفصل بين المكتوبة والسّنّة ، بل يشتغل بالسّنّة . وللتّفصيل : ( ر : نفل ) .
قضاء التّطوّع :
18 - إذا فات التّطوّع - سواء المطلق ، أو المقيّد بسبب أو وقت - فعند الحنفيّة والمالكيّة لا يقضى سوى ركعتي الفجر ، لما روت أمّ سلمة رضي الله عنها قالت : « صلّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم العصر ثمّ دخل بيتي فصلّى ركعتين ، فقلت : يا رسول اللّه ، صلّيتَ صلاة لم تكن تصلّيها فقال : قدم عليَّ مالٌ فشغلني عن الرّكعتين كنت أركعهما بعد الظّهر ، فصلّيتهما الآن . فقلت : يا رسول اللّه أفنقضيهما إذا فاتتا ؟ قال : لا » .
وهذا نصّ على أنّ القضاء غير واجب على الأمّة ، وإنّما هو شيء اختصّ به النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا شركة لنا في خصائصه . وقياس هذا الحديث أنّه لا يجب قضاء ركعتي الفجر أصلا ، إلا أنّا استحسنّا القضاء إذا فاتتا مع الفرض ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعلهما مع الفرض ليلة التّعريس » فنحن نفعل ذلك لنكون على طريقته .
وهذا بخلاف الوتر ، لأنّه واجب عند الحنفيّة ، والواجب ملحق بالفرض في حقّ العمل .
وقال النّوويّ من الشّافعيّة : لو فات النّفل المؤقّت " كصلاة العيد والضّحى " ندب قضاؤه في الأظهر ، لحديث الصّحيحين : « من نسي صلاةً أو نام عنها فكفّارتُها أن يصلّيها إذا ذكرها » ولأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى ركعتي الفجر لمّا نام في الوادي عن صلاة الصّبح إلى أن طلعت الشّمس » . وفي مسلم نحوه .
« وقضى ركعتي سنّة الظّهر المتأخّرة بعد العصر » ، ولأنّها صلاة مؤقّتة فقضيت كالفرائض ، وسواء السّفر والحضر ، كما صرّح به ابن المقري .
والثّاني : لا يقضى كغير المؤقّت .
والثّالث : إن لم يتبع غيره كالضّحى قضي ، لشبهه بالفرض في الاستقلال ، وإن تبع غيره كالرّواتب فلا . قال الخطيب الشّربينيّ في شرح المنهاج : قضيّة كلامه - أي النّوويّ - أنّ المؤقّت يقضي أبدا وهو الأظهر ، والثّاني : يقضي فائتة النّهار ما لم تضرب شمسه ، وفائتة اللّيل ما لم يطلع فجره . والثّالث : يقضي ما لم يصلّ الفرض الّذي بعده .
وخرج بالمؤقّت ما له سبب كالتّحيّة والكسوف فإنّه لا مدخل للقضاء فيه .
نعم لو فاته وِرْدُه من الصّلاة ، فإنّه يندب له قضاؤه كما قاله الأذرعيّ .
وعند الحنابلة ، قال الإمام أحمد : لم يبلغنا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى شيئاً من التّطوّع ، إلا ركعتي الفجر والرّكعتين بعد العصر .
وقال القاضي وبعض الأصحاب : لا يقضى إلا ركعتا الفجر وركعتا الظّهر .
وقال ابن حامد : تقضى جميع السّنن الرّواتب ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بعضها ، وقسنا الباقي عليها . وفي شرح منتهى الإرادات : يسنّ قضاء الرّواتب ، إلا ما فات مع فرضه وكثر ، فالأولى تركه ، إلا سنّة الفجر فيقضيها مطلقاً لتأكّدها .
انقلاب الواجب تطوّعاً :
19 - قد ينقلب واجب العبادات إلى تطوّع ، سواء أكان بقصد أم بغير قصد .
ومن ذلك مثلاً في الصّلاة يقول ابن نجيم : لو افتتح الصّلاة بنيّة الفرض ، ثمّ غيّر نيّته في الصّلاة وجعلها تطوّعا ، صارت تطوّعاً .
وفي شرح منتهى الإرادات : إن أحرم مصلٍّ بفرض ، كظهر في وقته المتّسع له ولغيره ، ثمّ قلبه نفلا ، بأن فسخ نيّة الفرضيّة دون نيّة الصّلاة ، صحّت مطلقا ، أي سواء كان صلّى الأكثر منها أو الأقلّ ، وسواء كان لغرض صحيح أو لا ، لأنّ النّفل يدخل في نيّة الفرض ، وكره قلبه نفلا لغير غرض صحيح . ثمّ قال : وينقلب نفلا ما بان عدمه ، كما لو أحرم بفائتة ظنّها عليه ، فتبيّن أنّه لم تكن عليه فائتة ، أو أحرم بفرض ثمّ تبيّن له أنّه لم يدخل وقته ، لأنّ الفرض لم يصحّ ، ولم يوجد ما يبطل النّفل .
ومن ذلك الصّيام . جاء في شرح منتهى الإرادات : من قطع نيّة صوم نذر أو كفّارة أو قضاء ، ثمّ نوى صوماً نفلا صحّ نفله ، وإن قلب صائم نيّة نذر أو قضاء إلى نفل صحّ ، كقلب فرض الصّلاة نفلاً .
وخالف الحجّاويّ في " الإقناع " في مسألة قلب القضاء ، وكره له ذلك لغير غرض .
ومن ذلك الزّكاة . جاء في بدائع الصّنائع : إذا دفع الزّكاة إلى رجل ، ولم يخطر بباله أنّه ليس ممّن تصرف الزّكاة إليهم وقت الدّفع ، ولم يشكّ في أمره ، فإذا ظهر بيقين أنّه ليس من مصارفها لم تجزئه زكاة ، ويجب عليه الإعادة ، وليس له أن يستردّ ما دفع إليه ، ويقع تطوّعا . ثمّ قال الكاسانيّ في موضع آخر : حكم المعجّل إذا لم يقع زكاة : أنّه إن وصل إلى يد الفقير يكون تطوّعاً ، سواء وصل إلى يده من يد ربّ المال أو من يد الإمام أو نائبه - وهو السّاعي - لأنّه حصل أصل القربة .
وصدقة التّطوّع لا يحتمل الرّجوع فيها بعد وصولها إلى يد الفقير .
وفي المهذّب أيضاً : من أحرم بالحجّ في غير أشهره انعقد إحرامه بالعمرة ، لأنّها عبادة مؤقّتة ، فإذا عقدها في غير وقتها انعقد غيرها من جنسها ، كصلاة الظّهر إذا أحرم بها قبل الزّوال ، فإنّه ينعقد إحرامه بالنّفل . وفي الأشباه لابن نجيم : لو أحرم بالحجّ نذراً ونفلاً كان نفلا ، ولو أحرم بالحجّ فرضا وتطوّعا كان تطوّعا عندهما في الأصحّ .
حصول التّطوّع بأداء الفرض وعكسه :
20 - هناك صور يحصل التّطوّع فيها بأداء الفرض ، ولكنّ ثواب التّطوّع لا يحصل إلا بنيّته . جاء في الأشباه لابن نجيم - في الجمع بين عبادتين - قالوا : لو اغتسل الجنب يوم الجمعة للجمعة ولرفع الجنابة ، ارتفعت جنابته ، وحصل له ثواب غسل الجمعة .
وفي ابن عابدين : مَنْ عليه جنابة نسيها واغتسل للجمعة مثلاً ، فإنّه يرتفع حدثه ضمناً ، ولا يثاب ثواب الفرض ، وهو غسل الجنابة ما لم ينوه ، لأنّه لا ثواب إلّا بالنّيّة .
وفي الشّرح الصّغير : تتأدّى تحيّة المسجد بصلاة الفرض فيسقط طلب التّحيّة بصلاته ، فإن نوى الفرض والتّحيّة حصلا ، وإن لم ينو التّحيّة لم يحصل له ثوابها ، لأنّ الأعمال بالنّيّات . ومثل ذلك غسل الجمعة والجنابة ، وصيام يوم عرفة مع نيّة قضاء ما عليه .
وفي القواعد لابن رجب : لو طاف عند خروجه من مكّة طوافاً ينوي به الزّيارة والوداع ، فقال الخرقيّ وصاحب المغني : يجزئه عنهما .
ثانياً ما يشمل العبادات وغيرها من أحكام :
أ - قطع التّطوّع بعد الشّروع فيه :
21 - إذا كان التّطوّع عبادة كالصّلاة والصّيام ، فعند الحنفيّة والمالكيّة : إذا شرع فيه وجب إتمامه ، وإذا فسد وجب قضاؤه ، لأنّ التّطوّع يلزم بالشّروع مُضِيّا وقضاء .
ولأنّ المؤدّى عبادة ، وإبطال العبادة حرام ، لقوله تعالى : { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكمْ } .
وقد « قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة وحفصة رضي الله عنهما وقد أفطرتا في صوم التّطوّع اقضيا يوما مكانه » .
غير أنّ المالكيّة لا يوجبون القضاء إلا إذا كان الفساد متعمّداً ، فإن كان لعذر فلا قضاء . وعند الشّافعيّة والحنابلة : يستحبّ الإتمام إذا شرع في التّطوّع ولا يجب ، كما أنّه يستحبّ القضاء إذا فسد ، إلّا في تطوّع الحجّ والعمرة فيجب إتمامهما إذا شرع فيهما ، لأنّ نفلهما كفرضهما نيّة وفدية وغيرهما .
واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة على عدم وجوب الإتمام بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
« الصّائم المتطوّع أمير نفسه ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر » .
وتنظر التّفاصيل في ( نفل ، صلاة ، صيام ، حجّ ) .
22 - أمّا غير ذلك من التّطوّعات ، فإمّا أن يكون من قبيل عقود التّبرّعات المعروفة كالهبة والعاريّة والوقف والوصيّة ، وإمّا أن يكون من غير ذلك .
فإن كان من عقود التّبرّعات ، فلكلّ عقد حكمه في جواز الرّجوع أو عدم جوازه . ففي الوصيّة مثلا : يجوز باتّفاق الرّجوع فيها ما دام الموصي حيّا .
وفي العاريّة والقرض : يجوز الرّجوع بطلب ردّ الشّيء المستعار واسترداد بدل القرض في الحال بعد القبض . وهذا عند غير المالكيّة ، بل قال الجمهور : إنّ المقرض إذا أجّل القرض لا يلزمه التّأجيل ، لأنّه لو لزم فيه الأجل لم يبق تبرّعاً .
ويجوز الرّجوع في الهبة قبل القبض ، فإذا تمّ القبض فلا رجوع عند الشّافعيّة والحنابلة ، إلا فيما وهب الوالد لولده ، وعند الحنفيّة : يجوز الرّجوع إن كانت لأجنبيّ .
وفي كلّ ذلك تفصيل ينظر في أبوابه . وفي ( تبرّع ) .
أمّا غير ذلك من التّبرّعات كالصّدقة والإنفاق وما شابه ذلك ، فإن كان قد مضى فلا رجوع فيه ، ما دام ذلك قد تمّ بنيّة التّبرّع . يقول ابن عابدين : لا رجوع في الصّدقة لأنّ المقصود فيها الثّواب لا العوض . ويقول ابن قدامة : لا يجوز للمتصدّق الرّجوع في صدقته في قولهم جميعا ، لأنّ عمر رضي الله عنه قال في حديثه : من وهب هبة على وجه صدقة فإنّه لا يرجع فيها . ومثل ذلك الإنفاق إذا كان بقصد التّبرّع فلا رجوع فيه .
يقول ابن عابدين : إذا أنفق الوصيّ من مال نفسه على الصّبيّ ، وللصّبيّ مال غائب ، فهو متطوّع في الإنفاق استحساناً ، إلا أن يشهد أنّه قرض ، أو أنّه يرجع به عليه .
ويقول ابن القيّم : المقاصد تغيّر أحكام التّصرّفات ، فالنّيّة لها تأثير في التّصرّفات ، ومن ذلك أنّه لو قضى عن غيره ديناً ، أو أنفق عليه نفقة واجبة أو نحو ذلك - ينوي التّبرّع والهبة - لم يملك الرّجوع بالبدل ، وإن لم ينو فله الرّجوع . على أنّ في ذلك تفصيلاً وخلافاً بين المذاهب في بعض الفروع ، ومن ذلك مثلا : أنّ الشّافعيّة يجيزون للأب ولسائر الأصول الرّجوع في الصّدقة المتطوّع بها على الولد ، أمّا الواجبة فلا رجوع فيها .
ولا يجيزون للأب الرّجوع في الإبراء لولده عن دينه . بينما يجيز الحنابلة رجوع الأب فيما أبرأ ابنه منه من الدّيون . وينظر تفصيل ذلك في ( تبرّع ، صدقة ، إبراء ، هبة ، نفقة ) .
23 - أمّا ما شرع فيه من الصّدقة . فأخرج بعضه ، فلا يلزمه الصّدقة بباقيه .
يقول ابن قدامة : انعقد الإجماع على أنّ الإنسان لو نوى الصّدقة بمال مقدّر ، وشرع في الصّدقة به ، فأخرج بعضه لم تلزمه الصّدقة بباقيه ، وهو نظير الاعتكاف ، لأنّه غير مقدّر بالشّرع فأشبه الصّدقة ، غير أنّ ابن رجب ذكر خلافا في ذلك .
والحطّاب عدّ الأشياء الّتي تلزم بالشّروع ، وهي سبع : الصّلاة والصّوم والاعتكاف والحجّ والعمرة والائتمام والطّواف . ثمّ ذكر ما لا يلزم بالشّروع ، وأنّه لا يجب القضاء بقطعه ، وهو : الصّدقة والقراءة والأذكار والوقف والسّفر للجهاد ، وغير ذلك من القربات .
وينظر تفصيل ذلك في ( تبرّع ، صدقة ) .
ب - نيّة التّطوّع :
24 - التّطوّع - إن كان عبادة - فلا بدّ فيه من النّيّة بالإجماع ، لقوله تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّما الأعمال بالنّيّات » وهي مقصودة بها تمييز العبادات عن العادات ، وتمييز بعض العبادات عن بعض. فالغسل قد يكون تبرّدا وعبادة ، والإمساك عن المفطرات قد يكون حميّة أو تداويا ، ودفع المال يكون صدقة شرعيّة وصلة متعارفة . . وهكذا ، وعلى ذلك فالنّيّة شرط في العبادات باتّفاق ، إلّا أنّ الفقهاء يختلفون في النّيّة في تطوّع العبادات بالنّسبة للتّعيين أو الإطلاق . 25 - والتّطوّع في العبادات ، منه ما هو مطلق كالتّهجّد والصّوم ، ومنه ما هو مقيّد كصلاة الكسوف والسّنن الرّواتب مع الفرائض ، وكصيام عرفة وعاشوراء .
أمّا التّطوّع المطلق ، فيصحّ عند جميع الفقهاء أداؤه دون تعيينه بالنّيّة ، وتكفي نيّة مطلق الصّلاة أو مطلق الصّوم .
أمّا التّطوّع المعيّن كالرّواتب والوتر والتّراويح ، وصلاة الكسوف والاستسقاء ، وصيام يوم عاشوراء ، فإنّه يشترط فيه تعيينه بالنّيّة ، وذلك عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض مشايخ الحنفيّة ، غير أنّ المالكيّة حدّدوا المعيّن عندهم بأنّه : الوتر والعيدان وصلاة الكسوف والاستسقاء ورغيبة الفجر ، أمّا غير ذلك فهو من المطلق عندهم .
والصّحيح المعتمد عند الحنفيّة أنّ التّطوّع المعيّن أو المقيّد يصحّ دون تعيينه ، وأنّه يكفي فيه مطلق النّيّة كالتّطوّع المطلق ، وهو ما عليه أكثر مشايخ الحنفيّة .
26 - أمّا غير العبادات من التّطوّعات ، فالأصل أنّه لا مدخل للنّيّة فيها ، إلا أنّ نيّة القربة فيها - امتثالا لأوامر الشّرع الّتي تحثّ على المعروف - مطلوبة لاستحقاق الثّواب ، إذ أنّها لا تتمحّض قربة إلّا بهذه النّيّة .
يقول الشّاطبيّ : المقاصد معتبرة في التّصرّفات من العبادات والعادات . إلى أن قال : وأمّا الأعمال العاديّة - وإن لم تفتقر في الخروج عن عهدتها إلى نيّة - فلا تكون عبادات ولا معتبرات في الثّواب إلا مع قصد الامتثال ، وفي الأشباه لابن نجيم : لا يتوقّف الوقف ولا الهبة ولا الوصيّة على النّيّة ، فالوصيّة إن قصد التّقرّب بها فله الثّواب ، وإلّا فهي صحيحة فقط ، وكذلك الوقف إن نوى القربة فله الثّواب وإلا فلا ، وعلى هذا سائر القرب لا بدّ فيها من النّيّة ، بمعنى توقّف حصول الثّواب على قصد التّقرّب بها إلى اللّه تعالى .
وفي الشّرح الصّغير : الهبة من التّبرّعات المندوبة كالصّدقة ، وهذا إن صحّ القصد ، وإن استحضر أنّ ذلك ممّا رغّب فيه الشّرع فإنّه يثاب . وفي المنثور في القواعد للزّركشيّ : عيادة المريض واتّباع الجنازة وردّ السّلام قربة ، لا يستحقّ الثّواب عليها إلا بالنّيّة .
ج - النّيابة في التّطوّع :
27 - التّطوّع إن كان من العبادات البدنيّة كالصّلاة والصّوم ، فلا تجوز فيه النّيابة ، لأنّه لا تجوز النّيابة في فرضه في الجملة ، فلا تجوز في نفله . وإن كان مركّبا منهما كالحجّ ، فعند الحنفيّة والحنابلة تصحّ النّيابة فيه ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ، وأحد قولين معتمدين عند المالكيّة . أمّا غير ذلك من العبادات الماليّة والتّطوّعات بأنواع البرّ والمعروف ، كالصّدقة والهدي والعتق والوقف والوصيّة والهبة والإبراء وغيرها فإنّه تجوز النّيابة فيها . كما أنّه يجوز عند الحنفيّة والحنابلة أن يتطوّع الإنسان بجعل ثواب عمله من صلاة وصيام وحجّ وصدقة وعتق وطواف وعمرة وقراءة وغير ذلك لغيره ، من حيّ أو ميّت . بدليل أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « ضحّى بكبشين أملحين ، أحدهما عنه ، والآخر عن أمّته » . وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص ، لمّا سأله عن أبيه : لو كان مسلماً فأعتقتم عنه أو تصدّقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك » . قال ابن قدامة : وهذا عامّ في حجّ التّطوّع وغيره ، ولأنّه عمل برّ وطاعة فوصل نفعه وثوابه كالصّدقة والصّيام والحجّ الواجب . « عن أنس رضي الله عنه قال : يا رسول اللّه ، إنّا نتصدّق عن موتانا ، ونحجّ عنهم ، وندعو لهم ، فهل يصل ذلك لهم ؟ قال : نعم ، إنّه ليصل إليهم ، وإنّهم ليفرحون به كما يفرح أحدكم بالطّبق إذا أهدي إليه » .
وقال صلى الله عليه وسلم : « إنّ من البرّ بعد الموت أن تصلّي لأبويك مع صلاتك ، وأن تصوم لهما مع صومك » وعند المالكيّة والشّافعيّة يجوز فيما عدا الصّلاة والصّيام .
وينظر تفصيل ذلك في : ( نيابة - وكالة - نفل - صدقة - صلاة - وصوم ) .
د - الأجرة على التّطوّع :
28 - الأصل أنّ كلّ طاعة يختصّ بها المسلم لا يجوز أخذ الأجرة عليها ، كالإمامة والأذان والحجّ والجهاد وتعليم القرآن . لما روى عثمان بن أبي العاص قال : « إنّ آخر ما عهد إليّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن أتَّخِذَ مؤذّناً لا يأخذُ على أذانه أجراً » ولأنّ القربة متى حصلت وقعت عن العامل ، ولهذا تعتبر أهليّته ، فلا يجوز أخذ الأجر عن غيره كما في الصّوم والصّلاة . هذا مذهب الحنفيّة ، وهو رواية عند الحنابلة .
ويصحّ مع الكراهة عند المالكيّة . جاء في الشّرح الصّغير : تكره إجارة الإنسان نفسه في عمل للّه تعالى ، حجّا أو غيره ، كقراءة وإمامة وتعليم علم ، وصحّته مع الكراهة .
كما تكره الإجارة على الأذان ، قال مالك : لأن يؤاجر الرّجل نفسه في عمل اللّبن وقطع الحطب وسوق الإبل أحبّ إليّ من أن يعمل عملا للّه بأجرة .
وقال الشّافعيّة ، كما في نهاية المحتاج : لا تصحّ إجارة مسلم لجهاد ولا لعبادة يجب لها نيّة ، وألحقوا بذلك الإمامة ولو لنفل ، لأنّه حصل لنفسه . أمّا ما لا تجب له نيّة كالأذان فيصحّ الاستئجار عليه ، واستثني ممّا فيه نيّة : الحجّ والعمرة ، فيجوز الاستئجار لهما أو لأحدهما عن عاجز أو ميّت ، وتقع صلاة ركعتي الطّواف تبعا لهما ، وتجوز الإجارة عن تفرقة زكاة وكفّارة وأضحيّة وهدي وذبح وصوم عن ميّت وسائر ما يقبل النّيابة وإن توقّف على النّيّة ، لما فيها من شائبة المال . وتصحّ الإجارة لكلّ ما لا تجب له نيّة .
وتصحّ لتجهيز ميّت ودفنه وتعليم قرآن ولقراءة القرآن عند القبر أو مع الدّعاء .
وفي الاختيارات الفقهيّة لابن تيميّة : لا يجوز للإنسان أن يقبل هديّة من شخص ليشفع له عند ذي أمر ، أو أن يرفع عنه مظلمة ، أو يوصل إليه حقّه أو يولّيه ولاية يستحقّها ، أو يستخدمه في الجند المقاتلة وهو مستحقّ لذلك ، وإذا امتنعت الهديّة امتنعت الأجرة من باب أولى . والأصل في ذلك : أنّ من أخذ أجرا على عمل تطوّع - ممّا يجوز عند الفقهاء - فإنّه يعتبر أجيراً ، وليس متطوّعا بالقربات ، لأنّ القرب والطّاعات إذا وقعت بأجرة لم تكن قربة ولا عبادة ، لأنّه لا يجوز التّشريك في العبادة ، لكن إذا كان الرّزق من بيت المال أو من وقف فإنّه يعتبر نفقة في المعنى ، ولا يعتبر أجراً .
جاء في الاختيارات الفقهيّة : الأعمال الّتي يختصّ فاعلها أن يكون من أهل القربة ، هل يجوز إيقاعها على غير وجه القربة ؟ فمن قال : لا يجوز ذلك ، لم يجز الإجارة عليها ، لأنّها بالعوض تقع غير قربة و« إنّما الأعمال بالنّيّات » واللّه تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه ، ومن جوّز الإجارة جوّز إيقاعها على غير وجه القربة ، وقال : تجوز الإجارة عليها لا فيها من نفع المستأجر ، وأمّا ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضاً وأجرة ، بل رزق للإعانة على الطّاعة ، فمن عمل منهم للّه أثيب . وكذلك المال الموقوف على أعمال البرّ والموصى به كذلك ، والمنذور كذلك ، ليس كالأجرة .
ويقول القرافيّ : باب الأرزاق أدخل في باب الإحسان وأبعد عن باب المعاوضة ، وباب الإجارة أبعد من باب المسامحة وأدخل في باب المكايسة ، ثمّ يقول : الأرزاق مجمع على جوازها ، لأنّها إحسان ومعروف وإعانة لا إجارة .
انقلاب التّطوّع إلى واجب :
29 - ينقلب التّطوّع إلى واجب لأسباب متعدّدة منها :
أ - الشّروع :
30 - التّطوّع بالحجّ عند جميع الفقهاء يصير واجباً بالشّروع فيه ، بحيث إذا فسد وجب قضاؤه . ومثل ذلك : الصّلاة والصّيام عند الحنفيّة والمالكيّة .
ب - التّطوّع بالحجّ ممّن لم يحجّ حجّة الإسلام :
31 - قال ابن قدامة : من أحرم بحجّ تطوّع - ممّن لم يحجّ حجّة الإسلام - وقع عن حجّة الإسلام ، وبهذا قال ابن عمر وأنس والشّافعيّ ، لأنّه أحرم بالحجّ وعليه فرضه ، فوقع عن فرضه كالمطلق . ولو أحرم بتطوّع وعليه منذورة وقعت عن المنذورة ، ولأنّها واجبة فهي كحجّة الإسلام . والعمرة كالحجّ فيما ذكرنا لأنّها أحد النّسكين ، فأشبهت الآخر .
وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى : أنّه إذا نوى حجّة نفل - ولم يكن قد حجّ حجّة الإسلام - وقع عمّا نواه ، لأنّ وقت الحجّ يشبه وقت الصّلاة ( ظرف ) ووقت الصّوم ( معيار ) فأعطي حكمهما ، فيتأدّى فرضه بمطلق النّيّة ، ويقع عن النّفل إذا نواه .
وقال ابن نجيم : لو طاف بنيّة التّطوّع في أيّام النّحر وقع عن الفرض .
وفي البدائع : لو تصدّق بجميع ماله على فقير ، ولم ينو الزّكاة أجزأه عن الزّكاة استحساناً. والقياس : أن لا يجوز ، لأنّ الزّكاة عبادة مقصودة ، فلا بدّ لها من النّيّة .
ووجه الاستحسان أنّ النّيّة وجدت دلالة ، وعلى هذا إذا وهب جميع النّصاب من الفقير ، أو نوى تطوّعاً ، ولو أدّى مائة لا ينوي الزّكاة ، ونوى تطوّعاً ، لا تسقط زكاة المائة وعليه أن يزكّي الكلّ عند أبي يوسف . وعند محمّد يسقط عنه زكاة ما تصدّق ، ولا يسقط عنه زكاة الباقي .
ج - الالتزام أو التّعيين بالنّيّة والقول :
32 - جاء في الدّرّ المختار : لو نذر التّصدّق يوم الجمعة بمكّة بهذا الدّرهم على فلان ، فخالف ، جاز . قال ابن عابدين : فلو خالف في بعضها أو كلّها ، بأن تصدّق في غير يوم الجمعة ببلد آخر بدرهم آخر على شخص آخر جاز ، لأنّ الدّاخل تحت النّذر ما هو قربة ، وهو أصل التّصدّق دون التّعيين ، فبطل التّعيين ولزمه القربة .
ثمّ قال ابن عابدين : وهذا ليس على إطلاقه لما في البدائع : لو قال : للّه عليّ أن أطعم هذا المسكين شيئا سمّاه ولم يعيّنه ، فلا بدّ أن يعطيه للّذي سمّى ، لأنّه إذا لم يعيّن المنذور صار تعيين الفقير مقصودا ، فلا يجوز أن يعطي غيره . وفي الاختيار : لا تجب الأضحيّة على الفقير ، لكنّها تجب بالشّراء ، ويتعيّن ما اشتراه للأضحيّة . فإن مضت أيّام الأضحيّة ولم يذبح ، تصدّق بها حيّة ، لأنّها غير واجبة على الفقير ، فإذا اشتراها بنيّة الأضحيّة تعيّنت للوجوب ، والإراقة إنّما عرفت قربة في وقت معلوم ، وقد فات فيتصدّق بعينها .
وإن كان المضحّي غنيّاً ، وفات وقت الأضحيّة ، تصدّق بثمنها ، اشتراها أو لا ، لأنّها واجبة عليه ، فإذا فات وقت القربة في الأضحيّة تصدّق بالثّمن إخراجا له عن العهدة .
وجاء في نهاية المحتاج : الأضحيّة سنّة ، ولكنّها تجب بالالتزام ، كقوله : جعلت هذه الشّاة أضحيّة كسائر القرب . وفي تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطّاب : الالتزام المطلق يقضى به على الملتزم ، ما لم يفلّس أو يمت أو يمرض .
وقال ابن رشد في نوازله فيمن عزل لمسكين معيّن شيئاً ، وبتّله له بقول أو نيّة ، فلا يجوز له أن يصرفه إلى غيره ، وهو ضامن له إن فعل . ولو نوى أن يعطيه ولم يبتّله له بقول ولا نيّة كره له أن يصرفه إلى غيره . ومعنى بتّله : جعله له من الآن .
وفي الفواكه الدّواني : من أخرج كسرة لسائل فوجده قد ذهب لا يجوز له أكلها ، ويجب عليه أن يتصدّق بها على غيره ، كما قاله مالك . وقال غيره : يجوز له أكلها ، وقال ابن رشد : يحمل كلام غير مالك على ما إذا أخرجها لمعيّن ، فيجوز له أكلها عند عدم وجوده أو عدم قبوله ، وحمل كلام مالك على إخراجها لغير معيّن ، فلا يجوز له أكلها بل يتصدّق بها على غيره ، لأنّه لم يعيّن الّذي يأخذها .
وفي القواعد الفقهيّة لابن رجب : الهدي والأضحيّة يتعيّنان بالتّعيين بالقول بلا خلاف .
وفي تعيينه بالنّيّة وجهان ، فإذا قال : هذه صدقة ، تعيّنت وصارت في حكم المنذورة ، وإذا عيّن بنيّته أن يجعلها صدقة - وعزلها عن ماله - فهو كما لو اشترى شاة ينوي التّضحية.
د - النّذر :
33 - النّذر بالقرب والطّاعات يجعلها واجبة .
قال الكاسانيّ : النّذر من أسباب الوجوب في العبادات والقرب المقصودة .
وفي فتح العليّ المالك : النّذر المطلق : هو التزام طاعة اللّه تعالى بنيّة القربة .
هـ - استدعاء الحاجة :
34 - قال ابن رجب في قواعده : ما تدعو الحاجة إلى الانتفاع به من الأعيان - ولا ضرر في بذله لتيسّره ، وكثرة وجوده - أو المنافع المحتاج إليها يجب بذله مجّانا بغير عوض في الأظهر ، ومن ذلك وضع الخشب على جدار الجار إذا لم يضرّ ، واختار بعضهم وجوب بذل الماعون ، وهو ما خفّ قدره وسهل ( وجرت العادة ببذله ) ، ومنها : المصحف تجب إعارته لمسلم احتاج القراءة فيه . وفي حاشية الصّاويّ على الشّرح الصّغير : العاريّة مندوبة ، وقد يعرض وجوبها ، كغنيّ عنها لمن يخشى بعدمها هلاكه .
وفي القرض قال : القرض مندوب ، وقد يعرض له ما يوجبه كالقرض لتخليص مستهلك .
و - الملك :
35 - الأصل في العتق أنّه مندوب مرغّب فيه ، لكن يكون واجباً على من ملك أصله أو فرعه ، حيث يعتق عليه بنفس الملك .
أسباب منع التّطوّع :
36 - يمنع التّطوّع لأسباب متعدّدة ، منها :
أ - وقوعه في الأوقات المنهيّ عنها :
37 - التّطوّع بالعبادة في الأوقات الّتي نهى الشّارع عن وقوع العبادة فيها ممنوع ، كالصّلاة وقت طلوع الشّمس أو غروبها أو عند الاستواء ، لحديث عقبة بن عامر الجهنيّ رضي الله عنه قال : « ثلاث ساعات كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلّي فيهنّ ، أو أن نقبر فيهنّ موتانا : حين تطلع الشّمس بازغة حتّى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظّهيرة حتّى تميل الشّمس ، وحين تضيف الشّمس للغروب حتّى تغرب » .
ومثل ذلك التّطوّع بالصّوم في أيّام العيد والتّشريق ، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين : يوم الفطر ، ويوم النّحر » .
وينظر في صحّة ذلك وتفصيله : ( أوقات الصّلوات - صلاة - نفل - صوم ) .
ب - إقامة الصّلاة المكتوبة :
38 - يمنع التّطوّع بالصّلاة إذا شرع المؤذّن في الإقامة للصّلاة ، أو تضيّق الوقت بحيث لا يتّسع لأداء أيّ نافلة . قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا أقيمت الصّلاة فلا صلاة إلا المكتوبة » . ( ر : أوقات الصّلاة ، نفل ) .
ج - عدم الإذن ممّن يملك الإذن :
39 - من يتوقّف تطوّعه على إذن غيره لا يجوز له أن يتطوّع إلا بعد الإذن له ، وعلى ذلك فلا يجوز للمرأة أن تتطوّع بصوم أو اعتكاف أو حجّ إلا بإذن زوجها ، ولا يصوم الأجير تطوّعا إلا بإذن المستأجر إذا تضرّر بالصّوم ، ولا يجوز للولد البالغ الإحرام بنفل حجّ أو عمرة أو نفل جهاد إلا بإذن الأبوين .
وهذا في الجملة ، وينظر تفصيل ذلك في : ( نفل ، صلاة ، صوم ، حجّ ، إجارة ، أنثى ) .
د - الإفلاس في الحجر بالنّسبة للتّبرّعات الماليّة :
40 - من أحَاط الدّين بماله فإنّه يمنع شرعا من التّصرّف في أيّ وجه من وجوه التّبرّع كالصّدقة والهبة ، وهذا بعد الحجر باتّفاق ، أمّا قبل الحجر ففيه اختلاف الفقهاء ( ر : حجر ، تبرّع ، إفلاس ) .
وتمنع التّبرّعات المنجّزة - كالعتق والهبة المقبوضة والصّدقة وغير ذلك - إن زادت على الثّلث ، وكانت التّبرّعات في مرض الموت ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه تصدّق عليكم قبل وفاتكم بثلث أموالكم » .
ويتوقّف نفاذ تلك التّصرّفات على إجازة الورثة بعد وفاة المورّث . ومن وقف وقفاً مستقلاً ، ثمّ تبيّن أنّ عليه دينا ، ولم يمكن وفاء الدّين إلّا ببيع شيء من الوقف ، وهو في مرض الموت ، بيع باتّفاق العلماء . ويمنع من التّبرّع أيضا من تلزمه نفقة غيره ، بحيث لا يفضل شيء بعد ذلك . جاء في المنثور : القربات الماليّة كالعتق والوقف والصّدقة والهبة إذا فعلها من عليه دين ، أو من تلزمه نفقة غيره ممّا لا يفضل عن حاجته ، يحرم عليه في الأصحّ ، لأنّه حقّ واجب فلا يحلّ تركه لسنّة . وفي القواعد لابن رجب : نصّ أحمد في رواية حنبل فيمن تبرّع بماله بوقف أو صدقة وأبواه محتاجان : أنّ لهما ردّه ، ونصّ في رواية أخرى : أنّ من أوصى لأجانب ، وله أقارب محتاجون ، أنّ الوصيّة تردّ عليهم .
فتخرج من ذلك أنّ من تبرّع ، وعليه نفقة واجبة لوارث أو دين - ليس له وفاء - لهما ردّه . وكلّ هذا في الجملة وينظر في : ( حجر ، تبرّع ، هبة ، وقف ، وصيّة ) .
هـ - التّطوّع بشيء من القربات في المعصية :
41 - لا يجوز التّبرّع بشيء فيه معصية للّه تعالى ، ومن أمثلة ذلك :
- لا تصحّ إعارة الصّيد لمحرم بالحجّ . - لا تصحّ الوصيّة بما هو محرّم ، كالوصيّة للكنيسة ، والوصيّة بالسّلاح لأهل الحرب .
ولا الوصيّة ببناء كنيسة أو بيت نار أو عمارتهما أو الاتّفاق عليهما .
لا يصحّ الوقف على معصية، ولا على ما هو محرّم كالبيع والكنائس وكتب التّوراة والإنجيل. ومن وقف على من يقطع الطّريق لم يصحّ الوقف ، لأنّ القصد بالوقف القربة .
وفي وقف ذلك إعانة على المعصية . وهذا كلّه في الجملة .
وفي ذلك خلاف وتفصيل يرجع إليه في : ( الوقف ، والوصيّة ، والهبة ، والتّبرّع )
ثالثاً : ما يخصّ غير العبادات " من أحكام التّطوّع :
الإيجاب والقبول والقبض :
42 - من التّطوّعات ما يحتاج إلى الإيجاب والقبول ، وذلك في عقود التّبرّعات ، مثل العاريّة والهبة والوصيّة لمعيّن ، وكذا الوقف على معيّن - مع اختلاف الفقهاء في ذلك ، واختلافهم في اشتراط القبض أيضا - وتفصيل ذلك فيما يأتي :
أ - العاريّة :
43 - الإيجاب والقبول ركن في عقد العاريّة باتّفاق الفقهاء ، وقد يحلّ التّعاطي محلّ الإيجاب أو القبول . والقبض لا يمنع الرّجوع في العاريّة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لأنّها عقد غير لازم عندهم ، وللمعير الرّجوع في العاريّة في أيّ وقت ، سواء أقبضها المستعير أم لم يقبضها ، ويقولون : إنّ المنافع المستقبلة لم تحصل في يد المستعير ، لأنّها تستوفى شيئا فشيئا ، فكلّما استوفى شيئا فقد قبضه ، والّذي لم يستوفه لم يقبضه ، فجاز الرّجوع فيه ، إلّا أن يكون الرّجوع في حال يستضرّ به المستعير ، كإعارة أرض لزراعة أو دفن ميّت . وهذا في الجملة عندهم ، وينظر تفصيله في : ( عاريّة ) .
أمّا المالكيّة : فالإعارة عقد لازم عندهم ، فهي تفيد تمليك المنفعة بالإيجاب والقبول ، ولا يجوز الرّجوع فيها قبل المدّة المحدّدة ، أو قبل إمكان الانتفاع بالمستعار إن كانت مطلقة . وهذا في الجملة كذلك .
ب - الهبة :
44 - الإيجاب والقبول ركن من أركان الهبة باتّفاق الفقهاء .
أمّا القبض فلا بدّ منه لثبوت الملك ، وذلك عند الحنفيّة والشّافعيّة ، لأنّ الملك لو ثبت بدونه للزم المتبرّع شيء لم يلتزمه ، وهو التّسلّم ، فلا تملك بالعقد بل بالقبض ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّها قالت : « إنّ أبا بكر الصّدّيق كان نحلها جادّ عشرين وسقاً من ماله بالغابة . فلمّا حضرته الوفاة قال : واللّه ، يا بنيّة ما من النّاس أحد أحبّ إليّ غنى بعدي منك ، ولا أعزّ عليّ فقراً بعدي منك ، وإنّي كنت نحلتك جادّ عشرين وسقاً ، فلو كنت جدّدتيه واحتزتيه كان لك ، وإنّما هو اليوم مال وارث » .
وما ذهب إليه الحنفيّة والشّافعيّة هو رأي بعض الحنابلة . قال المجد بن تيميّة في شرح الهداية : الملك في الموهوب لا يثبت بدون القبض ، وكذا صرّح ابن عقيل الحنبليّ : أنّ القبض ركن من أركان الهبة كالإيجاب في غيرها ، وكلام الخرقيّ يدلّ عليه . والرّأي الآخر للحنابلة : أنّ الهبة تملك بالعقد ، فيصحّ التّصرّف من الموهوب له فيها قبل القبض ، كذا في المنتهى وشرحه ، وهو الّذي قدّمه في الإنصاف . وعلى رأي الحنفيّة والشّافعيّة ، ومن رأى رأيهم من الحنابلة : يجوز الرّجوع فيها قبل القبض ، لأنّ عقد الهبة لم يتمّ . ولكنّه عند من يرى ذلك من الحنابلة يكون مع الكراهة ، خروجاً من خلاف من قال : إنّ الهبة تلزم بالعقد . وعند المالكيّة : تملك الهبة بالقبول على المشهور ، وللمتّهب طلبها من الواهب إن امتنع ولو عند حاكم ، ليجبره على تمكين الوهوب له منها . لكن قال ابن عبد السّلام : القبول والحيازة معتبران في الهبة ، إلا أنّ القبول ركن والحيازة شرط . أي في تمامها ، فإن عدم لم تلزم ، وإن كانت صحيحة . على أنّ الهبة لو تمّت بالقبض ، فإنّه يجوز الرّجوع فيها عند الحنفيّة إن كانت لأجنبيّ ، أي غير ذي رحم محرم ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
« الرّجل أحقّ بهبته ما لم يثب منها » أمّا عند الجمهور فلا يجوز الرّجوع فيها بعد القبض ، إلّا الوالد فيما يهب لولده فإنّه يجوز له الرّجوع لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « العائد في هبته كالعائد في قيئه » . وينظر تفصيل ذلك في ( هبة ) .
ج - الوصيّة لمعيّن :
45 - من أركان الوصيّة الإيجاب من الموصي والقبول من الموصى له المعيّن ، لكنّ القبول لا يعتبر إلّا بعد موت الموصي ، ولا يفيد القبول قبل موته ، لأنّ الوصيّة عقد غير لازم ، والموصي يملك الرّجوع في وصيّته ما دام حيّاً ، وبالقبول يملك الموصى له الموصى به ، ولا يتوقّف الملك على القبض ، وهذا عند الحنفيّة - غير زفر - والمالكيّة ، والشّافعيّة والحنابلة . أمّا عند زفر فركن الوصيّة هو الإيجاب فقط من الموصي ، ويثبت الملك للموصى له من غير قبول كالإرث . وينظر تفصيل ذلك في ( وصيّة ) .
د - الوقف على معيّن :
46 - الإيجاب ركن من أركان الوقف ، سواء أكان على معيّن أم لم يكن . أمّا القبول : فإن كان الوقف على معيّن فإنّه يشترط قبوله ، وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة .
وعند الحنابلة : لا يفتقر الوقوف على معيّن إلى القبول ، لأنّه إزالة ملك يمنع البيع ، فلم يعتبر فيه القبول كالعتق ، أمّا القبض فليس بشرط عند الشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ، وعند المالكيّة ومحمّد : القبض شرط . وينظر تفصيل ذلك في ( وقف ) .
تطيّب *
التّعريف :
1 - التّطيّب في اللّغة : مصدر تطيّب ، وهو التّعطّر . والطّيب هو : العطر ، وهو ما له رائحة مستلذّة ، كالمسك والكافور والورد والياسمين والورس والزّعفران .
ولا يخرج معناه في الاصطلاح عن هذا المعنى اللّغويّ .
2 - والطّيب ينقسم إلى قسمين : مذكّر ، مؤنّث . فالمذكّر : ما يخفى أثره ، أي تعلّقه بما مسّه من ثوب أو جسد ، ويظهر ريحه . والمراد به أنواع الرّياحين ، والورد ، والياسمين . وأمّا المياه الّتي تعصر ممّا ذكر فليس من قبيل المؤنّث . والمؤنّث : هو ما يظهر لونه وأثره ، أي تعلّقه بما مسّه تعلّقا شديدا كالمسك ، والكافور ، والزّعفران .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّزيّن :
3 - التّزيّن : هو اتّخاذ الزّينة ، وهي اسم جامع لكلّ شيء يتزيّن به ، فالتّزيّن ما يحسن به منظر الإنسان .
الحكم التّكليفيّ :
4 - الأصل سنّيّة التّطيّب ، ويختلف الحكم بحسب الأحوال ، على ما سيأتي .
تطيّب الرّجل والمرأة :
5 - يسنّ التّطيّب ، لخبر أبي أيّوب رضي الله عنه مرفوعاً « أربع من سنن المرسلين : الحنّاء ، والتّعطّر ، والسّواك ، والنّكاح » ولقول الرّسول صلى الله عليه وسلم « حبّب إليّ من دنياكم : النّساء والطّيب ، وجعلت قرّة عيني في الصّلاة » .
والطّيب يستحبّ للرّجل داخل بيته وخارجه ، بما يظهر ريحه ويخفى لونه ، كبخور العنبر والعود . ويسنّ للمرأة في غير بيتها بما يظهر لونه ويخفى ريحه ، لخبر رواه التّرمذيّ والنّسائيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه « طيب الرّجال ما ظهر ريحه وخفي لونه ، وطيب النّساء ما خفي ريحه وظهر لونه » ولأنّها ممنوعة في غير بيتها ممّا ينمّ عليها ، لحديث : « أيّما امرأة استعطرت ، فمرّت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية » وفي بيتها تتطيّب بما شاءت ، ممّا يخفى أو يظهر ، لعدم المانع .
التّطيّب لصلاة الجمعة :
6 - يندب التّطيّب لصلاة الجمعة بلا خلاف . لحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال :
« قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إنّ هذا يوم عيد جعله اللّه للمسلمين ، فمن جاء منكم إلى الجمعة فليغتسل ، وإن كان طيب فليمسّ منه ، وعليكم بالسّواك » .
وعن سلمان الفارسيّ رضي الله عنه قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يغتسل رجل يوم الجمعة ، ويتطهّر ما استطاع من طهر ، ويدهن من دهنه أو يمسّ من طيب بيته ، ثمّ يخرج لا يفرّق بين اثنين ، ثمّ يصلّي ما كتب له ، ثمّ ينصت إذا تكلّم الإمام ، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى » .
التّطيّب لصلاة العيد :
7 - يندب للرّجل قبل خروجه لصلاة العيد أن يتطيّب بما له ريح لا لون له ، وبهذا قال الجمهور . أمّا النّساء فلا بأس بخروجهنّ غير متطيّبات ولا لابسات ثياب زينة أو شهرة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تمنعوا إماء اللّه مساجدَ اللّه ، وليخرجن تَفِلات » والمراد بالتّفلات : غير المتطيّبات .
تطيّب الصّائم :
8 - يباح للصّائم أن يتطيّب عند الحنفيّة .
وقال المالكيّة : يجوز التّطيّب للصّائم المعتكف ، ويكره للصّائم غير المعتكف . قال الدّردير : لأنّ المعتكف معه مانع يمنعه ممّا يفسد اعتكافه ، وهو لزومه المسجد وبعده عن النّساء . وقال الشّافعيّة : يسنّ للصّائم ترك شمّ الرّياحين ولمسها . والمراد أنواع الطّيب ، كالمسك والورد والنّرجس ، إذا استعمله نهارا لما فيها من التّرفّه ، ويجوز له ذلك ليلا ، ولو دامت رائحته في النّهار ، كما في المحرم . وأمّا الحنابلة ، فقالوا : يكره للصّائم شمّ ما لا يأمن أن يجذبه نفسه إلى حلقه كسحيق مسك ، وكافور ، ودهن ونحوها ، كبخور عود وعنبر .
تطيّب المعتكف :
9 - يجوز للمعتكف أن يتطيّب نهاراً أو ليلاً بأنواع الطّيب عند جمهور الفقهاء ، إلا في رواية عن الإمام أحمد أنّه قال : إنّه لا يعجبني أن يتطيّب .
وذلك لأنّ الاعتكاف عبادة تختصّ مكانا ، فكان ترك الطّيب فيه مشروعا كالحجّ .
واستدلّ القائلون بجواز التّطيّب بقوله تعالى : { يَا بَني آدَمَ خُذُوا زِيْنَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } .
التّطيّب في الحجّ :
10 - اتّفق الفقهاء على أنّ التّطيّب أثناء الإحرام في البدن أو الثّوب محظور . أمّا التّطيّب للإحرام قبل الدّخول فيه فهو مسنون استعدادا للإحرام عند الجمهور ، وكرهه مالك لما روي من كراهته عن عمر ، وعثمان ، وابن عمر رضي الله عنهم ، وجماعة من التّابعين .
ودليل سنّيّة التّطيّب في البدن للإحرام ما روت عائشة رضي الله عنها قالت : « كنت أطيّب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ، ولحلّه قبل أن يطوف بالبيت » وعنها رضي الله عنها قالت : « كأنّي أنظر إلى وبيص الطّيب في مفارق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو محرم » .
والصّحيح عندهم جواز التّطيّب بما يبقى جرمه بعد الإحرام ، لصريح حديث عائشة الثّاني . وأمّا المالكيّة : فحظروا بقاء جرم الطّيب وإن ذهبت رائحته .
11 - أمّا التّطيّب في الثّوب للإحرام : فمنعه الجمهور ، وأجازه الشّافعيّة في القول المعتمد. فلا يضرّ بقاء الرّائحة الطّيّبة في الثّوب اتّفاقا قياسا للثّوب على البدن .
لكن نصّوا على أنّه لو نزع ثوب الإحرام أو سقط عنه ، فلا يجوز له أن يعود إلى لبسه ما دامت الرّائحة فيه ، بل يزيل منه الرّائحة ثمّ يلبسه ، وهذا قول سعد بن أبي وقّاص ، وابن الزّبير ، وعائشة ، وأمّ حبيبة رضي الله عنهم ، والثّوريّ وغيرهم .
واحتجّ الشّافعيّة بحديثي عائشة رضي الله عنها السّابقين ، وهما صحيحان رواهما البخاريّ ومسلم ، وقالوا : إنّ الطّيب معنى يراد للاستدامة فلم يمنع الإحرام من استدامته كالنّكاح وسواء فيما ذكر الطّيب الّذي يبقى له جرم بعد الإحرام والّذي لا يبقى ، وسواء الرّجل والمرأة الشّابّة والعجوز . وذهب الحنفيّة - في الأصحّ - إلى عدم جواز التّطيّب للإحرام في الثّوب ، ولا يجوز أن يلبس ثوب إحرام مطيّبا ، لأنّه بذلك يكون مستعملا للطّيب في إحرامه باستعمال الثّوب ، وهو محظور على المحرم ، والفرق : أنّ الطّيب في الثّوب منفصل ، أمّا في البدن فهو تابع له ، وسنّيّة التّطيّب تحصل بتطييب البدن، فأغنى عن تجويزه في الثّوب. وذهب المالكيّة : إلى أنّه إن تطيّب قبل الإحرام يجب عليه إزالته عند الإحرام ، سواء كان ذلك في بدنه أو ثوبه ، فإن بقي في البدن أو الثّوب بعد الإحرام شيء من جرم الطّيب - الّذي تطيّب به قبل الإحرام - وجبت عليه الفدية ، وأمّا إذا كان في الثّوب رائحته ، فلا يجب نزع الثّوب لكن يكره استدامته ولا فدية .
وأمّا اللّون : ففيه قولان عند المالكيّة ، وهذا كلّه في اليسير ، وأمّا الأثر الكثير ففيه الفدية ، واستدلّ المالكيّة بحديث يعلى بن أميّة رضي الله عنه قال : « أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجل متضمّخ بطيب وعليه جبّة فقال : يا رسول اللّه ، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبّة ، بعدما تضمّخ بطيب ؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أمّا الطّيب الّذي بك فاغسله ثلاث مرّات ، وأمّا الجبّة فانزعها ، ثمّ اصنع في عمرتك ما تصنع في حجّك » . فاستدلّوا بهذا الحديث على حظر الطّيب على المحرم في البدن والثّوب .
ويقول ابن قدامة : إن طيّب ثوبه فله استدامة لبسه ما لم ينزعه ، فإن نزعه لم يكن له أن يلبسه ، فإن لبسه افتدى ، لأنّ الإحرام يمنع ابتداء الطّيب ولبس المطيّب دون الاستدامة . وكذلك إن نقل الطّيب من موضع بدنه إلى موضع آخر افتدى ، لأنّه تطيّب في إحرامه ، وكذا إن تعمّد مسّه أو نحّاه من موضعه ثمّ ردّه إليه ، فأمّا إن عرق الطّيب أو ذاب بالشّمس فسال من موضعه إلى موضع آخر ، فلا شيء عليه ، لأنّه ليس من فعله .
قالت عائشة رضي الله عنها : « كنّا نخرج مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكّة فنضمّد جباهنا بالمسك المطيّب عند الإحرام ، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها ، فيراها النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا » .
12 - وأمّا التّطيّب بعد الإحرام ، فإنّه يحظر على المحرم استعماله في ثيابه وبدنه ، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال ولا تلبسوا من الثّياب ما مسّه وَرْس أو زعفران » ولما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « قال في شأن المحرم الّذي وَقَصَتْه راحلته لا تمسّوه بطيب » ، وفي لفظ « لا تحنّطوه » ووجهه : أنّه لمّا منع الميّت من الطّيب لإحرامه ، فالحيّ أولى . ومتى تطيّب وجبت عليه الفدية ، لأنّه استعمل ما حرّمه الإحرام ولو للتّداوي ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : « المحرم : الأشعث الأغبر » . والطّيب ينافي الشّعث . ويجب الفداء عند المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، لأيّ تطيّب ممّا هو محظور ، دون تقييد بأن يطيّب عضواً كاملاً أو مقداراً من الثّوب معيّناً .
وإنّما وجبت الفدية قياساً على الحلق ، لأنّه منصوص عليه في القرآن في قوله تعالى :
{ وَلا تَحْلِقُوا رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَديُ مَحِلَّه ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضَاً أَو بِه أَذَىً مِنْ رَأْسِه فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أَو نُسُكٍ } . ولما ورد عن كعب بن عجرة رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له ، حين رأى هوامّ رأسه : أيؤذيك هوامّ رأسك ؟ قال : قلت : نعم قال : فاحلق ، وصم ثلاثة أيّام ، أو أطعم ستّة مساكين ، أو انسك نسيكة » .
وفرّق الحنفيّة بين تطيّب وتطيّب ، فقالوا : تجب شاة إن طيّب المحرم عضوا كاملا ، مثل الرّأس واليد والسّاق ، أو ما بلغ عضوا كاملا لو جمع . والبدن كلّه كعضو واحد إن اتّحد المجلس ، وإن تفرّق المجلس فلكلّ طيب كفّارة إن شمل عضوا واحدا أو أكثر ، سواء كفّر للأوّل أم لا ، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف . وقال محمّد : عليه كفّارة واحدة ، ولو فدى ولم يزل الطّيب لزمه فدية أخرى، لأنّ ابتداءه كان محظوراً ، فيكون لبقائه حكم ابتدائه. ووجه وجوب الشّاة : أنّ الجناية تتكامل بتكامل الارتفاق ، وذلك في العضو الكامل فيترتّب كمال الموجب . وإن طيّب أقلّ من عضو : فعليه أن يتصدّق بنصف صاع من برّ ، لقصور الجناية إلا أن يكون الطّيب كثيرا ، فعليه دم . وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف .
وقال محمّد : يُقَوَّم ما يجب فيه الدّم فيتصدّق بذلك القدر ، حتّى لو طيّب ربع عضو فعليه من الصّدقة قدر ربع شاة ، وهكذا ، لأنّ تطييب عضو كامل ارتفاق كامل ، فكان جناية كاملة ، فيوجب كفّارة كاملة ، وتطييب ما دون العضو الكامل ارتفاق قاصر ، فيوجب كفّارة قاصرة ، إذ الحكم يثبت على قدر السّبب ، إلّا أن يكون الطّيب كثيرا فعليه دم ، ولم يشترط الحنفيّة استمرار الطّيب لوجوب الجزاء ، بل يجب بمجرّد التّطيّب .
وأمّا تطييب الثّوب فتجب فيه الفدية عند الحنفيّة بشرطين :
أوّلهما : أن يكون كثيرا ، وهو ما يصلح أن يغطّي مساحة تزيد على شبر في شبر .
والثّاني : أن يستمرّ نهارا ، أو ليلة . فإن اختلّ أحد هذين الشّرطين وجبت الصّدقة ، وإن اختلّ الشّرطان وجب التّصدّق بقبضة من قمح .
والأصل في حظر تطييب الثّوب ولبسه بعد الإحرام قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تلبسوا شيئا من الثّياب مسّه الزّعفران ولا الورس » .
والمحرم - ذكرا كان أو غيره - ممنوع من استعمال الطّيب في إزاره أو ردائه وجميع ثيابه ، وفراشه ونعله ، حتّى لو علق بنعله طيب وجب عليه أن يبادر لنزعه ، ولا يضع عليه ثوبا مسّه الورس أو الزّعفران أو نحوهما من صبغ له طيب .
واستعمال الطّيب هو : أن يلصق الطّيب ببدنه أو ملبوسه على الوجه المعتاد في ذلك الطّيب ، ممّا يقصد منه ريحه غالبا ولو مع غيره ، كمسك أو عود ، وكافور ، وورس ، وزعفران ، وريحان ، وورد ، وياسمين ، ونرجس ، وآس ، وسوسن ، ومنثور ، ونمّام ، وغير ما ذكر ، ممّا يتطيّب به ، ويتّخذ منه الطّيب ، أو يظهر فيه هذا الغرض .
13 - ويكره للمحرم شمّ الطّيب ، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وقال المالكيّة : يكره شمّ الطّيب مذكّره ومؤنّثه دون مسّ . وأمّا الحنابلة : فقالوا : يحرم تعمّد شمّ الطّيب كالمسك والكافور ونحوهما ، ممّا يتطيّب بشمّه كالورد والياسمين . فإن فعل المحرم ذلك وجب الفداء عليه ، لأنّ الفدية تجب فيما يتّخذ منه ، فكذلك في أصله ، وعن الإمام أحمد رواية أخرى في الورد : لا فدية عليه في شمّه ، لأنّه زهر شمّه على جهته ، أشبه زهر سائر الشّجر ، والأولى تحريمه ، لأنّه ينبت للطّيب ويتّخذ منه ، أشبه الزّعفران ، والعنبر .
ما يباح من الطّيب وما لا يباح بالنّسبة للمحرم :
14 - قال ابن قدامة : النّبات الّذي تستطاب رائحته على ثلاثة أضرب :
أحدها : ما لا ينبت للطّيب ولا يتّخذ منه كنبات الصّحراء من الشّيح والقيصوم ، والخزامى ، والفواكه كلّها ، من الأترجّ ، والتّفّاح والسّفرجل ، وغيره ، وما ينبته الآدميّون لغير قصد الطّيب ، كالحنّاء ، والعصفر ، وهذان يباح شمّهما ولا فدية فيهما بلا خلاف ، غير أنّه روي عن ابن عمر رضي الله عنهما : أنّه كان يكره للمحرم أن يشمّ شيئا من نبات الأرض ، من الشّيح والقيصوم وغيرهما ، وقد « روي أنّ أزواج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كنّ يحرمن في المعصفرات » .
الثّاني : ما ينبته الآدميّون للطّيب ولا يتّخذ منه طيب ، كالرّيحان الفارسيّ والنّرجس ، والبرم ، وفيه وجهان :
أحدهما : يباح بغير فدية ، قاله عثمان بن عفّان ، وابن عبّاس رضي الله عنهم ، والحسن ، ومجاهد ، وإسحاق . والآخر : يحرم شمّه ، فإن فعل فعليه الفدية ، وهو قول جابر ، وابن عمر ، والشّافعيّ وأبي ثور ، لأنّه يتّخذ للطّيب ، فأشبه الورد .
الثّالث : ما ينبت للطّيب ، ويتّخذ منه طيب ، كالورد ، والبنفسج ، والخيريّ وهذا إذا استعمله المحرم وشمّه ففيه الفدية ، لأنّ الفدية تجب فيما يتّخذ منه ، فكذلك في أصله .
وإن مسّ المحرم من الطّيب ما يعلق ببدنه ، كالغالية وماء الورد ، والمسك المسحوق الّذي يعلق بأصابعه ، فعليه الفدية ، لأنّه مستعمل للطّيب . وإن مسّ ما لا يعلق بيده ، كالمسك غير المسحوق ، وقطع الكافور ، والعنبر ، فلا فدية ، لأنّه غير مستعمل للطّيب .
فإن شمّه فعليه الفدية لأنّه يستعمل هكذا ، وإن شمّ العود - أي خشب العود - فلا فدية عليه ، لأنّه لا يتطيّب به
تطيّب المحرم ناسياً أو جاهلاً :
15 - إن تطيّب المحرم ناسياً فلا فدية عليه عند الشّافعيّة والحنابلة ، في المشهور عندهم ، وهو مذهب عطاء ، والثّوريّ ، وإسحاق ، وابن المنذر ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم « إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » .
وإن أخّر ذلك عن زمن الإمكان فعليه الفدية عند الحنابلة ، واستدلّ القائلون بعدم وجوب الفدية على النّاسي أيضاً : بخبر يعلى بن أميّة رضي الله عنه « أنّ رجلا أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة ، وعليه جبّة ، وعليه أثر خلوق ، أو قال : أثر صفرة . فقال : يا رسول اللّه كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟ قال : اخلع عنك الجبّة ، واغسل أثر الخلوق عنك . أو قال : الصّفرة ، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجّك » فدلّ ذلك على أنّه عذره لجهله ، والنّاسي في معناه ، وله غسل الطّيب بيده بلا حائل ، لعموم أمره صلى الله عليه وسلم بغسله . وأمّا الحنفيّة والمالكيّة ، وهو الرّواية الثّانية عن أحمد فقالوا : يجب دم على المحرم البالغ ولو ناسياً إن طيّب عضواً كاملاً ، أو ما يبلغ عضواً لو جمع .
تطيّب المبتوتة :
16 - يحرم على المطلّقة ثلاثاً التّطيّب لوجوب الإحداد عليها ، لأنّها معتدّة بائن من نكاح صحيح ، وهي كالمتوفّى عنها زوجها ، وهذا عند الحنفيّة ، وهو قول للشّافعيّة ، والحنابلة. أمّا المالكيّة فقالوا : إنّ التّطيّب لا يحرم إلا على المتوفّى عنها زوجها ، ومن في حكمها وهي : زوجة المفقود المحكوم بفقده . لقوله تعالى : { وَالّذِينَ يُتَوَفَّونَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجَاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرَاً }
والقول الآخر للشّافعيّة والحنابلة : لا يحرم التّطيّب ، لأنّ الإحداد لا يجب على المطلّقة ثلاثاً ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً » وهذه عدّة الوفاة ، فدلّ على أنّ الإحداد يجب فيها فقط . والمطلّقة بائناً معتدّة عن غير وفاة ، فلم يجب عليها الإحداد كالرّجعيّة ، ولأنّ المطلّقة بائناً فارقها زوجها باختيار نفسه وقطع نكاحها ، فلا معنى لتكليفها الحزن عليه ، فيجوز لها أن تتطيّب .
وزاد الحنفيّة المطلّقة طلقة واحدة بائنة ، وقالوا : يلزمها ترك التّطيّب ، لأنّه يلزمها الحداد ، ولو أمرها المطلّق بتركه ، لأنّه حقّ الشّرع .
تطيّر *
التّعريف :
1 - التّطيّر في اللّغة : التّشاؤم . يقال : تطيّر بالشّيء ، ومن الشّيء : تشاءم به .
والاسم الطِيَرة . جاء في فتح الباري : التّطيّر ، والتّشاؤم شيء واحد .
والمعنى الاصطلاحيّ لا يختلف عن اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الفأل :
2 - الفَأْل ضدّ الطّيرة ، يقال : تفاءل الرّجل : إذا تيمّن بسماع كلمة طيّبة .
والفرق بينه وبين الطّيرة : أنّ الفأل يستعمل فيما يستحبّ ، والتّطيّر فيما يكره غالباً .
ب - الكهانة :
3 - الكهانة : ادّعاء علم الغيب ، والإخبار بما سيحدث في المستقبل مع الإسناد إلى سبب .
أصل التّطيّر :
4 - أصل التّطيّر : أنّ العرب كانوا في الجاهليّة إذا خرج أحدهم لأمر قصد إلى عشّ طائر ، فيهيّجه ، فإذا طار الطّير يمنة تيمّن به ، ومضى في الأمر ، ويسمّونه " السّانح " .
أمّا إذا طار يسرة تشاءم به ، ورجع عمّا عزم عليه ، وكانوا يسمّونه " البارح " . فأبطل الإسلام ذلك ونهى عنه ، وأرجع الأمر إلى سنن اللّه الثّابتة ، وإلى قدره المحيط ، ومشيئته المطلقة ، جاء في الأثر الصّحيح : « من ردّته الطّيرة من حاجة فقد أشرك » ونحوه كثير .
حكمه التّكليفيّ :
5 - إن اعتقد المكلّف أنّ الّذي شاهده من حال الطّير موجب لما ظنّه ، مؤثّر فيه ، فقد كفر . لما في ذلك من التّشريك في تدبير الأمور .
أمّا إذا علم أنّ اللّه سبحانه وتعالى هو المتصرّف والمدبّر وحده ، ولكنّه في نفسه يجد شيئاً من الخوف من الشّرّ ، لأنّ التّجارب عنده قضت أنّ صوتاً من أصوات الطّير ، أو حالاً من حالاته يرادفه مكروه ، فإن وطّن نفسه على ذلك فقد أساء ، وإن استعاذ باللّه من الشّرّ ، وسأله الخير ومضى متوكّلا على اللّه ، فلا يضرّه ما وجد في نفسه من ذلك ، وإلا فيؤاخذ . لحديث « معاوية بن حكيم . قال : قلت : يا رسول اللّه : منّا رجال يتطيّرون . قال : ذلك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدّنّهم » .
هذا وقد اتّفق أهل التّوحيد على تحريم التّطيّر ، ونفي تأثيره في حدوث الخير أو الشّرّ ، لما في ذلك من الإشراك باللّه في تدبير الأمور . والنّصوص في النّهي عن ذلك كثيرة ، منها : حديث : « لا عدوى ، ولا طيرة ولا هامّة ، ولا صفر » .
أمّا الفأل الحسن فهو جائز ، وجاء في الأثر : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطيّر ، وكان يحبّ أن يسمع يا راشد يا رجيح » .
وروي عنه : « لا عدوى ولا طيرة ، ويعجبني الفأل الصّالح : الكلمة الحسنة » .
والفأل أمل ورجاء للخير من اللّه تعالى عند كلّ سبب ضعيف أو قويّ ، بخلاف الطّيرة ، فهي سوء ظنّ باللّه ، والمؤمن مأمور بحسن الظّنّ باللّه ، لخبر قال اللّه تعالى في الحديث القدسيّ : « أنا عند ظنّ عبدي بي ، إن ظنّ بي خيراً فله ، وإن ظنّ شرّاً فله » .
والتّفصيل في مصطلح ( شؤم ) .
تعارض *
التّعريف :
1 - التّعارض في اللّغة : التّقابل . أصله من العرض وهو المنع . يقال : لا تعترض له ، أي : لا تمنعه باعتراضك أن يبلغ مراده . ومنه : الاعتراضات عند الأصوليّين والفقهاء الواردة على القياس وغيره من الأدلّة ، سمّيت بذلك لأنّها تمنع من التّمسّك بالدّليل ومنه : تعارض البيّنات ، لأنّ كلّ واحدة تعترض الأخرى وتمنع نفوذها .
ومنه : تعارض الأدلّة عند الأصوليّين ، وموطنه في الملحق الأصوليّ .
والتّعارض اصطلاحاً : التّمانع بين الدّليلين مطلقا ، بحيث يقتضي أحدهما غير ما يقتضي الآخر .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّناقض :
2 - التّناقض : هو التّدافع يقال : تناقض الكلامان ، أي : تدافعا ، كأنّ كلّ واحد منهما ينقض الآخر ويدفعه ، والمتناقضان لا يجتمعان أبدا ولا يرتفعان .
أمّا المتعارضان فقد يمكن ارتفاعهما .
ب - التّنازع :
3 - التّنازع الاختلاف . يقال : تنازع القوم ، أي : اختلفوا ومنه قوله تعالى : { وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } . فالتّنازع أعمّ ، لأنّه يشمل الاختلاف في الرّأي وغيره . حكم التّعارض :
4 - إذا تعارضت البيّنتان ، وأمكن الجمع بينهما جمع ، وإذا لم يمكن الجمع يصار إلى التّرجيح . والتّرجيح : تقديم دليل على دليل آخر يعارضه ، لاقتران الأوّل بما يقوّيه والتّعارض والتّرجيح يرد عند الأصوليّين والفقهاء .
فأمّا ما يتعلّق بالأصول فينظر في الملحق الأصوليّ .
وأمّا استعماله عند الفقهاء فمعظمه في شأن البيّنات ، وفيما يلي تفصيل ذلك :
وجوه التّرجيح في تعارض البيّنات :
5 - في كلّ مذهب من المذاهب الفقهيّة وجوه للتّرجيح .
ذكر الحنفيّة - في باب دعوى الرّجلين - وجوها لترجيح إحدى البيّنتين على الأخرى إذا تعارضتا وتساوتا في القوّة ، فقالوا : إن كانت العين في يد المدّعى عليه تقدّم بيّنة الخارج على بيّنة ذي اليد في دعوى الملك المطلق - الّذي لم يذكر سببه - إن وقّت أحدهما فقط
- أي ذكر تاريخا - وقال أبو يوسف : من وقّت أحقّ بالعين ، فإن أرّخا واتّحد المملّك ، فالأسبق تاريخا أحقّ بالعين لقوّة بيّنته ، ولو اختلف المملّك استويا .
وإن كانت العين في يد ثالث ، وأقام خارجان كلّ بيّنة ، وتساوتا ، قضي لهما بها مناصفة ، وذلك عند أبي حنيفة وصاحبيه .
وإن كان النّزاع على نكاح امرأة ، فأمّا أن تكون المرأة حيّة أو ميّتة ، فإن كانت حيّة سقطت البيّنتان لعدم إمكان الجمع بينهما .
وإن كانت ميّتة ورثاها ميراث زوج واحد ، ولو ولدت يثبت نسب الولد منهما .
وإن كانت العين في أيديهما معا ، واستويا في الحجّة والتّاريخ ، فالعين بينهما .
فإن اختلفا في التّاريخ فهي للسّابق . ولا عبرة عندهم بكثرة الشّهود ولا بزيادة العدالة - وعند الحنفيّة تفصيلات أخرى تنظر في كتبهم .
وعند المالكيّة التّرجيح يحصل بوجوه :
6 - الأوّل : بزيادة العدالة في المشهور . وروي عن مالك أنّه لا يرجّح بها ، وذلك موافق لما قاله الحنفيّة . وعلى القول بالتّرجيح بزيادة العدالة فلا بدّ أن يحلف من زادت عدالته ، وفي الموّازيّة : لا يحلف ، ولا يرجّح بكثرة العدد على المشهور كما هو رأي الحنفيّة . وروي عن مطرّف وابن الماجشون أنّه يرجّح بكثرة العدد عند تكافؤ البيّنتين في العدالة ، إلا أن يكثروا كثرة يكتفى بها فيما يراد من الاستظهار ، والآخرون كثيرون جدّاً ، فلا تراعى الكثرة حينئذ ، وإنّما يقع التّرجيح بمزيّة العدالة دون مزيّة العدد . قال ابن عبد السّلام : من رجّح بزيادة العدد لم يقل به كيفما اتّفق ، وإنّما اعتبره مع قيد العدالة .
7 - الثّاني : يكون التّرجيح أيضاً بقوّة الحجّة فيقدّم الشّاهدان على الشّاهد واليمين . وعلى الشّاهد والمرأتين ، وذلك إذا استووا في العدالة ، قال ذلك أشهب . وقال ابن القاسم : لا يقدّمان ثمّ رجع لقول أشهب . قال ابن القاسم : ولو كان الشّاهد أعدل من كلّ واحد منهما حكم به مع اليمين ، وقدّم على الشّاهدين . وقال ابن الماجشون ومطرّف : لا يقدّم ولو كان أعدل أهل زمانه ، وهو أقيس ، لأنّ بعض أهل المذهب لا يرى اليمين مع الشّاهد .
8 - الثّالث : اشتمال إحدى البيّنتين على زيادة تاريخ متقدّم أو سبب ملك ، وهذا يتّفق مع قول الحنفيّة بالأخذ بتاريخ السّابق .
وذكر القرافيّ أنّه لا يحكم بأعدل البيّنتين عند من رأى ذلك إلّا في الأموال خاصّة .
وقالوا : تقدّم بيّنة الملك على بيّنة الحوز ، وإن كان تاريخ الحوز متقدّما ، لأنّ الملك أقوى من الحوز . وتقدّم البيّنة النّاقلة على البيّنة المستصحبة .
ومثالها : أن تشهد بيّنة أنّ هذه الدّار لزيد بناها منذ مدّة ، ولا نعلم أنّها خرجت من ملكه إلى الآن . وتشهد البيّنة الأخرى : أنّ هذا اشتراها منه بعد ذلك ، فالبيّنة النّاقلة علمت ، والمستصحبة لم تعلم ، فلا تعارض بين الشّهادتين .
وإذا لم يمكن التّرجيح بين البيّنتين سقطتا ، وبقي المتنازع عليه بيد حائزه مع يمينه .
فإن كان بيد غيرهما ، فقيل : يبقى بيده . وقيل : يقسم بين مقيمي البيّنتين ، لاتّفاق البيّنتين على سقوط ملك الحائز . وإقرار من هو بيده لأحدهما ينزّل منزلة اليد للمقرّ له .
9 - وعند الشّافعيّة : أنّه لو تنازع اثنان عينا ، وكانت بيد أحدهما ، وأقام كلّ بيّنة ، وتساوتا قدّمت بيّنة صاحب اليد . ولا تسمع بيّنته إلا بعد بيّنة المدّعي .
وإن كانت العين في يد ثالث ، وأقام كلّ منهما بيّنة سقطت البيّنتان ، ويصار إلى التّحليف ، فيحلف صاحب اليد لكلّ منهما يميناً . وقيل : تستعمل البيّنتان وتنزع العين ممّن هي في يده ، وتقسم بينهما مناصفة في قول ، وفي قول آخر : يقرع بينهما فيأخذها من خرجت قرعته ، وفي قول : يوقف الأمر حتّى يتبيّن أو يصطلحا . وسكت في الرّوضة عن ترجيح واحد من الأقوال الثّلاثة . وقال القليوبيّ : قضيّة كلام جمهور الشّافعيّة ترجيح الثّالث ، لأنّه أعدل . وإن كانت في أيديهما ، وأقاما بيّنتين ، بقيت في أيديهما ، كما كانت على قول السّقوط . وقيل : تقسم بينهما على قول القسمة ، ولا يجيء الوقف ، وفي القرعة قولان .
ولو أزيلت يده ببيّنة ، ثمّ أقام بيّنة بملكه مستندا إلى ما قبل إزالة يده ، واعتذر بغيبة شهوده ، سمعت وقدّمت ، لأنّها إنّما أزيلت لعدم الحجّة ، وقد ظهرت ، فينقض القضاء . وقيل : لا ، والقضاء على حاله . ولو قال الخارج : هو ملكي اشتريته منك . فقال : بل ملكي . وأقاما بيّنتين بما قالاه تقدّم بيّنة الخارج ، لزيادة علم بيّنته بالانتقال .
والمذهب أنّ زيادة عدد شهود أحدهما لا ترجّح ، لكمال الحجّة في الطّرفين ، كما قال الحنفيّة . وفي قول من طريق ترجّح ، لأنّ القلب إلى الزّائد أميل . وكذا لو كان لأحدهما رجلان ، للآخر رجل وامرأتان ، لا يرجّح الرّجلان . وفي قول من طريق يرجّحان ، لزيادة الوثوق بقولهما . فإن كان للآخر شاهد ويمين يرجّح الشّاهدان في الأظهر ، لأنّهما حجّة بالإجماع . وفي الشّاهد واليمين خلاف . والقول الثّاني : يتعادلان ، لأنّ كلّا منهما حجّة كافية . ولو شهدت بيّنة لأحدهما بملك من سنة ، وبيّنة للآخر بملك من أكثر من سنة إلى الآن كسنتين ، والعين في يد غيرهما، فالأظهر ترجيح الأكثر ، لأنّ الأخرى لا تعارضها فيه. والرّأي الثّاني عند الشّافعيّة : أنّه لا ترجيح به ، لأنّ مناط الشّهادة الملك في الحال ، وقد استويا فيه ، ولصاحب بيّنة الأكثر - على القول بترجيحها - الأجرة ، والزّيادة الحادثة من يوم الحكم . وعلى القول الثّاني : تقسم بينهما ، أو يقرع ، أو يوقف حتّى يبيّن أو يصطلحا حسب الأقوال الثّلاثة . ولو أطلقت بيّنة ، وأرّخت بيّنة ، فالمذهب أنّهما سواء ، وهو المعتمد ، سواء كان المدّعى به بيدهما أو بيد غيرهما ، أو لا بيد واحد منهما . وقيل - كما في أصل الرّوضة - تقدّم البيّنة المؤرّخة ، لأنّها تقتضي الملك قبل الحال ، بخلاف المطلقة . ولو شهدت بيّنة أحدهما بالحقّ ، وبيّنة الآخر بالإبراء قدّمت بيّنة الإبراء .
هذا ومحلّ الاستواء في هذه المسألة - على ما ذكره القليوبيّ - ما لم يوجد مرجّح . فإن وجد المرجّح ككونه بيد أحدهما ، أو كانت بيّنته غير شاهد ويمين ، أو أسندت بيّنته لسبب : كأن شهدت بأنّه نتج في ملكه ، أو ثمر فيه ، أو حمل فيه ، أو ورثه من أبيه فتقدّم بيّنته .
10 - وعند الحنابلة : أنّ من ادّعى شيئا بيد غيره فأنكره ، ولكلّ واحد منهما بيّنة ، فقد اختلفت الرّواية عن أحمد فيما إذا تعارضتا : فالمشهور عنه تقديم بيّنة المدّعي ، ولا يلتفت إلى بيّنة المدّعى عليه بحال ، وهذا قول إسحاق ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على المدّعى عليه » فأمرنا بسماع بيّنة المدّعي ويمين المدّعى عليه ، وسواء شهدت بيّنة المدّعى عليه أنّها له ، أو قالت : ولدت في ملكه عليه . وعن أحمد رواية ثانية : إن شهدت بيّنة الدّاخل - أي صاحب اليد وهو المدّعى عليه - بسبب الملك ، وقالت مثلاً : إنّ الدّابّة المتنازع عليها نتجت في ملكه أو اشتراها ، أو كانت بيّنته أقدم تاريخا قدّمت بيّنته ، وإلا قدّمت بيّنة المدّعي ، لأنّ ( بيّنة الدّاخل ) أفادت بذكر السّبب ما لا تفيده اليد . واستدلّ لتقديم بيّنة الدّاخل : بما روى جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان في دابّة أو بعير ، فأقام كلّ واحد منهما البيّنة بأنّها له نتجها ، فقضى بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للّذي هي في يده » . وذكر أبو الخطّاب رواية ثالثة : أنّ بيّنة المدّعى عليه تقدّم بكلّ حال ، وهو قول شريح وأهل الشّام والشّعبيّ والحكم وأبي عبيد . وقال : هو قول أهل المدينة ، وروي عن طاوس . وأنكر القاضي كون هذا رواية عن أحمد ، وقال : لا تقبل بيّنة الدّاخل إذا لم تفد إلا ما أفادته يده ، رواية واحدة . واحتجّ من ذهب إلى هذا القول بأنّ جهة المدّعى عليه أقوى ، لأنّ الأصل معه ، ويمينه تقدّم على يمين المدّعي .
فإذا تعارضت البيّنتان : وجب إبقاء يده على ما فيها ، وتقديمه ، كما لو لم تكن بيّنة لواحد منهما . وحديث جابر يدلّ على هذا ، فإنّه إنّما قدّمت بيّنته ليده .
11 - واستدلّ لتقديم بيّنة المدّعي بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « البيّنة على المدّعي ، واليمين على المدّعى عليه » فجعل جنس البيّنة في جهة المدّعي ، فلا يبقى في جهة المدّعى عليه بيّنة . ولأنّ بيّنة المدّعي أكثر فائدة فوجب تقديمها كتقديم بيّنة الجرح على بيّنة التّعديل . ودليل كثرة فائدتها : أنّها تثبت شيئاً لم يكن .
وبيّنة المنكر إنّما تثبت ظاهرا تدلّ اليد عليه ، فلم تكن مفيدة ، ولأنّ الشّهادة بالملك يجوز أن يكون مستندها رؤية اليد والتّصرّف ، فإنّ ذلك جائز عند كثير من أهل العلم ، فصارت البيّنة بمنزل اليد المجرّدة ، فتقدّم عليها بيّنة المدّعي ، كما تقدّم على اليد ، كما أنّ شاهدي الفرع لمّا كانا مبنيّين على شاهدي الأصل ، لم تكن لهما مزيّة عليهما .
وإذا كان في يد رجل شاة ، فادّعى رجل أنّها له منذ سنة ، وأقام بذلك بيّنة . وادّعى الّذي هي في يده أنّها في يده منذ سنين ، وأقام لذلك بيّنة ، فهي للمدّعي بغير خلاف ، لأنّ بيّنته تشهد له بالملك ، وبيّنة الدّاخل تشهد له باليد خاصّة ، فلا تعارض بينهما ، لإمكان الجمع بينهما بأن تكون اليد على غير ملك ، فكانت بيّنة الملك أولى . فإن شهدت بيّنة بأنّها ملكه منذ سنتين ، فقد تعارض ترجيحان : فقدّم التّاريخ من جهة بيّنة الدّاخل ، وكون الأخرى بيّنة الخارج ففيه روايتان : إحداهما تقدّم بيّنة الخارج، وهو قول صاحبي أبي حنيفة ، وأبي ثور. والثّانية : تقدّم بيّنة الدّاخل ، وهو قول أبي حنيفة ، والشّافعيّ ، لأنّها تضمّنت زيادة .
تعارض الأدلّة في حقوق اللّه تعالى :
12 - المقرّر شرعا : أنّ الحدود الّتي هي حقّ اللّه تعالى تسقط بالشّبهات ، فإذا أقيمت بيّنة تامّة على فعل كالزّنى مثلاً ، وعارضتها بيّنة ولو أقلّ منها بعدم الفعل قدّمت ، وذلك استناداً إلى قوله صلى الله عليه وسلم : « ادرءوا الحدود بالشّبهات ما استطعتم » بل قال الحنفيّة : لو أقيمت عليه بيّنة بما يوجب الحدّ ، وادّعى شبهة من غير بيّنة ، سقط الحدّ .
وللمالكيّة تفصيل ، قالوا : إذا شهدت بيّنة بأنّه زنى عاقلاً ، وشهدت الأخرى بأنّه كان مجنونا : إن كان القيام عليه - أي الادّعاء - وهو عاقل ، قدّمت بيّنة العقل .
وإن كان القيام عليه وهو مجنون ، قدّمت بيّنة الجنون، فاعتبروا شهادة الحال في التّرجيح.
وقال ابن اللّبّاد : يعتبر وقت الرّؤية لا وقت القيام ، فلم يعتبر ظاهر الحال .
ونقل عن ابن القاسم : إثبات الزّيادة ، فإذا شهدت إحداهما : بالقتل أو السّرقة أو الزّنى ، وشهدت الأخرى : أنّه كان في مكان بعيد أنّه تقدّم بيّنة القتل ونحوه ، لأنّها مثبتة زيادة ، ولا يدرأ عنه الحدّ . قال سحنون : إلا أن يشهد الجمع العظيم - كالحجيج ونحوهم - أنّه كان معهم في الوقوف بعرفة ، أو صلّى بهم العيد في ذلك اليوم ، لأنّ هؤلاء لا يشتبه عليهم أمره ، بخلاف الشّاهدين .
تعارض تعديل الشّهود وتجريحهم :
13 - اعتبار العدالة في الشّاهد حقّ للّه تعالى ، ولهذا لو رضي الخصم بأن يحكم عليه بقول فاسق لم يجز الحكم به . والعدالة أو التّجريح لا يثبت كلّ منهما إلا بشهادة رجلين ، خلافا لأبي حنيفة ، وأبي يوسف ، فيثبت كلّ من التّعديل والتّجريح عندهما بشهادة واحد . وسبب الخلاف هل هما شهادة أو إخبار ؟ فعند الجمهور : شهادة ، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف : إخبار ، فيكفي الواحد في تزكية السّرّ ، ونصاب الشّهادة في تزكية العلانية .
فلو عدّل الشّاهد اثنان ، وجرّحه اثنان ، فالجرح أولى عند الحنفيّة ، والشّافعيّة والحنابلة ، وهو قول عند المالكيّة ، واستدلّوا : بأنّ الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدّل ، فوجب تقديمه ، لأنّ التّعديل يتضمّن ترك الرّيب والمحارم ، والجارح مثبت لوجود ذلك ، والإثبات مقدّم على النّفي ، ولأنّ الجارح يقول : رأيته يفعل كذا ، والمعدّل مستنده أنّه لم يره يفعل ، ويمكن صدقهما ، والجمع بين قوليهما : بأن يراه الجارح يفعل المعصية ، ولا يراه المعدّل ، فيكون مجروحا . وعند الشّافعيّة والحنابلة : أنّه لا بدّ في الجرح من ذكر السّبب ، ولم يشترطوا ذلك في التّعديل . وعند الحنفيّة : أنّ المزكّي يقول في الشّاهد المجروح " واللّه أعلم " ولا يزيد على هذا ، لأنّ في ذكر فسقه هتك عرضه ، وقد أمرنا بالسّتر على المسلم . وهذا كلّه إذا لم يعلم القاضي حال الشّهود ، إذ إنّه إذا كان يعلم حكم بمقتضى علمه .
وقال المالكيّة : لو عدّله شاهدان رجلان وجرّحه آخران ، ففي ذلك قولان ، قيل : يقضى بأعدلهما ، لاستحالة الجمع بينهما ، وقيل : يقضى بشهادة الجرح ، لأنّ شهود الجرح زادوا على شهود التّعديل ، إذ الجرح يَبْطُن ، فلا يطّلع عليه كلّ النّاس ، بخلاف العدالة .
وللّخميّ تفصيل ، قال : إن كان اختلاف البيّنتين في فعل شيء في مجلس واحد ، كدعوى إحدى البيّنتين : أنّه فعل كذا ، في وقت كذا ، وقالت البيّنة الأخرى : لم يكن ذلك ، فإنّه يقضى بأعدلهما .
وإن كان ذلك في مجلسين متقاربين قضي بشهادة الجرح ، لأنّها زادت علما في الباطن .
وإن تباعد ما بين المجلسين قضي بآخرهما تاريخا ، ويحمل على أنّه كان عدلا ففسق ، أو فاسقا فتزكّى ، إلا أن يكون في وقت تقييد الجرح ظاهر العدالة ، فبيّنة الجرح مقدّمة ، لأنّها زادت .
تعارض احتمال بقاء الإسلام وحدوث الرّدّة :
14 - فقهاء المذاهب لم يجمعوا على حكم واحد في هذا الموضوع . وأكثر المذاهب توسّعاً فيه مذهب الحنفيّة : إذ قالوا : لا يخرج الرّجل من الإيمان إلّا جحود ما أدخله فيه ، ثمّ ما تيقّن أنّه ردّة يحكم بها ، وما يشكّ أنّه ردّة لا يحكم بها ، إذ الإسلام الثّابت لا يزول بالشّكّ ، والإسلام يعلو . وينبغي للعالم إذا رفع إليه هذا ألا يبادر بتكفير أهل الإسلام ، مع أنّه يتساهل في إثبات الإسلام ، فيقضى بصحّة إسلام المكره . ونقل ابن عابدين عن صاحب الفتاوى الصّغرى قوله : الكفر شيء عظيم ، فلا أجعل المؤمن كافرا متى وجدت رواية أنّه لا يكفر . وفي كتب الحنفيّة : إذا كان في المسألة وجوه توجب التّكفير ، ووجه واحد يمنعه ، فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الّذي يمنع التّكفير ، تحسينا للظّنّ بالمسلم ، إلا إذا صرّح بإرادة موجب الكفر ، فلا ينفعه التّأويل .
ولا يكفر بالمحتمل ، لأنّ عقوبة الكفر نهاية في العقوبة ، تستدعي نهاية في الجناية ، ومع الاحتمال لا نهاية في الجناية ، والّذي تقرّر : أنّه لا يفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن ، أو كان في كفره اختلاف ، ولو رواية ضعيفة .
15 - وفقهاء المذاهب الأخرى يقولون أيضاً : إذا قام دليل أو قرينة تقتضي عدم القتل قدّمت . قالوا : ولو أسلم ثمّ ارتدّ عن قرب ، وقال : أسلمت عن ضيق أو خوف أو غرم ، وظهر عذره ، ففي قبول عذره قولان عند المالكيّة .
هذا ، وقد أورد الفقهاء قواعد عامّة في التّعارض ، وهي إن كانت أقرب إلى الأصول منها إلى الفقه ، إلا أنّه رتّبت عليها مسائل فقهيّة يسوّغ ذكرها هنا .
تعارض الأحكام التّكليفيّة في الفعل الواحد :
16 - من القواعد الّتي أوردها الزّركشيّ : أنّه لو تعارض الحظر والإباحة في فعل واحد يقدّم الحظر . ومن ثمّ لو تولّد الحيوان من مأكول وغيره ، حرم أكله ، وإذا ذبحه المحرم وجب الجزاء تغليبا للتّحريم .
ومنها : لو تعارض الواجب والمحظور ، يقدّم الواجب ، كما إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفّار ، وجب غسل الجميع ، والصّلاة عليهم . وكذلك اختلاط الشّهداء بغيرهم . وإن كان الشّهيد لا يغسّل ، ولا يصلّى عليه ، إلّا أنّه ينوى الصّلاة عليه إن لم يكن شهيداً . ولو أسلمت المرأة وجب عليها الهجرة إلى دار الإسلام ، ولو سافرت وحدها ، وإن كان سفرها وحدها في الأصل حراماً .
ويعذر المصلّي في التّنحنح إذا تعذّرت عليه القراءة الواجبة .
17 - ومن القواعد : ما لو تعارض واجبان ، قدّم آكدهما ، فيقدّم فرض العين على فرض الكفاية . فالطّائف حول الكعبة لا يقطع الطّواف لصلاة الجنازة .
ولو اجتمعت جنازة وجمعة وضاق الوقت ، قدّمت الجمعة . ومن هذا ليس للوالدين منع الولد من حجّة الإسلام على الصّحيح ، بخلاف الجهاد ، فإنّه لا يجوز إلا برضاهما ، لأنّ برّهما فرض عين ، والجهاد فرض كفاية ، وفرض العين مقدّم .
18 - ولو تعارضت فضيلتان ، يقدّم أفضلهما ، فلو تعارض البكور إلى الجمعة بلا غسل وتأخيره مع الغسل ، فالظّاهر : أنّ تحصيل الغسل أولى للخلاف في وجوبه . وهذا كلّه مذهب الشّافعيّة .
19 - ومن فروع قاعدة تعارض الحظر والإباحة : ما إذا تعارض دليلان أحدهما يقتضي التّحريم ، والآخر الإباحة ، قدّم التّحريم .
وعلّله الأصوليّون بتقديم النّسخ ، لأنّه لو قدّم المبيح للزم تكرار النّسخ ، لأنّ الأصل في الأشياء الإباحة ، فلو جعل المبيح متأخّرا كان المحرّم ناسخاً للإباحة الأصليّة ، ثمّ يصير منسوخا بالمبيح ، ولو جعل المحرّم متأخّرا كان ناسخا للمبيح ، وهو لم ينسخ شيئاً لكونه على وفق الأصل ، ولذلك قال عثمان رضي الله عنه - لمّا سئل عن الجمع بين الأختين بملك اليمين - أحلّتهما آية وحرّمتهما آية ، والتّحريم أحبّ إلينا . قالوا : وإنّما كان التّحريم أحبّ لأنّ فيه ترك مباح ، لا اجتناب محرّم ، وذلك أولى من عكسه .
20 - ومن أقسام التّعارض : أن يتعارض أصلان ، فإذا وقع ذلك يعمل بالأرجح منهما ، لاعتضاده بما يرجّحه . ومن صوره : ما إذا جاء بعض العسكر بمشرك ، فادّعى المشرك : أنّ المسلم أمّنه ، وأنكر ، ففيه روايتان :
إحداهما : القول قول المسلم في إنكار الأمان ، لأنّ الأصل عدم الأمان . والثّانية : القول قول المشرك ، لأنّ الأصل في الدّماء الحظر إلّا بيقين الإباحة ، وقد وقع الشّكّ هنا فيها . وفيه رواية ثالثة : أنّ القول قول من يدلّ الحال على صدقه منهما ، ترجيحا لأحد الأصلين بالظّاهر الموافق له . ولو تعارض الحنث والبرّ في يمين ، قدّم الحنث على البرّ ، فمن حلف على الإقدام على فعل شيء أو وجوده فهو على حنث ، حتّى يقع الفعل فيبرّ .
والحنث يدخل عند المالكيّة بأقلّ الوجوه ، والبرّ لا يكون إلا بأكمل الوجوه ، فمن حلف أن يأكل رغيفاً لم يبرّ إلا بأكل الرّغيف كلّه ، وإن حلف ألا يأكله حنث بأكل بعضه .
قال الغزاليّ في المستصفى : وقد ذهب قوم : إلى أنّ الخاصّ والعامّ يتعارضان ويتدافعان ، فيجوز أن يكون الخاصّ سابقاً ، وقد ورد العامّ بعده لإرادة العموم ، فنسخ الخاصّ . ويجوز أن يكون العامّ سابقاً وقد أريد به العموم ، ثمّ نسخ باللّفظ الخاصّ بعده . فعموم الرّقبة مثلاً يقتضي إجزاء الكافرة مهما أريد به العموم ، والتّقييد بالمؤمنة يقتضي منع إجزاء الكافرة ، فهما متعارضان . وإذا أمكن النّسخ والبيان جميعا فَلِمَ يُتحكّم بحمله على البيان دون النّسخ ؟ ولمَ يقطع بالحكم على العامّ بالخاصّ ؟ ولعلّ العامّ هو المتأخّر الّذي أريد به العموم ، وينسخ به الخاصّ ، وهذا هو الّذي اختاره القاضي ، والأصحّ عندنا : تقديم الخاصّ وإن كان ما ذكره القاضي ممكنا ، ولكنّ تقدير النّسخ محتاج إلى الحكم بدخول الكافرة تحت اللّفظ ، ثمّ خروجه عنه ، فهو إثبات وضع ، ورفع بالتّوهّم ، وإرادة الخاصّ باللّفظ العامّ غالب معتاد ، بل هو الأكثر ، والنّسخ كالنّادر ، فلا سبيل إلى تقديره بالتّوهّم ، ويكاد يشهد لما ذكرناه من سير الصّحابة والتّابعين كثير ، فإنّهم كانوا يسارعون إلى الحكم بالخاصّ على العامّ ، وما اشتغلوا بطلب التّاريخ والتّقدّم والتّأخّر .
وقيل على الشّذوذ : إنّه يخصّص من طريق المفهوم ، فإنّ الرّجال يقتضي مفهومه قتل غيرهم ، فإذا لم يتنافيا ، وكان لأحدهما مناسبة تخصّه في متعلّقه - كقوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيكُمْ المَيْتَةُ } وقوله تعالى : { لا تَقْتُلُوا الصًّيدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } - فيضطرّ المحرم إلى أكل الميتة أو الصّيد ، فعند مالك : يأكل الميتة ويترك الصّيد ، لأنّ كليهما - وإن كان محرّما - إلّا أنّ تحريم الصّيد له مناسبة بالإحرام ، ومفسدته الّتي اعتمدها النّهي إنّما هي في الإحرام ، وأمّا مفسدة أكل الميتة فذلك أمر عامّ ، لا تعلّق له بخصوص الإحرام ، والمناسب إذا كان لأمر عامّ - وهو كونها ميتة - لا يكون بينه وبين خصوص الإحرام منافاة ولا تعلّق ، والمنافي الأخصّ أولى بالاجتناب .
ومن هذا القبيل : إذا لم يجد المصلّي ثوباً يستره إلا حريراً أو نجساً فإنّه يصلّي في الحرير ويترك النّجس ، لأنّ مفسدة النّجاسة خاصّة بالصّلاة ، بخلاف مفسدة الحرير لا تعلّق لها بخصوص الصّلاة ، ولا منافاة بينهما .
وهناك فروع كثيرة أخرى تترتّب على هذه القاعدة ، يرجع إليها في الأصول وأبواب الفقه .
تعارض الأصل والظّاهر :
21 - المراد بالأصل : بقاء ما كان على ما كان ، والظّاهر : ما يترجّح وقوعه .
فالأصل براءة الذّمّة ، ولذا لم يقبل في شغلها شاهد واحد ، ولذا كان القول قول المدّعى عليه لموافقته الأصل ، والبيّنة على المدّعي ، لدعواه ما خالف الأصل ، فإذا اختلفا في قيمة المتلف والمغصوب - فالقول قول الغارم ، لأنّ الأصل البراءة عمّا زاد عن قوله ، ولو أقرّ بشيء أو حقّ قبل تفسيره بما له قيمة ، فالقول للمقرّ مع يمينه .
وهذه القاعدة مذهب الحنفيّة . والحكم كذلك عند المالكيّة .
والشّافعيّة والحنابلة : الحكم عندهم كذلك في تقديم الظّاهر الثّابت بالبيّنة .
وللشّافعيّة تفصيل في غير الثّابت بالبيّنة ، إذ قالوا : إنّ الأصل يرجّح جزما .
وضابطه : أن يعارضه احتمال مجرّد . وما يرجّح فيه الظّاهر جزما ، وضابطه : أن يستند إلى سبب منصوب شرعا ، كالشّهادة تعارض الأصل ، والرّواية ، واليد في الدّعوى . وإخبار الثّقة بدخول الوقت . وما يرجّح فيه الأصل على الظّاهر في الأصحّ ، وضابطه : أن يستند الاحتمال إلى سبب ضعيف ، ومثله الشّيء الّذي لا يتيقّن بنجاسته ، ولكنّ الغالب فيه النّجاسة كثياب مدمن الخمر ، والقصّابين ، والكفّار ، وأوانيهم .
وما يترجّح فيه الظّاهر على الأصل ، بأن كان سببا قويّاً منضبطاً ، كمن شكّ بعد الصّلاة أو غيرها من العبادات في ترك ركن غير النّيّة فالمشهور لا يؤثّر .
والحنابلة يقدّمون كغيرهم الظّاهر ، الّذي هو حجّة يجب قبولها شرعاً ، كالشّهادة على الأصل ، وإن لم يكن كذلك ، بأن كان مستندا إلى العرف أو العادة الغالبة أو القرائن أو غلبة الظّنّ ونحو ذلك ، فتارة يعمل بالأصل ولا يلتفت إلى الظّاهر ، وتارة يعمل بالظّاهر ولا يلتفت إلى الأصل ، وتارة يخرج في المسألة خلاف ، فهذه أربعة أقسام :
- 1 - ما ترك فيه العمل بالأصل للحجّة الشّرعيّة ، وهي قول من يجب العمل بقوله ، كشهادة عدلين بشغل ذمّة المدّعى عليه ، وهذه محلّ إجماع بين الفقهاء كما تقدّم .
- 2 - ما عمل فيه بالأصل ، ولم يلتفت إلى القرائن الظّاهرة ونحوها . وذلك كما إذا ادّعت زوجة بعد طول مقامها مع الزّوج : أنّها لم تصلها منه النّفقة الواجبة ، فإنّ القول قولها مع يمينها عند الأصحاب ، لأنّ الأصل معها ، مع أنّ العادة تبعد ذلك جدّاً ، واختار الشّيخ تقيّ الدّين بن تيميّة الرّجوع إلى العادة ، وخرّجه وجها من المسائل المختلف فيها .
- 3 - ما عمل فيه بالظّاهر ولم يلتفت إلى الأصل ، كما إذا شكّ بعد الفراغ من الصّلاة أو غيرها من العبادات في ترك ركن منها ، فإنّه لا يلتفت إلى الشّكّ ، وإن كان الأصل عدم الإتيان به وعدم براءة الذّمّة ، لكنّ الظّاهر من فعل المكلّفين للعبادات : أن تقع على وجه الكمال ، فيرجّح هذا الظّاهر على الأصل ، ولا فرق في ذلك بين الوضوء وغيره في المنصوص عن الإمام أحمد .
- 4 - ما خرج فيه خلاف في ترجيح الظّاهر على الأصل وبالعكس ، ويكون ذلك غالباً عند تقادم الظّاهر والأصل وتساويهما ، ومن صوره : طهارة طين الشّوارع ، نصّ عليه الإمام أحمد في مواضع ، ترجيحا للأصل ، وهو الطّهارة في الأعيان كلّها .
وفي رواية له ثانية : أنّه نجس ترجيحاً للظّاهر ، وجعله صاحب التّلخيص المذهب .
تعارض العبارة " اللّفظ " والإشارة الحسّيّة :
22 - قال المالكيّة والحنابلة : إنّ العبارة تقدّم على الإشارة ، واستدلّوا بما أورده ابن حجر في شرح حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أمرت أن أسجد على سبعة أعظم : على الجبهة وأشار بيده على أنفه . . . » إلخ .
وأحال شرح الحديث على ما قاله في الرّواية الأخرى عن ابن عبّاس « ووضع يده على جبهته وأمرّها على أنفه ، وقال : هذا واحد » فهذه رواية مفسّرة .
قال القرطبيّ : هذا يدلّ على أنّ الجبهة الأصل ، والسّجود على الأنف تبع .
وقال ابن دقيق العيد : قيل : معناه أنّهما جعلا كعضو واحد ، وإلا لكانت الأعضاء ثمانية . قال : وفيه نظر ، لأنّه لا يلزم منه أن يكتفى بالسّجود على الأنف . قال : والحقّ أنّ مثل هذا لا يعارض التّصريح بذكر الجبهة ، وإن أمكن أن يعتقد أنّهما كعضو واحد فذاك في التّسمية والعبارة ، لا في الحكم الّذي عليه الأمر بالسّجود .
وأيضاً فإنّ الإشارة قد لا تعيّن المشار إليه ، فإنّها إنّما تتعلّق بالجبهة لأجل العبارة ، فإذا تقارب ما في الجبهة أمكن أن لا يعيّن المشار إليه تعيينا . وأمّا العبارة : فإنّها معيّنة لما وصفت له ، فتقديمه أولى . وما ذكره من الاقتصار على بعض الجبهة قال به كثير من الشّافعيّة ، ثمّ قال : ونقل ابن المنذر إجماع الصّحابة : على أنّه لا يجزئ السّجود على الأنف وحده . وذهب الجمهور إلى أنّه يجزئ على الجبهة وحدها . وعن الأوزاعيّ وأحمد وإسحاق وابن حبيب من المالكيّة وغيرهم : يجب أن يجمعهما ، وهو قول الشّافعيّ أيضاً . وقال الحنفيّة : إذا اجتمعت الإشارة إلى شيء ، والعبارة عنه في المهر - فالأصل أنّ المسمّى إذا كان من جنس المشار إليه يتعلّق العقد بالمشار إليه ، لأنّ المسمّى موجود في المشار إليه ذاتاً ، والوصف يتبعه ، وإن كان من خلاف جنسه يتعلّق العقد بالمسمّى ، لأنّ المسمّى مثل المشار إليه ، وليس بتابع له .
والتّسمية أبلغ في التّعريف ، من حيث إنّها تعرف الماهيّة ، والإشارة تعرف الذّات .
فمن اشترى فصّا على أنّه ياقوت ، فإذا هو زجاج لا ينعقد العقد ، لاختلاف الجنس .
ولو اشترى على أنّه ياقوت أحمر فإذا هو أخضر ، انعقد العقد لاتّحاد الجنس .
وقال الشّارحون : إنّ هذا الأصل متّفق عليه في النّكاح ، والبيع ، والإجارة ، وسائر العقود ، ولكنّ الإمام أبا حنيفة جعل الخلّ والخمر جنسا ، فتعلّق بالمشار إليه ، فوجب مهر المثل ، فيما لو تزوّجها على هذا الدّنّ من الخلّ ، وأشار إلى خمر .
ولو سمّى حراماً ، وأشار إلى حلال فلها الحلال في الأصحّ .
وأمّا في النّكاح فقال في الخانيّة : رجل له بنت واحدة اسمها عائشة : فقال الأب وقت العقد : زوّجت منك بنتي فاطمة ، لا ينعقد النّكاح . ولو كانت المرأة حاضرة فقال الأب : زوّجتك بنتي فاطمة هذه ، وأشار إلى عائشة وغلط في اسمها ، فقال الزّوج : قبلت ، جاز .
23 - وممّا سبق تبيّن أنّ الحنفيّة وحدهم هم الّذين قالوا بإجزاء السّجود على الأنف وحده ، تقديما للإشارة على العبارة ، وأنّ الجمهور يجزئ عندهم السّجود على الجبهة دون الأنف ، وأنّ العبارة عندهم تقدّم على الإشارة لأنّها تعيّن المراد ، والإشارة قد لا تعيّنه .
وقال الشّافعيّة : إذا اجتمعت الإشارة والعبارة ، واختلف موجبهما ، غلّبت الإشارة .
فلو قال : أصلّي خلف زيد هذا ، أو قال : أصلّي على زيد هذا ، فبان عمرا فالأصحّ الصّحّة . ولو قال : زوّجتك فلانة هذه ، وسمّاها بغير اسمها صحّ قطعا ، وحكي فيه وجه .
ولو قال : زوّجتك هذا الغلام ، وأشار إلى بنته ، نقل الرّويانيّ عن الأصحاب صحّة النّكاح . تعويلا على الإشارة . وهذا يتّفق ومذهب الحنفيّة . ولو قال : زوّجتك هذه العربيّة ، فكانت أعجميّة . أو : هذه العجوز ، فكانت شابّة . أو : هذه البيضاء ، فكانت سوداء أو عكسه - وكذا المخالفة في جميع وجوه النّسب والصّفات والعلوّ والنّزول - ففي صحّة النّكاح قولان ، والأصحّ : الصّحّة . ولو قال : بعتك داري هذه وحدّدها وغلط في حدودها ، صحّ البيع . بخلاف ما لو قال : بعتك الدّار الّتي في المحلّة الفلانيّة وحدّدها وغلط ، لأنّ التّعويل هناك على الإشارة . ولو قال : بعتك هذا الفرس فكان بغلا أو عكسه ، فوجهان ، والأصحّ هنا البطلان . وإنّما صحّح البطلان هنا تغليبا لاختلاف غرض الماليّة . وصحّح الصّحّة في الباقي تغليبا للإشارة . وحينئذ يستثنى هذه الصّورة من القاعدة .
ويضمّ إلى هذه الصّورة صور ، منها : ما لو حلف لا يكلّم هذا الصّبيّ فكلّمه شيخا ، أو لا يأكل هذا الرّطب فأكله تمرا ، أو لا يدخل هذه الدّار فدخلها عرصة ، فالأصحّ : أنّه لا يحنث . ولو خالعها على هذا الثّوب الكتّان فبان قطنا ، أو عكسه ، فالأصحّ فساد الخلع ، ويرجع بمهر المثل . وهناك صور كثيرة تترتّب على هذه القاعدة .
هذه جملة قواعد أصوليّة في التّعارض ، ذكرت مع ما يترتّب عليها من أحكام .
وأمّا التّعارض بين الأدلّة فينظر في الملحق الأصوليّ .
تعاطي *
التّعريف :
1 - التّعاطي لغة : مصدر تعاطى ، بمعنى : تناول الإنسان الشّيء بيده ، من العطو ، وهو بمعنى التّناول . قال اللّه تعالى : { فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر } وتفسيرها : أنّه تناول آلة العقر ، وجاء في تفسيرها أيضا : أنّه تناول الفعل بعد أن أعدّ له عدّته ، بأن كمن للنّاقة فرماها بسهمه ، ثمّ ضربها بسيفه حتّى قتلها .
واصطلاحاً : التّعاطي في البيع ، ويقال فيه أيضاً المعاطاة : أن يأخذ المشتري المبيع ويدفع للبائع الثّمن ، أو يدفع البائع المبيع فيدفع له الآخر الثّمن ، من غير تكلّم ولا إشارة . ويكون التّعاطي في البيع وغيره من المعاوضات .
الألفاظ ذات الصّلة :
العقد :
2 - العقد : عقود البيع منها ما يتمّ باللّفظ ( وهو الصّيغة ) وهو الإيجاب والقبول ، ومنها ما يتمّ بالفعل ، وهو التّعاطي .
الحكم الإجماليّ :
البيع بالتّعاطي :
3 - اختلف الفقهاء في انعقاد البيع بالتّعاطي . فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وفي قول للشّافعيّة إلى : جواز البيع بالتّعاطي . والمذهب عند الشّافعيّة اشتراط الصّيغة لصحّة البيع وما في معناه . وللشّافعيّة قول ثالث بجواز المعاطاة في المحقَّرات .
ولبيع المعاطاة صورتان : الأولى : أن يتمّ التّعاطي من غير تكلّم ولا إشارة من أحد الطّرفين ، وهو جائز عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، ورجّح النّوويّ الجواز بخلاف المذهب . الصّورة الثّانية : أن يتمّ التّعاطي بتكلّم أحد الطّرفين ويتمّ التّسليم ، وهو تعاط عند المالكيّة والحنابلة . ولم يعدّه الحنفيّة تعاطياً .
4 - وقال ابن قدامة في الاستدلال لمشروعيّة بيع التّعاطي : إنّ اللّه أحلّ البيع ، ولم يبيّن كيفيّته ، فوجب الرّجوع فيه إلى العرف ، كما رجع إليه في القبض والإحراز والتّفرّق . والمسلمون في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك . ولأنّ البيع كان موجودا بينهم معلوما عندهم ، وإنّما علّق الشّرع عليه أحكاما ، وأبقاه على ما كان ، فلا يجوز تغييره بالرّأي والتّحكّم ، ولم ينقل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه - مع كثرة وقوع البيع بينهم - استعمال الإيجاب والقبول ، ولو استعملوا ذلك في بياعاتهم لنقل نقلاً شائعاً .
ولو كان ذلك شرطا لوجب نقله ، ولم يتصوّر منهم إهماله والغفلة عن نقله ، ولأنّ البيع ممّا تعمّ به البلوى فلو اشترط له الإيجاب والقبول لَبَيّنه صلى الله عليه وسلم بياناً عامّاً ، ولم يخف حكمه ، لأنّه يفضي إلى وقوع العقود الفاسدة كثيرا وأكلهم المال بالباطل ، ولم ينقل ذلك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه فيما علمناه .
ولأنّ النّاس يتبايعون في أسواقهم بالمعاطاة في كلّ عصر .
ولم ينقل إنكاره قبل مخالفينا ، فكان ذلك إجماعاً . وكذلك الحكم في الإيجاب والقبول في الهبة والهديّة والصّدقة ، ولم ينقل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه استعمال ذلك فيه ، وقد أهدي إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الحبشة وغيرها ، وكان النّاس يتحرّون بهداياهم يوم عائشة رضي الله عنها . وروى البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه : أهديّة أم صدقة ؟ فإن قيل : صدقة . قال لأصحابه : كلوا ، ولم يأكل . وإن قيل : هديّة ضرب بيده وأكل معهم » وفي حديث سلمان رضي الله عنه « حين جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بتمر فقال : هذا شيء من الصّدقة ، رأيتك أنت وأصحابك أحقّ النّاس به . فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه : كلوا ولم يأكل ثمّ أتاه ثانية بتمر فقال : رأيتك لا تأكل الصّدقة وهذا شيء أهديته لك ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : بسم اللّه ، وأكل » ولم ينقل قبول ولا أمر بإيجاب ، وإنّما سأل ليعلم : هل هو صدقة أو هديّة ؟ وفي أكثر الأخبار لم ينقل إيجاب ولا قبول ، وليس إلّا المعاطاة ، والتّفرّق عن تراض يدلّ على صحّته ، ولو كان الإيجاب والقبول شرطا في هذه العقود لشقّ ذلك ، ولكانت أكثر عقود المسلمين فاسدة ، وأكثر أموالهم محرّمة ، ولأنّ الإيجاب والقبول إنّما يرادان للدّلالة على التّراضي ، فإذا وجد ما يدلّ عليه من المساومة والتّعاطي قام مقامهما وأجزأ عنهما ، لعدم التّعبّد فيه .
الإقالة بالتّعاطي :
5 - جوّز الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إقالة البيع بالتّعاطي ، وقالوا : الإقالة تنعقد بالتّعاطي أيضاً من أحد الجانبين على الصّحيح .
الإجارة بالتّعاطي :
6 - جوّزها الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وقالوا : إنّما هي كالبيع ، وقد اقتصرت على المنافع دون العين .
قال ابن قدامة : إذا دفع ثوبه إلى خيّاط أو قصّار ليخيطه أو يقصّره من غير عقد ولا شرط ولا تعريض بأجر ، مثل أن يقول : خذ هذا فاعمله ، وكان الخيّاط والقصّار منتصبين لذلك ، ففعلا ذلك فلهما الأجر ، لأنّ العرف جار بذلك . وقال أصحاب الشّافعيّ : لا أجر لهما ، لأنّهما فعلا ذلك من غير عوض جعل لهما ، فأشبه ما لو تبرّعا بعمله .
وقال ابن عابدين : وفي التتارخانية أنّ أبا يوسف سئل عن الرّجل يدخل السّفينة أو يحتجم أو يفتصد أو يدخل الحمّام أو يشرب من ماء السّقاء ، ثمّ يدفع الأجرة وثمن الماء ؟ فقال : يجوز استحساناً ، ولا يحتاج إلى العقد قبل ذلك .
مواطن البحث :
7 - يفصّل الفقهاء أحكام التّعاطي بالنّسبة لكلّ مسألة في موضعها ، ومن تلك المواطن : البيوع ، والإقالة ، والإجارة .
تعاويذ *
انظر : تعويذة .
تعبّديّ *
التّعريف :
1 - التّعبّديّ لغة : المنسوب إلى التّعبّد .
والتّعبّد مصدر تعبّد ، يقال : تعبّد الرّجلُ الرّجل : إذا اتّخذه عبداً ، أو صيّره كالعبد .
وتعبّد اللّه العبدَ بالطّاعة : استعبده ، أي طلب منه العبادة . ومعنى العبادة في اللّغة : الطّاعة والخضوع . ومنه طريق معبّد : إذا كان مذلّلاً بكثرة المشي فيه . ويرد التّعبّد في اللّغة أيضاً بمعنى : التّذلّل ، يقال : تعبّد فلان لفلان : إذا خضع له وذلّ . وبمعنى التّنسّك ، يقال : تعبّد فلان للّه تعالى : إذا أكثر من عبادته ، وظهر فيه الخشوع والإخبات . والتّعبّد من اللّه للعباد : تكليفهم أمور العبادة وغيرها . ويكثر الفقهاء والأصوليّون من استعماله بهذا المعنى ، كقولهم : نحن متعبّدون بالعمل بخبر الواحد وبالقياس ، أي مكلّفون بذلك . ويقولون : كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم متعبّدا بشرع من قبله ، أي مكلّفاً بالعمل به .
2 - والتّعبّديّات - في اصطلاح الفقهاء والأصوليّين - تطلق على أمرين :
الأوّل : أعمال العبادة والتّنسّك. ويرجع لمعرفة أحكامها بهذا المعنى إلى مصطلح ( عبادة ). الثّاني : الأحكام الشّرعيّة الّتي لا يظهر للعباد في تشريعها حكمة غير مجرّد التّعبّد ، أي التّكليف بها ، لاختبار عبوديّة العبد ، فإن أطاع أثيب ، وإن عصى عوقب .
والمراد بالحكمة هنا : مصلحة العبد من المحافظة على نفسه أو عرضه أو دينه أو ماله أو عقله . أمّا مصلحته الأخرويّة - من دخول جنّة اللّه تعالى والخلاص من عذابه - فهي ملازمة لتلبية كلّ أمر أو نهي ، تعبّديّا كان أو غيره .
3 - هذا هو المشهور في تعريف التّعبّديّات . وقد لاحظ الشّاطبيّ في موافقاته أنّ حكمة الحكم قد تكون معلومة على وجه الإجمال ، ولا يخرجه ذلك عن كونه تعبّديّا من بعض الوجوه ، ما لم يعقل معناه على وجه الخصوص . قال : ومن ذلك : طلب الصّداق في النّكاح ، والذّبح في المحلّ المخصوص في الحيوان المأكول ، والفروض المقدّرة في المواريث ، وعدد الأشهر في عدّة الطّلاق والوفاة ، وما أشبه ذلك من الأمور الّتي لا مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئيّة ، حتّى يقاس عليها غيرها . فإنّا نعلم أنّ الشّروط المعتبرة في النّكاح ، من الوليّ والصّداق وشبه ذلك ، هي لتمييز النّكاح عن السّفاح ، وأنّ فروض المواريث ترتّبت على ترتيب القربى من الميّت ، وأنّ العدد والاستبراءات ، المراد بها استبراء الرّحم خوفا من اختلاط المياه ، ولكنّها أمور جمليّة ، كما أنّ الخضوع والإجلال علّة شرع العبادات . وهذا المقدار لا يقضي بصحّة القياس على الأصل فيها ، بحيث يقال : إذا حصل الفرق بين النّكاح والسّفاح بأمور أخر مثلا ، لم تشترط تلك الشّروط .
ومتى علم براءة الرّحم لم تشرع العدّة بالأقراء ولا بالأشهر ، ولا ما أشبه ذلك .
4 - هذا وقد اختلفت الفقهاء في أنّ التّعبّديّات شُرِعت لنا لحكمة يعلمها اللّه تعالى وخفيت علينا ، أو إنّها شُرِعت لا لحكمة أصلاً غيرَ مجرّد تعبّد اللّه للعباد واستدعائه الامتثال منهم ، اختباراً لطاعة العبد لمجرّد الأمر والنّهي من غير أن يعرف وجه المصلحة فيما يعمل ، بمنزلة سيّد أراد أن يختبر عبيده أيّهم أطوع له ، فأمرهم بالتّسابق إلى لمس حجر ، أو الالتفات يميناً أو يساراً ممّا لا مصلحة فيه غير مجرّد الطّاعة .
5 - قال ابن عابدين نقلاً عن الحلية : أكثر العلماء على القول الأوّل ، وهو المتّجه ، بدلالة استقراء تكاليف اللّه تعالى على كونها جالبة للمصالح دارئة للمفاسد .
وكذلك الشّاطبيّ في موافقاته اعتمد الاستقراء دليلاً على أنّ كلّ الأحكام الشّرعيّة معلّلة بمصالح العباد في الدّنيا والآخرة ، وقال : إنّ المعتزلة متّفقون على أنّ أحكامه معلّلة برعاية مصالح العباد ، وهو اختيار أكثر الفقهاء المتأخّرين . قال : ولمّا اضطرّ الرّازيّ إلى إثبات العلل للأحكام الشّرعيّة أثبت ذلك على أنّ العلل بمعنى العلامات المعرّفة للأحكام . وذكر الشّاطبيّ من الأدلّة الّتي استقرأها قوله تعالى في شأن الوضوء والغسل { مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون } .
وفي الصّيام { كُتِبَ عَلَيكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ على الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } .
وفي القصاص { وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وآيات نحو هذه .
وممّن ذهب إلى مثل ذلك ابن القيّم ، حيث قال : قالت طائفة : إنّ عدّة الوفاة تعبّد محض ، وهذا باطل ، فإنّه ليس في الشّريعة حكم واحد إلّا وله معنى وحكمة ، يعقله من يعقله ، ويخفى على من خفي عليه . وقرّر هذا المعنى تقريرا أوسع فقال : شرع اللّه العقوبات ، ورتّبها على أسبابها ، جنسا وقدرا ، فهو عالم الغيب والشّهادة وأحكم الحاكمين وأعلم العالمين ، ومن أحاط بكلّ شيء علما ، وعلم ما كان وما يكون ، وأحاط علمه بوجوه المصالح دقيقها وجليلها وخفيّها وظاهرها ، ما يمكن اطّلاع البشر عليه وما لا يمكنهم . وليست هذه التّخصيصات والتّقديرات خارجة عن وجوه الحكم والغايات المحمودة ، كما أنّ التّخصيصات والتّقديرات واقعة في خلقه كذلك ، فهذا في خلقه وذاك في أمره ، ومصدرهما جميعا عن كمال علمه وحكمته ووضعه كلّ شيء في موضعه الّذي لا يليق به سواه ولا يتقاضى إلّا إيّاه ، كما وضع قوّة البصر والنّور الباصر في العين ، وقوّة السّمع في الأذن ، وقوّة الشّمّ في الأنف ، وخصّ كلّ حيوان وغيره بما يليق به ويحسن أن يعطاه من أعضائه وهيئاته وصفاته وقدره ، فشمل إتقانه وإحكامه ، وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية الإتقان ، وأحكمه غاية الإحكام ، فلأن يكون أمره في غاية الإتقان أولى وأحرى ، ولا يكون الجهل بحكمة اللّه في خلقه وأمره وإتقانه كذلك وصدوره عن محض الحكمة والعلم مسوّغا لإنكاره في نفس الأمر . وسار على هذه الطّريقة وليّ اللّه الدّهلويّ في حجّة اللّه البالغة وقال : إنّ القول الآخر ( الآتي ) تكذّبه السّنّة وإجماع القرون المشهود لها بالخير .
6 - أمّا القول الثّاني بوجود أحكام ولو على سبيل النّدرة قصد منها التّعبّد والامتثال . فيدلّ عليه ما ورد في كتاب اللّه تعالى من قوله تعالى { . . . وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتي كَانتْ عَلَيهمْ } أنّه كان قد جعل على من كان قبلنا آصاراً وأغلالاً لتعنّتهم وشقاقهم ، كما ألزم بني إسرائيل بأن تكون البقرة الّتي أمرهم بذبحها لا فارضاً ولا بكراً ، وأن تكون صفراء . وأيضا فإنّ في بعض الابتلاء واستدعاء الطّاعة والامتثال والتّدريب على ذلك مصلحة كبيرة ، لا يزال أولياء الأمور يدرّبون عليها أنصارهم وأتباعهم ، ويبذلون في ذلك الأموال الطّائلة ، ليكونوا عند الحاجة ملبّين للأوامر دون تردّد أو حاجة إلى التّفهّم ، اكتفاء وثقة بأنّ وليّ أمرهم هو أعلم منهم بما يريد .
بل إنّ مصلحة الطّاعة والامتثال والمسارعة إليهما هي الحكمة الأولى المبتغاة من وضع الشّريعة ، بل من الخلق في أساسه ، قال اللّه تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونَ } وقال { يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيءٍ مِنَ الصَّيدِ تَنَالُه أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُه بِالغَيْبِ } . وقال : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنْكُم وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } وقال { وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتي كُنْتَ عليها إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلبُ على عَقِبَيهِ } ولكن من فضل اللّه علينا في شريعة الإسلام أنّه جعل غالب أحكامها تراعي مصلحة العباد بالإضافة إلى مصلحة الابتلاء ، ولكن لا يمنع ذلك من وجود أحكام لا تراعي ذلك ، بل قصد بها الابتلاء خاصّة ، وذلك على سبيل النّدرة .
وفي هذا يقول الغزاليّ : عرف من دأب الشّرع اتّباع المعاني المناسبة دون التّحكّمات الجامدة ، وهذا غالب عادة الشّرع . ويقول : حمل تصرّفات الشّارع على التّحكّم أو على المجهول الّذي لا يعرف ، نوع ضرورة يرجع إليها عند العجز . وقال : ما يتعلّق من الأحكام بمصالح الخلق من المناكحات والمعاملات والجنايات والضّمانات وما عدا العبادات فالتّحكّم فيها نادر ، وأمّا العبادات والمقدّرات فالتّحكّمات فيها غالبة ، واتّباع المعنى نادر .
وصرّح بذلك الشّيخ عزّ الدّين عبد العزيز بن عبد السّلام في قواعده فقال : يجوز أن تتجرّد التّعبّدات عن جلب المصالح ودرء المفاسد ، ثمّ يقع الثّواب عليها بناء على الطّاعة والإذعان من غير جلب مصلحة غير مصلحة الثّواب ولا درء مفسدة غير مفسدة العصيان .
7 - فالتّعبّديّ على القول الأوّل : استأثر اللّه تعالى بعلم حكمته ، ولم يطلع عليها أحداً من خلقه ، ولم يجعل سبيلا للاطّلاع عليه مع ثبوت المصلحة فيه في نفس الأمر ، أخفى ذلك عنهم ابتلاء واختباراً . هل يمتثلون ويطيعون دون أن يعرفوا وجه المصلحة ، أم يعصون اتّباعاً لمصلحة أنفسهم ؟ .
وعلى القول الثّاني : ابتلاهم بما لا مصلحة لهم فيه أصلا غير مجرّد الثّواب .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - العبادة :
8 - أصل العبادة : الطّاعة والخضوع . والعبادات ، أنواع : منها الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ . وكثير منها معقول المعنى ، بيّنت الشّريعة حكمته ، أو استنبطها الفقهاء . ومن ذلك قوله تعالى في شأن الصّلاة { وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ } وقوله في شأن الحجّ { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهمْ } وقول الفقهاء في حكمة التّرخيص في الإفطار في السّفر أثناء رمضان : إنّها دفع المشقّة . فليس شيء من ذلك تعبّديّاً .
وبعض أحكام العبادات غير معقول المعنى ، فيكون تعبّديّا ، ككون رمي الجمار سبعاً سبعاً . وتكون التّعبّديّات أيضا في غير العبادات ، ومن ذلك : استبراء الأمة الّتي اشتراها بائعها في مجلس البيع ، وعادت إليه بفسخ أو إقالة قبل غيبة المشتري بها .
ب - حقّ اللّه :
9 - قد يقال في كثير من الأحكام : إنّه لحقّ اللّه ، كالصّلاة والصّوم وسائر العبادات وكحدّ السّرقة وحدّ الزّنى .
ويقال في كثير منها : إنّه لحقّ الإنسان ، كحقّ القصاص وحدّ القذف والدّين والضّمانات . وقد يظنّ أنّ كلّ ما كان منها لحقّ اللّه تعالى أنّه تعبّديّ ، إلا أنّ المراد من" حقّ اللّه تعالى" أنّه لا خيرة فيه للعباد ، ولا يجوز لأحد إسقاطه ، بل لا بدّ للعباد من تنفيذه إذا وجد سببه ، وتمّت شروط وجوبه أو تحريمه . وليس كلّ ما كان لحقّ اللّه تعالى تعبّديّا ، بل يكون تعبّديّا إذا خفي وجه الحكمة فيه . ويكون غير تعبّديّ ، وذلك إذا ظهرت حكمته .
قال الشّاطبيّ : الحكم المستخرجة لما لا يعقل معناه على وجه الخصوص في التّعبّدات ، كاختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة ، والصّلاة بتلك الهيئة من رفع اليدين والقيام والرّكوع والسّجود ، وكونها على بعض الهيئات دون بعض ، واختصاص الصّيام بالنّهار دون اللّيل ، وتعيين أوقات الصّلوات في تلك الأحيان المعيّنة دون سواها من أحيان النّهار واللّيل ، واختصاص الحجّ بتلك الأعمال المعروفة ، في الأماكن المعلومة ، وإلى مسجد مخصوص ، إلى أشباه ذلك ممّا لا تهتدي العقول إليه بوجه ، ولا تحوم حوله ، يأتي بعض النّاس فيطرق إليه بزعمه حكماً ، يزعم أنّها مقصود الشّارع من تلك الأوضاع ، وجميعها مبنيّ على ظنّ وتخمين غير مطّرد في بابه ، ولا مبنيّ عليه عمل ، بل كالتّعليل بعد السّماع للأمور الشّواذّ ، لجنايته على الشّريعة في دعوى ما ليس لنا به علم ، ولا دليل لنا عليه .
ج - المعلّل بالعلّة القاصرة :
10 - ولمّا كان حكم التّعبّديّات أنّه لا يقاس عليها ، فقد يشتبه بها المعلّل بالعلّة القاصرة ، لأنّه لا يقاس عليه . والفرق بينهما : أنّ التّعبّديّ ليس له علّة ظاهرة ، فيمتنع القياس عليه لأنّ القياس فرع معرفة العلّة ، أمّا المعلّل بالعلّة القاصرة فعلّته معلومة لكنّها لا تتعدّى محلّها ، إذ لم يعلم وجودها في شيء آخر غير الأصل .
مثاله « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادة رجلين » . وهذا حكم خاصّ به ، وعلّته والمعنى فيه أنّه أوّل من تنبّه وبادر إلى تصديق النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تلك الحادثة بعينها والشّهادة له ، بموجب التّصديق العامّ له صلى الله عليه وسلم . والأوّليّة معنى لا يتكرّر ، فاختصّ به ، فليس ذلك تعبّديّا ، لكون علّته معلومة .
د - المعدول به عن سنن القياس :
11 - ما خالف القياس قد يكون غير معقول المعنى كتخصيص النّبيّ صلى الله عليه وسلم بنكاح تسع نسوة « وإجزاء العناق في التّضحية في حقّ أبي بردة هانئ بن دينار » ، وكتقدير عدد الرّكعات .
وقد يكون معقول المعنى كاستثناء بيع العرايا من النّهي عن بيع التّمر بالتّمر خرصاً .
هـ - المنصوص على علّته :
12 - أورد الشّاطبيّ أنّ بعض ما عرفت علّته قد يكون تعبّديّا . فقال : إنّ المصالح في التّكليف ظهر لنا من الشّارع أنّها على ضربين :
أحدهما : ما يمكن الوصول إلى معرفته بمسالكه المعروفة كالإجماع والنّصّ والسّبر والإشارة والمناسبة ، وهذا هو القسم الظّاهر الّذي نعلّل به ، وتقول : إنّ الأحكام شرعت لأجله .
والثّاني : ما لا يمكن الوصول إليه بتلك المسالك المعهودة ، ولا يطّلع عليه إلّا بالوحي كالأحكام الّتي أخبر الشّارع فيها أنّها أسباب للخصب والسّعة وقيام أبّهة الإسلام - كقوله تعالى في سياق قصّة نوح : { فَقُلتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّه كانَ غَفَّارَاً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَليكمْ مِدْرَارَاً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارَاً } .
فلا يعلم وجه كون الاستغفار سبباً للمطر وللخصب إلا بالوحي .
ولذلك لا يقاس عليه ، فلا يعلم كون الاستغفار سببا في حصول العلم وقوّة الأبدان مثلاً ، فلا يكون إلى اعتبار هذه العلّة في القياس سبيل ، فبقيت موقوفة على التّعبّد المحض . ولذا يكون أخذ الحكم المعلّل بها متعبّدا به ، ومعنى التّعبّد هنا : الوقوف عند ما حدّ الشّارع فيه .
حكمة تشريع التّعبّديّات :
13 - حكمة تشريع التّعبّديّات استدعاء الامتثال ، واختبار مدى الطّاعة والعبوديّة . وقد عبّر عن ذلك الغزاليّ في الإحياء بقوله - في بيان أسرار رمي الجمار - وظّف اللّه تعالى على العباد أعمالا لا تأنس بها النّفوس ، ولا تهتدي إلى معانيها العقول ، كرمي الجمار بالأحجار ، والتّردّد بين الصّفا والمروة على سبيل التّكرار .
وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرّقّ والعبوديّة ، فإنّ الزّكاة إرفاق ، ووجهه مفهوم ، وللعقل إليه ميل ، والصّوم كسر للشّهوة الّتي هي آلة عدوّ اللّه ، وتفرّغ للعبادة ، بالكفّ عن الشّواغل . والرّكوع والسّجود في الصّلاة تواضع للّه عزّ وجلّ بأفعال هي هيئة التّواضع ، وللنّفوس السّعي بتعظيم اللّه عزّ وجلّ . فأمّا تردّدات السّعي ورمي الجمار وأمثال هذه الأعمال ، فلا حظّ للنّفوس فيها ولا أنس للطّبع بها ، ولا اهتداء للعقول إلى معانيها ، فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلّا الأمر المجرّد ، وقصد الامتثال للأمر من حيث إنّه أمر واجب الاتّباع فقط ، وفيه عزل للعقل عن تصرّفه وصرف النّفس والطّبع عن محلّ أنسه . فإنّ كلّ ما أدرك العقل معناه مال الطّبع إليه ميلا ما ، فيكون ذلك الميل معيّنا للأمر وباعثا معه على الفعل ، فلا يكاد يظهر به كمال الرّقّ والانقياد . ولذلك قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الحجّ على وجه الخصوص : « لبّيك بحجّة حقّاً ، تعبُّداً ورِقّاً » ولم يقل ذلك في صلاة ولا غيرها . وإذا اقتضت حكمة اللّه تعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلاف هوى طباعهم ، وأن يكون زمامها بيد الشّرع ، فيتردّدون في أعمالهم على سنن الانقياد وعلى مقتضى الاستعباد ، كان ما لا يهتدى إلى معانيه أبلغ أنواع التّعبّدات في تزكية النّفوس ، وصرفها عن مقتضى الطّباع والأخلاق إلى مقتضى الاسترقاق .
طرق معرفة التّعبّديّ :
14 - لم يعرف في تمييز التّعبّديّات عن غيرها من الأحكام المعلّلة وجه معيّن ، غير العجز عن التّعليل بطريق من الطّرق المعتبرة ، على ما هو معلوم في مباحث القياس من علم الأصول . ولذلك يقول ابن عابدين : ما شرعه اللّه إن ظهرت لنا حكمته ، قلنا : إنّه معقول المعنى ، وإلّا قلنا : إنّه تعبّديّ . وإلى هذا يشير كلام الغزاليّ المتقدّم آنفا ، من أنّ المصير إلى التّعبّد نوع ضرورة يرجع إليها عند العجز .
ومن هنا اختلفت أقوال الفقهاء في اعتبار بعض الأحكام تعبّديّا أو معقول المعنى ، فما يراه بعض الفقهاء تعبّديّا قد يراه البعض الآخر معلّلا بمصالح غلب على ظنّه رعايتها .
فمن ذلك أنّ صاحب الدّرّ المختار قال : إنّ تكرار السّجود أمر تعبّديّ ، أي لم يعقل معناه ، تحقيقا للابتلاء . وقال ابن عابدين : وقيل : إنّه ثنّي ترغيما للشّيطان ، حيث أمر بالسّجود مرّة فلم يسجد ، فنحن نسجد مرّتين . وكون طلاق الحائض بدعيّا ، قيل : هو تعبّديّ .
قال الدّردير : والأصحّ أنّه معلّل بتطويل العدّة ، لأنّ أوّلها من الطّهر بعد الحيض .
والسّعي بين الصّفا والمروة ورمي الجمار يمثّل بها الفقهاء لغير المعقول المعنى ، كما تقدّم عن الغزاليّ . غير أنّ بعض العلماء يعلّلونه وأمثاله ممّا وضع من المناسك على هيئة أعمال بعض الصّالحين ، كالسّعي الّذي جعل على هيئة سعي أمّ إسماعيل عليه السلام بينهما . يقول تقيّ الدّين بن دقيق العيد : في ذلك من الحكمة تذكّر الوقائع الماضية للسّلف الكرام ، وفي طيّ تذكّرها مصالح دينيّة ، إذ يتبيّن في أثناء كثير منها ما كانوا عليه من امتثال أمر اللّه ، والمبادرة إليه ، وبذل الأنفس في ذلك . وبذلك يظهر لنا أنّ كثيراً من الأعمال الّتي وقعت في الحجّ ، ويقال بأنّها " تعبّد " ليست كما قيل . ألا ترى أنّا إذا فعلناها وتذكّرنا أسبابها حصل لنا من ذلك تعظيم الأوّلين ، وما كانوا عليه من احتمال المشاقّ في امتثال أمر اللّه ، فكان هذا التّذكّر باعثا لنا على مثل ذلك ، ومقرّراً في أنفسنا تعظيم الأوّلين ، وذلك معنى معقول . ثمّ ذكر أنّ السّعي بين الصّفا والمروة اقتداء بفعل هاجر ، وأنّ رمي الجمار اقتداء بفعل إبراهيم عليه السلام ، إذ رمى إبليس بالجمار في هذا الموضع .
وابن القيّم في إعلام الموقّعين ، سيرا على خطى شيخه شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمهما الله ، رأى كما تقدّم أنّه ليس في الشّريعة تعبّد محض ، وردّ كلّ ما قيل فيه : إنّه مخالف للقياس ، كفرض الصّاع في لبن المصرّاة المردودة على بائعها ، وما قيل من أنّ الشّريعة فرّقت بين المتساويات ، كأمرها بالغسل من بول الجارية وبالنّضح من بول الصّبيّ ، وسوّت بين المفترقات ، كتسويتها بين الخطأ والعمد في وجوب الضّمان . فعلّل كلّ ما قيل فيه ذلك ، وبيّن وجه الحكمة فيه ، وأنّ علّته معقولة ، ويوافق القياس ولا يخالفه ، وأطال في ذلك .
ما تكون فيه التّعبّديّات ، وأمثلة منها :
15 - يذكر بعض الأصوليّين أنّ التّعبّديّات أكثر ما تكون في أصول العبادات ، كاشتراع أصل الصّلاة أو الصّوم أو الاعتكاف . وفي نصب أسبابها ، كزوال الشّمس لصلاة الظّهر ، وغروبها لصلاة المغرب . وفي الحدود والكفّارات . وفي التّقديرات العدديّة بوجه عامّ ، كتقدير أعداد الرّكعات ، وتقدير عدد الجلدات في الحدود ، وتقدير أعداد الشّهود .
وذكر الشّاطبيّ من أمثلة وقوعها في العادات : طلب الصّداق في النّكاح ، وتخصيص الذّبح بمحلّ مخصوص ، والفروض المقدّرة في المواريث ، وعدد الأشهر في عدّة الطّلاق وعدّة الوفاة . ومن أمثلتها عند الحنابلة حديث : « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتوضّأ الرّجل بفضل طهور المرأة » .
قال صاحب المغني : منع الرّجل من استعمال فضلة طهور المرأة تعبّديّ غير معقول المعنى ، نصّ عليه أحمد ، ولذلك يباح لامرأة سواها التّطهّر به في طهارة الحدث وغسل النّجاسة وغيرها ، لأنّ النّهي اختصّ بالرّجل ، ولم يعقل معناه ، فيجب قصره على محلّ النّهي . وهل يجوز للرّجل غسل النّجاسة به ؟ فيه وجهان : أحدهما : لا يجوز وهو قول القاضي . والثّاني : يجوز وهو الصّحيح ، لأنّه ماء يطهّر المرأة من الحدث والنّجاسة ، فيزيل النّجاسة إذا فعله الرّجل كسائر المياه .
والحديث لا تعقل علّته ، فيقتصر على ما ورد به لفظه - أي التّطهّر من الحدث لا غير .
الأصل في الأحكام من حيث التّعليل أو التّعبّد :
16 - اختلف الأصوليّون هل الأصل في الأحكام التّعليل أو عدمه ؟ فذهب البعض إلى الأوّل ، فلا تعلّل الأحكام إلّا بدليل . قالوا : لأنّ النّصّ موجب بصيغته لا بالعلّة . ونسب إلى الشّافعيّ رضي الله عنه : أنّ الأصل التّعليل بوصف ، لكن لا بدّ من دليل يميّزه من غيره . قال في التّلويح : والمشهور بين أصحاب الشّافعيّ : أنّ الأصل في الأحكام التّعبّد دون التّعليل . قال : والمختار : أنّ الأصل في النّصوص التّعليل ، وأنّه لا بدّ – أي لصحّة القياس – من دليل يميّز الوصف الّذي هو علّة ، ومع ذلك لا بدّ قبل التّعليل والتّمييز من دليل يدلّ على أنّ هذا الوصف الّذي يريد استخراج علّته معلّل في الجملة .
وذهب الشّاطبيّ إلى أنّ الأمر في ذلك يختلف بين العبادات والمعاملات ، قال : الأصل في العبادات بالنّسبة للمكلّف التّعبّد ، دون الالتفات إلى المعاني ، والأصل في العادات الالتفات إلى المعاني .
17 - فأمّا أنّ الأصل في العبادات التّعبّد ، فيدلّ له أمور منها :
الاستقراء . فالصّلوات خصّت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات ، ووجدنا الذّكر في هيئة ما مطلوباً ، وفي هيئة أخرى غير مطلوب ، وأنّ طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطّهور ، وإن أمكنت النّظافة بغيره ، وأنّ التّيمّم - وليست فيه نظافة حسّيّة - يقوم مقام الطّهارة بالماء المطهّر .
وهكذا سائر العبادات كالصّوم والحجّ وغيرهما ، وإنّما فهمنا من حكمة التّعبّد العامّة الانقياد لأوامر اللّه تعالى ، وهذا المقدار لا يعطي علّة خاصّة يفهم منها حكم خاصّ ، فعلمنا أنّ المقصود الشّرعيّ الأوّل التّعبّد للّه بذلك المحدود ، وأنّ غيره غير مقصود شرعاً .
ومنها : أنّه لو كان المقصود التّوسعة في التّعبّد بما حدّ وما لم يحدّ ، لنصب الشّارع عليه دليلا واضحا ، ولمّا لم نجد ذلك كذلك - بل على خلافه - دلّ على أنّ المقصود الوقوف عند ذلك المحدود ، إلا أن يتبيّن بنصّ أو إجماع معنى مراد في بعض الصّور ، فلا لوم على من اتّبعه . لكنّ ذلك قليل ، فليس بأصل ، وإنّما الأصل ما عمّ في الباب وغلب على الموضع . 18 - ثمّ قال الشّاطبيّ : وأمّا إنّ الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني فلأمور :
الأوّل : الاستقراء ، فنرى الشّيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة ، فإذا كان فيه مصلحة جاز كالدّرهم بالدّرهم إلى أجل : تمتنع في المبايعة ، ويجوز في القرض . وكبيع الرّطب من جنس بيابسه . يمتنع حيث يكون مجرّد غرر وربا من غير مصلحة ، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة " كما في تمر العرايا أبيح بيعه بالتّمر توسعة على النّاس " ، ولتعليل النّصوص أحكام العادات بالمصلحة كما في قوله تعالى : { وَلَكُمْ في القِصَاصِ حَيَاةٌ } وفي آية تحريم الخمر { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ في الخَمْرِ والمَيْسِرِ ويَصُدَّكُمْ عنْ ذِكْرِ اللَّهِ وِعنِ الصَّلاةِ فَهلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } وفي حديث : « لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان » ونحو ذلك .
والثّاني : أنّ أكثر ما علّل اللّه تعالى في العادات بالمناسب الّذي إذا عرض على العقول تلقّته بالقبول ، ففهمنا من ذلك أنّ قصد الشّارع فيها اتّباع المعاني ، لا الوقوف مع النّصوص . بخلاف العبادات ، فإنّ المعلوم فيها خلاف ذلك ، ولهذا توسّع مالك حتّى قال بقاعدة المصالح المرسلة ، والاستحسان .
والثّالث : أنّ الالتفات إلى المعاني في أمور العادات كان معلوما في الفترات ، واعتمد عليه العقلاء ، حتّى جرت بذلك مصالحهم ، سواء أهل الحكمة الفلسفيّة وغيرهم . إلا أنّهم قصّروا في جملة من التّفاصيل ، فجاءت الشّريعة لتتمّم مكارم الأخلاق . ومن هنا أقرّت الشّريعة جملة من الأحكام الّتي كانت في الجاهليّة ، كالدّية ، والقسامة ، والقراض ، وكسوة الكعبة ، وأشباه ذلك ممّا كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق الّتي تقبلها العقول .
المفاضلة بين التّعبّديّ ومعقول المعنى :
19 - نقل ابن عابدين عن صاحب الفتاوى التمرتاشية أنّه قال : لم أقف على شيء من ذلك لعلمائنا في هذا ، سوى قولهم : الأصل في النّصوص التّعليل ، فإنّه يشير إلى أفضليّة المعقول معناه . قال : ووقفت على ذلك في فتاوى ابن حجر ، قال : قضيّة كلام ابن عبد السّلام أنّ التّعبّديّ أفضل ، لأنّه بمحض الانقياد ، بخلاف ما ظهرت علّته ، فإنّ ملابسه قد يفعل لتحصيل فائدته ، وخالفه البلقينيّ فقال : لا شكّ أنّ معقول المعنى من حيث الجملة أفضل ، لأنّ أكثر الشّريعة كذلك .
وظاهر كلام الشّاطبيّ الأخذ بقول من يقول : إنّ التّعبّديّ أفضل ، وذلك حيث قال : إنّ التّكاليف إذا علم قصد المصلحة فيها فللمكلّف في الدّخول تحتها ثلاثة أحوال :
الأوّل : أن يقصد بها ما فهم من مقصد الشّارع في شرعها . وهذا لا إشكال فيه ، ولكن لا ينبغي أن يخلّيه من قصد التّعبّد ، فكم ممّن فهم المصلحة فلم يلو على غيرها ، فغاب عن أمر الآمر بها . وهي غفلة تفوّت خيرات كثيرة ، بخلاف ما إذا لم يهمل التّعبّد .
ثمّ إنّ المصالح لا يقوم دليل على انحصارها فيما علم إلا نادراً ، فإذا لم يثبت الحصر كان قصد تلك الحكمة المعيّنة ربّما أسقط ما هو مقصود أيضا من شرع الحكم .
الثّاني : أن يقصد بها ما عسى أن يقصده الشّارع ، ممّا اطّلع عليه أو لم يطّلع عليه .
وهذا أكمل من القصد الأوّل ، إلا أنّه ربّما فاته النّظر إلى التّعبّد .
الثّالث : أن يقصد مجرّد امتثال الأمر ، فهم قصد المصلحة أو لم يفهم . قال : فهذا أكمل وأسلم . أمّا كونه أكمل فلأنّه نصب نفسه عبدا مؤتمرا ومملوكا ملبّيا ، إذ لم يعتبر إلّا مجرّد الأمر . وقد وكّل العلم بالمصلحة إلى العالم بها جملة وتفصيلا وهو اللّه تعالى .
وأمّا كونه أسلم ، فلأنّ العامل بالامتثال عامل بمقتضى العبوديّة ، فإن عرض له قصد غير اللّه ردّه قصد التّعبّد . فهذا الّذي قاله يتجلّى في التّعبّديّات أكثر ممّا يظهر فيما كان معقول المعنى من الأحكام . ومذهب الغزاليّ في ذلك أيضا أنّ التّعبّديّ أفضل ، كما هو واضح فيما تقدّم النّقل عنه من قوله : إنّ ما لا يهتدى لمعانيه أبلغ أنواع التّعبّدات في تزكية النّفوس . وفي حاشية ابن عابدين : أنّ هذين القولين في الأفضليّة هما على سبيل الإجمال ، أمّا بالنّظر إلى الجزيئات ، فقد يكون التّعبّديّ أفضل كالوضوء وغسل الجنابة ، فإنّ الوضوء أفضل . وقد يكون المعقول أفضل كالطّواف والرّمي ، فإنّ الطّواف أفضل .
خصائص التّعبّديّات :
20 - من أحكام التّعبّديّات :
أ - أنّه لا يقاس عليها ، لأنّ القياس فرع معرفة العلّة ، والفرض : أنّ التّعبّديّ لم تعرف علّته ، فيمتنع القياس عليه ، ولا يتعدّى حكمه موضعه ، سواء أكان مستثنى من قاعدة عامّة ولا يعقل معنى الاستثناء ، كتخصيص النّبيّ صلى الله عليه وسلم بنكاح تسع نسوة ، وتخصيص أبي بردة بالتّضحية بعناق ، أم لم يكن كذلك ، بل كان حكما مبتدأ ، كتقدير أعداد الرّكعات ، ووجوب شهر رمضان ، ومقادير الحدود والكفّارات وأجناسها ، وجميع التّحكّمات المبتدأة الّتي لا ينقدح فيها معنى ، فلا يقاس عليها غيرها .
21 - وبناء على هذا الأصل وقع الخلاف بين الفقهاء في فروع فقهيّة ، منها : رجم اللّوطيّ ، رفضه الحنفيّة ، وأثبته مالك وأحمد في رواية عنه والشّافعيّ في أحد قوليه .
قال الحنفيّة : لا يجري القياس في الحدود والكفّارات ، لأنّ الحدود مشتملة على تقديرات لا تعرف ، كعدد المائة في حدّ الزّنى ، والثّمانين في القذف ، فإنّ العقل لا يدرك الحكمة في اعتبار خصوص هذا العدد ، قالوا : وما كان يعقل منها - أي من أحكام الحدود - فإنّ الشّبهة في القياس لاحتماله الخطأ توجب عدم إثباته بالقياس ، وهذا كقطع يد السّارق لكونها جنت بالسّرقة فقطعت .
وهكذا اختلاف تقديرات الكفّارات ، فإنّه لا يعقل كما لا تعقل أعداد الرّكعات .
وأجاز غير الحنفيّة القياس في الحدود والكفّارات ، لكن فيما يعقل معناه من أحكامها لا فيما لا يعقل منها ، كما في غير الحدود والكفّارات .
ب - قال الشّاطبيّ : إنّ التّعبّديّات ما كان منها من العبادات فلا بدّ فيه من نيّة كالطّهارة ، والصّلاة ، والصّوم . ومن لم يشترط النّيّة في بعضها فإنّه يبني على كون ذلك البعض معقول المعنى ، فحكمه كما لو كان من أمور العادات .
أمّا صوم رمضان والنّذر المعيّن ، فلم يشترط الحنفيّة لهما تبييت النّيّة ولا التّعيين ، ووجه ذلك عندهم : أنّه لو نوى غيرهما في وقتهما انصرف إليهما ، بناء على أنّ الكفّ عن المفطرات قد استحقّه الوقت ، فلا ينصرف لغيره ، ولا يصرفه عنه قصد سواه . ومن هذا ما قال الحنابلة في غسل القائم من نوم اللّيل يده قبل إدخالها الإناء : إنّه تعبّديّ ، فتعتبر له النّيّة الخاصّة ، ولا يجزئ عن غسلهما نيّة الوضوء أو الغسل ، لأنّهما عبادة مفردة .
تعبير *
التّعريف :
1 - التّعبير لغة : التّبيين . يقال : عبّر عمّا في نفسه : أي أعرب وبيّن ويقال لمن أعرب عن عييّ : عبّر عنه . واللّسان يعبّر عمّا في الضّمير : أي يبيّن .
والاسم : العبرة والعِبارة والعَبارة . وخصّه أبو البقاء الكفويّ بتعبير الرّؤيا ، وهو : العبور من ظواهرها إلى بواطنها . واستعمال الفقهاء له لا يخرج عن معناه اللّغويّ .
طرق التّعبير :
2 - هناك أكثر من طريق للتّعبير عن الإرادة ، فقد يكون بالقول ، وقد يكون بالفعل ، وقد يكون بالسّكوت أو الضّحك والبكاء .
والفعل : إمّا أن يكون بالمعاطاة ، أو بالكتابة ، أو بالإشارة .
أوّلاً : التّعبير بالقول :
3 - الأصل في التّعبير عن الإرادة : أن يكون بالقول ، لأنّه من أوضح الدّلالات على تلك الإرادة ، ولأنّ الرّضا أو عدمه أمر خفيّ قلبيّ ، لا اطّلاع لنا عليه ، فنيط الحكم بسبب ظاهر وهو القول ، لذلك كانت الصّيغة أو الإيجاب والقبول ركنا في جميع العقود ، سواء كانت تلك العقود معاوضات : كالبيع والإجارة ، أو تبرّعات : كالهبة والإعارة ، أو استيثاقات : كالرّهن ، أو ما تكون تبرّعا ابتداء ومعاوضة انتهاء : كالقرض ، أو غيرها من العقود كالشّركة والوكالة والنّكاح والطّلاق . وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( صيغة ) .
ثانياً : التّعبير بالفعل :
4 - تظهر صورة التّعبير بالفعل واضحة في المعاطاة ، وذلك في بيع المعاطاة أو التّعاطي . وصورته : أن يدفع المشتري الثّمن ويأخذ المبيع من غير إيجاب ولا قبول قوليّين . وهو موضع خلاف بين الفقهاء :
فذهب الجمهور - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، والمتولّي والبغويّ من الشّافعيّة - إلى صحّته وانعقاده بتلك الصّورة ، لأنّ الفعل يدلّ على الرّضا عرفاً . والمقصود من البيع إنّما هو أخذ ما في يد غيره بعوض يرضاه ، فلا يشترط القول ، ويكفي الفعل بالمعاطاة .
وذهب أكثر الشّافعيّة : إلى أنّ البيع لا ينعقد بالمعاطاة ، لأنّ الفعل لا يدلّ بوضعه على التّراضي ، فالمقبوض بها كالمقبوض ببيع فاسد ، فيطالب كلّ صاحبه بما دفع إليه إن بقي ، أو ببدله إن تلف .
وخصّ بعض الفقهاء ( كابن سريج والرّويانيّ من الشّافعيّة ، والكرخيّ من الحنفيّة ) جواز بيع المعاطاة بالمحقّرات ، وهي ما جرت العادة فيها بالمعاطاة ، كرطل خبز وحزمة بقل .
وقال الحنابلة بصحّة بيع المعاطاة ، بشرط عدم تأخير القبض للطّالب في نحو : خذ هذا بدرهم ، أو عدم تأخير الإقباض للطّلب نحو : أعطني بهذا الدّرهم خبزا لأنّه إذا اعتبر عدم التّأخير في الإيجاب والقبول اللّفظيّ ، فاعتبار عدم التّأخير في المعاطاة أولى .
قال البهوتيّ : وظاهره أنّ التّأخير في المعاطاة مبطل ، ولو كان بالمجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه لضعفها عن الصّيغة القوليّة . واعتبر المالكيّة التّقابض في المعاطاة شرط لزوم ، فمن أخذ رغيفا من شخص ودفع له ثمنه ، فلا يجوز له ردّه وأخذ بدله ، للشّكّ في التّماثل . بخلاف ما لو أخذ رغيفا ولم يدفع ثمنه ، فيجوز له ردّه وأخذ بدله ، لعدم لزوم البيع .
وقد نصّ الحنفيّة على أنّ : الإقالة ، والإجارة - إن عُلِمتْ الأجرة - والصّرف ، والهبة ، والهديّة ، ونحوها . تصحّ وتنعقد بالتّعاطي ، ونصّوا كذلك على أنّ القبول في العاريّة يصحّ بالفعل كالتّعاطي ، وأمّا الإيجاب فلا يصحّ به . وعند المالكيّة : كلّ إشارة فهم منها الإيجاب والقبول لزم بها البيع وسائر العقود ، ونصّوا على أنّ الشّركة تنعقد بالفعل الدّالّ عليها كما لو خلطا ماليهما وباعا . وتمسّك الشّافعيّة بأصلهم ، وهو : عدم صحّة العقد بالمعاطاة في سائر العقود . إلا العاريّة ، فإنّها تصحّ عندهم بلفظ من أحدهما مع فعل من الآخر ، ولا يكفي الفعل من الطّرفين إلا في بعض الصّور ، كمن اشترى شيئاً وسلّمه له في ظرف ، فالظّرف معار في الأصحّ . واختار النّوويّ صحّة الهبة بالمعاطاة .
ونصّ الحنابلة على انعقاد الإجارة والمضاربة والإقالة والعاريّة والوكالة والهبة بالفعل كالتّعاطي ، وذلك لأنّ المقصود المعنى ، فجاز بكلّ ما يدلّ عليه .
ثالثاً : التّعبير بالكتابة :
5 - اتّفق الفقهاء على صحّة العقود وانعقادها بالكتابة ، ويعتبر في القبول أن يكون في مجلس بلوغ الكتاب ، ليقترن بالإيجاب بقدر الإمكان .
وجعل الشّافعيّة الكتابة من باب الكناية ، فتنعقد بها العقود مع النّيّة . واستثنوا من ذلك عقد النّكاح ، فلا ينعقد بالكتابة عند جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - .
وأجازه الحنفيّة في الغائب دون الحاضر ، بشرط إعلام الشّهود بما في الكتاب .
واتّفق الفقهاء أيضا على وقوع الطّلاق بالكتابة ، لأنّ الكتابة حروف يفهم منها الطّلاق ، فأشبهت النّطق ، ولأنّ الكتابة تقوم مقام قول الكاتب ، بدليل أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بتبليغ الرّسالة ، فبلّغ بالقول مرّة ، وبالكتابة أخرى .
والكتابة الّتي يقع بها الطّلاق إنّما هي الكتابة المستبينة ، كالكتابة على الصّحيفة والحائط والأرض ، على وجه يمكن فهمه وقراءته .
وأمّا الكتابة غير المستبينة كالكتابة على الهواء والماء وشيء لا يمكن فهمه وقراءته ، فلا يقع بها الطّلاق ، لأنّ هذه الكتابة بمنزلة الهمس بلسانه بما لا يسمع . واعتبر الشّافعيّة الكتابة بالطّلاق من باب الكناية ، فتفتقر إلى نيّة من الكاتب ، وقصر الحنفيّة النّيّة على الكتابة المستبينة غير المرسومة - أي أن لا يكون الكتاب مصوّراً ومعنوناً - .
وعند الحنابلة : إن كتب طلاقها بالصّريح وقع وإن لم ينوه . وإن كتبه بالكناية فهو كناية . وعند المالكيّة : إن كتبه عازماً على الطّلاق بكتابته فيقع بمجرّد فراغه من كتابة: هي طالق. ومثله : لو كتب : إذا جاءك كتابي فأنت طالق . وعندهم قول ثان : بأن يوقف الطّلاق على وصول الكتاب ، وقوّاه الدّسوقيّ لتضمّن " إذا " معنى الشّرط . وإن كتبه مستشيراً أو متردّداً فلا يقع الطّلاق ، إلا إذا أخرجه عازماً ، أو أخرجه ولا نيّة له فيقع الطّلاق بمجرّد إخراجه . وأمّا إذا أخرجه - وهو كذلك - متردّداً أو مستشيراً ، أو لم يخرجه ، فإمّا أن يصل إليها ، وإمّا أن لا يصل إليها ، فإن وصل إليها حنث وإلا فلا . وأمّا إن كتبه ولا نيّة له أصلاً حين بالكتابة فيلزمه الطّلاق ، لحمله على العزم عند ابن رشد خلافاً للّخميّ .
رابعاً : التّعبير بالإشارة :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ إشارة الأخرس المفهمة تقوم مقام اللّفظ في سائر العقود للضّرورة ، لأنّ ذلك يدلّ على ما في فؤاده ، كما يدلّ عليه النّطق من النّاطق .
واختلفوا في إشارة غير الأخرس .
فذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى عدم اعتبارها في العقود .
وذهب المالكيّة إلى أنّ إشارة النّاطق معتبرة كنطقه - قالوا - وهي أولى بالجواز من المعاطاة - لأنّها يطلق عليها أنّها كلام . قال اللّه تعالى : { آيَتُكَ أنْ لا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثةَ أيَّامٍ إلا رَمْزَاً } والرّمز : الإشارة . وللتّفصيل انظر مصطلح ( إشارة ) .
خامساً : التّعبير بالسّكوت :
7 - اعتبر الفقهاء سكوت البكر البالغة العاقلة تعبيراً عن رضاها بالنّكاح ، لما روت عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : « يا رسول اللّه إنّ البكر تستحي قال : رضاها صماتها » وأخرج الإمام مسلم في صحيحه : « الأيِّم أحقّ بنفسها من وليّها ، والبِكر تُسْتأمر ، وإذنها سكوتها » وألحقوا بالسّكوت الضّحك والبكاء ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال :
« قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : اليتيمة تستأمر في نفسها ، فإن صمتت فهو إذنها ، وإن أبتْ فلا جواز عليها » ولأنّها غير ناطقة بالامتناع مع سماعها للاستئذان ، فكان ذلك إذناً منها . ولم يعتبر الحنفيّة والشّافعيّة البكاء إن كان مع الصّياح والصّوت ، لأنّ ذلك يشعر بعدم الرّضا . وقال المالكيّة : إن علم من بكائها أنّه منع لم تزوّج .
ونصّ الحنفيّة على عدم اعتبار الضّحك إن كان باستهزاء ، لأنّ الضّحك إنّما جعل إذنا لدلالته على الرّضا ، فإذا لم يدلّ على الرّضا لم يكن إذناً .
قال ابن عابدين نقلا عن الفتح : والمعوّل اعتبار قرائن الأحوال في البكاء والضّحك ، فإن تعارضت أو أشكل احتيط . وثمّة تفصيلات واستثناءات تفصيلها في ( النّكاح ) .
تعبير الرّؤيا *
انظر : رؤيا .
تعجيز *
التّعريف :
1 - التّعجيز لغة : مصدر عجّز . يقال : عجّزته تعجيزاً : إذا جعلته عاجزاً ، وعجّز فلان رأيَ فلان : إذا نسبه إلى خلاف الحزم ، كأنّه نسبه إلى العجز .
وهو لا يخرج في الاصطلاح الفقهيّ عن هذا المعنى ، وهو : نسبة الشّخص إلى العجز . ولكنّ الفقهاء لم يستعملوا هذا اللّفظ إلا في حالتين : الأولى : تعجيز المكاتب . والأخرى : تعجيز القاضي أحد الخصمين عن إقامة البيّنة . وفيما يلي بيان هاتين الحالتين إجمالاً :
أوّلاً : تعجيز المكاتب :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ الكتابة عقد لازم من جانب السّيّد ، وهو : أن يتعاقد السّيّد مع عبده . أو أمته على أن يؤدّي إليه كذا من المال منجّزاً ، أو مؤجّلاً ، ويكون حرّاً . فلا يملك فسخها ، ولا يجوز تعجيز المكاتب قبل عجز المكاتب عن أداء ما عليه .
أمّا إن حلّ النّجم ( القسط ) فللسّيّد مطالبته بما حلّ من نجومه ، لأنّه حقّ له .
فإن عجز المكاتب عنها ، فهل يحقّ للسّيّد فسخ الكتابة وتعجيز المكاتب أم لا ؟ .
ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : إلى أنّ للسّيّد أن يفسخ الكتابة بنفسه ، دون الرّجوع إلى الحاكم أو السّلطان ، إذا عجز المكاتب عن أداء ما عليه بعد حلول النّجم ، لفعل ابن عمر رضي الله عنهما ذلك .
ويرى المالكيّة : أنّه ليس له ذلك ، إلا عن طريق الحاكم أو السّلطان .
3 - وذهب الجمهور كذلك - وهم : الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - إلى أنّه يجوز للمكاتب أن يعجّز نفسه . كأن يقول : أنا عاجز عن كتابتي ، وعند ذلك يجوز للسّيّد الصّبر أو الفسخ ، إمّا عن طريق الحاكم أو بنفسه . كما أنّ للقاضي أن يعجّزه إذا طلب ذلك السّيّد أو ورثته ، بعد حلول النّجم وعدم الوفاء بما كوتب عليه .
أمّا الحنابلة فيرون : أنّه ليس للعبد أن يعجّز نفسه إذا كان مقتدراً ، لأنّ عقد الكتابة عندهم لازم من الطّرفين . والتّفاصيل في مصطلح : ( كتابة ) .
ثانياً : عجز المدّعي أو المدّعى عليه :
4 - أكثر من استعمل من الفقهاء لفظ التّعجيز هم المالكيّة ، حيث ذهبوا : إلى أنّه إذا انقضت الآجال الّتي ضربها القاضي للمدّعي لإحضار بيّنته ، وفترة التّلوّم ، ولم يأت الشّخص المؤجّل بشيء يوجب له نَظِرَةً ، عجَّزه القاضي ، وأنفذ القضاء عليه ، وسجّل ، وقطع بذلك تبعته عن خصمه ، ثمّ لا يسمع له بعد ذلك حجّة ، ولا تقبل منه بيّنة إن أتى بها ، سواء أكان مدّعيا أم مدّعى عليه .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة : إلى أنّ المدّعي يمهل إذا طلب مهلة لإحضار البيّنة ، ويترك ما ترك ، لأنّه هو الطّالب للحقّ . أمّا المدّعى عليه فلا يمهل أكثر من ثلاثة أيّام ، ثمّ يحكم بتعجيزه ، ويسقط حقّه في الحلف ، ثمّ يحلف المدّعي فيحكم له .
أمّا الحنفيّة فيرون : أنّ القاضي يحكم للمدّعي على المدّعى عليه بنفس النّكول ، بعد أن يكرّر عليه اليمين ثلاث مرّات . لقوله صلى الله عليه وسلم « البيّنةُ على من ادّعى ، واليمين على من أنكر » . والتّفاصيل في مصطلح : ( دعوى ) .
تعجيل *
التّعريف :
1 - التّعجيل : مصدر عجّل . وهو في اللّغة : الاستحثاث ، وطلب العجلة ، وهي : السّرعة. ويقال : عجّلت إليه المال : أسرعت إليه ، فتعجّله : فأخذه بسرعة وهو في الشّرع : الإتيان بالفعل قبل الوقت المحدّد له شرعاً ، كتعجيل الزّكاة ، أو في أوّل الوقت ، كتعجيل الفطر .
الألفاظ ذات الصّلة :
الإسراع :
2 - الإسراع : مصدر أسرع ، والسّرعة : اسم منه ، وهي نقيض البطء .
والفرق بين الإسراع والتّعجيل كما قال العسكريّ : إنّ السّرعة التّقدّم فيما ينبغي أن يتقدّم فيه ، وهي محمودة ، ونقيضها مذموم ، وهو : الإبطاء .
والعجلة التّقدّم فيما لا ينبغي أن يتقدّم فيه ، وهي مذمومة ، ونقيضها محمود، وهو : الأناة. فأمّا قوله تعالى { وَعَجِلْتُ إليكَ رَبِّ لِتَرْضَى } فإنّ ذلك بمعنى : أسرعت .
الحكم الإجماليّ :
3 - التّعجيل مشروع في مواضع : كتعجيل تجهيز الميّت ، وقضاء الدّين .
وغير مشروع في مواضع : كتعجيل الصّلاة قبل وقتها . والمشروع منه تارة يكون واجباً : كتعجيل التّوبة من الذّنب . وتارة يكون مندوباً : كتعجيل الفطر في رمضان .
وتارة يكون مباحاً : كتعجيل الكفّارات ، وتارة يكون مكروهاً أو خلاف الأولى : كتعجيل إخراج الزّكاة قبل الحول . وغير المشروع : منه ما يكون باطلاً، كتعجيل الصّلاة قبل وقتها.
أنواع التّعجيل
أوّلاً : التّعجيل بالفعل عند وجود سببه
أ - التّعجيل بالتّوبة من الذّنب :
4 - تجب التّوبة على كلّ مكلّف على الفور عقيب الذّنب .
وقد دلّت على ذلك نصوص الكتاب والسّنّة وإجماع الأمّة . قال اللّه تعالى { إنَّمَا التَّوْبَةُ على اللَّهِ لِلَّذينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيهمْ } .
وقوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيطَانِ تَذَكَّرُوا فإذا هُمْ مُبْصِرُونَ } .
ونقل القرطبيّ وغيره : الإجماع على وجوب تعجيل التّوبة ، وأنّها على الفور .
ب - التّعجيل بتجهيز الميّت :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّه يندب الإسراع بتجهيز الميّت إذا تيقّن موته ، لما ثبت « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم - لمّا عاد طلحة بن البراء رضي الله عنه - قال : إنّي لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت ، فآذنوني به ، وعجّلوا ، فإنّه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله » . والصّارف عن وجوب التّعجيل : الاحتياط للرّوح ، لاحتماله الإغماء ونحوه . وفي الحديث « أسرعوا بالجنازة ، فإن تكُ صالحةً فخيرٌ تقدّمونها إليه ، وإن يكُ سوى ذلك فشرٌّ تضعونه عن رقابكم » . ويندب تأخير من مات فجأة أو غرقاً .
ج - التّعجيل بقضاء الدّين :
6 - يجب تعجيل الوفاء بالدّين عند استحقاقه ويحرم على القادر المطل فيه .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : مطل الغنيّ ظلم ، فإن أتبع أحدكم على مليء فليتبع » أي فإن أحيل على موسر فليقبل الحوالة .
قال ابن حجر في الفتح : المعنى : أنّه من الظّلم ، وأطلق ذلك للمبالغة في التّنفير عن المطل ، والمراد من المطل هنا : تأخير ما استحقّ أداؤه بغير عذر .
د - التّعجيل بإعطاء أجرة الأجير :
7 - ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال « أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقُه» والأمر بإعطائه قبل جفاف عرقه إنّما هو كناية عن وجوب المبادرة عقب فراغ العمل ، إذا طلب ، وإن لم يعرق ، أو عرق وجفّ . وذلك لأنّ أجره عمالة جسده ، وقد عجّل منفعته ، فإذا عجّلها استحقّ التّعجيل . ومن شأن الباعة : إذا سلّموا قبضوا الثّمن عند التّسليم ، فهو أحقّ وأولى ، إذ كان ثمن مهجته ، لا ثمن سلعته ، فيحرم مطله والتّسويف به مع القدرة .
هـ - التّعجيل بتزويج البكر :
8 - استحبّ بعض العلماء التّعجيل بإنكاح البكر إذا بلغت ، لحديث : « يا عليّ : ثلاث لا تؤخّرها : الصّلاة إذا أتت ، والجنازة إذا حضرت ، والأيّم إذا وجدت لها كفؤاً »
واستثنوا ذلك من ذمّ العجلة ، وأنّها من الشّيطان .
و - التّعجيل بالإفطار في رمضان :
9 - اتّفق الفقهاء : على أنّ تعجيل الفطر من السّنّة ، لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم
« لا يزال النّاس بخير ما عجّلوا الفطر » ولحديث أبي ذرّ رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : لا تزال أمّتي بخير ما عجّلوا الفطر ، وأخّروا السّحور » .
وإنّما يسنّ له التّعجيل : إذا تحقّق من غروب الشّمس ، وعدم الشّكّ فيه ، لأنّه إذا شكّ في الغروب حرم عليه الفطر اتّفاقاً ، وأجاز الحنفيّة تعجيل الفطر بغلبة الظّنّ .
ز - تعجيل الحاجّ بالنّفر من منى :
10 - يجوز للحاجّ التّعجّل في اليوم الثّاني من أيّام الرّمي ، لقوله تعالى { فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَوْمَينِ فلا إِثْمَ عَلَيهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيهِ لِمَنْ اتَّقَى } ولما روى عبد الرّحمن بن يعمر رضي الله عنه : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : أيّام منى ثلاث ، فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخّر فلا إثم عليه » .
وشرط جوازه عند الجمهور - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - أن يخرج الحاجّ من منى قبل الغروب ، فيسقط عنه رمي اليوم الثّالث ، فإن لم يخرج حتّى غربت الشّمس لزمه المبيت بمنى ، ورمى اليوم الثّالث . وذلك لأنّ اليوم اسم للنّهار ، فمن أدركه اللّيل فما تعجّل في يومين ، وثبت عن عمر رضي الله عنه أنّه قال " من غربت عليه الشّمس وهو بمنى ، فلا ينفرن ، حتّى يرمي الجمار من أوسط أيّام التّشريق " .
ولم يفرّق الشّافعيّة والحنابلة في هذا الشّرط بين المكّيّ والآفاقيّ .
وذهب المالكيّة : إلى التّفريق بينهما ، وخصّوا شرط التّعجيل بالمتعجّل من أهل مكّة ، وأمّا إن كان من غيرها فلا يشترط خروجه من منى قبل الغروب من اليوم الثّاني ، وإنّما يشترط نيّة الخروج قبل الغروب من اليوم الثّاني .
ولم يشترط الحنفيّة ذلك ، وقالوا : له أن ينفر بعد الغروب مع الكراهة ، ما لم يطلع فجر اليوم الثّالث ، وذلك لأنّه لم يدخل اليوم الآخر ، فجاز له النّفر ، كما قبل الغروب .
واختلف الفقهاء في أهل مكّة هل ينفرون النّفر الأوّل ؟ فقيل : ليس لهم ذلك . فقد ثبت عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قال : من شاء من النّاس كلّهم أن ينفروا في النّفر الأوّل ، إلّا آل خزيمة ، فلا ينفرون إلّا في النّفر الآخر . وكان أحمد بن حنبل يقول : لا يعجبني لمن نفر النّفر الأوّل أن يقيم بمكّة ، وقال : أهل مكّة أخفّ ، وجعل أحمد معنى قول عمر " إلا آل خزيمة " أي : أنّهم أهل الحرم ، وحمله في المغني على الاستحباب ، محافظة على العموم . وكان مالك يقول في أهل مكّة من كان له عذر فله أن يتعجّل في يومين ، فإن أراد التّخفيف عن نفسه ممّا هو فيه من أمر الحجّ فلا ، فرأى أنّ التّعجيل لمن بعد قطره .
وقال أكثر أهل العلم : الآية على العموم ، والرّخصة لجميع النّاس ، أهل مكّة وغيرهم ، سواء أراد الخارج من منى المقام بمكّة ، أو الشّخوص إلى بلده .
11 - واختلف الفقهاء في الأفضليّة بين التّعجيل والتّأخير ، فذهب الجمهور ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) : إلى أنّ تأخير النّفر إلى الثّالث أفضل ، للاقتداء بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم . وذهب المالكيّة : إلى أنّه لا تفضيل بين التّعجيل والتّأخير ، بل هما مستويان . ونصّ الفقهاء على كراهة التّعجيل للإمام ، لأجل من يتأخّر .
وأمّا ثمرة التّعجيل فهي سقوط رمي اليوم الثّالث ، ومبيت ليلته عنه .
ثانياً : تعجيل الفعل قبل وجوبه
أ - التّعجيل بالصّلاة قبل الوقت :
12 - أجمع العلماء : على أنّ لكلّ صلاة من الصّلوات الخمس وقتاً محدّداً ، لا يجوز إخراجها عنه ، لقوله تعالى : { إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ على المُؤْمِنينَ كِتَابَاً مَوْقُوتَاً } أي : محتّمة مؤقّتة : ولحديث المواقيت المشهور .
وقد رخّص الشّارع في تعجيل الصّلاة قبل وقتها في حالات ، منها :
1 - جمع الحاجّ الظّهر والعصر جمع تقديم في عرفة .
ب - جواز الجمع للمسافر بين العصرين " الظّهر والعصر " والعشاءين " المغرب والعشاء " تقديماً عند جمهور العلماء ، خلافاً للحنفيّة .
2 - جواز الجمع للمريض ، جمع تقديم عند المالكيّة والحنابلة .
3 - جواز الجمع بين العشاءين تقديماً ، لأجل المطر والثّلج والبرد عند جمهور العلماء
" المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة " وزاد الشّافعيّة جوازه بين العصرين أيضاً .
4 - جواز الجمع بين الصّلاتين ، إذا اجتمع الطّين مع الظّلمة ، عند المالكيّة ، وجوّزه الحنابلة بمجرّد الوحل ، في إحدى الرّوايتين ، وصحّحها ابن قدامة .
5 - جواز الجمع لأجل الخوف عند الحنابلة .
6 - جواز الجمع لأجل الرّيح الشّديدة في اللّيلة المظلمة الباردة ، عند الحنابلة ، في أحد الوجهين ، وصحّحه الآمديّ .
ب - التّعجيل بإخراج الزّكاة قبل الحول :
13 - ذهب جمهور الفقهاء : إلى جواز تعجيل إخراج الزّكاة قبل الحول في الجملة ، وذلك لأنّ « العبّاس رضي الله عنه سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحلّ ، فرخّص له في ذلك » ، ولأنّه حقّ ماليّ جعل له أجل للرّفق ، فجاز تعجيله قبل أجله ، كالدّين . ولأنّه - كما قال الشّافعيّة - وجب بسببين ، وهما : النّصاب ، والحول : فجاز تقديمه على أحدهما ، كتقديم كفّارة اليمين على الحنث . ومنعه ابن المنذر ، وابن خزيمة من الشّافعيّة ، وأشهب من المالكيّة ، وقال : لا تجزئ قبل محلّه كالصّلاة ، ورواه عن مالك ، ورواه كذلك ابن وهب . قال ابن يونس : وهو الأقرب ، وغيره استحسان .
ونصّ الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة : على أنّ تركه أفضل ، خروجاً من الخلاف .
واختلف الفقهاء في المدّة الّتي يجوز تعجيل الزّكاة فيها : فذهب الحنفيّة : إلى جواز تعجيل الزّكاة لسنين ، لوجود سبب الوجوب ، وهو : ملك النّصاب النّامي .
وقيّده الحنابلة بحولين فقط ، اقتصاراً على ما ورد . فقد روى عليّ رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تعجّل من العبّاس رضي الله عنه صدقة سنتين » لقوله صلى الله عليه وسلم : « أمّا العبّاس فهي عليّ ومثلها معها » ولما روى أبو داود من « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تسلّف من العبّاس صدقة عامين » وهو وجه عند الشّافعيّة ، صحّحه الإسنويّ وغيره ، وعزوه للنّصّ . وذهب الشّافعيّة : إلى عدم جواز تعجيل الزّكاة لأكثر من عام ، وذلك : لأنّ زكاة غير العام الأوّل لم ينعقد حولها ، والتّعجيل قبل انعقاد الحول لا يجوز ، كالتّعجيل قبل كمال النّصاب في الزّكاة العينيّة .
أمّا المالكيّة : فلم يجيزوا تعجيل الزّكاة لأكثر من شهر قبل الحول على المعتمد ، وتكره عندهم بشهر . وفي المسألة تفصيلات تنظر في الزّكاة .
ج - تعجيل الكفّارات :
تعجّل كفّارة اليمين قبل الحنث :
14 - ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - : إلى جواز تعجيل كفّارة اليمين قبل الحنث ، لما روى عبد الرّحمن بن سمرة رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : يا عبد الرّحمن ، إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفّر عن يمينك ، ثمّ ائت الّذي هو خير » .
واستثنى الشّافعيّة الصّوم من خصال الكفّارة ، وقالوا بعدم جواز التّعجيل به قبل الحنث ، وذلك لأنّه عبادة بدنيّة ، فلا يجوز تقديمه على وقت وجوبه بغير حاجة ، كالصّلاة ، وصوم رمضان ، ولأنّه إنّما يجوز التّكفير به عند العجز عن جميع الخصال الماليّة . والعجز إنّما يتحقّق بعد الوجوب . وهو رواية عند الحنابلة .
وذهب الحنفيّة : إلى عدم جواز تعجيل كفّارة اليمين قبل الحنث ، لأنّ الكفّارة لستر الجناية ، ولا جناية قبل الحنث .
15 - ثمّ إنّ القائلين بجواز التّعجيل اختلفوا في أيّهما أفضل : التّكفير قبل الحنث أم بعده ؟. فذهب المالكيّة ، والشّافعيّة ، وأحمد في رواية ، وابن أبي موسى ، وصوّبه المرداويّ من الحنابلة : إلى أنّ تأخيرها عن الحنث أفضل ، خروجاً من الخلاف .
والرّواية الأخرى عن أحمد على الصّحيح من المذهب : أنّ التّكفير قبل الحنث وبعده في الفضيلة سواء ، وذلك في غير الصّوم ، لتعجيل النّفع للفقراء .
تعجيل كفّارة الظّهار :
16 - اختلف الفقهاء في جواز تعجيل كفّارة الظّهار قبل العود ، فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى جواز تعجيلها ، لوجود سببها ، وذلك كتعجيل الزّكاة قبل الحول ، وبعد كمال النّصاب . وذهب المالكيّة : إلى أنّها لا تجزئ قبل العود .
وذهب الشّافعيّة : إلى جواز التّعجيل بكفّارة الظّهار قبل العود به ، وذلك بالمال - وهو التّحرير والإطعام - لا بالصّوم ، والمراد بالعود عندهم : إمساك المظاهر منها مدّة يمكن للمظاهر أن يطلّقها فيها ، مع القدرة على الطّلاق . وصورة التّعجيل في كفّارة الظّهار : أن يظاهر من مطلّقته رجعيّا ، ثمّ يكفّر ، ثمّ يراجعها . وعندهم صور أخرى .
والمراد بالعود عند الحنفيّة : إرادة العزم على الوطء .
وعند المالكيّة هو إرادة الوطء ، مع استدامة العصمة ، كما قاله ابن رشد .
تعجيل كفّارة القتل :
17 - يجوز تعجيل كفّارة القتل بعد الجرح ، وقبل الزّهوق ، وتجزئ عنه ، وذلك لتقدّم السّبب ، كتعجيل إخراج الزّكاة قبل الحول . واستثنى الشّافعيّة تعجيل التّكفير بالصّوم ، لأنّه عبادة بدنيّة ، فلا يجوز تقديمه على وقت وجوبه بغير حاجة ، كالصّلاة ، وصوم رمضان .
د - التّعجيل بقضاء الدّين المؤجّل :
18 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا يجب أداء الدّين المؤجّل قبل حلول أجله ، لكن لو أدّي قبله صحّ ، وسقط عن ذمّة المدين ، وذلك لأنّ الأجل حقّ المدين ، فله إسقاطه ، ويجبر الدّائن على القبول .
هـ – التّعجيل بالحكم قبل التّبيّن :
19 – روي عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه ، أنّه قال : لا ينبغي للقاضي أن يقضي حتّى يتبيّن له الحقّ ، كما يتبيّن اللّيل من النّهار فبلغ ذلك عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقال : صدق . وهذا لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يا ابن عبّاس لا تشهد إلا على أمرٍ يضيء لك كضياء هذا الشّمس » وولاية القضاء فوق ولاية الشّهادة ، لأنّ القضاء ملزم بنفسه ، والشّهادة غير ملزمة بنفسها ، حتّى ينضمّ إليها القضاء ، فإذا أخذ هذا على الشّاهد ، كان على القاضي بطريق الأولى .
قال الصّدر الشّهيد في شرح أدب القاضي : وهذا في موضع النّصّ ، وأمّا في غير موضع النّصّ فلا ، لأنّه في غير موضع النّصّ يقضى بالاجتهاد ، والاجتهاد ليس بدليل مقطوع به ، فلا يتبيّن له به الحقّ ، كما يتبيّن اللّيل من النّهار .
تعدّد *
التّعريف :
1 - التّعدّد في اللّغة : الكثرة . وهو من العدد : أي الكمّيّة المتألّفة من الوحدات ، فيختصّ التّعدّد بما زاد عن الواحد ، لأنّ الواحد لا يتعدّد .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
حكمه التّكليفيّ :
2 - يختلف حكم التّعدّد باختلاف متعلّقه . فيكون : جائزا في حالات ، وغير جائز في حالات أخرى .
أ - تعدّد المؤذّنين :
3 - تعدّد المؤذّنين جائز لمسجد واحد ، لتعدّدهم في زمن الرّسول صلى الله عليه وسلم . وقال الشّافعيّة والحنابلة : إنّ ذلك مستحبّ ، ويجوز الزّيادة عن الاثنين .
والمستحبّ أن لا يزيد عن أربعة . وروي : أنّ عثمان كان له أربعة مؤذّنين ، وإن دعت الحاجة إلى أكثر كان مشروعا . والتّفصيل في مصطلح : ( أذان ) .
ب - تعدّد الجماعة في مسجد واحد :
4 - ذهب الحنفيّة ، والمالكيّة ، والشّافعيّة : إلى أنّه إذا صلّى إمام الحيّ ، ثمّ حضرت جماعة أخرى كره أن يقيموا جماعة فيه على الأصحّ .
إلا أن يكون مسجد طريق ، ولا إمام له ، ولا مؤذّن فلا يكره إقامة الجماعة فيه حينئذ .
واستدلّوا بما روي عن عبد الرّحمن بن أبي بكرة رضي الله عنهما عن أبيه : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خرج من بيته ليصلح بين الأنصار ، فرجع وقد صلّى في المسجد بجماعة ، فدخل منزل بعض أهله ، فجمع أهله فصلّى بهم جماعة » .
وقالوا : ولو لم يكره تكرار الجماعة في المسجد لصلّى فيه . كما استدلّوا بأثر عن أنس رضي الله عنه قال : إنّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كانوا إذا فاتتهم الجماعة في المسجد ، صلّوا في المسجد فرادى . قالوا : ولأنّ التّكرار يؤدّي إلى تقليل الجماعة ، لأنّ النّاس إذا علموا : أنّهم تفوتهم الجماعة يتعجّلون ، فتكثر الجماعة .
وقال الحنابلة : لا يكره إعادة الجماعة في المسجد . واستدلّوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بخمس وعشرين درجة » ، وحديث أبي سعيد رضي الله عنه : « جاء رجل وقد صلّى الرّسول صلى الله عليه وسلم فقال : أيّكم يتّجر على هذا ؟ فقام رجل فصلّى معه » وجاء في بعض الرّوايات : « فلمّا صلّيا قال : وهذان جماعة » ولأنّه قادر على الجماعة ، فاستحبّ له فعلها ، كما لو كان المسجد في ممرّ النّاس . والتّفصيل : في مصطلح : ( جماعة ) أو ( صلاة الجماعة ) .
ج - تعدّد الجمعة :
5 - لا يجوز عند جمهور الفقهاء إقامة جمعتين في بلد واحد إلا لضرورة ، كضيق المسجد ، لأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده لم يقيموا سوى جمعة واحدة .
وتعدّد الجمعة في البلد الواحد جائز مطلقا عند الحنفيّة ، سواء أكانت هناك ضرورة أم لا ، فصل بين جانبي البلد نهر أم لا ، لأنّ الأثر الوارد بأنّه « لا جمعة إلا في مصر جامع » قد أطلق ، ولم يشترط إلّا أن تقع في مصر ( ر : صلاة الجمعة ) .
د - تعدّد كفّارة الصّوم :
6 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الكفّارة على من أفسد صوم يوم من رمضان بالجماع ، وأنّها لا تتعدّد بتكرار الجماع في اليوم الواحد ، كما اتّفقوا على تعدّد الكفّارة إذا تكرّر منه الإفساد بالجماع ، بعد التّكفير من الأوّل .
واختلفوا فيما إذا أفسد أيّاما بالجماع قبل التّكفير من الأوّل ، فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إلى تعدّد الكفّارة ، لأنّ كلّ يوم عبادة برأسها ، وقد تكرّر منه الإفساد فأشبه الحجين . وعند الحنفيّة : تكفيه كفّارة واحدة ، وهو المعتمد في المذهب .
واختار بعض الحنفيّة : أنّ هذا خاصّ بالإفساد بغير الجماع ، أمّا الإفساد بالجماع فتتعدّد الكفّارة فيه لعظم الجناية . ( ر : كفّارة ) .
هـ - تعدّد الفدية بتعدّد ارتكاب المحظور في الإحرام :
7 - إذا ارتكب في حالة الإحرام جنايات توجب كلّ منها فدية ، فإن كانت الجناية صيداً ففي كلّ منها جزاؤه ، سواء أفعله مجتمعاً ، أم متفرّقاً . كفّر عن الأوّل ، أم لم يكفّر عنه .
وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء .
وما عدا ذلك ففيه خلاف وتفصيل ويرجع إليه في ( فدية ) ( وإحرام ) .
و - تعدّد الصّفقة :
8 - تتعدّد الصّفقة بتعدّد البائع ، وتعدّد المشتري ، وبتفصيل الثّمن ، وباختلاف المعقود عليه . فإن جمع بين عينين فأكثر في صفقة واحدة جاز ، ويوزّع الثّمن في المثليّ .
وفي العين المشتركة بين اثنين يوزّع على الأجزاء ، وفي غيرهما من المتقوّمات على الرّءوس ، باعتبار القيمة ، فإن بطل العقد في واحد منهما ابتداء صحّ في الآخر ، بأن كان أحدهما قابلا للعقد والآخر غير قابل ، ( ر : عقد - تفريق الصّفقة ) .
ز - تعدّد المرهون أو المرتهن :
9 - إذا رهن دارين له بمبلغ من الدّين ، فقضى حصّة إحدى الدّارين من الدّين لم يستردّها حتّى يقضي باقي الدّين ، لأنّ المرهون محبوس بكلّ الدّين . وكذا إن رهن عيناً واحدة عند رجلين بدين عليه لكلّ واحد منهما ، فقضى دين أحدهما ، لأنّ العين كلّها رهن عند الدّائنين ، وأضيف الرّهن إلى جميع العين في صفقة واحدة . ر : ( رهن ) .
ح - تعدّد الشّفعاء في العقار :
10 - اختلف الفقهاء في حكم الشّفعة إذا استحقّها جمع ، فقال الشّافعيّة : يأخذون على قدر الحصص ، لأنّ الشّفعة من مرافق الملك فيتقدّر بقدره .
وعند الحنفيّة : يوزّع على عدد رءوسهم ، وهو قول عند الشّافعيّة ، لأنّهم استووا في سبب الاستحقاق ، فيستوون في الاستحقاق . ر : ( شفعة )
ط - تعدّد الوصايا :
11 - إذا أوصى بوصايا من حقوق اللّه قدّمت الفرائض منها ، سواء قدّمها الموصي أم أخّرها ، لأنّ الفريضة أهمّ من النّافلة ، فإن تساوت وقدّم الموصي بعضها على بعض بما يفيد التّرتيب بدئ بما قدّمه الموصي . ر : ( وصيّة ) .
ي - تعدّد الزّوجات :
12 - تعدّد الزّوجات إلى أربع مشروع ورد به القرآن الكريم في قوله تعالى : { فَانْكِحُوا ما طَابَ لكمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنَى وثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإنْ خِفْتُمْ ألا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وفي تفصيل مشروعيّة التّعدّد وشروطه ووجوب العدل بين الزّوجات يرجع إلى ( نكاح وقسم ونفقة ) .
ك - تعدّد أولياء النّكاح :
13 - إذا استوى أولياء المرأة في درجة القرابة كالإخوة والأعمام ، يندب تقديم أكبرهم وأفضلهم ، فإن تشاحّوا ولم يقدّموه أقرع بينهم . فإن زوّج أحدهم قبل القرعة بإذنها ، أو زوّجها غير من خرجت له القرعة صحّ . لأنّه صدر من أهله في محلّه ، هذا رأي الشّافعيّة . ولتفصيل الموضوع وآراء الفقهاء يرجع إلى مصطلح ( نكاح ) ( ووليّ ) .
ل - تعدّد الطّلاق :
14 - يملك الزّوج الحرّ على زوجته الحرّة ثلاث تطليقات ، تبين بعدها الزّوجة منه بينونة كبرى ، لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره يدخل بها ، ثمّ يطلّقها أو يموت عنها ، لقوله تعالى { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ } إلى قوله { فَإنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ له مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجَاً غَيرَه فَإنْ طَلَّقَها فَلا جُنَاحَ عَليهما أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } .
وفي ذلك تفصيل وخلاف يرجع إليه في ( طلاق ) .
م - تعدّد المجنيّ عليه ، أو الجاني :
15 - إذا قتلت جماعة واحداً يُقتلون جميعاً قصاصاً ، وإن تفاضلت جراحاتهم في العدد ، بشرط أن تكون كلّ جراحة مؤثّرة في إزهاق الرّوح . وإن قتل واحد جماعة يقتل قصاصاً أيضا ، هذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء . والتّفصيل في مصطلح ( قصاص ) ( وجناية ) .
ن - تعدّد التّعزير بتعدّد الألفاظ :
16 - من سبّ رجلا بألفاظ متعدّدة من ألفاظ الشّتم الموجب للتّعزير ، فقد أفتى بعض الحنفيّة - وأيّده ابن عابدين - بأنّه يعزّر لكلّ منها ، لأنّ حقوق العباد لا تتداخل .
وكذا إن سبّ جماعة بلفظ واحد . انظر مصطلح ( تعزير ) .
س - تعدّد القضاة في بلد واحد :
17 - يجوز للإمام تعيين قاضيين فأكثر في بلد واحد ، إلا أن يشترط اجتماعهم على الحكم في القضيّة الواحدة لما يقع بينهم من خلاف في محلّ الاجتهاد . ر : ( قضاء ) .
ع - تعدّد الأئمّة :
18 - ذهب جمهور العلماء إلى أنّه لا يجوز تنصيب إمامين فأكثر للمسلمين في زمن واحد ، وإن تباعدت أقاليمهم . ر : ( إمامة عظمى ) .
تعدّي *
التّعريف :
1 - التّعدّي لغة : الظّلم ، وأصله مجاوزة الحدّ والقدر والحقّ . يقال : تعدّيت الحقّ واعتديته وعدوته أي : جاوزته . ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن معناه في اللّغة ، فيستعمل بمعنى : الاعتداء على حقّ الغير ، وبمعنى : انتقال الحكم إلى محلّ آخر ، كتعدّي العلّة ، والتّعدّي في الحرمة ، وغير ذلك .
الحكم التّكليفيّ :
2 - سبق أنّ التّعدّي له إطلاقان ، ويطلق ويراد به : الاعتداء على الغير ، وهذا البحث محلّ تفصيله . ويطلق ويراد به : انتقال الحكم إلى محلّ آخر .
أمّا التّعدّي بالإطلاق الأوّل فهو بجميع أنواعه حرام . وللتّعدّي أحكامه الخاصّة : كالقصاص في النّفس ، والأطراف ، والتّعويض ، والحبس وما إلى ذلك ، كما سيتبيّن .
التّعدّي على الأموال :
التّعدّي بالغصب والإتلاف والسّرقة والاختلاس :
3 - من تعدّى على مال غيره فغصبه ، أو أتلف مالا غير مأذون في إتلافه شرعاً أو سرقه أو اختلسه - ترتّب عليه حكمان :
أحدهما أخرويّ . وهو : الإثم ، لقوله تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ } وقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحلّ مالُ امرئ مسلم إلا بطيب نفسه » .
والآخر دنيويّ : وهو الحدّ أو التّعزير مع وجوب الضّمان عليه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « على اليد ما أخذتْ حتّى تؤدّيه » ولما روى عبد اللّه بن السّائب عن أبيه عن جدّه رضي الله عنهم : « لا يأخذنَّ أحدكم متاع أخيه لاعباً أو جادّاً ، ومن أخذ عصا أخيه فليردّها » فيجب على المتعدّي ردّ العين المغصوبة إن بقيت بيده كما هي ، فإن تلفت في يده ، أو تعدّى عليها فأتلفها بدون غصب وجب عليه ردّ مثلها إن كانت مثليّة ، فإذا انقطع المثل أو لم تكن مثليّة وجب عليه قيمتها .
ومثل ما تقدّم : الباغي في غير زمن القتال ، حيث يضمن الأموال الّتي أتلفها أو أخذها . وللتّفصيل انظر مصطلح : ( غصب ، إتلاف ، ضمان ، سرقة ، اختلاس ، بغاة ) .
التّعدّي في العقود :
أوّلا : التّعدّي في الوديعة :
4 - الأصل في الوديعة : أنّها أمانة ، لقوله تعالى : { فَإنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضَاً فَلْيُؤَدِّ الّذي ائتُمِنَ أَمَانَتَه } ، وأنّه لا ضمان على المودع في الوديعة ، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : من أودع وديعة فلا ضمان عليه » ولأنّ المستودع يحفظها لمالكها فلو ضمنت لامتنع النّاس من الدّخول فيها ، وذلك مضرّ ، لما فيه من مسيس الحاجة إليها . ويضمن الوديع في حالين :
الأوّل : إذا فرّط في حفظ الوديعة ، لأنّ المفرّط متسبّب بترك ما وجب عليه من حفظها . الثّاني : أن يتعدّى الوديع على الوديعة ، لأنّ المتعدّي متلف لمال غيره فضمنه ، كما لو أتلفه من غير إيداع . ومن صور التّعدّي عليها : انتفاعه بها ، كأن يركب الدّابّة المودعة لغير نفعها ، أو يلبس الثّوب المودع فيبلى . ومن صور التّعدّي أيضاً : جحودها .
ثانياً : التّعدّي في الرّهن :
5 - يكون التّعدّي في الرّهن من الرّاهن أو من المرتهن .
أ - تعدّي الرّاهن :
6 - إذا تعدّى الرّاهن على الرّهن فأتلفه أو أتلف جزءا منه ، فإنّه يؤمر بدفع قيمة ما أتلفه ، لتكون رهنا إلى حلول الأجل . وأمّا تصرّفات الرّاهن الّتي تنقل ملك العين المرهونة كالبيع والهبة ، فإنّها موقوفة على إجازة المرتهن أو قضاء الدّين .
ب - تعدّي المرتهن :
7 - ذهب الحنفيّة : إلى أنّ الرّهن إن هلك بنفسه فإنّه يهلك مضمونا بالدّين ، وكذلك لو استهلكه المرتهن ، لأنّه لو أتلف مملوكا متقوّما بغير إذن مالكه ، فيضمن مثله أو قيمته ، كما لو أتلفه أجنبيّ وكان رهنا مكانه .
وفرّق المالكيّة بين ما يغاب عليه : أي ما يمكن إخفاؤه كبعض المنقولات ، وما لا يغاب عليه ، كالعقار والسّفينة والحيوان ، فأوجبوا الضّمان في الأوّل - دون الثّاني بشرطين : الأوّل : أن يكون بيده ، لا أن يكون بيد أمين .
والثّاني : أن لا تشهد بيّنة للمرتهن على التّلف أو الضّياع ، بغير سببه ، وغير تفريطه . وذهب الشّافعيّة والحنابلة : إلى أنّ الرّهن أمانة في يد المرتهن ، وأنّه لا ضمان عليه إن هلك بيده ، إلّا إذا تعدّى عليه ، أو فرّط في حفظه . وعلى هذا : فالفقهاء متّفقون على أنّ المرتهن ضامن للرّهن بتعدّيه عليه أو تفريطه في حفظه .
ثالثاً : التّعدّي في العاريّة :
8 - اتّفق الفقهاء : على أنّ العاريّة مضمونة بالتّعدّي والتّفريط من المستعير ، لحديث سمرة بن جندب رضي الله عنه : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » أمّا إذا هلكت بلا تعدّ ولا تفريط ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك .
فذهب الحنفيّة والمالكيّة : إلى أنّ العاريّة إن هلكت من غير تعدّ ولا تفريط منه فلا ضمان عليه ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ليس على المستعير غير المغلّ ضمان » ، ولأنّه قبضها بإذن مالكها فكانت أمانة كالوديعة ، وهو : قول الحسن والنّخعيّ ، والشّعبيّ ، وعمر بن عبد العزيز ، والثّوريّ . والأوزاعيّ ، وابن شبرمة .
وزاد المالكيّة في تضمين المستعير : ما إذا لم يظهر سبب هلاك العاريّة ، وكانت ممّا يغاب عليه ، فإن قامت بيّنة على تلفها أو ضياعها بدون سببه فلا ضمان عليه .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة : إلى أنّ العاريّة مضمونة مطلقا ، تعدّى المستعير ، أو لم يتعدّ ، لحديث سمرة : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » ، وعن صفوان : « أنّه صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدراعاً ، فقال : أغصباً يا محمّد ؟ قال : بل عاريّة مضمونة » . وهو : قول عطاء ، وإسحاق ، وأشهب من المالكيّة ، وروي عن ابن عبّاس ، وأبي هريرة رضي الله عنهم .
رابعاً : التّعدّي في الوكالة :
9 - اتّفق الفقهاء : على أنّ الوكيل أمين ، لا ضمان عليه فيما تلف في يده بغير تفريط ولا تعدّ ، لأنّه نائب عن المالك في اليد والتّصرّف ، فكان الهلاك في يده كالهلاك في يد المالك ، فأصبح كالمودع . ولأنّ الوكالة عقد إرفاق ومعونة ، والضّمان مناف لذلك ومنفّر عنه .
أمّا إذا تعدّى الوكيل فإنّه يكون ضامناً . وللتّفصيل انظر مصطلح ( وكالة ) .
خامساً : التّعدّي في الإجارة :
10 - سبق الكلام عن التّعدّي في الإجارة في مصطلح ( إجارة ) .
سادساً : التّعدّي في المضاربة :
11 - المضاربة : عقد على الشّركة في الرّبح بمال من أحد الجانبين ، وعمل من الجانب الآخر ، ولا مضاربة بدونهما . ثمّ المدفوع إلى المضارب أمانة في يده ، لأنّه يتصرّف فيه بأمر مالكه ، لا على وجه البدل والوثيقة ، وهو وكيل فيه ، فإذا ربح فهو شريك فيه ، وإذا فسدت انقلبت إجارة ، واستوجب العامل أجر مثله ، وإذا خالف كان غاصبا لوجود التّعدّي منه على مال غيره . وللتّفصيل انظر مصطلح : ( قراض ، شركة ) .
12 - هذا وقد سبق الكلام عن التّعدّي في الصّدقة ، والوصيّة ، والأكل ، والشّرب ، في مصطلح ( إسراف ) .
سابعاً : التّعدّي على النّفس وما دونها :
13 - التّعدّي على الأبدان بما يوجب قصاصا أو غيره هو : قتل الآدميّ بغير حقّ ، بأن لا يكون مرتدّا ، أو زانيا محصنا ، أو قاتلا لمكافئه ، أو حربيّا . ( ومثله قتل الصّائل ) . والتّعدّي على النّفس وما دونها : يكون بالمباشرة أو بالتّسبّب ، كمن حفر بئرا أو حفرة في غير ملكه فوقع فيه إنسان . أو بالسّبب ، كالإكراه على التّعدّي .
والتّعدّي بأنواعه يوجب الضّمان ، لأنّ كلّ واحد منها يلحق ضررا بالغير .
أمّا القتل من غير تعدّ - وهو القتل بحقّ - فلا ضمان فيه ، كرجم الزّاني .
والتّعدّي على النّفس يكون بالقتل عمدا أو شبه عمد - عند الجمهور - أو قتلا خطأ . ويجب بالقتل العمد : القود ، أو الدّية . ويجب في شبه العمد والخطأ : الدّية فقط ، على تفصيل ينظر في ( جناية ، قتل ، قصاص ) .
أمّا التّعدّي على ما دون النّفس ، فإن كان عمدا ففيه القصاص ، أو الدّية ، وإن كان خطأ ففيه الدّية . على خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : ( جناية ، جراح ، قصاص ) .
ومثل التّعدّي بإتلاف العضو : التّعدّي بإتلاف منفعة العضو ، ففيه الضّمان أيضاً .
14 - وقد سبق الكلام عن التّعدّي في العقوبات والقصاص والتّعزير في مصطلح :
( إسراف ) .
ثامناً : التّعدّي على العرض :
15 - التّعدّي على الأعراض حرام ، لأنّ الأعراض يجب أن تصان من الدّنس ، وقد أباح الإسلام دم من اعتدى على العرض ، لأنّ حفظ الأعراض من مقاصد الشّريعة ، قال عليه الصلاة والسلام : { من قتل دون أهله فهو شهيد } ، وجه الدّلالة في هذا الحديث الشّريف : أنّه لمّا جعله شهيدا دلّ أنّ له القتل والقتال . وأنّ الدّفاع عن العرض واجب ، لأنّه لا سبيل إلى إباحته . وسواء في ذلك بضع زوجته أو غيره . ومثل الدّفاع عن البضع : الدّفاع عن مقدّماته كالقبلة وغيرها . وللتّفصيل انظر مصطلح : ( صيال ) .
تاسعاً : تعدّي البغاة :
16 - ما يتلفه البغاة - إذا تحقّقت فيهم الشّروط - من نفس أو مال ، ينظر إن كان أثناء القتال فلا ضمان ، وإن كان في غير قتال ضمنوا النّفس والمال ، وهذا القدر هو ما عليه جمهور العلماء وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( بغاة ) .
عاشراً : التّعدّي في الحروب :
17 - يجب مراعاة الأحكام الشّرعيّة في الحروب بين المسلمين والكفّار ، فلا يجوز قتال من لم تبلغهم الدّعوة ، حتّى ندعوهم إلى الإسلام ، على خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح : ( دعوة ) . ولا يجوز في الحروب قتل من لم يحمل السّلاح من الصّبيان ، والمجانين ، والنّساء ، والشّيخ الكبير ، والرّاهب ، والزّمن ، والأعمى - بلا خلاف بين الفقهاء - إلا إذا اشتركوا في القتال ، أو كانوا ذا رأي وتدبير ومكايد في الحرب ، أو أعانوا الكفّار بوجه من الوجوه ، كما لا يجوز الاعتداء على الأسرى ، بل يجب الإحسان إليهم .
وللتّفصيل ينظر : ( جهاد ، جزية ، أسرى ) .
التّعدّي بالإطلاق الثّاني بمعنى الانتقال :
أ - تعدّي العلّة :
العلّة : هي المعنى الّذي شرع الحكم عنده تحصيلا للمصلحة .
18 - وهي : إمّا أن تكون متعدّية ، أو قاصرة وتسمّى ( ناقصة ) .
فالمتعدّية : هي الّتي يثبت وجودها في الأصل والفروع ، أي : أنّها تتعدّى من محلّ النّصّ إلى غيره ، كعلّة الإسكار .
والقاصرة : هي الّتي لا تتعدّى محلّ الأصل ، كالرَّمَلِ في الطّواف ، في الأشواط الثّلاثة الأولى ، لإظهار الجلد والقوّة للمشركين . وقد اتّفق الأصوليّون : على أنّ التّعليل بالعلّة المتعدّية صحيح ، لأنّ القياس لا يتمّ إلا بعلّة متعدّية إلى الفرع ، ليلحق بالأصل .
واختلفوا في التّعليل بالعلل القاصرة . ومحلّ تفصيل ذلك الملحق الأصوليّ .
ب - التّعدّي بالسّراية :
19 - ومثاله : إذا أوقد شخص ناراً في أرضه أو في ملكه ، أو في موات حجره ، أو فيما يستحقّ الانتفاع به ، فطارت شرارة إلى دار جاره فأحرقتها ، فإن كان الإيقاد بطريقة من شأنها ألّا تنتقل النّار إلى ملك الغير - فإنّه لا يضمن ، وإلا فإنّه يضمن لتعدّيه ، سواء كان إيقاد النّار ، والرّيح عاصف ، أم باستعمال موادّ تنتشر معها النّار أو غير ذلك .
وللتّفصيل انظر ( ضمان ، إحراق ) .
آثار التّعدّي :
20 - سبق أنّ التّعدّي يكون على المال ، وعلى النّفس وما دونها ، وعلى العرض ، وللتّعدّي بأنواعه آثار نجملها فيما يلي :
- 1 - الضّمان : وذلك فيما يخصّ الأموال بالغصب والإتلاف ، وما سوى ذلك ، أو فيما يخصّ القتل بأنواعه ، إذا صولح في عمده على مال ، أو عفا أحد الأولياء عن القصاص - ومثل ذلك الجناية على ما دون النّفس . وللتّفصيل ينظر كلّ في بابه .
- 2 - القصاص : ويكون في العمد من قتل أو قطع عضو أو إتلافه ممّا فيه القصاص ، وينظر في مصطلح : ( قتل ، قصاص ) .
- 3 - الحدّ : وهو أثر من آثار التّعدّي في السّرقة ، والزّنى ، والقذف ، وما إلى ذلك ، وينظر كلّ في مصطلحه .
- 4 - التّعزير : وهو حقّ الإمام يعاقب به الجناة ويكون التّعزير : بالحبس أو بالجلد أو بما يراه الحاكم مناسبا . انظر مصطلح : ( تعزير ) .
- 5 - المنع من الميراث : وذلك كقتل الوارث مورّثه ، على خلاف بين الفقهاء في العمد وغيره . انظر مصطلح : ( إرث ) .
تعديل *
التّعريف :
1 - للتّعديل في اللّغة معنيان :
أ - التّسوية والتّقويم ، يقال : عدّل الحكم والشّيء تعديلاً : أقامه، والميزان : سوّاه فاعتدل. ب - التّزكية ، يقال : عدّل الشّاهد أو الرّاوي تعديلاً : نسبه إلى العدالة ووصفه بها . ومعناه في الاصطلاح الشّرعيّ ، لا يخرج عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
التّجريح :
2 - التّجريح في اللّغة : مصدر جرّحه ، يقال : جرّحت الشّاهد : إذا أظهرت فيه ما تردّ به شهادته ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك .
الحكم التّكليفيّ :
أ - تعديل الشّهود :
3 - ذهب الشّافعيّة ، والحنابلة ، والمالكيّة وأبو يوسف ، ومحمّد إلى أنّه : يجب على القاضي أن يطلب تعديل الشّهود إذا لم يعلم عدالتهم ، سواء أطعن الخصم أم لم يطعن ، ولا يجوز له قبول شهادتهم بغير تعديل .
وقال أبو حنيفة : يقبل الحاكم شهادة الشّاهد المسلم الظّاهر العدالة ، ولا يسأل عن حال الشّهود حتّى يطعن الخصم ، لقول النّبيّ عليه الصلاة والسلام : « المسلمون عدول بعضهم على بعض ، إلا محدوداً في فرية » .
واستثني من هذا شهود الحدود ، والقصاص فيشترط عنده الاستقصاء ، لأنّ الحدود تدرأ بالشّبهات . وفي تعديل الشّهود ورواة الحديث تفصيلات وخلاف تنظر في ( تزكية ) .
ب - تعديل الأركان في الصّلاة :
4 - اتّفق الفقهاء : على وجوب تعديل الأركان في الصّلاة ، بمعنى الطّمأنينة فيها ، من ركوع ، وسجود وجلوس بين السّجدتين واعتدال من الرّكوع ، إلا أنّ الحنفيّة قالوا بالوجوب دون الفرضيّة ، على اصطلاحهم - بمعنى : أنّه يأثم بترك الواجب عمداً ، وتجب إعادة الصّلاة ، لرفع الإثم مع صحّتها - دون الفرض . وقال الجمهور : إنّ التّعديل في المذكورات واجب ، بمعنى : أنّه فرض وركن ، تبطل الصّلاة بتركه ، عمداً أو سهواً .
ودليل المسألة حديث المسيء صلاته المعروف .
ج - قسمة التّعديل :
5 - وهي : أن تقسم العين المشتركة باعتبار القيمة ، لا بعدد الأجزاء ، كأرض مثلا تختلف قيمة أجزائها باختلافها في قوّة الإنبات ، أو القرب من الماء ، أو بسقي بعضها بالنّهر ، وبعضها بالنّاضح أو بغير ذلك . فيكون ثلثها مثلا يساوي بالقيمة ثلثيها ، فتقسم قسمة التّعديل . فيجعل الثّلث سهما والثّلثان سهماً ، إلحاقاً للتّساوي بالقيمة بالتّساوي في الأجزاء . وينظر التّفصيل في مصطلح : ( قسمة ) .
د - التّعديل في دم جزاء الصّيد في المناسك :
6 - ذهب جمهور الفقهاء : إلى أنّ جزاء الصّيد المثليّ على التّخيير والتّعديل ، فيجوز فيه العدول عن المثل إلى قيمة المثل ، أو قيمة الصّيد ، على اختلاف بينهم في ذلك ، يرجع إلى موطنه . واستدلّوا بقوله تعالى : { يَا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وأَنْتُمْ حُرُمٌ } ، أمّا غير المثليّ من الصّيد فيتصدّق بقيمته طعاماً ، أو يصوم عن كلّ مدّ يوماً .
أمّا باقي الدّماء الواجبة بترك واجب ، أو ارتكاب منهيّ ، ففي جواز التّعديل فيها خلاف بين الفقهاء ، وتفصيله في ( إحرام ) .
تعذيب *
التّعريف :
1 - التّعذيب : مصدر عذّب ، يقال : عذّبه تعذيبا : إذا منعه ، وفطمه عن الأمر .
قال ابن فارس : أصل العذاب الضّرب ، ثمّ استعير ذلك في كلّ شدّة ، يقال منه : عذّب تعذيباً والعذاب : اسم بمعنى النّكال والعقوبة . ومنه قوله تعالى : { يُضَاعَفُ لَها العَذَابُ ضِعْفَيْنِ }.
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّعزير :
2 - التّعزير : تفعيل من العزر ، بمعنى : المنع والإجبار على الأمر ، وأصله النّصرة والتّعظيم .
وفي اصطلاح الفقهاء : عبارة عن التّأديب دون الحدّ . وكلّ ما ليس فيه حدّ مقدّر شرعاً فموجبه التّعزير . والتّعذيب أعمّ من التّعزير من وجه ، لأنّ التّعزير لا يكون إلا بحقّ شرعيّ ، بخلاف التّعذيب . فقد يكون ظلماً وعدواناً . والتّعزير أعمّ من حيث ما يكون به التّعزير .
ب - التّأديب :
3 - التّأديب مصدر أدّب ، مضعّفا ، وثلاثيّه : أدب ، من باب ضرب ، يقال : أدّبته أدباً ، أي علّمته رياضة النّفس ، ومحاسن الأخلاق . ويقال : أدّبته تأديباً مبالغة وتكثيراً : أي عاقبته على إساءته ، لأنّ التّأديب سبب يدعو إلى حقيقة الأدب .
والنّسبة بين التّعذيب والتّأديب : عموم وخصوص من وجه ، يجتمعان في التّعزير ، لأنّ فيه تعذيبا وتأديبا . ويفترق التّعذيب عن التّأديب في التّعذيب الممنوع شرعاً ، فإنّه تعذيب ، وليس تأديبا ، ويفترق التّأديب عن التّعذّب في التّأديب بالكلام والنّصح من غير ضرب ، فإنّه تأديب ولا يطلق عليه تعذيب .
ج - التّمثيل :
4 - التّمثيل : مصدر مثّل . وأصله الثّلاثيّ : مثل ، يقال : مثلّث بالقتيل : إذا جدعته ، وظهرت آثار فعلك عليه تنكيلاً والتّشديد مبالغة ، والاسم المثلة - وزان غرفة - والمثلة - بفتح الميم وضمّ الثّاء : العقوبة . والنّسبة بين التّعذيب والتّمثيل ، عموم وخصوص مطلق . فالتّعذيب أعمّ من التّمثيل ، فكلّ تمثيل تعذيب ، وليس كلّ تعذيب تمثيلاً . ولا فرق في ذلك بين الحيّ والميّت ، لأنّ الآثار تدلّ : على أنّ الميّت يتأذّى بما يتأذّى به الحيّ .
الحكم التّكليفيّ :
5 - يختلف حكم التّعذيب باختلاف الأحوال والأسباب . والدّواعي للتّعذيب بعضها يرجع إلى قصد المعذّب ، سواء أكان بالطّريق المباشر ، أم غير المباشر .
التّعذيب في الأصل ممنوع شرعا ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه يعذّب يوم القيامة الّذين يعذّبون النّاس في الدّنيا » .
وجمهور الفقهاء على أنّ الّذي يتولّى القصاص فيما دون النّفس : هو الإمام ، وليس للأولياء ذلك ، لأنّه لا يؤمن منهم التّجاوز ، أو التّعذيب .
وأمّا في النّفس ، فالحنابلة اشترطوا حضور الإمام ، أو نائبه ، للاحتراز عن التّعذيب .
أنواع التّعذيب :
6 - ينقسم التّعذيب إلى قسمين : الأوّل : تعذيب الإنسان . الثّاني : تعذيب الحيوان .
وكلّ منهما ينقسم : إلى مشروع ، وغير مشروع ، فالأقسام أربعة وهي :
- 1- التّعذيب المشروع للإنسان .
- 2 - التّعذيب غير المشروع للإنسان .
- 3 - التّعذيب المشروع للحيوان .
- 4 - التّعذيب غير المشروع للحيوان .
7 - أمّا الأوّل : فهو التّعذيب الّذي أمر به الشّارع على وجه الفرضيّة ، كالحدود ، والقصاص ، والتّعزيرات بأنواعها . أو على وجه النّدب : كتأديب الأولاد . أو على وجه الإباحة ، كالكيّ في التّداوي ، إذا تعيّن علاجا فإنّه مباح .
وإذا لم تكن الحاجة لأجل التّداوي فإنّه حرام ، لأنّه تعذيب بالنّار، ولا يعذّب بالنّار إلا خالقها.
ومن المشروع رمي الأعداء بالنّار ولو حصل تعذيبهم بها ، وذلك عند عدم إمكان أخذهم بغير التّحريق ، لأنّ الصّحابة والتّابعين فعلوا ذلك في غزواتهم ، وأمّا تعذيبهم بالنّار بعد القدرة عليهم فلا يجوز ، لما روى حمزة الأسلميّ رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمّره على سريّة وقال له : إن وجدتم فلاناً فاحرقوه بالنّار فولّيت فناداني ، فرجعت إليه فقال : إن وجدتم فلاناً فاقتلوه ، ولا تحرقوه ، فإنّه لا يعذّب بالنّار إلا ربّ النّار » وتفصيل ذلك في مصطلح ( إحراق 2 /125 ) ومن أنواع التّعذيب المشروع : ضرب الأب أو الأمّ ولدهما تأديباً ، وكذلك الوصيّ ، أو المعلّم بإذن الأب تعليماً .
وذكر في القنية : له إكراه طفله على تعلّم القرآن ، والأدب ، والعلم ، لفرضيّته على الوالدين ، وله ضرب اليتيم فيما يضرب ولده ، والأمّ كالأب في التّعليم ، بخلاف التّأديب ، فإنّه لو مات الصّبيّ بضرب الأمّ تأديبا فعليها الضّمان .
وممّا يذكر : أنّ ضرب التّأديب مقيّد بوصف السّلامة ، ومحلّه في الضّرب المعتاد ، كمّاً وكيفاً ومحلاً ، فلو ضربه على الوجه أو على المذاكير يجب الضّمان بلا خلاف ، ولو سوطاً واحدا ، لأنّه إتلاف . ومن التّعذيب المشروع للإنسان ثقب أذن الطّفل من البنات ، لأنّ الصّحابة كانوا يفعلونه في زمن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من غير نكير .
تعذيب المتّهم :
8 - قسّم الفقهاء المتّهم بسرقة ونحوها إلى ثلاثة أقسام :
إمّا أن يكون المتّهم معروفاً بالصّلاح ، فلا تجوز عقوبته اتّفاقاً .
وإمّا أن يكون المتّهم مجهول الحال لا يعرف ببرّ ولا فجور ، فهذا يحبس حتّى ينكشف حاله ، وهذا عند جمهور الفقهاء . والمنصوص عليه عند أكثر الأئمّة : أنّه يحبسه القاضي والوالي ، لما روى أبو داود في سننه ، وأحمد ، من حديث بهز بن حكيم . عن أبيه ، عن جدّه : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حَبَس في تهمة » .
وإمّا أن يكون المتّهم معروفاً بالفجور ، كالسّرقة ، وقطع الطّريق ، والقتل ، ونحو ذلك ، فيجوز حبسه وضربه ، كما « أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم الزّبير رضي الله عنه ، بتعذيب المتّهم الّذي غيّب ماله حتّى أقرّ به » .
وقال ابن تيميّة : ما علمت أحدا من أئمّة المسلمين يقول : إنّ المدّعى عليه في جميع هذه الدّعاوى يحلف ، ويرسل بلا حبس ، ولا غيره . وقال البجيرميّ : والظّاهر أنّ الضّرب حرام في الشّقّين ، أي سواء كان ضرب ليقرّ ، أو ليصدق، خلافا لما توهّم حلّه إذا ضرب ليصدق. وقال ابن تيميّة : واختلفوا فيه : هل الّذي يضربه الوالي دون القاضي ، أو كلاهما ؟ أو لا يسوّغ ضربه ، على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنّه يضربه الوالي والقاضي ، وهذا قول طائفة من أصحاب مالك وأحمد ، منهم أشهب بن عبد العزيز ، فإنّه قال : يمتحن بالحبس والضّرب ، ويضرب بالسّوط مجرّداً . القول الثّاني : أنّه يضربه الوالي دون القاضي ، وهذا قول بعض أصحاب الشّافعيّ ، وأحمد. القول الثّالث : أنّه يحبس ولا يضرب ، وهذا قول أصبغ ، ثمّ قالت طائفة ، منهم عمر بن عبد العزيز ، ومطرّف ، وابن الماجشون : إنّه يحبس حتّى يموت .
9 - أمّا النّوع الثّاني : وهو التّعذيب غير المشروع للإنسان ، فمنه تعذيب الأسرى ، فقد ذكر الفقهاء عدم جواز تعذيبهم ، لأنّ الإسلام يدعو إلى الرّفق بالأسرى ، وإطعامهم ، قال اللّه تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه مِسْكِينَاً وَيَتِيْمَاً وَأَسِيرَاً }
وفي الحديث الشّريف « لا تجمعوا عليهم حرّ الشّمس ، وحرّ السّلاح ، قيلوهم حتّى يبردوا » وهذا الكلام في أسارى بني قريظة ، حينما كانوا في الشّمس .
وإذا كان هناك خوف الفرار ، فيصحّ حبس الأسير من غير تعذيب ، وإذا رجي أن يدلّ على أسرار العدوّ جاز تهديده وتعذيبه بالقدر الكافي ، لتحقيق ذلك ، ودليل ذلك : ما روي عن الرّسول صلى الله عليه وسلم : « أنّه أمر الزّبير بن العوّام بتعذيب من كتم خبر المال ، الّذي كان صلى الله عليه وسلم قد عاهدهم عليه ، وقال له : أين كنز حييّ بن أخطب ؟ فقال : يا محمّد ، أنفذته النّفقات والحروب ، فقال : المال كثير والمسألة أقرب ، وقال للزّبير : دونك هذا . فمسّه الزّبير بشيء من العذاب ، فدلّهم على المال » .
لكن إذا كانوا يعذّبون أسرى المسلمين يجوز معاملتهم بالمثل ، لقوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِه } وقوله أيضاً { وَالحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَليكُم فَاعْتَدُوا عَلَيه بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيكُم } قال الباجيّ : لا يمثّل بالأسير ، إلا أن يكونوا مثّلوا بالمسلمين . وقال ابن حبيب : قتل الأسير بضرب عنقه ، لا يمثّل به ، ولا يعبث عليه . قيل لمالك : أيضرب وسطه ؟ فقال : قال اللّه سبحانه { فَضَرْبَ الرِّقَاب } لا خير في العبث .
10 - وأمّا النّوع الثّالث : وهو التّعذيب المشروع للحيوان - فقد ذكروا له أمثلة ، منها :
أ - تعذيب ماشية الزّكاة والجزية بالوسم - فقد ذهب الفقهاء إلى جوازه ، لما روي من فعل الصّحابة في ماشية الزّكاة والجزية . وقال الحنفيّة : لا بأس بكيّ البهائم للعلامة ، لأنّهم كانوا يفعلون ذلك في زمن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من غير إنكار .
ب - إلقاء السّمك الحيّ في النّار ليصير مشويّاً فإنّ المالكيّة ذهبوا : إلى جوازه ، وذهب أحمد بن حنبل : إلى أنّ هذا العمل مكروه ، ومع هذا فقد رأى جواز أكله ، وهذا بخلاف شيّ الجراد حيّاً ، فإنّه يجيزه من غير كراهة ، لما أثر أنّ الصّحابة فعلوا ذلك ، من غير نكير . ج - ومن ذلك التّعذيب الجائز : ضرب الحيوان بقدر ما يحصل به التّعليم والتّرويض ، ويخاصم الضّارب فيما زاد على القدر الّذي يحتاج إليه ، كما في البحر الرّائق .
11 - وأمّا النّوع الرّابع : وهو التّعذيب " غير المشروع " للحيوان :
فمنه : تعذيب الحيوان بالمنع من الأكل والشّرب ، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: دخلت امرأة النّار في هرّة ربطتها ، فلم تطعمها ، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض » .
ومنه : اتّخاذ ذي روح غرضا ، أي هدفا للرّمي .
ومنه : قطع رأس الحيوان المذبوح وسلخه قبل أن يبرد ، ويسكن عن الاضطراب .
مواطن البحث :
12 - ذكر الفقهاء التّعذيب في مواضع شتّى سبق ذكر عدد منها خلال البحث .
ومنها أيضاً : الجنايات ، والتّعزيرات ، والتّأديب ، والتّذكية ، والأسر ، والسّياسة الشّرعيّة ، والجهاد ( السّير ) .
تعريض *
التّعريف :
1 - التّعريض : لغة ضدّ التّصريح ، يقال : عرّض لفلان وبفلان : إذا قال قولاً عامّاً ، وهو يعني فلانا ، ومنه : المعاريض في الكلام ، كقولهم : إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب. وهو في الاصطلاح : ما يفهم به السّامع مراد المتكلّم من غير تصريح .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الكناية
2 - الكناية : وهي ذكر اللازم ، وإرادة الملزوم . والفرق بين الكناية والتّعريض : أنّ التّعريض هو تضمين الكلام دلالة ليس فيها ذكر ، كقول المحتاج : جئتك لأسلّم عليك ، فيقصد من اللّفظ السّلام ، ومن السّياق طلب الحاجة .
ب - التّورية :
3 - التّورية : وهي أن تطلق لفظاً ظاهراً قريباً في معنى ، تريد به معنى آخر بعيداً يتناوله ذلك اللّفظ ، لكنّه خلاف ظاهره .
والفرق بينها وبين التّعريض : أنّ فائدة التّورية تراد من اللّفظ ، فهي أخصّ من التّعريض ، الّذي قد يفهم المراد منه من السّياق والقرائن ، أو اللّفظ ، فهو أعمّ .
الحكم التّكليفيّ :
يختلف حكم التّعريض بحسب موضوعه كما يلي :
أوّلا : التّعريض في الخطبة :
4 - لا خلاف بين الفقهاء في حرمة التّعريض بالخطبة لمنكوحة الغير ، والمعتدّة من طلاق رجعيّ ، لأنّها في حكم المنكوحة ، كما اتّفق الفقهاء على حرمة التّعريض لمخطوبة من صرّح بإجابته وعلمت خطبته ، ولم يأذن الخاطب ولم يعرّض عنها .
لخبر : « لا يخطب الرّجل على خطبة أخيه ، حتّى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب » ر : مصطلح : ( خِطبة ) .
ثانياً : التّعريض بخطبة المعتدّة غير الرّجعيّة :
5 - ذهب جمهور الفقهاء : إلى جواز التّعريض بالخطبة للمعتدّة عن وفاة ، ولم نقف على خلاف بينهم فيها ، إلا قولاً للشّافعيّة ، مؤدّاه : إن كانت عدّة الوفاة بالحمل لم يعرّض لها ، خوفا من تكلّف إلقاء الجنين ، وهو قول ضعيف عندهم .
واستدلّ الجمهور بقوله تعالى : { وَلا جُنَاحَ عَلَيكُمْ فيما عَرَّضْتُمْ بِه مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أو أَكْنَنْتُمْ في أَنْفُسِكُمْ } . لأنّها وردت في عدّة الوفاة ، كما قال جمهور المفسّرين .
واختلفوا في جواز التّعريض للمعتدّة من طلاق بائن أو فسخ فذهب المالكيّة والشّافعيّة في الأظهر ، والحنابلة في قول : إلى أنّه يحلّ التّعريض لبائن معتدّة بالأقراء أو الأشهر ، وذلك لعموم الآية ، ولانقطاع سلطة الزّوج عليها ، ولا فرق في ذلك بين أن تكون بائنا بينونة صغرى أو كبرى ، أو بفسخ ، أو فرقة بلعان ، أو رضاع ، في الأظهر عندهم . وهو مذهب مالك ، وأحمد . ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة ، وأحد قولي أحمد : لا يحلّ التّعريض للبائن بطلاق رجعيّ ، لأنّ لصاحب العدّة المنتهية أن ينكحها بنكاح جديد ، فأشبهت الرّجعيّة . وذهب الحنفيّة : إلى أنّه لا يحلّ التّعريض لمعتدّة من طلاق بنوعيه ، لإفضائه إلى عداوة المطلّق . ونقل ابن عابدين عن الفتح " الإجماع " بين فقهاء الحنفيّة على حرمة التّعريض للمعتدّة من طلاق مطلقا ، ويجوز التّعريض عندهم للمعتدّة من نكاح فاسد ، ووطء شبهة . وجواز التّعريض بالخطبة للمعتدّة مرتبط بجواز خروج المعتدّة ، فمن يجوز لها الخروج من بيت العدّة ، يجوز التّعريض بالخطبة لها ، ومن لا يجوز لها الخروج لا يجوز التّعريض لها عند الحنفيّة .
ألفاظ التّعريض بالخطبة :
6 - التّعريض : هو كلّ لفظ يحتمل الخطبة وغيرها ، ولكنّ الفقهاء يذكرون ألفاظاً للتّمثيل له : كأنت جميلة ، ومن يجد مثلك ؟ وأنّ اللّه ساق لك خيراً ، ربّ راغب فيك ، ونحو ذلك .
ثالثاً : التّعريض بالقذف :
7 - اختلف الفقهاء في وجوب الحدّ بالتّعريض بالقذف ، فذهب مالك : إلى أنّه إذا عرّض بالقذف غير أب يجب عليه الحدّ - إن فهم القذف بتعريضه بالقرائن ، كخصام بينهم ، ولا فرق في ذلك بين النّظم والنّثر ، أمّا الأب إذا عرّض لولده فإنّه لا يحدّ لبعده عن التّهمة . وهو أحد قولين للإمام أحمد ، لأنّ عمر رضي الله عنه استشار بعض الصّحابة في رجل قال لآخر : ما أنا بزان ولا أمّي بزانية ؟ فقالوا : إنّه قد مدح أباه وأمّه ، فقال عمر : قد عرّض لصاحبه ، فجلده الحدّ .
وعند الحنفيّة : أنّ التّعريض بالقذف ، قذف . كقوله : ما أنا بزان ، وأمّي ليست بزانية ، ولكنّه لا يحدّ ، لأنّ الحدّ يسقط للشّبهة ، ويعاقب بالتّعزير ، لأنّ المعنى : بل أنت زان . والتّعريض بالقذف عند الشّافعيّة ، كقوله : يا ابن الحلال ، وأمّا أنا فلست بزان ، وأمّي ليست بزانية ، فهذا كلّه ليس بقذف وإن نواه ، لأنّ النّيّة إنّما تؤثّر ، إذا احتمل اللّفظ المنويّ ، ولا دلالة هنا في اللّفظ ولا احتمال ، وما يفهم منه مستنده قرائن الأحوال . هذا هو الأصحّ . وقيل : هو كناية ، أي عن القذف ، لحصول الفهم والإيذاء . فإن أراد النّسبة إلى الزّنى فقذف ، وإلا فلا . وسواء في ذلك حالة الغضب وغيرها . وهو أحد قولي الإمام أحمد .
رابعاً : التّعريض للمسلم بقتل طالبه من الكفّار :
8 - يجوز التّعريض للمسلم لقتل من جاء يطلبه ليردّه إلى دار الكفر ، لأنّ عمر رضي الله عنه قال لأبي جندل رضي الله عنه حين ردّ لأبيه : اصبر أبا جندل فإنّما هم المشركون ، وإنّما دم أحدهم دم كلب يعرّض له بقتل أبيه .
خامساً - التّعريض للمقرّ بحدّ خالص بالرّجوع :
9 - ذهب الشّافعيّة في الصّحيح عندهم : إلى أنّه يجوز للقاضي أن يعرّض له بالرّجوع ، كأن يقول له في السّرقة : لعلّك أخذت من غير حرز ، وفي الزّنى : لعلّك فاخذت أو لمست ، وفي الشّرب : لعلّك لم تعلم أنّ ما شربت مسكر لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « قال لمن أقرّ عنده بالسّرقة ما إخالك سرقت » فأعاد عليه مرّتين أو ثلاثاً ، وقال لماعز : « لعلّك قبّلت ، أو غمزت ، أو نظرت » . وفي قول عندهم : لا يعرّض له بالرّجوع ، كما لا يصرّح. وفي قول : يعرّض له ، إن لم يعلم أنّ له الرّجوع ، فإن علم فلا يعرّض له . وذهب الحنفيّة ، والإمام أحمد : إلى أنّ التّعريض مندوب ، لحديث ماعز وتفصيله في الحدود .
مواطن البحث :
10 - يذكر الفقهاء التّعريض في الأبواب الآتية : في كتاب النّكاح ، والعدّة ، وفي الحدود : في القذف ، والرّجوع عن الإقرار . وفي الهدنة : وفي الأيمان في القضاء فقط .
تعريف *
التّعريف :
1 - التّعريف : مصدر عرّف . ومن معانيه : الإعلام والتّوضيح ، " ويقابله التّجهيل " وإنشاد الضّالّة ، والتّطييب ، وهو مأخوذ من العرف أي : الرّائحة ، كما قال ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { وَيُدْخِلْهُم الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي طيّبها لهم .
والتّعريف : الوقوف بعرفات . ويراد به أيضاً : ما يصنعه بعض النّاس في بلادهم يوم عرفة ، من التّجمّع والدّعاء ، تشبّهاً بالحجّاج . ويراد به أيضاً : ذهاب الحاجّ بالهدي إلى عرفات ، ليعرّف النّاس أنّه هدي .
وأمّا في الاصطلاح ، فللتّعريف عدّة إطلاقات تبعاً للعلوم المختلفة :
أ - فعند الأصوليّين :
2 - هو تحديد المفهوم الكلّيّ ، بذكر خصائصه ومميّزاته . والتّعريف الكامل : هو ما يساوي المعرّف تمّام المساواة ، بحيث يكون جامعاً مانعاً . والحدّ والتّعريف عند الأصوليّين بمعنى واحد ، وهو : الجامع المانع ، سواء أكان بالذّاتيّات ، أم بالعرضيّات .
ب - عند الفقهاء :
3 - لم نقف للفقهاء على تعريف خاصّ للتّعريف ، والّذي يستفاد من الفروع الفقهيّة : أنّ استعمالهم هذا اللّفظ لا يخرج عن المعاني اللّغويّة ، لكنّهم عند الإطلاق يريدون المعنى الاصطلاحيّ لدى الأصوليّين .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإعلان :
4 - الإعلان خلاف الكتمان ، والتّعريف أعمّ ، من حيث إنّه قد يكون سرّاً ، وقد يكون علانية .
ب - الكتمان أو الإخفاء :
5 - الكتمان : هو السّكوت عن المعنى ، أو إخفاء الشّيء وستره ، وقوله تعالى : { إنَّ الَّذينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى } أي يسكتون عن ذكره ، فالتّعريف مقابل الإخفاء والكتمان .
حكمه التّكليفيّ :
يختلف حكم التّعريف باختلاف المعرّف :
أوّلاً : التّعريف في الأمصار :
6 - هو قصد الرّجل مسجد بلده يوم عرفة ، للدّعاء والذّكر ، فهذا هو التّعريف في الأمصار الّذي اختلف العلماء فيه ، ففعله ابن عبّاس ، وعمرو بن حريث رضي الله عنهم ، من الصّحابة ، وطائفة من البصريّين ، والمدنيّين ، ورخّص فيه أحمد ، وإن كان مع ذلك لا يستحبّه . هذا هو المشهور عنه . وكرهه طائفة من الكوفيّين ، والمدنيّين ، كإبراهيم النّخعيّ ، وأبي حنيفة ، ومالك ، وغيرهم .
ومن كرهه قال : هو من البدع ، فيندرج في العموم ، لفظاً ومعنى .
ومن رخّص فيه قال : فعله ابن عبّاس رضي الله عنهما بالبصرة ، حين كان خليفة لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، ولم ينكر عليه ، وما يفعل في عهد الخلفاء الرّاشدين من غير إنكار لا يكون بدعة . لكن ما يزاد على ذلك : من رفع الأصوات الرّفع الشّديد في المساجد بالدّعاء ، وأنواع من الخطب ، والأشعار الباطلة ، مكروه في هذا اليوم وغيره .
قال المرّوذيّ : سمعت أبا عبد اللّه يقول : ينبغي أن يسرّ دعاءه ، لقوله : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا } قال : هذا في الدّعاء . قال : وسمعت أبا عبد اللّه يقول : وكان يكره أن يرفعوا أصواتهم بالدّعاء .
ثانياً - تعريف اللُّقَطة :
7 - ذهب الأئمّة الثّلاثة ، وهو الأصحّ عند إمام الحرمين والغزاليّ من الشّافعيّة : إلى أنّه يجب تعريف اللّقطة ، سواء أراد تملّكها ، أم حفظها لصاحبها .
وفيه وجه آخر عند الشّافعيّة ، وبه قطع الأكثرون منهم ، وهو : أنّه لا يجب التّعريف فيما إذا قصد الحفظ أبدا ، وقالوا : إنّ التّعريف إنّما يجب لتحقيق شرط التّملّك .
وبيان كيفيّة التّعريف ومدّته ومكانه يرجع إليه في مصطلح ( لقطة ) .
ثالثاً - التّعريف في الدّعوى :
8 - لا خلاف بين الفقهاء : في أنّ تعريف الشّيء المدّعي والمدّعى عليه - بمعنى كونهما معلومين - شرط لسماع الدّعوى ، فلا بدّ من ذكر ما يعيّنهما ويعرّفهما ، لأنّ فائدة الدّعوى الإلزام بإقامة الحجّة ، والإلزام في المجهول غير متحقّق .
وفي كلّ ذلك خلاف وتفصيل ، يذكر في موطنه في مصطلح ( دعوى ) .
تعزير *
التّعريف :
1 - التّعزير لغة : مصدر عزّر من العزر ، وهو الرّدّ والمنع ، ويقال : عزّر أخاه بمعنى : نصره ، لأنّه منع عدوّه من أن يؤذيه ، ويقال : عزّرته بمعنى : وقّرته ، وأيضاً : أدّبته ، فهو من أسماء الأضداد . وسمّيت العقوبة تعزيراً ، لأنّ من شأنها أن تدفع الجاني وتردّه عن ارتكاب الجرائم ، أو العودة إليها .
وفي الاصطلاح : هو عقوبة غير مقدّرة شرعاً ، تجب حقّاً للّه ، أو لآدميّ ، في كلّ معصية ليس فيها حدّ ولا كفّارة غالباً .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الحدّ :
2 - الحدّ لغة : المنع .
واصطلاحاً : عقوبة مقدّرة شرعاً وجبت حقّا للّه تعالى كحدّ الزّنى ، أو للعبد كحدّ القذف .
ب - القصاص :
3 - القصاص لغة : تتبّع الأثر . واصطلاحاً : هو أن يفعل بالجاني مثل ما فعل .
ج - الكفّارة :
4 - الكفّارة لغة : من التّكفير ، وهو المحو، والكفّارة جزاء مقدّر من الشّرع ، لمحو الذّنب. 5 - ويختلف التّعزير عن الحدّ والقصاص والكفّارة من وجوه منها :
أ - في الحدود والقصاص ، إذا ثبتت الجريمة الموجبة لهما لدى القاضي شرعاً ، فإنّ عليه الحكم بالحدّ أو القصاص على حسب الأحوال ، وليس له اختيار في العقوبة ، بل هو يطبّق العقوبة المنصوص عليها شرعا بدون زيادة أو نقص ، ولا يحكم بالقصاص إذا عفي عنه ، وله هنا التّعزير . ومردّ ذلك : أنّ القصاص حقّ للأفراد ، بخلاف الحدّ .
وفي التّعزير يختار القاضي من العقوبات الشّرعيّة ما يناسب الحال ، فيجب على الّذين لهم سلطة التّعزير الاجتهاد في اختيار الأصلح ، لاختلاف ذلك باختلاف مراتب النّاس ، وباختلاف المعاصي .
ب - إقامة الحدّ الواجب لحقّ اللّه لا عفو فيه ولا شفاعة ولا إسقاط ، إذا وصل الأمر للحاكم ، وثبت بالبيّنة ، وكذلك القصاص إذا لم يعف صاحب الحقّ فيه . والتّعزير إذا كان من حقّ اللّه تعالى تجب إقامته ، ويجوز فيه العفو والشّفاعة إن كان في ذلك مصلحة ، أو انزجر الجاني بدونه ، وإذا كان من حقّ الفرد فله تركه العفو وبغيره ، وهو يتوقّف على الدّعوى ، وإذا طالب صاحبه لا يكون لوليّ الأمر عفو ولا شفاعة ولا إسقاط .
ج - إثبات الحدود والقصاص عند الجمهور لا يثبت إلا بالبيّنة أو الاعتراف، بشروط خاصّة. وعلى سبيل المثال : لا يؤخذ فيه بأقوال المجنيّ عليه كشاهد ، ولا بالشّهادة السّماعيّة ، ولا باليمين ، ولا بشهادة النّساء . بخلاف التّعزير فيثبت بذلك ، وبغيره .
د - لا خلاف بين الفقهاء أنّ من حدّه الإمام فمات من ذلك فدمه هدر ، لأنّ الإمام مأمور بإقامة الحدّ ، وفعل المأمور لا يتقيّد بشرط السّلامة .
أمّا التّعزير فقد اختلفوا فيه ، فعند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة : الحكم كذلك في التّعزير . أمّا عند الشّافعيّة : فالتّعزير موجب للضّمان ، وقد استدلّوا على ذلك بفعل عمر رضي الله عنه ،" إذ أرهب امرأة ففزعت فزعاً ، فدفعت الفزعة في رحمها ، فتحرّك ولدها ، فخرجت ، فأخذها المخاض ، فألقت غلاما جنينا ، فأتي عمر رضي الله عنه بذلك ، فأرسل إلى المهاجرين فقصّ عليهم أمرها ، فقال : ما ترون ؟ فقالوا : ما نرى عليك شيئاً يا أمير المؤمنين ، إنّما أنت معلّم ومؤدّب ، وفي القوم عليّ رضي الله عنه ، وعليّ ساكت . قال : فما تقول : أنت يا أبا الحسن قال : أقول : إن كانوا قاربوك في الهوى فقد أثموا ، وإن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطئوا ، وأرى عليك الدّية يا أمير المؤمنين ، قال : صدقت ، اذهب فاقسمها على قومك ". أمّا من يتحمّل الدّية في النّهاية ، فقيل : إنّما تكون على عاقلة وليّ الأمر . وقيل : إنّها تكون في بيت المال .
هـ - إنّ الحدود تدرأ بالشّبهات ، بخلاف التّعزير ، فإنّه يثبت بالشّبهة .
و - يجوز الرّجوع في الحدود إن ثبتت بالإقرار ، أمّا التّعزير فلا يؤثّر فيه الرّجوع .
ز - إنّ الحدّ لا يجب على الصّغير ، ويجوز تعزيره .
ح - إنّ الحدّ قد يسقط بالتّقادم عند بعض الفقهاء ، بخلاف التّعزير .
الحكم التّكليفيّ :
6 - جمهور الفقهاء : على أنّ الأصل في التّعزير أنّه مشروع في كلّ معصية لا حدّ فيها ، ولا كفّارة . ويختلف حكمه باختلاف حاله وحال فاعله .
حكمة التّشريع :
7 - التّعزير مشروع لردع الجاني وزجره ، وإصلاحه وتهذيبه .
قال الزّيلعيّ : إنّ الغرض من التّعزير الزّجر . وسمّى التّعزيرات : بالزّواجر غير المقدّرة . والزّجر معناه : منع الجاني من معاودة الجريمة ، ومنع غيره من ارتكابها ، ومن ترك الواجبات ، كترك الصّلاة والمماطلة في أداء حقوق النّاس .
أمّا الإصلاح والتّهذيب فهما من مقاصد التّعزير ، وقد بيّن ذلك الزّيلعيّ بقوله : التّعزير للتّأديب . ومثله تصريح الماورديّ وابن فرحون بأنّ : التّعزير تأديب استصلاح وزجر . وقال الفقهاء : إنّ الحبس غير المحدّد المدّة حدّه التّوبة وصلاح حال الجاني .
وقالوا : إنّ التّعزير شرع للتّطهير ، لأنّ ذلك سبيل لإصلاح الجاني .
وقالوا : الزّواجر غير المقدّرة محتاج إليها ، لدفع الفساد كالحدود .
وليس التّعزير للتّعذيب ، أو إهدار الآدميّة ، أو الإتلاف ، حيث لا يكون ذلك واجباً . وفي ذلك يقول الزّيلعيّ : التّعزير للتّأديب ، ولا يجوز الإتلاف ، وفعله مقيّد بشرط السّلامة . ويقول ابن فرحون : التّعزير إنّما يجوز منه ما أمنت عاقبته غالباً ، وإلا لم يجز .
ويقول البهوتيّ : لا يجوز قطع شيء ممّن وجب عليه التّعزير ، ولا جرحه ، لأنّ الشّرع لم يرد بشيء من ذلك ، عن أحد يقتدى به ، ولأنّ الواجب أدب ، والأدب لا يكون بالإتلاف . وكلّ ضرب يؤدّي إلى الإتلاف ممنوع ، سواء أكان هذا الاحتمال ناشئاً من آلة الضّرب ، أم من حالة الجاني نفسه ، أم من موضع الضّرب ، وتفريعاً على ذلك : منع الفقهاء الضّرب في المواضع الّتي قد يؤدّي فيها إلى الإتلاف .
ولذلك فالرّاجح : أنّ الضّرب على الوجه والفرج والبطن والصّدر ممنوع .
وعلى الأساس المتقدّم منع جمهور الفقهاء في التّعزير : الصّفع ، وحلق اللّحية ، وتسويد الوجه ، وإن كان البعض قال به في شهادة الزّور ، قال الأسروشنيّ : لا يباح التّعزير بالصّفع ، لأنّه من أعلى ما يكون من الاستخفاف . وقال : تسويد الوجه في شهادة الزّور ممنوع بالإجماع ، أي بين الحنفيّة .
قال البهوتيّ : يحرم التّعزير بحلق لحيته لما فيه من المثلة ولا تسويد وجهه .
والتّعزير بالقتل عند من يراه يشترط في آلته : أن تكون حادّة من شأنها إحداث القتل بسهولة ، بحيث لا يتخلّف عنها القتل ، وألّا تكون كالّة ، فذلك من المثلة ، والرّسول صلى الله عليه وسلم يقول : « إنّ اللّه عزّ وجلّ كتب الإحسان على كلّ شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة ، وليحدّ أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته » وفي ذلك أمر بالإحسان في القتل ، وإراحة ما أحلّ اللّه ذبحه من الأنعام ، فالإحسان في الآدميّ أولى .
المعاصي الّتي شرع فيها التّعزير :
8 - المعصية : فعل ما حرم ، وترك ما فرض ، يستوي في ذلك كون العقاب دنيويّاً أو أخرويّاً . أجمع الفقهاء على : أنّ ترك الواجب أو فعل المحرّم معصية فيها التّعزير ، إذا لم يكن هناك حدّ مقدّر .
ومثال ترك الواجب عندهم : منع الزّكاة ، وترك قضاء الدّين عند القدرة على ذلك ، وعدم أداء الأمانة ، وعدم ردّ المغصوب ، وكتم البائع ما يجب عليه بيانه ، كأن يدلّس في المبيع عيباً خفيّاً ونحوه ، والشّاهد والمفتي والحاكم يعزّرون على ترك الواجب .
ومثال فعل المحرّم : سرقة ما لا قطع فيه ، لعدم توافر شروط النّصاب أو الحرز مثلاً ، وتقبيل الأجنبيّة ، والخلوة بها ، والغشّ في الأسواق ، والعمل بالرّبا ، وشهادة الزّور .
وقد يكون الفعل مباحاً في ذاته لكنّه يؤدّي لمفسدة ، وحكمه عند كثير من الفقهاء - وعلى الخصوص المالكيّة - أنّه يصير حراماً ، بناء على قاعدة سدّ الذّرائع ، وعلى ذلك فارتكاب مثل هذا الفعل فيه التّعزير ، ما دام ليست له عقوبة مقدّرة .
وما ذكر هو عن الواجب والمحرّم ، أمّا عن المندوب والمكروه - فعند بعض الأصوليّين : المندوب مأمور به ، ومطلوب فعله ، والمكروه منهيّ عنه ، ومطلوب تركه .
ويميّز المندوب عن الواجب أنّ الذّمّ يسقط عن تارك المندوب ، لكنّه يلحق تارك الواجب .
ويميّز المكروه عن المحرّم : أنّ الذّمّ يسقط عن مرتكب المكروه ، ولكنّه يثبت على مرتكب المحرّم ، وبناء على ذلك ليس تارك المندوب أو فاعل المكروه عاصياً ، لأنّ العصيان اسم ذمّ ، والذّمّ أسقط عنهما ، ولكنّهم يعتبرون من يترك المندوب أو يأتي المكروه مخالفاً ، وغير ممتثل . وعند آخرين : المندوب غير داخل تحت الأمر ، والمكروه غير داخل تحت النّهي ، فيكون المندوب مرغّباً في فعله ، والمكروه مرغّباً عنه .
وعندهم لا يعتبر تارك المندوب وفاعل المكروه عاصياً .
وقد اختلف في تعزير تارك المندوب ، وفاعل المكروه ، ففريق من الفقهاء على عدم جوازه ، لعدم التّكليف ، ولا تعزير بغير تكليف . وفريق أجازه ، استناداً على فعل عمر رضي الله عنه ، فقد عزّر رجلا أضجع شاة لذبحها ، وأخذ يحدّ شفرته وهي على هذا الوضع ، وهذا الفعل ليس إلا مكروهاً ، ويأخذ هذا الحكم من يترك المندوب .
وقال القليوبيّ : قد يشرع التّعزير ولا معصية ، كتأديب طفل ، وكافر ، وكمن يكتسب بآلة لهو لا معصية فيها .
اجتماع التّعزير مع الحدّ أو القصاص أو الكفّارة :
9 - قد يجتمع التّعزير مع الحدّ ، فالحنفيّة لا يرون تغريب الزّاني غير المحصن من حدّ الزّنى . فعندهم أنّ حدّه مائة جلدة لا غير ، ولكنّهم يجيزون تغريبه بعد الجلد ، وذلك على وجه التّعزير . ويجوز تعزير شارب الخمر بالقول ، بعد إقامة حدّ الشّرب عليه ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بتبكيت شارب الخمر بعد الضّرب » . والتّبكيت تعزير بالقول ، وممّن قال بذلك : الحنفيّة ، والمالكيّة .
وقال المالكيّة : إنّ الجارح عمدا يقتصّ منه ويؤدّب .
ومن ثمّ فالتّعزير قد اجتمع مع القصاص في الاعتداء على ما دون النّفس عمداً .
والشّافعيّ يجيز اجتماع التّعزير مع القصاص فيما دون النّفس من الجنايات على البدن ، وهو أيضاً يقول بجواز اجتماع التّعزير مع الحدّ ، مثل تعليق يد السّارق في عنقه بعد قطعها ساعة من نهار ، زيادة في النّكال . وقال أحمد بذلك ، لما روى فضالة بن عبيد « أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق ، ثمّ أمر بها فعلّقت في عنقه » . وأنّ عليّاً فعل ذلك ، ومثل : الزّيادة عن الأربعين في حدّ الشّرب ، لأنّ حدّ الشّرب عند الشّافعيّ أربعون .
وقد يجتمع التّعزير مع الكفّارة . فمن المعاصي ما فيه الكفّارة مع الأدب ، كالجماع في حرام ، وفي نهار رمضان ، ووطء المظاهر منها قبل الكفّارة إذا كان الفعل متعمّداً في جميعها . وقيل بالتّعزير كذلك في حلف اليمين الغموس عند الشّافعيّ ، خلافاً للحنفيّة ، فإنّه لا كفّارة في يمين الغموس ، وفيها التّعزير . وعند مالك في القتل الّذي لا قود فيه ، كالقتل الّذي عفي عن القصاص فيه ، تجب على القاتل الدّية ، وتستحبّ له الكفّارة ، ويضرب مائة ، ويحبس سنة ، وهذا تعزير قد اجتمع مع الكفّارة .
وقال البعض في القتل شبه العمد : بوجوب التّعزير مع الكفّارة ، لأنّ هذه حقّ اللّه تعالى ، بمنزلة الكفّارة في الخطأ ، وليست لأجل الفعل ، بل هي بدل النّفس الّتي فاتت بالجناية . ونفس الفعل المحرّم - وهو جناية القتل شبه العمد - لا كفّارة فيه . وقد استدلّوا على ذلك : بأنّه إذا جنى شخص على آخر دون أن يتلف شيئاً فإنّه يستحقّ التّعزير ، ولا كفّارة في هذه الجناية . بخلاف ما لو أتلف بلا جناية محرّمة ، فإنّ الكفّارة تجب بلا تعزير .
وإنّ الكفّارة في شبه العمد بمنزلة الكفّارة على المجامع في الصّيام والإحرام .
التّعزير حقّ للّه وحقّ للعبد :
10 - ينقسم التّعزير إلى ما هو حقّ للّه ، وما هو حقّ للعبد . والمراد بالأوّل غالباً : ما تعلّق به نفع العامّة ، وما يندفع به ضرر عامّ عن النّاس ، من غير اختصاص بأحد . والتّعزير هنا من حقّ اللّه ، لأنّ إخلاء البلاد من الفساد واجب مشروع ، وفيه دفع للضّرر عن الأمّة ، وتحقيق نفع عامّ . ويراد بالثّاني : ما تعلّقت به مصلحة خاصّة لأحد الأفراد . وقد يكون التّعزير خالص حقّ اللّه ، كتعزير تارك الصّلاة ، والمفطر عمداً في رمضان بغير عذر ، ومن يحضر مجلس الشّراب .
وقد يكون لحقّ اللّه وللفرد ، مع غلبة حقّ اللّه ، كنحو تقبيل زوجة آخر وعناقها .
وقد تكون الغلبة لحقّ الفرد ، كما في السّبّ والشّتم والمواثبة .
وقد قيل بحالات يكون فيها التّعزير لحقّ الفرد وحده ، كالصّبيّ يشتم رجلاً لأنّه غير مكلّف بحقوق اللّه تعالى فيبقى تعزيره متمحّضاً لحقّ المشتوم .
وتظهر أهمّيّة التّفرقة بين نوعي التّعزير في أمور :
منها : أنّ التّعزير الواجب حقّا للفرد أو الغالب فيه حقّه - وهو يتوقّف على الدّعوى - إذا طلبه صاحب الحقّ فيه لزمت إجابته ، ولا يجوز للقاضي فيه الإسقاط ، ولا يجوز فيه العفو أو الشّفاعة من وليّ الأمر .
أمّا التّعزير الّذي يجب حقّاً للّه فإنّ العفو فيه من وليّ الأمر جائز ، وكذلك الشّفاعة إن كانت في ذلك مصلحة ، أو حصل انزجار الجاني بدونه . وقد روي عن الرّسول صلى الله عليه وسلم قوله : « اشفعوا تؤجروا ويقضي اللّه على لسان نبيّه ما يشاء » .
وقد حصل الخلاف في التّعزير هل هو واجب على وليّ الأمر أم لا فمالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد قالوا بوجوب التّعزير فيما شرع فيه .
وقال الشّافعيّ : إنّه ليس بواجب ، استناداً إلى « أنّ رجلاً قال للرّسول صلى الله عليه وسلم : إنّي لقيت امرأة فأصبت منها دون أن أطأها . فقال صلى الله عليه وسلم أصلّيت معنا ؟ قال نعم : فتلا عليه آية : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفَاً مِنَ اللَّيلِ إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } » . وإلى قوله صلى الله عليه وسلم في الأنصار . « اقبلوا من محسنهم ، وتجاوزوا عن مسيئهم » وإلى « أنّ رجلاً قال للرّسول صلى الله عليه وسلم في حُكْمٍ حَكَمَ به للزّبير لم يرقه : إن كان ابن عمّتك ، فغضب . ولم ينقل أنّه عزّره » .
وقال آخرون ، ومنهم بعض الحنابلة : إنّ ما كان من التّعزير منصوصاً عليه كوطء جارية مشتركة يجب امتثال الأمر فيه .
أمّا ما لم يرد فيه نصّ فإنّه يجب إذا كانت فيه مصلحة ، أو كان لا ينزجر الجاني إلا به ، فإنّه يجب كالحدّ ، أمّا إذا علم أنّ الجاني ينزجر بدون التّعزير فإنّه لا يجب . ويجوز للإمام فيه العفو إن كانت فيه مصلحة ، وكان من حقّ اللّه تعالى ، خلاف ما هو من حقّ الأفراد .
التّعزير عقوبة مفوّضة :
المراد بالتّفوّض وأحكامه :
11 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو الرّاجح عن الحنفيّة : أنّ التّعزير عقوبة مفوّضة إلى رأي الحاكم ، وهذا التّفويض في التّعزير من أهمّ أوجه الخلاف بينه وبين الحدّ الّذي هو عقوبة مقدّرة من الشّارع . وعلى الحاكم في تقدير عقوبة التّعزير مراعاة حال الجريمة والمجرم . أمّا مراعاة حال الجريمة فللفقهاء فيه نصوص كثيرة ، منه قول الأستروشنيّ : ينبغي أن ينظر القاضي إلى سببه ، فإن كان من جنس ما يجب به الحدّ ولم يجب لمانع وعارض ، يبلغ التّعزير أقصى غاياته .
وإن كان من جنس ما لا يجب الحدّ لا يبلغ أقصى غاياته ، ولكنّه مفوّض إلى رأي الإمام .
وأمّا مراعاة حال المجرم فيقول الزّيلعيّ : إنّه في تقدير التّعزير ينظر إلى أحوال الجانين ، فإنّ من النّاس من ينزجر باليسير . ومنهم من لا ينزجر إلا بالكثير . يقول ابن عابدين : إنّ التّعزير يختلف باختلاف الأشخاص ، فلا معنى لتقديره مع حصول المقصود بدونه ، فيكون مفوّضا إلى رأي القاضي ، يقيمه بقدر ما يرى المصلحة فيه .
ويقول السّنديّ : إنّ أدنى التّعزير على ما يجتهد الإمام في الجاني ، بقدر ما يعلم أنّه ينزجر به ، لأنّ المقصود من التّعزير الزّجر ، والنّاس تختلف أحوالهم في الانزجار ، فمنهم من يحصل له الزّجر بأقلّ الضّربات ، ويتغيّر بذلك . ومنهم من لا يحصل له الزّجر بالكثير من الضّرب . ونقل عن أبي يوسف : إنّ التّعزير يختلف على قدر احتمال المضروب .
وقد منع بعض الحنفيّة تفويض التّعزير ، وقالوا بعدم تفويض ذلك للقاضي ، لاختلاف حال القضاة ، وهذا هو الّذي قال به الطّرسوسيّ في شرح منظومة الكنز . وقد أيّدوا هذا الرّأي بأنّ المراد من تفويض التّعزير إلى رأي القاضي ليس معناه التّفويض لرأيه مطلقا ، بل المقصود القاضي المجتهد . وقد ذكر السّنديّ : أنّ عدم التّفويض هو الرّأي الضّعيف عند الحنفيّة . وقال أبو بكر الطّرسوسيّ في أخبار الخلفاء المتقدّمين : إنّهم كانوا يراعون قدر الجاني وقدر الجناية ، فمن الجانين من يضرب ، ومنهم من يحبس ، ومنهم من يقام واقفا على قدميه في المحافل ، ومنهم من ينتزع عمامته ، ومنهم من يحلّ حزامه .
ونصّ المالكيّة : على أنّ التّعزير يختلف من حيث المقادير ، والأجناس ، والصّفات ، باختلاف الجرائم ، من حيث كبرها ، وصغرها ، وبحسب حال المجرم نفسه ، وبحسب حال القائل والمقول فيه والقول ، وهو موكول إلى اجتهاد الإمام .
قال القرافيّ : إنّ التّعزير يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة ، وتطبيقا لذلك قال ابن فرحون : ربّ تعزير في بلد يكون إكراما في بلد آخر ، كقطع الطّيلسان ليس تعزيراً في الشّام بل إكرام ، وكشف الرّأس عند الأندلسيّين ليس هواناً مع أنّه في مصر والعراق هوان . وقال : إنّه يلاحظ في ذلك أيضا نفس الشّخص ، فإنّ في الشّام مثلاً من كانت عادته الطّيلسان وألفه - من المالكيّة وغيرهم - يعتبر قطعه تعزيرا لهم . فما ذكر ظاهر منه : أنّ الأمر لم يقتصر على اختلاف التّعزير باختلاف الزّمان والمكان والأشخاص ، مع كون الفعل محلاً لذلك ، بل إنّ هذا الاختلاف قد يجعل الفعل نفسه غير معاقب عليه ، بل قد يكون مكرمة .
الأنواع الجائزة في عقوبة التّعزير :
12 - يجوز في مجال التّعزير : إيقاع عقوبات مختلفة ، يختار منها الحاكم في كلّ حالة ما يراه مناسبا محقّقا لأغراض التّعزير . وهذه العقوبات قد تنصبّ على البدن ، وقد تكون مقيّدة للحرّيّة ، وقد تصيب المال ، وقد تكون غير ذلك . وفيما يلي بيان هذا الإجمال . العقوبات البدنيّة :
أ - التّعزير بالقتل :
13 - الأصل : أنّه لا يبلغ بالتّعزير القتل ، وذلك لقول اللّه تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتيْ حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يحلّ دمُ امرئ مسلم إلّا بإحدى ثلاث : الثّيّبُ الزّاني ، والنّفسُ بالنّفس ، والتّاركُ لدينه المفارق للجماعة » .
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى جواز القتل تعزيرا في جرائم معيّنة بشروط مخصوصة ، من ذلك : قتل الجاسوس المسلم إذا تجسّس على المسلمين ، وذهب إلى جواز تعزيره بالقتل مالك وبعض أصحاب أحمد ، ومنعه أبو حنيفة ، والشّافعيّ ، وأبو يعلى من الحنابلة .
وتوقّف فيه أحمد . ومن ذلك : قتل الدّاعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسّنّة كالجهميّة . ذهب إلى ذلك كثير من أصحاب مالك ، وطائفة من أصحاب أحمد .
وأجاز أبو حنيفة التّعزير بالقتل فيما تكرّر من الجرائم ، إذا كان جنسه يوجب القتل ، كما يقتل من تكرّر منه اللّواط أو القتل بالمثقّل . وقال ابن تيميّة : وقد يستدلّ على أنّ المفسد إذا لم ينقطع شرّه إلا بقتله فإنّه يقتل ، لما رواه مسلم في صحيحه عن عرفجة الأشجعيّ رضي الله عنه قال : « سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشقّ عصاكم ، أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه »
ب - التّعزير بالجلد :
14 - الجلد في التّعزير مشروع ، ودليله قول الرّسول صلى الله عليه وسلم : « لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط ، إلا في حدّ من حدود اللّه تعالى » .
وفي الحريسة الّتي تؤخذ من مراتعها غرم ثمنها مرّتين ، وضرب نكال . وكذلك الحكم في سرقة التّمر يؤخذ من أكمامه ، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال « سئل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن التّمر المعلّق ، فقال : من أصاب منه بفيه من ذي حاجة غير متّخذ خبنة فلا شيء عليه ، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة ، ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجنّ فعليه القطع » رواه النّسائيّ وأبو داود . وفي رواية قال « سمعت رجلاً من مزينة يسأل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن الحريسة الّتي توجد في مراتعها ؟ قال : فيها ثمنها مرّتين ، وضرب نكال . وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجنّ . قال : يا رسول اللّه ، فالثّمار وما أخذ منها في أكمامها ؟ قال : من أخذ بفمه ولم يتّخذ خبنة فليس عليه شيء ، ومن احتمل فعليه ثمنه مرّتين ، وضرب نكال ، وما أخذ من أجرانه ففيه القطع ، إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجنّ » رواه أحمد والنّسائيّ . ولابن ماجه معناه ، وزاد النّسائيّ في آخره : « وما لم يبلغ ثمن المجنّ ففيه غرامة مثليه ، وجلدات نكال » . وقد سار على هذه العقوبة في التّعزير الخلفاء الرّاشدون ومن بعدهم من الحكّام ، ولم ينكر عليهم أحد .
مقدار الجلد في التّعزير :
15 - ممّا لا خلاف فيه عند الحنفيّة : أنّ التّعزير لا يبلغ الحدّ ، لحديث : « من بلغ حدّاً في غير حدّ فهو من المعتدين » واختلف الحنفيّة في أقصى الجلد في التّعزير :
فيرى أبو حنيفة : أنّه لا يزيد عن تسعة وثلاثين سوطا بالقذف والشّرب ، أخذا عن الشّعبيّ ، إذ صرف كلمة الحدّ في الحديث إلى حدّ الأرقّاء وهو أربعون .
وأبو يوسف قال بذلك أوّلا ، ثمّ عدل عنه إلى اعتبار أقلّ حدود الأحرار وهو ثمانون جلدة .
وجه ما ذهب إليه أبو حنيفة : أنّ الحديث ذكر حدّا منكّرا ، وأربعون جلدة حدّ كامل في الأرقّاء عند الحنفيّة في القذف والشّرب ، فينصرف إلى الأقلّ .
وأبو يوسف اعتمد على أنّ الأصل في الإنسان الحرّيّة ، وحدّ العبد نصف حدّ الحرّ ، فليس حدّاً كاملاً ، ومطلق الاسم ينصرف إلى الكامل في كلّ باب . وفي عدد الجلدات روايتان عن أبي يوسف : إحداهما : أنّ التّعزير يصل إلى تسعة وسبعين سوطا ، وهي رواية هشام عنه ، وقد أخذ بذلك زفر ، وهو قول عبد الرّحمن بن أبي ليلى ، وهو القياس ، لأنّه ليس حدّاً فيكون من أفراد المسكوت عن النّهي عنه في حديث : « من بلغ حدّاً في غير حدّ . . . »
والثّانية : وهي ظاهر الرّواية عن أبي يوسف : أنّ التّعزير لا يزيد على خمسة وسبعين سوطاً ، وروي ذلك أثرا عن عمر رضي الله عنه ، كما روي عن عليّ رضي الله عنه أيضاً ، وأنّهما قالا : في التّعزير خمسة وسبعون . وأنّ أبا يوسف أخذ بقولهما في نقصان الخمسة ، واعتبر عملهما أدنى الحدود .
وعند المالكيّة قال المازريّ : إنّ تحديد العقوبة لا سبيل إليه عند أحد من أهل المذهب ، وقال : إنّ مذهب مالك يجيز في العقوبات فوق الحدّ .
وحكي عن أشهب : أنّ المشهور أنّه قد يزاد على الحدّ . وعلى ذلك فالرّاجح لدى المالكيّة : أنّ الإمام له أن يزيد التّعزير عن الحدّ ، مع مراعاة المصلحة الّتي لا يشوبها الهوى .
وممّا استدلّ به المالكيّة : فعل عمر في معن بن زياد لمّا زوّر كتابا على عمر وأخذ به من صاحب بيت المال مالا ، إذ جلده مائة ، ثمّ مائة أخرى ، ثمّ ثالثة ، ولم يخالفه أحد من الصّحابة فكان إجماعاً ، كما أنّه ضرب صبيغ بن عسل أكثر من الحدّ . وروى أحمد بإسناده أنّ عليّا رضي الله عنه أتي بالنّجاشيّ قد شرب خمرا في رمضان فجلده ثمانين ( الحدّ ) وعشرين سوطا ، لفطره في رمضان .
كما روي : أنّ أبا الأسود استخلفه ابن عبّاس رضي الله عنهما على قضاء البصرة فأتي بسارق قد جمع المتاع في البيت ولم يخرجه ، فضربه خمسة وعشرين سوطا وخلّى سبيله . وقالوا في حديث أبي بردة رضي الله عنه : « لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حدّ من حدود اللّه » إنّه مقصور على زمن الرّسول صلى الله عليه وسلم ، لأنّه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر ، وتأوّلوه على أنّ المراد بقوله : في حدّ ، أي في حقّ من حقوق اللّه تعالى ، وإن لم يكن من المعاصي المقدّر حدودها لأنّ المعاصي كلّها من حدود اللّه تعالى .
وعند الشّافعيّة : أنّ التّعزير إن كان بالجلد فإنّه يجب أن ينقص عن أقلّ حدود من يقع عليه التّعزير ، فينقص في العبد عن عشرين ، وفي الحرّ عن أربعين ، وهو حدّ الخمر عندهم ، وقيل بوجوب النّقص فيهما عن عشرين ، لحديث : « من بلغ حدّا في غير حدّ فهو من المعتدين » ويستوي في النّقص عمّا ذكر جميع الجرائم على الأصحّ عندهم . وقيل بقياس كلّ جريمة بما يليق بها ممّا فيه أو في جنسه حدّ ، فينقص على سبيل المثال تعزير مقدّمة الزّنى عن حدّه ، وإن زاد على حدّ القذف ، وتعزير السّبّ عن حدّ القذف ، وإن زاد على حدّ الشّرب . وقيل في مذهب الشّافعيّة : لا يزيد في أكثر الجلد في التّعزير عن عشر جلدات أخذا بحديث أبي بردة : « لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدّ من حدود اللّه » لما اشتهر من قول الشّافعيّ : إذا صحّ الحديث فهو مذهبي ، وقد صحّ هذا الحديث .
وعند الحنابلة : اختلفت الرّواية عن أحمد في قدر جلد التّعزير ، فروي أنّه لا يبلغ الحدّ . وقد ذكر الخرقيّ هذه الرّواية ، والمقصود بمقتضاها : أنّه لا يبلغ بالتّعزير أدنى حدّ مشروع ، فلا يبلغ بالتّعزير أربعين ، لأنّ الأربعين حدّ العبد في الخمر والقذف ، ولا يجاوز تسعة وثلاثين سوطاً في الحرّ ، ولا تسعة عشر في العبد على القول بأنّ حدّ الخمر أربعون سوطاً. ونصّ مذهب أحمد : أن لا يزاد على عشر جلدات في التّعزير ، للأثر : « لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلّا في حدّ . . . » إلا ما ورد من الآثار مخصّصا لهذا الحديث ، كوطء جارية امرأته بإذنها ، ووطء جارية مشتركة المرويّ عن عمر .
قال ابن قدامة : ويحتمل كلام أحمد والخرقيّ : أنّه لا يبلغ التّعزير في كلّ جريمة حدّا مشروعاً في جنسها ، ويجوز أن يزيد على حدّ غير جنسها ، وقد روي عن أحمد ما يدلّ على هذا . واستدلّ بما روي عن النّعمان بن بشير رضي الله عنهما فيمن وطئ جارية امرأته بإذنها : أنّه يجلد مائة جلدة ، وهذا تعزير ، لأنّ عقاب هذه الجريمة للمحصن الرّجم ، وبما روي عن سعيد بن المسيّب عن عمر رضي الله عنه في الرّجل الّذي وطئ أمة مشتركة بينه وآخر : أنّه يجلد الحدّ إلّا سوطاً واحداً ، وقد احتجّ بهذا الحديث أحمد .
وقد زاد ابن تيميّة وابن القيّم رأياً رابعاً : هو أنّ التّعزير يكون بحسب المصلحة ، وعلى قدر الجريمة ، فيجتهد فيه وليّ الأمر على ألا يبلغ التّعزير فيما فيه حدّ مقدّر ذلك المقدّر ، فالتّعزير على سرقة ما دون النّصاب مثلا لا يبلغ به القطع ، وقالا : إنّ هذا هو أعدل الأقوال ، وإنّ السّنّة دلّت عليه ، كما مرّ في ضرب الّذي أحلّت له امرأته جاريتها مائة لا الحدّ وهو الرّجم ، كما أنّ عليّا وعمر رضي الله عنهما ضربا رجلا وامرأة وجدا في لحاف واحد مائة مائة ، وحكم عمر رضي الله عنه فيمن قلّد خاتم بيت المال بضربه ثلاثمائة على مرّات ، وضرب صبيغ بن عسل للبدعة ضربا كثيرا لم يعدّه .
وخلاصة مذهب الحنابلة : أنّ فيه من يقول بأنّ التّعزير لا يزيد على عشر جلدات ، ومن يقول : بأنّه لا يزيد على أقلّ الحدود ، ومن يقول : بأنّه لا يبلغ في جريمة قدر الحدّ فيها ، وهناك من يقول : بأنّه لا يتقيّد بشيء من ذلك ، وأنّه يكون بحسب المصلحة ، وعلى قدر الجريمة ، فيما ليس فيه حدّ مقدّر . والرّاجح عندهم التّحديد سواء أكان بعشر جلدات أم بأقلّ من أدنى الحدود أم بأقلّ من الحدّ المقرّر لجنس الجريمة .
وما ذكر هو عن الحدّ الأعلى ، أمّا عن الحدّ الأدنى فقد قال القدوريّ : إنّه ثلاث جلدات ، لأنّ هذا العدد أقلّ ما يقع به الزّجر . ولكنّ غالبيّة الحنفيّة على أنّ الأمر في أقلّ جلد التّعزير مرجعه الحاكم ، بقدر ما يعلم أنّه يكفي للزّجر .
وقال في الخلاصة : إنّ اختيار التّعزير إلى القاضي من واحد إلى تسعة وثلاثين ، وقريب من ذلك تصريح ابن قدامة ، فقد قال : إنّ أقلّ التّعزير ليس مقدّراً فيرجع فيه إلى اجتهاد الإمام أو الحاكم فيما يراه وما تقتضيه حال الشّخص .
ج - التّعزير بالحبس :
16 - الحبس مشروع بالكتاب والسّنّة والإجماع أمّا الكتاب فقوله تعالى : { وَالَّلائِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيهنَّ أَرْبَعةً مِنْكُمْ فإنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ في البُيوتِ حتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوتُ أو يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } وقوله : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه وَيَسْعَونَ في الأَرْضِ فَسَادَاً أنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أو تُقَطَّعَ أَيدِيهمْ وَأرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أو يُنْفَوا من الأرْضِ } . فقد قال الزّيلعيّ : إنّ المقصود بالنّفي هنا الحبس .
وأمّا السّنّة فقد ثبت : « أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم حبس بالمدينة أناساً في تهمة دم ، وحكم بالضّرب والسّجن ، وأنّه قال فيمن أمسك رجلاً لآخر حتّى قتله : اقتلوا القاتل ، واصبروا الصّابر » . وفسّرت عبارة « اصبروا الصّابر » بحبسه حتّى الموت ، لأنّه حبس المقتول للموت بإمساكه إيّاه .
وأمّا الإجماع فقد أجمع الصّحابة رضي الله عنهم ، ومن بعدهم ، على المعاقبة بالحبس . واتّفق الفقهاء على أنّ الحبس يصلح عقوبة في التّعزير . وممّا جاء في هذا المقام : أنّ عمر رضي الله عنه سجن الحطيئة على الهجو ، وسجن صبيغا على سؤاله عن الذّاريات ، والمرسلات ، والنّازعات ، وشبهه ، وأنّ عثمان رضي الله عنه سجن ضابئ بن الحارث ، وكان من لصوص بني تميم وفتّاكهم ، وأنّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه سجن بالكوفة . وأنّ عبد اللّه بن الزّبير رضي الله عنه سجن بمكّة ، وسجن في " دارم " محمّد بن الحنفيّة لمّا امتنع عن بيعته .
مدّة الحبس في التّعزير :
17 - الأصل أنّ تقدير مدّة الحبس يرجع إلى الحاكم ، مع مراعاة ظروف الشّخص ، والجريمة والزّمان والمكان . وقد أشار الزّيلعيّ إلى ذلك بقوله : ليس للحبس مدّة مقدّرة . وقال الماورديّ : إنّ الحبس تعزيرا يختلف باختلاف المجرم ، وباختلاف الجريمة ، فمن الجانين من يحبس يوما ، ومنهم من يحبس أكثر ، إلى غاية غير مقدّرة .
لكنّ الشّربينيّ من الشّافعيّة ، ذكر أنّ شرط الحبس : النّقص عن سنة ، كما نصّ عليه الشّافعيّ في الأمّ ، وصرّح به معظم الأصحاب . وأطلق الحنابلة في تقدير المدّة .
د - التّعزير بالنّفي " التّغريب " :
مشروعيّة التّعزير بالنّفي :
18 - التّعزير بالنّفي مشروع بلا خلاف بين الفقهاء ، ودليل مشروعيّته : الكتاب والسّنّة والإجماع . أمّا الكتاب فقوله تعالى : { أَوْ يُنْفَوْا مِن الأرْضِ } ومن ثمّ فهو عقوبة مشروعة في الحدود . وأمّا السّنّة : « فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بالنّفي تعزيرا في المخنّثين ، إذ نفاهم من المدينة » .
وأمّا الإجماع : فإنّ عمر رضي الله عنه نفى نصر بن حجّاج لافتتان النّساء به ، ولم ينكر عليه أحد من الصّحابة .
ويجوز كون التّغريب لأكثر من مسافة القصر ، لأنّ عمر غرّب من المدينة نصر بن حجّاج إلى البصرة ، ونفى عثمان رضي الله عنه إلى مصر، ونفى عليّ رضي الله عنه إلى البصرة. ويشترط أن يكون التّغريب لبلد معيّن ، فلا يرسل المحكوم عليه به إرسالاً ، وليس له أن يختار غير البلد المعيّن لإبعاده ، ولا يجوز أن يكون تغريب الجاني لبلده .
ويرى الشّافعيّ : أن لا تقلّ المسافة بين بلد الجاني والبلد المغرّب إليه عن مسيرة يوم وليلة ويرى ابن أبي ليلى : أن ينفى الجاني إلى بلد غير البلد الّذي ارتكبت فيه الجريمة بحيث تكون المسافة بين البلد الّذي ينفى إليه وبلد الجريمة ، دون مسيرة سفر .
مدّة التّغريب :
19 - لا يعتبر أبو حنيفة التّغريب في الزّنى حدّاً ، بل يعتبره من التّعزير ، ويترتّب على ذلك : أنّه يجيز أن يزيد من حيث المدّة عن سنة .
ويجوز عند مالك أن يزيد التّغريب في التّعزير عن سنة ، مع أنّ التّغريب عنده في الزّنى حدّ ، لأنّه يقول بنسخ حديث : « من بلغ حدّاً في غير حدّ فهو من المعتدين » .
والرّاجح عند المالكيّة : أنّ للإمام أن يزيد في التّعزير عن الحدّ ، مع مراعاة المصلحة غير المشوبة بالهوى .
وعلى ذلك بعض فقهاء الشّافعيّة ، والحنابلة . ويرى البعض الآخر منهم : أنّ مدّة التّغريب في التّعزير لا يجوز أن تصل إلى سنة ، لأنّهم يعتبرون التّغريب في جريمة الزّنى حدّا ، وإذا كانت مدّته فيها عاما فلا يجوز عندهم في التّعزير أن يصل التّغريب لعام ، لحديث : « من بلغ حدّا في غير حدّ فهو من المعتدين » . وتفصيله في ( نفي ) .
هـ - التّعزير بالمال :
مشروعيّة التّعزير بالمال :
20 - الأصل في مذهب أبي حنيفة : أنّ التّعزير بأخذ المال غير جائز ، فأبو حنيفة ومحمّد لا يجيزانه ، بل إنّ محمّدا لم يذكره في كتاب من كتبه . أمّا أبو يوسف فقد روي عنه : أنّ التّعزير بأخذ المال من الجاني جائز إن رؤيت فيه مصلحة .
وقال الشبراملسي : ولا يجوز على الجديد بأخذ المال . يعني لا يجوز التّعزير بأخذ المال في مذهب الشّافعيّ الجديد ، وفي المذهب القديم : يجوز .
أمّا في مذهب مالك في المشهور عنه ، فقد قال ابن فرحون : التّعزير بأخذ المال قال به المالكيّة . وقد ذكر مواضع مخصوصة يعزّر فيها بالمال ، وذلك في قوله : سئل مالك عن اللّبن المغشوش أيراق ؟ قال : لا ، ولكن أرى أن يتصدّق به ، إذا كان هو الّذي غشّه . وقال في الزّعفران والمسك المغشوش مثل ذلك ، سواء كان ذلك قليلاً أو كثيراً ، وخالفه ابن القاسم في الكثير ، وقال : يباع المسك والزّعفران على ما يغشّ به ، ويتصدّق بالثّمن أدباً للغاشّ . وأفتى ابن القطّان الأندلسيّ في الملاحف الرّديئة النّسج بأن تحرّق . وأفتى ابن عتّاب : بتقطيعها والصّدقة بها خرقاً .
وعند الحنابلة يحرم التّعزير بأخذ المال أو إتلافه ، لأنّ الشّرع لم يرد بشيء من ذلك عمّن يقتدى به . وخالف ابن تيميّة وابن القيّم ، فقالا : إنّ التّعزير بالمال سائغ إتلافاً وأخذاً . واستدلا لذلك بأقضية للرّسول صلى الله عليه وسلم كإباحته سلب من يصطاد في حرم المدينة لمن يجده ، وأمره بكسر دنان الخمر ، وشقّ ظروفها ، وأمره عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما بحرق الثّوبين المعصفرين ، وتضعيفه الغرامة على من سرق من غير حرز ، وسارق ما لا قطع فيه من الثّمر والكثر ، وكاتم الضّالّة . ومنها أقضيّة الخلفاء الرّاشدين ، مثل أمر عمر وعليّ رضي الله عنهما بتحريق المكان الّذي يباع فيه الخمر ، وأخذ شطر مال مانع الزّكاة ، وأمر عمر بتحريق قصر سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه الّذي بناه حتّى يحتجب فيه عن النّاس . وقد نفّذ هذا الأمر محمّد بن مسلمة رضي الله عنه .
أنواع التّعزير بالمال :
التّعزير بالمال يكون بحبسه أو بإتلافه ، أو بتغيير صورته ، أو بتمليكه للغير .
أ - حبس المال عن صاحبه :
21 - وهو أن يمسك القاضي شيئا من مال الجاني مدّة زجرا له ، ثمّ يعيده له عندما تظهر توبته ، وليس معناه أخذه لبيت المال ، لأنّه لا يجوز أخذ مال إنسان بغير سبب شرعيّ يقتضي ذلك . وفسّره على هذا الوجه أبو يحيى الخوارزميّ .
ونظيره ما يفعل في خيول البغاة وسلاحهم ، فإنّها تحبس عنهم مدّة وتعاد إليهم إذا تابوا .
وصوّب هذا الرّأي الإمام ظهير الدّين التّمرتاشيّ الخوارزميّ .
أمّا إذا صار ميئوساً من توبته ، فإنّ للحاكم أن يصرف هذا المال فيما يرى فيه المصلحة .
ب - الإتلاف :
22 - قال ابن تيميّة : إنّ المنكرات من الأعيان والصّفات يجوز إتلاف محلّها تبعاً لها ، فالأصنام صورها منكرة ، فيجوز إتلاف مادّتها ، وآلات اللّهو يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء ، وبذلك أخذ مالك ، وهو أشهر الرّوايتين عن أحمد .
ومن هذا القبيل أيضاً أوعية الخمر ، يجوز تكسيرها وتحريقها ، والمحلّ الّذي يباع فيه الخمر يجوز تحريقه ، واستدلّ لذلك بفعل عمر رضي الله عنه في تحريق محلّ يباع فيه الخمر ، وقضاء عليّ رضي الله عنه تحريق القرية الّتي كان يباع فيها الخمر ، ولأنّ مكان البيع كالأوعية . وقال : إنّ هذا هو المشهور في مذهب أحمد ، ومالك ، وغيرهما .
ومن هذا القبيل أيضاً : إراقة عمر اللّبن المخلوط بالماء للبيع . ومنه ما يراه بعض الفقهاء من جواز إتلاف المغشوشات في الصّناعات ، كالثّياب رديئة النّسج ، بتمزيقها وإحراقها ، وتحريق عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما لثوبه المعصفر بأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال ابن تيميّة : إنّ هذا الإتلاف للمحلّ الّذي قامت به المعصية نظيره إتلاف المحلّ من الجسم الّذي وقعت به المعصية ، كقطع يد السّارق . وهذا الإتلاف ليس واجباً في كلّ حالة ، فإذا لم يكن في المحلّ مفسد فإنّ إبقاءه جائز ، إمّا له أو يتصدّق به . وبناء على ذلك أفتى فريق من العلماء : بأن يتصدّق بالطّعام المغشوش . وفي هذا إتلاف له .
وكره فريق الإتلاف ، وقالوا بالتّصدّق به ، ومنهم مالك في رواية ابن القاسم ، وهي المشهورة في المذهب . وقد استحسن مالك التّصدّق باللّبن المغشوش ، لأنّ في ذلك عقابا للجاني بإتلافه عليه ، ونفعاً للمساكين بالإعطاء لهم . وقال مالك في الزّعفران والمسك بمثل قوله في اللّبن إذا غشّهما الجاني . وقال ابن القاسم بذلك في القليل من تلك الأموال ، لأنّ التّصدّق بالمغشوش في الكثير من هذه الأموال الثّمينة تضيع به أموال عظيمة على أصحابها ، فيعزّرون في مثل تلك الأحوال بعقوبات أخرى .
وعند البعض : أنّ مذهب مالك التّسوية بين القليل والكثير . وروى أشهب عن مالك منع العقوبات الماليّة ، وأخذ بهذه الرّواية كلّ من مطرّف وابن الماجشون من فقهاء المذهب ، وعندهما : أنّ من غشّ أو نقص من الوزن يعاقب بالضّرب ، والحبس ، والإخراج من السّوق ، وأنّ ما غشّ من الخبز واللّبن ، أو غشّ من المسك والزّعفران لا يفرّق ولا ينهب.
ج - التّغيير :
23 - من التّعزير بالتّغيير نهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن كسر سكّة المسلمين الجائزة بين المسلمين ، كالدّراهم والدّنانير ، إلا إذا كان بها بأس ، فإذا كانت كذلك كسرت ، وفعل الرّسول صلى الله عليه وسلم في التّمثال الّذي كان في بيته ، والسّتر الّذي به تماثيل ، إذ قطع رأس التّمثال فصار كالشّجرة ، وقطع السّتر إلى وسادتين منتبذتين يوطآن .
ومن ذلك : تفكيك آلات اللّهو ، وتغيير الصّور المصوّرة .
د - التّمليك :
24 - من التّعزير بالتّمليك : « قضاء الرّسول صلى الله عليه وسلم فيمن سرق من الثّمر المعلّق قبل أن يؤخذ إلى الجرين بجلدات نكال ، وغرم ما أخذ مرّتين » « وفيمن سرق من الماشية قبل أن تؤوي إلى المراح بجلدات نكال ، وغرم ذلك مرّتين » وقضاء عمر رضي الله عنه بتضعيف الغرم على كاتم الضّالّة ، وقد قال بذلك طائفة من العلماء ، منهم : أحمد ، وغيره ، ومن ذلك إضعاف عمر وغيره الغرم في ناقة أعرابيّ أخذها مماليك جياع ، إذ أضعف الغرم على سيّدهم ، ودرأ القطع .
أنواع أخرى من التّعزير :
هناك أنواع أخرى من التّعزير غير ما سبق .
منها : الإعلام المجرّد ، والإحضار لمجلس القضاء ، والتّوبيخ والهجر .
أ - الإعلام المجرّد :
25 - الإعلام : صورته أن يقول القاضي للجاني : بلغني أنّك فعلت كذا وكذا ، أو يبعث القاضي أمينه للجاني ، ليقول له ذلك .
وقد قيّد البعض الإعلام ، بأن يكون مع النّظر بوجه عابس .
ب - الإحضار لمجلس القضاء :
26 - قال الكاسانيّ : إنّ هذا النّوع من التّعزير يكون بالإعلام ، والذّهاب إلى باب القاضي ، والخطاب بالمواجهة .
وقال البعض : إنّه يكون بالإعلام ، والجرّ لباب القاضي ، والخصومة فيما نسب إلى الجاني. والفرق بين هذه العقوبة والإعلام المجرّد : أنّ في هذه العقوبة يؤخذ الجاني إلى القاضي زيادة عن الإعلام ، وذلك ليخاطبه في المواجهة . وبناء على ما ذكره الكمال بن الهمام : تتميّز هذه عن الإعلام المجرّد بالخصومة فيما نسب إلى الجاني . وكثيراً ما يلجأ القاضي لهذين النّوعين أو لواحد منهما إذا كان الجاني قد ارتكب الجريمة على سبيل الزّلّة والنّدور ابتداء ، إذا كان ذلك زاجراً ، على شريطة كون الجريمة غير جسيمة .
ج - التّوبيخ :
مشروعيّة التّوبيخ :
27 - التّعزير بالتّوبيخ مشروع باتّفاق الفقهاء ، فقد « روى أبو ذرّ رضي الله عنه : أنّه سابّ رجلا فعيّره بأمّه ، فقال الرّسول صلى الله عليه وسلم يا أبا ذرّ ، أعيّرته بأمّه ، ، إنّك امرؤ فيك جاهليّة » . وقال الرّسول صلى الله عليه وسلم : « لَيُّ الواجد يُحِلُّ عرضه وعقوبته » . وقد فسّر النّيل من العرض بأن يقال له مثلا : يا ظالم ، يا معتد . وهذا نوع من التّعزير بالقول . وقد جاء في تبصرة الحكّام لابن فرحون : وأمّا التّعزير بالقول فدليله ما ثبت في سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب فقال : اضربوه فقال أبو هريرة : فمِنَّا الضّارب بيده ، ومنّا الضّارب بنعله ، والضّارب بثوبه » . وفي رواية بإسناده : « ثمّ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأصحابه بكّتوه فأقبلوا عليه يقولون : ما اتّقيت اللّه ، ما خشيت اللّه ، ما استحييت من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم » . وهذا التّبكيت من التّعزير بالقول .
وقد عزّر عمر رضي الله عنه بالتّوبيخ . فقد روي عنه أنّه أنفذ جيشا فغنموا غنائم ، فلمّا رجعوا لبسوا الحرير والدّيباج ، فلمّا رآهم تغيّر وجهه ، وأعرض عنهم ، فقالوا : أعرضت عنّا ، فقال : انزعوا ثياب أهل النّار ، فنزعوا ما كانوا يلبسون من الحرير والدّيباج .
وذلك فيه تعزير لهم بالإعراض عنهم ، وفيه توبيخ لهم .
كيفيّة التّوبيخ :
28 - التّوبيخ قد يكون بإعراض القاضي عن الجاني ، أو بالنّظر له بوجه عبوس ، وقد يكون بإقامة الجاني من مجلس القضاء ، وقد يكون بالكلام العنيف ، ويكون بزواجر الكلام وغاية الاستخفاف ، على شريطة أن لا يكون فيه قذف ، ومنع البعض ما فيه السّبّ أيضاً .
د - الهجر :
29 - الهجر معناه : مقاطعة الجاني ، والامتناع عن الاتّصال به ، أو معاملته بأيّ نوع ، أو أيّة طريقة كانت . وهو مشروع بدليل قوله تعالى : { وَاللاتيْ تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ في المَضَاجِعِ } وقد « هجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه الثّلاثة الّذين تخلّفوا عنه في غزوة تبوك » . وعاقب عمر صبيغا بالهجر لمّا نفاه إلى البصرة ، وأمر ألا يجالسه أحد . وهذا منه عقوبة بالهجر .
الجرائم الّتي شرع فيها التّعزير :
30 - الجرائم الّتي شرع فيها التّعزير قد تكون من قبيل ما شرع في جنسه عقوبة مقدّرة من حدّ أو قصاص ، لكنّ هذه العقوبة لا تطبّق ، لعدم توافر شرائط تطبيقها ، ومنها ما فيه عقوبة مقدّرة ، ولكنّ هذه العقوبة لا تطبّق عليها لمانع ، كوجود شبهة تستوجب درء الحدّ ، أو عفو صاحب الحقّ عن طلبه .
وقد تكون الجرائم التّعزيريّة غير ما ذكر فيكون فيها التّعزير أصلاً .
ويدخل في هذا القسم ما لا يدخل في سابقه من جرائم . وفيما يلي تفصيل ذلك .
الجرائم الّتي يشرع فيها التّعزير بديلاً عن الحدود :
جرائم الاعتداء على النّفس ، وما دونها :
31 - يدخل في هذا الموضوع : الكلام في جرائم الاعتداء على النّفس ، وهي الّتي يترتّب عليها إزهاق الرّوح ، والكلام في جرائم الاعتداء على ما دون النّفس وهي الّتي تقع على البدن دون أن تؤدّي لإزهاق الرّوح :
جرائم القتل " الجناية على النّفس " :
القتل العمد :
32 - القتل العمد العدوان موجبه القصاص ، ويجب لذلك توافر شروط ، أهمّها : كون القاتل قد تعمّد تعمّدا محضا ليس فيه شبهة ، وكونه مختاراً ، ومباشراً للقتل ، وألا يكون المقتول جزء القاتل ، وأن يكون معصوم الدّم مطلقاً . وفضلاً عن ذلك يجب للقصاص : أن يطلب من وليّ الدّم . فإذا اختلّ شرط من هذه الشّروط امتنع القصاص ، وفيه التّعزير .
وفي ذلك خلاف وتفصيل ينظر في ( قتل - قصاص ) .
القتل شبه العمد :
33 - قال البهوتيّ ، نقلاً عن " المبدع " : قد يقال بوجوب التّعزير في القتل شبه العمد ، لأنّ الكفّارة حقّ للّه تعالى وليست لأجل الفعل ، بل بدل النّفس الفائتة ، فأمّا نفس الفعل المحرّم - الّذي هو الجناية - فلا كفّارة فيه .
34 - ومن الأصول الثّابتة عند الحنفيّة : أنّ ما لا قصاص فيه عندهم كالقتل بالمثقّل - وهو القتل بمثل الحجر الكبير أو الخشبة العظيمة - يجوز للإمام أن يعزّر فيه بما يصل للقتل ، إذا تكرّر ارتكابه ، ما دامت فيه مصلحة . وبناء على هذا الأصل قالوا بالتّعزير بالقتل لمن يتكرّر منه الخنق ، أو التّغريق ، أو الإلقاء من مكان مرتفع ، إذا لم يندفع فساده إلا بالقتل .
الاعتداء على ما دون النّفس :
35 - إذا كانت الجناية على ما دون النّفس عمدا فيشترط للقصاص فضلا عن شروطه في النّفس : المماثلة ، وإمكان استيفاء المثل .
ويرى مالك التّعزير أيضا في الجناية العمد على ما دون النّفس ، إذا سقط القصاص ، أو امتنع لسبب أو لآخر ، فيكون في الجريمة التّعزير مع الدّية ، أو الأرش ، أو بدونه ، تبعاً للأحوال . ومثال ذلك أن تكون الجناية على عظم خطر .
إذ العظام الخطرة لا قصاص فيها عنده ، مثل عظام الصّلب ، والفخذ ، والعنق ، ومثل المنقّلة ، والمأمومة ، ويقال ذلك أيضا في الجائفة ، لأنّه لا يستطاع فيها القصاص ، وفي كلّ ما ذهبت منفعته بالجناية مع بقائه قائما في الجسم ، وبقاء جماله ، فإذا ضربه على عينه فذهب بصرها ، وبقي جمالها فلا قود فيها . ومثل ذلك اليد إذا شلّت ولم تبن عن الجسم ، ففي هذه وما يماثلها يعزّر الجاني مع أخذ العقل منه ( أي الدّية ) .
وإذا لم يترك الاعتداء على الجسم أثرا : فأغلب الفقهاء على أنّ في ذلك التّعزير ، لا القصاص . ولدى بعض المالكيّة القصاص في ضربة السّوط ، ولو لم يحدث جرحا ولا شجّة ، مع أنّه لا قصاص عندهم في اللّطمة ، وضربة العصا ، إلا إذا خلّفت جرحاً أو شجّة . وروي عن مالك : أنّ ضربة السّوط في ذلك كاللّطمة فيه الأدب ، ونقل ذلك ابن عرفة عن أشهب . ويرى ابن القيّم وبعض الحنابلة : القصاص في اللّطمة والضّربة .
الزّنى الّذي لا حدّ فيه ، ومقدّماته :
36 - الزّنى إذا توافرت الشّرائط الشّرعيّة لثبوته فإنّ فيه حدّ الزّنى ، أمّا إذا لم يطبّق الحدّ المقدّر لوجود شبهة ، أو لعدم توافر شريطة من الشّرائط الشّرعيّة لثبوت الحدّ ، فإنّ الفعل يكون جريمة شرع الحكم فيها - أو في جنسها - لكنّه لم يطبّق .
وكلّ جريمة لا حدّ فيها ولا قصاص ففيها التّعزير .
وبناء على ذلك : إذا كانت هناك شبهة تدرأ الحدّ ، سواء كانت شبهة فعل ، أو شبهة ملك ، أو شبهة عقد ، فإنّ الحدّ لا يطبّق . لكنّ الجاني يعزّر ، لأنّه ارتكب جريمة ليست فيها عقوبة مقدّرة .
وتعرف الشّبهة بأنّها : ما يشبه الثّابت وليس بثابت . أو : هي وجود المبيح صورة ، مع عدم حكمه أو حقيقته ، وتفصيل ذلك في ( اشتباه ) . وإذا كانت المزنيّ بها ميّتة ففي هذا الفعل التّعزير ، لأنّه لا يعتبر زنى ، إذ حياة المزنيّ بها شريطة في الحدّ .
وإذا لم يكن الفعل من رجل فلا يقام الحدّ ، بل التّعزير ، ومن ذلك : المساحقة .
وإذا لم يكن الفعل في قبل امرأة فأبو حنيفة على عدم الحدّ ، لكنّ فيه التّعزير ، ومن ذلك أن يكون الفعل في الدّبر . وهو قول للشّافعيّة . والقول بالقتل على كلّ حال مرويّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما وهو قول آخر للشّافعيّة ، والمذهب عند الشّافعيّة : أنّه زنى ، وفيه الحدّ . وقال قوم : إنّ اللّواط زنى ، وفيه حدّ الزّنى . ومن هؤلاء : مالك ، وهو المشهور لدى الشّافعيّ ، وهو رأي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة . واختلفت الرّواية عن أحمد : فقد روي عنه أنّ فيه حدّ الزّنى : وإذا كان الفعل في زوجة الفاعل فلا حدّ فيه بالإجماع . والجمهور على أنّه يستوجب التّعزير . وممّا يستوجب التّعزير في هذا المجال كلّ ما دون الوقاع من أفعال ، كالوطء فيما دون الفرج ، ويستوي فيه المسلم ، والكافر ، والمحصن ، وغيره . ومنه أيضاً : إصابة كلّ محرّم من المرأة غير الجماع . وعناق الأجنبيّة، أم تقبيلها. وممّا فيه التّعزير كذلك : كشف العورة لآخر ، وخداع النّساء ، والقوادة ، وهي : الجمع بين الرّجال والنّساء للزّنى ، وبين الرّجال والرّجال للّواط .
القذف الّذي لا حدّ فيه والسّبّ :
37 - حدّ القذف لا يقام على القاذف إلّا بشرائطه ، فإذا انعدم واحد منها أو اختلّ فإنّ الجاني لا يحدّ . ويعزّر عند طلب المقذوف ، لأنّه ارتكب معصية لا حدّ فيها .
ومن شروط القذف الّذي فيه الحدّ : كون المقذوف محصناً . فإذا لم يكن كذلك فلا يحدّ القاذف ، ولكن يعزّر . ومن ذلك أن يقذف مجنوناً بالزّنى . أو صغيراً بالزّنى . أو مسلمة قد زنت . أو مسلما قد زنى ، أو من معها أولاد لا يعرف لهم أب ، وذلك لعدم العفّة في هذه الثّلاثة الأخيرة . ومنها كون المقذوف معلوماً ، فإن لم يكن كذلك فلا حدّ ، بل التّعزير ، لأنّ الفعل معصية لا حدّ فيها . وبناء على ذلك يعزّر - ولا يحدّ - من قذف بالزّنى جدّ آخر دون بيان الجدّ . أو أخاه كذلك ، وكان له أكثر من أخ .
ولا حدّ في القذف بغير الصّريح ، ومن ذلك : القذف بالكناية ، أو التّعريض ، فليس فيه عند الحنفيّة حدّ ، بل التّعزير ، وكذلك عند الشّافعيّة . ويرى مالك : الحدّ في القذف بالتّعريض أو الكناية . والّذين منعوا الحدّ قالوا بالتّعزير ، لأنّ الفعل يكون جريمة لا حدّ فيها .
ولا حدّ إذا رماه بألفاظ لا تفيد الزّنى صراحة . كقوله : يا فاجر ، بل يعزّر .
وكذلك الشّأن إذا رماه بما لا يعتبر زنى ، كمن رمى آخر بالتّخنّث . ويعزّر كذلك عند أبي حنيفة من يرمي آخر بأنّه يعمل عمل قوم لوط ، لأنّ هذا الفعل لا يوجب حدّ الزّنى عنده . أمّا مالك والشّافعيّ وأبو يوسف ومحمّد فإنّهم يقولون بالحدّ ، ومن ثمّ فلا تعزير في ذلك ، بل فيه حدّ القذف عند هؤلاء . ومردّ الخلاف : هو في أنّ اللّواط هل هو زنى أم لا ؟ .
فمن قالوا : بأنّه زنى ، جعلوا في القذف به حدّ القذف . ومن قالوا : بغير ذلك ، جعلوا في القذف به التّعزير . ومن قذف آخر قذفاً مقيّداً بشرط أو أجل يعزّر ولا يحدّ .
وإذا لم يكن القول قذفاً ، بل مجرّد سبّ أو شتم فإنّه يكون معصية لا حدّ فيها ، ففيها التّعزير . ومن ذلك قوله : يا نصرانيّ ، أو يا زنديق ، أو يا كافر ، في حين أنّه مسلم . وكذلك من قال لآخر : يا مخنّث ، أو يا منافق ، ما دام المجنيّ عليه غير متّصف بذلك . ويعزّر كذلك في مثل : يا آكل الرّبا ، أو يا شارب الخمر ، أو يا خائن ، أو يا سارق ، وكلّه بشرط كون المجنيّ عليه غير معروف بما نسب إليه . وكذلك من قال لآخر : يا بليد ، أو يا قذر ، أو يا سفيه ، أو يا ظالم ، أو يا أعور ، وهو صحيح ، أو يا مقعد ، وهو صحيح كذلك على سبيل الشّتم . وعلى وجه العموم يعزّر من شتم آخر ، مهما كان الشّتم ، لأنّه معصية . ويرجع في تحديد الفعل الموجب للتّعزير إلى العرف ، فإذا لم يكن الفعل المنسوب للمجنيّ عليه ممّا يلحق به في العرف العار والأذى والشّين ، فلا عقاب على الجاني ، إذ لا يكون ثمّة جريمة .
السّرقة الّتي لا حدّ فيها :
38 - السّرقة من جرائم الحدود ما دامت قد استوفت شروطها الشّرعيّة ، وأهمّها : الخفية . وكون موضوع السّرقة مالا ، مملوكا لغير السّارق ، محرّزاً ، نصاباً . فإذا تخلّف شرط من شروط الحدّ فلا يقام ، ولكن يعزّر الفاعل ، لأنّه ارتكب جريمة ليس فيها حدّ مقدّر . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( سرقة ) .
قطع الطّريق الّذي لا حدّ فيه :
39 - قطع الطّريق كغيره من جرائم الحدود ، يجب لكي يكون فيه الحدّ أن تتوافر شروط معيّنة ، وإلّا فلا يقام الحدّ ، ويعزّر الجاني ما دام قد ارتكب معصية لا حدّ فيها .
ومن الشّروط : أن يكون الجاني بالغاً ، ذكراً ، وأن يكون المجنيّ عليه مسلماً ، أو ذمّيّاً ، وأن تكون يده على المال صحيحة ، وأن لا يكون في القطّاع ذو رحم محرم لأحد المقطوع عليه ، وأن يكون المقطوع فيه مالاً متقوّماً معصوماً مملوكاً ، لا ملك فيه للقاطع ، ولا شبهة ملك ، محرّزاً ، نصاباً ، وأن يكون قطع الطّريق في غير المصر .
وتفصيل ذلك في ( حرابة ) .
الجرائم الّتي موجبها الأصليّ التّعزير :
بعض الجرائم الّتي تقع على آحاد النّاس :
شهادة الزّور :
40 - حرّم قول الزّور في القرآن الكريم بقوله تعالى { وَاجْتَنِبُوا قَولَ الزُّورِ } .
وفي السّنّة بما ورد : « أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم عدّ قول الزّور وشهادة الزّور من أكبر الكبائر » وما دام أنّه ليس فيها عقوبة مقدّرة ، ففيها التّعزير .
الشّكوى بغير حقّ :
41 - ذكر صاحب ( تبصرة الحكّام ) أنّ من قام بشكوى بغير حقّ يؤدّب .
وقال البهوتيّ : إنّه إذا ظهر كذب المدّعي في دعواه بما يؤذي به المدّعى عليه ، فإنّه يعزّر لكذبه وإيذائه للمدّعى عليه .
قتل حيوان غير مؤذ أو الإضرار به :
42 - نهى الرّسول صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان في قوله : « إنّ امرأة دخلت النّار في هرّة حبستها ، فلا هي أطعمتها وسقتها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض » فهذا الفعل معصية ، فيعزّر الفاعل ما دام الفعل ليس فيه حدّ مقدّر .
ومن الأمثلة على الجرائم في هذا المجال : قطع ذنب حيوان ، فقد ذكر فقهاء الحنفيّة أنّ : ممّا يوجب التّعزير ما ذكر ابن رستم فيمن قطع ذنب برذون .
انتهاك حرمة ملك الغير :
43 - دخول بيوت الغير بدون إذن ممنوع شرعاً لقوله تعالى : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتَاً غَيرَ بُيُوتِكُمْ حتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } وبناء على هذا الأصل قيل بتعزير من يوجد في منزل آخر بغير إذنه أو علمه ، ودون أن يتّضح سبب مشروع لهذا الدّخول .
جرائم مضرّة بالمصلحة العامّة :
44 - توجد جرائم مضرّة بالمصلحة العامّة ليست فيها عقوبات مقدّرة ، وفيها التّعزير . من هذه الجرائم : التّجسّس للعدوّ على المسلمين ، فهو منهيّ عنه لقوله تعالى { ولا تَجَسَّسُوا } ، وقوله { . . . لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَولِياءَ تُلْقُونَ إِليْهمْ بِالمَوَدَّةِ } .
ولمّا كانت هذه الجريمة ليست لها عقوبة مقدّرة ففيها التّعزير . وتفصيله في ( تجسّس ) .
الرّشوة :
45 - هي جريمة محرّمة بالقرآن لقوله تعالى : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } وهي في اليهود وكانوا يأكلون السّحت من الرّشوة .
وهي كذلك محرّمة بالسّنّة لحديث : « لعن اللّه الرّاشي والمرتشي والرّائش » .
ولمّا كانت هذه الجريمة ليست فيها عقوبة مقدّرة ففيها التّعزير .
تجاوز الموظّفين حدودهم ، وتقصيرهم :
هذه معصية ليست فيها عقوبة مقدّرة ، ولها صور منها :
أ - جور القاضي :
46 - إذا جار القاضي في الحكم عمدا يعزّر ، ويعزل ، ويضمن في ماله ، لأنّه فيما جار ليس بقاض ، ولكنّه إتلاف بغير حقّ ، فيكون فيه كغيره في إيجاب الضّمان عليه في ماله . إذا جار مخطئا لم يكن عليه غرم قضائه ، لأنّه ليس معصوماً عن الخطأ لقوله تعالى :
{ وَلَيْسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ به }
ب - ترك العمل أو الامتناع عمداً عن تأدية الواجب :
47 - كلّ عمل من شأنه تعطيل الوظائف العامّة أو عدم انتظامها هو جريمة تستوجب التّعزير ، والغرض من ذلك ضمان حسن سير العمل ، حتّى تقوم السّلطة بواجباتها على أكمل وجه . وعلى ذلك : فيعزّر كلّ من ترك عمله ، أو امتنع عن عمل من أعمال الوظيفة قاصدا عرقلة سير العمل ، أو الإخلال بانتظامه ، ويعزّر عموما كلّ من يتمرّد في وظيفته ، أو يستعمل القوّة ، أو العنف مع رؤسائه ، ويترك عمله .
ومن ذلك تعدّي أحد الموظّفين المدنيّين أو العسكريّين على غيره استغلالاً لوظيفته .
مقاومة رجال السّلطة والاعتداء عليهم :
48 - التّعدّي على الموظّفين العموميّين والمكلّفين بخدمة عامّة يستحقّ التّعزير .
ومن الأمثلة الّتي أوردها الفقهاء في هذا المجال : إهانة العلماء أو رجال الدّولة بما لا يليق ، سواء كان ذلك بالإشارة ، أو القول ، أو بغير ذلك . والتّعدّي على أحد الجنود باليد ، أو تمزيق ثيابه ، أو سبّه ، ففيه التّعزير ، والتّضمين عن التّلف . ومن ذلك : إهانة محكمة قضائيّة ، وكذلك جرائم الجلسة ، فالقاضي له فيها التّعزير ، وإن عفا فحسن .
هرب المحبوسين وإخفاء الجناة :
49 - من ذلك من يؤوي محاربا ، أو سارقا ، أو نحوهما ، ممّن عليه حقّ للّه تعالى أو لآدميّ ، ويمنع من أن يستوفى هذا الحقّ . فقد قيل : إنّه شريك في جرمه ويعزّر ، ويطلب إحضاره ، أو الإعلام عن مكانه ، فإن امتنع يحبس ، ويضرب مرّة بعد مرّة، حتّى يستجيب.
تقليد المسكوكات الزّيوف والمزوّرة :
50 - تقليد المسكوكات الّتي في التّداول والإعانة على صرف العملة الفاسدة ونشرها جريمة فيها التّعزير . ففي ( عدّة أرباب الفتوى ) في رجل يعمل السّكّة المصنوعة ريالا وذهبا وروبيّة ، وفي رجل ينشر هذه المسكوكات الزّائفة ويروّجها : أنّهما يعزّران .
التّزوير :
51 - في هذه الجريمة التّعزير ، فقد روي : أنّ معن بن زياد عمل خاتماً على نقش خاتم بيت المال فأخذ مالاً ، فضربه عمر رضي الله عنه مائة جلدة ، وحبسه ، ثمّ ضربه مائة أخرى ، ثمّ ثالثة ، ثمّ نفاه . ومن موجبات التّعزير : كتابة الخطوط والصّكوك بالتّزوير .
البيع بأكثر من السّعر الجبريّ :
52 - قد تدعو الحال لتسعير الحاجيّات ، فإن كان ذلك : فالبيع بأكثر من السّعر المحدّد فيه التّعزير . ومن ذلك : الامتناع عن البيع ، ففيه الأمر بالواجب والعقاب على ترك الواجب . ومن ذلك : احتكار الحاجات للتّحكّم في السّعر لحديث : « لا يحتكر إلا خاطئ » .
الغشّ في المكاييل والموازين :
53 - يقول اللّه تعالى : { أَوْفُوا الكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِن المُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ } . وفي الحديث : « من غشّنا فليس منّا » وبناء على ذلك : فالغشّ في الكيل والوزن معصية ، وليس فيها حدّ مقدّر ، ففيها التّعزير .
المشتبه فيهم :
54 - قد يكون التّعزير لا لارتكاب فعل معيّن ، ولكن لحالة الجاني الخطرة ، وقد قال بعض الفقهاء بتعزير من يتّهم بالسّرقة ، ولو لم يرتكب سرقة جديدة ، ومن يعرف أو يتّهم بارتكاب جرائم ضدّ النّفس ، كالقتل والضّرب والجرح .
سقوط التّعزير :
55 - تسقط العقوبة التّعزيريّة بأسباب ، منها : موت الجاني ، والعفو عنه ، وتوبته .
أ - سقوط التّعزير بالموت :
56 - إذا كانت العقوبة بدنيّة أو مقيّدة للحرّيّة فإنّ موت الجاني مسقط لها بداهة ، لأنّ العقوبة متعلّقة بشخصه ، ومن ذلك : الهجر ، والتّوبيخ ، والحبس ، والضّرب .
أمّا إذا لم تكن العقوبة متعلّقة بشخص الجاني بل كانت منصّبة على ماله ، كالغرامة والمصادرة ، فموت الجاني بعد الحكم لا يسقطها ، لأنّه يمكن التّنفيذ بها على المال ، وهي تصير بالحكم دينا في الذّمّة ، وتتعلّق تبعا لذلك بتركة الجاني المحكوم عليه .
ب - سقوط التّعزير بالعفو :
57 - العفو جائز في التّعزير إذا كان لحقّ اللّه تعالى ، لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم : « تجافوا عن عقوبة ذوي المروءة إلّا في حدّ من حدود اللّه » وقوله « أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم » وقوله في الأنصار : « اقبلوا من محسنهم ، وتجاوزوا عن مسيئهم » ، « وقوله لرجل - قال له : إنّي لقيت امرأة فأصبت منها دون أن أطأها - : أصلّيت معنا ؟ فردّ عليه بنعم ، فتلا قوله تعالى { إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ } » فالإمام له العفو .
وقيل : إنّه لا يجوز العفو إذا تعلّق التّعزير بحقّ اللّه تعالى كما في تارك الصّلاة .
وقال الإصطخريّ في رسالته : ومن طعن على أحد الصّحابة ، وجب على السّلطان تأديبه ، وليس له أن يعفو عنه . وقال البعض : إنّ ما كان من التّعزير منصوصاً عليه كوطء جارية امرأته ، أو جارية مشتركة ، يجب امتثال الأمر فيه ، فهنا لا يجوز العفو عندهم ، بل يجب التّعزير ، لامتناع تطبيق الحدّ . وقال البعض : إنّ العفو يكون لمن كانت منه الفلتة والزّلّة ، وفي أهل الشّرف والعفاف ، وعلى ذلك : فشخص الجاني له اعتبار في العفو .
وإذا كان التّعزير لحقّ آدميّ فقد قيل كذلك : إنّ لوليّ الأمر تركه ، والعفو عنه ، حتّى ولو طلبه صاحب الحقّ فيه ، شأنه في ذلك شأن التّعزير الّذي هو حقّ اللّه تعالى .
وقيل : لا يجوز تركه عند طلبه ، مثل القصاص ، فليس لوليّ الأمر هنا تركه بعفو أو نحوه ، وعلى ذلك أغلب الفقهاء . وإذا عفا وليّ الأمر عن التّعزير فيما يمسّ المصلحة العامّة ، وكان قد تعلّق بالتّعزير حقّ آدميّ كالشّتم ، فلا يسقط حقّ الآدميّ ، فعلى وليّ الأمر الاستيفاء ، لأنّ الإمام ليس له - على الرّاجح - العفو عن حقّ الفرد .
وإذا عفا الآدميّ عن حقّه فإنّ عفوه يجوز ، ولكن لا يمسّ هذا حقّ السّلطة .
وقد فرّق الماورديّ في هذا المجال بين حالتين :
أ - إذا حصل عفو الآدميّ قبل التّرافع ، فلوليّ الأمر الخيار بين التّعزير أو العفو .
ب - وإذا حصل بعد التّرافع ، فقد اختلف في العقاب عن حقّ السّلطة على وجهين :
الأوّل : في قول أبي عبد اللّه الزّبيريّ يسقط بالعفو ، وليس لوليّ الأمر أن يعزّر فيه ، لأنّ حدّ القذف أغلظ ويسقط حكمه بالعفو ، فكان حكم التّعزير لحقّ السّلطة أولى بالسّقوط . والثّاني - وهو الأظهر - أنّ لوليّ الأمر أن يعزّر فيه مع العفو قبل التّرافع إليه ، كما يجوز له ذلك بعد التّرافع مخالفة للعفو عن حدّ القذف في الموضعين ، لأنّ التّقويم من الحقوق العامّة .
سقوط التّعزير بالتّوبة :
58 - اختلف الفقهاء في أثر التّوبة في التّعزير : فعند الحنفيّة والمالكيّة وبعض الشّافعيّة والحنابلة : أنّه لا تسقط العقوبة بالتّوبة ، لأنّها كفّارة عن المعصية . وعند هؤلاء في تعليل ذلك : عموم أدلّة العقوبة بلا تفرقة بين تائب وغيره عدا المحاربة . وفضلاً عن ذلك فجعل التّوبة ذات أثر في إسقاط العقوبة يجعل لكلّ ادّعاءها ، للإفلات من العقاب .
وعند فريق آخر ، منهم الشّافعيّة والحنابلة : أنّ التّوبة قبل القدرة تسقط العقوبة قياساً على حدّ المحاربة ، استنادا إلى ما ورد في الصّحيحين من حديث أنس رضي الله عنه « كنت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فقال : يا رسول اللّه ، إنّي أصبت حدّاً فأقمه عليّ ، ولم يسأله عنه . فحضرت الصّلاة فصلّى مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم . فلمّا قضى النّبيّ صلى الله عليه وسلم الصّلاة قام إليه الرّجل ، فأعاد قوله ، فقال : أليس قد صلّيت معنا ؟ قال نعم . قال : فإنّ اللّه عزّ وجلّ قد غفر لك ذنبك » .
وفي هذا دليل على أنّ الجاني غفر له لمّا تاب . وفضلا عن ذلك فإنّه إذا جازت التّوبة في المحاربة مع شدّة ضررها وتعدّيه ، فأولى التّوبة فيما دونها . وهؤلاء يقصرون السّقوط بالتّوبة على ما فيه اعتداء على حقّ اللّه ، بخلاف ما يمسّ الأفراد .
وقال ابن تيميّة وابن القيّم : إنّ التّوبة تدفع العقوبة في التّعزير وغيره ، كما تدفعها في المحاربة ، بل إنّ ذلك أولى من المحاربة ، لشدّة ضررها ، وهذا يعتبر مسلكا وسطا بين من يقول : بعدم جواز إقامة العقوبة بعد التّوبة ألبتّة . وبين مسلك من يقول : إنّه لا أثر للتّوبة في إسقاط العقوبة ألبتّة . ويترتّب على هذا الرّأي : أنّ التّعزير الواجب حقّا للّه تعالى يسقط بالتّوبة ، إلّا إذا اختار الجاني العقوبة ليطهّر بها نفسه ، فالتّوبة تسقط التّعزير ، على شريطة ألّا يطلب الجاني إقامته ، وذلك بالنّسبة لحقوق المصلحة العامّة .
واحتجّ القائلون بذلك بأنّ اللّه عزّ وجلّ جعل توبة الكفّار سببا لغفران ما سلف واحتجّوا بقوله تعالى : { قُلْ لِلَّذينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } .
وأنّ السّنّة عليه كذلك ، ففي الحديث : « التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له » .
تعزية *
التّعريف :
1 - التّعزية لغة : مصدر عزّى : إذا صبّر المصاب وواساه .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ وقال الشّربينيّ : هي الأمر بالصّبر والحمل عليه بوعد الأجر ، والتّحذير من الوزر ، والدّعاء للميّت بالمغفرة ،وللمصاب بجبر المصيبة.
الحكم التّكليفيّ :
2 - لا خلاف بين الفقهاء في استحباب التّعزية لمن أصابته مصيبة .
والأصل في مشروعيّتها : خبر : « من عزّى مصاباً فله مثل أجره » .
وخبر « ما من مؤمن يعزّي أخاه بمصيبة إلّا كساه اللّه من حلل الكرامة يوم القيامة » .
كيفيّة التّعزية ولمن تكون :
3 - يعزّى أهل المصيبة ، كبارهم وصغارهم ، ذكورهم وإناثهم ، إلا الصّبيّ الّذي لا يعقل ، والشّابّة من النّساء ، فلا يعزّيها إلا النّساء ومحارمها ، خوفاً من الفتنة .
ونقل ابن عابدين عن شرح المنية : تستحبّ التّعزية للرّجال والنّساء اللاتي لا يفتنّ .
وقال الدّردير : وندب تعزية لأهل الميّت إلا مخشيّة الفتنة .
مدّة التّعزية :
4 - جمهور الفقهاء : على أنّ مدّة التّعزية ثلاثة أيّام .
واستدلّوا لذلك بإذن الشّارع في الإحداد في الثّلاث فقط ، بقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث ، إلّا على زوج : أربعة أشهر وعشرا » وتكره بعدها ، لأنّ المقصود منها سكون قلب المصاب ، والغالب سكونه بعد الثّلاثة ، فلا يجدّد له الحزن بالتّعزية ، إلا إذا كان أحدهما ( المعزّى أو المعزّي ) غائباً ، فلم يحضر إلا بعد الثّلاثة ، فإنّه يعزّيه بعد الثّلاثة . وحكى إمام الحرمين وجها وهو قول بعض الحنابلة : أنّه لا أمد للتّعزية ، بل تبقى بعد ثلاثة أيّام ، لأنّ الغرض الدّعاء ، والحمل على الصّبر ، والنّهي عن الجزع ، وذلك يحصل على طول الزّمان .
وقت التّعزية :
5 - ذهب جمهور الفقهاء : إلى أنّ الأفضل في التّعزية أن تكون بعد الدّفن ، لأنّ أهل الميّت قبل الدّفن مشغولون بتجهيزه ، ولأنّ وحشتهم بعد دفنه لفراقه أكثر ، فكان ذلك الوقت أولى بالتّعزية . وقال جمهور الشّافعيّة : إلا أن يظهر من أهل الميّت شدّة جزع قبل الدّفن ، فتعجّل التّعزية ، ليذهب جزعهم أو يخفّ . وحكي عن الثّوريّ : أنّه تكره التّعزية بعد الدّفن .
مكان التّعزية :
6 - كره الفقهاء الجلوس للتّعزية في المسجد .
وكره الشّافعيّة والحنابلة الجلوس للتّعزية ، بأن يجتمع أهل الميّت في مكان ليأتي إليهم النّاس للتّعزية ، لأنّه محدث وهو بدعة ، ولأنّه يجدّد الحزن . ووافقهم الحنفيّة على كراهة الجلوس للتّعزية على باب الدّار ، إذا اشتمل على ارتكاب محظور ، كفرش البسط والأطعمة من أهل الميّت . ونقل الطّحطاويّ عن شرح السّيّد أنّه لا بأس بالجلوس لها ثلاثة أيّام من غير ارتكاب محظور . وذهب المالكيّة : إلى أنّ الأفضل كون التّعزية في بيت المصاب . وقال بعض الحنابلة : إنّما المكروه البيتوتة عند أهل الميّت ، وأن يجلس إليهم من عزّى مرّة ، أو يستديم المعزّي الجلوس زيادة كثيرة على قدر التّعزية .
صيغة التّعزية :
7 - قال ابن قدامة : لا نعلم في التّعزية شيئاً محدوداً ، إلا ما روي أنّ الإمام أحمد قال : يروى « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عزّى رجلاً فقال : رحمك اللّه وآجرك » .
وعزّى أحمد أبا طالب ( أحد أصحابه ) فوقف على باب المسجد فقال : أعظم اللّه أجركم وأحسن عزاءكم . وقال بعض أصحابنا إذا عزّى مسلما بمسلم قال : أعظم اللّه أجرك ، وأحسن عزاك ، ورحم اللّه ميّتك . واستحبّ بعض أهل العلم : أن يقول ما روى جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه ، قال : « لمّا توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وجاءت التّعزية ، سمعوا قائلاً يقول : إنّ في اللّه عزاء من كلّ مصيبة ، وخلفاً من كلّ هالك ، ودركاً من كلّ ما فات ، فباللّه فثقوا ، وإيّاه فارجوا ، فإنّ المصاب من حرم الثّواب » .
وهل يعزّى المسلم بالكافر أو العكس ؟
8 - ذهب الأئمّة : الشّافعيّ ، وأبو حنيفة في رواية عنه : إلى أنّه يعزّى المسلم بالكافر ، وبالعكس ، والكافر غير الحربيّ . وذهب الإمام مالك : إلى أنّه لا يعزّى المسلم بالكافر . وقال ابن قدامة من الحنابلة : إن عزّى مسلما بكافر قال : أعظم اللّه أجرك وأحسن عزاءك.
صنع الطّعام لأهل الميّت :
9 - يسنّ لجيران أهل الميّت أن يصنعوا طعاما لهم ، لقوله صلى الله عليه وسلم :
« اصنعوا لأهل جعفر طعاما ، فإنّه قد جاءهم ما يشغلهم » .
ويكره أن يصنع أهل الميّت طعاما للنّاس ، لأنّ فيه زيادة على مصيبتهم ، وشغلاً على شغلهم ، وتشبّها بأهل الجاهليّة ، لخبر جرير بن عبد اللّه البجليّ رضي الله عنه : كنّا نعدّ الاجتماع إلى أهل الميّت ، وصنيعة الطّعام بعد دفنه من النّياحة .
تعشير *
التّعريف :
1 - التّعشير في اللّغة : مصدر عشّر ، يقال : عشّر القوم ، وعشّرهم : إذا أخذ عشر أموالهم . والعشّار : هو من يأخذ العشر . وقد عشّرت النّاقة : صارت عشراء - أي حاملا - إذا تمّ لها عشرة أشهر . ومعناه في الاصطلاح كمعناه اللّغويّ .
ويستعمل في الاصطلاح أيضاً بمعنى : جعل العواشر في المصحف ، والعاشرة : هي الحلقة في المصحف عند منتهى كلّ عشر آيات . والعاشرة أيضاً : الآية الّتي تتمّ بها العشر . والتّعشير - بمعنى أخذ العشر - يرجع لمعرفة أحكامه إلى مصطلح ( عشر ) .
تاريخ التّعشير في المصحف :
2 - قال ابن عطيّة : مرّ بي في بعض التّواريخ : أنّ المأمون العبّاسيّ أمر بذلك . وقيل : إنّ الحجّاج فعل ذلك ، وقال قتادة : بدءوا فنقّطوا ، ثمّ خمّسوا ، ثمّ عشّروا .
وقال يحيى بن أبي كثير : كان القرآن مجرّدا في المصاحف ، فأوّل ما أحدثوا فيه النّقط على الباء والتّاء والثّاء ، وقالوا : لا بأس به ، هو نور له ، ثمّ أحدثوا نقطا عند منتهى الآي ، ثمّ أحدثوا الفواتح والخواتم .
حكم التّعشير :
3 - ذكر أبو عمر والدّاني في كتاب البيان له ، عن عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه : أنّه كره التّعشير في المصاحف ، وأنّه كان يحكّه .
وعن مجاهد : أنّه كان يكره التّعشير والطّيب في المصاحف .
وقال الحنفيّة : تجوز تحلية المصحف وتعشيره ونقطه : أي إظهار إعرابه ، وبه يحصل الرّفق جدّا ، خصوصا للعجم ، فيستحسن . وعلى هذا لا بأس بكتابة أسماء السّور ، وعدّ الآي ، وعلامات الوقف ونحوها ، فهي بدعة حسنة . وقالوا : إنّ ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه " جرّدوا القرآن كان في زمنهم ، وكم شيء يختلف باختلاف الزّمان والمكان. وعند المالكيّة : أنّه مكروه بالحمرة وغيرها من الألوان ، إلا الحبر .
قال أشهب : سمعنا مالكاً وسئل عن العشور الّتي في المصحف بالحمرة وغيرها من الألوان فكره ذلك ، وقال : تعشير المصحف بالحبر لا بأس به .
تعصيب *
انظر : عصبة .
تعقيب
انظر : موالاة ، تتابع .
تعلّم *
انظر : تعليم .
تعلّي *
التّعريف :
1 - التّعلّي في اللّغة له معان ، منها : أنّه من العلوّ ، وهو : الارتفاع وعُلوّ كلّ شيء وعَلوه وعِلوه : أرفعه . وعلا الشّيء علوّا فهو عليّ : ارتفع ، وفي حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما : فإذا هو يتعلّى عنّي : أي يترفّع عليّ . وتعالى : ترفّع . وتعلّى : أي علا في مهلة .
وهو في الاصطلاح لا يخرج عن هذا ، إذ يراد به عند الفقهاء : رفع بناء فوق بناء آخر .
أحكام حقّ التّعلّي :
2 - حقّ التّعلّي : إمّا أن يستعمله صاحبه لنفسه ، وإمّا يبيعه لغيره .
أمّا استعماله لنفسه : فقد نصّت المادّة ( 1198 ) من مجلّة الأحكام العدليّة على أنّ : كلّ أحد له التّعلّي على حائطه الملك ، وبناء ما يريد ، وليس لجاره منعه ما لم يكن ضرراً فاحشاً . وقال الأتاسيّ في شرح المادّة : ولا عبرة بزعمه أنّه يسدّ عنه الرّيح والشّمس ، كما أفتى به في الحامديّة ، لأنّه ليس من الضّرر الفاحش . وفي الأنقرويّة : له أن يبني على حائط نفسه أزيد ممّا كان ، وليس لجاره منعه وإن بلغ عنان السّماء .
وأمّا بيعه لغيره فقد ذهب الجمهور المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إلى جوازه على التّفصيل التّالي :
أجازه المالكيّة متى كان المبيع قدرا معيّنا ، كعشرة أذرع مثلا من محلّ هواء ، فوق محلّ متّصل بأرض أو بناء ، بأن كان لشخص أرض خالية من البناء أراد البناء بها ، أو كان له بناء أراد البناء عليه ، فيشتري شخص منه قدرا معيّنا من الفراغ الّذي يكون فوق البناء الّذي أراد إحداثه ، فيجوز متى وصف البناء الّذي أريد إحداثه أسفل وأعلى ، ليقلّ الضّرر ، لأنّ صاحب الأسفل رغبته في خفّة الأعلى ، وصاحب الأعلى رغبته في متانة الأسفل ، ولصاحب البناء الأعلى الانتفاع بما فوق بنائه بغير البناء ، إذ يملك جميع الهواء الّذي فوق بناء الأسفل ، وليس لصاحب الأسفل الانتفاع بما فوق بناء الأعلى ، لا بالبناء ولا بغيره .
وأجازه الشّافعيّة ، متى كان المبيع حقّ البناء أو العلو : بأن قال له : بعتك حقّ البناء أو العلو للبناء عليه بثمن معلوم ، بخلاف ما إذا باعه وشرط أن لا يبني عليه ، أو لم يتعرّض للبناء عليه . لكن للمشتري أن ينتفع بما عدا البناء من مكث وغيره ، كما صرّح به السّبكيّ ، تبعا للماورديّ .
وأجازه الحنابلة ، ولو قبل بناء البيت الّذي اشترى علوه ، إذا وصف العلو والسّفل ليكونا معلومين ، ليبني المشتري أو يضع عليه بنيانا أو خشبا موصوفين ، وإنّما صحّ ذلك لأنّ العلو ملك للبائع ، فكان له بيعه ، والاعتياض عنه ، كالقرار .
وأمّا الحنفيّة : فقد ذهبوا إلى أنّ بيع حقّ التّعلّي غير جائز ، لأنّه ليس بمال ، ولا هو حقّ متعلّق بالمال ، بل حقّ متعلّق بالهواء ( أي الفراغ ) وليس الهواء ما لا يباع ، إذ المال ما يمكن قبضه وإحرازه . وصورته : أن يكون السّفل لرجل ، وعلوه لآخر ، فسقطا أو سقط العلو وحده فباع صاحب العلو علوه ، فإنّه لا يجوز ، لأنّ المبيع حينئذ ليس إلّا حقّ التّعلّي . وعلى هذا : فلو باع العلو قبل سقوطه جاز ، فإن سقط قبل القبض بطل البيع ، لهلاك المبيع قبل القبض ، وهو بعد سقوطه بيع لحقّ التّعلّي ، وهو ليس بمال . فلو كان العلو لصاحب السّفل فقال : بعتك علو هذا السّفل بكذا صحّ ، ويكون سطح السّفل لصاحب السّفل ، وللمشتري حقّ القرار ، حتّى لو انهدم العلو كان له أن يبني عليه علوا آخر ، مثل الأوّل ، لأنّ السّفل اسم لمبنى مسقّف ، فكان سطح السّفل سقفا للسّفل .
أحكام العلو والسّفل في الانهدام والبناء :
3 - ذهب الحنفيّة : إلى أنّ السّفل إن انهدم بنفسه بلا صنع صاحبه لم يجبر على البناء ، لعدم التّعدّي ، فلو هدمه يجبر على بنائه ، لأنّه تعدّى على صاحب العلو ، وهو قرار العلو ، ولذي العلو أن يبني السّفل ثمّ يرجع بما أنفق إن بنى بإذنه أو إذن قاض ، وإلا فبقيمة البناء يوم بنى . ومتى بنى صاحب العلو السّفل : كان له أن يمنع صاحب السّفل من السّكنى ، حتّى يدفع إليه مثل ما أنفقه في بناء سفله لكونه مضطرّاً .
فلكلّ منهما حقّ في ملك الآخر : لذي العلو حقّ قراره ، ولذي السّفل حقّ دفع المطر والشّمس عن السّفل ، ولو هدم ذو السّفل سفله وذو العلو علوه ، ألزم ذو السّفل ببناء سفله ، إذ فوّت على صاحب العلو حقّا ألحق بالملك ، فهو كما لو فوّت عليه ملكاً .
فإذا بنى ذو السّفل سفله وطلب من ذي العلو بناء علوه فإنّه يجبر ، لأنّ لذي السّفل حقّا في العلو ، وأمّا لو انهدم العلو بلا صنعه فلا يجبر لعدم تعدّيه ، كما لو انهدم السّفل بلا تعدّ ، وسقف السّفل لذي السّفل .
4 - وقال المالكيّة : إنّ السّفل إن وهى وأشرف على السّقوط وخيف سقوط بناء عليه لآخر غير صاحب السّفل - فإنّه يقضى على صاحب السّفل أن يعمّر سفله فإن أبى قضي عليه ببيعه لمن يعمّره ، فإن سقط الأعلى على الأسفل فهدمه أجبر ربّ الأسفل على البناء ، أو البيع ممّن يبني ، ليبني ربّ العلو علوه عليه . وعلى ذي السّفل التّعليق للأعلى - أي حمله على خشب ونحوه - حتّى يبني السّفل ، وعليه السّقف السّاتر لسفله ، إذ لا يسمّى السّفل بيتا إلّا به ، ولذا فإنّه يقضى به لصاحب السّفل عند التّنازع .
وأمّا البلاط الّذي فوقه : فهو لصاحب الأعلى .
ويقضى على ذي العلو بعدم زيادة بناء العلو على السّفل ، لأنّها تضرّ السّفل ، إلا الشّيء الخفيف الّذي لا يضرّ السّفل حالا ومآلا ، ويرجع في ذلك لأهل المعرفة .
5 - ويرى الشّافعيّة : أنّه لو انهدم حيطان السّفل لم يكن لصاحبه أن يجبر صاحب العلو على البناء قولاً واحداً ، لأنّ حيطان السّفل لصاحب السّفل ، فلا يجبر صاحب العلو على بنائه . وهل لصاحب العلو إجبار صاحب السّفل على البناء ؟ فيه قولان ، فإن قيل : يجبر ، ألزمه الحاكم ، فإن لم يفعل – وله مال – باع الحاكم عليه ماله ، وأنفق عليه ، وإن لم يكن له مال اقترض عليه . فإذا بنى الحائط كان الحائط ملكا لصاحب السّفل ، لأنّه بني له ، وتكون النّفقة في ذمّته ، ويعيد صاحب العلو غرفته عليه ، وتكون نفقة الغرفة وحيطانها من ملك صاحب العلو دون صاحب السّفل ، لأنّها ملكه ، لا حقّ لصاحب السّفل فيه . وأمّا السّقف فهو بينهما ، وما ينفق عليه فهو من مالهما ، فإن تبرّع صاحب العلو ، وبنى من غير إذن الحاكم ، لم يرجع صاحب العلو على صاحب السّفل بشيء . ثمّ ينظر : فإن كان قد بناها بآلتها كانت الحيطان لصاحب السّفل ، لأنّ الآلة كلّها له ، وليس لصاحب العلو منعه من الانتفاع بها ، ولا يملك نقضها ، لأنّها لصاحب السّفل ، وله أن يعيد حقّه من الغرفة . وإن بناها بغير آلتها كانت الحيطان لصاحب العلو ، وليس لصاحب السّفل أن ينتفع بها من غير إذن صاحب العلو ، ولكن له أن يسكن في قرار السّفل ، لأنّ القرار له ، ولصاحب العلو أن ينقض ما بناه من الحيطان ، لأنّه لا حقّ لغيره فيها ، فإن بذل صاحب السّفل القيمة ليترك نقضها لم يلزمه قبولها ، لأنّه لا يلزمه بناؤها قولاً واحداً ، فلا يلزمه تبقيتها ببذل العوض .
6 - وعند الحنابلة : إن كان السّفل لرجل والعلو لآخر ، فانهدم السّقف الّذي بينهما ، فطلب أحدهما المباناة من الآخر ، فامتنع ، فهل يجبر الممتنع على ذلك ؟ على روايتين . كالحائط بين البيتين . وإن انهدمت حيطان السّفل فطالبه صاحب العلو بإعادتها ، فعلى روايتين : إحداهما : يجبر . فعلى هذه الرّواية يجبر على البناء وحده ، لأنّه ملكه خاصّة .
والثّانية : لا يجبر ، وإن أراد صاحب العلو بناءه لم يمنع من ذلك على الرّوايتين جميعا ، فإن بناه بآلته فهو على ما كان ، وإن بناه بآلة من عنده فقد روي عن أحمد : لا ينتفع به صاحب السّفل ، يعني حتّى يؤدّي القيمة ، فيحتمل أن لا يسكن ، لأنّ البيت إنّما يبنى للسّكن فلم يملكه كغيره ، ويحتمل أنّه أراد الانتفاع بالحيطان خاصّة من طرح الخشب وسمر الوتد وفتح الطّاق ، ويكون له السّكنى من غير تصرّف في ملك غيره ، لأنّ السّكنى إنّما هي إقامته في الفناء بين الحيطان من غير تصرّف فيها ، فأشبه الاستظلال بها من خارج .
فأمّا إن طالب صاحب السّفل بالبناء ، وأبى صاحب العلو ، ففيه روايتان :
إحداهما : لا يجبر على بنائه ، ولا مساعدته لأنّ الحائط ملك صاحب السّفل مختصّ به ، فلم يجبر غيره على بنائه ولا المساعدة فيه ، كما لو لم يكن عليه علو .
والثّانية : يجبر على مساعدته والبناء معه ، وهو قول أبي الدّرداء ، لأنّه حائط يشتركان في الانتفاع به ، أشبه الحائط بين الدّارين .
جعل علو الدّار مسجداً :
7 - أجاز الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة جعل علو الدّار مسجداً ، دون سفلها ، والعكس ، لأنّهما عينان يجوز وقفهما ، فجاز وقف أحدهما دون الآخر ، كالعبدين .
ومن جعل مسجداً تحته سرداب أو فوقه بيت ، وجعل باب المسجد إلى الطّريق ، وعزله عن ملكه ، فلا يكون مسجداً ، فله أن يبيعه ، وإن مات يورث عنه لأنّه لم يخلص للّه تعالى ، لبقاء حقّ العبد متعلّقا به ولو كان السّرداب لمصالح المسجد جاز ، كما في مسجد بيت المقدس . هذا مذهب أبي حنيفة ، خلافاً لصاحبيه . وروى الحسن عن أبي حنيفة : أنّه يجوز جعل السّفل مسجدا وعليه مسكن ، ولا يجوز العكس ، لأنّ المسجد ممّا يتأبّد ، وروي عن محمّد : عكس هذا ، لأنّ المسجد معظّم ، وإذا كان فوقه مسكن أو مستغلّ فيتعذّر تعظيمه . وعن أبي يوسف أنّه جوّزه في الوجهين حين قدم بغداد ، ورأى ضيق المنازل ، فكأنّه اعتبر الضّرورة . أمّا لو تمّت المسجديّة ثمّ أراد البناء منع .
نقب كوّة العلو أو السّفل :
8 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : إلى أنّه ليس لصاحب علو تحته سفل لآخر أن ينقب كوّة في علوه ، وكذا العكس ، إلا برضا الآخر .
وذهب الصّاحبان : إلى أنّ لكلّ منهما فعل ما لا يضرّ بالآخر ، فإن أضرّ به منع منه ، كأن يشرف من الكوّة على جاره وعياله فيضرّ بهم ، والمختار أنّه إذا أشكل أنّه يضرّ أم لا ؟ لا يملك فتحها ، وإذا علم أنّه لا يضرّ يملك فتحها .
وذهب المالكيّة : إلى أنّه يقضى على من أحدث فتحها بسدّها إذا لم تكن عالية ، ويشرف منها على جاره . وأمّا القديمة فلا يقضى بسدّها ، ويقال للجار : استر على نفسك إن شئت ، فقد قال الدّسوقيّ من المالكيّة : إنّ الكوّة الّتي أحدث فتحها يقضى بسدّها ، وإن أريد سدّ خلفها فقط بعد الأمر بسدّها فإنّه يقضى بسدّ جميعها ، ويزال كلّ ما يدلّ عليها .
وهذا إذا كانت غير عالية لا يحتاج في كشف الجار منها إلى صعود على سلّم ونحوه ، وإلّا فلا يقضى بسدّها . وإذا سكت من حدث عليه فتح الكوّة ونحوها عشر سنين - ولم ينكر - جبر عليه ، ولا مقال له ، حيث لم يكن له عذر في ترك القيام ( الادّعاء ) وهذا قول ابن القاسم ، وبه القضاء .
تعلّي الذّمّيّ على المسلم في البناء :
9 - لا خلاف بين الفقهاء : في أنّ أهل الذّمّة ممنوعون من أن تعلو أبنيتهم على أبنية جيرانهم المسلمين ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أنّه قال « الإسلام يعلو ولا يعلى عليه » ولأنّ في ذلك رتبة على المسلمين ، وأهل الذّمّة ممنوعون من ذلك .
على أنّ بعض الحنفيّة قد ذهب : إلى أنّه إذا كان التّعلّي للحفظ من اللّصوص فإنّهم لا يمنعون منه ، لأنّ علّة المنع مقيّدة بالتّعلّي في البناء على المسلمين ، فإذا لم يكن ذلك - بل للتّحفّظ - فلا يمنعون .
10 - وأمّا مساواتهم في البناء ، فللفقهاء في ذلك قولان :
منعه بعض الحنفيّة ، وأجازه بعضهم . فقد أجازه المالكيّة ، والحنابلة ، وبعض الحنفيّة ، لأنّه ليس فيه استطالة على المسلمين . ومنعه بعض الحنفيّة ، واستدلّوا بقوله صلى الله عليه وسلم « الإسلام يعلو ولا يعلى عليه » ولأنّهم منعوا من مساواة المسلمين في لباسهم وشعورهم وركوبهم ، كذلك في بنائهم . وأصحّ قولي الشّافعيّة : المنع ، تمييزا بينهم ، ولأنّ القصد أن يعلو الإسلام ، ولا يحصل ذلك مع المساواة .
11 - أمّا لو اشترى الذّمّيّ دارا عالية مجاورة لدار مسلم دونها في العلو ، فللذّمّيّ سكنى داره ، ولا يمنع من ذلك ، ولا يلزمه هدم ما علا دار المسلم ، لأنّه لم يعل عليه شيئاً ، إلا أنّه ليس له الإشراف منها على دار المسلم ، وعليه أن يمنع صبيانه من طلوع سطحها إلا بعد تحجيره . أي بناء ما يمنع من الرّؤية .
فإن انهدمت دار الذّمّيّ العالية ثمّ جدّد بناءها ، لم يجز له أن يعلّي بناءها على بناء المسلم . وإن انهدم ما علا منها لم تكن له إعادته .
هذا ما عليه الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، وهو : المعتمد عند المالكيّة .
12 - وأمّا تعلية بنائه على من ليس مجاورا له من المسلمين - فإنّه لا يمنع منه ، لأنّ علوه إنّما يكون ضررا على المجاور لبنائه دون غيره عند الحنابلة ، وهو المعتمد عند الحنفيّة ، والمالكيّة ، ما لم يشرف منه على المسلمين . وللشّافعيّة في ذلك قولان :
أحدهما : عدم المنع ، وهو أصحّهما ، لأنّه يؤمن مع البعد بين البناءين أن يعلو على المسلمين ، ولانتفاء الضّرر .
والثّاني : المنع ، لما فيه من التّجمّل والشّرف ، ولأنّهم بذلك يتطاولون على المسلمين .
تعليق *
التّعريف :
1 - التّعليق في اللّغة : مصدر علّق ، يقال : علّق الشّيء بالشّيء ، ومنه ، وعليه تعليقاً : ناطه به . والتّعليق في الاصطلاح : هو ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى . ويسمّى يميناً مجازاً ، لأنّه في الحقيقة شرط وجزاء ، ولما فيه من معنى السّببيّة كاليمين . والتّعليق عند علماء الحديث : حذف راو أو أكثر من ابتداء السّند .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإضافة :
2 - الإضافة في اللّغة تأتي بمعنى : الضّمّ ، والإمالة ، والإسناد ، والتّخصيص .
وأمّا الإضافة في اصطلاح الفقهاء فإنّهم يستعملونها بمعنى : الإسناد والتّخصيص . فإذا قيل : الحكم مضاف إلى فلان ، أو صفته كذا ، كان ذلك إسنادا إليه . وإذا قيل : الحكم مضاف إلى زمان كذا ، كان تخصيصا له . والفرق بين الإضافة والتّعليق من وجهين :
أحدهما : أنّ التّعليق يمين ، وهي للبرّ إعدام موجب المعلّق ، ولا يفضي إلى الحكم .
أمّا الإضافة فلثبوت حكم السّبب في وقته ، لا لمنعه ، فيتحقّق السّبب بلا مانع ، إذ الزّمان من لوازم الوجود .
وثانيهما : أنّ الشّرط على خطر ، ولا خطر في الإضافة .
وفي هذين الفرقين منازعة تنظر في كتب الأصول .
ب - الشّرط :
3 - الشّرط - بسكون الرّاء - له عدد من المعاني ، ومن بين تلك المعاني : إلزام الشّيء والتزامه . قال في القاموس : الشّرط إلزام الشّيء والتزامه في البيع ونحوه ، كالشّريطة . وأمّا بفتح الرّاء فمعناه : العلامة ، ويجمع على أشراط . . كسبب وأسباب .
والشّرط في الاصطلاح نوعان :
الأوّل : الشّرط الشّرعيّ ، وهو ما يلزم من عدم العدم ، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته . وهو أنواع : شرط للوجوب ، وشرط للانعقاد ، وشرط للصّحّة ، وشرط للّزوم ، وشرط للنّفاذ . إلى غير ذلك من الشّروط الشّرعيّة المعتبرة .
والنّوع الآخر : الشّرط الجعليّ ، وهو : التزام أمر لم يوجد في أمر قد وجد بصفة مخصوصة - كما قال الحمويّ - وهو ما يشترطه المتعاقدان في تصرّفاتهما .
والفرق بين التّعليق والشّرط - كما قال الزّركشيّ - : أنّ التّعليق ما دخل على أصل الفعل بأداته كإن وإذا ، والشّرط ما جزم فيه بالأصل وشرط فيه أمر آخر .
وقال الحمويّ : الفرق أنّ التّعليق ترتيب أمر لم يوجد على أمر يوجد بإن أو إحدى أخواتها ، والشّرط التزام أمر لم يوجد في أمر وجد بصيغة مخصوصة .
ج - اليمين :
4 - اليمين والقَسَم والإيلاء والحلف ألفاظ مترادفة ، أو أنّ الحلف أعمّ .
ومعنى اليمين في اللّغة : الجهة والجارحة والقوّة والشّدّة ، ويسمّى به الحلف مجازاً .
وأمّا في الشّرع فهي : عبارة عن عقد قويّ به عزم الحالف على الفعل أو التّرك .
وقال البهوتيّ : إنّها توكيد الحكم المحلوف عليه بذكر معظّم على وجه مخصوص .
وبين التّعليق واليمين تشابه ، لأنّ كلا منهما فيه حمل للنّفس على فعل الشّيء أو تركه ، وما سمّي الحلف باللّه تعالى يميناً إلا لإفادته القوّة على المحلوف عليه من الفعل أو التّرك . واليمين تنقسم بحسب صيغتها إلى يمين منجّزة بالصّيغة الأصليّة لليمين ، نحو : واللّه لأفعلن . ويمين بالتّعليق ، وهي : أن يرتّب المتكلّم جزاء مكروهاً له في حالة مخالفة الواقع ، أو تخلّف المقصود . وتفصيله في مصطلح ( أيمان ) .
صيغة التّعليق :
5 - يكون التّعليق بكلّ ما يدلّ على ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى ، سواء أكان ذلك الرّبط بأداة من أدوات الشّرط ، أم بغيرها ممّا يقوم مقامها ، كما لو دلّ سياق الكلام على الارتباط دلالة كلمة الشّرط عليه .
ومثال الرّبط بين جملتي التّعليق بأداة من أدوات الشّرط : قول الزّوج لزوجته : إن دخلت الدّار فأنت طالق ، فقد رتّب وقوع الطّلاق على دخولها الدّار ، فإن دخلت وقع الطّلاق ، وإلا فلا . ومثال الرّبط بين جملتي التّعليق بلا أداة شرط : هو قول القائل مثلا : الرّبح الّذي سيعود إليّ من تجارتي هذا العام وقف على الفقراء ، فقد رتّب حصول الوقف على حصول الرّبح بلا أداة شرط ، لأنّ مثل هذا الأسلوب يقوم مقام أداة الشّرط .
والمراد بالشّرط الّذي تستعمل فيه أداته للرّبط بين جملتي التّعليق : الشّرط اللّغويّ ، لأنّ ارتباط الجملتين النّاشئ عنه كارتباط المسبّب بالسّبب .
أدوات التّعليق :
6 - المراد بها : كلّ أداة تدلّ على ربط حصول مضمون بحصول مضمون جملة أخرى ، سواء أكانت من أدوات الشّرط الجازمة أم من غيرها .
وتلك الأدوات كما جاء في المغني عند الكلام على تعليق الطّلاق بالشّرط ، إن ، وإذا ، ومتى ، ومن ، وأي ، و كلّما . وزاد النّوويّ في الرّوضة ، متى ما ، ومهما .
وزاد صاحب مسلم الثّبوت ، لو ، وكيف . وزاد السّرخسيّ في أصوله والبزدويّ في أصوله وصاحب فتح الغفّار وصاحب كشّاف القناع " حيث " ، وذكر صاحب فتح الغفّار وصاحب كشّاف القناع أيضا أن " أين " من صيغ التّعليق .
وزاد صاحب كشّاف القناع أيضاً " أنّى " ولم يفرّق بينها وبين " إن " . وفيما يلي بعض ما قاله العلماء في كلّ أداة من هذه الأدوات من حيث اللّغة ومن حيث التّعليق .
أ - إن :
7 - إن الشّرطيّة هي المستعملة في الرّبط بين جملتي التّعليق ، فإنّها أصل في التّعليق وفي حروف الشّرط وأدواته ، لتمحّضها للتّعليق والشّرط ، فليس لها معنى آخر سوى الشّرط والتّعليق ، بخلاف غيرها من أدوات الشّرط كإذا ومتى ، فإنّ لها معاني أخرى تستعمل فيها إلى جانب الشّرط . وتستعمل إن وغيرها من الأدوات الجازمة المشابهة لها في أمر متردّد على خطر الوجود ، أي : بين أن يكون وأن لا يكون . ولا تستعمل فيما هو قطعيّ الوجود ، أو قطعيّ الانتفاء ، إلا على تنزيلهما منزلة المشكوك لنكتة .
8 - ويترتّب على كون ( إن ) للشّرط المحض : أنّه لو علّق طلاق امرأته بعدم تطليقه لها ، بأن قال : إن لم أطلّقك فأنت طالق ، لم تطلق حتّى يموت أحدهما قبل أن يطلّقها ، لأنّ إن للشّرط ، وأنّه جعل عدم إيقاع الطّلاق عليها شرطاً ، ولا يتيقّن وجود هذا الشّرط ما بقيا حيّين ، فهو كقوله : إن لم آت البصرة فأنت طالق . ثمّ إن مات الزّوج وقع الطّلاق عليها قبل موته بقليل ، وليس لذلك القليل حدّ معروف . ولكن قبيل موته يتحقّق عجزه عن إيقاع الطّلاق عليها ، فيتحقّق شرط الحنث . فإن كان لم يدخل بها فلا ميراث لها ، وإن كان قد دخل بها ، فلها الميراث بحكم الفرار . وإن ماتت المرأة تطلق أيضا في إحدى الرّوايتين بلا فصل - كما في أصول السّرخسيّ - لأنّ فعل التّطليق لا يتحقّق بدون المحلّ ، وبفوات المحلّ يتحقّق الشّرط . وذكر ابن قدامة أنّه لو علّق الطّلاق بالنّفي بإحدى كلمات الشّرط ، كانت ( إن ) على التّراخي ، وأمّا غيرها ( كمتى ومن وكلّما وأيّ ) فإنّه يكون على الفور . والتّفصيل محلّه مصطلح : ( طلاق ) .
ب - إذا :
9 - ( إذا ) ترد في اللّغة على وجهين :
أحدهما : أن تكون للمفاجأة ، فتختصّ بالجمل الاسميّة ، ولا تحتاج إلى جواب ، ولا تقع في الابتداء ، ومعناها الحال لا الاستقبال .
ثانيهما : أن تكون لغير مفاجأة ، فالغالب أن تكون ظرفا للمستقبل مضمّنة معنى الشّرط . وخلاصة القول في إذا : أنّها تستعمل عند الكوفيّين في معنى الوقت ، وفي معنى الشّرط ، وإذا استعملت في معنى الشّرط سقط عنها معنى الوقت ، وصارت حرفا كإن ، وهو قول أبي حنيفة وقد سبق . وعند البصريّين هي حقيقة في الوقت ، وتستعمل في الشّرط مع بقاء الوقت ، وهو قول أبي يوسف ومحمّد ، فعندهما أنّها مثل متى ، أي لا يسقط عنها معنى الظّرف ، وعنده أنّها كإن في التّمحّض للشّرطيّة ، فلا يبقى فيها معنى الظّرف .
10 - ويترتّب على الخلاف بين قول أبي حنيفة وصاحبيه : أنّه لو قال : إذا لم أطلّقك فأنت طالق ، أو إذا ما لم أطلّقك فأنت طالق ، فإن عنى بها الوقت تطلق في الحال ، وإن عنى بها الشّرط لم تطلق حتّى تموت ، وإن لم تكن له نيّة لم تطلق حتّى تموت . وهذا على قول أبي حنيفة بناء على أنّ ( إذا ) إن استعملت في معنى الشّرط سقط عنها معنى الوقت ، وهو رأي الكوفيّين . وأمّا على قول أبي يوسف ومحمّد فإنّها تطلق في الحال عند عدم النّيّة ، بناء على رأي البصريّين في أنّ إذا تستعمل للوقت غالبا ، وتقرن بما ليس فيه معنى الخطر ، فإنّه يقال : الرّطب إذا اشتدّ الحرّ ، والبرد إذا جاء الشّتاء . ولا يستقيم مكانها إن .
وجاء في المغني : أيضا وجهان في ( إذا ) فيما لو قال : إذا لم تدخلي الدّار فأنت طالق . أحدهما : هي على التّراخي ، وهو قول أبي حنيفة ، ونصره القاضي ، لأنّها تستعمل شرطاً بمعنى إن . قال الشّاعر : استغنِ ما أغناك ربُّك بالغنى وإذا تصبك خصاصةٌ فتجمّل
فجزم بها كما يجزم بإن ، ولأنّها تستعمل بمعنى متى وإن ، وإذا احتملت الأمرين فاليقين بقاء النّكاح فلا يزول بالاحتمال .
والوجه الآخر : أنّها على الفور ، وهو قول أبي يوسف ومحمّد ، وهو المنصوص عن الشّافعيّ لأنّها اسم لزمن مستقبل ، فتكون كمتى . وأمّا المجازاة بها فلا تخرجها من موضوعها . وأمّا إذا علّق التّصرّف بإيجاد فعل بإذا ، كقوله مثلاً : إذا دخلت الدّار فأنت طالق ، فإنّها تكون على التّراخي كغيرها من أدوات التّعليق .
وقد اطّرد في عرف أهل اليمن - كما جاء في نهاية المحتاج - استعمالهم إلى بمعنى إذا كقولهم : إلى دخلت الدّار فأنت طالق . ولهذا ألحقها غير واحد بإذا في الاستعمال .
ج - متى :
11 - وهي اسم باتّفاق موضوع للدّلالة على الزّمان ثمّ ضمّن معنى الشّرط .
والفرق بين إذا ومتى : أنّ إذا تستعمل في الأمور الواجب وجودها ، كطلوع الشّمس ومجيء الغد ، بخلاف متى ، فإنّها تستعمل في الأمور المبهمة ، أي فيما يكون وفيما لا يكون ، بمعنى أنّها لا تخصّ وقتا دون وقت ، فلذلك كانت مشاركة ل ( إنْ ) في الإبهام ، ولهذا أيضا كانت المجازاة بها لازمة في غير موضع الاستفهام كإن ، إلا أنّ الفرق بين متى وإن أنّ ( متى ) يجازى بها مع بقاء معنى الوقت فيها ، وأمّا متى الاستفهاميّة فإنّها لا يجازى بها ، لأنّ الاستفهام عبارة عن طلب الفهم عن وجود الفعل ، فلا يستقيم في مقامه إضمار حرف إن .
قال ابن قدامة : لو علّق التّصرّف بإيجاد فعل بمتى فإنّها تكون على التّراخي ، فمن قال لزوجته : متى تدخلي الدّار فأنت طالق ، فإنّ الطّلاق لا يقع إلّا عند وجود الصّفة أو الفعل وهو الدّخول ، أمّا إذا علّق التّصرّف بنفي صفة بمتى ، كما إذا قال : متى لم أطلّقك فأنت طالق ، أو متى لم تدخلي الدّار فأنت طالق ، فإنّه إن مضى زمن عقيب اليمين لم تدخل فيه أو لم يطلّقها فيه فقد وجدت الصّفة ، فإنّها اسم لوقت الفعل ، فتقدّر به ويقع الطّلاق .
12 - ومثل متى في الحكم ( متى ما ) فكلّ ما قيل في متى يقال أيضاً في ( متى ما ) ، فحكمها في الشّرط كحكم متى بل أولى ، لأنّ اقتران ( ما ) بها يجعلها للجزاء المحض دون غيره كالاستفهام .
د - من :
13 - وهي اسم باتّفاق وضع للدّلالة على من يعقل ، ثمّ ضمّن معنى الشّرط .
وهي من صيغ العموم بوضع اللّغة ، وهي تعمّ بنفسها من غير احتياج إلى قرينة ، وهي كما قال البيضاويّ عامّة في العالمين أي : أولي العلم ، لتشمل العقلاء والذّات الإلهيّة ، لأنّ
( من ) تطلق على اللّه سبحانه وتعالى ، كما في قوله تعالى { وَمَنْ لَسْتُمْ لَه بِرَازِقين } واللّه سبحانه وتعالى يوصف بالعلم ولا يوصف بالعقل ، وهو معنى حسن غفل عنه الشّارحون ، كما قال الإسنويّ . قال عبد العزيز البخاريّ في كشف الأسرار شرح أصول البزدويّ ما نصّه : ومن وما يدخلان في هذا الباب أي باب الشّرط ، لإبهامها ، فإنّ كلّ واحد منهما لا يتناول عينا . وتحقيقه : أنّ ( من وما ) لإبهامهما دخلا في باب العموم ، فلمّا كان العموم في الشّرط مقصودا للمتكلّم ، وتخصيص كلّ واحد من الأفراد بالذّكر متعسّر أو متعذّر و ( من وما ) يؤدّيان هذا المعنى مع الإيجاز وحصول المقصود ، نابا مناب إن ، فقيل : من يأت أكرمه ، وما تصنع أصنع . والمسائل فيهما كثيرة مثل قوله : من دخل هذا الحصن فله رأس ، ومن دخل منكم الدّار فهو حرّ . وأمّا إذا كان للشّرط فهو اسم بمعنى أي : تقول : ما تصنع أصنع . وفي التّنزيل . { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أو نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيرٍ مِنْهَا أو مِثْلِها } { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ للناسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا } .
14 - وأمّا ( ما ) المصدريّة ، فإنّها تستعمل في الفقه ، ويقيّد بها التّصرّف تقييد إضافة لا تعليق ، كما جاء في البحر الرّائق وفتح القدير ، لأنّها تنوب عن ظرف الزّمان ، كما في قوله تعالى : { وَأَوصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيَّاً } أي مدّة دوامي حيّا .
وعلى هذا لو قال : أنت طالق ما لم أطلّقك ، وسكت ، وقع الطّلاق اتّفاقا بسكوته ، لأنّه ترتّب عليه إضافة الطّلاق إلى وقت لم يطلّقها فيه .
هـ - مهما :
15 - مهما اسم وضع للدّلالة على ما لا يعقل ، ثمّ ضمّن معنى الشّرط . وقد ذكر النّوويّ في الرّوضة : أنّ مهما من صيغ التّعليق ، نحو أن يقول : مهما دخلت الدّار فأنت طالق .
و - أيّ :
16 - وهي بحسب ما تضاف إليه ، ففي : أيّهم يقم أقم معه من باب ( من ) أي أنّها تستعمل فيمن يعقل ، وفي : أيّ الدّوابّ تركب أركب من باب ( ما ) أي من باب ما لا يعقل ، وفي : أيّ يوم تصم أصم من باب ( متى ) أي أنّها تدلّ على زمان مبهم ، وفي أيّ مكان تجلس أجلس من باب ( أين ) أي أنّها تدلّ على مكان مبهم .
وقد جاء في المغني والرّوضة ما يفيد أنّ حكم ( أيّ ) في التّعليق كحكم " متى ومن وكلّما " بمعنى أنّه لو علّق التّصرّف بنفي فعل بأيّ ، كما لو علّق الطّلاق على نفي الدّخول بأيّ ، بأن قال : أيّ وقت لم تدخلي فيه الدّار فأنت طالق ، فإنّه إن مضى زمن يمكنها فيه الدّخول - ولم تدخل - فإنّه يقع الطّلاق بعده على الفور .
وأمّا لو علّق الطّلاق على إيجاد فعل بأيّ ، فلا تفيد الفور كغيرها من أدوات التّعليق .
وجاء في تبيين الحقائق أنّ ( أيّ ) لا تعمّ بعموم الصّفة فلو قال : أيّ امرأة أتزوّجها فهي طالق ، فإنّ ذلك يتحقّق في امرأة واحدة فقط .
بخلاف كلمتي ( كلّ وكلّما ) فإنّهما تفيدان عموم ما دخلتا عليه كما سيأتي .
ز - كلّ وكلّما :
17 - كلمة ( كلّ ) تستعمل بمعنى الاستغراق بحسب المقام ، كقوله تعالى : { وَاللَّهُ بِكُلّ شَيءٍ عَليمٌ } وقد تستعمل بمعنى الكثير كقوله تعالى : { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي كثيرا ، لأنّها دمّرتهم ودمّرت مساكنهم دون غيرهم ، ولفظ ( كلّ ) لا يستعمل إلّا مضافا لفظا أو تقديرا ، ولفظه واحد ، ومعناه جمع ، ويفيد التّكرار بدخول ( ما ) عليه نحو : كلّما جاءك زيد فأكرمه .
18 - وكلمة ( كلّ ) من صيغ التّعليق عند الحنفيّة والمالكيّة وكذا عند الشّافعيّة إن قصد بها التّعليق دون المكافأة . ولم يفرّق الحنفيّة في تعليق الطّلاق ب ( كلّ ) بين ما إذا عمّم ، بأن قال : كلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق ، أو خصّص بأن قال : كلّ امرأة من بني فلان أو من بلد كذا . وأمّا المالكيّة فإنّهم يخالفون الحنفيّة في صورة التّعميم ، لأنّ فيه سدّاً لباب النّكاح ، ويتّفقون معه في صورة التّخصيص بأن يخصّ بلداً أو قبيلة أو جنساً أو زمناً يبلغه عمره ظاهرا . وذكر السّرخسيّ في أصوله أنّ كلمة ( كلّ ) توجب الإحاطة على وجه الإفراد ، ومعناه أنّ كلّ واحد من المسمّيات الّتي توصل بها كلمة كلّ يصير مذكورا على سبيل الانفراد ، كأنّه ليس معه غيره ، لأنّ هذه الكلمة صلة في الاستعمال ، حتّى لا تستعمل وحدها لخلوّها عن الفائدة ، وهي تحتمل الخصوص ، نحو كلمة ( من ) إلا أنّ معنى العموم فيها يخالف معنى العموم في كلمة ( من ) ولهذا استقام وصلها بكلمة من كقوله تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيها فَانٍ } حتّى لو وصلت باسم نكرة فإنّها تقتضي العموم في ذلك الاسم أيضا . ولهذا لو قال : كلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق تطلق كلّ امرأة يتزوّجها على العموم . ولو تزوّج امرأة مرّتين لم تطلق في المرّة الثّانية ، لأنّها توجب العموم فيما وصلت به من الاسم دون الفعل .
19 - والفرق بين كلمة " كلّ " وكلمة " من " فيما يرجع إلى الخصوص : هو أنّ كلمة كلّ وإن كانت الإحاطة فيها شاملة لكلّ فرد ، إلا أنّها تحتمل الخصوص ، ككلمة " من " كما لو قال : كلّ من دخل هذا الحصن أوّلا فله كذا ، فدخلوا على التّعاقب فالنّفل للأوّل خاصّة لاحتمال الخصوص في كلمة كلّ ، فإنّ الأوّل اسم لفرد سابق ، وهذا الوصف متحقّق فيه دون من دخل بعده . ومثل ذلك كلمة " من " في صورة التّعاقب .
20 - فإن دخلوا معا استحقّوا جميعا النّفل بكلمة " كلّ " دون كلمة " من " .
وأمّا كلمة " كلّما " فإنّها من صيغ التّعليق عند الفقهاء ، وهي تقتضي التّكرار والفور ، ويليها الفعل دون الاسم ، فتقتضي العموم فيه ، فلو قال : كلّما تزوّجت امرأة فهي طالق ، فتزوّج امرأة مراراً فإنّها تطلق في كلّ مرّة يتزوّجها ، لأنّها تقتضي العموم في الأفعال دون الأسماء ، بخلاف كلمة ( كلّ ) فإنّها تفيد العموم في الأسماء دون الأفعال .
ح - لو :
21 - تكون ( لو ) حرف شرط في المستقبل ، إلا أنّها لا تجزم ، ومثالها قوله تعالى :
{ وَلْيَخْشَ الَّذينَ لو تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافَاً خَافُوا عَليهمْ } أي : وليخش الّذين إن شارفوا وقاربوا أن يتركوا . وإنّما أوّلوا التّرك بمشارفة التّرك ، لأنّ الخطاب للأوصياء ، وإنّما يتوجّه إليهم قبل التّرك ، لأنّهم بعده أموات .
وأمّا من حيث تعليق التّصرّف " بلو " فقد أجاز الفقهاء - كأبي يوسف - تعليقه بها ، لشبهها " بإن " فإنّ لو تستعمل في معنى الشّرط ولا يليها دائما إلّا الفعل كإن ، ولورود استعمال كلّ منهما في معنى الأخرى ، إلا أنّ " لو " تفيد التّقييد في الماضي " وإن " تفيده في المستقبل . إلا أنّ الفقهاء لم ينظروا إلى هذه النّاحية ، وعاملوها كإن في التّعليق ، فمن قال لعبده : لو دخلت الدّار لتعتق ، فإنّه لا يعتق حتّى يدخل صونا للكلام عن الإهمال ، حتّى إنّ من الفقهاء من عاملها معاملة " إن " مطلقا وأجاز اقتران جوابها بالفاء ، ولم ينظر إلى عدم جواز ذلك عند النّحاة ، لأنّ العامّة تخطئ وتصيب في الإعراب ، فمن قال لرجل : زنيت بكسر التّاء ، أو قال لامرأة : زنيت بفتحها ، وجب حدّ القذف في الصّورتين .
22 - وتستعمل " لو " في الاستقبال لمؤاخاتها لإن ، كأن يقال : لو استقبلت أمرك بالتّوبة لكان خيرا لك ، أي إن استقبلت ، وقال تعالى : { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلو أَعْجَبَكُمْ } أي وإن أعجبكم ، كما أنّ " إن " استعلمت بمعنى " لو " كقوله تعالى : { إنْ كُنْتُ قُلْتُه فَقَدْ عَلِمْتَه } وعلى هذا فمن قال لزوجته : أنت طالق لو دخلت الدّار ، فإنّها لا تطلق عند أبي يوسف حتّى تدخل الدّار ، لأنّ لو بمنزلة إن ، فتفيد معنى التّرقّب . وليس في هذه المسألة نصّ عن أبي حنيفة ، ولم يرو فيها شيء عن محمّد ، فهي من النّوادر .
23 - أمّا " لولا " وهي الّتي تفيد امتناع الثّاني لوجود الأوّل ، فإنّها ليست من صيغ التّعليق عند الفقهاء ، لأنّها وإن كان فيها معنى الشّرط فإنّ الجزاء فيها لا يتوقّع حصوله ، لأنّها لا تستعمل إلّا في الماضي ، ولا علاقة لها بالزّمن المستقبل ، فهي عندهم بمعنى الاستثناء لأنّها تستعمل لنفي شيء بوجود غيره ، فمن قال لزوجته : أنت طالق لولا حسنك ، أو لولا صحبتك ، لا يقع الطّلاق حتّى وإن زال الحسن أو انتفت الصّحبة ، لجعله ذلك مانعا من وقوع الطّلاق .
ط - كيف :
24 - " كيف " تستعمل في اللّغة على وجهين : أحدهما : أن تكون شرطاً .
والثّاني : وهو الغالب فيها : أن تكون استفهاما ، إمّا حقيقيّا نحو " كيف زيد ؟ " أو غيره نحو { كيفَ تَكْفُرونَ بِاللَّهِ } الآية ، فإنّه أخرج مخرج التّعجّب ، وتقع خبرا قبل ما لا يستغنى ، نحو " كيف أنت ؟ " " وكيف كنت ؟ " ، وحالا قبل ما يستغنى ، نحو " كيف جاء زيد ؟ " أي على أيّ حالة جاء زيد .
وأمّا الفقهاء فإنّهم لم يخرجوا في استعمالهم لكيف عمّا ذكرته اللّغة بشأنها .
فذهب أبو حنيفة إلى أنّ تعليق الحكم بكيف لا يؤثّر في أصل التّصرّف ، وإنّما يؤثّر في صفته . وذهب أبو يوسف ومحمّد إلى أنّ تعليق الحكم بها يؤثّر في الأصل والوصف معاً . وعلى هذا فقد قال أبو حنيفة فيمن قال لامرأته : أنت طالق كيف شئت أنّها تطلق قبل المشيئة تطليقة ، ثمّ إن لم تكن مدخولا بها فقد بانت لا إلى عدّة ، ولا مشيئة لها ، وإن كانت مدخولا بها فالتّطليقة الواقعة رجعيّة ، والمشيئة إليها في المجلس بعد ذلك .
فإن شاءت البائنة - وقد نواها الزّوج - كانت بائنة ، أو إن شاءت ثلاثاً - وقد نواها الزّوج - تطلق ثلاثاً ، وإن شاءت واحدة بائنة - وقد نوى الزّوج ثلاثاً - فهي واحدة رجعيّة ، وإن شاءت ثلاثاً - وقد نوى الزّوج واحدة بائنة - فهي واحدة رجعيّة ، لأنّها شاءت غير ما نوى ، وأوقعت غير ما فوّض إليها ، فلا يعتبر ، لأنّه إنّما يتأخّر إلى مشيئتها ما علّقه الزّوج بمشيئتها دون ما لم يعلّقه ، وكلمة " كيف " لا ترجع إلى أصل الطّلاق ، فيكون هو منجّزا أصل الطّلاق ومفوّضا للصّفة إلى مشيئتها ، بقوله : كيف شئت . إلا أنّ في غير المدخول بها لا مشيئة لها في الصّفة بعد إيقاع الأصل ، فيلغو تفويضه الصّفة إلى مشيئتها بعد إيقاع الأصل ، وفي المدخول بها ، لها المشيئة في الصّفة بعد وقوع الأصل ، بأن تجعله بائنا أو ثلاثا على ما عرف ، فيصحّ تفويضه إليها .
وأمّا عند أبي يوسف ومحمّد : فلا يقع عليها شيء ما لم تشأ ، فإذا شاءت فالتّفريع كما قال أبو حنيفة ، لأنّه جعل الطّلاق مفوّضا إلى مشيئتها فلا يقع بدون تلك المشيئة ، كقوله : أنت طالق إن شئت ، أو كم شئت ، أو حيث شئت ، لا يقع شيء ما لم تشأ ، وهذا لأنّه لمّا فوّض وصف الطّلاق إليها يكون ذلك تفويضا لنفس الطّلاق إليها ضرورة أنّ الوصف لا ينفكّ عن الأصل . ولم نطّلع للمالكيّة على كلام في هذه المسألة .
وأمّا الشّافعيّة : فلهم رأيان في هذه المسألة .
فقد ذكر البغويّ أنّه لو قال : أنت طالق كيف شئت ، قال أبو زيد والقفّال : تطلق شاءت أم لم تشأ . وقال الشّيخ أبو عليّ : لا تطلق حتّى توجد مشيئة في المجلس بالإيقاع أو عدمه .
وأمّا الحنابلة : فإنّهم لم يفرّقوا في هذه المسألة بين " كيف " وبين غيرها من أدوات التّعليق ، فالطّلاق عندهم لا يقع حتّى تعرف مشيئتها بقولها ، فقد جاء في كشّاف القناع أنّه لو قال : أنت طالق إن شئت أو إذا شئت ، أو متى شئت ، أو كيف شئت . . إلخ لم تطلق حتّى تقول : قد شئت ، لأنّ ما في القلب لا يعلم حتّى يعبّر عنه اللّسان .
ي - حيث ، وأين :
25 - " حيث " اسم للمكان المبهم . قال الأخفش : وقد تكون للزّمان .
" وحيث " من صيغ التّعليق ، لشبهها " بإن " في الإبهام ، وتعليق التّصرّف بها لا يتعدّى مجلس التّخاطب تشبيها لها ب " إن " أيضاً ، فإنّ تعليق الطّلاق مثلا بمشيئة المرأة ب " إن " لا يتعدّى مجلس التّخاطب عند الحنفيّة .
فلو قال لامرأته : أنت طالق حيث شئت ، فإنّها لا تطلق قبل المشيئة ، وتتوقّف مشيئتها على المجلس ، لأنّ " حيث " من ظروف المكان ، ولا اتّصال للطّلاق بالمكان ، فيلغو ذكره ، ويبقى ذكر المشيئة في الطّلاق ، فيقتصر على المجلس .
وأورد البهوتيّ " حيث " في صيغ التّعليق ، وأنّها تعامل معاملة غيرها من أدوات التّعليق ، فتعلّق الحكم بها لا يكون قاصرا على المجلس عند الحنابلة ، بل يتعدّاه إلى غيره . فلو قال : أنت طالق حيث شئت ، فإنّها لا تطلق حتّى تعرف مشيئتها بقولها ، سواء أكان ذلك على الفور أم على التّراخي . ولم يذكرها المالكيّة ، ولا النّوويّ من الشّافعيّة في الرّوضة .
26 - ومثل " حيث " فيما تقدّم أين ، فإنّها أيضا اسم للمكان المبهم ، وذكرها صاحب فتح الغفّار وعدّها من أدوات التّعليق ، وذكرها أيضا صاحب كشّاف القناع ولم يفرّق بينها وبين " إن " في الحكم .
ك - أنّى :
27 - وهي اسم اتّفاقا وضع للدّلالة على الأمكنة ثمّ ضمّن معنى الشّرط ، وترد في اللّغة بمعنى أين ، وبمعنى كيف ، وبمعنى متى .
هذا وقد ذكر الحنابلة في كتبهم : أنّها من الألفاظ الّتي يعلّق بها الحكم ، فقد جاء في كشّاف القناع : أنّه لو قال : أنت طالق أنّى شئت ، فإنّها لا تطلق حتّى تعرف مشيئتها بقولها ، ولم يفرّق بينها وبين ( إن ) لأنّ كلّا منهما تدلّ على التّعليق .
ثالثاً : شروط التّعليق :
28 - يشترط لصحّة التّعليق أمور :
الأوّل : أن يكون المعلّق عليه أمراً معدوماً على خطر الوجود ، أي متردّداً بين أن يكون وأن لا يكون ، فالتّعليق على المحقّق تنجيز ، وعلى المستحيل لغو .
الثّاني : أن يكون المعلّق عليه أمراً يرجى الوقوف على وجوده ، فتعليق التّصرّف على أمر غير معلوم لا يصحّ ، فلو علّق الطّلاق مثلاً على مشيئة اللّه تعالى ، بأن قال لامرأته : أنت طالق إن شاء اللّه ، فإنّ الطّلاق لا يقع اتّفاقاً ، لأنّه علّقه على شيء لا يرجى الوقوف على وجوده .
الثّالث : أن لا يوجد فاصل بين الشّرط والجزاء ، أي بين المعلّق والمعلّق عليه ، فلو قال لزوجته : أنت طالق ، ثمّ قال بعد فترة من الزّمن : إن خرجت من الدّار دون إذن منّي لم يكن تعليقا للطّلاق ، ويكون الطّلاق منجّزا بالجملة الأولى .
الرّابع : أن يكون المعلّق عليه أمرا مستقبلا بخلاف الماضي ، فإنّه لا مدخل له في التّعليق ، فالإقرار مثلا لا يصحّ تعليقه بالشّرط ، لأنّه إخبار عن ماض ، والشّرط إنّما يتعلّق بالأمور المستقبلة .
الخامس : أن لا يقصد بالتّعليق المجازاة ، فلو سبّته بما يؤذيه فقال : إن كنت كما قلت فأنت طالق ، تنجّز سواء أكان الزّوج كما قالت أو لم يكن ، لأنّ الزّوج في الغالب لا يريد إلا إيذاءها بالطّلاق . فإن أراد التّعليق يدين فيما بينه وبين اللّه عزّ وجلّ .
السّادس : أن يوجد رابط كالفاء وإذا الفجائيّة حيث كان الجزاء مؤخّرا ، وإلا يتنجّز .
السّابع : أن يكون الّذي يصدر منه التّعليق مالكا للتّنجيز أي قادرا على التّنجيز - بمعنى كون الزّوجيّة قائمة حقيقة أو حكماً - وهذا الشّرط فيه خلاف ، فالحنفيّة والمالكيّة لا يشترطون ذلك في تعليق الطّلاق ، بل يكتفون فيه بمطلق الملك ، سواء أكان محقّقا أم معلّقاً حتّى إنّ المالكيّة لم يفرّقوا في هذا بين التّعليق الصّريح فيما لو قال لامرأة : إن تزوّجتك فأنت طالق ، وبين التّعليق الّذي لم يصرّح به ، كما لو قال لأجنبيّة : هي طالق ، ونوى عند تزوّجه بها ، فإنّ الطّلاق يقع في الصّورتين .
29 - ودليل أصحاب هذا القول : أنّ هذا التّصرّف يمين لوجود الشّرط والجزاء ، فلا يشترط لصحّته قيام الملك في الحال ، لأنّ الوقوع عند الشّرط ، والملك متيقّن به عند وجود الشّرط ، وقبل ذلك أثره المنع ، وهو قائم بالمتصرّف .
وأمّا الشّافعيّة والحنابلة : فإنّهم يشترطون لصحّة التّعليق قيام الملك في حال التّعليق ، بمعنى أن يكون الّذي يصدر منه التّعليق قادرا على التّنجيز ، وإلا فلا يصحّ تعليقه . والقاعدة الفقهيّة عندهم هي : من ملك التّنجيز ملك التّعليق ، ومن لا يملك التّنجيز لا يملك التّعليق . وهناك استثناءات من القاعدة بشقّيها ذكرها السّيوطيّ .
ودليل أصحاب هذا القول ما رواه أحمد وأبو داود والتّرمذيّ بإسناد جيّد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم « لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ، ولا عتق له فيما لا يملك ، ولا طلاق له فيما لا يملك » . وحديث : « لا طلاق إلّا بعد نكاح » وقد روى هذا الحديث أيضا الدّارقطنيّ وغيره من حديث عائشة رضي الله عنه وزاد :
« وإن عيّنها » . ولانتفاء الولاية من القائل على محلّ الطّلاق ، وهو الزّوجة .
أثر التّعليق على التّصرّفات :
30 - هناك مسألة أصوليّة هامّة هي : أنّ التّعليق هل يمنع السّبب عن السّببيّة أو يمنع الحكم عن الثّبوت فقط ، لا السّبب عن الانعقاد ؟ والخلاف في هذه المسألة بين الحنفيّة والشّافعيّة . فالحنفيّة يرون أنّ التّعليق يمنع السّبب عن السّببيّة كما يمنع الحكم عن الثّبوت. والشّافعيّة يرون أنّ التّعليق لا يمنع السّبب عن السّببيّة ، وإنّما يمنع الحكم من الثّبوت فقط ، ولا يمنع السّبب عن الانعقاد . فكون التّعليق يمنع ثبوت الحكم محلّ اتّفاق بين الحنفيّة والشّافعيّة ، وكونه يمنع السّبب عن السّببيّة هو محلّ الخلاف .
فالحنفيّة يرون أنّه يمنع ، والشّافعيّة على العكس في ذلك . وممّا يتفرّع عليه تعليق الطّلاق والعتاق بالملك ، فإنّه يصحّ عند الحنفيّة ويقع عند وجود الملك ، لعدم سببيّته في الحال ، وإنّما يصير سببا عند وجود الشّرط وهو الملك ، فيصادف محلاً مملوكاً .
ولا يصحّ عند الشّافعيّة ، لأنّ التّعليق عندهم ينعقد سببا للحكم في الحال ، والمحلّ هنا غير مملوك ، فيلغو ، ولا يقع شيء عند وجود الشّرط .
31 - التّصرّفات من حيث قبولها التّعليق أو عدم قبولها له على ضربين :
أحدهما : تصرّفات تقبل التّعليق وهي . الإيلاء والتّدبير والحجّ والخلع والطّلاق والظّهار والعتق والكتابة والنّذر والولاية .
الثّاني : تصرّفات لا تقبل التّعليق وهي : الإجارة والإقرار والإيمان باللّه تعالى ، والبيع والرّجعة والنّكاح والوقف والوكالة . وضابط ذلك : أنّ ما كان تمليكاً محضاً لا مدخل للتّعليق فيه قطعاً كالبيع ، وما كان حلا - أي إسقاطاً - محضاً يدخله التّعليق قطعاً كالعتق .
وبين المرتبتين مراتب يجري فيها الخلاف كالفسخ والإبراء ، لأنّهما يشبهان التّمليك ، وكذلك الوقف ، وفيه شبه يسير بالعتق فجرى فيه وجه ضعيف . وتفصيل ذلك فيما يلي :
أوّلا : التّصرّفات الّتي تقبل التّعليق :
أ - الإيلاء :
32 - الإيلاء يقبل التّعليق على الشّرط عند الفقهاء ، كأن يقول : إن دخلت الدّار فواللّه لا أقربك ، فإنّه يصير موليا عند وجود الشّرط لأنّ الإيلاء يمين يحتمل التّعليق بالشّرط كسائر الأيمان . وذكر الزّركشيّ في المنثور أنّ الإيلاء من التّصرّفات الّتي تقبل التّعليق على الشّرط ولا تقبل الشّرط ، فلا يصحّ قوله : آليت منك بشرط كذا . والتّفصيل محلّه مصطلح ( إيلاء )
ب - الحجّ :
33 - ذكر الزّركشيّ في المنثور أنّ الحجّ يصحّ تعليقه ، كأن يقول : إن أحرم فلان فقد أحرمت . ويقبل الشّرط كأن يقول : أحرمت على أنّي إذا مرضت فأنا حلال .
والتّفصيل محلّه مصطلح ( حجّ ) .
ج - الخلع :
34 - الخلع إن كان من جانب الزّوجة ، بأن كانت هي البادئة بسؤال الطّلاق ، فإنّه لا يقبل التّعليق عند الحنفيّة والشّافعيّة ، لأنّ الخلع من جانبها معاوضة . وإن كان من جانب الزّوج فإنّه يقبل التّعليق عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، لأنّ الخلع من جانبه طلاق ، ومثله الطّلاق على مال . وأمّا الحنابلة فلم يجوّزوا تعليق الخلع قياساً على البيع .
وذكر الزّركشيّ في المنثور : أنّ الخلع إن جعلناه طلاقا فإنّه يقبل التّعليق على الشّروط ولا يقبل الشّرط . والتّفصيل محلّه مصطلح ( خلع ) .
د - الطّلاق :
35 - مجمل ما قاله الفقهاء في الطّلاق هو أنّ الطّلاق يقبل التّعليق اتّفاقاً ، ويقع بحصول المعلّق عليه . وذكر الزّركشيّ في المنثور : أنّ الطّلاق من التّصرّفات الّتي تقبل التّعليق على الشّرط ولا تقبل الشّرط .
والفقهاء يذكرون مسائل كثيرة في تعليق الطّلاق ، كتعليقه على المشيئة أو الحمل أو الولادة أو على فعل غيره ، وتعليقه على الطّلاق نفسه ، وتعليقه على أمر مستقبل أو أمر يستحيل وقوعه ، وغيرها من المسائل الّتي يطول الكلام بذكرها فليرجع لتفصيلها إلى ( الطّلاق ) .
هـ - الظّهار :
36 - يصحّ تعليق الظّهار باتّفاق الفقهاء ، وذلك لأنّ الظّهار يقتضي التّحريم كالطّلاق ، ويقتضي الكفّارة كاليمين . وكلّ من الطّلاق واليمين يصحّ تعليقه . فمن قال لزوجته : أنت عليّ كظهر أمّي إن دخلت الدّار ، لا يصير مظاهراً منها قبل دخولها الدّار .
وذكر الزّركشيّ في المنثور : أنّ الظّهار كالطّلاق في كونه يقبل التّعليق على الشّرط ولا يقبل الشّرط . والتّفصيل محلّه مصطلح ( ظهار ) .
و - العتق :
37 - اتّفق الفقهاء على صحّة تعليق العتق بالشّرط والصّفة ، على تفصيل فيهما ينظر في مصطلح ( عتق ) .
ز - المكاتبة :
38 - يجوز تعليق المكاتبة بالشّرط ، وفي ذلك تفصيل سبق في مصطلح ( إسقاط ) وراجع مصطلح ( مكاتبة ) .
ح - النّذر :
39 - اتّفق الفقهاء على جواز تعليق النّذر بالشّرط ، ولا يجب الوفاء قبل حصول المعلّق عليه ، لعدم وجود سبب الوفاء ، فمتى وجد المعلّق عليه وجد النّذر ولزم الوفاء به .
على تفصيل في ذلك في مصطلح ( نذر ) .
ط - الولاية :
40 - ويمثّل لها بالإمارة والقضاء والوصاية ، أمّا الإمارة والقضاء فيجوز تعليقهما بالشّرط لأنّهما ولاية محضة . وتفصيل ذلك محلّه مصطلح ( إمارة ) ومصطلح ( قضاء ) .
وأمّا الوصاية فيجوز عند الحنفيّة في ظاهر المذهب ، وعند الشّافعيّة والحنابلة تعليقها بالشّرط لقربها من الإمارة ، فإذا قال : إذا متّ ففلان وصيّي ، فإنّ المذكور يصير وصيّا عند وجود الشّرط للخبر الصّحيح « فإن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر ، فإن قتل أو استشهد فأميركم عبد اللّه بن رواحة » .
وأمّا المالكيّة فإنّهم لم يصرّحوا بجواز تعليقها . والتّفصيل محلّه مصطلح ( وصاية ) .
ثانياً - التّصرّفات الّتي لا تقبل التّعليق :
أ - الإجارة :
41 - لا يجوز الإجارة على الشّرط بالاتّفاق بين الفقهاء وذلك لأنّ منفعة العين المؤجّرة تنقل ملكيّتها في مدّة الإجارة من المؤجّر إلى المستأجر . وانتقال الأملاك لا يكون إلّا مع الرّضا ، والرّضا إنّما يكون مع الجزم ، ولا جزم مع التّعليق .
ب - الإقرار :
42 - لا يجوز تعليق الإقرار على الشّرط بالاتّفاق ، لأنّ المقرّ يعتبر بذلك مقرّا في الحال ، ولأنّ التّعليق على الشّرط في معنى الرّجوع عن إقرار ، والإقرار في حقوق العباد لا يحتمل الرّجوع ، ولأنّ الإقرار إخبار عن حقّ سابق فلا يصحّ تعليقه ، لوجوبه قبل الشّرط . والتّفصيل في مصطلح ( إقرار ) .
ج - الإيمان باللّه تعالى :
43 - الإيمان باللّه تعالى لا يقبل التّعليق على الشّرط ، فإذا قال : إن كنت في هذه القضيّة كاذبا فأنا مسلم ، فإنّه إن كان كذلك لا يحصل له إسلام ، لأنّ الدّخول في الدّين يفيد الجزم بصحّته ، والمعلّق ليس بجازم . والتّفصيل في مصطلح ( إيمان ) .
د - البيع :
44 - لا يجوز في الجملة تعليق البيع على الشّرط بالاتّفاق ، وذلك لأنّ البيع فيه انتقال للملك من طرف إلى طرف ، وانتقال الأملاك إنّما يعتمد الرّضا ، والرّضا يعتمد الجزم ، ولا جزم مع التّعليق . والتّفصيل في مصطلح ( بيع )
هـ - الرّجعة :
45 - لا يجوز تعليق الرّجعة على شرط عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
وأمّا المالكيّة فذكروا في إبطال الرّجعة إن علّقت - بأن قال لزوجته : إن جاء الغد فقد راجعتك - قولين :
أحدهما : وهو الأظهر ، أنّها لا تصحّ الآن ولا غداً ، لأنّه ضرب من النّكاح ، وهو لا يكون لأجل ، ولافتقارها لنيّة مقارنة .
والثّاني : أنّها تبطل الآن فقط ، وتصحّ رجعته في الغد ، لأنّ الرّجعة حقّ للزّوج فله تعليقها . والتّفصيل في مصطلح ( رجعة ) .
و - النّكاح :
46 - لا يجوز تعليق النّكاح على شرط عند الحنفيّة والمالكيّة ، والمذهب عند الشّافعيّة . وأمّا الحنابلة فلا يجوز عندهم تعليق ابتداء النّكاح على شرط مستقبل غير مشيئة اللّه ، لأنّه - كما جاء في كشّاف القناع - عقد معاوضة فلا يصحّ تعليقه على شرط مستقبل كالبيع . والتّفصيل في مصطلح ( نكاح ) .
ز - الوقف :
47 - لا يجوز عند الحنفيّة تعليق الوقف على شرط ، مثل أن يقول : إن قدم ولدي فداري صدقة موقوفة على المساكين ، لاشتراطهم التّنجيز فيه .
وأمّا المالكيّة فجوّزوا تعليقه لعدم اشتراطهم التّنجيز فيه قياساً على العتق .
وأمّا الشّافعيّة : فلا يجوز عندهم ولا يصحّ تعليق الوقف فيما لا يضاهي التّحرير ، كقوله : إذا جاء زيد فقد وقفت كذا على كذا ، لأنّه عقد يقتضي نقل الملك في الموقوف للّه تعالى أو للموقوف عليه حالا كالبيع والهبة .
أمّا ما يضاهي التّحرير ، كجعلته مسجدا إذا جاء رمضان ، فالظّاهر صحّته كما ذكر ابن الرّفعة . ومحلّ ذلك ما لم يعلّقه بالموت ، فإن علّقه به كوقفت داري بعد موتي على الفقراء فإنّه يصحّ . قاله الشّيخان ، وكأنّه وصيّة لقول القفّال : لو عرضها للبيع كان رجوعاً .
وأمّا الحنابلة : فلم يجوّزوا تعليق ابتداء الوقف على شرط في الحياة ، مثل أن يقول : إذا جاء رأس الشّهر فداري وقف أو فرسي حبيس ، ونحو ذلك ، ولأنّه نقل للملك فيما لم يبن على التّغليب والسّراية فلم يجز تعليقه على شرط كالهبة . وذكر ابن قدامة أنّه لا يعلم في هذا خلافاً . وسوّى المتأخّرون من الحنابلة بين تعليقه بالموت وتعليقه بشرط في الحياة . وأمّا تعليق انتهاء الوقف بوقت كقوله : داري وقف إلى سنة ، أو إلى أن يقدم الحاجّ ، فلا يصحّ في أحد الوجهين ، لأنّه ينافي مقتضى الوقف وهو التّأبيد .
وفي الوجه الآخر : يصحّ لأنّه منقطع الانتهاء .
ح - الوكالة :
48 - يجوز عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة تعليق الوكالة على شرط ، كأن يقول : إن قدم زيد فأنت وكيلي في بيع كذا ، لأنّ التّوكيل - كما يقول الكاسانيّ - إطلاق التّصرّف ، والإطلاقات ممّا يحتمل التّعليق بالشّرط ، ولأنّ شروط الموكّل عندهم معتبرة ، فليس للوكيل أن يخالفها ، فلو قيّد الوكالة بزمان أو مكان ونحو ذلك فليس للوكيل مخالفة ذلك .
وذكر الشّافعيّة في تعليق الوكالة بشرط من صفة أو وقت وجهين : أصحّهما : لا يصحّ قياسا على سائر العقود باستثناء الوصيّة لقبولها الجهالة ، وباستثناء الإمارة للحاجة . وثانيهما : تصحّ قياسا على الوصيّة .
تعليل *
التّعريف :
1 - التّعليل لغة : من علّ يعلّ واعتلّ أي : مرض فهو عليل .
والعلّة : المرض الشّاغل . والجمع علل . والعلّة في اللّغة أيضا : السّبب .
واصطلاحاً : تقرير ثبوت المؤثّر لإثبات الأثر وقيل : إظهار علّيّة الشّيء ، سواء أكانت تامّة أم ناقصة . والعلّة عرّفها الأصوليّون بقولهم : العلّة هي الوصف الظّاهر المنضبط الّذي يلزم من ترتيب الحكم عليه مصلحة للمكلّف من دفع مفسدة أو جلب منفعة .
وللعلّة أسماء منها : السّبب والباعث والحامل والمناط والدّليل والمقتضي وغيرها . وتستعمل العلّة أيضا بمعنى : السّبب ، لكونه مؤثّرا في إيجاب الحكم ، كالقتل العمد العدوان سبب في وجوب القصاص .
كما تستعمل العلّة أيضا بمعنى : الحكمة ، وهي الباعث على تشريع الحكم أو المصلحة الّتي من أجلها شرع الحكم . وتفصيل ذلك ينظر في الملحق الأصوليّ .
تعليل الأحكام :
2 - الأصل في أحكام العبادات عدم التّعليل ، لأنّها قائمة على حكمة عامّة ، وهي التّعبّد دون إدراك معنى مناسب لترتيب الحكم عليه .
وأمّا أحكام المعاملات والعادات والجنايات ونحوها ، فالأصل فيها : أن تكون معلّلة ، لأنّ مدارها على مراعاة مصالح العباد ، فرتّبت الأحكام فيها على معان مناسبة لتحقيق تلك المصالح . والأحكام التّعبّديّة لا يقاس عليها لعدم إمكان تعدية حكمها إلى غيرها .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( تعبّديّ ) .
فوائد تعليل الأحكام :
3 - لتعليل الأحكام فوائد منها : أنّ الشّريعة جعلت العلل معرّفة ومظهرة للأحكام كي يسهل على المكلّفين الوقوف عليها والتزامها . ومنها أن تصير الأحكام أقرب إلى القبول والاطمئنان . وتفصيل ذلك ينظر في الملحق الأصوليّ .
تعليل النّصوص :
4 - اختلف الأصوليّون في تعليل النّصوص على أربعة اتّجاهات :
أ - أنّ الأصل عدم التّعليل ، حتّى يقوم الدّليل عليه .
ب - أنّ الأصل التّعليل بكلّ وصف صالح لإضافة الحكم إليه ، حتّى يوجد مانع عن البعض . ج - أنّ الأصل التّعليل بوصف ، ولكن لا بدّ من دليل يميّز الصّالح من الأوصاف للتّعليل وغير الصّالح .
د - أنّ الأصل في النّصوص التّعبّد دون التّعليل .
وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( تعبّديّ ) وفي الملحق الأصوليّ .
مسالك العلّة :
5 - وهي الطّرق الّتي يسلكها المجتهد للوقوف على علل الأحكام .
المسلك الأوّل : النّصّ الصّريح .
وهو أن يذكر دليل من الكتاب أو السّنّة على التّعليل بوصف ، بلفظ موضوع له في اللّغة من غير احتياج إلى نظر واستدلال .
وهو قسمان :
الأوّل : ما صرّح فيه بكون الوصف علّة أو سببا للحكم .
الثّاني : ما جاء في الكتاب أو السّنّة معلّلا بحرف من حروف التّعليل .
المسلك الثّاني : الإجماع .
المسلك الثّالث : الإيماء والتّنبيه .
وهو أن يكون التّعليل لازما من مدلول اللّفظ ، لا أن يكون اللّفظ دالّا بوضعه على التّعليل . وهو على أقسام تنظر في الملحق الأصوليّ .
المسلك الرّابع : السّبر والتّقسيم .
وهو حصر الأوصاف في الأصل ، وإبطال ما لا يصلح منها للتّعليل ، فيتعيّن الباقي للتّعليل .
المسلك الخامس : المناسبة والشّبه والطّرد :
ينقسم الوصف المعلّل به إلى قسمين :
أ - ما تظهر مناسبته لترتيب الحكم عليه ويسمّى المناسب . وهو أن يترتّب الحكم على وصف ظاهر منضبط ، يلزم من ترتيب الحكم عليّة مصلحة للمكلّف من دفع مفسدة أو جلب منفعة . ويعبّر عنها بالإخالة وبالمصلحة وبالاستدلال وبرعاية المقاصد . ويسمّى استخراجها تخريج المناط .
ب - ما لا تظهر مناسبته لترتيب الحكم عليه وينقسم إلى نوعين :
الأوّل : أن لا يؤلّف من الشّارع اعتباره في بعض الأحكام ، ويسمّى الوصف الطّرديّ . الثّاني : أن يؤلّف من الشّارع اعتباره في بعض الأحكام ، ويسمّى الوصف الشّبهيّ .
المسلك السّادس : تنقيح المناط وتحقيق المناط والدّوران :
وهي راجعة في حقيقتها إلى المسالك المتقدّمة ومندرجة تحتها .
وتنقيح المناط : هو إلحاق الفرع بالأصل بنفي الفارق بينهما . أمّا تحقيق المناط : فهو أن يجتهد المجتهد في إثبات وجود العلّة في الصّورة الّتي هي محلّ النّزاع .
وأمّا الدّوران : فهو أن يوجد الحكم عند وجود الوصف ، ويرتفع بارتفاعه .
وفي بعض هذه المسالك خلاف وتفصيل ينظر في الملحق الأصوليّ .
الحديث المعلّل :
6 - هو الّذي اطّلع فيه على علّة تقدح في صحّته مع أنّ ظاهره السّلامة منها ، وهو من أنواع الحديث الضّعيف .