إلغاء التّصرّفات :
7 - تلغى التّصرّفات الّتي لا يقرّها الشّارع ، مثل رهن الخمر وبيع الميتة ونذر المعصية ، كما تلغى تصرّفات عديم الأهليّة كالمجنون والسّفيه ، على تفصيلٍ ( ر : حجر ) .
الإلغاء في الإقرار :
8 - وذلك إذا كذّبه الظّاهر ، أو كذّب المقرّ نفسه ، أو رجع فيما يحقّ له الرّجوع فيه وهو حقوق اللّه . ومنها الحدود ، وتفصيله في ( الإقرار ) .
إلغاء الفارق المؤثّر بين الأصل والفرع :
9 - وهو يستلزم اتّحاد الحكم بينهما ( ر : إلغاء الفارق ) .
إلغاء الفارق *
التّعريف :
1 - الإلغاء في اللّغة هو : الإبطال . والفارق اسم فاعلٍ من فرقّ بين الشّيئين : إذا فصل بينهما .
وإلغاء الفارق عند الأصوليّين : بيان عدم تأثير الفارق بين الأصل والفرع في القياس ، فيثبت الحكم لما اشتركا فيه ، وذلك كإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق من بعضه إلى سائره . وهذه السّراية في العبد ثابتة بحديث الصّحيحين : « من أعتق شركاً له في عبدٍ فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوّم عليه قيمة عدلٍ فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد ، وإلاّ فقد عتق منه ما عتق » فالفارق بين الأمة والعبد هو الأنوثة ، ولا تأثير لها في السّراية ومنه أيضاً أنّ الآية : { والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً } تقتضي حدّ قاذف المرأة المحصنة ، وسكتت عن قذف الرّجال المحصنين ، فيلحقون بهنّ ، لأنّ الفارق الأنوثة وهي ملغاة ، أي لا أثر لها في الحكم . وبعضهم عبّر عنه بنفي الفارق . وشبيه به : " إلغاء التّفاوت " ومقابله : إبداء الفارق ، أو إبداء الخصوصيّة أو الفرق . وهو من قوادح العلّة . ويسمّى القياس المعتمد على إلغاء الفارق " القياس في معنى الأصل " أو " قياس المعنى " .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - هناك مصطلحان أصوليّان ملتبسان بإلغاء الفارق أشدّ التباسٍ وأخفاه .
أوّلهما : تنقيح المناط . ويسمّيه الحنفيّة الاستدلال ، وهو أن يدلّ نصّ ظاهر على التّعليل بوصفٍ ، فيحذف خصوصه عن الاعتبار بالاجتهاد ، ويناط الحكم بالأعمّ ، أو ككون أوصافٍ في محلّ الحكم ، فيحذف بعضها عن الاعتبار بالاجتهاد ويناط الحكم بالباقي .
وثانيهما : السّبر والتّقسيم . وهو حصر الأوصاف الموجودة في الأصل المقيس عليه وإبطال ما لا يصلح منها للعلّيّة ، فيتعيّن الباقي لها .
والفرق بين تنقيح المناط والسّبر والتّقسيم أنّ الوصف في تنقيح المناط في شقّه الأوّل منصوص عليه ، بخلافه في السّبر والتّقسيم ، وفي الشّقّ الثّاني منه : إنّما هو في حذف ما لا يصلح للعلّيّة وفي تعيين الباقي لها ، وفي السّبر الاجتهاد في الحذف فقط ، فيتعيّن الباقي للعلّيّة . وإلغاء الفارق قريب من السّبر إلاّ أنّه في السّبر يبطل الجميع إلاّ واحداً ، وفي إلغاء الفارق يبطل واحد فتتعيّن العلّة بين الباقي ، والباقي موجود في الفرع فيلزم اشتماله على العلّة .
ويبدو من تعريفي إلغاء الفارق وتنقيح المناط أنّ الملغى في إلغاء الفارق وصف موجود في الفرع ، بخلاف الملغى في تنقيح المناط فهو وصف في الأصل المقيس عليه ، كما أنّ إلغاء الفارق ليس فيه تعيين للعلّة ، وإنّما يحصل الإلحاق بمجرّد الإلغاء ، بخلاف تنقيح المناط ففيه اجتهاد في تعيين الباقي من الأوصاف للعلّيّة .
الحكم الإجماليّ :
3 - اختلف الأصوليّون في عدّ إلغاء الفارق من مسالك العلّة ، فذكره بعضهم كصاحب كتاب المقترح ، وابن السّبكيّ في جمع الجوامع ، بل ذكر ابن قدامة في كتاب " روضة النّاظر " الخلاف في تسمية إلحاق المسكوت بالمنطوق قياساً إذا كان طريقه نفي الفارق المؤثّر على سبيل القطع . ولم يعدّه أحد من الجدليّين من مسالك التّعليل .
وتمام الكلام عليه محلّه الملحق الأصوليّ .
مواطن البحث :
4 - ذكر بعض الأصوليّين إلغاء الفارق في مبحث العلّة من مباحث القياس عند كلامهم على مسالك العلّة ، كما ذكروه في تقسيم القياس إلى جليٍّ وخفيٍّ ، حيث إنّ الجليّ ما قطع فيه بنفي الفارق ، أو كان تأثير الفارق فيه احتمالاً ضعيفاً ، والخفيّ بخلافه . كما ذكروه في تقسيم القياس باعتبار علّته إلى قياس علّةٍ وقياس دلالةٍ وقياسٍ في معنى الأصل ، وأنّ القياس في معنى الأصل هو ما يكون القياس بإلغاء الفارق فيه .
إلهام *
التّعريف :
1 - الإلهام لغةً : مصدر ألهم ، يقال : ألهمه اللّه خيراً أي لقّنه إيّاه ، والإلهام أن يلقي اللّه في النّفس أمراً يبعث على الفعل أو التّرك ، وهو نوع من الوحي يخصّ اللّه به من يشاء من عباده .
وعند الأصوليّين : إيقاع شيءٍ في القلب يطمئنّ له الصّدر يخصّ به اللّه سبحانه بعض أصفيائه .
وقد عدّ الأصوليّين الإلهام نوعاً من أنواع الوحي إلى الأنبياء ، وفي كتاب التّقرير والتّحبير عن الإلهام من اللّه لرسوله : أنّه إلقاء معنًى في القلب بلا واسطة عبارة الملك وإشارته مقرونٍ بخلق علمٍ ضروريٍّ أنّ ذلك المعنى منه تعالى .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الوسوسة :
2 - الوسوسة : إلقاء معنًى في النّفس بمباشرة سببٍ نشأ من الشّيطان له .
ب - التّحرّي :
3 - التّحرّي فيه بذل جهدٍ وإعمال فكرٍ ، أمّا الإلهام فيقع بلا كسبٍ .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
4 - يتّفق الأصوليّون على أنّ الإلهام من اللّه تعالى لأنبيائه حقّ ، وهو بالنّسبة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم حجّة في حقّه ، كذلك هو في حقّ أمّته ، ويكفر منكر حقيقته ، ويفسق تارك العمل به كالقرآن .
أمّا إلهام غير الأنبياء من المسلمين ، فإنّه ليس بحجّةٍ ، لأنّ من ليس معصوماً لا ثقة بخواطره لأنّه لا يأمن من دسيسة الشّيطان فيها ، وهو قول جمهور أهل العلم ، وهو المختار عند الحنفيّة ، ولا عبرة بما قاله قوم من الصّوفيّة بأنّه حجّة في الأحكام .
وقيل : هو حجّة على الملهم لا على غيره ، إذا لم يكن له معارض من نصٍّ أو اجتهادٍ أو خاطرٍ آخر ، وهذا ذكره غير واحدٍ ، فيجب العمل به في حقّ الملهم ، ولا يجوز أن يدعو غيره إليه . واعتمده الإمام الرّازيّ في أدلّة القبلة ، وابن الصّبّاغ من الشّافعيّة .
وهل هو في حقّ الأنبياء من الوحي الظّاهر أم الوحي الباطن خلاف بين الأصوليّين .
أولو الأرحام *
انظر : أرحام .
أولو الأمر *
التّعريف :
1 - " أولو " من الألفاظ الملازمة للإضافة نحو : أولو الرّأي ، أي أصحاب الرّأي ، وهو اسم جمعٍ واحده " ذو " وليس له مفرد من لفظه .
والأمر في اللّغة : يكون بمعنى : طلب الفعل على طريق الاستعلاء ، وجمعه أوامر ، ويكون بمعنى : الشّأن والحال ، وجمعه أمور .
وأولو الأمر : الرّؤساء والعلماء . وقد ورد في أولي الأمر قوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم } .
2 - وأصحّ الأقوال الواردة في المراد بأولي الأمر قولان :
الأوّل : أهل القرآن والعلم وهو اختيار مالكٍ ، ونحوه قول ابن عبّاسٍ ، والضّحّاك ، ومجاهدٍ ، وعطاءٍ قالوا : هم الفقهاء والعلماء في الدّين . ذلك لأنّ أصل الأمر منهم والحكم إليهم .
الثّاني : قال الطّبريّ عنه : هو أولى الأقوال بالصّواب : هم الأمراء والولاة ، لصحّة الأخبار عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمّة والولاة ، فيما كان للّه طاعةً وللمسلمين مصلحةً .
ويشمل أمراء المسلمين في عهد الرّسول صلى الله عليه وسلم وبعده ، ويندرج فيهم الخلفاء والسّلاطين والأمراء ، والقضاة وغيرهم ممّن له ولاية عامّة .
كما أنّ منهم أمراء السّرايا ، وروي ذلك عن أبي هريرة وميمون بن مهران وابن أبي حاتمٍ عن السّدّيّ ، وأخرجه ابن عساكر عن ابن صالحٍ عن ابن عبّاسٍ .
هذا ، وقد حمله كثير من العلماء على ما يعمّ الجميع ، لتناول الاسم لهم ، لأنّ للأمراء تدبير الجيش ، والقتال ، وللعلماء حفظ الشّريعة وبيان ما يجوز ممّا لا يجوز .
الألفاظ ذات الصّلة :
أولياء الأمور :
3 - يشمل أولياء الأمور كلّ من له ولاية على غيره ، سواء أكانت عامّةً أم خاصّةً ، ومن ذلك وليّ اليتيم ، والقيّم على المجنون ، ووليّ المرأة في الزّواج ، فضلاً عمّن سبق ذكرهم من أصحاب الولاية العامّة من الخليفة فمن دونه .
الشّروط المعتبرة في أولي الأمر إجمالاً :
4 - يشترط فيمن يولّى الخلافة - وهي أعلى درجات أولي الأمر- : الإسلام ، والحرّيّة ، والبلوغ ، والعقل ، والذّكورة ، والعلم ، والعدالة بشروطها الجامعة ، والكفاية .
فالعلم يقصد به : العلم المؤدّي إلى التّصرّف المشروع في الأمور العامّة . والعدالة يقصد بها هاهنا : الاستقامة في السّيرة والتّجنّب للمعاصي .
والكفاية يقصد بها : أن يكون قادراً على إقامة الحدود ، بصيراً بالحروب ، كفيلاً بحمل النّاس عليها ، مع سلامة الحواسّ كالسّمع والبصر واللّسان ، ليصحّ معها مباشرة ما يدرك بها ، والمقصود سلامتها ممّا يؤثّر في الرّأي والعقل ، ومن سلامة الأعضاء من نقصٍ يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النّهوض ، والمقصود سلامتها ممّا يؤثّر في الرّأي والعمل ، ويكون متّصفاً بالشّجاعة والنّجدة المؤدّية إلى حماية البيضة ، وجهاد العدوّ ، وأن يكون ذا رأيٍ يؤهّله لسياسة الرّعيّة ، وتدبير المصالح ، قيّماً بأمر الحرب والسّياسة . وإقامة الحدود لا تلحقه رأفة في ذلك .
أمّا من دون الخليفة من أولي الأمر فلهم شروط أقلّ ممّا ذكر ، بحسب ما يلونه من أمور المسلمين ، وتعرف في أبواب القضاء والجهاد ونحوهما . ومرجعها إلى توافر القوّة والأمانة . قال اللّه تعالى :{ إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين } .
5 - ما يجب لأولي الأمر على الرّعيّة :
أولاً - طاعة أولي الأمر :
دلّت النّصوص من القرآن والسّنّة على وجوب طاعة أولي الأمر ، وأنّ معصيتهم حرام ، ولكن الطّاعة الواجب على الأمّة التّقيّد بها ليست طاعةً مطلقةً . وإنّما هي طاعة في حدود الشّرع .
وقد أمر اللّه تعالى بالطّاعة لأولي الأمر في قوله عزّ وجلّ : { يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم } وتسمّى هذه الآية ( آية الأمراء ) .
والطّاعة أمر أساسيّ لوجود الانضباط في الدّولة .
والطّاعة : امتثال الأمر . وهي مأخوذة من أطاع إذا انقاد .
ووجوب طاعة اللّه وطاعة رسوله مستفاد من قوله تعالى { أطيعوا اللّه ، وأطيعوا الرّسول } لأنّ ( أطيعوا ) أمر ، والأمر يتعيّن للوجوب إذا حفّت به قرينة تصرف إليه ، وقد تضمّن النّصّ قرينةً جازمةً تصرف الأمر إلى الوجوب ، وذلك بربط الطّاعة بالإيمان باللّه واليوم الآخر أي حقيقةً .
واللّه سبحانه أمر بالطّاعة طاعةً مطلقةً غير مقيّدةٍ ، ثمّ جاءت السّنّة تقيّد الطّاعة بما لا يكون معصيةً ، فعن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « على المرء المسلم الطّاعة فيما أحبّ وكره ، إلاّ أن يؤمر بمعصيةٍ ، فإذا أمر بمعصيةٍ فلا سمع ولا طاعة » . وعن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق » وعن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم « من أطاعني فقد أطاع اللّه ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى اللّه ، ومن عصى أميري فقد عصاني » ويقول الطّبريّ : إنّ الّذين أمر اللّه تعالى بطاعتهم في الآية { وأولي الأمر منكم } هم الأئمّة ومن ولّاه المسلمون دون غيرهم من النّاس .
ثانياً : أن يفوّضوا الأمر إليهم وإلى أهل العلم بالدّين وأهل الخبرة ويكلوه إلى تدبيرهم ، حتّى لا تختلف الآراء . قال اللّه تعالى : { ولو ردّوه إلى الرّسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الّذين يستنبطونه منهم } .
ثالثاً : النّصرة لأولي الأمر في غير المعصية .
رابعاً : النّصح لهم : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « الدّين النّصيحة للّه ولرسوله ولكتابه ولأئمّة المسلمين وعامّتهم » .
واجبات أولي الأمر :
6 - يجب عليهم التّصرّف بما فيه المصلحة العامّة للمسلمين ، كلّ في مجاله وبحسب سلطته . وفي ذلك القاعدة الشّرعيّة " التّصرّف على الرّعيّة منوط بالمصلحة " وبالتّفصيل ما يلي :
أولاً : حفظ الدّين على أصوله المستقرّة وما أجمع عليه سلف الأمّة ، فإن زاغ ذو شبهةٍ عنه أوضح له الحجّة ، وبيّن له الصّواب ، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ، ليكون الدّين محروساً من الخلل ، والأمّة ممنوعةً من الزّلل .
ثانياً : تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بينهم ، حتّى تظهر النّصفة ، فلا يتعدّى ظالم ولا يضعف مظلوم .
ثالثاً : حماية الدّولة والذّبّ عن الحوزة ، ليتصرّف النّاس في المعايش ، وينتشروا في الأسفار آمنين .
رابعاً : إقامة الحدود ، لتصان محارم اللّه تعالى عن الانتهاك ، وتحفظ حقوق عباده من إتلافٍ واستهلاكٍ .
خامساً : تحصين الثّغور بالعدّة المانعة والقوّة الدّافعة ، حتّى لا يظفر الأعداء بثغرةٍ ينتهكون بها محرماً ، ويسفكون فيها دماً لمسلمٍ أو معاهدٍ .
سادساً : جهاد من عاند الإسلام بعد الدّعوة حتّى يسلم ، أو يدخل في الذّمّة .
سابعاً : قتال أهل البغي والمحاربين وقطّاع الطّريق ، وتوقيع المعاهدات وعقود الذّمّة والهدنة والجزية . والتّفصيل موطنه مصطلح ( الإمامة الكبرى ) .
ثامناً : تعيين الوزراء ، وولايتهم عامّة في الأعمال العامّة لأنّهم يستنابون في جميع الأمور من غير تخصيصٍ .
تاسعاً : تعيين الأمراء ( المحافظين ) للأقاليم ، وولايتهم عامّة في أعمالٍ خاصّةٍ ، لأنّ النّظر فيما خصّوا به من الأعمال عامّ في جميع الأمور .
عاشراً : تعيين القضاة وأمراء الحجّ ، ورؤساء الجيش ، وولايتهم خاصّةً في الأعمال العامّة ، لأنّ كلّ واحدٍ منهم مقصور على نظرٍ خاصٍّ في جميع الأعمال . وكذا تعيين الأئمّة للصّلوات الخمس والجمعة ، ولكلّ واحدٍ من هؤلاء شروط تنعقد بها ولايته .
أحد عشر : تقدير العطاء وما يستحقّ من بيت المال ( الميزانيّة العامّة ) من غير سرفٍ ولا تقصيرٍ فيه . والتّفصيل موطنه مصطلح ( الإمامة الكبرى ) .
اثنا عشر : استكفاء الأمناء ، وتقليد النّصحاء فيما يفوّض إليهم من الأعمال ، ويكله إليهم من الأموال ، لتكون الأعمال مضبوطةً والأموال محفوظةً .
ثلاث عشر : أن يباشر بنفسه أو بأعوانه الموثوق بهم مشارفة الأمور ، وتصفّح الأحوال لينهض بسياسة الأمّة .
أربع عشر : مشاورة ذوي الرّأي : وتعتبر المشاورة مبدأً من أهمّ المبادئ الإسلاميّة ، وقاعدةً من أهمّ القواعد الأساسيّة في الولايات العامّة . وقد جاءت الدّعوة إلى الشّورى صريحةً في القرآن الكريم في آيتين منه الأولى : قوله تعالى : { فبما رحمةٍ من اللّه لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر } . والثّانية : قوله تعالى : { والّذين استجابوا لربّهم وأقاموا الصّلاة وأمرهم شورى بينهم وممّا رزقناهم ينفقون } . والتّفصيل موطنه ( إمامة كبرى ) .
ألية *
التّعريف :
1 - الألية : هي العجيزة ، أو ما ركب العجز من لحمٍ وشحمٍ .
ولا يختلف المعنى عند الفقهاء عن ذلك ، فقد قالوا : إنّها اللّحم النّاتئ بين الظّهر والفخذ . والفخذ يلي الرّكبة ، وفوقه الورك ، وفوقه الألية .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - يتعلّق بالألية عدّة أحكامٍ في مواضع متفرّقةٍ من أبواب الفقه منها :
أ - في نواقض الوضوء : يرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّ المتوضّئ إذا نام ومكّن أليته من الأرض فلا ينتقض وضوءه ، لأمن خروج ما ينتقض به وضوءه .
ولم يعتبر المالكيّة هيئة النّائم ، بل المعتبر عندهم صفة النّوم وحدها ثقلاً أو خفّةً ، والحنابلة ينظرون إلى صفة النّوم وهيئة النّائم معاً ، فمتى كان النّائم ممكّناً مقعدته من الأرض فلا ينقض إلاّ النّوم الكثير .
ب - في الأضحيّة : يختلف الفقهاء في إجزاء الشّاة إن كانت دون أليةٍ ، وتسمّى البتراء أو مقطوعة الذّنب ، ولهم في ذلك أربعة أقوالٍ :
الأوّل : عدم الإجزاء مطلقاً ، وهو قول المالكيّة .
الثّاني : الإجزاء إن كانت مخلوقةً دون أليةٍ ، أمّا مقطوعة الألية فإنّها لا تجزئ ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة .
الثّالث : التّفريق بين ما إذا قطع الأكثر أو الأقلّ ، فإن قطع الأكثر تجزئ ، وتجزئ إن بقي الأكثر ، لأنّ للأكثر حكم الكلّ بقاءً وذهاباً ، وهو قول الحنفيّة .
الرّابع : الإجزاء مطلقاً . وهو قول الحنابلة . وممّن كان لا يرى بأساً بالبتراء : ابن عمر وسعيد بن المسيّب والحسن وسعيد بن جبيرٍ والحكم .
ج - وفي الجناية على الألية عمداً القصاص عند جمهور الفقهاء ، لأنّ لها حدّاً تنتهي إليه . وقال المزنيّ : لا قصاص فيها ، لأنّها لحم متّصل بلحمٍ ، فأشبه لحم الفخذ .
فإن كانت الجناية خطأً ففي الألية نصف ديةٍ وفي الأليتين الدّية الكاملة عند أغلب الفقهاء . وقال المالكيّة : في الألية حكومة عدلٍ ، سواء أكانت ألية رجلٍ أم ألية امرأةٍ ، هذا باستثناء أشهب ، فإنّه فرّق بين ألية الرّجل وألية المرأة ، فأوجب في الأولى حكومةً ، وفي الثّانية الدّية ، لأنّها أعظم على المرأة من ثديها .
وبالإضافة إلى المواضع السّابقة يتكلّم الفقهاء عنها عند الافتراش في قعدات الصّلاة ، وعند التّورّك . وفي تكفين الميّت يتكلّمون عن شدّ الأليين غرفة بعد وضع قطنٍ بينهما ، ليؤمن من خروج شيءٍ من الميّت .
أليّة *
انظر : أيمان .
إماء *
انظر : رقّ .
أمارة *
التّعريف :
1 - الأمارة لغةً : العلامة .
وهي عند الأصوليّين : الدّليل الظّنّيّ ، وهو ما يمكن التّوصّل بصحيح النّظر فيه إلى مطلوبٍ خبريٍّ ظنّيٍّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الدّليل :
2 - الدّليل : هو ما يتوصّل بصحيح النّظر فيه إلى مطلوبٍ خبريٍّ قطعيٍّ أو ظنّيٍّ . وقد يخصّ بالقطعيّ .
ب - العلامة :
3 - الدّليل الظّنّيّ يسمّى أمارةً وعلامةً ، إلاّ أنّ الحنفيّة اصطلحوا على أنّ الأمارة ليست بشهرة العلامة ، بل العلامة أشهر . والعلامة لا تنفكّ عن الشّيء ، بخلاف الأمارة .
ج - الوصف المخيّل :
4 - الوصف المخيّل يفيد الظّنّ الضّعيف ، أمّا الأمارة فإنّها تفيد الظّنّ القويّ .
د - القرينة :
5 - القرينة كثيراً ما تطلق على الأمارة ، والعكس كذلك ، غير أنّ القرينة قد تكون قاطعةً .
الحكم الإجماليّ :
6 - عند الأصوليّين ما ليس عليه دلالة قاطعة ، بل عليه أمارة فقط كخبر الواحد والقياس ، فالواجب على المجتهد أن يعمل بموجب هذا الظّنّ الّذي ثبت عنده بهذه الأمارة ، وهذا بخلاف المقلّد ، لأنّ ظنّه لا يصير وسيلةً إلى العلم .
ويأخذ الفقهاء بالأمارات ، ففي معرفة القبلة يستدلّون بهبوب الرّياح ، ومطالع النّجوم .
وفي البلوغ يرى أغلب الفقهاء أنّ نبات شعر العانة الخشن أمارة على البلوغ ، وكذلك يرى البعض أنّ فرق أرنبة الأنف ، وغلظ الصّوت وشهود الثّدي ، ونتن الإبط ، أمارات على البلوغ .
7- وفي القضاء : الحكم بالأمارات محلّ خلافٍ بين الفقهاء ، منهم من يرى الحكم بها قولاً واحداً عملاً بقول اللّه سبحانه : { وجاءوا على قميصه بدمٍ كذبٍ } . روي أنّ إخوة يوسف لمّا أتوا بقميص يوسف إلى أبيهم يعقوب ، تأمّله فلم يجد فيه خرقاً ولا أثر نابٍ ، فاستدلّ بذلك على كذبهم . فاستدلّ الفقهاء بهذه الآية على إعمال الأمارات في مسائل كثيرةٍ من الفقه . وقد خصّص العلامة ابن فرحونٍ الباب المتمّم السّبعين من تبصرته في القضاء بما يظهر من قرائن الأحوال والأمارات وحكم الفراسة ، وأيّد الحكم بها بأدلّةٍ من الكتاب والسّنّة ، وذكر ما يربو عن ستّين مسألةً منها ما هو متّفق عليه ، ومنها ما تفرّد به بعضهم . والبعض لا يأخذ بالقرائن ، مستدلّاً بما أخرجه ابن ماجه عن ابن عبّاسٍ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لو كنت راجماً أحداً بغير بيّنةٍ لرجمت فلانة ، فقد ظهر منها الرّيبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها » .
والتّفصيل في مصطلح ( قرينة ) وفي الملحق الأصوليّ .
إمارة *
التّعريف :
1 - الإمارة بالكسر ، والإمرة : الولاية ، يقال : أمر على القوم يأمر ، من باب قتل فهو أمير . وأمر يأمر إمارةً وإمرةً : صار لهم أميراً . ويطلق على منصب الأمير ، وعلى جزءٍ من الأرض يحكمه أمير .
والاصطلاح الفقهيّ لا يخرج عن هذا المعنى في الجملة ، إلاّ أنّ الإمارة تكون في الأمور العامّة ، ولا تستفاد إلاّ من جهة الإمام ، أمّا الولاية فقد تكون في الأمور العامّة ، وقد تكون في الأمور الخاصّة ، وتستفاد من جهة الإمام أو من جهة الشّرع أو غيرهما ، كالوصيّة بالاختيار والوكالة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الخلافة :
2 - الخلافة في اللّغة : مصدر خلفه خلافةً : أي بقي بعده ، أو قام مقامه .
وهي في الاصطلاح الشّرعيّ : منصب الخليفة . وهي رئاسة عامّة في الدّين والدّنيا نيابةً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وتسمّى أيضاً الإمامة الكبرى .
ب - السّلطة :
3 - السّلطة هي : السّيطرة والتّمكّن والقهر والتّحكّم ، ومنه السّلطان وهو من له ولاية التّحكّم والسّيطرة في الدّولة ، فإن كانت سلطته قاصرةً على ناحيةٍ خاصّةٍ فليس بخليفةٍ ، وإن كانت عامّةً فهو الخليفة ، وقد وجدت في العصور الإسلاميّة المختلفة خلافة بلا سلطةٍ ، كما وقع في أواخر عهد العبّاسيّين ، وسلطة بلا خلافةٍ كما وقع في عهد المماليك .
تقسيم الإمارة ، وحكمها التّكليفيّ :
4 - تنقسم الإمارة إلى عامّةٍ وخاصّةٍ : أمّا العامّة فالمراد بها الخلافة أو الإمامة الكبرى ، وهي فرض كفايةٍ ، وينظر تفصيل أحكامها في مصطلح ( إمامة كبرى ) .
وأمّا الإمارة الخاصّة : فهي لإقامة فرضٍ معيّنٍ من فروض الكفاية دون غيره ، كالقضاء والصّدقات والجند إذا دعت الحاجة إلى ذلك التّخصيص .
وقد يكون التّخصيص مكانيّاً ، كالإمارة على بلدٍ أو إقليمٍ خاصٍّ . كما يكون زمانيّاً ، كأمير الحاجّ ونحوه . والإمارة الخاصّة من المصالح العامّة للمسلمين والمنوطة بنظر الإمام .
« وكان الرّسول صلى الله عليه وسلم ينيب عنه عمّالاً على القبائل والمدن »، وفعل ذلك الخلفاء الرّاشدون . وعدّها أصحاب كتب الأحكام السّلطانيّة من الأمور اللّازمة على الإمام ، فيجب عليه أن يقيم الأمراء على النّواحي والجيوش والمصالح المتعدّدة فيما لا يستطيع أن يباشره بنفسه .
إمارة الاستكفاء :
5 - هي : أن يفوّض الإمام باختياره إلى شخصٍ إمارة بلدٍ أو إقليمٍ ولايةً على جميع أهله ونظراً في المعهود من سائر أعماله .
ويشتمل نظر الأمير في هذه الإمارة على أمورٍ :
أولاً : النّظر في تدبير الجيوش .
ثانياً : النّظر في الأحكام ، وتقليد القضاة .
ثالثاً : جباية الخراج ، وأخذ الصّدقات .
رابعاً : حماية الدّين ، والذّبّ عن ديار الإسلام .
خامساً : إقامة الحدود .
سادساً : الإمامة في الجمع والجماعات .
سابعاً : تسيير الحجيج ( إمارة الحجّ ) .
ثامناً : قسم الغنائم .
وحاجة الأمّة قد تستدعي إضافة مهامّ أخرى بحسب ما يجدّ من أحوالٍ ، كرعاية شئون التّعليم والصّحّة ونحوها .
شروط إمارة الاستكفاء :
6 - يشترط فيمن يولّى إمارة الاستكفاء ما يشترط لوزارة التّفويض :
فمنها شروط متّفق عليها وهي : الإسلام ، والتّكليف ( العقل والبلوغ ) ، والذّكورة .
ومنها شروط مختلف فيها وهي : العدالة والاجتهاد والكفاية .
ولا يشترط ( النّسب ) اتّفاقاً في الإمارة . وللتّفصيل ينظر مصطلح ( إمامة كبرى ) .
صيغة عقد إمارة الاستكفاء :
7 - لا بدّ لتقليد الإمارة من صيغةٍ كسائر العقود ، فيتحدّد نوعها بالصّيغة ، فتعمّ الإمارة بعموم الصّيغة ، أو تخصّ بخصوصها . كأن يقول في الإمارة الّتي تعمّ التّصرّفات مثلاً : قلّدتك ناحية كذا أو إقليم كذا إمارةً على أهلها ، ونظراً على جميع ما يتعلّق بها . إلخ .
نفاذ تصرّفات أمير الاستكفاء :
8 - يجوز لأمير الاستكفاء أن يقلّد من يعيّنه في تنفيذ مهامّه لأنّه معيّن له ، ونائب عنه في مباشرة الأعمال الّتي لا تتيسّر مباشرتها للأمير نفسه . ولكنّه لا يجوز له أن يفوّض لشخصٍ آخر ما عهد إليه من أصل الولاية إلاّ بإذن الإمام ، لأنّه مستقلّ النّظر .
إمارة الاستيلاء :
9 - الأصل في الفقه الإسلاميّ : ألاّ يتولّى أحد منصباً إلاّ بتقليدٍ صحيحٍ من الإمام ، أو من ينوب عنه في ذلك كوزير التّفويض . على أنّه في بعض الظّروف ، قد يحدث أن يستبدّ أمير أو والٍ بالسّلطة ، بعد تولّيه بتقليدٍ من الإمام . ويخشى فتنة في عزله ، فللإمام أن يقرّه على إمارته . وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى صحّة هذا التّقليد من الإمام للضّرورة ، وحسماً للفتنة ويسمّونها : إمارة الاستيلاء تفريقاً بينها وبين إمارة الاستكفاء .
وهي وإن خرجت على عرف التّقليد ( التّولية ) ، وشروطه وأحكامه ، فالحكمة في إقرارها هي حفظ وحدة كلمة المسلمين بالاعتراف بوجود الخلافة الواحدة في الجملة ، وإضفاء صفة الشّرعيّة على الأحكام الّتي يصدرها المستولي ، وصونها عن الفساد .
وجاء في الأحكام السّلطانيّة للماورديّ : والّذي ينحفظ بتقليد المستولي من قوانين الشّرع سبعة أشياء ، فيشترك في التزامها الخليفة ، والمستولي . وعدّد الأشياء ، ولا تخرج في عمومها عمّا ذكرناه ، من حفظ مركز الخلافة ، والاعتراف بوجودها ، وإضفاء الصّفة الشّرعيّة على أعمال الإمارة وصونها عن الفساد .
ولا يخفى أنّ صحّة هذا النّوع من الإمارة هو من باب الضّرورة ، كما صرّح بذلك الحصكفيّ وغيره .
الإمارة الخاصّة ( من حيث الموضوع ) :
10 - الإمارة الخاصّة هي ما كان الأمير مقصور النّظر فيها على أمرٍ خاصٍّ ، كقيادة الجيش ، فيقتصر نظره فيما حدّد له ، في عقد التّقليد ، فلا يتعرّض لغيرها ، كالقضاء ، وجباية الخراج ، وقبض الصّدقات ، وإمارة الجهاد ، وإمارة الحجّ ، وإمارة السّفر .
إمارة الحجّ :
11 - جمهور الفقهاء على أنّه يستحبّ للإمام - إن لم يخرج بنفسه - أن ينصب للحجيج أميراً يخرج بهم ، ويرعى مصالحهم في حلّهم وترحالهم ، ويخطب فيهم في الأماكن الّتي شرعت فيها الخطبة ، يعلّمهم فيها مناسك الحجّ وأعماله وما يتعلّق به . وذهب بعض الشّافعيّة إلى أنّ تنصيب أميرٍ لإقامة الحجّ واجب على الإمام ، إن لم يخرج بنفسه ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « بعث في السّنة الثّامنة من الهجرة عتّاب بن أسيدٍ ، وفي التّاسعة أبا بكرٍ . وخرج بنفسه في العاشرة » .
أقسام إمارة الحجّ :
كتب الأحكام السّلطانيّة وحدها دون كتب الفقه فيما نعلم قسّمت هذه الإمارة إلى قسمين : إمارة إقامة الحجّ . وإمارة تسيير الحجيج .
أ - إمارة تسيير الحجيج :
12 - إمارة تسيير الحجيج هي : ولاية سياسيّة ، وزعامة وتدبير . فيشترط لأميرها : أن يكون مطاعاً ، ذا رأيٍ وشجاعةٍ ، وهيبةٍ . وقد عدّ الماورديّ عشرة أشياء جعلها من واجبات أمير الحجيج وهي :
أولاً : جمع النّاس في مسيرهم ونزولهم حتّى لا يتفرّقوا .
ثانياً : ترتيبهم في السّير والنّزول ، وتقسيمهم إلى مجموعاتٍ لكلٍّ منها رئيس ، حتّى يعرف كلّ فريقٍ منهم جماعته إذا سار ، ويألف مكانه إذا نزل ، فلا يتنازعون فيه ، ولا يضلّون عنه .
ثالثاً : يرفق بهم في السّير حتّى لا يعجز عنه ضعيفهم ، ولا يضلّ عنه منقطعهم .
رابعاً : أن يسلك بهم أوضح الطّرق وأخصبها ، ويتجنّب أجدبها وأوعرها .
خامساً : أن يرتاد لهم المياه إذا انقطعت ، والمراعي إذا قلّت .
سادساً : أن يحرسهم إذا نزلوا ، ويحوطهم إذا رحلوا .
سابعاً : أن يمنع عنهم من يصدّهم عن المسير .
ثامناً : أن يصلح بين المتشاجرين ، ويتوسّط بين المتنازعين .
تاسعاً : أن يؤدّب خائنهم ، ولا يتجاوز التّعزير .
عاشراً : أن يراعي اتّساع الوقت حتّى يؤمن فوات الحجّ عليهم .
الحكم بين الحجيج :
13 - ليس لأمير الحجّ أن يتعرّض للحكم بين الحجيج إجباراً إلاّ أن يفوّض إليه الحكم ، وهو أهل للقضاء ، فيجوز له حينئذٍ أن يحكم بينهم . فإن دخلوا في بلدٍ فيه حاكم جاز له أن يحكم بينهم . كما يجوز لحاكم البلد أن يحكم بينهم . هذا إذا كان النّزاع بين الحجّاج . أمّا إذا كان بين الحجيج وبين أهل البلد لم يحكم بينهم إلاّ حاكم البلد .
إقامة الحدود فيهم :
14 - لا يجوز لأمير الحجّ إقامة الحدود في الحجيج إلاّ أن يؤذن له فيها وهو من أهل القضاء . فإن أذن فله إقامتها فيهم . فإن دخل في بلدٍ فيه من يتولّى إقامة الحدود ، فإن كان المحدود قد أتى بموجب الحدّ قبل دخول البلد ، فأمير الحجيج أولى بإقامة الحدّ عليه .
أمّا إذا أتى به بعد دخول البلد فحاكم البلد أولى بإقامة الحدّ من أمير الحجيج .
انتهاء ولايته :
15 - إذا وصل الحجيج إلى مكّة زالت ولايته عمّن لا يرغب العودة . أمّا من كان عازماً على العود فيبقى تحت ولايته حتّى يصلوا إلى بلادهم .
ب - إمارة إقامة الحجّ :
16 - هي أن ينصب الإمام أميراً للحجيج يخرج بهم نيابةً عنه في المشاعر .
ويشترط في أمير إقامة الحجّ شروط إمامة الصّلاة ، مضافاً إليها أن يكون عالماً بمناسك الحجّ وأحكامه عارفاً بمواقيته وأيّامه .
انتهاء إمارته :
17 - تنتهي ولاية أمير إقامة الحجّ بانتهاء أعمال الحجّ ، ولا تتجاوزها ، وتبدأ بابتدائها ، فتبدأ من وقت صلاة الظّهر في اليوم السّابع من ذي الحجّة ، وتنتهي في يوم النّفر الثّاني ، وهو اليوم الثّالث عشر من ذي الحجّة .
وإذا كان تقليده مطلقاً على إقامة الحجّ فله إقامته في كلّ عامٍ حتّى يصرف عنه .
أمّا إذا كان تقليده لعامٍ واحدٍ فليس له إقامته في غيره من الأعوام ، إلاّ بتقليدٍ جديدٍ .
اختصاصه :
18 - يختصّ نظره في كلّ ما يتعلّق بأعمال الحجّ : من الإشعار بوقت الإحرام ، والخروج بالنّاس إلى مشاعرهم ، وإلقاء الخطب في الأماكن الّتي شرعت فيها ، وترتيبه المناسك على ما استقرّ الشّرع عليه لأنّه متبوع فيها ، فلا يقدّم مؤخّراً ولا يؤخّر مقدّماً سواء كان التّرتيب واجباً أو مستحبّاً .
إقامة الحدود :
19 - ليس لأمير إقامة الحجّ إقامة الحدّ ، أو التّعزير على من أتى ما يوجب ذلك من أفراد الحجيج ، إن كان الموجب ممّا لا يتعلّق بالحجّ . أمّا إذا كان موجب الحدّ أو التّعزير ممّا يتعلّق بالحجّ فله التّعزير . وفي إقامة الحدّ وجهان : أحدهما ليس له ذلك . لأنّه خارج من أحكام الحجّ ، وولايته خاصّة بالحجّ . والثّاني له إقامته عليه .
الحكم بين الحجيج :
20 - لا يجوز لأمير إقامة الحجّ أن يحكم بين الحجيج فيما تنازعوا فيه من غير أحكام الحجّ .
إمارة السّفر :
21 - يستحبّ لكلّ جماعةٍ ( ثلاثةٍ فأكثر ) قصدوا السّفر أن يؤمّروا أحدهم ، ويجب عليهم طاعته فيما يتعلّق بما هم فيه ، ويحرم عليهم مخالفته ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا خرج ثلاثة في السّفر فليؤمّروا أحدهم » . وللتّفصيل ينظر مصطلح ( سفر ) .
إمام *
انظر : إمامة .
إمامة الصّلاة *
الإمامة الصّغرى
التّعريف :
1 - الإمامة في اللّغة : مصدر أمّ يؤمّ ، وأصل معناها القصد ، ويأتي بمعنى التّقدّم ، يقال : أمّهم وأمّ بهم : إذا تقدّمهم .
وفي اصطلاح الفقهاء تطلق الإمامة على معنيين : الإمامة الصّغرى ، والإمامة الكبرى . ويعرّفون الإمامة الكبرى بأنّها : استحقاق تصرّفٍ عامٍّ على الأنام ( أي النّاس ) ، وهي رئاسة عامّة في الدّين والدّنيا خلافةً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم . ( ر : إمامة كبرى ) . أمّا الإمامة الصّغرى ( وهي إمامة الصّلاة ) فهي ارتباط صلاة المصلّي بمصلٍّ آخر بشروطٍ بيّنها الشّرع . فالإمام لم يصر إماماً إلاّ إذا ربط المقتدي صلاته بصلاته ، وهذا الارتباط هو حقيقة الإمامة ، وهو غاية الاقتداء .
وعرّفها بعضهم بأنّها : كون الإمام متّبعاً في صلاته كلّها أو جزءٍ منها .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - القدوة :
2 - القدوة اسم للاقتداء أي : الاتّباع ، ويطلق على الشّخص المتبوع ، يقال : فلان قدوة أي يقتدى به .
ب - الاقتداء والتّأسّي :
3 - الاقتداء والتّأسّي كلّ منهما بمعنى الاتّباع ، سواء كان ذلك في صلاةٍ أو غيرها ، فالمأموم يقتدي بالإمام ويتأسّى به ، فيعمل مثل عمله ، ويطلق على المقتدى به أنّه قدوة وأسوة .
مشروعيّة الإمامة وفضلها :
4 - إمامة الصّلاة تعتبر من خير الأعمال الّتي يتولّاها خير النّاس ذوو الصّفات الفاضلة من العلم والقراءة والعدالة وغيرها كما سيأتي ، ولا تتصوّر صلاة الجماعة إلاّ بها .
وصلاة الجماعة من شعائر الإسلام ، ومن السّنن المؤكّدة الّتي تشبه الواجب في القوّة عند أكثر الفقهاء ، وصرّح بعضهم بوجوبها ، وتفصيله في مصطلح : ( صلاة الجماعة ) .
وقد صرّح جمهور الفقهاء ، ومنهم الحنفيّة ، وبعض المالكيّة ، وهو رواية في مذهب أحمد : بأنّ الإمامة أفضل من الأذان والإقامة ، لمواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم والخلفاء الرّاشدين عليها ، ولهذا أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقوم بها أعلم النّاس وأقرؤهم ، كما روي في حديث أبي سعيدٍ الخدريّ . قال : « قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إذا كانوا ثلاثةً فليؤمّهم أحدهم ، وأحقّهم أقرؤهم » .
ولمّا مرض النّبيّ عليه السلام اختار أفضل الصّحابة للإمامة حيث قال : « مروا أبا بكرٍ فليصلّ بالنّاس » ، ففهم الصّحابة من تقديمه في الإمامة الصّغرى استحقاقه الإمامة الكبرى . وفي قولٍ آخر : الأذان أفضل ، وهو قول بعض المالكيّة ، ومذهب الشّافعيّ ، ورواية في مذهب أحمد ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الإمام ضامن والمؤذّن مؤتمن ، اللّهمّ أرشد الأئمّة واغفر للمؤذّنين » والأمانة أعلى من الضّمان ، والمغفرة أعلى من الإرشاد . وقال عمر رضي الله عنه : " لولا الخلافة لأذّنت ".
شروط الإمامة :
يشترط لصحّة الإمامة الأمور التّالية :
أ - الإسلام :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط في الإمام أن يكون مسلماً . وعلى هذا لا تصحّ الصّلاة خلف من هو كافر يعلن كفره ، أمّا إذا صلّى خلف من لا يعلم كفره ، ثمّ تبيّن أنّه كافر ، فإنّ الحنفيّة والحنابلة قالوا : إذا أمّهم زماناً على أنّه مسلم ، ثمّ ظهر أنّه كان كافراً ، فليس عليهم إعادة الصّلاة ، لأنّها كانت محكوماً بصحّتها ، وخبره غير مقبولٍ في الدّيانات لفسقه باعترافه .
وقال الشّافعيّة : لو بان إمامه كافراً معلناً ، وقيل : أو مخفياً ، وجبت الإعادة ، لأنّ المأموم مقصّر بترك البحث . وقال الشّربينيّ : إنّ الأصحّ عدم وجوب الإعادة إذا كان الإمام مخفياً كفره . ومثله مذهب المالكيّة حيث قالوا : تبطل الصّلاة بالاقتداء بمن كان كافراً ، سواء أكانت سرّيّةً أم جهريّةً ، وسواء أطالت مدّة صلاته إماماً بالنّاس أم لا . وصرّح الحنابلة ، وهو رواية عند المالكيّة ، بعدم جواز إمامة الفاسق ، وهو الّذي أتى بكبيرةٍ كشارب خمرٍ وزانٍ وآكل الرّبا ، أو داوم على صغيرةٍ . لكنّ الحنفيّة والشّافعيّة ذهبوا إلى جواز إمامة الفاسق مع الكراهة ، وهذا هو المعتمد عند المالكيّة إذا لم يتعلّق فسقه بالصّلاة ، وإلاّ بطلت عندهم كقصده الكبر بالإمامة ، وإخلاله بركنٍ أو شرطٍ أو سنّةٍ عمداً . وفي صلاة الجمعة والعيدين جاز إمامة الفاسق بغير كراهةٍ ، مع تفصيلٍ ينظر في مواضعه .
ب - العقل :
6 - يشترط في الإمام أن يكون عاقلاً ، وهذا الشّرط أيضاً متّفق عليه بين الفقهاء ، فلا تصحّ إمامة السّكران ، ولا إمامة المجنون المطبق ، ولا إمامة المجنون غير المطبق حال جنونه ، وذلك لعدم صحّة صلاتهم لأنفسهم فلا تبنى عليها صلاة غيرهم .
أمّا الّذي يجنّ ويفيق ، فتصحّ إمامته حال إفاقته .
ت - البلوغ :
7 - جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - على أنّه يشترط لصحّة الإمامة في صلاة الفرض أن يكون الإمام بالغاً ، فلا تصحّ إمامة مميّزٍ لبالغٍ في فرضٍ عندهم ، لما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا تقدّموا صبيانكم » ، ولأنّها حال كمالٍ والصّبيّ ليس من أهلها ، ولأنّ الإمام ضامن وليس هو من أهل الضّمان ، ولأنّه لا يؤمن معه الإخلال بالقراءة حال السّرّ . واستدلّوا كذلك على عدم صحّة إمامة الصّبيّ للبالغ في الفرض أنّ صلاة الصّبيّ نافلة فلا يجوز بناء الفرض عليها .
أمّا في غير الفرض كصلاة الكسوف أو التّراويح فتصحّ إمامة المميّز للبالغ عند جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض الحنفيّة - لأنّه لا يلزم منها بناء القويّ على الضّعيف . والمختار عند الحنفيّة عدم جواز إمامة المميّز للبالغ مطلقاً ، سواء أكانت في الفرائض أم في النّوافل ، لأنّ نفل الصّبيّ ضعيف لعدم لزومه بالشّروع ، ونفل المقتدي البالغ قويّ لازم مضمون عليه بعد الشّروع . ولم يشترط الشّافعيّة في الإمام أن يكون بالغاً ، فتصحّ إمامة المميّز للبالغ عندهم مطلقاً ، سواء أكانت في الفرائض أم النّوافل ،
لحديث « عمرو بن سلمة أنّه كان يؤمّ قومه على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو ابن ستّ أو سبع سنين » لكنّهم قالوا : البالغ أولى من الصّبيّ ، وإن كان الصّبيّ أقرأ أو أفقه ، لصحّة الاقتداء بالبالغ بالإجماع ، ولهذا نصّ في البويطيّ على كراهة الاقتداء بالصّبيّ . أمّا إمامة المميّز لمثله فجائزة في الصّلوات الخمس وغيرها عند جميع الفقهاء .
ث - الذّكورة :
8 - يشترط لإمامة الرّجال أن يكون الإمام ذكراً ، فلا تصحّ إمامة المرأة للرّجال ، وهذا متّفق عليه بين الفقهاء ، لما ورد في الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أخّروهنّ من حيث أخّرهنّ اللّه » والأمر بتأخيرهنّ نهي عن الصّلاة خلفهنّ . ولما روى جابر مرفوعاً : « لا تؤمّنّ امرأة رجلاً » ولأنّ في إمامتها للرّجال افتتاناً بها .
أمّا إمامة المرأة للنّساء فجائزة عند جمهور الفقهاء - وهم الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - واستدلّ الجمهور لجواز إمامة المرأة للنّساء بحديث « أمّ ورقة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أذن لها أن تؤمّ نساء أهل دارها » .
لكن كره الحنفيّة إمامتها لهنّ ، لأنّها لا تخلو عن نقصٍ واجبٍ أو مندوبٍ ، فإنّه يكره لهنّ الأذان والإقامة ، ويكره تقدّم المرأة الإمام عليهنّ . فإذا صلّت النّساء صلاة الجماعة بإمامة امرأةٍ وقفت المرأة الإمام وسطهنّ . أمّا المالكيّة فلا تجوز إمامة المرأة عندهم مطلقاً ولو لمثلها في فرضٍ أو نفلٍ . ولا تصحّ إمامة الخنثى للرّجال ولا لمثلها بلا خلافٍ ، لاحتمال أن تكون امرأةً والمقتدي رجلاً ، وتصحّ إمامتها للنّساء مع الكراهة أو بدونها عند جمهور الفقهاء ، خلافاً للمالكيّة حيث صرّحوا بعدم جوازها مطلقاً .
ج - القدرة على القراءة :
9- يشترط في الإمام أن يكون قادراً على القراءة وحافظاً مقدار ما يتوقّف عليه صحّة الصّلاة على تفصيلٍ يذكر في مصطلح ( قراءة ) .
وهذا الشّرط إنّما يعتبر إذا كان بين المقتدين من يقدر على القراءة ، فلا تصحّ إمامة الأمّيّ للقارئ ، ولا إمامة الأخرس للقارئ أو الأمّيّ ، لأنّ القراءة ركن مقصود في الصّلاة ، فلم يصحّ اقتداء القادر عليه بالعاجز عنه ، ولأنّ الإمام ضامن ويتحمّل القراءة عن المأموم ، ولا يمكن ذلك في الأمّيّ ، ولتفصيل المسألة ( ر : اقتداء ) .
أمّا إمامة الأمّيّ للأمّيّ والأخرس فجائزة ، وهذا متّفق عليه بين الفقهاء .
هذا ، وتكره إمامة الفأفاء ( وهو من يكرّر الفاء ) والتّمتام ( وهو من يكرّر التّاء ) واللّاحن لحناً غير مغيّرٍ للمعنى عند الشّافعيّة والحنابلة . وقال الحنفيّة : الفأفأة ، والتّمتمة ، واللّثغة ( وهي تحرّك اللّسان من السّين إلى الثّاء ، أو من الرّاء إلى الغين ونحوه ) تمنع من الإمامة . وعند المالكيّة في جواز إمامة هؤلاء وأمثالهم خلاف .
ح - السّلامة من الأعذار :
10 - يشترط في الإمام إذا كان يؤمّ الأصحّاء أن يكون سالماً من الأعذار ، كسلس البول وانفلات الرّيح والجرح السّائل والرّعاف ، وهذا عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو رواية عند الشّافعيّة ، لأنّ أصحاب الأعذار يصلّون مع الحدث حقيقةً ، وإنّما تجوز صلاتهم لعذرٍ ، ولا يتعدّى العذر لغيرهم لعدم الضّرورة ، ولأنّ الإمام ضامن ، بمعنى أنّ صلاته تضمن صلاة المقتدي ، والشّيء لا يضمن ما هو فوقه .
ولا يشترط في المشهور عند المالكيّة - وهو الأصحّ عند الشّافعيّة - السّلامة من العذر لصحّة الإمامة ، لأنّ الأحداث إذا عفي عنها في حقّ صاحبها عفي عنها في حقّ غيره .
وأمّا إمامة صاحب العذر لمثله فجائزة باتّفاق الفقهاء مطلقاً ، أو إن اتّحد عذرهما ( ر : اقتداء ) .
خ - القدرة على توفية أركان الصّلاة :
11 - يشترط في الإمام أن يكون قادراً على توفية الأركان ، وهذا إذا كان يصلّي بالأصحّاء ، فمن يصلّي بالإيماء ركوعاً أو سجوداً لا يصحّ أن يصلّي بمن يقدر عليهما عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ) خلافاً للشّافعيّة فإنّهم أجازوا ذلك قياساً على صحّة إمامة المستلقي أو المضطجع للقاعد .
واختلفوا في صحّة إمامة القاعد للقائم ، فالمالكيّة والحنابلة لا يجوّزونها ، لأنّ فيه بناء القويّ على الضّعيف ، واستثنى الحنابلة إمام الحيّ إذا كان مرضه ممّا يرجى زواله ، فأجازوا إمامته ، واستحبّوا له إذا عجز عن القيام أن يستخلف ، فإن صلّى بهم قاعداً صحّ . والشّافعيّة يقولون بالجواز ، وهو قول أكثر الحنفيّة ، لحديث عائشة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « صلّى آخر صلاةٍ صلّاها بالنّاس قاعداً ، والقوم خلفه قيام » .
أمّا إمامة العاجز عن توفية الأركان لمثله فجائزة باتّفاق الفقهاء ، وللتّفصيل ( ر : اقتداء ) .
د - السّلامة من فقد شرطٍ من شروط الصّلاة :
12 - يشترط في الإمام السّلامة من فقد شرطٍ من شروط صحّة الصّلاة كالطّهارة من حدثٍ أو خبثٍ ، فلا تصحّ إمامة محدثٍ ولا متنجّسٍ إذا كان يعلم ذلك ، لأنّه أخلّ بشرطٍ من شروط الصّلاة مع القدرة على الإتيان به ، ولا فرق بين الحدث الأكبر والأصغر ، ولا بين نجاسة الثّوب والبدن والمكان .
وصرّح المالكيّة والشّافعيّة أنّ علم المقتدي بحدث الإمام بعد الصّلاة مغتفر ، وقال الحنفيّة : من اقتدى بإمامٍ ثمّ علم أنّ إمامه محدث أعاد لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من أمّ قوماً ثمّ ظهر أنّه كان محدثاً أو جنباً أعاد صلاته » .
وفصّل الحنابلة فقالوا : لو جهله المأموم وحده وعلمه الإمام يعيدون كلّهم ، أمّا إذا جهله الإمام والمأمومون كلّهم حتّى قضوا الصّلاة صحّت صلاة المأموم وحده ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا صلّى الجنب بالقوم أعاد صلاته وتمّت للقوم صلاتهم » . وتفصيله في مصطلح : ( طهارة ) .
ذ - النّيّة :
13 - يشترط في الإمام عند الحنابلة نيّة الإمامة ، فإنّهم قالوا : من شرط صحّة الجماعة : أن ينوي الإمام أنّه إمام وينوي المأموم أنّه مأموم . ولو أحرم منفرداً ثمّ جاء آخر فصلّى معه ، فنوى إمامته صحّ في النّفل ، لحديث ابن عبّاسٍ أنّه قال : « بتّ عند خالتي ميمونة ، فقام النّبيّ صلى الله عليه وسلم متطوّعاً من اللّيل ، فقام إلى القربة فتوضّأ ، فقام فصلّى ، فقمت لمّا رأيته صنع ذلك ، فتوضّأت من القربة ، ثمّ قمت إلى شقّه الأيسر ، فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني كذلك إلى الشّقّ الأيمن » .
أمّا في الفرض فإن كان ينتظر أحداً ، كإمام المسجد يحرم وحده ، وينتظر من يأتي فيصلّي معه ، فيجوز ذلك أيضاً .
واختار ابن قدامة أنّ الفرض كالنّفل في صحّة صلاة من أحرم منفرداً ثمّ نوى أن يكون إماماً . وقال الحنفيّة : نيّة الرّجل الإمامة شرط لصحّة اقتداء النّساء إن كنّ وحدهنّ ، وهذا في صلاةٍ ذات ركوعٍ وسجودٍ ، لا في صلاة الجنازة ، لما يلزم من الفساد بمحاذاة المرأة له لو حاذته ، وإن لم ينو إمامة المرأة ونوت هي الاقتداء به لم تضرّه ، فتصحّ صلاته ولا تصحّ صلاتها ، لأنّ الاشتراك لا يثبت دون النّيّة .
ولا يشترط نيّة الإمام الإمامة عند المالكيّة والشّافعيّة ، إلاّ في الجمعة والصّلاة المعادة والمنذورة عند الشّافعيّة ، لكنّه يستحبّ عندهم للإمام أن ينوي الإمامة في سائر الصّلوات للخروج من خلاف الموجب لها ، وليحوز فضيلة الإمامة وصلاة الجماعة .
الأحقّ بالإمامة :
14 - وردت في ذلك الأحاديث التّالية : عن أبي سعيدٍ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا كانوا ثلاثةً فليؤمّهم أحدهم ، وأحقّهم بالإمامة أقرؤهم » رواه أحمد ومسلم والنّسائيّ . وعن أبي مسعودٍ عقبة بن عمرٍو قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم :
« يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب اللّه ، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسّنّة ، فإن كانوا في السّنّة سواءً فأقدمهم هجرةً ، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمهم سنّاً ، ولا يؤمّنّ الرّجل الرّجل في سلطانه ، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلاّ بإذنه » .
15 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا اجتمع قوم وكان فيهم ذو سلطانٍ ، كأميرٍ ووالٍ وقاضٍ فهو أولى بالإمامة من الجميع حتّى من صاحب المنزل وإمام الحيّ ، وهذا إذا كان مستجمعاً لشروط صحّة الصّلاة كحفظ مقدار الفرض من القراءة والعلم بأركان الصّلاة ، حتّى ولو كان بين القوم من هو أفقه أو أقرأ منه ، لأنّ ولايته عامّة ، ولأنّ ابن عمر كان يصلّي خلف الحجّاج . وإن لم يكن بينهم ذو سلطانٍ يقدّم صاحب المنزل ، ويقدّم إمام الحيّ وإن كان غيره أفقه أو أقرأ أو أورع منه ، إن شاء تقدّم وإن شاء قدّم من يريده . لكنّه يستحبّ لصاحب المنزل أن يأذن لمن هو أفضل منه .
واتّفقوا كذلك على أنّ بناء أمر الإمامة على الفضيلة والكمال ، ومن استجمع خصال العلم وقراءة القرآن والورع وكبر السّنّ وغيرها من الفضائل كان أولى بالإمامة .
ولا خلاف في تقديم الأعلم والأقرأ على سائر النّاس ، ولو كان في القوم من هو أفضل منه في الورع والسّنّ وسائر الأوصاف .
وجمهور الفقهاء : ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ) على أنّ الأعلم بأحكام الفقه أولى بالإمامة من الأقرأ ، لحديث : « مروا أبا بكرٍ فليصلّ بالنّاس » وكان ثمّة من هو أقرأ منه ، لا أعلم منه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « أقرؤكم أبيٍّ » ، ولقول أبي سعيدٍ :" كان أبو بكرٍ أعلمنا "، وهذا آخر الأمرين من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيكون المعوّل عليه . ولأنّ الحاجة إلى الفقه أهمّ منها إلى القراءة ، لأنّ القراءة إنّما يحتاج إليها لإقامة ركنٍ واحدٍ ، والفقه يحتاج إليه لجميع الأركان والواجبات والسّنن .
وقال الحنابلة ، وهو قول أبي يوسف من الحنفيّة : إنّ أقرأ النّاس أولى بالإمامة ممّن هو أعلمهم ، لحديث أبي سعيدٍ قال : قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا كانوا ثلاثة فليؤمّهم أحدهم ، وأحقّهم بالإمامة أقرؤهم » ولأنّ القراءة ركن لا بدّ منه ، والحاجة إلى العلم إذا عرض عارض مفسد ليمكنه إصلاح صلاته ، وقد يعرض وقد لا يعرض .
16 - أمّا إذا تفرّقت خصال الفضيلة من العلم والقراءة والورع وكبر السّنّ وغيرها في أشخاصٍ فقد اختلفت أقوال الفقهاء . فمنهم من قدّم الأعلم على الأقرأ ، وقالوا : إنّما أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بتقديم القارئ ، لأنّ أصحابه كان أقرؤهم أعلمهم ، فإنّهم كانوا إذا تعلّموا القرآن تعلّموا معه أحكامه ، وهذا قول جمهور الفقهاء . والأصل في أولويّة الإمامة حديث أبي مسعودٍ الأنصاريّ أنّ النّبيّ عليه السلام قال : « يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب اللّه ، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسّنّة ، فإن كانوا في السّنّة سواءً فأقدمهم هجرةً ، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمهم سنّاً » .
17 - وفي ترتيب الأولويّة في الإمامة بعد الاستواء في العلم والقراءة ، قال الحنفيّة والشّافعيّة : يقدّم أورعهم أي الأكثر اتّقاءً للشّبهات ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « من صلّى خلف عالمٍ تقيٍّ فكأنّما صلّى خلف نبيٍّ » ولأنّ الهجرة المذكورة بعد القراءة والعلم بالسّنّة نسخ وجوبها بحديث : « لا هجرة بعد الفتح » فجعلوا الورع - وهو هجر المعاصي - مكان تلك الهجرة .
ومثله ما صرّح به المالكيّة حيث قالوا : الأولويّة بعد الأعلم والأقرأ للأكثر عبادةً . ثمّ إن استووا في الورع يقدّم عند الجمهور الأقدم إسلاماً ، فيقدّم شابّ نشأ في الإسلام على شيخٍ أسلم حديثاً . أمّا لو كانوا مسلمين من الأصل ، أو أسلموا معاً فإنّه يقدّم الأكبر سنّاً ، لقوله عليه السلام : « وليؤمّكما أكبركما سنّاً » . ولأنّ الأكبر في السّنّ يكون أخشع قلباً عادةً ، وفي تقديمه كثرة الجماعة .
18 - فإن استووا في الصّفات والخصال المتقدّمة من العلم والقراءة والورع والسّنّ ، قال الحنفيّة يقدّم الأحسن خلقاً ، لأنّ حسن الخلق من باب الفضيلة ، ومبنى الإمامة على الفضيلة ، فإن كانوا فيه سواءً فأحسنهم وجهاً ، لأنّ رغبة النّاس في الصّلاة خلفه أكثر ، ثمّ الأشرف نسباً ، ثمّ الأنظف ثوباً . فإن استووا يقرع بينهم .
وقال المالكيّة : يقدّم بعد الأسنّ الأشرف نسباً ، ثمّ الأحسن صورةً ، ثمّ الأحسن أخلاقاً ، ثمّ الأحسن ثوباً .
والشّافعيّة كالمالكيّة في تقديم الأشرف نسباً ، ثمّ الأنظف ثوباً وبدناً ، وحسن صوتٍ ، وطيّب صفةٍ وغيرها ، ثمّ يقرع بينهم . أمّا الحنابلة فقد صرّحوا أنّه إن استووا في القراءة والفقه فأقدمهم هجرةً ، ثمّ أسنّهم ، ثمّ أشرفهم نسباً ، ثمّ أتقاهم وأورعهم ، فإن استووا في هذا كلّه أقرع بينهم . ولا يقدّم بحسن الوجه عندهم ، لأنّه لا مدخل له في الإمامة ، ولا أثر له فيها . وهذا التّقديم إنّما هو على سبيل الاستحباب وليس على سبيل الاشتراط ولا الإيجاب ، فلو قدّم المفضول كان جائزاً اتّفاقاً ما دام مستجمعاً شرائط الصّحّة ، لكن مع الكراهة عند الحنابلة . والمقصود بذكر هذه الأوصاف وربط الأولويّة بها هو كثرة الجماعة ، فكلّ من كان أكمل فهو أفضل ، لأنّ رغبة النّاس فيه أكثر .
اختلاف صفة الإمام والمقتدي :
19 - الأصل أنّ الإمام إذا كان أقوى حالاً من المقتدي أو مساوياً له صحّت إمامته اتّفاقاً ، أمّا إذا كان أضعف حالاً ، كأن كان يصلّي نافلةً والمقتدي يصلّي فريضةً ، أو كان الإمام معذوراً والمقتدي سليماً ، أو كان الإمام غير قادرٍ على القيام مثلاً والمقتدي قادراً ، فقد اختلفت آراء الفقهاء ، وإجمالها فيما يأتي :
أوّلاً : تجوز إمامة الماسح للغاسل وإمامة المسافر للمقيم اتّفاقاً ، وتجوز إمامة المتيمّم للمتوضّئ عند جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - ، وقيّد الشّافعيّة هذا الجواز بما إذا لم تجب على الإمام الإعادة .
ثانياً : جمهور الفقهاء على عدم جواز إمامة المتنفّل للمفترض ، والمفترض للّذي يؤدّي فرضاً آخر ، وعدم إمامة الصّبيّ للبالغ في فرضٍ ، وإمامة المعذور للسّليم ، وإمامة العاري للمكتسي ، وإمامة العاجز عن توفية ركنٍ للقادر عليه ، مع خلافٍ وتفصيلٍ في بعض الفروع ، أمّا إمامة هؤلاء لأمثالهم فجائزة باتّفاق الفقهاء . وللتّفصيل يرجع إلى بحث : ( اقتداء ) .
موقف الإمام :
20 - إذا كان يصلّي مع الإمام اثنان أو أكثر فإنّ الإمام يتقدّمهم في الموقف ، لفعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعمل الأمّة بذلك . وقد روي أنّ « جابراً وجبّاراً وقف أحدهما عن يمين النّبيّ صلى الله عليه وسلم والآخر عن يساره ، فأخذ بأيديهما حتّى أقامهما خلفه » . ولأنّ الإمام ينبغي أن يكون بحالٍ يمتاز بها عن غيره ، ولا يشتبه على الدّاخل ليمكنه الاقتداء به . ولو قام في وسط الصّفّ أو في ميسرته جاز مع الكراهة لتركه السّنّة . ويرى الحنابلة بطلان صلاة من يقف على يسار الإمام ، إذا لم يكن أحد عن يمينه .
ولو كان مع الإمام رجل واحد أو صبيّ يعقل الصّلاة وقف الإمام عن يساره والمأموم عن يمينه ، لما روي عن ابن عبّاسٍ « أنّه وقف عن يسار النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأداره إلى يمينه » . ويندب في هذه الحالة تأخّر المأموم قليلاً خوفاً من التّقدّم . ولو وقف المأموم عن يساره أو خلفه جاز مع الكراهة إلاّ عند الحنابلة فتبطل على ما سبق .
ولو كان معه امرأة أقامها خلفه ، لقوله عليه السلام : « أخّروهنّ من حيث أخّرهنّ اللّه » . ولو كان معه رجل وامرأة أقام الرّجل عن يمينه والمرأة خلفه ، وإن كان رجلان وامرأة أقام الرّجلين خلفه والمرأة وراءهما .
21- والسّنّة أن تقف المرأة الّتي تؤمّ النّساء وسطهنّ ، لما روي أنّ عائشة وأمّ سلمة أمّتا نساءً فقامتا وسطهنّ وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
أمّا المالكيّة فقد صرّحوا بعدم جواز إمامتها ولو لمثلها ، في فريضةٍ كانت أو في نافلةٍ كما تقدّم في شروط الإمامة .
22 - ولا يجوز تأخّر الإمام عن المأموم في الموقف عند جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - لحديث : « إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به » ومعنى الائتمام الاتّباع ، والمتقدّم غير تابعٍ . وأجاز المالكيّة تأخّره في الموقف إذا أمكن للمأمومين متابعته في الأركان ، لكنّهم صرّحوا بكراهة تقدّم المقتدي على الإمام أو محاذاته له إلاّ لضرورةٍ . والاختيار في التّقدّم والتّأخّر للقائم بالعقب ، وللقاعد بالألية ، وللمضطجع بالجنب .
23 - هذا ، ويكره أن يكون موقف الإمام عالياً عن موقف المقتدين اتّفاقاً ، إلاّ إذا أراد الإمام تعليم المأمومين ، فالسّنّة أن يقف الإمام في موضعٍ عالٍ عند الشّافعيّة ، لما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ثمّ قال : { أيّها النّاس : إنّما فعلت هذا لتأتمّوا بي ، ولتعلموا صلاتي » . أمّا إذا أراد الإمام بذلك الكبر فممنوع . ولا بأس عند الحنابلة بالعلوّ اليسير ، وقدّروه بمثل درجة المنبر . وقدّر الحنفيّة العلوّ المكروه بما كان قدر ذراعٍ على المعتمد . ولتفصيل هذه المسائل يراجع مصطلح : ( صلاة الجماعة ) ( واقتداء ) .
من تكره إمامتهم :
24 - إنّ بناء أمر الإمامة على الفضيلة والكمال ، فكلّ من كان أكمل فهو أفضل ، وإن تقدّم المفضول على الفاضل جاز وكره وإذا أذن الفاضل للمفضول لم يكره ، وهذا القدر متّفق عليه بين الفقهاء . وقد سبق بيانه في بحث الأولويّة .
ثمّ قال الحنفيّة : يكره تقديم العبد لأنّه لا يتفرّغ للتّعلّم ، والأعرابيّ وهو من يسكن البادية لغلبة الجهل عليه ، ويكره تقديم الفاسق لأنّه لا يهتمّ بأمر دينه ، والأعمى لأنّه لا يتوقّى النّجاسة ، كما يكره إمامة ولد الزّنى ، والمبتدع بدعةً غير مكفّرةٍ ، كذلك يكره إمامة أمرد وسفيهٍ ومفلوجٍ وأبرص شاع برصه . ولأنّ في تقديم هؤلاء تنفير الجماعة ، لكنّه إن تقدّموا جاز ، لقوله عليه السلام : « صلّوا خلف كلّ برٍّ وفاجرٍ » .
والكراهة في حقّهم لما ذكر من النّقائص ، فلو عدمت بأن كان الأعرابيّ أفضل من الحضريّ ، والعبد من الحرّ ، وولد الزّنى من ولد الرّشدة والأعمى من البصير زالت الكراهة . أمّا الفاسق والمبتدع فلا تخلو إمامتهما عن الكراهة بحالٍ ، حتّى صرّح بعضهم بأنّ كراهة تقديمهما كراهة تحريمٍ .
وقال المالكيّة : كره إمامة مقطوع اليد أو الرّجل والأشلّ والأعرابيّ لغيره وإن كان أقرأ ، وكره إمامة ذي السّلس والقروح للصّحيح ، وإمامة من يكرهه بعض الجماعة ، فإن كرهه الكلّ أو الأكثر ، أو ذو الفضل منهم - وإن قلّوا - فإمامته حرام ، لقوله عليه السلام : « لعن رسول اللّه ثلاثةً : رجل أمّ قوماً وهم له كارهون ... » كما كره أن يجعل إماماً راتباً كلّ من الخصيّ أو المأبون أو الأقلف ( غير المختون ) أو ولد الزّنى ، أو مجهول الحال .
وقال الشّافعيّة : يكره إمامة الفاسق والأقلف وإن كان بالغاً ، كما يكره إمامة المبتدع ، ومن يكرهه أكثر القوم لأمرٍ مذمومٍ فيه شرعاً ، والتّمتام والفأفاء ، واللّاحن لحناً غير مغيّرٍ للمعنى ، لكن الأعمى والبصير سيّان في الإمامة ، لتعارض فضيلتهما ، لأنّ الأعمى لا ينظر ما يشغله فهو أخشع ، والبصير ينظر الخبث فهو أحفظ لتجنّبه . وإمامة الحرّ أولى من العبد ، والسّميع أولى من الأصمّ ، والفحل أولى من الخصيّ والمجبوب ، والقرويّ أولى من البدويّ . وقال الحنابلة : تكره إمامة الأعمى والأصمّ واللّحّان الّذي لا يحيل المعنى ، ومن يصرع ، ومن اختلف في صحّة إمامته ، وكذا إمامة الأقلف وأقطع اليدين أو إحداهما ، أو الرّجلين أو إحداهما ، والفأفاء والتّمتام ، وأن يؤمّ قوماً أكثرهم يكرهه لخللٍ في دينه أو فضله . ولا بأس بإمامة ولد الزّنى واللّقيط والمنفيّ باللّعان والخصيّ والأعرابيّ إذا سلم دينهم وصلحوا لها . هذا ، والكراهة إنّما تكون فيما إذا وجد في القوم غير هؤلاء ، وإلاّ فلا كراهة اتّفاقاً .
ما يفعله الإمام قبل بداية الصّلاة :
25 - إذا أراد الإمام الصّلاة يأذن للمؤذّن أن يقيمها ، فإنّ « بلالاً كان يستأذن النّبيّ صلى الله عليه وسلم للإقامة » ، ويسنّ للإمام أن يقوم للصّلاة حين يقال ( حيّ على الفلاح ) أو حين قول المؤذّن : ( قد قامت الصّلاة ) أو مع الإقامة أو بعدها بقدر الطّاقة على تفصيلٍ عند الفقهاء ، وإذا كان مسافراً يخبر المأمومين بذلك ليكونوا على علمٍ بحاله ، ويصحّ أن يخبرهم بعدم تمام الصّلاة ليكملوا صلاتهم . كما يسنّ أن يأمر بتسوية الصّفوف فيلتفت عن يمينه وشماله قائلاً : اعتدلوا وسوّوا صفوفكم ، لما روى محمّد بن مسلمٍ قال : « صلّيت إلى جانب أنس بن مالكٍ يوماً فقال : هل تدري لم صنع هذا العود ؟ فقلت : لا واللّه . فقال : إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصّلاة أخذه بيمينه فقال : اعتدلوا وسوّوا صفوفكم ، ثمّ أخذه بيساره وقال : اعتدلوا وسوّوا صفوفكم » ، وفي روايةٍ : « اعتدلوا في صفوفكم وتراصّوا ، فإنّي أراكم من وراء ظهري » .
ما يفعله الإمام أثناء الصّلاة :
أ - الجهر أو الإسرار بالقراءة :
26 - يجهر الإمام بالقراءة في الفجر والرّكعتين الأوليين من المغرب والعشاء أداءً وقضاءً ، وكذلك في الجمعة والعيدين والتّراويح والوتر بعدها . ويسرّ في غيرها من الصّلوات . والجهر فيما يجهر فيه والمخافتة فيما يخافت فيه واجب على الإمام عند الحنفيّة ، وسنّة عند غيرهم . وتفصيله في مصطلح : ( قراءة ) .
ب - تخفيف الصّلاة :
27 - يسنّ للإمام أن يخفّف في القراءة والأذكار مع فعل الأبعاض والهيئات ، ويأتي بأدنى الكمال ، لما روي عن أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا صلّى أحدكم بالنّاس فليخفّف ، فإنّ فيهم السّقيم والضّعيف والكبير » ، ولحديث معاذٍ أنّه كان يطوّل بهم القراءة ، فقال عليه الصلاة والسلام : « أفتّان أنت يا معاذ ، صلّ بالقوم صلاة أضعفهم » ، لكنّه إن صلّى بقومٍ يعلم أنّهم يؤثرون التّطويل لم يكره ، لأنّ المنع لأجلهم ، وقد رضوا . ويكره له الإسراع ، بحيث يمنع المأموم من فعل ما يسنّ له ، كتثليث التّسبيح في الرّكوع والسّجود ، وإتمام ما يسنّ في التّشهّد الأخير .
ج - الانتظار للمسبوق :
28 - إن أحسّ الإمام بشخصٍ داخلٍ وهو راكع ، ينتظره يسيراً ما لم يشقّ على من خلفه ، وهذا عند الحنابلة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ، لأنّه انتظار ينفع ولا يشقّ ، فشرع كتطويل الرّكعة وتخفيف الصّلاة ، وقد ثبت « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يطيل الرّكعة الأولى حتّى لا يسمع وقع قدمٍ » . وكان ينتظر الجماعة فإن رآهم قد اجتمعوا عجّل ، وإذا رآهم قد أبطئوا أخّر . ويكره ذلك عند الحنفيّة والمالكيّة ، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة .
د - الاستخلاف :
29 - إذا حدث للإمام عذر لا تبطل به صلاة المأمومين يجوز للإمام أن يستخلف غيره من المأمومين لتكميل الصّلاة بهم ، وهذا عند جمهور الفقهاء .
وفي كيفيّة الاستخلاف وشروطه وأسبابه تفصيل وخلاف ينظر في مصطلح : ( استخلاف ) .
ما يفعله الإمام عقب الفراغ من الصّلاة :
30 - يستحبّ للإمام والمأمومين عقب الصّلاة ذكر اللّه والدّعاء بالأدعية المأثورة ، منها ما رواه الشّيخان « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كلّ صلاةٍ مكتوبةٍ : لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيءٍ قدير ... إلخ » ، كما يستحبّ له إذا فرغ من الصّلاة أن يقبل على النّاس بوجهه يميناً أو شمالاً إذا لم يكن بحذائه أحد ، لما روي عن سمرة قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلّى صلاةً أقبل علينا بوجهه » .
ويكره له المكث على هيئته مستقبل القبلة ، لما روي عن عائشة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصّلاة لا يمكث في مكانه إلاّ مقدار أن يقول : اللّهمّ أنت السّلام ومنك السّلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام » ، ولأنّ المكث يوهم الدّاخل أنّه في الصّلاة فيقتدي به . كما يكره له أن يتنفّل في المكان الّذي أمّ فيه .
وإذا أراد الانصراف فإن كان خلفه نساء استحبّ له أن يلبث يسيراً ، حتّى ينصرف النّساء ولا يختلطن بالرّجال ، لما روت أمّ سلمة « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلّم قام النّساء حين يقضي سلامه ، فيمكث يسيراً قبل أن يقوم » . ثمّ ينصرف الإمام حيث شاء عن يمينٍ وشمالٍ .
31 - ويستحبّ كذلك للإمام المسافر إذا صلّى بمقيمين أن يقول لهم عقب تسليمه : أتمّوا صلاتكم فإنّا سفر ، لما روي عن عمران بن حصينٍ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى بأهل مكّة ركعتين ، ثمّ قال لهم : صلّوا أربعاً فإنّا سفر » .
هذا ، وقد فرّق الحنفيّة بين الصّلوات الّتي بعدها سنّة وبين الّتي ليست بعدها سنّة ، فقالوا : إن كانت صلاةً لا تصلّى بعدها سنّة ، كالفجر والعصر فإن شاء الإمام قام ، وإن شاء قعد يشتغل بالدّعاء ، مغيّراً هيئته أو منحرفاً عن مكانه . وإن كانت صلاةً بعدها سنّة يكره له المكث قاعداً ، ولكن يقوم ويتنحّى عن ذلك المكان ثمّ يتنفّل .
ووجه التّفرقة عندهم أنّ السّنن بعد الفرائض شرعت لجبر النّقصان ، ليقوم في الآخرة مقام ما ترك فيها لعذرٍ ، فيكره الفصل بينهما بمكثٍ طويلٍ ، ولا كذلك الصّلوات الّتي ليست بعدها سنّة . ولم يعثر على هذه التّفرقة في كتب غير الحنفيّة .
الأجر على الإمامة :
32 - ذهب جمهور الفقهاء : - الشّافعيّة والحنابلة ، والمتقدّمون من الحنفيّة - إلى عدم جواز الاستئجار لإمامة الصّلاة ، لأنّها من الأعمال الّتي يختصّ فاعلها بكونه من أهل القربة ، فلا يجوز الاستئجار عليها كنظائرها من الأذان وتعليم القرآن ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به » . ولأنّ الإمام يصلّي لنفسه ، فمن أراد اقتدى به وإن لم ينو الإمامة ، وإن توقّف على نيّته شيء فهو إحراز فضيلة الجماعة ، وهذه فائدة تختصّ به . ولأنّ العبد فيما يعمله من القربات والطّاعات عامل لنفسه ، قال سبحانه وتعالى : { من عمل صالحاً فلنفسه } ، ومن عمل لنفسه لا يستحقّ الأجر على غيره .
وقال المالكيّة : جاز أخذ الأجرة على الأذان وحده أو مع صلاةٍ ، وكره الأجر على الصّلاة وحدها ، فرضاً كانت أو نفلاً من المصلّين .
والمفتى به عند متأخّري الحنفيّة جواز الاستئجار لتعليم القرآن والفقه والإمامة والأذان ، ويجبر المستأجر على دفع المسمّى بالعقد أو أجر المثل إذا لم تذكر مدّة .
واستدلّوا للجواز بالضّرورة ، وهي خشية ضياع القرآن لظهور التّواني في الأمور الدّينيّة اليوم . وهذا كلّه في الأجر . وأمّا الرّزق من بيت المال فيجوز على ما يتعدّى نفعه من هذه الأمور بلا خلافٍ ، لأنّه من باب الإحسان والمسامحة ، بخلاف الإجارة فإنّها من باب المعاوضة ، ولأنّ بيت المال لمصالح المسلمين ، فإذا كان بذله لمن يتعدّى نفعه إلى المسلمين محتاجاً إليه كان من المصالح ، وكان للآخذ أخذه ، لأنّه من أهله وجرى مجرى الوقف على من يقوم بهذه المصالح .
الإمامة الكبرى
التّعريف :
1 - ( الإمامة ) : مصدر أمّ القوم وأمّ بهم . إذا تقدّمهم وصار لهم إماماً . والإمام - وجمعه أئمّة - : كلّ من ائتمّ به قوم سواء أكانوا على صراطٍ مستقيمٍ : كما في قوله تعالى : { وجعلناهم أئمّةً يهدون بأمرنا } أم كانوا ضالّين كقوله تعالى : { وجعلناهم أئمّةً يدعون إلى النّار ويوم القيامة لا ينصرون } .
ثمّ توسّعوا في استعماله ، حتّى شمل كلّ من صار قدوةً في فنٍّ من فنون العلم . فالإمام أبو حنيفة قدوة في الفقه ، والإمام البخاريّ قدوة في الحديث ... إلخ ، غير أنّه إذا أطلق لا ينصرف إلاّ إلى صاحب الإمامة العظمى ، ولا يطلق على الباقي إلاّ بالإضافة ، لذلك عرّف الرّازيّ الإمام بأنّه : كلّ شخصٍ يقتدى به في الدّين .
والإمامة الكبرى في الاصطلاح : رئاسة عامّة في الدّين والدّنيا خلافةً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وسمّيت كبرى تمييزاً لها عن الإمامة الصّغرى ، وهم إمامة الصّلاة وتنظر في موضعها .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الخلافة :
2 - الخلافة في اللّغة : مصدر خلف يخلف خلافةً : أي : بقي بعده أو قام مقامه ، وكلّ من يخلف شخصاً آخر يسمّى خليفةً ، لذلك سمّي من يخلف الرّسول صلى الله عليه وسلم في إجراء الأحكام الشّرعيّة ورئاسة المسلمين في أمور الدّين والدّنيا خليفةً ، ويسمّى المنصب خلافةً وإمامةً .
أمّا في الاصطلاح الشّرعيّ : فهي ترادف الإمامة ، وقد عرّفها ابن خلدونٍ بقوله : هي حمل الكافّة على مقتضى النّظر الشّرعيّ ، في مصالحهم الأخرويّة ، والدّنيويّة الرّاجعة إليها ، ثمّ فسّر هذا التّعريف بقوله : فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشّرع في حراسة الدّين والدّنيا .
ب - الإمارة :
3 - الإمارة لغةً : الولاية ، والولاية إمّا أن تكون عامّةً ، فهي الخلافة أو الإمامة العظمى ، وإمّا أن تكون خاصّةً على ناحيةٍ كأن ينال أمر مصرٍ ونحوه ، أو على عملٍ خاصٍّ من شئون الدّولة كإمارة الجيش وإمارة الصّدقات ، وتطلق على منصبٍ أمير .
ج - السّلطة :
4 - السّلطة هي : السّيطرة والتّمكّن والقهر والتّحكّم ومنه السّلطان وهو من له ولاية التّحكّم والسّيطرة في الدّولة ، فإن كانت سلطته قاصرةً على ناحيةٍ خاصّةٍ فليس بخليفةٍ ، وإن كانت عامّةً فهو الخليفة ، وقد وجدت في العصور الإسلاميّة المختلفة خلافة بلا سلطةٍ ، كما وقع في أواخر العبّاسيّين ، وسلطة بلا خلافةٍ كما كان الحال في عهد المماليك .
د - الحكم :
5 - الحكم هو في اللّغة : القضاء ، يقال : حكم له وعليه وحكم بينهما ، فالحاكم هو القاضي في عرف اللّغة والشّرع .
وقد تعارف النّاس في العصر الحاضر على إطلاقه على من يتولّى السّلطة العامّة .
الحكم التّكليفيّ :
6 - أجمعت الأمّة على وجوب عقد الإمامة ، وعلى أنّ الأمّة يجب عليها الانقياد لإمامٍ عادلٍ ، يقيم فيهم أحكام اللّه ، ويسوسهم بأحكام الشّريعة الّتي أتى بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولم يخرج عن هذا الإجماع من يعتدّ بخلافه .
واستدلّوا لذلك ، بإجماع الصّحابة والتّابعين ، وقد ثبت أنّ الصّحابة رضي الله عنهم ، بمجرّد أن بلغهم نبأ وفاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بادروا إلى عقد اجتماعٍ في سقيفة بني ساعدةٍ ، واشترك في الاجتماع كبار الصّحابة ، وتركوا أهمّ الأمور لديهم في تجهيز رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وتشييع جثمانه الشّريف ، وتداولوا في أمر خلافته .
وهم ، وإن اختلفوا في بادئ الأمر حول الشّخص الّذي ينبغي أن يبايع ، أو على الصّفات الّتي ينبغي أن تتوفّر فيمن يختارونه ، فإنّهم لم يختلفوا في وجوب نصب إمامٍ للمسلمين ، ولم يقل أحد مطلقاً إنّه لا حاجة إلى ذلك ، وبايعوا أبا بكرٍ رضي الله عنه ، ووافق بقيّة الصّحابة الّذين لم يكونوا حاضرين في السّقيفة ، وبقيت هذه السّنّة في كلّ العصور ، فكان ذلك إجماعاً على وجوب نصب الإمام .
وهذا الوجوب وجوب كفايةٍ ، كالجهاد ونحوه ، فإذا قام بها من هو أهل لها سقط الحرج عن الكافّة ، وإن لم يقم بها أحد ، أثم من الأمّة فريقان :
أ - أهل الاختيار وهم : أهل الحلّ والعقد من العلماء ووجوه النّاس ، حتّى يختاروا إماماً للأمّة .
ب - أهل الإمامة وهم : من تتوفّر فيهم شروط الإمامة ، إلى أن ينصب أحدهم إماماً .
ما يجوز تسمية الإمام به :
7 - اتّفق الفقهاء على جواز تسمية الإمام : خليفةً ، وإماماً ، وأمير المؤمنين .
فأمّا تسميته إماماً فتشبيهاً بإمام الصّلاة في وجوب الاتّباع والاقتداء به فيما وافق الشّرع ، ولهذا سمّي منصبه بالإمامة الكبرى .
وأمّا تسميته خليفةً فلكونه يخلف النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حراسة الدّين وسياسة الدّنيا في الأمّة ، فيقال خليفة بإطلاق ، وخليفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
واختلفوا في جواز تسميته خليفة اللّه ، فذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جواز تسميته بخليفة اللّه ، لأنّ أبا بكرٍ رضي الله عنه نهى عن ذلك لمّا دعي به ، وقال : لست خليفة اللّه ، ولكنّي خليفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . ولأنّ الاستخلاف إنّما هو في حقّ الغائب ، واللّه منزّه عن ذلك . وأجازه بعضهم اقتباساً من الخلافة العامّة للآدميّين في قوله تعالى :
{ إنّي جاعل في الأرض خليفةً } وقوله : { هو الّذي جعلكم خلائف في الأرض } .
معرفة الإمام باسمه وعينه :
8 - لا تجب معرفة الإمام باسمه وعينه على كافّة الأمّة ، وإنّما يلزمهم أن يعرفوا أنّ الخلافة أفضت إلى أهلها ، لما في إيجاب معرفته عليهم باسمه وعينه من المشقّة والحرج ، وإنّما يجب ذلك على أهل الاختيار الّذين تنعقد ببيعتهم الخلافة ، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء .
حكم طلب الإمامة :
9 - يختلف الحكم باختلاف حال الطّالب ، فإن كان لا يصلح لها إلاّ شخص وجب عليه أن يطلبها ، ووجب على أهل الحلّ والعقد أن يبايعوه .
وإن كان يصلح لها جماعة صحّ أن يطلبها واحد منهم ، ووجب اختيار أحدهم ، وإلاّ أجبر أحدهم على قبولها جمعاً لكلمة الأمّة . وإن كان هناك من هو أولى منه كره له طلبها ، وإن كان غير صالحٍ لها حرم عليه طلبها .
شروط الإمامة :
10 - يشترط الفقهاء للإمام شروطاً ، منها ما هو متّفق عليه ومنها ما هو مختلف فيه . فالمتّفق عليه من شروط الإمامة :
أ - الإسلام ، لأنّه شرط في جواز الشّهادة . وصحّة الولاية على ما هو دون الإمامة في الأهمّيّة . قال تعالى : { ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً } والإمامة كما قال ابن حزمٍ : أعظم ( السّبيل ) ، وليراعى مصلحة المسلمين .
ب - التّكليف : ويشمل العقل ، والبلوغ ، فلا تصحّ إمامة صبيٍّ أو مجنونٍ ، لأنّهما في ولاية غيرهما ، فلا يليان أمر المسلمين ، وجاء في الأثر « تعوّذوا باللّه من رأس السّبعين ، وإمارة الصّبيان » .
ت - الذّكورة : فلا تصحّ إمارة النّساء ، لخبر : « لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأةً » ولأنّ هذا المنصب تناط به أعمال خطيرة وأعباء جسيمة تتنافى مع طبيعة المرأة ، وفوق طاقتها . فيتولّى الإمام قيادة الجيوش ويشترك في القتال بنفسه أحياناً .
ث - الكفاية ولو بغيره ، والكفاية هي الجرأة والشّجاعة والنّجدة ، بحيث يكون قيّماً بأمر الحرب والسّياسة وإقامة الحدود والذّبّ عن الأمّة .
ج - الحرّيّة : فلا يصحّ عقد الإمامة لمن فيه رقّ ، لأنّه مشغول في خدمة سيّده .
ح - سلامة الحواسّ والأعضاء ممّا يمنع استيفاء الحركة للنّهوض بمهامّ الإمامة . وهذا القدر من الشّروط متّفق عليه .
11 - أمّا المختلف فيه من الشّروط فهو :
أ - العدالة والاجتهاد . ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ العدالة والاجتهاد شرطا صحّةٍ ، فلا يجوز تقليد الفاسق أو المقلّد إلاّ عند فقد العدل والمجتهد .
وذهب الحنفيّة إلى أنّهما شرطا أولويّةٍ ، فيصحّ تقليد الفاسق والعامّيّ ، ولو عند وجود العدل والمجتهد .
ب - السّمع والبصر وسلامة اليدين والرّجلين .
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّها شروط انعقادٍ ، فلا تصحّ إمامة الأعمى والأصمّ ومقطوع اليدين والرّجلين ابتداءً ، وينعزل إذا طرأت عليه ، لأنّه غير قادرٍ على القيام بمصالح المسلمين ، ويخرج بها عن أهليّة الإمامة إذا طرأت عليه .
وذهب بعض الفقهاء إلى أنّه لا يشترط ذلك ، فلا يضرّ الإمام عندهم أن يكون في خلقه عيب جسديّ أو مرض منفّر ، كالعمى والصّمم وقطع اليدين والرّجلين والجدع والجذام ، إذ لم يمنع ذلك قرآن ولا سنّة ولا إجماع .
ج - النّسب : ويشترط عند جمهور الفقهاء أن يكون الإمام قرشيّاً لحديث : « الأئمّة من قريشٍ » وخالف في ذلك بعض العلماء منهم أبو بكرٍ الباقلّانيّ ، واحتجّوا بقول عمر :" لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيته "، ولا يشترط أن يكون هاشميّاً ولا علويّاً باتّفاق فقهاء المذاهب الأربعة ، لأنّ الثّلاثة الأول من الخلفاء الرّاشدين لم يكونوا من بني هاشمٍ ، ولم يطعن أحد من الصّحابة في خلافتهم ، فكان ذلك إجماعاً في عصر الصّحابة .
دوام الإمامة :
12 - يشترط لدوام الإمامة دوام شروطها ، وتزول بزوالها إلاّ العدالة ، فقد اختلف في أثر زوالها على منصب الإمامة على النّحو التّالي :
عند الحنفيّة ليست العدالة شرطاً لصحّة الولاية ، فيصحّ تقليد الفاسق الإمامة عندهم مع الكراهة ، وإذا قلّد إنسان الإمامة حال كونه عدلاً ، ثمّ جار في الحكم ، وفسق بذلك أو غيره لا ينعزل ، ولكن يستحقّ العزل إن لم يستلزم عزله فتنةً ، ويجب أن يدعى له بالصّلاح ونحوه ، ولا يجب الخروج عليه ، كذا نقل الحنفيّة عن أبي حنيفة ، وكلمتهم قاطبةً متّفقة في توجيهه على أنّ وجهه : هو أنّ بعض الصّحابة رضي الله عنهم صلّوا خلف أئمّة الجور وقبلوا الولاية عنهم . وهذا عندهم للضّرورة وخشية الفتنة .
وقال الدّسوقيّ : يحرم الخروج على الإمام الجائر لأنّه لا يعزل السّلطان بالظّلم والفسق وتعطيل الحقوق بعد انعقاد إمامته ، وإنّما يجب وعظه وعدم الخروج عليه ، إنّما هو لتقديم أخفّ المفسدتين ، إلاّ أن يقوم عليه إمام عدل ، فيجوز الخروج عليه وإعانة ذلك القائم . وقال الخرشيّ : روى ابن القاسم عن مالكٍ : إن كان الإمام مثل عمر بن عبد العزيز وجب على النّاس الذّبّ عنه والقتال معه ، وأمّا غيره فلا ، دعه وما يراد منه ، ينتقم اللّه من الظّالم بظالمٍ ، ثمّ ينتقم من كليهما .
وقال الماورديّ : إنّ الجرح في عدالة الإمام ، وهو الفسق على ضربين :
أحدهما ما تبع فيه الشّهوة ، والثّاني ما تعلّق فيه بشبهةٍ . فأمّا الأوّل منهما فمتعلّق بأفعال الجوارح ، وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيماً للشّهوة وانقياداً للهوى ، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها ، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها ، فلو عاد إلى العدالة لم يعد إلى الإمامة إلاّ بعقدٍ جديدٍ . وقال بعض المتكلّمين : يعود إلى الإمامة بعودة العدالة من غير أن يستأنف له عقد ولا بيعة ، لعموم ولايته ولحوق المشقّة في استئناف بيعته .
وأمّا الثّاني منهما فمتعلّق بالاعتقاد المتأوّل بشبهةٍ تعترض ، فيتأوّل لها خلاف الحقّ ، فقد اختلف العلماء فيها : فذهب فريق منهم إلى أنّها تمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها ، ويخرج منها بحدوثه لأنّه لمّا استوى حكم الكفر بتأويلٍ وغير تأويلٍ وجب أن يستوي حال الفسق بتأويلٍ وغير تأويلٍ . وقال كثير من علماء البصرة : إنّه لا يمنع من انعقاد الإمامة ، ولا يخرج به منها ، كما لا يمنع من ولاية القضاء وجواز الشّهادة .
وقال أبو يعلى : إذا وجدت هذه الصّفات حالة العقد ، ثمّ عدمت بعد العقد نظرت ، فإن كان جرحاً في عدالته ، وهو الفسق ، فإنّه لا يمنع من استدامة الإمامة . سواء كان متعلّقاً بأفعال الجوارح . وهو ارتكاب المحظورات ، وإقدامه على المنكرات اتّباعاً لشهوته ، أو كان متعلّقاً بالاعتقاد ، وهو المتأوّل لشبهةٍ تعرض يذهب فيها إلى خلاف الحقّ . وهذا ظاهر كلامه ( أحمد ) في رواية المروزيّ في الأمير يشرب المسكر ويغلّ ، يغزى معه ، وقد كان يدعو المعتصم بأمير المؤمنين ، وقد دعاه إلى القول بخلق القرآن .
وقال حنبل : في ولاية الواثق اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبد اللّه قالوا : هذا أمر قد تفاقم وفشا - يعنون إظهار القول بخلق القرآن - نشاورك في أنّا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه . فقال : عليكم بالنّكير بقلوبكم ، ولا تخلعوا يداً من طاعةٍ ، ولا تشقّوا عصا المسلمين . وقال أحمد في رواية المروزيّ ، وذكر الحسن بن صالح بن حيٍّ الزّيديّ فقال : كان يرى السّيف ، ولا نرضى بمذهبه .
ما تنعقد به الإمامة :
تنعقد الإمامة بطرقٍ ثلاثةٍ ، باتّفاق أهل السّنّة :
أوّلاً - البيعة :
13 - والمراد بالبيعة بيعة أهل الحلّ والعقد ، وهم : علماء المسلمين ورؤساؤهم ووجوه النّاس ، الّذين يتيسّر اجتماعهم حالة البيعة بلا كلفةٍ عرفاً ، ولكن هل يشترط عدد معيّن ؟ اختلف في ذلك الفقهاء ، فنقل عن بعض الحنفيّة أنّه يشترط جماعة دون تحديد عددٍ معيّنٍ . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّها لا تنعقد إلاّ بجمهور أهل الحلّ والعقد ، بالحضور والمباشرة بصفقة اليد ، وإشهاد الغائب منهم من كلّ بلدٍ ، ليكون الرّضى به عامّاً ، والتّسليم بإمامته إجماعاً .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يشترط اتّفاق أهل الحلّ والعقد من سائر البلاد ، لتعذّر ذلك وما فيه من المشقّة ، وذكروا أقوالاً خمسةً في ذلك فقالت طائفة : أقلّ ما تنعقد به الإمامة خمسة ، يجتمعون على عقدها أو يعقد أحدهم برضى الباقين ، واستدلّوا بخلافة أبي بكرٍ لأنّها انعقدت بخمسةٍ اجتمعوا عليها ، ثمّ تابعهم النّاس فيها . وجعل عمر الشّورى في ستّةٍ ليعقدوا لأحدهم برضى الخمسة .
وذهبت طائفة إلى أنّ الإمامة لا تنعقد بأقلّ من أربعين ، لأنّها أشدّ خطراً من الجمعة ، وهي لا تنعقد بأقلّ من أربعين ، والرّاجح عندهم : أنّه لا يشترط عدد معيّن ، بل لا يشترط عدد ، حتّى لو انحصرت أهليّة الحلّ والعقد بواحدٍ مطاعٍ كفت بيعته لانعقاد الإمامة ، ولزم على النّاس الموافقة والمتابعة .
شروط أهل الاختيار :
14 - يشترط الفقهاء لأهل الاختيار أموراً ، هي : العدالة بشروطها ، والعلم بشروط الإمامة ، والرّأي والحكمة والتّدبير .
ويزيد الشّافعيّة شرطاً آخر وهو : أن يكون مجتهداً في أحكام الإمامة إن كان الاختيار من واحدٍ ، وأن يكون فيهم مجتهد إن كان أهل الاختيار جماعةً .
ثانياً : ولاية العهد : (الاستخلاف ) :
15 - وهي : عهد الإمام بالخلافة إلى من يصحّ إليه العهد ليكون إماماً بعده . قال الماورديّ : انعقاد الإمامة بعهد من قبله ممّا انعقد الإجماع على جوازه ، ووقع الاتّفاق على صحّته ، لأمرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكروهما .
أحدهما : أنّ أبا بكرٍ رضي الله عنه عهد بها إلى عمر رضي الله عنه ، فأثبت المسلمون إمامته بعهده .
والثّاني : أنّ عمر رضي الله عنه عهد بها إلى أهل الشّورى ، فقبلت الجماعة دخولهم فيها ، وهم أعيان العصر اعتقاداً لصحّة العهد بها وخرج باقي الصّحابة منها ، وقال عليّ للعبّاس رضوان الله عليهما حين عاتبه على الدّخول في الشّورى :" كان أمراً عظيماً في أمور الإسلام لم أر لنفسي الخروج منه ". فصار العهد بها إجماعاً في انعقاد الإمامة ، فإذا أراد الإمام أن يعهد بها فعليه أن يجتهد رأيه في الأحقّ بها والأقوم بشروطها ، فإذا تعيّن له الاجتهاد في واحدٍ نظر فيه :
فإن لم يكن ولداً ولا والداً جاز أن ينفرد بعقد البيعة له وبتفويض العهد إليه ، وإن لم يستشر فيه أحداً من أهل الاختيار ، لكن اختلفوا هل يكون ظهور الرّضى منهم شرطاً في انعقاد بيعته أو لا ؟ فذهب بعض علماء أهل البصرة إلى أنّ رضى أهل الاختيار لبيعته شرط في لزومها للأمّة ، لأنّها حقّ يتعلّق بهم ، فلم تلزمهم إلاّ برضى أهل الاختيار منهم ، والصّحيح أنّ بيعته منعقدة وأنّ الرّضى بها غير معتبرٍ ، لأنّ بيعة عمر رضي الله عنه لم تتوقّف على رضى الصّحابة ، ولأنّ الإمام أحقّ بها فكان اختياره فيها أمضى ، وقوله فيها أنفذ .
وإن كان وليّ العهد ولداً أو والداً فقد اختلف في جواز انفراده بعقد البيعة له على ثلاثة مذاهب .
أحدهما : لا يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لولدٍ ولا لوالدٍ ، حتّى يشاور فيه أهل الاختيار فيرونه أهلاً لها ، فيصحّ منه حينئذٍ عقد البيعة له ، لأنّ ذلك منه تزكية له تجري مجرى الشّهادة ، وتقليده على الأمّة يجري مجرى الحكم ، وهو لا يجوز أن يشهد لوالدٍ ولا لولدٍ ، ولا يحكم لواحدٍ منهما للتّهمة العائدة إليه بما جبل من الميل إليه .
والمذهب الثّاني : يجوز أن يفرد بعقدها لولدٍ ، ووالدٍ ، لأنّه أمير الأمّة نافذ الأمر لهم وعليهم . فغلب حكم المنصب على حكم النّسب ، ولم يجعل للتّهمة طريقاً على أمانته ولا سبيلاً إلى معارضته ، وصار فيها كعهده بها إلى غير ولده ووالده ، وهل يكون رضى أهل الاختيار بعد صحّة العهد معتبراً في لزومه للأمّة أو لا ؟ على ما قدّمناه من الوجهين .
والمذهب الثّالث : أنّه يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لوالده ، ولا يجوز أن ينفرد بها لولده ، لأنّ الطّبع يبعث على ممايلة الولد أكثر من ممّا يبعث على ممايلة الوالد ، ولذلك كان كلّ ما يقتنيه في الأغلب مذخوراً لولده دون والده .
فأمّا عقدها لأخيه ومن قاربه من عصبته ومناسبيه فكعقدها للبعداء الأجانب في جواز تفرّده بها . وقال ابن خلدونٍ ، بعد أن قدّم الكلام في الإمامة ومشروعيّتها لما فيها من المصلحة ، وأنّ حقيقتها للنّظر في مصالح الأمّة لدينهم ودنياهم . قال : فالإمام هو وليّهم والأمين عليهم ، ينظر لهم ذلك في حياته ، ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته ، ويقيم لهم من يتولّى أمورهم كما كان هو يتولّاها ، ويثقون بنظره لهم في ذلك ، كما وثقوا به فيما قبل ، وقد عرف ذلك من الشّرع بإجماع الأمّة على جوازه وانعقاده ، إذ وقع بعهد أبي بكرٍ رضي الله عنه لعمر بمحضرٍ من الصّحابة ، وأجازوه ، وأوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر رضي الله عنه وعنهم ، وكذلك عهد عمر في الشّورى إلى السّتّة بقيّة العشرة ، وجعل لهم أن يختاروا للمسلمين ، ففوّض بعضهم إلى بعضٍ ، حتّى أفضى ذلك إلى عبد الرّحمن بن عوفٍ ، فاجتهد وناظر المسلمين فوجدهم متّفقين على عثمان وعلى عليٍّ ، فآثر عثمان بالبيعة على ذلك لموافقته إيّاه على لزوم الاقتداء بالشّيخين في كلّ ما يعرض له دون اجتهاده ، فانعقد أمر عثمان لذلك ، وأوجبوا طاعته ، والملأ من الصّحابة حاضرون للأولى والثّانية ، ولم ينكره أحد منهم ، فدلّ على أنّهم متّفقون على صحّة هذا العهد ، عارفون بمشروعيّته ، والإجماع حجّة كما عرف ، ولا يتّهم الإمام في هذا الأمر وإن عهد إلى أبيه أو ابنه ، لأنّه مأمون على النّظر لهم في حياته ، فأولى أن لا يحتمل فيها تبعةً بعد مماته ، خلافاً لمن قال باتّهامه في الولد والوالد ، أو لمن خصّص التّهمة بالولد دون الوالد ، فإنّه بعيد عن الظّنّة في ذلك كلّه ، لا سيّما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحةٍ أو توقّع مفسدةٍ فتنتفي الظّنّة في ذلك رأساً .
هذا ، وللإمام أن يجعلها شورى بين اثنين فأكثر من أهل الإمامة ، فيتعيّن من عيّنوه بعد موت الإمام ، لأنّ عمر رضي الله عنه جعل الأمر شورى بين ستّةٍ ، فاتّفقوا على عثمان رضي الله عنه ، فلم يخالف من الصّحابة أحد ، فكان ذلك إجماعاً .
استخلاف الغائب :
16 - صرّح الفقهاء بأنّه يصحّ استخلاف غائبٍ عن البلد ، إن علم حياته ، ويستقدم بعد موت الإمام ، فإن طال غيابه وتضرّر المسلمون بغيابه يجوز لأهل الاختيار نصب نائبٍ عنه ، وينعزل النّائب بقدومه .
شروط صحّة ولاية العهد :
17 - يشترط جمهور الفقهاء لصحّة ولاية العهد شروطاً منها :
أ - أن يكون المستخلف جامعاً لشروط الإمامة ، فلا يصحّ الاستخلاف من الإمام الفاسق أو الجاهل .
ب - أن يقبل وليّ العهد في حياة الإمام ، فإن تأخّر قبوله عن حياة الإمام تكون وصيّةً بالخلافة ، فيجري فيها أحكام الوصيّة ، وعند الشّافعيّة قول ببطلان الوصيّة في الاستخلاف ، لأنّ الإمام يخرج عن الولاية بالموت .
ج - أن يكون وليّ العهد مستجمعاً لشروط الإمامة ، وقت عهد الولاية إليه ، مع استدامتها إلى ما بعد موت الإمام ، فلا يصحّ - عند جمهور الفقهاء - عهد الولاية إلى صبيٍّ أو مجنونٍ أو فاسقٍ وإن كملوا بعد وفاة الإمام ، وتبطل بزوال أحد الشّروط من وليّ العهد في حياة الإمام . وذهب الحنفيّة إلى جواز العهد إلى صبيٍّ وقت العهد ، ويفوّض الأمر إلى والٍ يقوم به ، حتّى يبلغ وليّ العهد . وصرّحوا أيضاً بأنّه إذا بلغ جدّدت بيعته وانعزل الوالي المفوّض عنه ببلوغه .
ثالثاً : الاستيلاء بالقوّة :
18 - قال الماورديّ : اختلف أهل العلم في ثبوت إمامة المتغلّب وانعقاد ولايته بغير عقدٍ ولا اختيارٍ ، فذهب بعض فقهاء العراق إلى ثبوت ولايته ، وانعقاد إمامته ، وحمل الأمّة على طاعته وإن لم يعقدها أهل الاختيار ، لأنّ مقصود الاختيار تمييز المولّى ، وقد تميّز هذا بصفته . وذهب جمهور الفقهاء والمتكلّمين إلى أنّ إمامته لا تنعقد إلاّ بالرّضى والاختيار ، لكن يلزم أهل الاختيار عقد الإمامة له ، فإن توقّفوا أثموا لأنّ الإمامة عقد لا يتمّ إلاّ بعاقدٍ . وقال أبو يعلى : الإمامة تنعقد من وجهين :
أحدهما : باختيار أهل الحلّ والعقد .
والثّاني : بعهد الإمام من قبل .
فأمّا انعقادها باختيار أهل الحلّ والعقد ، فلا تنعقد إلاّ بجمهور أهل الحلّ والعقد . قال أحمد ، في رواية إسحاق بن إبراهيم : الإمام : الّذي يجتمع عليه ، كلّهم يقول : هذا إمام .
وظاهر هذا : أنّها تنعقد بجماعتهم .
وروي عنه ما دلّ على أنّها تثبت بالقهر والغلبة ، ولا تفتقر إلى العقد . فقال في رواية عبدوس بن مالكٍ العطّار : ومن غلب عليهم بالسّيف حتّى صار خليفةً وسمّي أمير المؤمنين ، فلا يحلّ لأحدٍ يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً ، برّاً كان أو فاجراً . وقال أيضاً في رواية أبي الحارث - في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك ، فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم - : تكون الجمعة مع من غلب واحتجّ بأنّ ابن عمر صلّى بأهل المدينة في زمن الحرّة . وقال :" نحن مع من غلب ".
وجه الرّواية الأولى : أنّه لمّا اختلف المهاجرون والأنصار ، فقالت الأنصار :" منّا أمير ومنكم أمير " حاجّهم عمر ، وقال لأبي بكرٍ رضي الله عنهما :" مدّ يدك أبايعك "فلم يعتبر الغلبة واعتبر العقد مع وجود الاختلاف .
ووجه الثّانية : ما ذكره أحمد عن ابن عمر وقوله : نحن مع من غلب ولأنّها لو كانت تقف على عقدٍ لصحّ رفعه وفسخه بقولهم وقوله ، كالبيع وغيره من العقود ، ولمّا ثبت أنّه ( أي المتغلّب ) لو عزل نفسه أو عزلوه لم ينعزل ، دلّ على أنّه لا يفتقر إلى عقده .
ولأنّ عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزّبير واستولى على البلاد وأهلها ، حتّى بايعوه طوعاً وكرهاً ، فصار إماماً يحرم الخروج عليه ، ولما في الخروج عليه من شقّ عصا المسلمين ، وإراقة دمائهم ، وذهاب أموالهم . ولخبر : « اسمعوا وأطيعوا وإن أمّر عليكم عبد حبشيّ أجدع » . وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء .
وذكر الشّافعيّة قولاً : يشترط لصحّة إمامة المتغلّب استجماع شروط الإمامة . كما يشترط الشّافعيّة أيضاً : أن يستولي على الأمر بعد موت الإمام المبايع له ، وقبل نصب إمامٍ جديدٍ بالبيعة ، أو أن يستولي على حيٍّ متغلّبٍ مثله . أمّا إذا استولى على الأمر وقهر إماماً مولًّى بالبيعة أو بالعهد فلا تثبت إمامته ، ويبقى الإمام المقهور على إمامته شرعاً .
اختيار المفضول مع وجود الأفضل :
19 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا تعيّن لأهل الاختيار واحد هو أفضل الجماعة ، فبايعوه على الإمامة ، فظهر بعد البيعة من هو أفضل منه ، انعقدت بيعتهم إمامة الأوّل ولم يجز العدول عنه إلى من هو أفضل منه . كما اتّفقوا على أنّه لو ابتدءوا بيعة المفضول مع وجود الأفضل لعذرٍ ، ككون الأفضل غائباً أو مريضاً ، أو كون المفضول أطوع في النّاس ، وأقرب إلى قلوبهم ، انعقدت بيعة المفضول وصحّت إمامته ، ولو عدلوا عن الأفضل في الابتداء لغير عذرٍ لم يجز .
أمّا الانعقاد فقد اختلفوا في انعقاد بيعة المفضول مع وجود الأفضل بغير عذرٍ ، فذهبت طائفة إلى أنّ بيعته لا تنعقد ، لأنّ الاختيار إذا دعا إلى أولى الأمرين لم يجز العدول عنه إلى غيره . وذهب الأكثر من الفقهاء والمتكلّمين إلى أنّ الإمامة جائزة للمفضول مع وجود الأفضل ، وصحّت إمامته إذا توفّرت فيه شروط الإمامة . كما يجوز في ولاية القضاء تقليد المفضول مع وجود الأفضل لأنّ زيادة الفضل مبالغة في الاختيار ، وليست شرطاً فيه . وقال أبو بكرٍ يوم السّقيفة : قد رضيت لكم أحد هذين الرّجلين : أبي عبيدة بن الجرّاح ، وعمر بن الخطّاب . وهما - على فضلهما دون أبي بكرٍ في الفضل ، ولم ينكره أحد .
ودعت الأنصار إلى بيعة سعدٍ ، ولم يكن أفضل الصّحابة بالاتّفاق ، ثمّ عهد عمر رضي الله عنه إلى ستّةٍ من الصّحابة ، ولا بدّ أن يكون بعضهم أفضل من بعضٍ .
وقد أجمع أهل الإسلام حينئذٍ على أنّه لو بويع أحدهم فهو الإمام الواجب طاعته . فصحّ بذلك إجماع الصّحابة رضي الله عنهم ، على جواز إمامة المفضول .
عقد البيعة لإمامين :
20 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجوز كون إمامين في العالم في وقتٍ واحدٍ ، ولا يجوز إلاّ إمام واحد . واستدلّوا بخبر : « إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما » . وقوله تعالى : { وأطيعوا اللّه ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا } .
ووجه الاستدلال : أنّ اللّه سبحانه وتعالى : حرّم على المسلمين التّفرّق والتّنازع ، وإذا كان إمامان فقد حصل التّفرّق المحرّم ، فوجد التّنازع ووقعت المعصية للّه تعالى .
فإن عقدت لاثنين معاً بطلت فيهما ، أو مرتّباً فهي للسّابق منهما . ويعزّر الثّاني ومبايعوه . لخبر : « إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما » . وإن جهل السّابق منهما بطل العقد فيهما عند الشّافعيّة ، لامتناع تعدّد الأئمّة ، وعدم المرجّح لأحدهما .
وعند الإمام أحمد روايتان : إحداهما : بطلان العقد ، والثّانية : استعمال القرعة .
وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا تباعدت البلاد ، وتعذّرت الاستنابة ، جاز تعدّد الأئمّة بقدر الحاجة ، وهو قول عند الشّافعيّة ..
طاعة الإمام :
21 - اتّفقت الأمّة جمعاء على وجوب طاعة الإمام العادل وحرمة الخروج عليه للأدلّة الواردة في ذلك كخبر : « من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر » . وقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم } وحديث : « من خرج من الطّاعة ، وفارق الجماعة فمات ، مات ميتةً جاهليّةً » .
أمّا حكم الخروج على الجائر من الأئمّة فقد سبق بيانه عند الكلام عن دوام الإمامة .
ويدعو للإمام بالصّلاح والنّصرة وإن كان فاسقاً . ويكره تحريماً وصفه بما ليس فيه من الصّفات كالصّالح والعادل ، كما يحرم أن يوصف بما لا يجوز وصف العباد به . مثل شاهنشاه الأعظم ، ومالك رقاب النّاس ، لأنّ الأوّل من صفات اللّه فلا يجوز وصف العباد به ، والثّاني كذب .
من ينعزل بموت الإمام :
22 - لا ينعزل بموت الإمام من عيّنه الإمام في وظيفةٍ عامّةٍ كالقضاة ، وأمراء الأقاليم ، ونظّار الوقف ، وأمين بيت المال ، وأمير الجيش . وهذا محلّ اتّفاقٍ بين الفقهاء ، لأنّ الخلفاء الرّاشدين - رضي الله عنهم - ولّوا حكّاماً في زمنهم ، فلم ينعزل أحد بموت الإمام ، ولأنّ الخليفة أسند إليهم الوظائف نيابةً عن المسلمين ، لا نوّاباً عن نفسه ، فلا ينعزلون بموته ، وفي انعزالهم ضرر على المسلمين وتعطيل للمصالح .
أمّا الوزراء فينعزلون بموت الإمام وانعزاله ، لأنّ الوزارة نيابة عن الإمام فينعزل النّائب بموت المستنيب . لأنّ الإمام استناب الوزير ليعينه في أمور الخلافة .
عزل الإمام وانعزاله :
23 - سبق نقل كلام الماورديّ في مسألة عزل الإمام لطروء الفسق والجور عند الكلام عن دوام الإمام . ثمّ قال الماورديّ : أمّا ما طرأ على بدنه من نقصٍ فينقسم ثلاثة أقسامٍ :
أحدها : نقص الحواسّ ، والثّاني : نقص الأعضاء ، والثّالث : نقص التّصرّف .
فأمّا نقص الحواسّ فينقسم ثلاثة أقسامٍ : قسم يمنع من الإمامة ، وقسم لا يمنع منها ، وقسم مختلف فيه .
فأمّا القسم المانع منها فشيئان : أحدهما : زوال العقل . والثّاني : ذهاب البصر .
فأمّا زوال العقل فضربان : أحدهما : ما كان عارضاً مرجوّ الزّوال كالإغماء ، فهذا لا يمنع من انعقاد الإمامة ولا يخرج منها ، لأنّه مرض قليل اللّبث سريع الزّوال ،« وقد أغمي على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في مرضه » .
والضّرب الثّاني : ما كان لازماً لا يرجى زواله كالجنون والخبل ، فهو على ضربين :
أحدهما : أن يكون مطبقاً دائماً لا يتخلّله إفاقة ، فهذا يمنع من عقد الإمامة واستدامتها ، فإذا طرأ هذا بطلت به الإمامة بعد تحقّقه والقطع به ،
والضّرب الثّاني : أن يتخلّله إفاقة يعود بها إلى حال السّلامة فينظر فيه : فإن كان زمان الخبل أكثر من زمان الإفاقة فهو كالمستديم يمنع من عقد الإمامة واستدامتها ، ويخرج بحدوثه منها ، وإن كان زمان الإفاقة أكثر من زمان الخبل منع من عقد الإمامة .
واختلف في منعه من استدامتها ، فقيل : يمنع من استدامتها كما يمنع من ابتدائها ، فإذا طرأ بطلت به الإمامة ، لأنّ في استدامته إخلالاً بالنّظر المستحقّ فيه ، وقيل : لا يمنع من استدامة الإمامة ، وإن منع من عقدها في الابتداء ، لأنّه يراعى في ابتداء عقدها سلامة كاملة ، وفي الخروج منها نقص كامل .
وأمّا ذهاب البصر فيمنع من عقد الإمامة واستدامتها ، فإذا طرأ بطلت به الإمامة ، لأنّه لمّا أبطل ولاية القضاء ، ومنع من جواز الشّهادة ، فأولى أن يمنع من صحّة الإمامة .
وأمّا غشاء العين ، وهو : ألاّ يبصر عند دخول اللّيل ، فلا يمنع من الإمامة في عقدٍ ولا استدامةٍ ، لأنّه مرض في زمان الدّعة يرجى زواله .
وأمّا ضعف البصر ، فإن كان يعرف به الأشخاص إذا رآها لم يمنع من الإمامة ، وإن كان يدرك الأشخاص ولا يعرفها منع من الإمامة عقداً واستدامةً .
وأمّا القسم الثّاني من الحواسّ ، الّتي لا يؤثّر فقدها في الإمامة فشيئان : أحدهما : الخشم في الأنف الّذي يدرك به شمّ الرّوائح . والثّاني : فقد الذّوق الّذي يفرّق به بين الطّعوم . فلا يؤثّر هذا في عقد الإمامة ، لأنّهما يؤثّران في اللّذّة ، ولا يؤثّران في الرّأي والعمل .
وأمّا القسم الثّالث من الحواسّ المختلف فيها فشيئان : الصّمم ، والخرس ، فيمنعان من ابتداء عقد الإمامة ، لأنّ كمال الأوصاف بوجودهما مفقود .
واختلف في الخروج بهما من الإمامة ، فقالت طائفة : يخرج بهما منها كما يخرج بذهاب البصر لتأثيرهما في التّدبير والعمل ، وقال آخرون : لا يخرج بهما من الإمامة ، لقيام الإشارة مقامهما ، فلم يخرج منها إلاّ بنقصٍ كاملٍ . وقال آخرون : إن كان يحسن الكتابة لم يخرج بهما من الإمامة ، وإن كان لا يحسنها خرج من الإمامة بهما ، لأنّ الكتابة مفهومة والإشارة موهومة ، والأوّل من المذاهب أصحّ .
وأمّا تمتمة اللّسان ، وثقل السّمع ، مع إدراك الصّوت إذا كان عالياً ، فلا يخرج بهما من الإمامة إذا حدثا . واختلف في ابتداء عقدها معهما ، فقيل : يمنع ذلك ابتداء عقدها ، لأنّهما نقص يخرج بهما عن حال الكمال ، وقيل : لا يمنع ، لأنّ نبيّ اللّه موسى عليه السلام لم تمنعه عقدة لسانه عن النّبوّة فأولى ألاّ يمنع من الإمامة .
وأمّا فقد الأعضاء فينقسم إلى أربعة أقسامٍ :
أحدها : ما لا يمنع من صحّة الإمامة في عقدٍ ولا استدامةٍ ، وهو ما لا يؤثّر فقده في رأيٍ ولا عملٍ ولا نهوضٍ ولا يشين في المنظر ، فلا يمنع من عقد الإمامة ولا من استدامتها بعد العقد ، لأنّ فقده لا يؤثّر في الرّأي والحنكة . مثل قطع الأذنين لأنّهما لا يؤثّران في رأيٍ ولا عملٍ ، ولهما شين يمكن أن يستتر فلا يظهر .
والقسم الثّاني : ما يمنع من عقد الإمامة ومن استدامتها : وهو ما يمنع من العمل ، كذهاب اليدين ، أو من النّهوض كذهاب الرّجلين ، فلا تصحّ معه الإمامة في عقدٍ ولا استدامةٍ ، لعجزه عمّا يلزمه من حقوق الأمّة في عملٍ أو نهضةٍ .
والقسم الثّالث : ما يمنع من عقد الإمامة : واختلف في منعه من استدامتها ، وهو ما ذهب به بعض العمل ، أو فقد به بعض النّهوض كذهاب إحدى اليدين أو إحدى الرّجلين ، فلا يصحّ معه عقد الإمامة لعجزه عن كمال التّصرّف ، فإن طرأ بعد عقد الإمامة ففي خروجه منها مذهبان للفقهاء :
أحدهما : يخرج به من الإمامة ، لأنّه عجز يمنع من ابتدائها فمنع من استدامتها .
والمذهب الثّاني : أنّه لا يخرج به من الإمامة وإن منع من عقدها ، لأنّ المعتبر في عقدها كمال السّلامة ، وفي الخروج منها كمال النّقص .
والقسم الرّابع : ما لا يمنع من استدامة الإمامة . واختلف في منعه من ابتداء عقدها ، وهو ما يشين ويقبّح ، ولا يؤثّر في عملٍ ولا في نهضةٍ ، كجدع الأنف وسمل إحدى العينين ، فلا يخرج به من الإمامة بعد عقدها ، لعدم تأثيره في شيءٍ من حقوقها ، وفي منعه من ابتداء عقدها مذهبان للفقهاء :
أحدهما : أنّه لا يمنع من عقدها ، وليس ذلك من الشّروط المعتبرة فيها لعدم تأثيره في حقوقها .
والمذهب الثّاني : أنّه يمنع من عقد الإمامة ، وتكون السّلامة منه شرطاً معتبراً في عقدها ليسلم ولاة الملّة من شينٍ يعاب ونقصٍ يزدرى ، فتقلّ به الهيبة ، وفي قلّتها نفور عن الطّاعة ، وما أدّى إلى هذا فهو نقص في حقوق الأمّة .
وأمّا نقص التّصرّف فضربان : حجر ، وقهر .
فأمّا الحجر : فهو أن يستولي عليه من أعوانه من يستبدّ بتنفيذ الأمور من غير تظاهرٍ بمعصيةٍ ولا مجاهرةٍ بمشاقّةٍ ، فلا يمنع ذلك من إمامته ، ولا يقدح في صحّة ولايته .
وأمّا القهر فهو أن يصير مأسوراً في يد عدوٍّ قاهرٍ لا يقدر على الخلاص منه ، فيمنع ذلك عن عقد الإمامة له ، لعجزه عن النّظر في أمور المسلمين ، وسواء كان العدوّ مشركاً أو مسلماً باغياً ، وللأمّة اختيار من عداه من ذوي القدرة . وإن أسر بعد أن عقدت له الإمامة فعلى كافّة الأمّة استنقاذه ، لما أوجبته الإمامة من نصرته ، وهو على إمامته ما كان مرجوّ الخلاص مأمول الفكاك إمّا قتال أو فداء ، فإن وقع اليأس منه ، لم يخل حال من أسره من أن يكونوا مشركين أو بغاة المسلمين ، فإن كان في أسر المشركين خرج من الإمامة لليأس من خلاصه ، واستأنف أهل الاختيار بيعة غيره على الإمامة ، وإن خلص قبل الإياس فهو على إمامته . وإن كان مأسوراً مع بغاة المسلمين ، فإن كان مرجوّ الخلاص فهو على إمامته ، وإن لم يرج خلاصه ، فالإمام المأسور في أيديهم خارج من الإمامة بالإياس من خلاصه ، وعلى أهل الاختيار في دار العدل أن يعقدوا الإمامة لمن ارتضوا لها ، فإن خلص المأسور لم يعد إلى الإمامة لخروجه منها .
واجبات الإمام :
24 - من تعريف الفقهاء للإمامة الكبرى بأنّها رئاسة عامّة في سياسة الدّنيا وإقامة الدّين نيابةً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتبيّن أنّ واجبات الإمام إجمالاً هي كما يلي :
أ - حفظ الدّين على أصوله الثّابتة بالكتاب والسّنّة وإجماع سلف الأمّة وإقامة شعائر الدّين .
ب - رعاية مصالح المسلمين بأنواعها .
كما أنّهم - في معرض الاستدلال لفرضيّة نصب الإمام بالحاجة إليه - يذكرون أموراً لا بدّ للأمّة ممّن يقوم بها وهي : تنفيذ الأحكام ، وإقامة الحدود ، وسدّ الثّغور ، وتجهيز الجيوش ، وأخذ الصّدقات ، وقبول الشّهادات ، وتزويج الصّغار والصّغائر الّذين لا أولياء لهم ، وقسمة الغنائم . وعدّها أصحاب كتب الأحكام السّلطانيّة عشرةً . ولا تخرج في عمومها عمّا ذكره الفقهاء فيما مرّ ، على أنّ ذلك يزيد وينقص بحسب تجدّد الحاجات الزّمنيّة وما تقضي المصالح بأن لا يتولّاه الأفراد والهيئات ، بل يتولّاه الإمام .
ولايات الإمام :
25 - الولاة من قبل الإمام تنقسم ولايتهم إلى أربعة أقسامٍ :
أ - ولاية عامّة في الأعمال العامّة ، وهي : الوزارة ، فهي نيابة عن الإمام في الأمور كلّها من غير تخصيصٍ .
ب - ولاية عامّة في أعمالٍ خاصّةٍ ، وهي الإمارة في الأقاليم ، لأنّ النّظر فيما خصّ بها عامّ في جميع الأمور .
ج - ولاية خاصّة في الأعمال العامّة : كرئاسة القضاء ونقابة الجيش ، لأنّ كليهما مقصور على نظرٍ خاصٍّ في جميع الأعمال .
د - ولاية خاصّة في أعمالٍ خاصّةٍ كقاضي بلدٍ ، أو مستوفي خراجه ، وجابي صدقاته ، لأنّ كلّاً من ولاية هؤلاء خاصّ بعملٍ مخصوصٍ لا يتجاوزه ،
والتّفصيل في مصطلحي : ( وزارة ، إمارة )
مؤاخذة الإمام بتصرّفاته :
26 - يضمن الإمام ما أتلفه بيده من مالٍ أو نفسٍ بغير خطأٍ في الحكم أو تقصيرٍ في تنفيذ الحدّ والتّعزير كآحاد النّاس فيقتصّ منه إن قتل عمداً ، وتجب الدّية عليه أو على عاقلته أو بيت المال في الخطأ وشبه العمد ، ويضمن ما أتلفه بيده من مالٍ ، كما يضمن ما هلك بتقصيره في الحكم ، وإقامة الحدّ ، والتّعزير . بالقصاص أو الدّية من ماله أو عاقلته أو بيت المال حسب أحكام الشّرع ، وحسب ظروف التّقصير وجسامة الخطأ . وينظر التّفصيل في مصطلحات : ( حدّ ، وتعزير ، وقصاص ، وضمان ) .
وهذا القدر متّفق عليه بين الفقهاء ، لعموم الأدلّة ، ولأنّ المؤمنين تتكافأ دماؤهم ، وأموالهم معصومة إلاّ بحقّها ، وثبت « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم " أقاد من نفسه » وكان عمر رضي الله عنه يقيد من نفسه . والإمام والمعتدى عليه نفسان معصومتان كسائر الرّعيّة . واختلفوا في إقامة الحدّ عليه ، فذهب الشّافعيّة إلى أنّه يقام عليه الحدّ كما يقام على سائر النّاس لعموم الأدلّة ، ويتولّى التّنفيذ عليه من يتولّى الحكم عنه .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يقام عليه الحدّ ، لأنّ الحدّ حقّ اللّه تعالى ، والإمام نفسه هو المكلّف بإقامته ، ولا يمكن أن يقيمه على نفسه ، لأنّ إقامته تستلزم الخزي والنّكال ولا يفعل أحد ذلك بنفسه ، بخلاف حقّ العباد . أمّا حدّ القذف فقالوا : المغلّب فيه حقّ اللّه ، فحكمه حكم سائر الحدود ، فإقامته إليه كسائر الحدود . ولا ولاية لأحدٍ عليه . ليستوفيه ، وفائدة الإيجاب الاستيفاء ، فإذا تعذّر لم يجب . وفرّقوا بين الحدّ ، وبين القصاص وضمان المتلفات بأنّهما من حقوق العباد فيستوفيهما صاحب الحقّ ، ولا يشترط القضاء ، بل الإمكان والتّمكّن ، ويحصل ذلك بتمكينه من نفسه ، إن احتاج إلى منعةٍ . فالمسلمون منعته ، فبهم يقدر على الاستيفاء فكان الوجوب مفيداً .
هدايا الإمام لغيره :
27 - هدايا الإمام لغيره إن كانت من ماله الخاصّ فلا يختلف حكمه عن غيره من الأفراد ، وينظر في مصطلح : ( هديّة ) .
أمّا إن كانت من بيت المال ، فإذا كان مقابلاً لعملٍ عامٍّ فهو رزق ، وإن كان عطاءً شاملاً للنّاس من بيت المال فهو عطاء ، وإن كانت الهديّة بمبادرةٍ من الإمام ميّز بها فرداً عن غيره فهي الّتي تسمّى ( جائزة السّلطان ) وقد اختلف فيها ، فكرهها أحمد تورّعاً لما في بعض موارد بيت المال من الشّبهة ، لكنّه نصّ على أنّها ليست بحرامٍ على آخذها ، لغلبة الحلال على موارد بيت المال ، وكرهها ابن سيرين لعدم شمولها للرّعيّة ، وممّن تنزّه عن الأخذ منها حذيفة وأبو عبيدة ومعاذ وأبو هريرة وابن عمر . هذا من حيث أخذ الجوائز .
أمّا من حيث تصرّف الإمام بالإعطاء فيجب أن يراعى فيه المصلحة العامّة للمسلمين دون اتّباع الهوى والتّشهّي ، لأنّ تصرّف الإمام في الأموال العامّة وغيرها من أمور المسلمين منوط بالمصلحة .
قبول الإمام الهدايا :
28 - لم يختلف العلماء في كراهية الهديّة إلى الأمراء .
ذكر ابن عابدين في حاشيته : أنّ الإمام ( بمعنى الوالي ) لا تحلّ له الهديّة ، للأدلّة - الواردة في هدايا العمّال ولأنّه رأس العمّال .
وقال ابن حبيبٍ : لم يختلف العلماء في كراهية الهديّة إلى السّلطان الأكبر وإلى القضاة والعمّال وجباة الأموال . وهذا قول مالكٍ ومن قبله من أهل العلم والسّنّة . « وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقبل الهديّة » ، وهذا من خواصّه ، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم معصوم ممّا يتّقي على غيره منها ، ولمّا " ردّ عمر بن عبد العزيز الهديّة ، قيل له : كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقبلها ، فقال : كانت له هديّةً وهي لنا رشوة ، لأنّه كان يتقرّب إليه لنبوّته لا لولايته ، ونحن يتقرّب بها إلينا لولايتنا " .
هدايا الكفّار للإمام :
29 - لا يجوز للإمام قبول هديّةٍ من كفّارٍ أشرفت حصونهم على السّقوط بيد المسلمين ، لما في ذلك من توهين المسلمين وتثبيط همّتهم . أمّا إذا كانوا بقوّةٍ ومنعةٍ جاز له قبول هديّتهم . وهي للإمام إن كانت من قريبٍ له ، أو كانت مكافأةً ، أو رجاء ثوابٍ ( أي مقابلٍ ) . وإن كانت من غير قريبٍ ، وأهدى بعد دخول الإمام بلدهم فهي غنيمة . وهم فيء قبل الدّخول في بلدهم .
هذا إذا كانت من الأفراد ، أمّا إذا كانت من الطّاغية أي رئيسهم ، فإنّها فيء إن أهدى قبل دخول المسلمين في بلدهم ، وغنيمة بعد الدّخول فيه ، وهذا التّفصيل للمالكيّة . وعند أحمد : يجوز للإمام قبول الهديّة من أهل الحرب ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل هديّة المقوقس صاحب مصر » ، فإن كان ذلك في حال الغزو فما أهداه الكفّار لأمير الجيش أو لبعض قوّاده فهو غنيمة ، لأنّه لا يفعل ذلك إلاّ خوفاً من المسلمين ، فأشبه ما لو أخذه قهراً . وأمّا إن أهدى من دار الحرب ، فهو لمن أهدى إليه سواء كان الإمام أو غيره ، « لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل الهديّة منهم » ، فكانت له دون غيره . وعزا ابن قدامة هذا إلى الشّافعيّ أيضاً ، ونقل عن الإمام أبي حنيفة : أنّها للمهدى له بكلّ حالٍ ، لأنّه خصّه بها ، فأشبه ما لو أهدي له من دار الإسلام ، وحكى في ذلك روايةً عن أحمد وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لو أهدى مشرك إلى الأمير أو إلى الإمام هديّةً ، والحرب قائمة فهي غنيمة ، بخلاف ما لو أهدى قبل أن يرتحلوا عن دار الإسلام ، فإنّه للمهدى إليه .
وقال عبد الغنيّ النّابلسيّ : قال الماورديّ : فنزاهته عنها أولى من قبولها ، فإن قبلها جاز ولم يمنع ، وهذا حكم الهدايا للقضاة ، أمّا الهدايا للأئمّة فقد قال في الحاوي : إنّها إن كانت من هدايا دار الإسلام فهي على ثلاثة أقسامٍ :
أحدها : أن يهدي إليه من يستعين به على حقٍّ يستوفيه ، أو على ظلمٍ يدفعه عنه ، أو على باطلٍ يعينه عليه ، فهذه الرّشوة المحرّمة .
الثّاني : أن يهدي إليه من كان يهاديه قبل الولاية ، فإن كان بقدر ما كان قبل الولاية لغير حاجةٍ عرضت فيجوز له قبولها ، وإن اقترن بها حاجة عرضت إليه فيمنع من القبول عند الحاجة ، ويجوز أن يقبلها بعد الحاجة . وإن زاد في هديّته على قدر العادة لغير حاجةٍ ، فإن كانت الزّيادة من جنس الهديّة جاز قبولها لدخولها في المألوف ، وإن كانت من غير جنس الهديّة منع من القبول .
الثّالث : أن يهدي إليه من لم يكن يهاديه قبل الولاية ، فإن ( كان ) لأجل ولايته فهي رشوة ، ويحرم عليه أخذها ، وإن كان لأجل جميلٍ صدر ( له ) منه إمّا واجباً أو تبرّعاً فلا يجوز قبولها أيضاً . وإن كان لا لأجل ولايةٍ ، بل لمكافأةٍ على جميلٍ ، فهذه هديّة بعث عليها جاه ، فإن كافأه عليها جاز له قبولها ، وإن لم يكافئ عليها فلا يقبلها لنفسه ، وإن كانت من هدايا دار الحرب جاز له قبول هداياهم ، وذكر الماورديّ في الأحكام السّلطانيّة قال : والفرق بين الرّشوة والهديّة أنّ الرّشوة ما أخذت طلباً ، والهديّة ما بذلت عفواً .
أثر فسق الإمام على ولايته الخاصّة :
30 - اختلف الفقهاء في سلب الولاية الخاصّة عن الإمام بفسقه ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه لا يشترط - عندهم - العدالة في ولاية النّكاح أصلاً ، حتّى يسلبها الفسق ، فيزوّج بناته القاصرات بالولاية الخاصّة ، يستوي في ذلك الإمام ، وغيره من الأولياء . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الولاية الخاصّة تسلب بالفسق ، فلا يصحّ له تزويج بناته بالولاية الخاصّة كغيره من الفسقة ، لخروجه بالفسق عن الولاية الخاصّة كأفراد النّاس ، وإن لم يسلبه عن الولاية العامّة تعظيماً لشأن الإمامة ، على أنّ في ذلك خلافاً سبق بيانه .
وتنتقل ولاية النّكاح إلى البعيد من العصبة ، فإن لم توجد عصبة زوّجهنّ بالولاية العامّة كغيرهنّ ممّن لا وليّ لهنّ . لحديث : « السّلطان وليّ من لا وليّ له » .
أمان *
التّعريف :
1 - الأمان في اللّغة : عدم توقّع مكروهٍ في الزّمن الآتي ، وأصل الأمن طمأنينة النّفس وزوال الخوف ، والأمن والأمانة والأمان مصادر للفعل ( أمن ) ، ويرد الأمان تارةً اسماً للحالة الّتي يكون عليها الإنسان من الطّمأنينة ، وتارةً لعقدٍ الأمان أو صكّه .
وعرّفه الفقهاء بأنّه : رفع استباحة دم الحربيّ ورقّه وماله حين قتاله أو الغرم عليه ، مع استقراره تحت حكم الإسلام .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الهدنة :
2 - الهدنة هي : أن يعقد لأهل الحرب عقد على ترك القتال مدّةً بعوضٍ وبغير عوضٍ ، وتسمّى : مهادنةً وموادعةً ومعاهدةً . ويختلف عقد الهدنة عن الأمان بأنّ عقد الهدنة لا يعقده إلاّ الإمام أو نائبه ، أمّا الأمان فيصحّ من أفراد المسلمين .
ب - الجزية :
3 - عقد الجزية موجب لعصمة الدّماء وصيانة الأموال والأعراض إلى غير ذلك ممّا يترتّب عليه . ويختلف عن الأمان في أنّ عقد الجزية مثل الهدنة لا يعقده إلاّ الإمام . كما أنّ عقد الجزية مؤبّد لا ينقض ، بخلاف الأمان فهو عقد غير لازمٍ ، أي قابلٍ للنّقض بشروطه .
الحكم الإجماليّ :
4 - الأصل أنّ إعطاء الأمان أو طلبه مباح ، وقد يكون حراماً أو مكروهاً إذا كان يؤدّي إلى ضررٍ أو إخلالٍ بواجبٍ أو مندوبٍ .
وحكم الأمان هو ثبوت الأمن للكفرة عن القتل والسّبي وغنم أموالهم ، فيحرم على المسلمين قتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريّهم واغتنام أموالهم .
ما يكون به الأمان :
5 - ينعقد الأمان بكلّ لفظٍ صريحٍ أو كنايةٍ يفيد الغرض ، بأيّ لغةٍ كان ، وينعقد بالكتابة والرّسالة والإشارة المفهمة . لأنّ التّأمين إنّما هو معنًى في النّفس ، فيظهره المؤمّن تارةً بالنّطق ، وتارةً بالكتابة ، وتارةً بالإشارة ، فكلّ ما بيّن به التّأمين فإنّه يلزم .
شروط الأمان :
6 - ذهب المالكيّة والحنابلة وأكثر الشّافعيّة إلى أنّ شرط الأمان انتفاء الضّرر ، ولو لم تظهر المصلحة .
وقيّد البلقينيّ جواز الأمان بمجرّد انتفاء الضّرر بغير الأمان المعطى من الإمام ، فلا بدّ فيه من المصلحة والنّظر للمسلمين .
وقال الحنفيّة : يشترط في الأمان أن تكون فيه مصلحة ظاهرة للمسلمين وذلك بأن يعطى في حال ضعف المسلمين وقوّة أعدائهم ، لأنّ الجهاد فرض والأمان يتضمّن تحريم القتال ، فيتناقض ، إلاّ إذا كان في حال ضعف المسلمين وقوّة الكفرة ، لأنّه إذ ذاك يكون قتالاً معنًى ، لوقوعه وسيلةً إلى الاستعداد للقتال ، فلا يؤدّي إلى التّناقض .
من له حقّ إعطاء الأمان :
7 - الأمان إمّا أن يعطى من الإمام أو من آحاد المسلمين :
أ - أمان الإمام : يصحّ أمان الإمام لجميع الكفّار وآحادهم ، لأنّه مقدّم للنّظر والمصلحة ، نائب عن الجميع في جلب المنافع ودفع المضارّ . وهذا ما لا خلاف فيه .
ب - أمان آحاد المسلمين : يرى جمهور الفقهاء أنّ أمان آحاد المسلمين يصحّ لعددٍ محصورٍ كأهل قريةٍ صغيرةٍ وحصنٍ صغيرٍ ، أمّا تأمين العدد الّذي لا ينحصر فهو من خصائص الإمام . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الأمان يصحّ من الواحد ، سواء أمّن جماعةً كثيرةً أو قليلةً أو أهل مصرٍ أو قريةٍ ، فليس حينئذٍ لأحدٍ من المسلمين قتالهم .
شروط المؤمّن :
8 - أ - الإسلام : فلا يصحّ أمان الكافر ، وإن كان يقاتل مع المسلمين .
ب - العقل : فلا يصحّ أمان المجنون والصّبيّ الّذي لا يعقل .
ج - البلوغ : بلوغ المؤمّن شرط عند جمهور الفقهاء . وقال محمّد بن الحسن الشّيبانيّ : ليس بشرطٍ .
د - عدم الخوف من الحربيّين : فلا يصحّ أمان المقهورين في أيدي الكفرة .
أمّا الذّكورة فليست بشرطٍ لصحّة الأمان عند جمهور الفقهاء ، فيصحّ أمان المرأة لأنّها لا تعجز عن الوقوف على حال القوّة والضّعف .
وقال ابن الماجشون من المالكيّة : إنّ أمان المرأة والعبد والصّبيّ لا يجوز ابتداءً ، ولكن إن وقع يمضي إن أمضاه الإمام وإن شاء ردّه .
مواطن البحث :
فصّل الفقهاء أحكام الأمان في أبواب السّير والجهاد فتنظر فيها ، ويرجع إلى مصطلح ( مستأمن ) .
أمانة *
التّعريف :
1 - الأمانة : ضدّ الخيانة ، والأمانة تطلق على : كلّ ما عهد به إلى الإنسان من التّكاليف الشّرعيّة وغيرها كالعبادة الوديعة ، ومن الأمانة : الأهل والمال .
وبالتّتبّع تبيّن أنّ الأمانة قد استعملها الفقهاء بمعنيين :
أحدهما : بمعنى الشّيء الّذي يوجد عند الأمين ، وذلك يكون في :
أ - العقد الّذي تكون الأمانة فيه هي المقصد الأصليّ ، وهو الوديعة وهي ، العين الّتي توضع عند شخصٍ ليحفظها ، فهي أخصّ من الأمانة ، فكلّ وديعةٍ أمانة ولا عكس .
ب - العقد الّذي تكون الأمانة فيه ضمناً ، وليست أصلاً بل تبعاً ، كالإجارة والعاريّة والمضاربة والوكالة والشّركة والرّهن .
ج - ما كانت بدون عقدٍ كاللّقطة ، وكما إذا ألقت الرّيح في دار أحدٍ مال جاره ، وذلك ما يسمّى بالأمانات الشّرعيّة .
الثّاني : بمعنى الصّفة وذلك في :
أ - ما يسمّى ببيع الأمانة ، كالمرابحة والتّولية والاسترسال ( الاستئمان ) وهي العقود الّتي يحتكم فيها المبتاع إلى ضمير البائع وأمانته .
ب - في الولايات سواء كانت عامّةً كالقاضي ، أم خاصّةً كالوصيّ وناظر الوقف .
ج - فيمن يترتّب على كلامه حكم كالشّاهد .
د - تستعمل الأمانة في باب الأيمان كمقسمٍ بها باعتبارها صفةً من صفات اللّه تعالى .
الحكم الإجماليّ :
أوّلاً : الأمانة بمعنى الشّيء الّذي يوجد عند الأمين :
2 - للأمانة بهذا المعنى عدّة أحكامٍ إجمالها فيما يلي :
أ - الأصل إباحة أخذ الوديعة واللّقطة ، وقيل يستحبّ الأخذ لمن قدر على الحفظ والأداء ، لقوله تعالى : { وتعاونوا على البرّ والتّقوى } .
وقد يعرض الوجوب لمن يثق في أمانة نفسه وخيف على اللّقطة أخذ خائنٍ لها ، وعلى الوديعة من الهلاك أو الفقد عند عدم الإيداع ، لأنّ مال الغير واجب الحفظ ، وحرمة المال كحرمة النّفس ، وقد روى ابن مسعودٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « حرمة مال المؤمن كحرمة دمه » . وقد يحرم الأخذ لمن يعجز عن الحفظ ، أو لا يثق بأمانة نفسه ، وفي ذلك تعريض المال للهلاك . وهذا في الجملة . وتفصيله في الوديعة واللّقطة .
ب - وجوب المحافظة على الأمانة عامّةً ، وديعةً كانت أو غيرها ، يقول العلماء : حفظ الأمانة يوجب سعادة الدّارين ، والخيانة توجب الشّقاء فيهما ، والحفظ يكون بحسب كلّ أمانةٍ ، فالوديعة مثلاً يكون حفظها بوضعها في حرز مثلها . والعاريّة والشّيء المستأجر يكون حفظهما بعدم التّعدّي في الاستعمال المأذون فيه ، وبعدم التّفريط . وفي مال المضاربة يكون بعدم مخالفة ما أذن فيه للمضارب من التّصرّفات وهكذا .
ت - وجوب الرّدّ عند الطّلب لقوله تعالى : { إنّ اللّه يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك » .
ث - وجوب الضّمان بالجحود أو التّعدّي أو التّفريط .
ج- سقوط الضّمان إذا تلفت الأمانة دون تعدٍّ أو تفريطٍ .
وهذا في غير العاريّة عند الحنابلة والشّافعيّة ، فالعاريّة عندهم مضمونة .
ح - التّعزير على ترك أداء الأمانات كالودائع وأموال الأيتام وغلّات الوقوف ، وما تحت أيدي الوكلاء والمقارضين وشبه ذلك ، فإنّه يعاقب على ذلك كلّه حتّى يؤدّي ما يجب عليه . وللفقهاء في كلّ ذلك تفصيلات وفروع يرجع إليها في مواضعها من ( وديعة ، ولقطة ، وعاريّة ، وإجارة ، ورهن ، وضمان ، ووكالة ) .
ثانياً : الأمانة بمعنى الصّفة :
3 - تختلف أحكام الأمانة بهذا المعنى لاختلاف مواضعها ، وبيان ذلك إجمالاً فيما يأتي :
أ - بيع الأمانة كالمرابحة ، والمرابحة تعتبر بيع أمانةٍ ، لأنّ المشتري ائتمن البائع في إخباره عن الثّمن الأوّل من غير بيّنةٍ ولا استحلافٍ ، فتجب صيانتها عن الخيانة والتّهمة ، لأنّ التّحرّز عن ذلك كلّه واجب ما أمكن ، قال اللّه تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تخونوا اللّه والرّسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون } . وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ليس منّا من غشّنا » .
وعلى ذلك فإذا ظهرت الخيانة في بيع المرابحة ففي الجملة يكون المشتري بالخيار ، إن شاء أخذ المبيع ، وإن شاء ردّه ، وقيل : بحطّ الزّيادة على أصل رأس المال ونسبتها من الرّبح مع إمضاء البيع .
هذا مع تفصيلٍ كثيرٍ ينظر في ( بيع - مرابحة - تولية - استرسال ) .
ب - اعتبار الأمانة شرطاً فيمن تكون له ولاية ونظر في مال غيره كالوصيّ وناظر الوقف ، فقد اشترط الفقهاء صفة الأمانة في الوصيّ وناظر الوقف ، وأنّه يعزل لو ظهرت خيانته ، أو يضمّ إليه أمين في بعض الأحوال ، وهذا في الجملة . كذلك من له ولاية عامّة كالقاضي ، فالأصل اعتبار الأمانة فيه . وللفقهاء في ذلك تفصيل ( ر : قضاء ، وصيّ ) .
ج - من يترتّب على كلامه حكم كالشّاهد : فقد اشترط الفقهاء في الشّاهد العدالة ، لقول اللّه تعالى : { وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم } . وقوله تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبيّنوا } ، فأمر اللّه تعالى بالتّوقّف عن نبأ الفاسق ، والشّهادة نبأ فيجب عدم قبول شهادة الفاسق ، واعتبر الفقهاء أنّ الخيانة من الفسق ، واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تجوز شهادة خائنٍ ولا خائنةٍ » .
د - الحلف بالأمانة : يرى جمهور الفقهاء أنّ من حلف بالأمانة مع إضافتها إلى اسم اللّه سبحانه وتعالى فقال : وأمانة اللّه لأفعلن كذا ، فإنّ ذلك يعتبر يميناً توجب الكفّارة .
أمّا الحلف بالأمانة فقط دون إضافةٍ إلى لفظ الجلالة ، فإنّه يرجع فيه إلى نيّة الحالف ، فإن أراد بالأمانة صفة اللّه تعالى فالحلف بها يمين ، وإن أراد بالأمانة ما في قوله تعالى : { إنّا عرضنا الأمانة على السّموات والأرض } أي التّكاليف الّتي كلّف اللّه بها عباده فليس بيمينٍ . ويكون الحلف بها غير مشروعٍ لأنّه حلف بغير اللّه ، واستدلّ لذلك بحديث : « من حلف بالأمانة فليس منّا » .
مواطن البحث :
4 - يأتي ذكر الأمانة في كثيرٍ من الأبواب الفقهيّة : كالبيع ، والوكالة ، والشّركة ، والمضاربة ، الوديعة ، والعاريّة ، والإجارة ، والرّهن ، والوقف ، والوصيّة ، والأيمان ، والشّهادة ، والقضاء . وقد سبقت الإشارة إلى ذكر ذلك إجمالاً .
كذلك يأتي ذكر الأمانة في باب الحضانة باعتبارها شرطاً من شروط الحاضن والحاضنة ، وفي باب الحجّ في الرّفقة المأمونة بالنّسبة لسفر المرأة ، وفي باب الصّيام بالنّسبة لمن يخبر برؤية الهلال .
امتثال *
انظر : طاعة
امتشاط *
التّعريف :
1 - الامتشاط لغةً : هو ترجيل الشّعر ، والتّرجيل : تسريح الشّعر ، وتنظيفه ، وتحسينه . وعند الفقهاء معناه كالمعنى اللّغويّ .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - يستحبّ ترجيل شعر الرّأس واللّحية من الرّجل ، وكذا الرّأس من المرأة ، لما ورد :
« أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان جالساً في المسجد فدخل رجل ثائر الرّأس واللّحية ، فأشار إليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيده أن اخرج . كأنّه يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته ، ففعل الرّجل ثمّ رجع ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرّأس ، كأنّه شيطان »
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من كان له شعر فليكرمه » ويفصّل الفقهاء ذلك في خصال الفطرة ، والحظر والإباحة .
3 - وفي الإحرام : يحرم الامتشاط إن علم أنّه يزيل شعراً ، وكذا إن كان يدهن ولم يزل شعراً ، فإن كان لا يزيل شعراً وكان بغير طيبٍ فإنّ من الفقهاء من أباحه ، ومنهم من كرهه على تفصيلٍ ينظر في مصطلح ( إحرام )
4 - ولا يمنع امتشاط المحدّة عند أغلب الفقهاء ، إن كان التّرجيل خالياً عن موادّ الزّينة ، فإن كان بدهنٍ أو طيبٍ حرم .
وقال الحنفيّة : يحرم امتشاط المحدّة بمشطٍ ضيّقٍ ، وإن لم يكن معه طيب ، وتفصيل هذه الأحكام يذكرها الفقهاء في ( الإحداد ) ( ج 2 ص 107 ف 14 ) .
امتناع *
التّعريف :
1 - الامتناع لغةً : مصدر امتنع . يقال : امتنع من الأمر : إذا كفّ عنه . ويقال : امتنع بقومه أي : تقوّى بهم وعزّ ، فلم يقدر عليه .
والامتناع في الاصطلاح لا يخرج عن هذين المعنيين .
الحكم الإجماليّ :
2 - إنّ الامتناع عن الفعل المحرّم واجب ، كالامتناع عن الزّنى وشرب الخمر ، وامتناع الحائض عن الصّلاة ، وعن مسّ المصحف ، والجلوس في المسجد .
والامتناع عن الواجب حرام ، كامتناع المكلّف غير المعذور عن الصّلاة والصّوم والحجّ ، ومثل امتناع المحتكر عن بيع الأقوات ، والامتناع عن إنقاذ المشرف على الهلاك ممّن هو قادر على إنقاذه .
والامتناع عن المندوب يكون مكروهاً ، كامتناع المريض عن التّداوي مع قدرته عليه . والامتناع عن المكروه يكون مندوباً إليه ، كالامتناع عن التّدخين عند من يقول بكراهته ، والامتناع عن تولّي القضاء لمن يخاف على نفسه الزّلل .
والامتناع عن المباح مباح ، كالامتناع عن طعامٍ معيّنٍ في الأحوال المعتادة ، ومثل امتناع المرأة عن الدّخول حتّى تقبض مقدّم المهر ، وامتناع البائع من تسليم المبيع حتّى يقبض الثّمن . ويرجع لمعرفة حكم كلّ نوعٍ من هذه الأنواع في بابه .
امتهان *
التّعريف :
1 - الامتهان افتعال من ( مهن ) أي خدم غيره ، وامتهنه : استخدمه ، أو ابتذله . ومنه يتبيّن أنّ أهل اللّغة يستعملون كلمة ( امتهانٍ ) في معنيين :
الأوّل : بمعنى ( الاحتراف ) ، والثّاني : بمعنى ( الابتذال ) .
والابتذال هو : عدم صيانة الشّيء بل تداوله واستخدامه في العمل .
والفقهاء يستعملون الامتهان بهذين المعنيين أيضاً .
أمّا الامتهان بمعنى الاحتراف ، فينظر تفصيله في مصطلح ( احتراف ج 1 ص 69 ) وفيما يلي ما يتّصل بالمعنى الثّاني وهو الابتذال .
الألفاظ ذات الصّلة :
الاستخفاف والاستهانة :
2 - سبق بيان معنى ( الامتهان ) ومنه يتبيّن أنّه غير الاستهانة بالشّيء أو الاستخفاف به ، فالاستهانة بالشّيء استحقاره ، أمّا الامتهان فليس فيه معنى الاستحقار .
الحكم الإجماليّ :
3 - هناك كثير من الأحوال يطلب فيها من المسلم أن يلبس غير ثياب المهنة ، كالجمعة والعيدين والجماعات ، يدلّ على ذلك حديث { ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوب مهنته } .
والتّفصيل في مصطلح : ( احتراف ) ( وألبسة ) . كما أنّه يختلف حكم ما فيه صورة ، بين أن يكون ممتهناً ( مبتذلاً ) أو غير ممتهنٍ وينظر في مصطلح ( تصوير ) .
أمر *
التّعريف :
1- الأمر في اللّغة يأتي بمعنيين :
الأوّل : يأتي بمعنى الحال أو الشّأن ، ومنه قوله تعالى : { وما أمر فرعون برشيدٍ } أو الحادثة ، ومنه قول اللّه تعالى : { وإذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتّى يستأذنوه } وقوله سبحانه : { وشاورهم في الأمر }
قال الخطيب القزوينيّ في الإيضاح : أي شاورهم في الفعل الّذي تعزم عليه . ويجمع بهذا المعنى على ( أمورٍ ) .
الثّاني : طلب الفعل ، وهو بهذا المعنى نقيض النّهي . وجمعه ( أوامر ) فرقاً بينهما ، كما قاله الفيّوميّ .
وعند الفقهاء يستعمل الأمر بالمعنيين المذكورين ، ولكن اختلف الأصوليّون من ذلك في مسائل :
المسألة الأولى : قال بعضهم : لفظ ( الأمر ) مشترك لفظيّ بين المعنيين . وقال آخرون : بل هو حقيقة في القول المخصوص ، وهو قول الطّالب للفعل ، مجاز في الحال والشّأن . وقيل : إنّه موضوع للمعنى المشترك بينهما .
المسألة الثّانية : طلب الفعل لا يسمّى أمراً حقيقةً ، إلاّ إن كان على وجه الحتم والإلزام . واستدلّ من قال بذلك بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك مع كلّ وضوءٍ » قالوا : لو لم يكن الأمر على وجه الحتم ما كان فيه مشقّة . وهذا قول الحنفيّة . وقال الباقلّانيّ وجمهور الشّافعيّة : لا يشترط ذلك ، بل طلب الفعل أمر ولو لم يكن على وجه التّحتّم ، فيدخل المندوب في المأمور به حقيقةً .
المسألة الثّالثة : إنّ طلب الفعل لا يسمّى أمراً حقيقةً إلاّ إذا كان على سبيل الاستعلاء ، أي استعلاء الآمر على المأمور ، احترازاً عن الدّعاء والالتماس ، فهو شرط أكثر الماتريديّة والآمديّ من الأشعريّة ، وصحّحه الرّازيّ ، وهو رأي أبي الحسين البصريّ من المعتزلة ، لذمّ العقلاء الأدنى بأمره من هو أعلى .
وعند المعتزلة يجب العلوّ في الأمر ، وإلاّ كان دعاءً أو التماساً .
وعند الأشعريّ لا يشترط العلوّ ولا الاستعلاء ، وبه قال أكثر الشّافعيّة . وفي شرح المختصر : وهو الحقّ ، لقوله تعالى حكايةً عن فرعون : { إنّ هذا لساحر عليم ، يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون } .
صيغ الأمر :
2 - للأمر صيغ صريحة وهي ثلاثة : فعل الأمر ، مثل قوله تعالى : { أقيموا الصّلاة } وقوله : { فاسعوا إلى ذكر اللّه } ، واسم فعل الأمر نحو : نزال ، والمضارع المقترن فاللّام الأمر نحو { لينفق ذو سعةٍ من سعته } .
وصيغ غير صريحةٍ ، قال الشّاطبيّ :
- أ - منها : ما جاء مجيء الإخبار عن تقرير الحكم ، نحو : { والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين } .
- ب - ومنها : ما جاء مجيء مدحه أو مدح فاعله نحو : { ومن يطع اللّه ورسوله يدخله جنّاتٍ } .
- ج - ومنها : ما يتوقّف عليه المطلوب ، كالمفروض في مسألة ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب ، كغسل جزءٍ من الرّأس ، لاستيفاء غسل الوجه .
دلالة صيغة الأمر الصّريحة :
3 - اختلف الأصوليّون في دلالة صيغة ( افعل ) غير المقترنة بما يعيّن معناها .
فهي عند الجمهور حقيقة في الوجوب ، وعند أبي هاشمٍ وكثيرٍ من الأصوليّين حقيقة في النّدب وهو أحد قولي الشّافعيّ ، وقيل : مشترك بينهما اشتراكاً لفظيّاً ، وروي هذا عن الشّافعيّ . وقيل : إنّها موضوعة لمشتركٍ بينهما وهو الاقتضاء حتماً كان أو ندباً ، وروي هذا عن أبي منصورٍ الماتريديّ ، ونسب إلى مشايخ سمرقند .
4 - الأمر الوارد بعد الحظر هو للإباحة عند الأكثر ، ومنهم الشّافعيّ والآمديّ كقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها » .
وللوجوب عند عامّة الحنفيّة وهو المرويّ عن القاضي والمعتزلة واختاره الرّازيّ ، وتوقّف فيه إمام الحرمين . واختار ابن الهمام والشّيخ زكريّا الأنصاريّ أنّه يرجع الحكم لما كان عليه قبل الحظر إباحةً أو وجوباً .
ورود الأمر لغير الوجوب :
5 - ترد صيغة الأمر لغير الوجوب في أكثر من عشرين معنًى ، منها : الالتماس والتّهديد .
اقتضاء الأمر للتّكرار :
6 - الأمر لطلب الفعل مطلقاً لا يقتضي التّكرار عند الحنفيّة ، فيبرأ بالفعل مرّةً ويحتمل التّكرار ، واختاره الرّازيّ والآمديّ .
وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايينيّ : هو لازم مدّة العمر إن أمكن ، وعلى هذا جماعة من الفقهاء والمتكلّمين .
وذهب كثير من أهل الأصول إلى أنّها للمرّة ، ولا يحتمل التّكرار ، وهو قول أكثر الشّافعيّة . أمّا إن قيّد بشرطٍ ، نحو { وإن كنتم جنباً فاطّهّروا } أو بالصّفة نحو { والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما } فإنّه يقتضي التّكرار ، بتكرّر الشّرط أو الصّفة ، وقيل بالوقف في ذلك .
دلالة الأمر على الفور أو التّراخي :
7 - الصّحيح عند الحنفيّة أنّ الأمر لمجرّد الطّلب ، فيجوز التّأخير كما يجوز البدار ، وعزي إلى الشّافعيّ وأصحابه . واختاره الرّازيّ والآمديّ .
وقيل : يوجب الفور ، وعزي إلى المالكيّة والحنابلة والكرخيّ ، واختاره السّكّاكيّ والقاضي . وتوقّف الإمام في أنّه للفور أو للقدر المشترك بين الفور والتّراخي .
الأمر بالأمر :
8 - من أمر غيره أن يأمر آخر بفعلٍ ما فليس هذا أمراً للمأمور الثّاني على المختار عند الأصوليّين . فقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « مروا أولادكم بالصّلاة وهم أبناء سبع سنين » ليس أمراً منه للصّبيان بالصّلاة .
لكن إن أفهمت القرينة أنّ الواسطة مجرّد مبلّغٍ كان الأمر بالأمر أمراً للمأمور الثّاني ، ومنه « أنّ عمر أخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ عبد اللّه بن عمر طلّق امرأته وهي حائض ، فقال : مره فليراجعها » . وليس من موضوع هذه المسألة ما لو صرّح الأمر بالتّبليغ نحو قوله : ( قل لفلانٍ يفعل كذا ) فإنّ هذا أمر للثّاني بلا خلافٍ .
تكرار الأمر :
9 - إذا كرّر الآمر الأمر قبل أن ينفّذ المأمور الأمر الأوّل ، فقد يتعيّن الثّاني للتّأكيد ، كما في نحو : صم هذا اليوم ، صم هذا اليوم ، إذ لا يصام اليوم مرّتين . ونحو : اسقني اسقني ، فإنّ الحاجة الّتي دعت إلى طلب الماء تندفع بالشّرب الأوّل . فإن دار الثّاني بين التّأسيس والتّأكيد فقيل : يحمل على التّأسيس احتياطاً ، ويكون المطلوب الإتيان بالفعل مكرّراً . وقيل : يحمل على التّأكيد لكثرته في الكلام .
امتثال الآمر يقتضي الإجزاء :
10 - المأمور إذا أتى بالمأمور به على وجهه كما طلب مع الشّرائط والأركان ، يستلزم الإجزاء اتّفاقاً ، إذا فسّر الإجزاء بالامتثال .
أمّا إن فسّر الإجزاء بسقوط القضاء ، فإنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه يسقطه كذلك عند الجمهور ، خلافاً للقاضي عبد الجبّار المعتزليّ .
تعارض الأمر والنّهي :
11 - النّهي عند الأصوليّين يترجّح على الأمر ، لأنّ دفع المفسدة المستفادة من النّهي أولى من جلب المنفعة ، ولذا يترجّح حديث النّهي عن الصّلاة في الأوقات المكروهة على حديث الأمر بصلاة ركعتين قبل الجلوس في المسجد ، في حقّ من دخل المسجد قبيل غروب الشّمس مثلاً . وفي هذه المسائل المتقدّمة خلافات وتفصيلات أوسع ممّا تقدّم ، فليرجع إليها ضمن مباحث الأمر من كتب أصول الفقه ، والملحق الأصوليّ .
الأحكام الفقهيّة إجمالاً :
طاعة الأوامر :
12 - تجب طاعة أوامر اللّه تعالى الّتي تقتضي الوجوب ، وكذلك أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم . ويطاع سواهما في غير المعصية ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « السّمع والطّاعة على المرء المسلم فيما أحبّ وكره ، ما لم يؤمر بمعصيةٍ » فيطاع الأبوان ووليّ الأمر ونوّابه في غير الحرام . ( ر : طاعة ) .
الأمر في الجنايات :
13 - من أمر إنساناً بقتل إنسانٍ فقتله ، فالقصاص على القاتل دون الآمر ، إن كان القاتل مكلّفاً ، لكن إن كان للآمر ولاية على المأمور ، أو خاف المأمور على نفسه لو لم يفعل ، ففي وجوب القصاص عليهما أو على أحدهما خلاف وتفصيل .
ينظر في ( إكراه ، وقتل ، وقصاص )
ضمان الآمر :
14 - من أمر غيره بعملٍ ، فأتلف شيئاً ، فالضّمان على المتلف لا على الآمر ، ويستثنى من ذلك صور منها : أن يكون الآمر سلطاناً أو أباً ، أو يكون المأمور صغيراً أو مجنوناً أو أجيراً لدى الآمر . وفي ذلك تفصيل يرجع إليه في مصطلح ( ضمان وإكراه ) .
الإيجاب أو القبول بصيغة الأمر :
15 - إذا قال : بعني هذا الثّوب بعشرين ، فقال : بعتك بها ، انعقد البيع وصحّ . وكذا لو قال البائع : اشتر منّي هذا الثّوب بكذا ، فقال : اشتريته به ، لصدق حدّ الإيجاب والقبول عليهما . وكذا في التّزويج ، لو قال لرجلٍ : زوّجني ابنتك ، فقال : زوّجتكها ، ينعقد النّكاح . وهذا بخلاف الاستفهام أو التّمنّي مثلاً ، فلا ينعقد بهما العقد . كما لو قال : أتبيعني هذا الثّوب بكذا فقال : بعتكه بها . وفي ذلك تفصيل ، وفي بعضه خلاف ( ر : صيغة ، عقد ، زواج ) .
امرأة *
التّعريف :
1 - المرء هو الإنسان ، والأنثى منه ( مرأة ) بإضافة تاء التّأنيث ، وقد تلحق بها همزة الوصل فتصبح ( امرأة ) وهي اسم للبالغة .
وهذا في اللّغة والاصطلاح . إلاّ أنّها في بعض الأبواب كالمواريث تصدق على الصّغير والكبير .
الحكم الإجماليّ :
2 - يمكن إجمال ما يتعلّق بالمرأة من أحكامٍ غالباً فيما يأتي :
أ - المرأة كإنسانٍ لها حقّ الرّعاية في طفولتها من تربيةٍ وتعليمٍ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من كانت له ابنة فأدّبها فأحسن تأديبها ، وعلّمها فأحسن تعليمها ، وأوسع عليها من نعم اللّه الّتي أسبغ عليه ، كانت له منعةً وسترةً من النّار » .
وإذا رشدت كانت لها ذمّتها الماليّة المستقلّة ، وصار لها حرّيّة التّعبير عن إرادتها ، ولذلك لا تزوّج بدون إذنها .
ب - والمرأة كأنثى ، مطالبة بالمحافظة على مظاهر أنوثتها ، فلها أن تتزيّن بزينة النّساء ، ويحرم عليها التّشبّه بالرّجال . ومطالبة كذلك بالتّستّر وعدم الاختلاط بالرّجال الأجانب أو الخلوة بهم ، ولذلك تقف في الصّلاة متأخّرةً عن صفوف الرّجال .
ج - والمرأة كمسلمةٍ ، مطالبة بكلّ التّكاليف الشّرعيّة الّتي فرضها اللّه على عباده ، مع الاختلاف عن الذّكر في بعض هيئات العبادة .
د - والمرأة اختصّها اللّه سبحانه وتعالى بالحيض والحمل والولادة ، وترتّب على ذلك بعض الأحكام الفقهيّة كالتّخفيف عنها في العبادات في هذه الحالات .
هـ - ولضعف المرأة في الخلقة والتّكوين ، فإنّها لا تتولّى من الأعمال ما يحتاج إلى بذل الجهد الجسديّ والذّهنيّ كالإمارة والقضاء ، ولم يفرض عليها الجهاد في الجملة ، وكانت شهادتها على النّصف من شهادة الرّجل .
و - ولأنّ المرأة أكثر حناناً وشفقةً من الرّجل كان حقّها في الحضانة مقدّماً على الرّجل .
ز - والأصل أن يكون عمل المرأة هو رعاية بيتها وزوجها وأولادها ، لذلك كانت نفقتها على زوجها ولو كانت غنيّةً . وكان الرّجل قوّاماً عليها ، يقول اللّه تعالى : { الرّجال قوّامون على النّساء بما فضّل اللّه بعضهم على بعضٍ وبما أنفقوا من أموالهم } .
وتفصيل كلّ هذه الأمور ينظر في مصطلح ( أنوثة ) .
الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر *
التّعريف :
1 - الأمر في اللّغة : كلام دالّ على طلب الفعل ، أو قول القائل لمن دونه : افعل .
وأمرت بالمعروف : أي بالخير والإحسان .
ويقول ابن الأثير : المعروف اسم جامع لكلّ ما عرف من طاعة اللّه والتّقرّب إليه ، والإحسان إلى النّاس ، وكلّ ما ندب إليه الشّرع من المحسّنات ، ونهى عنه من المقبّحات . وهو من الصّفات الغالبة أي معروف بين النّاس إذا رأوه لا ينكرونه .
والأمر بالمعروف في اصطلاح الفقهاء : هو الأمر باتّباع محمّدٍ صلى الله عليه وسلم ودينه الّذي جاء به من عند اللّه ، وأصل المعروف : كلّ ما كان معروفاً فعله جميلاً غير مستقبحٍ عند أهل الإيمان ، ولا يستنكرون فعله .
أمّا النّهي عن المنكر ، فإنّ النّهي في اللّغة : ضدّ الأمر ، وهو قول القائل لمن دونه : لا تفعل . والمنكر لغةً : الأمر القبيح .
وفي الاصطلاح : المنكر ما ليس فيه رضى اللّه من قولٍ أو فعلٍ . فالنّهي عن المنكر في الاصطلاح : طلب الكفّ عن فعل ما ليس فيه رضى اللّه تعالى .
هذا ، وقد عرّف الزّبيديّ الأمر بالمعروف بقوله : هو ما قبله العقل ، وأقرّه الشّرع ، ووافق كرم الطّبع . والنّهي عن المنكر : هو ما ليس فيه رضى اللّه تعالى من قولٍ أو فعلٍ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الحسبة :
2 - الاحتساب في اللّغة : العدّ والحساب ونحوه ، ومنه احتساب الأجر عند اللّه ، أي : طلبه كما في الحديث : « من مات له ولد فاحتسبه » أي : احتسب الأجر بصبره على مصيبته به ، قال صاحب اللّسان : معناه عدّ مصيبته به في جملة بلايا اللّه الّتي يثاب على الصّبر عليها . وفي الشّريعة يتناول كلّ مشروعٍ يؤدّى للّه تعالى ، كالأذان والإقامة وأداء الشّهادة . إلخ ، ولهذا قيل : القضاء باب من أبواب الحسبة .
قال التّهانويّ : واختصّ في العرف بأمورٍ منها : إراقة الخمر وكسر المعازف وإصلاح الشّوارع . والأمر بالمعروف إذا ظهر تركه ، والنّهي عن المنكر إذا ظهر فعله .
والحسبة من الولايات الإسلاميّة الّتي يقصد بها الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ممّا ليس من اختصاص الولاة والقضاة وأهل الدّيوان ونحوهم . وممّا يقارب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر : النّصح والإرشاد ، وقد سبقت المقارنة بينهما في مصطلح ( إرشاد ) .
الحكم التّكليفيّ :
3 - اتّفق الأئمّة على مشروعيّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وحكى الإمام النّوويّ وابن حزمٍ الإجماع على وجوبه ، وتطابقت آيات الكتاب وأحاديث الرّسول صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين على أنّه من النّصيحة الّتي هي الدّين . قال اللّه تعالى : { ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } .
وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان » .
قال الإمام الغزاليّ : الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أصل الدّين ، وأساس رسالة المرسلين ، ولو طوي بساطه ، وأهمل علمه وعمله ، لتعطّلت النّبوّة واضمحلّت الدّيانة ، وعمّت الفوضى ، وهلك العباد .
إلاّ أنّهم اختلفوا بعد ذلك في حكمه ، هل هو فرض عينٍ ، أو فرض كفايةٍ ، أو نافلة ؟ أو يأخذ حكم المأمور به والمنهيّ عنه ، أو يكون تابعاً لقاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد . على أربعة مذاهب :
المذهب الأوّل : أنّه فرض كفايةٍ . وهو مذهب جمهور أهل السّنّة ، وبه قال الضّحّاك من أئمّة التّابعين والطّبريّ وأحمد بن حنبلٍ .
المذهب الثّاني : أنّه فرض عينٍ في مواضع :
أ - إذا كان المنكر في موضعٍ لا يعلم به إلاّ هو ، وكان متمكّناً من إزالته .
ب - من يرى المنكر من زوجته أو ولده ، أو يرى الإخلال بشيءٍ من الواجبات .
ج - والي الحسبة ، فإنّه يتعيّن عليه ، لاختصاصه بهذا الفرض .
المذهب الثّالث : إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر نافلة ، وهو مذهب الحسن البصريّ وابن شبرمة .
المذهب الرّابع : التّفصيل ، وقد اختلفوا على ثلاثة أقوالٍ :
القول الأوّل : إنّ الأمر والنّهي يكون واجباً في الواجب فعله أو في الواجب تركه ، ومندوباً في المندوب فعله أو في المندوب تركه هكذا ، وهو رأي جلال الدّين البلقينيّ والأذرعيّ من الشّافعيّة .
القول الثّاني : فرّق أبو عليٍّ الجبّائيّ من المعتزلة بين الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وقال : إنّ الأمر بالواجب واجب ، وبالنّافلة نافلة ، وأمّا المنكر فكلّه من بابٍ واحدٍ ، ويجب النّهي عن جميعه .
القول الثّالث : لابن تيميّة وابن القيّم وعزّ الدّين بن عبد السّلام ، قالوا : إنّ مقصود النّهي عن المنكر أن يزول ويخلفه ضدّه ، أو يقلّ وإن لم يزل بجملته ، أو يخلفه ما هو مثله ، أو يخلفه ما هو شرّ منه ، والأوّلان مشروعان ، والثّالث موضع اجتهادٍ ، والرّابع محرّم .
أركان الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر :
4 - عقد الغزاليّ في إحياء علوم الدّين مبحثاً جيّداً لأركانه ، وحاصله ما يلي : الأركان اللّازمة للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أربعة ، وهي :
( أ ) الأمر .
( ب ) ما فيه الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ( المأمور فيه ) .
( ج ) نفس الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ( الصّيغة ) .
( د ) المأمور . ثمّ بيّن أنّ لكلّ ركنٍ من الأركان شروطه الخاصّة به على النّحو التّالي :
أوّلاً : الآمر وشروطه :
أ - التّكليف ، ولا يخفى وجه اشتراطه ، فإنّ غير المكلّف لا يلزمه أمر ، وما ذكر يراد به شرط الوجوب ، فأمّا إمكان الفعل وجوازه فلا يستدعي إلاّ العقل .
ب - الإيمان ، ولا يخفى وجه اشتراطه ، لأنّ هذا نصرة للدّين ، فكيف يكون من أهله من هو جاحد لأصله ومن أعدائه .
ج - العدالة : وقد اختلفوا في هذا الشّرط ، فاعتبرها قوم ، وقالوا : ليس للفاسق أن يأمر وينهى ، واستدلّوا بقوله تعالى : { أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم } . وقوله تعالى : { كبر مقتاً عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون } . وقال آخرون : لا تشترط في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر العصمة من المعاصي كلّها ، وإلاّ كان خرقاً للإجماع ، ولهذا قال سعيد بن جبيرٍ : إذا لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر إلاّ من لا يكون فيه شيء لم يأمر أحد بشيءٍ . وقد ذكر ذلك عند مالكٍ فأعجبه .
واستدلّ أصحاب هذا الرّأي بأنّ لشارب الخمر أن يجاهد في سبيل اللّه ، وكذلك ظالم اليتيم ، ولم يمنعوا من ذلك لا في عهد الرّسول صلى الله عليه وسلم ولا بعده .
ثانياً : محلّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وشروطه :
أ - كون المأمور به معروفاً في الشّرع ، وكون المنهيّ عنه محظور الوقوع في الشّرع .
ب - أن يكون موجوداً في الحال ، وهذا احتراز عمّا فرغ منه .
ج - أن يكون المنكر ظاهراً بغير تجسّسٍ ، فكلّ من أغلق بابه لا يجوز التّجسّس عليه ، وقد نهى اللّه عن ذلك فقال : { ولا تجسّسوا } وقال : { وأتوا البيوت من أبوابها } وقال : { لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها } .
د - أن يكون المنكر متّفقاً على تحريمه بغير خلافٍ معتبرٍ ، فكلّ ما هو محلّ اجتهادٍ فليس محلّاً للإنكار ، بل يكون محلّاً للإرشاد ، ينظر مصطلح ( إرشاد ) .
ثالثاً : الشّخص المأمور أو المنهيّ :
وشرطه أن يكون بصفةٍ يصير الفعل الممنوع منه في حقّه منكراً ، ولا يشترط كونه مكلّفاً ، إذ لو شرب الصّبيّ الخمر منع منه وأنكر عليه ، وإن كان قبل البلوغ . ولا يشترط كونه مميّزاً ، فالمجنون أو الصّبيّ غير المميّز لو وجدا يرتكبان منكراً لوجب منعهما منه .
رابعاً : نفس الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر :
وله درجات وآداب . أمّا الدّرجات فأوّلها التّعريف ، ثمّ النّهي ، ثمّ الوعظ والنّصح ، ثمّ التّعنيف ، ثمّ التّغيير باليد ، ثمّ التّهديد بالضّرب ، ثمّ إيقاع الضّرب ، ثمّ شهر السّلاح ، ثمّ الاستظهار فيه بالأعوان والجنود . وسيأتي تفصيل ذلك .
مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر :
5 - يرى جمهور الفقهاء أنّ المراتب الأساسيّة للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ثلاث ، وذلك لحديث أبي سعيدٍ الخدريّ ، قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان »
فمن وسائل الإنكار التّعريف باللّطف والرّفق ، ليكون أبلغ في الموعظة والنّصيحة ، وخاصّةً لأصحاب الجاه والعزّة والسّلطان وللظّالم المخوف شرّه ، فهو أدعى إلى قبوله الموعظة . وأعلى المراتب اليد ، فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه أو يأمر من يفعله ، وينزع المغصوب ، ويردّه إلى أصحابه بنفسه ، فإذا انتهى الأمر بذلك إلى شهر السّلاح ربط الأمر بالسّلطان . وقد فصّل الغزاليّ في الإحياء مراتب الأمر والنّهي وقسّمها إلى سبع مراتب ، تنظر في مصطلح ( حسبة ) .
هذا ويجب قتال المقيمين على المعاصي الموبقات ، المصرّين عليها المجاهرين بها على كلّ أحدٍ من النّاس إذا لم يرتدعوا - وهذا بالنّسبة للإمام - لأنّنا مأمورون بوجوب التّغيير عليهم ، والنّكير بما أمكن باليد ، فإذا لم يستطع فلينكر بلسانه ، وذلك إذا رجا أنّه إن أنكر عليهم بالقول أن يزولوا عنه ويتركوه ، فإن خاف على نفسه أو على عضوٍ من أعضائه ، أنكر بقلبه . فلو قدر واحد باليد وآخرون باللّسان تعيّن على الأوّل ، إلاّ أن يكون التّأثير باللّسان أقرب ، أو أنّه يتأثّر به ظاهراً وباطناً ، في حين لا يتأثّر بذي اليد إلاّ ظاهراً فقط ، فيتعيّن على ذي اللّسان حينئذٍ .
6- ولا يسقط الإنكار بالقلب عن المكلّف باليد أو اللّسان أصلاً ، إذ هو كراهة المعصية ، وهو واجب على كلّ مكلّفٍ ، فإن عجز المكلّف عن الإنكار باللّسان وقدر على التّعبيس والهجر والنّظر شزراً لزمه ، ولا يكفيه إنكار القلب ، فإن خاف على نفسه أنكر بالقلب واجتنب صاحب المعصية . قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه :" جاهدوا الكفّار بأيديكم فإن لم تستطيعوا إلاّ أن تكفهرّوا في وجوههم فافعلوا ".
أخذ الأجر على القيام بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر :
7 - الأصل أنّ كلّ طاعةٍ لا يجوز الاستئجار عليها ، كالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والأذان والحجّ وتعليم القرآن والجهاد . وهو رأي للحنفيّة ومذهب الإمام أحمد ، لما روي عن عثمان بن أبي العاص قال : « إنّ آخر ما عهد إليّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن اتّخذ مؤذّناً لا يأخذ على أذانه أجراً » وما رواه « عبادة بن الصّامت قال : علّمت ناساً من أهل الصّفّة القرآن والكتابة ، فأهدى إليّ رجل منهم قوساً ، قلت : قوس وليس بمالٍ ، أتقلّدها في سبيل اللّه ، فذكرت ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إن كنت تحبّ أن تطوّق طوقاً من نارٍ فاقبلها »
وأجاز الشّافعيّ ومالك ومتأخّرو الحنفيّة ذلك ، وهو رواية عن أحمد ، وقال به أبو قلابة وأبو ثورٍ وابن المنذر ، " لأنّ « رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زوّج رجلاً بما معه من القرآن » وجعل ذلك يقوم مقام المهر . وقد روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « أحقّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب اللّه » على أنّ المحتسب المعيّن يفرض له كفايته من بيت المال ، ما يفرض للقضاة وأصحاب الولايات ، بخلاف المتطوّع لأنّه غير متفرّغٍ لذلك . ( ر : إجارة ) .
أمرد *
التّعريف :
1 - الأمرد في اللّغة من المرد ، وهو نقاء الخدّين من الشّعر ، يقال : مرد الغلام مرداً : إذا طرّ شاربه ولم تنبت لحيته .
وفي اصطلاح الفقهاء هو : من لم تنبت لحيته ، ولم يصل إلى أوان إنباتها في غالب النّاس والظّاهر أنّ طرور الشّارب وبلوغه مبلغ الرّجال ليس بقيدٍ ، بل هو بيان لغايته ، وأنّ ابتداءه حين بلوغه سنّاً تشتهيه النّساء .
الألفاظ ذات الصّلة :
الأجرد :
2 - الأجرد في اللّغة هو : من لا شعر على جسده ، والمرأة جرداء . وفي الاصطلاح : الّذي ليس على وجهه شعر ، وقد مضى أوان طلوع لحيته . ويقال له في اللّغة أيضاً : ثطّ وأثطّ . ( ر : أجرد ) أمّا إذا كان على جميع بدنه شعر فهو : أشعر .
المراهق :
3 - إذا قارب الغلام الاحتلام ولم يحتلم فهو مراهق . فيقال : جارية مراهقة ، وغلام مراهق ، ويقال أيضاً : جارية راهقة وغلام راهق .
الأحكام الإجماليّة المتعلّقة بالأمرد :
أوّلاً : النّظر والخلوة :
4 - إن كان الأمرد غير صبيحٍ ولا يفتن ، فقد نصّ الحنفيّة والشّافعيّة على أنّه يأخذ حكم غيره من الرّجال . أمّا إن كان صبيحاً حسناً يفتن ، وضابطه أن يكون جميلاً بحسب طبع النّاظر ولو كان أسود ، لأنّ الحسن يختلف باختلاف الطّباع فله في هذه الصّورة حالتان : الأولى : أن يكون النّظر والخلوة وغير ذلك من الأمور المتعلّقة بالأمر بلا قصد الالتذاذ ، والنّاظر مع ذلك آمن الفتنة ، كنظر الرّجل إلى ولده أو أخيه الأمرد الصّبيح ، فهو في غالب الأحوال لا يكون بتلذّذٍ ، فهذا مباح ولا إثم فيه عند جمهور الفقهاء .
الثّانية : أن يكون ذلك بلذّةٍ وشهوةٍ ، فالنّظر إليه حرام .
وقد ذكر الحنفيّة والشّافعيّة أنّ الأمرد يلحق بالمرأة في النّظر إن كان بشهوةٍ ، ولو مع الشّكّ في وجودها ، وحرمة النّظر إليه بشبهةٍ أعظم إثماً ، قالوا : لأنّ خشية الفتنة به عند بعض النّاس أعظم منها .
أمّا الخلوة بالأمرد فهي كالنّظر ، بل أقرب إلى المفسدة حتّى رأى الشّافعيّة حرمة خلوة الأمرد بالأمرد وإن تعدّد ، أو خلوة الرّجل بالأمرد وإن تعدّد . نعم إن لم تكن هناك ريبة فلا تحرم كشارعٍ ومسجدٍ مطروقٍ .
ثانياً : مصافحة الأمرد :
5 - جمهور الفقهاء على حرمة مسّ ومصافحة الأمرد الصّبيح بقصد التّلذّذ ، وذلك لأنّ المسّ بشهوةٍ عندهم كالنّظر بل أقوى وأبلغ منه .
ويرى الحنفيّة كراهة مسّ الأمرد ومصافحته .
ثالثاً : انتقاض الوضوء بمسّ الأمرد :
6 - يرى المالكيّة ، وهو قول للإمام أحمد إنّه ينتقض الوضوء بلمس الأمرد الصّبيح لشهوةٍ . ويرى الشّافعيّة ، وهو القول الآخر لأحمد عدم انتقاضه .
رابعاً : إمامة الأمرد :
7 - جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) على أنّه تكره الصّلاة خلف الأمرد الصّبيح ، وذلك لأنّه محلّ فتنةٍ . ولم نجد نصّاً للمالكيّة في هذه المسألة .
خامساً : ما يراعى في التّعامل مع الأمرد وتطبيبه :
8 - التّعامل مع الأمرد الصّبيح من غير المحارم ينبغي أن يكون مع شيءٍ من الحذر غالباً ولو في مقام تعليمهم وتأديبهم لما فيه من الآفات .
وعند الحاجة إلى معاملة الأمرد للتّعليم أو نحوه ينبغي الاقتصار على قدر الحاجة ، وبشرط السّلامة وحفظ قلبه وجوارحه عند التّعامل معهم ، وحملهم على الجدّ والتّأدّب ومجانبة الانبساط معهم . والأصل : أنّ كلّ ما كان سبباً للفتنة فإنّه لا يجوز ، حيث يجب سدّ الذّريعة إلى الفساد إذا لم يعارضها مصلحة .
إمساك *
التّعريف :
1 - من معاني الإمساك في اللّغة القبض . يقال : أمسكته بيدي إمساكاً : قبضته ، ومن معانيه أيضاً الكفّ يقال : أمسكت عن الأمر : كففت عنه .
واستعمله الفقهاء أيضاً في هذين المعنيين في مواضع مختلفةٍ ، لأنّ مرادهم بالإمساك في الجنايات القبض باليد . فإذا أمسك رجل آخر فقتله الثّالث يقتل الممسك قصاصاً عند المالكيّة إذا كان الإمساك بقصد القتل ، وعند غيرهم لا يقتل كما سيأتي . ومرادهم بالإمساك في الصّيام : الكفّ عن المفطرات والامتناع عن الأكل والشّرب والجماع ، كما صرّحوا بذلك .
الألفاظ ذات الصّلة :
الاحتباس :
2 - الاحتباس لغةً : هو المنع من حرّيّة السّعي ، ويختصّ بما يحبسه الإنسان لنفسه . تقول : احتبست الشّيء : إذا اختصصته لنفسك خاصّةً .
ويطلق الاحتباس عند الفقهاء على تسليم المرأة نفسها لزوجها ، كما قالوا : إنّ النّفقة جزاء الاحتباس . كما يطلقون الاحتباس أو الحبس على الوقف ، لما فيه من منع التّصرّف فيه ، وعلى هذا فالاحتباس أخصّ من الإمساك .
الحكم الإجماليّ :
يختلف حكم الإمساك باختلاف الموضوعات الّتي ذكر فيها : من الصّيام ، والصّيد ، والطّلاق ، والقصاص .
أوّلاً : إمساك الصّيد :
3 - يطلق إمساك الصّيد على الاصطياد ، وعلى إبقاء الصّيد في اليد بدلاً من إرساله ، وقد اتّفق الفقهاء على أنّ إمساك صيد البرّ حرام إذا كان في حالة الإحرام ، أو كان في داخل حدود الحرم . وكذلك الدّلالة والإشارة إلى الصّيد والإعانة في قتله ، كما هو مبيّن في مصطلح ( إحرام ) على تفصيلٍ في ذلك .
4 - ويجوز الاصطياد بجوارح السّباع والطّير ، كالكلب والفهد والبازي والشّاهين ، ويشترط في الجارح أن يمسك الصّيد على صاحبه . بشرط كونه معلّماً .
والإمساك على صاحبه شرط من شروط كون الكلب معلّماً عند الجمهور ، فإنّهم صرّحوا أنّ تعليم الكلب هو أنّه إذا أرسل اتّبع الصّيد . وإذا أخذه أمسكه على صاحبه . ولا يأكل منه شيئاً . حتّى لو أخذ صيداً فأكل منه لا يؤكل عند الجمهور ، بدليل قوله تعالى : { فكلوا ممّا أمسكن عليكم } إشارةً إلى أنّ حدّ تعليم الكلب وما هو في معناه هو الإمساك على صاحبه وترك الأكل منه ، والكلب الّذي يأكل إنّما أمسك على نفسه لا على صاحبه ، فكان فعله مضافاً إليه لا إلى المرسل فلا يجوز أكله . واستدلّ لذلك بحديث « عديّ بن حاتمٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له : فإن أكل فلا تأكل ، فإنّي أخاف أن يكون إنّما أمسك على نفسه » .
وقال مالك وهو رواية عن أحمد : إنّ الإمساك ليس شرطاً في تعليم الحيوان الّذي يرسل إلى الصّيد . فالحيوان المعلّم هو الّذي إذا أرسل أطاع وإذا زجر انزجر ، لأنّ التّعليم إنّما شرط حالة الاصطياد وهي حالة الاتّباع . أمّا الإمساك على صاحبه وترك الأكل فيكونان بعد الفراغ عن الاصطياد فلا يشترطان . وتفصيله في مصطلح ( صيد ) .
ثانياً : الإمساك في الصّيام :
5 - الإمساك عن الأكل والشّرب والجماع بشرائط مخصوصةٍ هو معنى الصّيام عند الفقهاء . وهناك إمساك لا يعدّ صوماً ، لكنّه واجب في أحوالٍ منها : ما إذا أفطر لاعتقاده أنّ اليوم من شعبان ، فتبيّن أنّه من رمضان ، لزمه الإمساك عن جميع المفطرات لحرمة الشّهر ، وإن كان لا يحتسب إمساكه هذا صوماً .
كذلك يلزم إمساك بقيّة اليوم لكلّ من أفطر في نهار رمضان والصّوم لازم له ، كالمفطر بغير عذرٍ ، والمفطر يظنّ أنّ الفجر لم يطلع وقد كان طلع ، أو ظنّ أنّ الشّمس قد غابت ولم تغب ، مع وجوب القضاء عند عامّة الفقهاء .
6- أمّا من يباح له الفطر وزال عذره في نهار رمضان كما لو بلغ الصّبيّ ، أو أفاق المجنون ، أو أسلم الكافر ، أو صحّ المريض أو أقام المسافر ، أو طهرت الحائض والنّفساء ، فالمالكيّة وكذا الشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة في روايةٍ على عدم وجوب الإمساك عليهم بقيّة يومهم . وصرّح بعضهم باستحباب إمساكهم لحرمة الشّهر .
أمّا الحنفيّة والشّافعيّة في قولهم الثّاني والحنابلة في روايةٍ فقد صرّحوا بوجوب الإمساك عليهم بقيّة يومهم ، كما إذا قامت البيّنة على رؤية هلال رمضان في أثناء النّهار . وللفقهاء في صوم يوم الشّكّ خلاف وتفصيل ، لكن المالكيّة صرّحوا بأنّه يندب الإمساك عن المفطر في يوم الشّكّ بقدر ما جرت العادة بالثّبوت فيه ليتحقّق الحال .
وللتّفصيل في هذه المسائل يرجع إلى مصطلح ( صيام ) .
ثالثاً : الإمساك في القصاص :
7 - إن أمسك شخص إنساناً وقتله آخر فلا خلاف أنّ القاتل يقتل قصاصاً . أمّا الممسك فإن لم يعلم أنّ الجاني كان يريد القتل فلا قصاص عليه اتّفاقاً ، لأنّه متسبّب والقاتل مباشر ، والقاعدة الفقهيّة تقول : ( إذا اجتمع المباشر والمتسبّب يضاف الحكم إلى المباشر ) .
كذلك إذا كان الإمساك بقصد القتل بحيث لولا إمساكه له لما أدركه القاتل مع علم الممسك بأنّ الجاني قاصد قتله فقتله الثّالث فالحنفيّة والشّافعيّة على أنّه لا يقتصّ من الممسك ، لتقديم المباشر على المتسبّب .
وقال مالك وهو رواية عن أحمد : يقتصّ من الممسك لتسبّبه كما يقتصّ من القاتل لمباشرته ، لأنّه لو لم يمسكه لما قدر القاتل على قتله ، وبإمساكه تمكّن من قتله ، فيكونان شريكين . وروي عن أحمد أنّ من أمسك شخصاً ليقتله الطّالب يحبس الممسك حتّى يموت . لأنّه أمسك القتيل حتّى الموت . وتفصيله في مصطلح ( قصاص )
رابعاً : الإمساك في الطّلاق :
8 - الإمساك من صيغ الرّجعة في الطّلاق الرّجعيّ عند الجمهور ( الحنفيّة والحنابلة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ) فتصحّ الرّجعة بقوله : مسكتك أو أمسكتك بدون حاجةٍ إلى النّيّة ، لأنّه ورد به الكتاب لقوله تعالى : { فأمسكوهنّ بمعروفٍ } يعني الرّجعة .
وقال المالكيّة وهو القول الثّاني للشّافعيّة : إن قال : أمسكتها ، يكون مراجعاً بشرط النّيّة . ويصير مراجعاً بالإمساك الفعليّ إذا كان بشهوةٍ عند الحنفيّة ، وهو رواية عن أحمد ، وكذلك عند المالكيّة إذا اقترن الإمساك بالنّيّة . وقال الشّافعيّة : لا تحصل الرّجعة بفعلٍ كوطءٍ ومقدّماته ، لأنّ ذلك حرّم بالطّلاق ومقصود الرّجعة حلّه ، فلا تحصل به .
أمّا الإمساك لغير شهوةٍ فليس برجعةٍ عند عامّة الفقهاء .
9- وذكر الفقهاء أنّ الطّلاق في الحيض طلاق بدعةٍ لكنّه إن حصل وقع ، وتستحبّ مراجعتها عند الجمهور . وقال مالك : يجبر على الرّجعة ، لحديث ابن عمر « مره فليراجعها ثمّ ليمسكها حتّى تطهر ثمّ تحيض ثمّ تطهر » .
فإذا راجعها وجب إمساكها عند عامّة الفقهاء حتّى تطهر من الحيض وندب إمساكها حتّى تحيض حيضةً أخرى . وتفصيله في مصطلح ( رجعة ) .
إمضاء *
انظر : إجازة .
إملاك *
التّعريف :
1 - الإملاك هو : التّزويج وعقد النّكاح
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - الإملاك بمعنى : عقد النّكاح ، وله مصطلح خاصّ به تذكر فيه أحكامه .
ووليمة الإملاك بمعنى وليمة العقد ، فهي سنّة عند الشّافعيّة والحنابلة ، والإجابة إليها سنّة عند الشّافعيّة ، وهو قول ابن قدامة وغيره من الحنابلة ، وقال بعض الحنابلة : إنّها مباحة . وهل تتعدّد مع وليمة الدّخول ؟ قال الشّافعيّة : المعتمد أنّها واحدة . ولم نطّلع على حكم وليمة الإملاك عند المالكيّة والحنفيّة . ويتكلّم الفقهاء عن الإملاك في باب الوليمة من كتاب النّكاح ، وتفصيله في مصطلح ( وليمة ) .
أمّ *
التّعريف :
1 - أمّ الشّيء في اللّغة : أصله ، والأمّ : الوالدة ، والجمع أمّهات وأمّات ولكن كثر ( أمّهات ) في الآدميّات ( وأمّات ) في الحيوان .
ويقول الفقهاء : إنّ من ولدت الإنسان فهي أمّه حقيقةً ، أمّا من ولدت من ولده فهي أمّه مجازاً ، وهو الجدّة ، وإن علت كأمّ الأب وأمّ الأمّ .
ومن أرضعت إنساناً ولم تلده فهي أمّه من الرّضاع .
الحكم الإجماليّ :
للأمّ أحكام خاصّة في الفقه الإسلاميّ تفصيلها فيما يلي :
برّ الوالدين :
2 - ومن الواجب على المسلم برّ الوالدين وإن كانا فاسقين أو كافرين ، ويجب طاعتهما في غير معصية اللّه تعالى ، فإن كانا كافرين فليصاحبهما في الدّنيا معروفاً ، ولا يطعهما في كفرٍ ولا في معصية اللّه تعالى قال سبحانه وتعالى : { وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه وبالوالدين إحساناً } وقال تعالى : { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدّنيا معروفاً }
وهي أولى من الأب بالبرّ لقوله تعالى : { ووصّينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمّه وهناً على وهنٍ وفصاله في عامين } ولأنّ« النّبيّ صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال : يا رسول اللّه من أحقّ بحسن صحابتي ؟ قال : أمّك . قال : ثمّ من ؟ قال : أمّك . قال : ثمّ من ؟ قال : أمّك قال : ثمّ من ؟ قال : أبوك » وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال : « سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أيّ العمل أفضل ؟ قال : الصّلاة لأوّل وقتها ، وبرّ الوالدين»
تحريم الأمّ :
3 - أجمعوا على تحريم نكاح الأمّ النّسبيّة وإن علت على ابنها لقوله تعالى : { حرّمت عليكم أمّهاتكم } ومثلها الأمّ من الرّضاع لقوله تعالى : { وأمّهاتكم اللّاتي أرضعنكم } .
النّظر إلى الأمّ والمسافرة بها :
4 - اتّفق الفقهاء على جواز النّظر إلى الأمّ ، ولكن اختلفوا في محلّ جواز النّظر ، فذهب الحنفيّة إلى جواز النّظر من الأمّ إلى الرّأس والوجه والصّدر والسّاق والعضدين ، فلا يجوز النّظر إلى الظّهر والبطن والفخذ .
وذهب المالكيّة إلى أنّه ينظر إلى الوجه والأطراف ، فلا يجوز النّظر إلى الصّدر والظّهر والثّدي والسّاق ، وإن لم يلتذّ به .
والحنابلة في المعتمد عندهم كالمالكيّة إلاّ أنّهم أجازوا النّظر إلى السّاق من المحرم ، وذهب الشّافعيّة والقاضي من الحنابلة إلى تحريم النّظر من المحرم إلى ما بين السّرّة والرّكبة ويحلّ ما عداه . واتّفق الفقهاء أيضاً على أنّ هذا التّحديد في النّظر على اختلاف المذاهب مشروط بعدم النّظر بشهوةٍ ، فإن كان بشهوةٍ حرم . ويجوز للأمّ أن تسافر مع ولدها لأنّه من أقوى المحارم لها ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يحلّ لامرأةٍ تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومٍ وليلةٍ ليس معها حرمة » .
النّفقة :
5 - قال ابن المنذر : أجمع العلماء على وجوب النّفقة للوالدين اللّذين لا كسب لهما ولا مال ، سواء أكان الوالدان مسلمين أو كافرين ، وسواء كان الفرع ذكراً أم أنثى ، لقوله تعالى :
{ وصاحبهما في الدّنيا معروفاً } ولقوله عليه الصلاة والسلام : « إنّ أطيب ما يأكل الرّجل من كسبه ، وولده من كسبه » . وللتّفصيل انظر ( نفقة ) .
الحضانة :
6 - تثبت الحضانة للأمّ المسلمة اتّفاقاً ما لم يكن مانع ، بل هي أولى من غيرها ، وكذا الأمّ الكتابيّة - على خلافٍ وتفصيلٍ فيها - وتجب عليها الحضانة إذا تعيّنت بألاّ يكون غيرها . وللتّفصيل : انظر مصطلح ( حضانة ) .
الميراث :
7 - للأمّ في الميراث ثلاثة أحوالٍ :
الأوّل : استحقاق السّدس فرضاً ، وذلك إذا كان للميّت فرع وارث ، أو اثنان من الإخوة والأخوات من أيّ جهةٍ كانوا .
الثّاني : استحقاق ثلث التّركة كلّها فرضاً ، وذلك عند عدم الفرع الوارث أصلاً ، وعدم اثنين فأكثر من الإخوة والأخوات .
الثّالث : استحقاق ثلث الباقي من التّركة ، وذلك في مسألتين :
أ - أن يكون الورثة زوجاً وأمّا وأباً ، فللأمّ ثلث الباقي بعد فرض الزّوج ، وهو يساوي هنا السّدس .
ب - أن يكون الورثة زوجةً وأمّاً وأباً ، فللأمّ ثلث الباقي بعد فرض الزّوجة ، وهو يساوي هنا الرّبع . وقد سمّى الفقهاء هاتين المسألتين بالغرّاوين أو العمريّتين ، لقضاء عمر رضي الله عنه فيهما بذلك .
الوصيّة :
8 - لا يدخل الوالدان والولد في الوصيّة للأقرباء ، لأنّهم يرثون في كلّ حالٍ ، ولا يحجبون ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا وصيّة لوارثٍ »
الولاية :
9 - يرى جمهور الفقهاء أنّه لا ولاية للأمّ على مال الصّغير ، لأنّ الولاية ثبتت بالشّرع فلم تثبت للأمّ كولاية النّكاح ، لكن يجوز أن يوصى إليها فتصير وصيّةً بالإيصاء .
وفي رأيٍ للشّافعيّة - خلاف الأصحّ - وهو قول ذكره القاضي والشّيخ تقيّ الدّين بن تيميّة من الحنابلة تكون لها الولاية بعد الأب والجدّ ، لأنّها أكثر شفقةً على الابن .
وكذلك لا ولاية لها في النّكاح عند الجمهور لأنّ المرأة لا تملك تزويج نفسها ولا غيرها ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تزوّج المرأة المرأة ولا تزوّج المرأة نفسها » .
وعند أبي حنيفة وزفر والحسن وهو ظاهر الرّواية عن أبي يوسف أنّه تجوز ولاية الأمّ في النّكاح عند عدم العصبة .
إقامة الحدّ والتّعزير على الأمّ :
10 - لا يقام حدّ السّرقة على الأمّ إذا سرقت من مال ولدها . ولا تحدّ حدّ القذف أيضاً إذا قذفت ولدها ، وخلاف الرّاجح عند المالكيّة تحدّ ، وكذا لا يعزّر الوالدان لحقوق الأولاد .
القصاص :
11 - لا يقتصّ للقتيل من قبل أصوله ، ومنهم الأمّ لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا يقاد الوالد بولده » ومثله بقيّة الأصول ، ولأنّ الأصل سبب لإحياء الفرع فمن المحال أن يستحقّ له إفناؤه . وذهب المالكيّة إلى ما ذهب إليه جمهور العلماء ، إلاّ إذا قصد الأصل إزهاق روح الفرع ، كأن يرمي عنق الفرع بالسّيف ، أو يضجعه ويذبحه .
شهادة الفرع للأمّ وعكسه :
12 - أ - لا تقبل شهادة أحدهما للآخر عند جماهير العلماء ، وبه قال شريح والحسن والشّعبيّ والنّخعيّ وأبو حنيفة ومالك والشّافعيّ وأحمد في إحدى الرّوايتين عنه - وهي المذهب - وإسحاق وأبو عبيدٍ وأصحاب الرّأي .
وفي روايةٍ أخرى عن أحمد أنّ شهادة الابن لأصله مقبولة بخلاف العكس ، وروي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّ شهادة كلٍّ منهما للآخر مقبولة وروي ذلك عن شريحٍ ، وبه قال عمر بن عبد العزيز وأبو ثورٍ والمزنيّ وداود وإسحاق وابن المنذر .
ب - أمّا شهادة أحدهما - أي الفرع والأصل - على صاحبه فتقبل ، وهو قول عامّة أهل العلم ، لانتفاء التّهمة ، وصرّح الشّافعيّة بأنّ محلّ قبول الشّهادة حيث لا عداوة وإلاّ لم تقبل . وللتّفصيل انظر مصطلح ( شهادة ) .
إذن الأمّ لولدها في الجهاد :
13 - اتّفقوا على أنّه لا يجوز الجهاد للولد في حال كونه فرض كفايةٍ إلاّ بإذن والديه إذا كانا مسلمين ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم للرّجل الّذي استأذنه في الجهاد : أحيّ والداك ؟ قال : نعم . قال : ففيهما فجاهد » .
تأديب الأمّ لولدها :
14 - يجوز للأب والأمّ ضرب الصّغير والمجنون زجراً لهما عن سيّئ الأخلاق وإصلاحاً لهما . وللتّفصيل : انظر مصطلح ( تعزير )
أمّ الأرامل *
التّعريف :
1- الأمّ لغةً الوالدة ، والأرامل جمع أرملةٍ وهي الّتي مات زوجها . ومسألة أمّ الأرامل عند الفرضيّين : إحدى المسائل الملقّبات وهي جدّتان ، وثلاثة زوجاتٍ ، وأربع أخواتٍ لأمٍّ ، وثماني أخواتٍ لأبوين أو لأبٍ ، وتسمّى أيضاً بأمّ الفروج لأنوثة الجميع ، وتسمّى أيضاً السّبعة عشريّة ، لنسبتها إلى سبعة عشر ، وهو عدد أسهمها .
بيان الأنصبة فيها :
2 - أصل المسألة من اثني عشر ( وتعول إلى سبعة عشر ) فيكون للجدّتين السّدس ، وهو اثنان ، لكلّ واحدةٍ سهم ، وللزّوجات الرّبع ، ثلاثة ، لكلّ واحدةٍ منهنّ سهم ، وللأخوات لأمٍّ الثّلث ، أربعة ، لكلّ واحدةٍ منهنّ سهم ، والثّلثان وهو ثمانية أسهمٍ للأخوات الثّماني لكلّ واحدةٍ سهم ، ويفصّل الفقهاء هذه المسألة في المواريث في باب العول .
أمّ الدّماغ *
التّعريف :
1 - أمّ الدّماغ لغةً : الهامة : وقيل الجلدة الرّقيقة المشتملة على الدّماغ .
وعند الفقهاء : الجلدة الّتي تحت العظم فوق الدّماغ ، وتسمّى بأمّ الرّأس ، وخريطة الدّماغ .
الحكم الإجماليّ :
2 - الشّجّة الّتي تصل إلى أمّ الدّماغ دون أن تخرقها تسمّى آمّةً ومأمومةً ، وفيها ثلث الدّية ، ولا قصاص فيها عند الفقهاء ، روى ابن ماجه في سننه عن العبّاس بن عبد المطّلب عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا قود في المأمومة ولا الجائفة ولا المنقّلة » ، وفي المغني : " وليس فيها قصاص عند أحدٍ من أهل العلم نعلمه إلاّ ما روي عن ابن الزّبير أنّه قصّ من المأمومة فأنكر النّاس عليه ، وقالوا ما سمعنا أحداً قصّ منها قبل ابن الزّبير .
3 - فإن خرقت الشّجّة أمّ الدّماغ سمّيت الدّامغة ، وللفقهاء فيها عدّة آراءٍ .
منها : أنّه يجب فيها ما يجب في الآمّة ولا يزاد لها شيء .
ومنها : أنّه يزاد فيها حكومة بالإضافة إلى دية الآمّة .
ومنها : أنّه يجب فيها ما يجب في النّفس إذ لا يعيش الإنسان معها غالباً . ويفصّل الفقهاء ذلك في كتاب الجنايات : ( القصاص فيما دون النّفس ، دية الأطراف والمنافع ) .
4 - وبالإضافة إلى ما تقدّم يتكلّم الفقهاء عن إفطار الصّائم بوصول شيءٍ إلى أمّ الدّماغ ، فمنهم من يرى بطلان صومه بوصول شيءٍ إلى أمّ الدّماغ ، ومنهم من لا يرى بطلان صومه إلاّ إذا وصل إلى الدّماغ نفسه .
وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في كتاب الصّيام باب ( ما يفطر الصّائم )
أمّ الفروخ
التّعريف :
1 - الأمّ لغةً الوالدة ، والفروخ : جمع فرخٍ ، وهو ولد الطّائر ، وقد استعمل في كلّ صغيرٍ من الحيوان والنّبات والشّجر وغيرها .
2 - وأمّ الفروخ عند الفرضيّين لقب لمسألةٍ من مسائل الميراث هي : زوج ، وأمّ ، وأختان شقيقتان أو لأبٍ ، واثنان فأكثر من أولاد الأمّ ، وسمّيت بأمّ الفروخ لكثرة السّهام العائلة فيها ، شبّهت بطائرٍ حولها أفراخها ، وقيل : إنّه لقب لكلّ مسألةٍ عائلةٍ إلى عشرةٍ . ويقال لهذه المسألة أيضاً ( البلجاء ) لوضوحها لأنّها عالت بثلثيها ، وهو أكثر ما تعول إليه مسألة في الفرائض ، وتلقّب أيضاً ( الشّريحيّة ) لوقوعها في زمن القاضي شريحٍ .
روي أنّ رجلاً أتاه وهو قاضٍ بالبصرة فسأله عنها ، فجعلها من عشرةٍ كما تقدّم ، فكان الزّوج يلقى الفقيه فيستفتيه قائلاً : رجل ماتت امرأته ، ولم تترك ولداً ولا ولد ابنٍ ، فيجيبه الفقيه : له النّصف ، فيقول : واللّه ما أعطيت نصفاً ولا ثلثاً ، فيقول له : من أعطاك ذلك ؟ فيقول : شريح ، فيلقى الفقيه شريحاً فيسأله عن ذلك فيخبره الخبر ، فكان شريح إذا لقي الزّوج يقول له : إذا رأيتني ذكرت في حكماً جائراً إذا رأيتك ذكرت رجلاً فاجراً تبيّن لي فجوره ، إنّك تذيع الشّكوى وتكتم الفتوى .
كيفيّة التّوريث فيها :
3 - للزّوج النّصف ، وللأختين لغير أمٍّ الثّلثان ، وللأمّ السّدس ، ولأولاد الأمّ الثّلث ، ومجموع ذلك عشرة ، وأصلها من ستّةٍ هذا على قول الجمهور .
ويفصّل الفقهاء هذه المسألة في باب العول من كتب الفرائض .
أمّ الكتاب *
التّعريف :
1 - أمّ الشّيء في اللّغة : أصله ، وأمّ الكتاب هي : أصله .
وبهذا المعنى وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى : { منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب } أي أصله الّذي يرجع إليه عند الاشتباه ، وأطلق في قوله جلّ شأنه : { يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب } على اللّوح المحفوظ الّذي فيه علم اللّه تعالى .
وقد ورد في عددٍ من الأحاديث والآثار إطلاق ( أمّ الكتاب ) على سورة الفاتحة . من ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من قرأ بأمّ الكتاب فقد أجزأت عنه » وقوله صلى الله عليه وسلم : « من صلّى صلاةً لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج »
وينظر تفصيل أحكام ( أمّ كتاب ) بالإطلاق الأخير في مصطلح ( الفاتحة ، وقراءة ) .
أمّ الولد *
انظر : استيلاد .
أمّهات المؤمنين *
التّعريف :
1 - يؤخذ من استعمال الفقهاء أنّهم يريدون ب " أمّهات المؤمنين " كلّ امرأةٍ عقد عليها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ودخل بها ، وإن طلّقها بعد ذلك على الرّاجح .
وعلى هذا فإنّ من عقد عليها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بها فإنّها لا يطلق عليها لفظ " أمّ المؤمنين " .
ومن دخل بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على وجه التّسرّي ، لا على وجه النّكاح ، لا يطلق عليها " أمّ المؤمنين " كمارية القبطيّة .
ويؤخذ ذلك من قوله تعالى في سورة الأحزاب { وأزواجه أمّهاتهم } .
عدد أمّهات المؤمنين :
2 - النّساء اللّاتي عقد عليهنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ودخل بهنّ - وهنّ أمّهات المؤمنين - اثنتا عشرة امرأةً ، هنّ على ترتيب دخوله بهنّ كما يلي :
- 1 - خديجة بنت خويلدٍ .
- 2 - سودة بنت زمعة ، وقيل : إنّه دخل بها بعد عائشة .
- 3 - عائشة بنت أبي بكرٍ الصّدّيق التّيميّة .
- 4 - حفصة بنت عمر بن الخطّاب العدويّة .
- 5 - زينب بنت خزيمة الهلاليّة .
- 6 - أمّ سلمة ، واسمها : هند بنت أبي أميّة بن المغيرة المخزوميّة .
- 7 - زينب بنت جحشٍ الأسديّة .
- 8 - جويرية بنت الحارث الخزاعيّة .
- 9 - ريحانة بنت زيد بن عمرٍو القرظيّة .
- 10 - أمّ حبيبة ، واسمها : رملة بنت أبي سفيان الأمويّة .
- 11 - صفيّة بنت حييّ بن أخطب النّضيريّة .
- 12 - ميمونة بنت الحارث بن حزنٍ الهلاليّة .
وتوفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن تسعٍ منهنّ ، وهنّ : سودة - وعائشة - وحفصة - وأمّ سلمة - وزينب بنت جحشٍ - وأمّ حبيبة - وجويرية - وصفيّة - وميمونة . وقد وقع الخلاف بين العلماء في ( ريحانة ) فقيل : كان دخول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بها دخول نكاحٍ ، وقيل : كان دخوله بها دخول تسرٍّ بملك اليمين ، والصّحيح الأوّل .
ممّا يجب أن تتّصف به أمّهات المؤمنين :
يجب أن تتّصف أمّهات المؤمنين بالصّفات التّالية :
أ - الإسلام :
3 - لم تكن واحدة من أمّهات المؤمنين كتابيّةً ، بل كنّ كلّهنّ مسلماتٍ مؤمناتٍ ، وذكر المالكيّة والشّافعيّة : أنّه يحرم على رسول اللّه أن يتزوّج بكتابيّةٍ ، لأنّه عليه الصلاة والسلام أشرف من أن يضع نطفته في رحمٍ كافرةٍ ، بل لو نكح كتابيّةً لهديت إلى الإسلام كرامةً له ، لخبر « سألت ربّي ألاّ أزوّج إلاّ من كان معي في الجنّة فأعطاني » .
ب - الحرّيّة :
4 - ولم تكن واحدة منهنّ رقيقةً ، بل كنّ كلّهنّ حرائر ، بل ذكر المالكيّة والشّافعيّة : أنّه يحرم على رسول اللّه أن يتزوّج بأمةٍ ولو كانت مسلمةً ، لأنّ نكاحها لعدم الطّول ( القدرة على زواج الحرّة ) وخوف العنت ( الزّنى ) ، وهو غنيّ عن الأوّل ابتداءً وانتهاءً ، لأنّ له أن يتزوّج بغير مهرٍ - كما سيأتي - وعن الثّاني للعصمة الّتي عصمه اللّه تعالى بها .
ج - عدم الامتناع عن الهجرة :
5 - لقد حرّم اللّه تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج من وجبت عليها الهجرة فلم تهاجر ، ولو كانت مؤمنةً مسلمةً ، لقوله تعالى في سورة الأحزاب : { يا أيّها النّبيّ إنّا أحللنا لك أزواجك اللّاتي آتيت أجورهنّ وما ملكت يمينك ممّا أفاء اللّه عليك وبنات عمّك وبنات عمّاتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللّاتي هاجرن معك } . ولما رواه التّرمذيّ وحسّنه وابن أبي حاتمٍ عن عبد اللّه بن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال : « نهي رسول اللّه عن أصناف النّساء ، إلاّ ما كان من المؤمنات المهاجرات » ولحديث « أمّ هانئٍ قالت : خطبني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه بعذرٍ فعذرني ، فأنزل اللّه تعالى : { إنّا أحللنا لك أزواجك ... } الآية إلى قوله تعالى { اللّاتي هاجرن معك } قالت : فلم أكن أحلّ له ، لأنّي لم أهاجر معه ، كنت من الطّلقاء » .
وقال الإمام أبو يوسف - من الحنفيّة - : لا دلالة في الآية الكريمة على أنّ اللّاتي لم يهاجرن كنّ محرّماتٍ على الرّسول عليه الصلاة والسلام ، لأنّ تخصيص الشّيء بالذّكر لا ينفي ما عداه . ويجوز للرّسول صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج من نساء الأنصار ، قد تزوّج عليه الصلاة والسلام من غير المهاجرات صفيّة وجويرية ، وفي مسند الإمام أحمد عن أبي برزة رضي الله عنه قال : « كانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيّم لم يزوّجها حتّى يعلم هل للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا » فلو لا علمهم بأنّه يحلّ له التّزوّج من نساء الأنصار لما كان هناك داعٍ للتّربّص والانتظار .
د - التّنزّه عن الزّنى :
6 - أمّهات المؤمنين بحكم كونهنّ زوجات رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منزّهات عن الزّنى ، لما في ذلك من تنفير النّاس عن الرّسول ، ولقوله تعالى : { الطّيّبات للطّيّبين والطّيّبون للطّيّبات } . قال ابن عبّاسٍ : ما بغت امرأة نبيٍّ قطّ ، وما رميت به السّيّدة عائشة من الإفك فرية كاذبة خاطئة برّأها اللّه تعالى منها في القرآن الكريم بقوله جلّ شأنه : { إنّ الّذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرّاً لكم بل هو خير لكم ، لكلّ امرئٍ منهم ما اكتسب من الإثم ، والّذي تولّى كبره منهم له عذاب عظيم } . الآيات إلى قوله { يعظكم اللّه أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين } .
أحكام أمّهات المؤمنين مع الرّسول صلى الله عليه وسلم :
العدل بين الزّوجات :
7 - لا حقّ لأمّهات المؤمنين في القسم في المبيت ولا في العدل بينهنّ ، ولا يطالب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بذلك ، ويجوز له أن يفضّل من شاء منهنّ على غيرها في المبيت والكسوة والنّفقة لقوله تعالى : { ترجي من تشاء منهنّ وتؤوي إليك من تشاء ، ومن ابتغيت ممّن عزلت فلا جناح عليك } .
وأخرج ابن سعدٍ عن محمّد بن كعبٍ القرظيّ قال : « كان رسول اللّه موسّعاً عليه في قسم أزواجه يقسم بينهنّ كيف شاء » .
وعلّل ذلك بعضهم بأنّ في وجوب القسم عليه شغلاً عن لوازم الرّسالة .
وقد صرّح العلماء أنّ القسم لم يكن واجباً عليه لكنّه كان يقسم من نفسه تطييباً لقلوبهنّ .
تحريم نكاح أمّهات المؤمنين على التّأبيد :
8 - ثبت ذلك بنصّ القرآن الكريم ، فقال جلّ شأنه { وما كان لكم أن تؤذوا رسول اللّه ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً ، إنّ ذلكم كان عند اللّه عظيماً } .
وأمّا اللّاتي فارقهنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبل الدّخول كالمستعيذة - وهي أسماء بنت النّعمان ، وكالتي رأى في كشحها بياضاً - وهي عمرة بنت يزيد عندما دخل عليها ، فللفقهاء في تأبيد التّحريم رأيان :
أحدهما : أنّهنّ يحرمن ، وهو الّذي عليه الشّافعيّ وصحّحه في الرّوضة لعموم الآية السّابقة ، وذلك لأنّ المراد من قوله تعالى : { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده } أي من بعد نكاحه . والثّاني : لا يحرمن . لما روي أنّ الأشعث بن قيسٍ نكح المستعيذة في زمن عمر بن الخطّاب ، فقام عمر برجمه ورجمها ، فقالت له : كيف ترجمني ولم يضرب عليّ حجاب ، ولم أسمّ للمؤمنين أمّاً ؟ فكفّ عمر عن ذلك .
وفي وجوب عدّة الوفاة على أمّهات المؤمنين واستمرار حقّهنّ في النّفقة والسّكنى خلاف .
علوّ منزلتهنّ :
9 - إذا عقد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على امرأةٍ ودخل بها صارت أمّاً للمؤمنين والمؤمنات عند البعض ، ورجّحه القرطبيّ بدلالة صدر الآية { النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمّهاتهم } .
وعند البعض الآخر : تصبح أمّاً للمؤمنين دون المؤمنات ، ورجّحه ابن العربيّ مستدلّاً بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت لها امرأة : يا أمّه ، فقالت لها عائشة : لست لك بأمٍّ ، إنّما أنا أمّ رجالكم .
دخولهنّ في آل بيت الرّسول صلى الله عليه وسلم :
10 - اختلف العلماء في دخول أمّهات المؤمنين في أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . فمنهم من قال : يدخل نساء النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ، وبه قالت عائشة وابن عبّاسٍ وعكرمة وعروة وابن عطيّة ، وابن تيميّة وغيرهم ، ويستدلّ هؤلاء بما رواه الخلّال بإسناده عن ابن أبي مليكة أنّ خالد بن سعيد بن العاص بعث إلى عائشة سفرةً من الصّدقة فردّتها وقالت : إنّا آل محمّدٍ لا تحلّ لنا الصّدقة ، وكان عكرمة ينادي في السّوق { إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً } نزلت في نساء النّبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّةً . وهذا القول هو الّذي يدلّ عليه سياق الآية ، لأنّ ما قبلها وما بعدها خطاب لأمّهات المؤمنين . قال اللّه تعالى : { وقرن في بيوتكنّ ولا تبرّجن تبرّج الجاهليّة الأولى وأقمن الصّلاة وآتين الزّكاة وأطعن اللّه ورسوله ، إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً واذكرن ما يتلى في بيوتكنّ من آيات اللّه والحكمة إنّ اللّه كان لطيفاً خبيراً } ومنهم من قال : لا يدخل نساء النّبيّ في آل بيت رسول اللّه ، ويستدلّ هؤلاء بما رواه التّرمذيّ عن عمر بن أبي سلمة ربيب رسول اللّه قال : « نزلت هذه الآية على النّبيّ صلى الله عليه وسلم { إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً } في بيت أمّ سلمة ، فدعا النّبيّ فاطمة وحسناً وحسيناً فجلّلهم بكساءٍ وعليّ خلف ظهره ، فجلّلهم بكساءٍ ثمّ قال : اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً ، قالت أمّ سلمة : وأنا معهم يا نبيّ اللّه ؟ قال أنت على مكانك ، وأنت إلى خيرٍ » .
حقوق أمّهات المؤمنين :
11 - من حقّ أمّهات المؤمنين أن يحترمن ويعظّمن ، ويصنّ عن الأعين والألسن ، وذلك واجب على المسلمين نحوهنّ .
فإن تطاول من لا خلاق له على تناولهنّ بالقذف أو السّبّ ، ففي القذف يفرّق جمهور الفقهاء بين قذف عائشة رضي الله عنها ، وقذف غيرها من أمّهات المؤمنين .
فمن قذف عائشة رضي الله عنها بما برّأها اللّه تعالى منه - من الزّنى - فقد كفر ، وجزاؤه القتل ، وقد حكى القاضي أبو يعلى وغيره الإجماع على ذلك ، لأنّ من أتى شيئاً من ذلك فقد كذّب القرآن ، ومن كذّب القرآن قتل ، لقوله تعالى : { يعظكم اللّه أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين } . أمّا من قذف واحدةً من أمّهات المؤمنين غير عائشة فقد اختلف العلماء في عقوبته ، فقال بعضهم ومنهم ابن تيميّة : إنّ حكم قذف واحدةٍ منهنّ كحكم قذف عائشة رضي الله عنها - أي يقتل - لأنّ فيه عاراً وغضاضةً وأذًى لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم بل في ذلك قدح بدين رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه .
وقال بعضهم : إنّ قذف واحدةٍ من أمّهات المؤمنين غير عائشة كقذف واحدٍ من الصّحابة رضي الله عنه ، أو واحدٍ من المسلمين ، أي يحدّ القاذف حدّاً واحداً لعموم قوله تعالى : { والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً } لأنّه لا يقتضي شرفهنّ زيادةً في حدّ من قذفهنّ ، لأنّ شرف المنزلة لا يؤثّر في الحدود . وقال بعضهم ومنهم مسروق بن الأجدع وسعيد بن جبيرٍ : من قذف أمّهات المؤمنين غير عائشة يحدّ حدّين للقذف - أي يجلد مائةً وستّين جلدةً -
أمّا سبّ واحدةٍ من أمّهات المؤمنين - بغير الزّنى - من غير استحلالٍ لهذا السّبّ ، فهو فسق ، وحكمه حكم سبّ واحدٍ من الصّحابة رضوان الله عليهم ، يعزّر فاعله .
أمّيّ *
التّعريف :
1- الأمّيّ : المنسوب إلى الأمّ ، ويطلق على من لا يقرأ ولا يكتب ، نسب إلى الأمّ لأنّه بقي على ما ولدته عليه أمّه . لأنّ الكتابة والقراءة مكتسبة .
صلاة الأمّيّ :
2 - الأمّيّ الّذي لا يحسن قراءة الفاتحة ، ويحسن قراءة آيةٍ منها ويريد الصّلاة ، قال البعض : إنّه يكرّر هذا الّذي يحسنه سبع مرّاتٍ ، ليكون بمنزلة سبع آيات الفاتحة ، وقال آخرون : لا يكرّره .
وإن كان لا يحسن الفاتحة ويحسن غيرها ، قرأ ما يحسنه من القرآن الكريم .
فإن كان لا يحسن شيئاً واجتهد آناء اللّيل والنّهار فلم يقدر على التّعلّم ، قال أبو حنيفة وبعض المالكيّة : يصلّي دون أن يقرأ شيئاً لا من القرآن ولا من الأذكار . وقال الشّافعيّ وأحمد بن حنبلٍ وبعض المالكيّة : يصلّي ويحمد اللّه تعالى ويهلّله ويكبّره بدل القراءة ، لما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا قمت إلى الصّلاة فإن كان معك قرآن فاقرأ به ، وإلاّ فاحمده وهلّله وكبّره » .
وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب ( الصّلاة ) عند كلامهم على القراءة في الصّلاة .
أمن *
التّعريف :
1 - الأمن ضدّ الخوف ، وهو : عدم توقّع مكروهٍ في الزّمان الآتي ، ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - أمان :
2 - الأمان : ضدّ الخوف ، يقال : أمّنت الأسير : أعطيته الأمان فأمن ، فهو كالأمن .
وأمّا عند الفقهاء ، فله معنًى يختلف عن الأمن ، إذ هو عندهم ، عقد يفيد ترك القتال مع الكفّار فرداً أو جماعةً مؤقّتاً أو مؤبّداً .
ب - خوف :
3 - الخوف : الفزع ، وهو ضدّ الأمن
ج - إحصار :
4 - الإحصار : المنع والحبس .
ويستعمله الفقهاء في منع الحاجّ بعدوٍّ ونحوه من بعض أعمالٍ معيّنةٍ في الحجّ أو العمرة ، كالوقوف بعرفة والطّواف .
حاجة النّاس إلى الأمن وواجب الإمام تجاه ذلك :
5 - الأمن للفرد وللمجتمع وللدّولة من أهمّ ما تقوم عليه الحياة ، إذ به يطمئنّ النّاس على دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم ، ويتّجه تفكيرهم إلى ما يرفع شأن مجتمعهم وينهض بأمّتهم . ومن طبائع المجتمعات البشريّة - كما يقول ابن خلدونٍ - حدوث الاختلاف بينهم ، ووقوع التّنازع الّذي يؤدّي إلى المشاحنات والحروب ، وإلى الهرج وسفك الدّماء والفوضى ، بل إلى الهلاك إذا خلّي بينهم وبين أنفسهم بدون وازعٍ .
وبيّن الماورديّ أنّ وجود الإمام هو الّذي يمنع الفوضى ، فيقول : الإمامة موضوعة لخلافة النّبوّة في حراسة الدّين وسياسة الدّنيا ، ولولا الولاة لكان النّاس فوضى مهملين وهمجاً مضيّعين . ثمّ يوضّح الماورديّ واجبات الإمام في ذلك فيقول : الّذي يلزم الإمام من الأمور العامّة عشرة أشياء :
أحدها : حفظ الدّين على أصوله المستقرّة وما أجمع عليه سلف الأمّة ، فإن نجم مبتدع أو زاغ . ذو شبهةٍ عنه أوضح له الحجّة ، وبيّن له الصّواب ، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ، ليكون الدّين محروساً من خللٍ ، والأمّة ممنوعةً من زللٍ .
الثّاني : تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين ، وقطع الخصام بين المتنازعين ، حتّى تعمّ النّصفة ، فلا يتعدّى ظالم ، ولا يضعف مظلوم .
الثّالث : حماية البيضة والذّبّ عن الحريم ليتصرّف النّاس في المعايش وينتشروا في الأسفار ، آمنين من تغريرٍ بنفسٍ أو مالٍ .
الرّابع : إقامة الحدود لتصان محارم اللّه تعالى عن الانتهاك وتحفظ حقوق عباده من إتلافٍ واستهلاكٍ .
الخامس : تحصين الثّغور بالعدّة المانعة والقوّة الدّافعة ، حتّى لا تظفر الأعداء بغرّةٍ ، ينتهكون فيها محرماً ، أو يسفكون فيها لمسلمٍ أو معاهدٍ دماً .
السّادس : جهاد من عاند الإسلام بعد الدّعوة حتّى يسلم ، أو يدخل في الذّمّة ، ليقام بحقّ اللّه تعالى في إظهاره على الدّين كلّه .
السّابع : جباية الفيء والصّدقات على ما أوجبه الشّرع نصّاً واجتهاداً من غير خوفٍ ولا عسفٍ .
الثّامن : تقدير العطايا وما يستحقّ في بيت المال من غير سرفٍ ولا تقتيرٍ ، ودفعه في وقتٍ لا تقديم فيه ولا تأخير .
التّاسع : استكفاء الأمناء وتقليد النّصحاء فيما يفوّض إليهم من الأعمال ويوكّل إليهم من الأموال ، لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطةً ، والأموال بالأمناء محفوظةً .
العاشر : أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفّح الأحوال ، لينهض بسياسة الأمّة وحراسة الملّة ، ولا يعوّل على التّفويض تشاغلاً بلذّةٍ أو عبادةٍ ، فقد يخون الأمين ، ويغشّ النّاصح .
اشتراط الأمن بالنّسبة لأداء العبادات :
6 - الأمن مقصود به سلامة النّفس والمال والعرض والدّين والعقل ، وهي الضّروريّات الّتي لا بدّ منها لقيام مصالح الدّين والدّنيا ، وقد اتّفق الفقهاء على أنّ أمن الإنسان على نفسه وماله وعرضه شرط في التّكليف بالعبادات . لأنّ المحافظة على النّفوس والأعضاء للقيام بمصالح الدّنيا والآخرة أولى من تعريضها للضّرر بسبب العبادة .
ويتّضح ذلك من الأمثلة الآتية :
أوّلاً : في الطّهارة :
7 - الطّهارة بالماء الطّهور من الحدث الأصغر أو الأكبر من شرائط الصّلاة لكن من كان بينه وبين الماء عدوّ أو لصّ أو سبع أو حيّة يخاف على نفسه الهلاك أو الضّرر الشّديد أبيح له التّيمّم ، لأنّ إلقاء النّفس إلى التّهلكة حرام ، وكذا من كان به جراحة أو مرض ويخشى على نفسه التّلف باستعمال الماء فإنّه يتيمّم ، لقوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفرٍ أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النّساء فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيّباً } وقوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } وقد روى ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّ « رجلاً أصابه جرح في رأسه على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ أصابه احتلام فأمر بالاغتسال ، فاغتسل فكزّ فمات ، فبلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : قتلوه قتلهم اللّه » .
( ر : طهارة - وضوء - غسل - تيمّم ) .
ثانياً : في الصّلاة :
8 - أ - من شرائط الصّلاة استقبال القبلة مع الأمن ، فإذا لم يتحقّق الأمن بأن خاف من نحو عدوٍّ أو سبعٍ سقط الاستقبال وصلّى على حاله لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم » ( ر : استقبال ) .
ب - صلاة الجمعة فرض إلاّ أنّها لا تجب على خائفٍ على نفسه أو ماله إجماعاً .
ج - صلاة الجماعة سنّة أو فرض على الكفاية على اختلافٍ بين الفقهاء ، ولكن الجماعة تسقط لخوفٍ على نفسٍ أو مالٍ أو عرضٍ ، لما روى ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من سمع المنادي فلم يمنعه من اتّباعه عذر - قالوا : وما العذر ؟ قال : خوف أو مرض- لم تقبل منه الصّلاة الّتي صلّى » .
ثالثاً : في الحجّ :
9 - يشترط لوجوب الحجّ أمن الطّريق في النّفس والمال والعرض ، فمن خاف على ذلك من عدوٍّ أو سبعٍ أو لصٍّ أو غير ذلك لم يلزمه الحجّ إن لم يجد طريقاً آخر آمناً . وإذا لم يكن للحجّ مثلاً طريق إلاّ بالبحر ، وكان الغالب عدم سلامة الوصول لم يجب الحجّ . لقوله تعالى : { وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً } وقوله : { لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها } ( ر حجّ ) .
رابعاً : في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر :
10 - الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجب على . سبيل الكفاية لقوله تعالى : { ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وشرط وجوبه أن يأمن الإنسان على نفسه أو ماله وإن قلّ أو غير ذلك . لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان » ( ر : أمر بالمعروف )
اشتراط الأمن بالنّسبة للامتناع عن المحرّمات :
11 - الحفاظ على النّفس والمال والعرض من مقاصد الشّريعة ، وقد تبيّن ممّا تقدّم ، أنّه لو كان في القيام بعبادةٍ ما تلف للإنسان في نفسه أو ماله فإنّه يرخّص ويخفّف عنه فيها . ومثل ذلك يقال في المحرّمات . فلو كان فيما حرّمه الشّارع ضرر يلحق الإنسان في نفسه لو امتنع عنه امتثالاً للنّهي ، فإنّه حينئذٍ يباح له ما حرم في الأصل ولا إثم عليه .
والأصل في ذلك قوله تعالى : { فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه } وقوله تعالى :
{ إلاّ ما اضطررتم إليه } ومن القواعد الفقهيّة في ذلك : الضّرر يزال ، والضّرورات تبيح المحظورات . والأمثلة على ذلك كثيرة في الفقه الإسلاميّ ، ومنها :
أ - يجوز بل يجب تناول الميتة والدّم والخنزير عند المخمصة إذا لم يجد الإنسان غيرها لقوله تعالى : { إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير اللّه به فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه } .
ب - يباح تناول الخمر لإزالة الغصّة .
ج - يجوز التّلفّظ بكلمة الكفر عند الإكراه الملجئ إلى ذلك
د - يجوز إلقاء المتاع من السّفينة المشرفة على الغرق .
هـ - يجوز دفع الصّائل ولو أدّى إلى قتله . وغير ذلك كثير ، وينظر تفصيله والخلاف فيه في بحث ( ضرورة ) ( وإكراه ) .
اشتراط الأمن في سكن الزّوجة :
12 - من حقوق الزّوجة على زوجها وجوب توفير المسكن الملائم ، لقوله تعالى في شأن المعتدّات من الطّلاق : { أسكنوهنّ من حيث سكنتم من وجدكم } . فإنّه يدلّ على وجوب إسكان المطلّقة أثناء العدّة ، وإذا كان إسكان المطلّقة أثناء العدّة واجباً ، كان إسكان الزّوجة حال قيام الزّوجيّة واجباً بالطّريق الأولى .
ومن شروط المسكن أن تأمن فيه الزّوجة على نفسها ومالها ، ولو أسكنها في بيتٍ من الدّار مفرداً وله غلق كفاها ، وليس لها أن تطالبه بمسكنٍ آخر ، لأنّ الضّرر بالخوف على المتاع وعدم التّمكّن من الاستمتاع قد زال . وإن أساء الزّوج عشرتها ولم تستطع إثبات ذلك أسكنها القاضي إلى جانب ثقةٍ يمنعه من الإضرار بها والتّعدّي عليها . وهذا باتّفاقٍ في الجملة . ( ر : سكنى - نفقة - نكاح )
اشتراط الأمن في القصاص فيما دون النّفس وعند إقامة حدّ الجلد :
13 - القصاص في الجروح والأطراف أمر مقرّر في الشّريعة ، لقوله تعالى : { والجروح قصاص } إلاّ أنّه يشترط للقصاص فيما دون النّفس إمكان استيفاء المثل من غير حيفٍ ولا زيادةٍ مع الأمن من السّراية ، لقوله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } ، ولأنّ دم الجاني معصوم إلاّ في قدر جنايته ، فما زاد عليها يبقى على العصمة ، فيحرم استيفاؤه بعد الجناية لتحريمه قبلها ، ومن ضرورة المنع من الزّيادة المنع من القصاص ، لأنّها من لوازمه . وهكذا كلّ ما كان فيه القود فيما دون النّفس متلفاً ، فلا قود فيه . كما أنّه لا يستوفى القصاص بآلةٍ يخشى منها الزّيادة ، كأن تكون سامّةً أو كالّةً ، لما روى شدّاد بن أوسٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ اللّه كتب الإحسان على كلّ شيءٍ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح ، وليحدّ أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته » . ولخوف التّلف يؤخّر القصاص فيما دون النّفس للحرّ المفرط والبرد المفرط ، ومرض الجاني ، وحتّى تضع الحامل . وهذا باتّفاق الفقهاء في الجملة ، وينظر تفصيل ذلك في ( قصاص ) . وكذلك الأمر بالنّسبة لإقامة حدّ الجلد ، إذ يشترط ألاّ يكون في إقامة حدّ الجلد خوف الهلاك ، لأنّ هذا الحدّ شرع زاجراً لا مهلكاً ، وعلى ذلك فلا يقام حدّ الجلد في الحرّ الشّديد والبرد الشّديد ، ولا على مريضٍ حتّى يبرأ ، ولا على حاملٍ حتّى تضع . ( ر : حدّ وجلد )
اشتراط الأمن لمريد السّفر بمال الشّركة أو المضاربة أو الوديعة :
أ - في الشّركة والمضاربة :
14 - لا يجوز لأيٍّ من الشّريكين أن يسافر بمال الشّركة ، إذا كان الطّريق مخوفاً إلاّ بإذن شريكه باتّفاق الفقهاء ، لأنّ السّفر بمال الشّركة في الطّريق المخوف يؤدّي إلى تعريضه للأخطار ، وتعريض مال الغير للخطر لا يجوز دون إذن صاحبه . ومثل ذلك مال المضاربة ، فإنّه لا يجوز لعامل المضاربة السّفر بمال المضاربة إلاّ عند أمن الطّريق .
ب - في الوديعة :
15 - عند الحنفيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة : يجوز السّفر بمال الوديعة إن كان الطّريق آمناً ولم يخف عليها ، فإن كان الطّريق مخوفاً فلا يجوز له السّفر بها ، وإلاّ ضمن . ومذهب الشّافعيّة والمالكيّة : أنّ من كانت عنده وديعة ، وأراد السّفر ، وجب عليه تسليمها لصاحبها أو وكيله أو أمينٍ ، فإن سافر بها مع وجود أحدٍ من هؤلاء ضمن ، لأنّ الإيداع يقتضي الحفظ في الحرز ، وليس السّفر من مواضع الحفظ ، لأنّه إمّا أن يكون مخوفاً أو آمناً لا يوثق بأمنه ، ولذلك لا يجوز السّفر الوديعة مع عدم الضّرورة . ( ر : وديعة ) .
استفادة أمن الطّريق في القرض :
16 - الأصل أنّ كلّ قرضٍ جرّ منفعةً فهو ممنوع ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن قرضٍ جرّ منفعةً » وعلى هذا تخرج مسألة السّفاتج . وهي : اشتراط القضاء ببلدٍ آخر ، لانتفاع المقرض بدفع خطر الطّريق .
والقرض بهذا الشّرط ممنوع عند جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والمالكيّة ورواية عن الإمام أحمد - لأنّ القرض عقد إرفاقٍ وقربةٍ ، فإذا شرط فيه منفعة خرج عن موضوعه ، إلاّ إذا عمّ الخوف برّاً وبحراً فإنّ المالكيّة يجيزونه في هذه الحالة للضّرورة صيانةً للأموال . وإن كان بدون شرطٍ فهو جائز باتّفاقٍ ، لأنّه من حسن القضاء ، وقد روي أنّ « رسول اللّه صلى الله عليه وسلم استلف من رجلٍ بكراً ، فقدمت عليه إبل من إبل الصّدقة ، فأمر أبا رافعٍ أن يقضي الرّجل بكره ، فرجع إليه أبو رافعٍ ، فقال : لم أجد فيها إلاّ خياراً رباعيّاً فقال : أعطه إيّاه ، إنّ خيار النّاس أحسنهم قضاءً » ( 34 م 2 ) وروي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه " كان يستقرض بالمدينة ويردّ بالكوفة " وذلك بدون شرطٍ .
والصّحيح عند الحنابلة أنّه جائز ولو بشرطٍ ، لأنّه مصلحة للمقرض والمقترض من غير ضررٍ بواحدٍ منها ، والشّرع لا يرد بتحريم المصالح الّتي لا مضرّة فيها بل بمشروعيّتها ، ولأنّ هذا ليس بمنصوصٍ على تحريمه ، ولا في معنى المنصوص ، فوجب بقاؤه على الإباحة . وذكر القاضي : أنّ للوصيّ قرض مال اليتيم في بلدٍ أخرى ليربح خطر الطّريق . وقال عطاء : كان ابن الزّبير رضي الله عنهما يأخذ من قومٍ بمكّة دراهم ، ثمّ يكتب لهم بها إلى أخيه مصعب بالعراق ، فيأخذونها منه ، فسئل عن ذلك ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما فلم ير به بأساً ، وروي عن عليٍّ رضي الله عنه أنّه سئل عن مثل هذا فلم ير به بأساً .
تحقّق الأمن بالنّسبة للمحرم
17 - كان الحرم موضع أمنٍ لأهله ومن لجأ إليه ، وكان هذا معروفاً في الجاهليّة واستمرّ في الإسلام . قال اللّه تعالى : { وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلداً آمناً } ، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكّة : « إنّ هذا البلد حرّمه اللّه يوم خلق السّموات والأرض ، فهو حرام يحرّمه اللّه تعالى إلى يوم القيامة ، وإنّه لم يحلّ القتال فيه لأحدٍ قبلي ، ولم يحلّ لي إلاّ ساعةً من نهارٍ ، فهو حرام بحرمة اللّه تعالى إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ، ولا ينفّر صيده ، ولا يلتقط لقطته إلاّ من عرفها ، ولا يختلى خلاه ، فقال العبّاس : يا رسول اللّه إلاّ الإذخر فإنّه لقينهم وبيوتهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : إلاّ الإذخر »
ولاستيفاء باقي أحكام الحرم ، وتفاصيله ( ر : حرم ) .
تحقّق الأمن لغير المسلمين :
18 - من المقرّر أنّ حكم الإسلام بالنّسبة للمسلمين في الدّنيا هو عصمة النّفس والمال ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا : لا إله إلاّ اللّه فإذا قالوا لا إله إلاّ اللّه عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها ، وحسابهم على اللّه » .
وبهذا يتقرّر الأمن للمسلم في نفسه وماله . أمّا غير المسلم فإنّه يتحقّق له الأمن بتأمين المسلمين له وإعطائه الأمان ، لأنّ حكم الأمان هو ثبوت الأمن للكفرة عن القتل والسّبي والاستغنام ، فيحرم على المسلمين قتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريّهم واستغنام أموالهم . والأصل في إعطاء الأمان للكفّار قوله تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام اللّه ، ثمّ أبلغه مأمنه } .
19 - والأمان قسمان :
الأوّل : أمان يعقده الإمام أو نائبه ، وهو نوعان :
مؤقّت ، وهو ما يسمّى بالهدنة وبالمعاهدة وبالموادعة - وهو عقد الإمام أو نائبه على ترك القتال مدّةً معلومةً - مع اختلاف الفقهاء في مقدار مدّة الموادعة . وقد روي أنّ « رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وادع أهل مكّة عام الحديبية على أن توضع الحرب بين الفريقين عشر سنين » .
والنّوع الثّاني : الأمان المؤبّد ، وهو ما يسمّى عقد الذّمّة ، وهو إقرار بعض الكفّار على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الإسلام والأصل فيه قوله تعالى : { قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون } .
هذا مع اختلاف الفقهاء في غير أهل الكتاب ، هل تقبل منهم الجزية ويقرّون على حالهم أم لا يقبل منهم إلاّ الإسلام ، فإن لم يسلموا قتلوا .
والقسم الثّاني من الأمان : هو الأمان الّذي يصدر من أحد المسلمين لعددٍ محصورٍ من الكفّار ، ويدلّ عليه حديث : « المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من سواهم ، ويسعى بذمّتهم أدناهم » . وأخبار أخرى ، وينظر تفصيل ذلك في ( أمان ، وذمّة ، ومعاهدة ) .
إمهال *
التّعريف :
1 - الإمهال لغةً : الإنظار وتأخير الطّلب .
وعند الفقهاء يستعمل كذلك بمعنى : الإنظار والتّأجيل . والإمهال ينافي التّعجيل .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - أ - الإعذار : وهو سؤال الحاكم من توجّه عليه موجب الحكم : هل له ما يسقطه ؟ وينظر مصطلح : ( إعذار ) .
ب - التّنجيم : هو تأجيل العوض بأجلين فصاعداً .
ج - التّلوّم : وهو التّمكّث والتّمهّل والتّصبّر ، ومنه أن يتصبّر الحاكم مثلاً للزّوج مدّةً قبل التّطليق عليه للإعسار .
د - التّربّص : وهو بمعنى الانتظار . ومدّة الإمهال تارةً تكون مقدّرةً كإمهال المولى ، وتارةً تكون غير مقدّرةٍ ، وقد يختلف ذلك عند بعض الفقهاء عن البعض الآخر .
الحكم الإجماليّ :
3 - يجب إنظار من ثبت إعساره عند الأئمّة الأربعة إلى وقت اليسار ، ولا يحبس ، لقول اللّه سبحانه { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرة إلى ميسرةٍ } .
والعنّين يضرب له القاضي سنةً عند الجمهور ، " كما فعل عمر رضي الله عنه " رواه الشّافعيّ وغيره ، فقد يكون تعذّر الجماع لعارض حرارةٍ فيزول في الشّتاء ، أو برودةٍ فيزول في الصّيف ، أو يبوسةٍ فتزول في الرّبيع ، أو رطوبةٍ فتزول في الخريف ، فإذا مضت السّنة ولم يطأ ، علمنا أنّه عجز خلقيّ . ( ر : عنّين ) .
4 - وأجل المولي أربعة أشهرٍ ، لقول اللّه سبحانه { للّذين يؤلون من نسائهم تربّص أربعة أشهرٍ فإن فاءوا فإنّ اللّه غفور رحيم } ( ر : إيلاء ) .
5 - وفي القضاء لو استمهل المدّعي لإحضار بيّنته ، فإنّ أغلب الفقهاء على أنّه يمهل ، وهل هذا الإمهال واجب أو مستحبّ ، خلاف بين الفقهاء .
وقدّر بعضهم مدّة الإمهال ثلاثة أيّامٍ ، وبعضهم جعلها إلى اجتهاد القاضي .
وانظر للتّفصيل مصطلح ( قضاء ) .
وفي الإمهال لعذرٍ ، وفي منعه عند طلب الخصم ، يراجع ( قضاء ، ودعوى ) .
والإمهال يمتنع فيما تشترط فيه الفوريّة ، كاستمهال من طلّق إحدى زوجتيه : لتعيين المطلّقة منهما ، واستمهال المشتري ردّ المبيع بالعيب ، والشّفيع في طلب الشّفعة ، وغير ذلك من الأمور الّتي تشترط فيها الفوريّة .
مواطن البحث :
6 - من المواطن الّتي يذكر فيها الإمهال : مباحث الكفالة ، فيمهل الكفيل لإحضار المكفول عنه من مسافة القصر فما دونها . ومنها : النّفقة ، فيمهل الزّوج لإحضار ماله الّذي في مسافة القصر . وفي الصّداق تمهل الزّوجة للدّخول ، وكذا يمهل الزّوج لوجود بعض الأعذار كالتّنظيف ونحوه .
أموال *
انظر : مال .
أموال الحربيّين *
انظر : أنفال .
أمير *
انظر : إمارة .
أمين *
انظر : أمانة .
إناء *
انظر : آنيّة .
إنابة *
انظر : نيابة - توبة .
إنبات *
انظر : بلوغ .
أنبياء *
انظر : نبيّ .
انتباذ *
انظر : أشربة .
انتحار *
التّعريف :
1 - الانتحار في اللّغة مصدر : انتحر الرّجل ، بمعنى نحر نفسه أي : قتلها .
ولم يستعمله الفقهاء بهذا المعنى . لكنّهم عبّروا عنه بقتل الإنسان نفسه .
وفي حديث أبي هريرة : « أنّ رجلاً قاتل في سبيل اللّه أشدّ القتال ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إنّه من أهل النّار ، فبينما هو على ذلك إذ وجد الرّجل ألم الجرح ، فأهوى بيده إلى كنانته ، فانتزع منها سهماً فانتحر بها » .
وفي الحديث نفسه : « انتحر فلان فقتل نفسه » رواه البخاريّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - النّحر والذّبح :
2 - النّحر عند الفقهاء هو : فري الأوداج وقطع كلّ الحلقوم ، ومحلّه من أسفل الحلقوم . ويطلق الانتحار على قتل الإنسان نفسه بأيّ وسيلةٍ كانت .
ولهذا ذكروا أحكامه باسم ( قتل الشّخص نفسه )
بم يتحقّق الانتحار :
3 - الانتحار نوع من القتل فيتحقّق بوسائل مختلفةٍ . ويتنوّع بأنواعٍ متعدّدةٍ كالقتل .
فإذا كان إزهاق الشّخص نفسه بإتيان فعلٍ منهيٍّ عنه ، كاستعمال السّيف أو الرّمح أو البندقيّة أو أكل السّمّ أو إلقاء نفسه من شاهقٍ أو في النّار " ليحترق أو في الماء ليغرق وغير ذلك من الوسائل ، فهو انتحار بطريق الإيجاب .
واذا كان الإزهاق بالامتناع عن الواجب ، كالامتناع من الأكل والشّرب وترك علاج الجرح الموثوق ببرئه بما فيه من خلافٍ سيأتي ، أو عدم الحركة في الماء أو في النّار أو عدم التّخلّص من السّبع الّذي يمكن النّجاة منه ، فهو انتحار بطريق السّلب .
4- ويقسّم الانتحار بحسب إرادة المنتحر إلى نوعين : الانتحار عمداً والانتحار خطأً .
فإذا ارتكب الشّخص عملاً حصل منه قتل نفسه ، وأراد النّتيجة الحاصلة من العمل ، يعتبر القتل انتحاراً عمداً . كرمي نفسه بقصد القتل مثلاً .
وإذا أراد صيداً أو قتل العدوّ فأصاب نفسه ، ومات ، يعتبر انتحاراً خطأً .
وستأتي أحكامهما قريباً .
ويمكن أن يحصل الانتحار بطريقٍ يعتبر شبه العمد عند غير المالكيّة ، كقتل الإنسان نفسه بما لا يقتل غالباً ، كالسّوط والعصا . ر : ( قتل ) .
أمثلة من الانتحار بطريق السّلب :
أوّلاً : الامتناع من المباح :
5 - من امتنع من المباح حتّى مات كان قاتلاً نفسه ، متلفاً لها عند جميع أهل العلم . لأنّ الأكل للغذاء والشّرب لدفع العطش فرض بمقدار ما يدفع الهلاك ، فإن ترك الأكل والشّرب حتّى هلك فقد انتحر ، لأنّ فيه إلقاء النّفس إلى التّهلكة المنهيّ عنه في محكم التّنزيل .
وإذا اضطرّ الإنسان للأكل أو الشّرب من المحرّم كالميتة والخنزير والخمر حتّى ظنّ الهلاك جوعاً لزمه الأكل والشّرب ، فإذا امتنع حتّى مات صار قاتلاً نفسه ، بمنزلة من ترك أكل الخبز وشرب الماء في حال الإمكان ، لأنّ تاركه ساعٍ في إهلاك نفسه ، وقد قال اللّه تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } .
وكذلك حكم الإكراه على أكل المحرّم ، فلا يباح للمكره الامتناع من أكل الميتة أو الدّم أو لحم الخنزير في حالة الإكراه ، لأنّ هذه الأشياء ممّا يباح عند الاضطرار لقوله تعالى : { إلاّ ما اضطررتم إليه } والاستثناء من التّحريم إباحة ، وقد تحقّق الاضطرار بالإكراه ، ولو امتنع عنه حتّى قتل يؤاخذ به ويعدّ منتحراً ، لأنّه بالامتناع عنه صار ملقياً نفسه إلى التّهلكة .
ثانياً : ترك الحركة عند القدرة :
6 - من ألقي في ماءٍ جارٍ أو راكدٍ لا يعدّ مغرقاً ، كمنبسطٍ يمكنه الخلاص منه عادةً ، فمكث فيه مضطجعاً مثلاً مختاراً لذلك حتّى هلك ، يعتبر منتحراً وقاتلاً نفسه ، ولذلك لا قود ولا دية على الّذي ألقاه في الماء عند عامّة العلماء ، لأنّ هذا الفعل لم يقتله ، وإنّما حصل الموت بلبثه فيه ، وهو فعل نفسه ، فلم يضمنه غيره . كذلك إن تركه في نارٍ يمكنه الخلاص منها لقلّتها ، أو لكونه في طرفٍ منها يمكنه الخروج بأدنى حركةٍ ، فلم يخرج حتّى مات . وفي وجهٍ عند الحنابلة : لو تركه في نارٍ يمكنه التّخلّص منها فلم يخرج يضمن ، لأنّه جانٍ بالإلقاء المفضي إلى الموت . وفارق الماء ، لأنّه غير مهلكٍ بنفسه ، ولهذا يدخله النّاس للسّباحة ، أمّا النّار فيسيرها يهلك ، ولأنّ النّار لها حرارة شديدة ، فربّما أزعجته حرارتها عن معرفة ما يتخلّص به ، أو أذهبت عقله بألمها وروعتها .
ثالثاً : ترك العلاج والتّداوي :
7 - الامتناع من التّداوي في حالة المرض لا يعتبر انتحاراً عند عامّة الفقهاء ، فمن كان مريضاً وامتنع من العلاج حتّى مات ، لا يعتبر عاصياً ، إذ لا يتحقّق بأنّه يشفيه .
كذلك لو ترك المجروح علاج جرحٍ مهلكٍ فمات لا يعتبر منتحراً ، بحيث يجب القصاص على جارحه ، إذ البرء غير موثوقٍ به وإن عالج .
أمّا إذا كان الجرح بسيطاً والعلاج موثوقاً به ، كما لو ترك المجنيّ عليه عصب العرق ، فإنّه يعتبر قد قتل نفسه ، حتّى لا يسأل جارحه عن القتل عند الشّافعيّة . وصرّح الحنابلة بخلافه ، وقالوا : إن ترك شدّ الفصاد مع إمكانه لا يسقط الضّمان ، كما لو جرح فترك مداواة جرحه . ومع تصريح الحنفيّة بأنّ ترك العلاج لا يعتبر عصياناً ، لأنّ البرء غير موثوقٍ به ، قالوا : إن ضرب رجلاً بإبرةٍ في غير المقتل عمداً فمات ، لا قود فيه فقد فصّلوا بين الجرح المهلك وغير المهلك الشّافعيّة ، فيفهم منه أنّ ترك الجرح اليسير لنزف الدّم حتّى الموت يشبه الانتحار . ولم نعثر على نصٍّ للمالكيّة في هذه المسألة .
حكمه التّكليفيّ :
8 - الانتحار حرام بالاتّفاق ، ويعتبر من أكبر الكبائر بعد الشّرك باللّه . قال اللّه تعالى : { ولا تقتلوا النّفس الّتي حرّم اللّه إلاّ بالحقّ } وقال : { ولا تقتلوا أنفسكم إنّ اللّه كان بكم رحيماً } .
وقد قرّر الفقهاء أنّ المنتحر أعظم وزراً من قاتل غيره ، وهو فاسق وباغٍ على نفسه ، حتّى قال بعضهم : لا يغسّل ولا يصلّى عليه كالبغاة ، وقيل : لا تقبل توبته تغليظاً عليه .
كما أنّ ظاهر بعض الأحاديث يدلّ على خلوده في النّار . منها قوله « من تردّى من جبلٍ فقتل نفسه فهو في نار جهنّم يتردّى فيها خالداً مخلّداً فيها أبداً » .
وهناك حالات خاصّة تشبه الانتحار ، لكنّه لا عقاب على مرتكبها ، ولا يأثم فاعلها ، لأنّها ليست انتحاراً في الواقع كالآتي :
أوّلاً : الانتقال من سبب موتٍ إلى آخر :
9 - إذا وقع حريق في سفينةٍ ، وعلم أنّه لو ظلّ فيها احترق ، ولو وقع في الماء غرق . فالجمهور ( المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة ، وهو قول أبي حنيفة ) على أنّ له أن يختار أيّهما شاء . فإذا رمى نفسه في الماء ومات جاز ، ولا يعتبر ذلك انتحاراً محرّماً إذا استوى الأمران . وقال الصّاحبان من الحنفيّة ، وهو رواية عن أحمد : أنّه يلزمه المقام والصّبر ، لأنّه إذا رمى نفسه في الماء كان موته بفعله ، وإن أقام فموته بفعل غيره .
كذلك جاز له الانتقال من سبب موتٍ إلى سبب موتٍ آخر ، إذا كان في السّبب الّذي ينتقل إليه نوع خفّةٍ مع التّأكّد من القتل فيهما عند أبي حنيفة ، قال الزّيلعيّ : ولو قال له : لتلقين نفسك في النّار أو من الجبل ، أو لأقتلنك ، وكان الإلقاء بحيث لا ينجو منه ، ولكن فيه نوع خفّةٍ ، فله الخيار إن شاء فعل ذلك ، وإن شاء لم يفعل وصبر حتّى يقتل ، لأنّه ابتلي ببليّتين فيختار ما هو الأهون في زعمه ، وهذا هو مذهب الشّافعيّة . وعند الصّاحبين من الحنفيّة يصبر ولا يفعل ذلك ، لأنّ مباشرة الفعل سعي في إهلاك نفسه فيصبر تحامياً عنه .
أمّا إذا ظنّ السّلامة في الانتقال من سببٍ إلى سببٍ آخر للموت ، أو رجا طول الحياة ولو مع موتٍ أشدّ وأصعب من الموت المعجّل ، قد صرّح المالكيّة بوجوبه ، لأنّ حفظ النّفوس واجب ما أمكن ، وعبّر الحنابلة بأنّه هو الأولى ، ممّا يدلّ على عدم الوجوب .
10 - ومن أمثلة الانتقال من سبب موتٍ إلى سبب موتٍ آخر ما ذكروا من أنّه لو تبع بسيفٍ ونحوه مميّزاً هارباً منه فرمى نفسه بماءٍ أو نارٍ من سطحٍ فمات ، فلا ضمان عليه في قولٍ عند الشّافعيّة ، وهو قياس مذهب الحنفيّة ، لمباشرته إهلاك نفسه عمداً ، كما لو أكره إنساناً على أن يقتل نفسه فقتلها . فكأنّه يشبه الانتحار عندهم . والقول الآخر عند الشّافعيّة أنّ عليه نصف الدّية . أمّا لو وقع بشيءٍ ممّا ذكر جاهلاً به ، لعمًى أو ظلمةٍ مثلاً أو تغطية بئرٍ ، أو ألجأه إلى السّبع
بمضيقٍ ضمن من تبعه ، لأنّه لم يقصد إهلاك نفسه وقد ألجأه التّابع إلى الهرب المفضي للهلاك . وكذا لو انخسف به سقف في هربه في الأصحّ .
وقال الحنابلة : إذا طلب إنساناً بسيفٍ مشهورٍ فهرب منه ، فتلف في هربه ضمنه ، سواء أكان من الشّاهق ، أم انخسف به سقف أم خرّ في بئرٍ ، أم لقيه سبع ، أم غرق في ماءٍ ، أم احترق بنارٍ . وسواء أكان المطلوب صغيراً أم كبيراً ، أعمى أم بصيراً ، عاقلاً أم مجنوناً . وفصّل المالكيّة في الموضوع فقالوا : من أشار إلى رجلٍ بسيفٍ ، وكانت بينهما عداوة ، فتمادى بالإشارة إليه وهو يهرب منه ، فطلبه حتّى مات فعليه القصاص بدون القسامة إذا كان الموت بدون السّقوط ، وإذا سقط ومات فعليه القصاص مع القسامة .
أمّا إذا كان بدون عداوةٍ فلا قصاص ، وفيه الدّية على العاقلة .
ثانياً : هجوم الواحد على صفّ العدوّ :
11 - اختلف الفقهاء في جواز هجوم رجلٍ من المسلمين وحده على جيش العدوّ ، مع التّيقّن بأنّه سيقتل .
فذهب المالكيّة إلى جواز إقدام الرّجل المسلم على الكثير من الكفّار ، إن كان قصده إعلاء كلمة اللّه ، وكان فيه قوّة وظنّ تأثيره فيهم ، ولو علم ذهاب نفسه ، فلا يعتبر ذلك انتحاراً . وقيل إذا طلب الشّهادة ، وخلصت النّيّة فليحمل ، لأنّ مقصوده واحد من الأعداء ، وذلك بيّن في قوله تعالى : { ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه } .
وقيّده بعضهم بأن يكون قد غلب على ظنّه أن سيقتل من حمل عليه وينجو ، وكذلك لو علم وغلب على ظنّه أنّه يقتل ، لكن سينكي نكايةً أو سيبلي أو يؤثّر أثراً ينتفع به المسلمون . ولا يعتبر هذا إلقاء النّفس إلى التّهلكة المنهيّ عنه بقوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة } لأنّ معنى التّهلكة - كما فسّرها أكثر المفسّرين - هو الإقامة في الأموال وإصلاحها وترك الجهاد . لما روى التّرمذيّ عن أسلم أبي عمران حكايةً عن غزو القسطنطينيّة أنّه « حمل رجل من المسملين على صفّ الرّوم حتّى دخل فيهم ، فصاح النّاس ، وقالوا : سبحان اللّه ، يلقي بيديه إلى التّهلكة ، فقام أبو أيّوب الأنصاريّ فقال : يا أيّها النّاس ، إنّكم تتأوّلون هذه الآية هذا التّأويل ، وإنّما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لمّا أعزّ اللّه الإسلام وكثر ناصروه ، فقال بعضنا لبعضٍ سرّاً دون رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّ أموالنا قد ضاعت ، وإنّ اللّه قد أعزّ الإسلام وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها ، فأنزل على نبيّه صلى الله عليه وسلم يردّ على ما قلنا { وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة } فكانت التّهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو » .
ونقل الرّازيّ روايةً عن الشّافعيّ أنّ « رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذكر الجنّة ، فقال له رجل : أرأيت إن قتلت في سبيل اللّه فأين أنا ؟ قال : في الجنّة ، فألقى تمراتٍ في يديه ثمّ قاتل حتّى قتل » .
كذلك قال ابن العربيّ : والصّحيح عندي جوازه ، لأنّ فيه أربعة أوجهٍ :
الأوّل : طلب الشّهادة .
الثّاني : وجود النّكاية .
الثّالث : تجرئة المسلمين عليهم .
الرّابع : ضعف نفوس الأعداء ، ليروا أنّ هذا صنع واحدٍ منهم فما ظنّك بالجميع .
وصرّح الحنفيّة بأنّه : إن علم أنّه إذا حارب قتل ، وإذا لم يحارب أسر لم يلزمه القتال ، لكنّه إذا قاتل حتّى قتل جاز بشرط أن ينكي فيهم .
أمّا إذا علم أنّه لا ينكي فيهم فإنّه لا يحلّ له أن يحمل عليهم ، لأنّه لا يحصل بحملته شيء من إعزاز الدّين كما نقل عن محمّد بن الحسن أنّه قال : لو حمل رجل واحد على ألف رجلٍ من المشركين ، وهو وحده ، لم يكن بذلك بأس ، إذا كان يطمع في نجاةٍ أو نكايةٍ في العدوّ .
ثالثاً : الانتحار لخوف إفشاء الأسرار :
12 - إذا خاف المسلم الأسر ، وعنده أسرار هامّة للمسلمين ، ويتيقّن أنّ العدوّ سوف يطّلع على هذه الأسرار ، ويحدث ضرراً بيّناً بصفوف المسلمين وبالتّالي يقتل ، فهل له أن يقتل نفسه وينتحر أو يستسلم ؟ .
لم نجد في جواز الانتحار خوف إفشاء الأسرار ، ولا في عدم جوازه نصّاً صريحاً في كتب الفقه . إلاّ أنّ جمهور الفقهاء أجازوا قتال الكفّار إذا تترّسوا بالمسلمين ولو تأكّدوا أنّ المسلمين سيقتلون معهم ، بشرط أن يقصد بالرّمي الكفّار ، ويتوقّى المسلمين بقدر الإمكان ، وقيّده بعضهم بما إذا كانت الحرب قائمةً ، وعلمنا أنّنا لو كففنا عنهم ظفروا بنا أو عظمت نكايتهم فينا ، وجعلوا هذا من تطبيقات قاعدة : ( يتحمّل الضّرر الخاصّ لدفع الضّرر العامّ ) . والمعروف أنّ الفقهاء لم يجوّزوا إلقاء شخصٍ في البحر لخفّة ثقل السّفينة المشرفة للغرق ، لأجل نجاة ركّابها مهما كثر عددهم ، إلاّ ما نقل الدّسوقيّ المالكيّ عن اللّخميّ من جواز ذلك بالقرعة .
أمر الشّخص لغيره بقتله :
إذا قال الرّجل لآخر : اقتلني ، أو قال للقائل إن قتلتني أبرأتك ، أو قد وهبت لك دمي ، فقتله عمداً ، اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال :
الأوّل :
13 - أنّ القتل في هذه الحال لا يعتبر انتحاراً ، لكن لا يجب به القصاص ، وتجب الدّية في مال القاتل . هذا هو المذهب عند الحنفيّة - ما عدا زفر - وإليه ذهب بعض الشّافعيّة ، ورواه سحنون عن مالكٍ ، ووصفه بأنّه أظهر الأقوال ، لأنّ الإباحة لا تجري في النّفوس ، وإنّما سقط القصاص للشّبهة باعتبار الإذن ، والشّبهة لا تمنع وجوب المال ، فتجب الدّية في مال القاتل لأنّه عمد ، والعاقلة لا تحمل دية العمد .
وفصّل الحنفيّة في وجوب الدّية فقالوا : إن قتله بالسّيف فلا قصاص ، لأنّ الإباحة لا تجري في النّفس ، وسقط القصاص لشبهة الإذن ، وتجب الدّية في ماله ، وإن قتله بمثقلٍ فلا قصاص لكنّه تجب الدّية على العاقلة .
الثّاني :
14 - أنّ القتل في هذه الحال قتل عمدٍ ، ولا يأخذ شيئاً من أحكام الانتحار ، ولهذا يجب القصاص . وهذا قول عند المالكيّة حسّنه ابن القاسم ، وهو قول عند الشّافعيّة ، وإليه ذهب زفر من الحنفيّة ، لأنّ الأمر بالقتل لم يقدح في العصمة ، لأنّ عصمة النّفوس ممّا لا تحتمل الإباحة بحالٍ ، وإذنه لا يعتبر ، لأنّ القصاص لوارثه لا له ، ولأنّه أسقط حقّاً قبل وجوبه . الثّالث :
15 - أنّ القتل في هذه الحال له حكم الانتحار ، فلا قصاص على من قتله ولا دية .
وهذا مذهب الحنابلة ، والأظهر عند الشّافعيّة ، وهو رواية عند الحنفيّة ، وصحّحه القدوريّ ، وهو رواية مرجوحة في مذهب مالكٍ .
أمّا سقوط القصاص فللإذن له في القتل والجناية ، ولأنّ صيغة الأمر تورث شبهةً ، والقصاص عقوبة مقدّرة تسقط بالشّبهة .
وأمّا سقوط الدّية فلأنّ ضمان نفسه هو حقّ له فصار كإذنه بإتلاف ماله ، كما لو قال : اقتل دابّتي ففعل فلا ضمان إجماعاً ، فصحّ الأمر ، ولأنّ المورث أسقط الدّية أيضاً فلا تجب للورثة . وإذا كان الآمر أو الآذن مجنوناً أو صغيراً فلا يسقط إذنه شيئاً من القصاص ولا الدّية ، لأنّه لا اعتبار بإذنهما .
16 - لو قال : اقطع يدي ، فإن كان لمنع السّراية كما إذا وقعت في يده آكلة فلا بأس بقطعه اتّفاقاً . وإن كان لغير ذلك فلا يحلّ ، ولو قطع بإذنه فلم يمت من القطع فلا قصاص ولا دية على القاطع عند الجمهور ، لأنّ الأطراف يسلك بها مسلك الأموال ، فكانت قابلةً للسّقوط بالإباحة والإذن ، كما لو قال له : أتلف مالي فأتلفه .
وقال المالكيّة : إن قال له : اقطع يدي ولا شيء عليك ، فله القصاص إن لم يستمرّ على الإبراء بعد القطع ، ما لم يترام به القطع حتّى مات منه ، فلوليّه القسامة والقصاص أو الدّية .
17 - ولو أمره أن يشجّه فشجّه عمداً ، ومات منها ، فلا قصاص عليه عند الجمهور ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) .
واختلفوا في وجوب الدّية على الجارح : فقال الحنابلة وأبو حنيفة وهو رواية مرجوحة عند الشّافعيّة : يجب على القاتل الدّية ، لأنّ العفو عن الشّجّة لا يكون عفواً عن القتل ، فكذا الأمر : بالشّجّة لا يكون أمراً بالقتل ، وكان القياس وجوب القصاص ، إلاّ أنّه سقط لوجود الشّبهة ، فتجب الدّية . ولأنّه لمّا مات تبيّن أنّ الفعل وقع قتلاً ، والمأمور به هو القطع لا القتل . أمّا لو عفا عن الجناية أو عن القطع وما يحدث منه فهو عفو عن النّفس .
وقال الشّافعيّ في الرّاجح ، وهو ما ذهب إليه الصّاحبان من الحنفيّة : إن سرى القطع المأذون به إلى النّفس فهدر ، لأنّ القتل الحاصل من القطع والشّجّة المأذون فيهما يشبه الانتحار ، فلا يجب فيه قصاص ولا دية ، ولأنّ العفو عن الشّجّة يكون عفواً عن القتل ، فكذا الأمر بالشّجّة يكون أمراً بالقتل . ولأنّ الأصحّ ثبوت الدّية للمورث ابتداءً ، وقد أسقطها بإذنه . وما تقدّم عن المالكيّة يفيد ثبوت القصاص في هذه الحال إن لم يستمرّ على الإبراء .
أمر الإنسان غيره بأن يقتل نفسه :
18 - إذا أمر الإنسان غيره - أمراً لم يصل إلى درجة الإكراه - بقتل نفسه فقتل نفسه ، فهو منتحر عند جميع الفقهاء ، ولا شيء على الآمر ، لأنّ المأمور قتل نفسه باختياره ، وقد قال اللّه تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } ومجرّد الأمر لا يؤثّر في الاختيار ولا في الرّضى ، ما لم يصل إلى درجة الإكراه التّامّ الّذي سيأتي بيانه .
الإكراه على الانتحار :
19 - الإكراه هو : حمل المكره على أمرٍ يكرهه . وهو نوعان : ملجئ وغير ملجئٍ . فالملجئ : هو الإكراه الكامل ، وهو أن يكره بما يخاف على نفسه أو على تلف عضوٍ من أعضائه . وهذا النّوع يعدم الرّضى ، ويوجب الإلجاء ، ويفسد الاختيار .
وغير الملجئ : هو أن يكرهه بما لا يخاف على نفسه ، ولا يوجب الإلجاء ولا يفسد الاختيار . والمراد هنا الإكراه الملجئ الّذي يعدم الرّضى ويفسد الاختيار.
20- إذا أكره إنسان غيره إكراهاً ملجئاً ليقتل المكره ، بأن قال له : اقتلني وإلاّ قتلتك ، فقتله فهو في حكم الانتحار ، حتّى لا يجب على القاتل القصاص ولا الدّية عند الجمهور ( الحنفيّة والحنابلة ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ) لأنّ المكره ( بفتح الرّاء ) كالآلة بيد المكره في الإكراه التّامّ ( الملجئ ) فينسب الفعل إلى المكره وهو المقتول ، فصار كأنّه قتل نفسه ، كما استدلّ به الحنفيّة ، ولأنّ إذن المكلّف يسقط الدّية والقصاص معاً كما قال الشّافعيّة ، فكيف إذا اشتدّ الأمر إلى درجة الإكراه الملجئ ؟ وفي قولٍ عند الشّافعيّة : تجب الدّية على المكره ، لأنّ القتل لا يباح بالإذن ، إلاّ أنّه شبهة تسقط القصاص . ولم نعثر للمالكيّة على نصٍّ في الموضوع ، وقد سبق رأيهم بوجوب القصاص على القاتل إذا أمره المقتول بالقتل . 21 -إذا أكره شخص غيره إكراهاً ملجئاً ليقتل الغير نفسه ، بأن قال له : اقتل نفسك وإلاّ قتلتك ، فليس له أن يقتل نفسه ، وإلاّ يعدّ منتحراً وآثماً ، لأنّ المكره عليه لا يختلف عن المكره به ، فكلاهما قتل ، فلأن يقتله المكره أولى من أن يقتل هو نفسه .
ولأنّه يمكن أن ينجو من القتل بتراجع المكره ، أو بتغيّر الحالة بأسبابٍ أخرى ، فليس له أن ينتحر ويقتل نفسه .
ويتفرّع على هذا أنّه إذا قتل نفسه فلا قصاص على المكره في الأظهر عند الشّافعيّة ، لانتفاء كونه إكراهاً حقيقةً ، لاتّحاد المأمور به والمخوّف به ، فكأنّه اختار القتل كما علّله الشّافعيّة ، لكنّه يجب على الآمر نصف الدّية ، بناءً على أنّ المكره شريك ، وسقط عنه القصاص للشّبهة بسبب مباشرة المكره قتل نفسه .
وقال الحنابلة ، وهو قول عند الشّافعيّة : يجب القصاص على المكره ، إذا قتل المكره نفسه ، كما لو أكرهه على قتل غيره .
ولو أكرهه على قتل نفسه بما يتضمّن تعذيباً شديداً كإحراقٍ أو تمثيلٍ إن لم يقتل نفسه ، كان إكراهاً كما جرى عليه البزّار ، ومال إليه الرّافعيّ من علماء الشّافعيّة ، وإن نازع فيه البلقينيّ . وفصّل الحنفيّة في الموضوع فقالوا : لو قال لتلقين نفسك في النّار أو من رأس الجبل أو لأقتلنّك بالسّيف ، فألقى نفسه من الجبل ، فعند أبي حنيفة تجب الدّية على عاقلة المكره ، لأنّه لو باشر بنفسه لا يجب عليه القصاص عنده ، لأنّه قتل بالمثقل ، فكذا إذا أكره عليه . وعند أبي يوسف تجب الدّية على المكره في ماله ، وعند محمّدٍ يجب القصاص ، لأنّه كالقتل بالسّيف عنده . أمّا إذا ألقى نفسه في النّار فاحترق ، فيجب القصاص على المكره عند أبي حنيفة أيضاً . هذا ، ولم نجد في المسألة نصّاً عند المالكيّة ، وانظر ( إكراه ) .
اشتراك المنتحر مع غيره :
22-اختلف الفقهاء فيمن جرح نفسه، ثم جرحه غيره فمات منهما، فهل يعتبر انتحاراً ؟
وهل يجب على المشارك له قصاص أو دية ؟ يختلف الحكم عندهم بحسب الصور :
أ-فلو جرح نفسه عمداً أوخطأً ، كأن أراد ضرب من اعتدى عليه بجرح فأصاب نفسه ، أو خاط جرحه فصادف اللحم الحي ، ثم جرحه شخص آخر خطأً ، فمات منهما ، فلا قصاص عند عامة الفقهاء ، لأنه لاقصاص على المخطئ بالإجماع ، ويلزم عاقلة الشريك نصف الدية ،كما لو قتله اثنان خطأً .
ب-أما لوجرح نفسه خطأً ، وجرحه شخص آخر عمداً ، فلا قصاص عليه عند الجمهور ( الحنفية والمالكية والشافعية ، وهو أصح الوجهين عند الحنابلة ) بناء على القاعدة التي تقول :لايقتل شريك من لاقصاص عليه كالمخطئ والصغير ، وعلى المتعمد نصف دية العمد في ماله ، إذ لا يدرى من أي الأمرين مات .وفي وجه آخر للحنابلة : يقتص من الشريك العامد ، لأنه قصد القتل ، وخطأ شريكه لايؤثر في قصده .
ج-وإذا جرح نفسه عمداً ، وجرحه آخر عمداً ، ومات منهما ، يقتص من الشريك العامد في وجه عند الحابلة ، وهو الأظهر عند الشافعية ، وقول عند المالكية بشرط القسامة ، لأنه قتل عمد متمحض ، فوجب القصاص على الشريك فيه كشريك الأب .
وقال الحنفية ، وهو قول عند المالكية ، ومقابل الأظهر عند الشافعية ، ووجه عند الحنابلة :
لاقصاص على شريك قاتل نفسه ، وإن كان جرحاهما عمداً ، لأنه أخف من شريك المجطئ ، كما يقول الشافعية ، ولأنه شارك من لايجب عليه القصاص ، فلم يلزمه القصاص ، كشريك المخطئ ، ولأنه قتل تركب من موجب وغير موجب ، كما استدل به الحنفية .
وإذا لم يجب القصاص فعلى الجارح نصف الدية في ماله ، ولا يشترط القسامة في وجوب نصف الدية عند المالكية ، لكنهم أضافوا : أن الجارح يضرب مائة ويحبس عاماً كذلك .
23- والمعلوم أن الدية تقسم على من اشترك في القتل ، وعلى الأفعال التي تؤدي إلى القتل ، فإذا حصل القتل بفعل نفسه وبفعل الشريك ولم نقل بوجوب القصاص ، يجب على الشريك نصف الدية ، وبهذا صرح الحنفية بأنه إن مات شخص بفعل نفسه وفعل زيد وأسد وحية ضمن زيد ثلث الدية ، لأن فعل الأسد والحية جنس واحد ، وهو هدر في الدارين ، وفعل زيد معتبر في الدارين ، وفعل نفسه هدر في الدنيا لا العقبى ، حتى يأثم بالإجماع .
24- وتعرض الشافعية والحنابلة إلى مسألة أخرى لها أهميتها في اشتراك الشخص في قتل نفسه ، وهي مداواة الجرح بالسم المهلك . فإن جرحه إنسان فتداوى بسم مذفف يقتل في الحال ، فقد قتل نفسه وقطع سراية الجرح ، وجرى مجرى من ذبح نفسه بعد أن جرح ، فلا قصاص ولا دية على جارحه في النفس ، وينظر في الجرح ، فإن كان موجباً للقصاص فلوليه استيفاؤه ، وإلا فلوليه الأرش . وإن كان السم لايقتل في الغالب ، أو لم يعلم حاله ، أو قد يقتل بفعل الرجل في نفسه ، فالقتل شبه عمد ، والحكم في شريكه كالحكم في شريك المخطئ . وإذا لم يجب القصاص على الجارح فعليه نصف الدية .
وإن كان السم يقتل غالباً ، وعلم حاله ، فحكمه كشريك جارح نفسه ، فيلزمه القصاص في الأظهر عند الشافعية ، وهو وجه عند الحنابلة ، أوهو شريك مخطئ في قول آخر للشافعية ،
وهو وجه آخر عند الحنابلة ، فلا قود عليه ، لأنه لم يقصد القتل ، وإنما قصد التداوي .
أما الحنفية فلا قصاص عندهم على الجارح بحال ، سواء أكان التداوي بالسم عمداً أم كان خطأ ، لأن الأصل عندهم أنه لايقتل شريك من لا قصاص عليه كما تقدم .
كذلك لا قصاص على الجارح عند المالكية قولاً واحداً إذا تداوى المقتول بالسم خطأ ، بناء على أصلهم أنه ( لا يقتل شريك مخطئ ) وقد تقدم أن في شريك جارح نفسه عمداً عند المالكية قولين .
الآثار المترتّبة على الانتحار :
أوّلاً : إيمان أو كفر المنتحر :
25 - ورد في الأحاديث الصّحيحة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما يدلّ ظاهره على خلود قاتل نفسه في النّار وحرمانه من الجنّة . منها ما رواه الشّيخان عن أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من تردّى من جبلٍ فقتل نفسه فهو في نارٍ جهنّم خالداً مخلّداً فيها أبداً ، ومن قتل نفسه بحديدةٍ فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنّم خالداً مخلّداً فيها أبداً » ومنها حديث جندبٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « كان برجلٍ جراح فقتل نفسه ، فقال اللّه : بدرني عبدي نفسه ، حرّمت عليه الجنّة »
وظاهر هذين الحديثين وغيرهما من الأحاديث يدلّ على كفر المنتحر ، لأنّ الخلود في النّار والحرمان من الجنّة جزاء الكفّار عند أهل السّنّة والجماعة . لكنّه لم يقل بكفر المنتحر أحد من علماء المذاهب الأربعة ، لأنّ الكفر هو الإنكار والخروج عن دين الإسلام ، وصاحب الكبيرة - غير الشّرك - لا يخرج عن الإسلام عند أهل السّنّة والجماعة ، وقد صحّت الرّوايات أنّ العصاة من أهل التّوحيد يعذّبون ثمّ يخرجون . بل قد صرّح الفقهاء في أكثر من موضعٍ بأنّ المنتحر لا يخرج عن الإسلام ، ولهذا قالوا بغسله والصّلاة عليه كما سيأتي ، والكافر لا يصلّى عليه إجماعاً . ذكر في الفتاوى الخانيّة : المسلم إذا قتل نفسه في قول أبي حنيفة ومحمّدٍ يغسّل ويصلّى عليه .
وهذا صريح في أنّ قاتل نفسه لا يخرج عن الإسلام ، كما وصفه الزّيلعيّ وابن عابدين بأنّه فاسق كسائر فسّاق المسلمين كذلك نصوص الشّافعيّة تدلّ على عدم كفر المنتحر .
وما جاء في الأحاديث من خلود المنتحر في النّار محمول على من استعجل الموت بالانتحار ، واستحلّه ، فإنّه باستحلاله يصير كافراً ، لأنّ مستحلّ الكبيرة كافر عند أهل السّنّة ، والكافر مخلّد في النّار بلا ريبٍ ، وقيل : ورد مورد الزّجر والتّغليظ وحقيقته غير مرادةٍ . ويقول ابن عابدين في قبول توبته : القول بأنّه لا توبة له مشكل على قواعد أهل السّنّة والجماعة ، لإطلاق النّصوص في قبول توبة العاصي بل التّوبة من الكافر مقبولة قطعاً ، وهو أعظم وزراً . ولعلّ . المراد ما إذا تاب حالة اليأس ، كما إذا فعل بنفسه ما لا يعيش معه عادة ، كجرحٍ مزهقٍ في ساعته ، وإلقائه نفسه في بحرٍ أو نارٍ فتاب .
أمّا لو جرح نفسه فبقي حيّاً أيّاماً مثلاً ثمّ تاب ومات ، فينبغي الجزم بقبول توبته .
وممّا يدلّ على أنّ المنتحر تحت المشيئة ، وليس مقطوعاً بخلوده في النّار ، حديث جابرٍ أنّه قال : « لمّا هاجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطّفيل بن عمرٍو ، وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة ، فمرض فجزع ، فأخذ مشاقص ، فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتّى مات ، فرآه الطّفيل بن عمرٍو في منامه وهيئته حسنة ، ورآه مغطّياً يديه ، فقال له : ما صنع بك ربّك ؟ قال : غفر لي بهجرتي إلى نبيّه صلى الله عليه وسلم فقال : مالي أراك مغطّياً يديك ؟ قال : قيل لي : لن نصلح منك ما أفسدت ، فقصّها الطّفيل على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وَلِيَدَيْه فاغفر » وهذا كلّه يدلّ على أنّ المنتحر لا يخرج بذلك عن كونه مسلماً ، لكنّه ارتكب كبيرةً فيسمّي فاسقاً .
ثانياً : جزاء المنتحر :
26 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه إذا لم يمت من حاول الانتحار عوقب على محاولته الانتحار ، لأنّه أقدم على قتل النّفس الّذي يعتبر من الكبائر .
كذلك لا دية عليه سواء أكان الانتحار عمداً أم خطأً عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ورواية عن الحنابلة ) لأنّ العقوبة تسقط بالموت ، ولأنّ عامر بن الأكوع بارز مرحباً يوم خيبر ، فرجع سيفه على نفسه فمات ولم يبلغنا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى فيه بديةٍ ولا غيرها ، ولو وجبت لبيّنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولأنّه جنى على نفسه فلم يضمنه غيره ، ولأنّ وجوب الدّية على العاقلة في الخطأ إنّما كان مواساةً للجاني وتخفيفاً عنه ، وليس على الجاني هاهنا شيء يحتاج إلى الإعانة والمواساة ، فلا وجه لإيجابه .وفي روايةٍ عند الحنابلة أنّ على عاقلة المنتحر خطأً ديته لورثته ، وبه قال الأوزاعيّ وإسحاق ، لأنّها جناية خطأٍ ، فكان عقلها ( ديتها ) على عاقلته كما لو قتل غيره . فعلى هذه الرّواية إن كانت العاقلة الورثة لم يجب شيء ، لأنّه لا يجب للإنسان شيء على نفسه ، وإن كان بعضهم وارثاً سقط عنه ما يقابل نصيبه ، وعليه ما زاد على نصيبه ، وله ما بقي إن . كان نصيبه من الدّين أكثر من الواجب عليه
27 - اختلفوا في وجوب الكفّارة ، فقال الشّافعيّة في وجهٍ - وهو رأي الحنابلة في قتل الخطأ - تلزم الكفّارة من سوى الحربيّ مميّزاً كان أم لا ، بقتل كلّ آدميٍّ من مسلمٍ - ولو في دار الحرب - وذمّيٍّ وجنينٍ وعبدٍ ونفسه عمداً أو خطأً . هكذا عمّموا في وجوب الكفّارة ، وتخرج من تركة المنتحر في العمد والخطأ . واستدلّوا بعموم قوله تعالى : { ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ ودية مسلّمة إلى أهله } ولأنّه آدميّ مقتول خطأً ، فوجبت الكفّارة على قاتله كما لو قتله غيره .
وقال الحنفيّة والمالكيّة وهو وجه عند الشّافعيّة : لا كفّارة على قاتل نفسه خطأً أو عمداً . وهذا هو قول الحنابلة في العمد ، لسقوط صلاحيّته للخطاب بموته ، كما تسقط ديته عن العاقلة لورثته . قال ابن قدامة : هذا أقرب إلى الصّواب إن شاء اللّه ، فإنّ عامر بن الأكوع قتل نفسه خطأً ولم يأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه بكفّارةٍ . وقوله تعالى : { ومن قتل مؤمناً خطأً } إنّما أريد به إذا قتل غيره ، بدليل قوله تعالى : { ودية مسلّمة إلى أهله } وقاتل نفسه لا تجب فيه دية . كذلك ردّ المالكيّة وجوب الكفّارة بدليل أنّ قوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } مخرج قاتل نفسه ، لامتناع تصوّر هذا الجزء من الكفّارة ، وإذا بطل الجزء بطل الكلّ .
ثالثاً : غسل المنتحر :
28 - من قتل نفسه خطأً ، كأن صوّب سيفه إلى عدوّه ليضربه به فأخطأ وأصاب نفسه ومات ، غسّل وصلّي عليه بلا خلافٍ ، كما عدّه بعضهم من الشّهداء .
وكذلك المنتحر عمداً ، لأنّه لا يخرج عن الإسلام بسبب قتله نفسه عند الفقهاء كما سبق ، ولهذا صرّحوا بوجوب غسله كغيره من المسلمين وادّعى الرّمليّ الإجماع عليه حيث قال : وغسله وتكفينه والصّلاة عليه وحمله ودفنه فروض كفايةٍ إجماعاً ، للأمر به في الأخبار الصّحيحة ، سواء في ذلك قاتل نفسه وغيره .
رابعاً : الصّلاة على المنتحر :
29 - يرى جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ) أنّ المنتحر يصلّى عليه ، لأنّه لم يخرج عن الإسلام بسبب قتله نفسه كما تقدّم ، ولما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « صلّوا على من قال لا إله إلاّ اللّه » ولأنّ الغسل والصّلاة متلازمان عند المالكيّة ، فكلّ من وجب غسله وجبت الصّلاة عليه ، وكلّ من لم يجب غسله لا تجب الصّلاة عليه . وقال عمر بن عبد العزيز والأوزاعيّ - وهو رأي أبي يوسف من الحنفيّة ، وصحّحه بعضهم - لا يصلّى على قاتل نفسه بحالٍ ، لما روى جابر بن سمرة : « أنّه أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصلّ عليه » ولما روى أبو داود « أنّ رجلاً انطلق إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره عن رجلٍ قد مات قال : وما يدريك ؟ قال : رأيته ينحر نفسه ، قال : أنت رأيته ؟ قال : نعم . قال . إذن لا أصلّي عليه » . وعلّله بعضهم بأنّ المنتحر لا توبة له فلا يصلّى عليه.
وقال الحنابلة : لا يصلّي الإمام على من قتل نفسه عمداً ، ويصلّي عليه سائر النّاس . أمّا عدم صلاة الإمام على المنتحر فلحديث جابر بن سمرة السّابق ذكره أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصلّ على قاتل نفسه ، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم هو الإمام ، فألحق به غيره من الأئمّة .
وأمّا صلاة سائر النّاس عليه ، فلما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه حين امتنع عن الصّلاة على قاتل نفسه لم ينه عن الصّلاة عليه . ولا يلزم من ترك صلاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ترك صلاة غيره ، فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان في بدء الإسلام لا يصلّي على من عليه دين لا وفاء له ، ويأمرهم بالصّلاة عليه . كما يدلّ على هذا التّخصيص ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « أمّا أنا فلا أصلّي عليه »
وذكر في بعض كتب الحنابلة أنّ عدم صلاة الإمام على المنتحر أمر مستحسن ، لكنّه لو صلّى عليه فلا بأس . فقد ذكر في الإقناع : ولا يسنّ للإمام الأعظم وإمام كلّ قريةٍ - وهو واليها في القضاء - الصّلاة على قاتل نفسه عمداً ، ولو صلّى عليه فلا بأس .
خامساً : تكفين المنتحر ودفنه في مقابر المسلمين :
30 - اتّفق الفقهاء على وجوب تكفين الميّت المسلم ودفنه ، وصرّحوا بأنّهما من فروض الكفاية كالصّلاة عليه وغسله ، ومن ذلك المنتحر ، لأنّ المنتحر لا يخرج عن الإسلام بارتكابه قتل نفسه كما مرّ .
انتساب *
التّعريف :
1 - الانتساب لغةً : مصدر انتسب ، وانتسب فلان إلى فلانٍ : عزا نفسه إليه ، والنّسبة والنّسبة ، والنّسب : القرابة ، ويكون الانتساب إلى الآباء وإلى القبائل ، وإلى البلاد ، ويكون إلى الصّنائع . والانتساب في الاصطلاح لا يخرج عن هذه المعاني
أنواع الانتساب :
أ - الانتساب للأبوين :
2 - ويكون بالبنوّة أو التّبنّي . فإذا كان بالبنوّة فحكمه الوجوب عند الصّدق ، والحرمة عند الكذب ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أيّما امرأةٍ أدخلت على قومٍ من ليس منهم ، فليست من اللّه في شيءٍ ، ولن يدخلها اللّه جنّته ، وأيّما رجلٍ جحد ولده ، وهو ينظر إليه احتجب اللّه منه يوم القيامة ، وفضحه على رءوس الأوّلين والآخرين » . وإذا كان بالتّبنّي - فحكمه الحرمة لقوله تعالى { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند اللّه ، فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدّين ومواليكم } ( ر : نسب ، وتبنّي )
ب - الانتساب إلى ولاء العتاقة :
3 - من آثاره : الإرث والعقل ( المشاركة في تحمّل الدّية ) في الجملة .
فإذا مات العتيق ولا وارث له بنسبٍ ولا نكاحٍ ، ولم تستغرق فروض الوارثين التّركة ، وليس له عصبة بالنّسب يكون المال كلّه ، أو الباقي بعد الفرض لمن أعتقه ، وفي تقديم ذوي الأرحام ، والرّدّ عليه رأيان ( ر : إرث ، ولاء )
ج - الانتساب إلى ولاء الموالاة :
4 - قال به الحنفيّة ، فإذا أسلم رجل مكلّف على يد آخر ووالاه أو والى غيره على أن يرثه إذا مات ، ويعقل عنه إذا جنى ، صحّ هذا العقد ، وعقله ( ديته ) عليه ، وإرثه له ، وكذا لو شرط الإرث من الجانبين ، وكذا ا لو والى صبيّ عاقل بإذن أبيه أو وصيّه صحّ لعدم المانع
د - الانتساب إلى الصّنعة أو القبيلة أو القرية :
5 - الانتساب إلى الصّنعة أو القبيلة أو القرية كالنّجّار والخزفيّ جائز ، وكفلانٍ القرشيّ والتّميميّ نسبةً إلى قريشٍ وإلى تميمٍ ، والبخاريّ ، والقرطبيّ نسبةً إلى بخارى ، وقرطبة ، وعلى ذلك إجماع الأمّة من غير نكيرٍ .
هـ- انتساب ولد الملاعنة :
6- إذا قذف الرّجل زوجته ، ونفى نسب الولد منه ، وتمّ اللّعان بينهما بشروطه ، نفى الحاكم نسبه عن أبيه وألحقه بأمّه . ر : ( لعان )
و- الانتساب إلى القرابة من جهة الأمّ :
7 - للانتساب إلى الأمّ وأصولها وفروعها أحكام متعدّدة ، مثل حكم النّظر ، والإرث ، والولاية في عقد النّكاح ، والوصيّة ، وحرمة النّكاح ، وغير ذلك من أحكامٍ تترتّب على هذه النّسبة . ويراجع في ذلك تلك الأبواب من كتب الفقه والمصطلحات المختصّة بتلك الأبواب ، نحو ( إرث ، ولاية ، نكاح ، نظر ، سفر )
انتشاء *
انظر : سكر ، مخدّر
انتشار *
التّعريف :
1 - الانتشار مصدر : انتشر ، يقال انتشر الخبر : إذا ذاع . وانتشر النّهار : طال وامتدّ . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى .
الألفاظ ذات الصّلة :
- أ - الاستفاضة :
2- يقال استفاض الخبر : إذا ذاع " وانتشر . ولا تكون الاستفاضة إلاّ في الأخبار ، بخلاف الانتشار
ب - الإشاعة :
- أشاع الخبر بمعنى : أظهره فانتشر
الحكم الإجماليّ :
يطلق الفقهاء لفظ الانتشار على معنيين :
الأوّل : بمعنى إنعاظ الذّكر : أي قيامه .
الثّاني : بمعنى شيوع الشّيء .
3 - فالانتشار بالمعنى الأوّل له أثر في ترتّب الأحكام الفقهيّة عليه ، ومن ذلك :
أ - حلّ المطلّقة ثلاثاً لمن طلّقها فمن طلّق زوجته ثلاثاً لا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره ، ويطأها ، لقوله تعالى : { فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره } ولا تحلّ إلاّ بالوطء في الفرج ، وأدناه تغييب الحشفة ، ولا بدّ من الانتشار ، فإن لم يوجد الانتشار فلا تحلّ ، لما روي « أنّ رفاعة القرظيّ طلّق امرأته وبتّ طلاقها - فتزوّجها عبد الرّحمن بن الزّبير ، فجاءت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول اللّه إنّي كنت عند رفاعة وطلّقني ثلاث تطليقاتٍ ، فتزوّجني عبد الرّحمن بن الزّبير ، وإنّه واللّه يا رسول اللّه ما معه إلاّ مثل هذه الهدبة ، فتبسّم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، فقال : لعلّك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ، لا واللّه حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » ، فقد علّق النّبيّ صلى الله عليه وسلم الحكم بذوق العسيلة وذلك لا يحصل من غير انتشارٍ ، وهذا باتّفاقٍ .
ب - ومن ذلك أثر الانتشار في وجوب الحدّ على من أكره على الزّنا . وفي ذلك خلاف . فعند الحنابلة وبعض المالكيّة ، ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة ، وعند أبي حنيفة في إكراه غير السّلطان ، إذا أكره الرّجل فزنى ، فعليه الحدّ ، لأنّ الوطء لا يكون إلاّ بالانتشار ، والإكراه ينافيه ، فإذا وجد الانتشار انتفى الإكراه ، فيلزمه الحدّ .
وفي الأظهر عند الشّافعيّة ، وبعض المالكيّة ، وأبي يوسف ومحمّدٍ وعند أبي حنيفة ، في إكراه ذي السّلطان ، أنّه إذا أكره الرّجل على الزّنى فلا حدّ عليه ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » ولأنّ الانتشار متردّد ، لأنّه قد يكون من غير قصدٍ ، لأنّ الانتشار قد يكون طبعاً لا طوعاً كما في النّائم . ر : ( إكراه )
4 - أمّا الانتشار بالمعنى الثّاني : وهو الشّيوع ، فقد ذكره الفقهاء في ثبوت الهلال بالخبر المنتشر ، وينظر تفصيل ذلك في ( استفاضة - صوم ) .
وذكروه في انتشار حرمة النّكاح بسبب الرّضاع إلى أصول المرضعة وفروعها .
وانتشار الحرمة أيضاً بسبب الزّنا - وينظر في ( رضاع - ونكاح ) .
مواطن البحث :
5 - تتعدّد المسائل الفقهيّة الّتي تبنى الأحكام فيها على الانتشار ، وذلك في باب الوضوء ، وباب الغسل ، وباب الصّوم ، وفي النّظر إلى الأجنبيّة ، وفي المحرّمات في باب النّكاح ، وباب الرّضاع .
انتفاع *
التّعريف :
1 - الانتفاع مصدر : انتفع من النّفع ، وهو ضدّ الضّرّ ، وهو ما يتوصّل به الإنسان إلى مطلوبه . فالانتفاع : الوصول إلى المنفعة ، يقال انتفع بالشّيء : إذا وصل به إلى منفعةٍ . ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن هذا المعنى اللّغويّ . وذكر الشّيخ محمّد قدري باشا في مرشد الحيران أنّ ( الانتفاع الجائز هو حقّ المنتفع في استعمال العين واستغلالها ما دامت قائمةً على حالها ، وإن لم تكن رقبتها مملوكةً )
2 - واستعمل هذا اللّفظ غالباً مع كلمة ( حقّ ) فيقال : حقّ الانتفاع ويراد به الحقّ الخاصّ بشخص المنتفع غير القابل للانتقال للغير . وقد يستعمل مع كلمتي ( ملك وتمليك ) فيقال : ملك الانتفاع ، وتمليك الانتفاع . ولعلّ المراد بالملك ، والتّمليك أيضاً : حقّ الصّرف الشّخصيّ الّذي يباشر الإنسان بنفسه فقط .
مقارنة بين حقّ الانتفاع وملك المنفعة :
3 - يفرّق الفقهاء بين حقّ الانتفاع وملك المنفعة من ناحية المنشأ والمفهوم والآثار . وخلاصة ما قيل في الفرق بينهما وجهان :
الأوّل : سبب حقّ الانتفاع أعمّ من سبب ملك المنفعة ، لأنّه كما يثبت ببعض العقود كالإجارة والإعارة مثلاً ، كذلك يثبت بالإباحة الأصليّة ، كالانتفاع من الطّرق العامّة والمساجد ومواقع النّسك ، ويثبت أيضاً بالإذن من مالكٍ خاصٍّ . كما لو أباح شخص لآخر أكل طعامٍ مملوكٍ له ، أو استعمال بعض ما يملك .
أمّا المنفعة فلا تملك إلاّ بأسبابٍ خاصّةٍ ، وهي الإجارة والإعارة والوصيّة بالمنفعة والوقف ، على تفصيلٍ وخلافٍ سيأتي . وعلى ذلك ، فكلّ من يملك المنفعة يسوغ له الانتفاع ، ولا عكس ، فليس كلّ من له الانتفاع يملك المنفعة ، كما في الإباحة مثلاً .
الثّاني : أنّ الانتفاع المحض حقّ ضعيف بالنّسبة لملك المنفعة ، لأنّ صاحب المنفعة يملكها ويتصرّف فيها تصرّف الملّاك في الحدود الشّرعيّة ، بخلاف حقّ الانتفاع المجرّد ، لأنّه رخصة ، لا يتجاوز شخص المنتفع .
وعلى هذا فمن ملك منفعة شيءٍ يملك أن يتصرّف فيه بنفسه ، أو أن ينقلها إلى غيره ، ومن ملك الانتفاع بالشّيء لا يملك أن ينقله إلى غيره . فالمنفعة أعمّ أثراً من الانتفاع ، يقول القرافيّ : تمليك الانتفاع نريد به أن يباشره هو بنفسه فقط ، وتمليك المنفعة هو أعمّ وأشمل ، فيباشر بنفسه ، ويمكّن غيره من الانتفاع بعوضٍ كالإجارة وبغير عوضٍ كالعاريّة .
مثال الأوّل : سكنى المدارس ، والرّباطات والمجالس ، في الجوامع ، والمساجد ، والأسواق ، ومواضع النّسك ، كالمطاف والمسعى ونحو ذلك ، فله أن ينتفع بنفسه فقط . ولو حاول أن يؤاجر بيت المدرسة أو يسكن غيره أو يعاوض عليه بطريقٍ من طرق المعاوضات امتنع ذلك . وكذلك بقيّة النّظائر المذكورة معه .
وأمّا مالك المنفعة ، فكمن استأجر داراً أو استعارها ، فله أن يؤاجرها من غيره أو يسكنه بغير عوضٍ ، ويتصرّف في هذه المنفعة تصرّف الملّاك في أملاكهم على جري العادة ، على الوجه الّذي ملكه ومثله ما ذكره ابن نجيمٍ من الحنفيّة من أنّ الموصى له يملك المنفعة ، وله حقّ الإعارة والمستأجر يمكنه الإعارة والإجارة للغير فيما لا يختلف باختلاف المستعملين . ويملك المستعير والموقوف عليه السّكنى المنفعة ، فيمكن لهما نقل المنفعة إلى الغير بدون عوضٍ ، لكن الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة لا يجيزون للمستعير أن يؤجّر المستعار للغير ، خلافاً للمالكيّة
4 - وملك المنفعة قد يكون حقّاً شخصيّاً غير تابعٍ للعين المملوكة ، كما هو ثابت للمستعير والمستأجر في الإعارة والإجارة ، وقد يكون حقّاً عينيّاً تابعاً للعين المملوكة منتقلاً من مالكٍ إلى مالكٍ بالتّبع ضمن انتقال الملكيّة ، ولا يكون إلاّ في العقار ، وهذا ما يسمّى بحقّ الارتفاق . وتفصيله في مصطلح ( ارتفاق ) .
حكمه التّكليفيّ :
5 - الانتفاع إمّا أن يكون واجباً أو حراماً أو جائزاً ، وذلك باعتبار متعلّقه وهو العين المنتفع بها ، ونظراً للشّروط المتعلّقة بالعين وبالشّخص المنتفع بها ، وفيما يلي أمثلة للانتفاع الواجب والحرام والجائز باختصارٍ .
أ - الانتفاع الواجب :
6 - لا خلاف في أنّ الانتفاع يكون واجباً بأكل المباح ، إذا خاف الإنسان على نفسه الهلاك ، لأنّ الامتناع منه إلقاء بالنّفس إلى التّهلكة ، وهو منهيّ عنه بقوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة } حتّى إنّ الجمهور أوجبوا الأكل والشّرب في حالة الاضطرار ، ولو كانت العين المنتفع بها محرّمةً .
ب - الانتفاع المحرّم :
7 - قد يكون الانتفاع بالشّيء محرّماً ، إذا كانت العين المنتفع بها محرّمةً شرعاً ، كالميتة والدّم ولحم الخنزير والحيوانات والطّيور المحرّمة وأمثال ذلك في غير حالة الاضطرار .
وقد يكون الانتفاع بعينٍ من الأعيان المباحة محرّماً سبب وصفٍ قائمٍ بشخص المنتفع ، كالانتفاع بلحم الصّيد للمحرم ، وكانتفاع باللّقطة للغنيّ عند الحنفيّة . فإذا زال هذا الوصف حلّ الانتفاع عملاً بالقاعدة العامّة : ( إذا زال المانع عاد الممنوع ) .
وقد يكون الانتفاع بالشّيء محرّماً ، إذا كان فيه اعتداء على ملك الغير وعدم إذن المالك ، فيوجب الضّمان والعقاب ، كالانتفاع بالأموال المغصوبة والمسروقة كما هو مبيّن في موضعه .
أسباب الانتفاع :
9 - المراد بأسباب الانتفاع ما يشمل المنفعة الّتي يمكن نقلها إلى الغير ، وما هو خاصّ بشخص المنتفع ولا يقبل التّحويل للغير ، وسواء كانت العين المنتفع بها ممّا يجوز الانتفاع بها ابتداءً ، أم كانت محرّمةً ينتفع بها بشروطٍ خاصّةٍ فأسباب الانتفاع بهذا المعنى عبارة عن الإباحة ، والضّرورة ، والعقد .
أوّلاً : الإباحة
10 - الإباحة : هي الإذن بإتيان الفعل كيف شاء الفاعل . ويعرّفها بعض الفقهاء بأنّها : الإطلاق في مقابلة الحظر الّذي هو المنع . وهي بهذا المعنى تشمل :
أ - الإباحة الأصليّة :
وهي الّتي لم يرد فيها نصّ خاصّ من الشّرع ، لكن ورد بصفةٍ عامّةٍ أنّه يباح الانتفاع بناءً على الإباحة الأصليّة ، حينما تكون الأعيان والحقوق المتعلّقة بها مخصّصةً لمنفعة الكافّة ، ولا يملكها واحد من النّاس ، كالأنهر العامّة ، والهواء ، والطّرق غير المملوكة .
فالانتفاع من الأنهر العامّة مباح لا لحقّ الشّفة ( شرب الإنسان والحيوان ) فحسب ، بل لسقي الأراضي أيضاً كما يقول ابن عابدين : لكلٍّ أن يسقي أرضه من بحرٍ أو نهرٍ عظيمٍ كدجلة والفرات إن لم يضرّ بالعامّة . وكذلك الانتفاع بالمرور في الشّوارع والطّرق غير المملوكة ثابت للنّاس جميعاً بالإباحة الأصليّة ، ويجوز الجلوس فيها للاستراحة والتّعامل ونحوهما ، إذا لم يضيّق على المارّة وله تظليل مجلسه بما لا يضرّ المارّة عرفاً .
ومثله الانتفاع بشمسٍ وقمرٍ وهواءٍ إذا لم يضرّ بأحدٍ لأنّ هواء الطّريق كأصل الطّريق حقّ المارّة جميعاً . والنّاس في المرور في الطّريق شركاء .
ب - الإباحة الشّرعيّة :
11 - الإباحة الشّرعيّة : هي الّتي ورد فيها نصّ خاصّ يدلّ على حلّ الانتفاع بها وذلك إمّا أن يكون بلفظ الحلّ ، كما في قوله تعالى : { أحلّ لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم } .
أو بالأمر بعد النّهي ، كما في قوله عليه الصلاة والسلام : « كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحيّ ، فكلوا وادّخروا » .
أو بالاستثناء من التّحريم كما في قوله تعالى : { وما أكل السّبع إلاّ ما ذكّيتم } .
أو بنفي الجناح أو الإثم ، أو بغير ذلك من صيغ الإباحة كما بيّنه الأصوليّون .
ج - الإباحة بإذن المالك :
12 - هذه الإباحة تثبت من مالكٍ خاصٍّ لغيره بالانتفاع بعينٍ من الأعيان المملوكة :
إمّا بالاستهلاك ، كإباحة الطّعام والشّراب في الولائم والضّيافات ، أو بالاستعمال كما لو أباح إنسان لآخر استعمال ما يشاء من أملاكه الخاصّة .
فالانتفاع في هذه الحالات لا يتجاوز الشّخص المباح له ، وهو لا يملك الشّيء المنتفع به ، فليس له أن يبيحه لغيره ، كما نصّ عليه في الفتاوى الهنديّة .
وذكر المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة مثل ذلك ، فقال البجيرميّ في شرحه على الخطيب : إنّ من أبيح له الطّعام بالوليمة أو الضّيافة يحرم عليه أن ينقله إلى غيره ، أو بإطعام نحو هرّةٍ منه ، ولا يطعم منه سائلاً إلاّ إذا علم الرّضى . وكذلك من أبيح له الانتفاع بعينٍ من الأعيان المملوكة بإذن المالك ، كالإذن بسكنى داره ، أو ركوب سيّارته ، أو استعمال كتبه ، أو ملابسه الخاصّة ، فليس للمباح له أن يأذن لغيره بالانتفاع بها ، وإلاّ كان ضامناً .
ثانياً : الاضطرار
13 - " الاضطرار هو الخوف على النّفس من الهلاك علماً أو ظنّاً " أو " بلوغ الإنسان حدّاً إن لم يتناول الممنوع يهلك " وهو سبب من أسباب حلّ الانتفاع بالمحرّم لإنقاذ النّفس من الهلاك . وهو في الحقيقة نوع من الإباحة الشّرعيّة للنّصوص الواردة في حال الضّرورة . ويشترط لحلّ الانتفاع به أن يكون الاضطرار ملجئاً ، بحيث يجد الإنسان نفسه في حالةٍ يخشى فيها الموت ، وأن يكون الخوف قائماً في الحال لا منتظراً ، وألاّ يكون لدفعه وسيلة أخرى . فليس للجائع أن ينتفع من الميتة قبل أن يجوع جوعاً يخشى منه الهلاك ، وليس له أن يتناول من مال الغير إذا استطاع شراء الطّعام أو دفع الجوع بفعلٍ مباحٍ . وكذلك يشترط للانتفاع بالحرام حال الاضطرار ألاّ يتجاوز القدر اللّازم لدفعه .
والأصل في حلّ الانتفاع من المحرّم حال الاضطرار قوله تعالى : { فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه } وقوله تعالى : { وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلاّ ما اضطررتم إليه } . والبحث في الانتفاع بالمحرّم حال الاضطرار يتناول الموضوعات الآتية :
أ - الانتفاع من الأطعمة المحرّمة :
14 - إذا خاف الإنسان على نفسه الهلاك ، ولم يجد من الحلال ما يتغذّى به ، جاز له الانتفاع بالمحرّم لكي ينقذ حياته من الهلاك ، ميتةً كان أو دماً أو مال الغير أو غير ذلك . وهذا ممّا لا خلاف فيه بين الفقهاء .
لكنّهم اختلفوا في صفة الانتفاع من المحرّم حال الاضطرار ، هل هو واجب يثاب عليه فاعله ويعاقب تاركه ، أم هو جائز لا ثواب ولا عقاب في فعله أو تركه . ؟
فالجمهور ( الحنفيّة والمالكيّة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ووجه عند الحنابلة ) على الوجوب ، لأنّ الامتناع من الأكل والشّرب حال الاضطرار إلقاء بالنّفس إلى التّهلكة المنهيّ عنه بقوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة } .
فالأكل للغذاء ولو من حرامٍ أو ميتةٍ أو مال غيره حال الاضطرار واجب يثاب عليه إذا أكل مقدار ما يدفع به الهلاك عن نفسه " ومن خاف على نفسه موتاً أو مرضاً مخوفاً ووجد محرّماً لزمه أكله " . وقال الشّافعيّة في مقابل الأصحّ ، وهو وجه عند الحنابلة ، ورواية عن أبي يوسف من الحنفيّة : إنّ الانتفاع من الأطعمة المحرّمة ليس بواجبٍ ، بل هو مباح فقط ، لأنّ إباحة الأكل في حالة الاضطرار رخصة ، فلا تجب عليه كسائر الرّخص .
15 - واتّفقوا على أنّه إذا لم يكن صاحب المال مضطرّاً إليه لزمه بذله للمضطرّ ، لأنّه يتعلّق به إحياء نفس آدميٍّ معصومٍ فلزمه بذله له . فإن امتنع واحتيج إلى القتال ، فللمضطرّ المقاتلة . فإن قتل المضطرّ فهو شهيد ، وعلى قاتله ضمانه . وإن قتل صاحبه فهو هدر ، لأنّه ظالم بقتاله ، إلاّ أنّ الحنفيّة جوّزوا القتال بغير سلاحٍ . وهذا كلّه إذا لم يستطع المضطرّ شراء الطّعام . فإن استطاع اشتراه ولو بأكثر من ثمن المثل .
ب - الانتفاع بالخمر :
16 - اتّفق الفقهاء على جواز الانتفاع بالخمر لإساغة الغصّة ودفع الهلاك في حالة الاضطرار حتّى إنّ الجمهور على وجوب شربها في هذه الحالة . فمن لم يجد غير الخمر ، فأساغ اللّقمة بها ، فلا حدّ عليه ، لوجوب شربها عليه إنقاذاً للنّفس . ولأنّ شربها في هذه الحالة متحقّق النّفع ، ولذا يأثم بتركه مع القدرة عليه حتّى يموت .
وأمّا شرب الخمر للجوع والعطش فالمالكيّة ، والشّافعيّة على تحريمه لعموم النّهي ، ولأنّ شربها لن يزيده إلاّ عطشاً . وقال الحنفيّة : لو خاف الهلاك عطشاً وعنده خمر فله شرب قدر ما يدفع العطش إن علم أنّه يدفعه . كذلك لو شرب للعطش المهلك مقدار ما يرويه فسكر لم يحدّ . وفرّق الحنابلة بين الممزوجة وغير الممزوجة فقالوا : إن شربها للعطش نظر ، فإن كانت ممزوجةً بما يروي من العطش أبيحت لدفعه عند الضّرورة ، كما تباح الميتة عند المخمصة ، وكما يباح شرب الخمر لدفع الغصّة . وإن شربها صرفاً ، أو ممزوجةً بشيءٍ يسيرٍ لا يروي من العطش لم يبح وعليه الحدّ
17 - وأمّا تعاطي الخمر للتّداوي فالجمهور على تحريمه ، وتفصيله في ( أشربة ) .
ح - الانتفاع بلحم الآدميّ الميّت :
18 - ذهب الجمهور إلى جواز الانتفاع بلحم الآدميّ الميّت حالة الاضطرار ، لأنّ حرمة الإنسان الحيّ أعلى من حرمة الميّت . واستثنى منه بعض الحنفيّة ، وهو قول عند الحنابلة الانتفاع بلحم الميّت المعصوم .
وذهب المالكيّة إلى أنّه لا يجوز . ومثل الميّت كلّ حيٍّ مهدر الدّم عند الشّافعيّة والحنابلة وبعض الحنفيّة . ويبيح الشّافعيّ للمضطرّ أن يقطع من جسمه فلذةً ليأكلها في حالة الضّرورة إن كان الخوف في قطعها أقلّ منه في تركها . وخالفه في ذلك بقيّة الفقهاء .
د - ترتيب الانتفاع بالمحرّم :
19 - ذهب جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والحنابلة وهو الرّاجح عند الشّافعيّة ) إلى أنّه إذا وجدت ميتة ، أو ما صاده محرم ، أو ما صيد في الحرم وطعام شخصٍ غائبٍ فلا يجوز الانتفاع بمال الغير ، لأنّ أكل الميتة منصوص عليه وأكل مال الآدميّ مجتهد فيه ، والعدول إلى المنصوص عليه أولى . ولأنّ حقوق اللّه تعالى مبنيّة على المسامحة والمساهلة ، وحقوق الآدميّ مبنيّة على الشّحّ والتّضييق .
وقال مالك ، وهو قول للشّافعيّ : يقدّم مال الغير على الميتة ، ونحوها ممّا سبق إن أمن أن يعدّ سارقاً ، لأنّه قادر على الطّعام الحلال ، فلم يجز له أكل الميتة ، كما لو بذله له صاحبه . أمّا التّرتيب في الانتفاع بين الميتة وصيد الحرم أو المحرم ، فقد قال أحمد والشّافعيّ وبعض الحنفيّة : تقدّم الميتة ، لأنّ إباحتها منصوص عليها . وقال المالكيّة وبعض الحنفيّة : صيد المحرم للمضطرّ أولى من الميتة . هذا بالنّسبة لأكل لحم الميتة حال الاضطرار .
20 - أمّا الانتفاع بالميتة بغير الأكل ، وفي غير حالة الاضطرار فالجمهور ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وهو رواية عن أحمد ) على أنّ كلّ إهابٍ دبغ فقد طهر ، ويجوز الانتفاع به إلاّ جلد الخنزير والآدميّ . أمّا الخنزير فلأنّه نجس العين ، وأمّا الآدميّ فلكرامته ، فلا يجوز الانتفاع به كسائر أجزائه . واستثنى الشّافعيّة جلد الكلب أيضاً لأنّه لا يطهر بالدّبّاغ عندهم . واستثنى الحنابلة جلود السّباع ، فلا يجوز الانتفاع بها قبل الدّبغ ولا بعده .
ونقل عن مالكٍ التّوقّف في جواز الانتفاع بجلود الحمار والبغل والفرس ولو بعد الدّبغ . وفي الانتفاع بعظم الميتة وشعرها وشحمها تفصيل وخلاف يرجع إليه في مصطلح ( ميتة ) .
ثالثاً : العقد
21 - العقد من أهمّ أسباب الانتفاع ، لأنّه وسيلة تبادل الأموال والمنافع بين النّاس على أساس الرّضى . وهناك عقود تقع على المنفعة مباشرةً ، فتنقل المنفعة من جهةٍ إلى جهةٍ أخرى ، كالإجارة والإعارة ، والوصيّة بالمنفعة والوقف . وهناك عقود أخرى لا تقع على المنافع بالذّات ، ولكنّه يأتي الانتفاع فيها تبعاً ، وذلك بشروطٍ خاصّةٍ وفي حدودٍ ضيّقةٍ ، كالرّهن الوديعة . وتفصيل كلٍّ من هذه العقود في بابه .
وجوه الانتفاع :
الانتفاع بالشّيء إمّا أن يكون بإتلاف العين أو ببقائها ، وفي هذه الحالة إمّا أن ينتفع الشّخص من العين بالاستعمال أو بالاستغلال . فالحالات ثلاث :
الحالة الأولى : الاستعمال :
22 - يحصل الانتفاع غالباً باستعمال الشّيء مع بقاء عينه ، وذلك كما في العاريّة ، فإنّ المستعير ينتفع بالمستعار باستعماله والاستفادة منه ، ولا يجوز له أن ينتفع باستغلاله ( تحصيل غلّته ) أو استهلاكه ، لأنّ من شروط العاريّة إمكان الانتفاع بها مع بقاء عينها . والمستعير يملك المنافع بغير عوضٍ ، فلا يصحّ أن يستغلّها ويملكها غيره بعوضٍ .
هذا عند الجمهور ، وذهب المالكيّة إلى أنّ مالك المنفعة بالاستعارة له أن يؤجّرها خلال مدّة الإعارة .
وكذلك الإجارة فيما يختلف باختلاف المستعمل أو إذا اشترط المالك على المستأجر الانتفاع بنفسه . فالانتفاع في هذه الحالة قاصر على شخص المستأجر ، ولا يجوز له أن يستهلك المأجور أو يستغلّه بإجارته للغير ، لأنّ عقد الإجارة يقتضي الانتفاع بالمأجور مع بقاء العين . وليس له إيجارها فيما يختلف باختلاف المستعمل .
الحالة الثّانية : الاستغلال :
23 - قد يحصل الانتفاع باستغلال الشّيء وأخذ العوض عنه ، كما في الوقف والوصيّة إذا نصّ عند إنشائهما على أنّ له أن ينتفع كيف شاء ، فإنّ الموقوف عليه والموصى له يستطيعان أن يؤجّرا العين الموقوفة والموصى بمنفعتها للغير إذا أجازهما الواقف والموصي من غير خلافٍ .
الحالة الثّالثة : الاستهلاك :
24 - قد يحصل الانتفاع باستهلاك العين كالانتفاع بأكل الطّعام والشّراب في الولائم والضّيافات ، والانتفاع باللّقطة إذا كانت ممّا يتسارع إليه الفساد . وكذلك عاريّة المكيلات والموزونات والأشياء المثليّة الّتي لا يمكن الانتفاع بها إلاّ باستهلاكها ، فإنّهم قالوا : عاريّة الثّمنين ( الذّهب والفضّة ) والمكيل والموزون والمعدود قرض ، لأنّه لا يمكن الانتفاع بها إلاّ باستهلاك عينها وردّ مثلها .
حدود الانتفاع :
الانتفاع بالشّيء له حدود يجب على المنتفع مراعاتها وإلاّ كان ضامناً . ومن الحدود المقرّرة الّتي بحثها الفقهاء في الانتفاع بالشّيء ما يأتي :
25 - أوّلاً : يجب أن يكون الانتفاع موافقاً للشّروط الشّرعيّة ولا يكون على وجهٍ يبطل حقّ الغير . ولهذا اشترط الفقهاء في جميع عقود الانتفاع ( الإجارة والإعارة والوصيّة بالمنفعة ) أن تكون العين منتفعاً بها انتفاعاً مباحاً . كما اشترطوا في الوقف أن يكون على مصرفٍ مباحٍ ، لأنّ المنافع لا يتصوّر استحقاقها بالمعاصي .
كذلك قالوا : إنّ الانتفاع بالمباح إنّما يجوز إذا لم يضرّ بأحدٍ . والانتفاع بالمنافع العامّة مقيّد بعدم الإضرار بالغير . والجلوس على الطّرق العامّة للاستراحة أو المعاملة ونحوهما ، ووضع المظلّات إنّما يجوز إذا لم يضيّق على المارّة .
وكذلك الانتفاع بالمحرّم حال الاضطرار مقيّد بقيودٍ . فقد اتّفق الفقهاء على أنّ المضطرّ يجوز له الانتفاع بالمحرّمات بمقدار ما يسدّ الرّمق ويأمن معه الموت .
وذهب المالكيّة ، وهو قول عند الشّافعيّة ، ورواية عن أحمد إلى أنّه يأكل من المحرّمات إلى حدّ الشّبع إذا لم يوجد غيرها ، لأنّ ما جاز سدّ الرّمق منه جاز الشّبع منه كالمباح . بل المالكيّة جوّزوا التّزوّد من المحرّمات احتياطاً خشية استمرار حالة الاضطرار ، كما تدلّ عليه نصوصهم . وقال الحنفيّة ، وهو أحد قولين للشّافعيّ ، والأظهر عند الحنابلة : أنّه لا يجوز للمضطرّ الانتفاع من المحرّمات بأكثر ممّا يدفع الهلاك ويسدّ الرّمق ، فليس له أن يأكل إلى حدّ الشّبع ، وليس له أن يتزوّد ، لأنّ الضّرورة تقدّر بقدرها .
26 - ثانياً : يلزم المنتفع أن يراعي حدود إذن المالك ، إذا ثبت الانتفاع بإذنٍ من مالكٍ خاصٍّ ، كإباحة الطّعام والشّراب في الضّيافة ، فإنّه إذا علم أنّ صاحبه لا يرضى بإطعام الغير ، فلا يحلّ له أن يطعم غيره كما تقدّم . وكذلك الإذن بسكنى الدّار وركوب الدّابّة للشّخص ، فإنّ الانتفاع بها محدود بشروط المبيح .
27 - ثالثاً : يلزم المنتفع التّقيّد بالقيود المتّفق عليها في العقد ، إذا كان مسبّب الانتفاع عقداً . لأنّ الأصل مراعاة الشّروط بقدر الإمكان . فإذا حدّد الانتفاع في الإجارة أو العاريّة أو الوصيّة بوقتٍ أو منفعةٍ معيّنةٍ فلا يتجاوزها ما لم تكن الشّروط مخالفةً للشّرع .
28 - رابعاً : يلزم المنتفع أن لا يتجاوز الحدّ المعتاد إذا لم يكن الانتفاع مقيّداً بقيدٍ أو شرطٍ ، لأنّ المطلق يقيّد بالعرف والعادة ، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً كما جرى على ألسنة الفقهاء . فلو أعاره وأطلق فللمستعير الانتفاع بحسب العرف في كلّ ما هو مهيّأ له . وما هو غير مهيّأٍ له يعيّنه العرف ولو قال : آجرتكها لما شئت صحّ ، ويفعل ما يشاء لرضاه به ، لكن يشترط أن ينتفع به على الوجه المعتاد كالعاريّة .
أحكام الانتفاع الخاصّة :
الانتفاع المجرّد ملك ناقص ، وله أحكام وآثار خاصّة تميّزه عن الملك التّامّ .
من هذه الأحكام ما يأتي :
أوّلاً : تقييد الانتفاع بالشّروط :
29 - يقبل حقّ الانتفاع التّقييد والاشتراط ، لأنّه حقّ ناقص ليس لصاحبه إلاّ التّصرّفات الّتي يجيزها المالك ، وعلى الوجه الّذي يعيّنه صفةً وزمناً ومكاناً ، وإلاّ فإنّ الانتفاع موجب للضّمان ، فإذا أعار إنساناً دابّةً على أن يركبها المستعير بنفسه فليس له أن يعيرها غيره ، واذا أعار ثوباً على أن يلبسه بنفسه فليس له أن يلبسه غيره . وكذلك إن قيّدها بوقتٍ أو منفعةٍ أو بهما فلا يتجاوز إلى ما سوى ذلك .
وإن أطلق فله أن ينتفع بأيّ نوعٍ شاء وفي أيّ وقتٍ أراد ، لأنّه يتصرّف في ملك الغير فلا يملك التّصرّف إلاّ على الوجه الّذي أذن له من تقييدٍ أو إطلاقٍ .
ومن استأجر داراً للسّكنى إلى مدّةٍ معيّنةٍ فليس له أن يسكنها بعد انقضاء المدّة إلاّ بأجرة المثل ، لأنّ الانتفاع مقيّد بقيد الزّمان فيجب اعتباره .
كذلك لو قيّد الواقف الانتفاع بالوقف بشروطٍ محدّدةٍ ، فالجمهور على أنّه يرجع إلى شرط الواقف لأنّ الشّروط الّتي يذكرها الواقفون هي الّتي تنظّم طريق الانتفاع به ، وهذه الشّروط معتبرة ما لم تحالف الشّرع . هذا ، وجمهور الفقهاء على أنّ الانتفاع بالمأجور والمستعار بمثل المشروط أو أقلّ منه ضرراً جائز لحصول الرّضى ولو حكماً . وقال بعضهم : إن نهاه عن مثل المشروط أو الأدون منه امتنع .
30 - وقد اتّفق الفقهاء على أنّ التّقييد في الانتفاع لشخصٍ دون شخصٍ معتبر فيما يكون التّقييد فيه مفيداً ، وذلك فيما يختلف باختلاف المستعمل كركوب الدّابّة ولبس الثّوب .
أمّا فيما لا يختلف باختلاف المستعمل كسكنى الدّار مثلاً فقد اختلفوا فيه : فذهب الحنفيّة إلى عدم اعتبار القيد ، لأنّ النّاس لا يتفاوتون فيه عادةً . فلم يكن التّقييد بسكناه مفيداً ، إلاّ إذا كان حدّاداً أو قصّاراً أو نحوهما ممّا يوهن عليه البناء .
وذهب المالكيّة والحنابلة إلى اعتبار القيد مطلقاً ما لم يكن مخالفاً للشّرع . وقال الشّافعيّة : لو شرط المؤجّر على المستأجر استيفاء المنفعة بنفسه فسد العقد ، كما لو شرط على مشترٍ أن لا يبيع العين للغير .
ثانياً : توريث الانتفاع :
31 - إذا كان سبب الانتفاع الإجارة أو الوصيّة ، فقد ذهب جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إلى أنّه يقبل التّوريث . فالإجارة لا تنفسخ بموت الشّخص المستأجر ، ويقوم وارثه مقامه في الانتفاع بها إلى أن تنتهي المدّة ، أو تفسخ الإجارة بأسبابٍ أخرى ، لأنّ الإجارة عقد لازم ، فلا تنفسخ بموت العاقد مع سلامة المعقود عليه . إلاّ أنّ الحنابلة قالوا : إن مات المكتري ، ولم يكن له وارث تنفسخ الإجارة فيما بقي من المدّة .
وكذلك الوصيّة بالمنفعة لا تنتهي بموت الموصى له ، لأنّها تمليك وليست إباحةً للزومها بالقبول ، فيجوز لورثته أن ينتفعوا بها بالمدّة الباقية ، لأنّه مات عن حقٍّ ، فهو لورثته . 32 - أمّا إذا كان سبب الانتفاع العاريّة ، فقد صرّح الشّافعيّة والحنابلة بعدم توريث الانتفاع بها ، لأنّها عقد غير لازمٍ ، تنفسخ بموت العاقدين . ولأنّ العاريّة إباحة الانتفاع عندهم ، فلا تصلح أن تنتقل إلى الغير حتّى في حياة المستعير .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ الانتفاع لا يقبل التّوريث مطلقاً . فالوصيّة بالمنفعة تبطل بموت الموصى له ، وليس لورثته الانتفاع بها ، كما تبطل العاريّة بموت المستعير ، والإجارة بموت المستأجر ، لأنّ المنافع لا تحتمل الإرث ، لأنّها تحدث شيئاً فشيئاً ، والّتي تحدث بعد الموت ليست موجودةً حين الموت ، حتّى تكون تركةً على ملك المتوفّى فتورث .
وعلى ذلك يعود ملك المنفعة بعد وفاة الموصى له بالمنفعة إلى الموصى له بالرّقبة ، إن كان قد أوصى بالرّقبة إلى آخر ، وإن لم يكن قد أوصى بها عاد ملك المنفعة إلى ورثة الموصي ، كما صرّح به الكاسانيّ .
ثالثاً : نفقات العين المنتفع بها :
33 - لا خلاف بين فقهاء المذاهب في أنّ نفقات العين المنتفع بها تكون على صاحب العين ، إذا كان الانتفاع بمقابلٍ ، لا على من له الانتفاع . وعلى ذلك فتكسية الدّار المستأجرة وإصلاح مرافقها وما وهن من بنائها على ربّ الدّار ( المؤجّر ) . وكذلك علف الدّابّة المستأجرة ومئونة ردّ العين المستأجرة على الآجر . حتّى إنّ الحنابلة قالوا : إن شرط المكري أنّ النّفقة الواجبة عليه تكون على المكتري فالشّرط فاسد .
وإذا أنفق المكتري على ذلك احتسب به على المكري . لكن الحنفيّة يقولون : إذا أصلح المستأجر شيئاً من ذلك لم يحتسب له بما أنفق ، لأنّه أصلح ملك غيره بغير أمره فكان متبرّعاً . كما ذهب الشّافعيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يجبر آجر الدّار على إصلاحها للمكتري ، ويخيّر السّاكن بين الانتفاع بالسّكنى ، فيلزمه الكراء والخروج منها .
34 - أمّا إذا كان الانتفاع بالمجّان ، كما في العاريّة والوصيّة ، فقد ذهب الحنفيّة - وهو قول عند المالكيّة في العاريّة ، والصّحيح عند الحنابلة في الوصيّة - إلى أنّ نفقات العين المنتفع بها تكون على من له الانتفاع . وعلى ذلك فعلف الدّابّة ونفقات الدّار المستعارة على المستعير ، كما أنّ نفقة الدّار الموصى بمنفعتها على الموصى له ، لأنّهما يملكان الانتفاع بالمجّان ، فكانت النّفقة عليهما ، إذ الغرم بالغنم . ولأنّ صاحبها فعل معروفاً فلا يليق أن يشدّد عليه . وقال الشّافعيّة : إنّ مئونة المستعار على المعير دون المستعير ، سواء أكانت العاريّة صحيحةً أم فاسدةً . فإن أنفق المستعير لم يرجع إلاّ بإذن حاكمٍ أو إشهاد بيّنةٍ على الرّجوع عند فقد الحاكم .
كذلك في الوصيّة بالانتفاع ، فإنّ الوارث أو الموصى له بالرّقبة هو الّذي يتحمّل نفقات العين الموصى بمنفعتها ، إن أوصى بمنفعتها مدّةً ، لأنّه هو المالك للرّقبة ، وكذلك للمنفعة فيما عدا تلك المدّة كما علّله الرّمليّ . وهذا هو أحد القولين عند المالكيّة في العاريّة ، وهو وجه عند الحنابلة في الوصيّة . وعلّله الخرشيّ بأنّها لو كانت على المستعير لكان كراءً ، وربّما كان علف الدّابّة ، أكثر من الكراء .
رابعاً : ضمان الانتفاع :
35 - الأصل أنّ الانتفاع المباح والمأذون بعينٍ من الأعيان لا يوجب الضّمان ، وعلى ذلك فمن انتفع بالمأجور على الوجه المشروع ، وبالصّفة الّتي عيّنت في العقد ، أو بمثلها ، أو دونها ضرراً ، أو على الوجه المعتاد فتلف لا يضمن ، لأنّ يد المكتري يد أمانةٍ مدّة الإجارة ، وكذا بعدها إن لم يستعملها استصحاباً لما كان .
ومن استعار عيناً فانتفع بها ، وهلكت بالاستعمال المأذون فيه بلا تعدٍّ لا يضمن عند الحنفيّة والشّافعيّة . وكذلك إذا هلكت بدون استعمالٍ عند الحنفيّة ، لأنّ ضمان العدوان لا يجب إلاّ على المتعدّي ، ومع الإذن بالقبض لا يوصف بالتّعدّي .
وعند الشّافعيّة يضمن إذا هلكت في غير حال الاستعمال ، لأنّه قبض مال الغير لنفسه لا عن استحقاقٍ ، فأشبه الغصب . وقال الحنابلة : العاريّة المقبوضة مضمونة بقيمتها يوم التّلف بكلّ حالٍ ، ولا فرق بين أن يتعدّى فيها أو يفرّط فيها أو لا . أمّا إذا انتفع بها وردّها على صفتها فلا شيء عليه .
وفرّق المالكيّة بين ما يغاب عليه ( يحتمل الإخفاء ) وبين ما لا يغاب عليه ، فقالوا : يضمن المستعير ما يغاب عليه ، كالحليّ والثّياب ، إن ادّعى الضّياع إلاّ ببيّنةٍ على ضياعه بلا سببٍ منه ، كذلك يضمن بانتفاعه بها بلا إذن ربّها إذا تلفت أو تعيّبت بسبب ذلك .
أمّا فيما لا يغاب عليه وفيما قامت البيّنة على تلفه فهو غير مضمونٍ . والانتفاع بالرّهن بإذن الرّاهن حكمه حكم العاريّة ، فلو هلك في حالة الاستعمال والعمل لا يضمن عند عامّة الفقهاء ، لأنّ الانتفاع المأذون لا يوجب الضّمان . وإذا انتفع به بدون إذن الرّاهن يضمن مع تفصيلٍ سبق ذكره .
36 - ويستثن من هذا الأصل الانتفاع بمال الغير حال الاضطرار ، فإنّه وإن كان مأذوناً شرعاً ، لكنّه يوجب الضّمان عند الجمهور ، عملاً بقاعدةٍ فقهيّةٍ أخرى هي : أنّ الاضطرار لا يبطل حقّ الغير . وذهب المالكيّة إلى عدم الضّمان عملاً بالأصل ، وهو أنّ الانتفاع المباح لا يوجب الضّمان . وهذا إذا لم يكن عند المضطرّ ثمن الطّعام ليشتريه ، لأنّه لم يتعلّق بذمّته كما علّل بذلك الدّردير .
37 - أمّا الانتفاع بالمغصوب الوديعة فموجب للضّمان عند جمهور الفقهاء ، لأنّه غير مأذونٍ فيه ، إلاّ ما ذكر الشّافعيّة في الوديعة من عدم ضمان لبس الثّوب لدفع العفونة وركوب ما لا ينقاد للسّقي . كذلك تضمن منفعة الدّار بالتّفويت والفوات ، بأن سكن الدّار وركب الدّابّة ، أو لم يفعل ذلك عند الشّافعيّة ، وهو ما تدلّ عليه نصوص المالكيّة والحنابلة ، ولكنّ المالكيّة قالوا : لو غصب العين لاستيفاء المنفعة ، لا لتملّك الذّات ، فتلفت العين المنتفع بها فلا يضمنها المتعدّي . فمن سكن داراً غاصباً للسّكنى ، فانهدمت من غير فعله فلا يضمن إلاّ قيمة السّكنى .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ منافع الأعيان المنقولة المغصوبة ليست بمضمونةٍ . فإذا غصب دابّةً فأمسكها أيّاماً ولم يستعملها ، ثمّ ردّها إلى يد مالكها لا يضمن ، لأنّه لم يوجد تفويت يد المالك عن المنافع ، لأنّها أعراض تحدث شيئاً فشيئاً . فالمنفعة الحادثة على يد الغاصب لم تكن موجودةً في يد المالك ، فلم يوجد تفويت يد المالك عنها . لكن إن كان المغصوب مال وقفٍ أو مال صغيرٍ أو كان معدّاً للاستغلال يلزمه ضمان المنفعة .
ويرجع لتفصيله إلى مصطلح ( ضمان ) .
خامساً : تسليم العين المنتفع بها :
38 - لا خلاف في أنّه يلزم تسليم العين المنتفع بها إلى من له الانتفاع ، إذا ثبت الانتفاع بالعقد اللّازم وبعوضٍ ، كالإجارة . فالمؤجّر مكلّف بعد انعقاد العقد أن يسلّم المأجور إلى المستأجر ، ويمكّنه من الانتفاع به عند عامّة الفقهاء . أمّا الانتفاع بالعقد غير اللّازم فلا يوجب تسليم العين للمنتفع ، كالإعارة ، فلا يلزم المعير أن يسلّم المستعار إلى المستعير ، لأنّ التّبرّع لا أثر له قبل القبض .
39 - أمّا ردّ العين المنتفع بها إلى مالكها ، فقد ذهب جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إلى أنّ الانتفاع إذا كان بدون عوضٍ كالعاريّة فردّ العين واجب على المستعير ، ممّن طلب المعير ذلك ، لأنّ العاريّة من العقود غير اللّازمة ، فلكلّ واحدٍ منهما ردّها متى شاء ، ولو مؤقّتةً بوقتٍ لم ينقض أمده ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « المنحة مردودة ، والعاريّة مؤدّاة » . ولأنّ الإذن هو السّبب لإباحة الانتفاع وقد انقطع بالطّلب . ولهذا لو كانت مؤقّتةً ، فأمسكها بعد مضيّ الوقت ، ولم يردّها حتّى هلكت ضمن .
ولكن إذا أعار أرضاً لزراعةٍ ورجع قبل إدراك الزّرع فعليه الإبقاء إلى الحصاد ، وله الأجرة من وقت وجوب إرجاعها إلى حصاد الزّرع . كما لو أعاره دابّةً ثمّ رجع في أثناء الطّريق ، فإنّ عليه نقل متاعه إلى مأمنٍ بأجر المثل .
وقال المالكيّة : لزمت العاريّة المقيّدة بعملٍ أو أجلٍ لانقضائه ، فليس لربّها أخذها قبله ، سواء كان المستعار أرضاً لزراعةٍ ، أو سكنى ، أو كان حيواناً أو كان عرضاً .
40 - أمّا إذا كان الانتفاع بعوضٍ كالإجارة ، فلا يكلّف المستأجر ردّ المأجور بعد الانقضاء ، وليس للآجر أن يستردّ المأجور قبل استيفاء المنفعة المعقودة ، ولا قبل مضيّ المدّة المقرّرة . وحكم بقاء الزّرع إلى الحصاد بعد انقضاء مدّة الإجارة كحكم العاريّة ، فللمستأجر أن يبقي الزّرع في الأرض إلى إدراكه بأجرة المثل .
لكنّ الشّافعيّة قيّدوه بما إذا لم يكن تأخير الزّراعة بسبب تقصير المستأجر والمستعير .
أمّا مؤنة ردّ العين المنتفع بها ، فقد اتّفقوا على أنّها في الإجارة على المؤجّر ، لأنّ العين المستأجرة مقبوضة لمنفعته بأخذ الأجر ، وعلى المستعير في العاريّة لأنّ الانتفاع له ، عملاً بقاعدة ( الغرم بالغنم ) .
إنهاء الانتفاع وانتهاؤه :
41 - إنهاء الانتفاع معناه وقف آثار الانتفاع في المستقبل بإرادة المنتفع أو مالك الرّقبة أو القاضي ، وعبّر عنه الفقهاء بلفظ ( فسخ ) . وانتهاء الانتفاع معناه أن تتوقّف آثاره بدون إرادة المنتفع أو مالك العين ، وعبّر عنه الفقهاء بلفظ ( انفساخ ) .
أوّلاً : إنهاء الانتفاع : ينهى الانتفاع في الحالات الآتية :
أ - الإرادة المنفردة :
42 - يمكن إنهاء الانتفاع بالإرادة المنفردة في عقود التّبرّع ، سواء أكان من قبل مالك الرّقبة أو المنتفع نفسه . فكما أنّ الوصيّة بالانتفاع يمكن إنهاؤها من قبل الموصى له في حياته ، يصحّ إنهاؤها من قبل الموصى له بعد موت الموصي . وكما أنّ الإعارة يمكن إنهاؤها من قبل المعير ، فله أن يرجع في أيّ وقتٍ شاء على رأي الجمهور ، خلافاً للمالكيّة كما تقدّم . كذلك يسوغ للمستعير أن يردّها أيّ وقتٍ شاء . لأنّ الإعارة والوصيّة من العقود غير اللّازمة من الطّرفين كالوكالة ، فلكلّ واحدٍ منهما فسخها متى شاء ، ولو مؤقّتةً بوقتٍ لم ينقض أمده ، إلاّ في صورٍ مستثناةٍ لدفع الضّرر .
ب - حقّ الخيار :
43 - يصحّ إنهاء الانتفاع باستعمال الخيار في بعض العقود كالإجارة ، فإنّها تفسخ بالعيب ، سواء أكان العيب مقارناً للعقد أو حادثاً بعده ، لأنّ المعقود عليه في الإجارة - وهي المنافع - يحدث شيئاً فشيئاً ، فما وجد من العيب يكون حادثاً قبل القبض في حقّ ما بقي من المنافع ، فيوجد الخيار .
كذلك يمكن إنهاء الانتفاع في الإجارة بفسخها بسبب خيار الشّرط ، وخيار الرّؤية عند من يقول به ، لأنّ الإجارة بيع المنافع ، فكما يجوز فسخ البيع بخيار الشّرط والرّؤية ، كذلك يصحّ إنهاء الانتفاع في الإجارة بسبب هذين الخيارين .
وتفصيل ذلك في خيار الشّرط وخيار الرّؤية .
44 - وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجوز إنهاء الانتفاع في حالة تعذّره ، وذلك في العقود اللّازمة ، كالإجارة . أمّا العقود غير اللّازمة كالإعارة فإنّها قابلة للفسخ بدون التّعذّر كما سبق . والتّعذّر أعمّ من التّلف عند المالكيّة ، فيشمل الضّياع والمرض والغصب وغلق الحوانيت قهراً . وقد توسّع الحنفيّة والحنابلة في إنهاء الانتفاع بسبب العذر . وعرّفه الحنفيّة بأنّه : عجز العاقد عن المضيّ بموجب العقد إلاّ بتحمّل ضررٍ زائدٍ ، كمن استأجر حانوتاً يتّجر فيه فأفلس .
وصرّح الحنابلة بأنّه إن تعذّر الزّرع بسبب غرق الأرض أو انقطاع مائها فللمستأجر الخيار . وإن قلّ الماء بحيث لا يكفي الزّرع فله الفسخ . وكذلك إذا انقطع الماء بالكلّيّة ، أو حدث بها عيب ، أو حدث خوف عامّ يمنع من سكنى المكان الّذي فيه العين المستأجرة . وقال الشّافعيّة : لا تنفسخ الإجارة بعذرٍ ، كتعذّر وقود الحمّام أو خراب ما حول الدّار والدّكّان . ومع ذلك فقد وافقوا الجمهور على جواز إنهاء الانتفاع في بعض الصّور حيث قالوا : إذا انقطع ماء أرضٍ للزّراعة فللمستأجر الخيار في الفسخ ، وما يمنع استيفاء المنفعة شرعاً يوجب الفسخ ، كما لو سكن ألم السّنّ المستأجر على قلعه .
ج - الإقالة :
45 - لا خلاف في أنّ الانتفاع يمكن إنهاؤه بسبب الإقالة ، وهي فسخ العقد بإرادة الطّرفين . وهذا إذا كان الانتفاع حاصلاً بسبب عقدٍ لازمٍ كالإجارة .
أمّا في غير العقد ، وفي العقود غير اللّازمة ، فلا يحتاج للإقالة ، لأنّه يمكن بالرّجوع عن الإذن أو الإرادة المنفردة ، كما تقدّم .
ثانياً : انتهاء الانتفاع :
ينتهي الانتفاع في الحالات الآتية :
أ - انتهاء المدّة :
46 - لا خلاف بين الفقهاء أنّ الانتفاع ينتهي بانتهاء المدّة المعيّنة أيّاً كان سببه ، فإذا أباح شخص لآخر الانتفاع من أملاكه الخاصّة لمدّةٍ معلومةٍ ينتهي الانتفاع بانتهاء تلك المدّة . وإذا آجره أو أعاره دابّةً لشهرٍ فإنّ الانتفاع بها ينتهي بمضيّ هذه المدّة ، وليس له أن ينتفع بها بعدها ، وإلاّ يكون غاصباً كما تقدّم .
ب - هلاك المحلّ أو غصبه :
47 - ينتهي الانتفاع بهلاك العين المنتفع بها عند عامّة الفقهاء . فتنفسخ الإجارة والإعارة والوصيّة بهلاك الدّابّة المستأجرة ، وبتلف العين المستعارة ، وبانهدام الدّار الموصى بمنفعتها . أمّا غصب المحلّ فموجب لفسخ العقد عند الجمهور ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض الحنفيّة ) لا للانفساخ . وقال بعض الحنفيّة : إنّ الغصب أيضاً موجب للانفساخ ، لزوال التّمكّن من الانتفاع .
ج - وفاة المنتفع :
سبق عند الكلام على توريث الانتفاع ما يتّصل بهذا السّبب . انظر فقرة ( 30 ) .
زوال الوصف المبيح :
48 - ينتهي الانتفاع كذلك بزوال الوصف المبيح كما في حالة الاضطرار ، حيث قالوا : إذا زالت حالة الاضطرار زال حلّ الانتفاع .
انتقال *
التّعريف :
1 - الانتقال في اللّغة : التّحوّل من موضعٍ إلى آخر . ويستعمل مجازاً في التّحوّل المعنويّ ، فيقال : انتقلت المرأة من عدّة الطّلاق إلى عدّة الوفاة . ويطلق عند الفقهاء على هذين المعنيين كما سيأتي .
الألفاظ ذات الصّلة :
الزّوال :
2-الزّوال في اللّغة بمعنى : التّنحّي ، ومعنى العدم .
والفرق بين الانتقال والزّوال : أنّ الزّوال يعني العدم في بعض الأحيان ، والانتقال لا يعني ذلك . وأيضاً : أنّ الانتقال يكون في الجهات كلّها ، أمّا الزّوال فإنّه يكون في بعض الجهات دون بعضٍ ، ألا ترى أنّه لا يقال : زال من سفلٍ إلى علوٍ . ويقال : انتقل من سفلٍ إلى علوٍ ، وثمّة فرق ثالث هو أنّ الزّوال لا يكون إلاّ بعد استقرارٍ وثباتٍ صحيحٍ أو مقدّرٍ ، تقول : زال ملك فلانٍ ، ولا تقول : ذلك إلاّ بعد ثبات الملك له ، وتقول : زالت الشّمس ، وهذا وقت الزّوال ، وذلك أنّهم يقدّرون أنّ الشّمس تستقرّ في كبد السّماء ثمّ تزول ، وذلك لما يظنّ من بطء حركتها . وليس كذلك الانتقال . فعلى هذا يكون الانتقال أتمّ من الزّوال .
الحكم التّكليفيّ :
قد يكون الانتقال واجباً ، وقد يكون جائزاً .
أ - الانتقال الواجب :
3 - إذا تعذّر الأصل وجب الانتقال إلى البدل ، والمتتبّع لأحكام الفقه يجد كثيراً من التّطبيقات لهذه القاعدة ، من ذلك أنّه إذا هلك المغصوب في يد الغاصب وجب مثله أو قيمته . وأنّ من عجز عن الوضوء لفقد الماء وجب عليه الانتقال إلى التّيمّم ، ومن عجز عن القيام في الصّلاة انتقل إلى القعود ، ومن عجز عن الصّيام لشيخوخةٍ وجبت عليه الفدية ، ومن عجز عن أداء صلاة الجمعة لمرضٍ أو غيره وجبت عليه صلاة الظّهر ، ومن أتلف لآخر شيئاً لا مثل له وجبت عليه قيمته ، وإذا لم يجد المصدّق - جابي الصّدقة - السّنّ المطلوبة من الإبل أخذ سنّاً أعلى منها ودفع الفرق ، أو أخذ سنّاً أدنى منها وأخذ الفرق ، ومن تزوّج امرأةً على خمرٍ وجب الانتقال إلى مهر المثل . ومن عجز عن خصال كفّارة اليمين انتقل إلى البدل وهو الصّيام ، وهكذا كلّ كفّارةٍ لها بدل ، يصار إلى البدل عند تعذّر الأصل .
ب - الانتقال الجائز :
4 - الانتقال الجائز قد يكون بحكم الشّرع ، وقد يكون باتّفاق الطّرفين ، ويجوز الانتقال من الأصل إلى البدل إذا كان في البدل مصلحة ظاهرة شرعاً ، فيجوز عند بعض الفقهاء الحنفيّة دفع بدل الواجب في الزّكاة ، والصّدقة ، وزكاة الفطر ، والنّذر ، والكفّارة ، والعشر ، والخراج . كما يجوز باتّفاق أصحاب العلاقة الانتقال من الواجب إلى البدل في دين القرض ، وبدل المتلفات مثلاً وقيمته ، وثمن المبيع ، والأجرة ، والصّداق ، وعوض الخلع ، وبدل الدّم ، ولا يجوز ذلك في دين المسلم .
أنواع الانتقال :
يتنوّع الانتقال إلى الأنواع الآتية :
أ - الانتقال الحسّيّ :
5 - إذا انتقلت الحاضنة من بلد الوليّ إلى آخر للاستيطان سقط حقّها في الحضانة . وينتقل القاضي أو نائبه أو من يندبه إلى المخدّرة ( وهي من لا تخرج في العادة لقضاء حاجتها ) والعاجزة لسماع شهادتها ، ولا تكلّف هي بالحضور إلى مجلس القاضي لأداء الشّهادة . ولا تنتقل المعتدّة رجعيّاً من بيعها إلاّ لضرورةٍ اقتضت ذلك
ب - انتقال الدّين :
6 - ينتقل الدّين الثّابت في الذّمّة إلى ذمّة شخصٍ آخر بالحوالة .
ج - انتقال النّيّة :
7 - انتقال النّيّة أثناء أداء العبادات البدنيّة المحضة يفسد تلك العبادة .
وقال الحنفيّة : لا تفسد إلاّ إذا رافقها شروع في غيرها ، ففي الصّلاة مثلاً : إذا انتقل وهو في الصّلاة من نيّة الفرض الّذي نواه إلى نيّة فرضٍ آخر ، أو إلى نفلٍ ، فسدت صلاته عند الجمهور ، وعند الحنفيّة لا تفسد إلاّ إذا كبّر للصّلاة الأخرى .
وإذا فسدت صلاته ، فهل تصحّ الصّلاة الجديدة الّتي انتقل إليها ؟
قال الجمهور : لا تصحّ ، وقال الحنفيّة : تصحّ مستأنفةً من حين التّكبير ، وقال بعضهم : إن نقل نيّة الفرض إلى النّفل صحّ النّفل ، وقال آخرون : لا تصحّ . ومن صور انتقال النّيّة أيضاً نيّة المقتدي الانفصال عن الإمام ، وقد أجاز ذلك بعض الأئمّة ومنعه آخرون ،
وتفصيل ذلك في مصطلح ( اقتداء ) .
د - انتقال الحقوق :
الحقوق من حيث قابليّتها للانتقال على نوعين ، حقوقٍ تقبل الانتقال ، وحقوقٍ لا تقبل الانتقال .
- 1 - الحقوق الّتي لا تقبل الانتقال :
8 - أوّلاً : الحقوق المتعلّقة بشخص الإنسان ، وتتعلّق بإرادته ، وهي حقوق غير ماليّةٍ في الغالب كاللّعان ، والفيء بعد الإيلاء ، والعود في الظّهار ، والاختيار بين النّسوة اللّاتي أسلم عليهنّ إذا كنّ أكثر من أربعٍ ، واختيار إحدى زوجتيه الأختين اللّتين أسلم عليهنّ ، وحقّ الزّوجة في الطّلاق بسبب الضّرر ونحوه ، وحقّ الوليّ في فسخ النّكاح لعدم الكفاءة ، وما فوّض إليه من الولايات والمناصب كالقضاء والتّدريس والأمانات والوكالات ونحو ذلك .
وقد تكون حقوقاً ماليّةً ، كحقّ الفسخ بخيار الشّرط ، وحقّ الرّجوع بالهبة ، وحقّ الخيار في قبول الوصيّة ، إذ لا تنتقل هذه الحقوق إلى الورثة بالموت .
على خلافٍ وتفصيلٍ يعرف في أبوابها
9 - ثانياً : حقوق اللّه تعالى البدنيّة الخالصة المفروضة فرضاً عينيّاً ، كالصّلاة ، والصّيام ، والحدود إلاّ القذف لما فيه من حقّ العبد .
- 2 - الحقوق الّتي تقبل الانتقال :
10 - قال القرافيّ : من الحقوق ما ينتقل إلى الوارث ، ومنها ما لا ينتقل ، فمن حقّ الإنسان أن يلاعن عند سبب اللّعان ، وأن يفيء بعد الإيلاء ، وأن يعود بعد الظّهار ، وأن يختار من نسوةٍ إذا أسلم عليهنّ ، وهنّ أكثر من أربعٍ ، وأن يختار إحدى الأختين إذا أسلم عليهنّ ، وإذا حمل المتبايعان له الخيار فمن حقّه أن يملك إمضاء البيع عليهما وفسخه ، ومن حقّه ما فوّض إليه من الولايات والمناصب ، كالقصاص والإمامة والخطابة وغيرهما ، وكالأمانة والوكالة ، فجميع هذه الحقوق لا ينتقل للوارث منها شيء ، وإن كانت ثابتةً للمورث . بل الضّابط لما ينتقل إليه ما كان متعلّقاً بالمال ، أو يدفع ضرراً عن الوارث في عرضه بتخفيف ألمه . وما كان متعلّقاً بنفس المورث وعقله وشهواته لا ينتقل للوارث . والسّرّ في الفرق أنّ الورثة يرثون المال فيرثون ما يتعلّق به تبعاً له ، ولا يرثون عقله ولا شهوته ولا نفسه ، فلا يرثون ما يتعلّق بذلك ، وما لا يورث لا يرثون ما يتعلّق به ، فاللّعان يرجع إلى أمرٍ يعتقده لا يشاركه فيه غيره غالباً ، والاعتقادات ليست من باب المال ، والفيئة شهوته ، والعود إرادته ، واختيار الأختين والنّسوة إربه وميله ، وقضاؤه على المتبايعين عقله وفكرته ورأيه ومناصبه وولاياته وآراؤه واجتهاداته وأفعاله الدّينيّة فهو دينه ، ولا ينتقل شيء من ذلك للوارث ، لأنّه لم يرث مستنده وأصله .
وانتقل للوارث خيار الشّرط في البيعات ، وقاله الشّافعيّ رحمه الله تعالى ، وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبلٍ : لا ينتقل إليه . وينتقل للوارث خيار الشّفعة عندنا ( عند المالكيّة ) وخيار التّعيين إذا اشترى موروثه عبداً من عبدين على أن يختار ، وخيار الوصيّة إذا مات الموصى له بعد موت الموصي ، وخيار الإقالة والقبول إذا أوجب البيع لزيدٍ فلوارثه القبول والرّدّ . وقال ابن الموّاز : إذا قال : من جاءني بعشرةٍ فغلامي له ، فمتى جاء أحد بذلك إلى شهرين لزمه ، وخيار الهبة وفيه خلاف ، ومنع أبو حنيفة خيار الشّفعة ، وسلّم خيار الرّدّ بالعيب ، وخيار تعدّد الصّفقة ، وحقّ القصاص ، وحقّ الرّهن ، وحبس المبيع ، وخيار ما وجد من أموال المسلمين في الغنيمة فمات ربّه قبل أن يختاره أخذه بعد القسمة ، ووافقناه نحن على خيار الهبة في الأب للابن بالاعتصار ، وخيار العتق واللّعان والكتابة والطّلاق ، بأن يقول : طلّقت امرأتي متى شئت ، فيموت المقول له ، وسلّم الشّافعيّ جميع ما سلّمناه ، وسلّم خيار الإقالة والقبول .
هـ - انتقال الأحكام :
11 - أوّلاً : إذا طلّق الرّجل زوجته غير الحامل ، ثمّ مات عنها وهي في العدّة فإنّها تنتقل من عدّة الطّلاق إلى عدّة الوفاة في الجملة . وإذا طلّقها وهي صغيرة لا تحيض ، فابتدأت عدّتها بالأشهر ثمّ حاضت ، انتقلت عدّتها إلى الحيض .
12 - ثانياً : حجب النّقصان ينتقل فيه الوارث من فرضٍ إلى فرضٍ أقلّ ، فالزّوج - مثلاً - ينتقل فرضه من النّصف إلى الرّبع ، عند وجود الفرع الوارث .
انتهاب *
التّعريف :
1 - الانتهاب في اللّغة من نهب نهباً : إذا أخذ الشّيء بالغارة والسّلب . والنّهبة ، والنّهبى : اسم للانتهاب ، واسم للمنهوب .
ويعرّف الفقهاء الانتهاب بقولهم : أخذ الشّيء قهراً ، أي مغالبةً .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاختلاس :
2 - يفترق الانتهاب عن الاختلاس ، إذ الاعتماد في الاختلاس على سرعة الأخذ ، بخلاف الانتهاب ، فإنّ ذلك غير معتبرٍ فيه . وأيضاً فإنّ الاختلاس يستخفي فيه المختلس في ابتداء اختلاسه ، والانتهاب لا يكون فيه استخفاء في أوّله ولا آخره .
ب - الغصب :
3 - يفترق الانتهاب عن الغصب : في أنّ الغصب لا يكون إلاّ في أخذ ممنوعٍ أخذه ، والانتهاب قد يكون في ممنوعٍ أخذه ، وفيما أبيح أخذه .
ج - الغلول :
4 - الغلول : الأخذ من الغنيمة قبل القسمة ، وليس من الغلول أخذ الغزاة ما يحتاجون إليه من طعامٍ ونحوه ، أو الانتفاع بالسّلاح مع إعادته عند الاستغناء عنه ، فهذا من الانتهاب المأذون به من الشّرع ، وكذلك أخذ السّلب بشروطه ، ر : ( غلول ، سلب ، غنائم ) .
أنواع الانتهاب :
5 - الانتهاب على ثلاثة أنواعٍ :
أ - نوع لا تسبقه إباحة من المالك .
ب - نوع تسبقه إباحة من المالك ، كانتهاب . النّثار الّذي ينثر على رأس العروس ونحو ذلك ، فإنّ ناثره - المالك - أباح للنّاس انتهابه .
ج - نوع أباحه المالك ليؤكل على وجهٍ ما يؤكل به ، فانتهبه النّاس ، كانتهاب المدعوّين طعام الوليمة .
حكمه التّكليفيّ :
6 - اتّفق الفقهاء على تحريم النّوع الأوّل من الانتهاب - وهو انتهاب ما لم يبحه مالكه - لأنّه نوع من الغصب المحرّم بالإجماع . ويجب فيه التّعزير ، وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب السّرقة وكتاب الغصب .
7- أمّا النّوع الثّاني من الانتهاب ، كانتهاب النّثار ، فقد اختلف فيه الفقهاء ، فمنهم من منعه تحريماً له كالشّوكانيّ ، ومنهم من منعه كراهةً له كأبي مسعودٍ الأنصاريّ ، وإبراهيم النّخعيّ وعطاء بن أبي رباحٍ وعكرمة وابن أبي ليلى وابن شبرمة وابن سيرين والشّافعيّ ومالكٍ وأحمد في إحدى الرّوايتين عنه .
واستدلّ القائلون بالتّحريم بما ورد من « نهي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن النّهبى » . واستدلّ الآخرون : بأنّ الانتهاب المحرّم الّذي ورد النّهي عنه هو ما كانت عليه العرب في الجاهليّة من الغارات ، وعلى الامتناع منه وقعت البيعة في حديث عبادة عند البخاريّ « بايعنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على ألاّ ننتهب » .
أمّا انتهاب ما أباحه مالكه فهو مباح ، ولكنّه يكره لما في الالتقاط من الدّناءة .
وأمّا من أباح الانتهاب ، فقد قال : إنّ تركه أولى ، ولكن لا كراهة فيه ، ومن هؤلاء : الحسن البصريّ ، وعامر الشّعبيّ وأبو عبيدٍ القاسم بن سلّامٍ وابن المنذر والحنفيّة وبعض الشّافعيّة وبعض المالكيّة وأحمد بن حنبلٍ في روايةٍ ثانيةٍ عنه .
واستدلّ هؤلاء بما روته أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تزوّج بعض نسائه ، فنثر عليه التّمر » . وبما روى عبد اللّه بن قرطٍ رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « أحبّ الأيّام إلى اللّه يوم النّحر ثمّ يوم عرفة . فقرّبت إليه بدناتٍ خمساً أو ستّاً فطفقن يزدلفن إليه بأيّتهنّ يبدأ ، فلمّا وجبت - سقطت - جنوبها ، قال كلمةً خفيفةً لم أفهمها - أي لم يفهمها الرّاوي وهو عبد اللّه بن قرطٍ - فقلت للّذي كان إلى جنبي : ما قال رسول اللّه ؟ فقال- قال : من شاء اقتطع » .
« وشهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إملاك شابٍّ من الأنصار فلمّا زوّجوه قال : على الألفة والطّير الميمون والسّعة والرّزق ، بارك اللّه لكم ، دفّفوا على رأس صاحبكم ، فلم يلبث أن جاءت الجواري معهنّ الأطباق عليها اللّوز والسّكّر ، فأمسك القوم أيديهم ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : ألا تنتهبون ، فقالوا : يا رسول اللّه إنّك نهيت عن النّهبة ، قال : تلك نهبة العساكر ، فأمّا العرسات فلا ، فرأيت رسول اللّه يجاذبهم ويجاذبونه » .
8 - أمّا النّوع الثّالث : وهو ما أباحه مالكه لفئةٍ من النّاس ليتملّكوه دون انتهابٍ ، بل على وجه التّساوي ، أو على وجهٍ يقرب من التّساوي - كوضعه الطّعام أمام المدعوّين إلى الوليمة - فإنّ انتهابه حرام لا يحلّ ولا يجوز ، لأنّ مبيحه إنّما أراد أن يتساووا في أكله - مثلاً - فمن أخذ منه أكثر ممّا كان يأكل منه مع أصحابه على وجه الأكل ، فقد أخذ حراماً وأكل سحتاً . وقد ذكر الفقهاء ذلك عند حديثهم عن الوليمة في كتاب النّكاح .
أثر الانتهاب :
9 - يملك المنتهب ما انتهبه ممّا أباحه مالكه بالانتهاب بأخذه ، لأنّه مباح ، وتملك المباحات بالحيازة . أو هو هبة ، فيملك بما تملك به الهبات .
أنثيان *
التّعريف :
1 - الأنثيان : الخصيتان ، وهما في الاصطلاح بهذا المعنى .
الحكم الإجماليّ :
2 - أ - الأنثيان من العورة المغلّظة فتأخذ حكمها ( ر : عورة ) .
ب - الاختصاء والإخصاء والجبّ للإنسان حرام لنهي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عبد اللّه بن مسعودٍ عن الاختصاء ، فعن إسماعيل بن قيسٍ قال : قال عبد اللّه : « كنّا نغزو مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وليس لنا شيء ، فقلنا : ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك » . وقيل : نزل في هذا { يا أيّها الّذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ اللّه لكم } ،
وفي الباب جملة من الأحاديث الّتي تحرّم ذلك .
ج - في الجناية على الخصيتين في غير العمد الدّية ، وفي إحداهما نصف الدّية ، فإن قطع أنثييه فذهب نسله لم يجب أكثر من الدّية ، وإن ذهب نسله بقطع إحداهما لم يجب أكثر من نصف الدّية . ( ر : دية ) .
أمّا في العمد ففيهما القصاص عند الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة ، وأمّا الحنفيّة فلا يوجبون في الأنثيين القصاص لأنّ ذلك لا يعلم له مفصل فلا يمكن استيفاء المثل . ( ر : قصاص ) .
قطع أنثيي الحيوان :
3 - ذهب بعض الفقهاء إلى جوازه قطع أنثيي الحيوان ، وذهب بعضهم إلى كراهته ، على خلافٍ وتفصيلٍ ينظر في مصطلح ( إخصاء ) .
انحصار *
انظر : حصر .
انحلال *
التّعريف :
1 - الانحلال لغةً : الانفكاك ، وفي دستور العلماء الانحلال : بطلان الصّورة .
والانحلال عند الفقهاء بمعنى البطلان ، والانفكاك ، والانفساخ ، والفسخ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - البطلان :
2 - يطلق الفقهاء الانحلال بمعنى البطلان ، إلاّ أنّ البطلان يكون في المنعقد وغيره ، أمّا الانحلال فلا يتصوّر إلاّ في الشّيء المنعقد ، أمّا غير المنعقد فلا حلّ له .
ب - الانفساخ :
يعبّر الفقهاء في المسألة الواحدة تارةً بالانفساخ وتارةً بالانحلال . ونقل الحطّاب عن بعض المالكيّة أنّ الانفساخ لا يطلق في العقود الجائزة إلاّ مجازاً .
الحكم الإجماليّ ، ومواطن البحث :
3 - يرد لفظ الانحلال في كلام الفقهاء أكثر ما يرد في الأيمان ، والطّلاق ، والعقود .
ففي الأيمان : متى كانت اليمين على فعل واجبٍ أو ترك محرّمٍ كان حلّها محرّماً ، لأنّ حلّها بفعل المحرّم ، وهو محرّم . وإن كانت على فعل مندوبٍ أو ترك مكروهٍ فحلّها مكروه ، وإن كانت على فعل مباحٍ فحلّها مباح ، وإن كانت على فعل مكروهٍ أو ترك مندوبٍ فحلّها مندوب إليه . فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا حلفت على يمينٍ فرأيت غيرها خيراً منها فأت الّذي هو خير ، وكفّر عن يمينك » .
وإن كانت اليمين على فعل محرّمٍ أو ترك واجبٍ ، فحلّها واجب لأنّ حلّها بفعل الواجب ، وفعل الواجب واجب .
هذا من حيث أصل الحكم التّكليفيّ لحلّ اليمين . أمّا أثره فهو الكفّارة في اليمين المنعقدة على تفصيلٍ ينظر في ( الأيمان ) .
أسباب انحلال اليمين :
4 - لانحلال اليمين أسباب منها :
أ - حصول ما علّق عليه الحالف : فتنحلّ اليمين بوقوع ما علّق عليه ، إلاّ إن كانت أداة التّعليق تقتضي التّكرار فاليمين تتكرّر معها ، فلو قال لزوجته : إن خرجت بغير إذني فأنت طالق ، انحلّت اليمين بالخروج مرّةً واحدةً .
ب - زوال محلّ البرّ : كما لو قال إن كلّمت فلاناً أو دخلت هذه الدّار فأنت طالق ، فمات فلان أو جعلت الدّار بستاناً بطل اليمين . وانظر بحث ( أيمان )
ج - البرّ ، والحنث : فلو فعل ما حلف على فعله انحلّت يمينه ، وكذا تنحلّ لو انعقدت ثمّ حصل الحنث بوقوع ما حلف على نفيه .
د - الاستثناء : تنحلّ به اليمين بشروطٍ وتفصيلاتٍ تذكر في بابي الطّلاق والأيمان ، وقد يختلف ذلك في اليمين باللّه عن غيرها في بعض الصّور .
هـ- زوال ملك النّكاح : تنحلّ به اليمين بالطّلاق عند بعض الفقهاء ومنعه البعض .
ومن الأمثلة على انفكاك اليمين إذا زال ملك النّكاح : ما إذا قال لزوجته أنت طالق ثلاثاً إن فعلت كذا ، ثمّ خالعها قبل وقوع ما علّق عليه ، فإنّ اليمين تنفكّ ، ولو عقد عليها من جديدٍ فإنّها لا تطلق إن فعلت ما علّق قبل الخلع ، والبعض منع ذلك إن كان بقصد الاحتيال .
و - الرّدّة : تنحلّ بها اليمين عند البعض دون البعض الآخر .
ز - ويتمّ الانحلال في العقود بأسبابٍ منها : حلّ العقد غير اللّازم من كلا المتعاقدين ، أو ممّن هو غير لازمٍ في حقّه ، ومنها الفسخ بالتّراضي أو بحكم القضاء ، ومنها الإقالة . ويرجع إلى كلٍّ من هذه الأسباب في موضعه .
انحناء *
التّعريف :
1 - الانحناء في اللّغة مصدر : حنى ، فالانحناء : الانعطاف والاعوجاج عن وجه الاستقامة . يقال للرّجل إذا انحنى من الكبر حناه الدّهر ، فهو محنيّ ومحنوّ .
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الرّكوع :
2 - الرّكوع نوع من الانحناء ، إلاّ أنّه في الصّلاة على هيئةٍ مخصوصةٍ سيأتي بيانها .
ب - السّجود :
السّجود وضع الجبهة على الأرض ، وهو يجتمع مع الانحناء بجامع الميل ، إلاّ أنّ الميلان في السّجود أكثر بوصول الجبهة إلى الأرض .
ج - الإيماء :
الإيماء هو أن تشير برأسك أو بيدك أو بعينك أو بحاجبك أو بأقلّ من هذا ، كما يومئ المريض برأسه للرّكوع والسّجود . وقد يكون الإيماء بدون انحناءٍ .
الحكم التّكليفيّ :
3 - يختلف حكم الانحناء باختلاف السّبب الباعث عليه :
فقد يكون الانحناء مباحاً ، كالانحناء الّذي يقوم به المسلم في أعماله اليوميّة .
وقد يكون فرضاً في الصّلاة لا تصحّ إلاّ به ، كما هو في الرّكوع في الصّلاة للقادر عليه . وقد نصّ الفقهاء على أنّه يكون على صورةٍ مخصوصةٍ ومقدارٍ معيّنٍ ، وهو عند جمهور الفقهاء بقدر ما يمدّ يديه فتنال ركبتيه عند الشّخص المعتدل القامة . وتفصيل هذا في ( ركوع ) .
وقد يكون محرّماً ، كالانحناء تعظيماً لإنسانٍ أو حيوانٍ أو جمادٍ . وهذا من الضّلالات والجهالات . وقد نصّ الفقهاء على أنّ الانحناء عند الالتقاء بالعظماء ككبار القوم والسّلاطين تعظيماً لهم حرام باتّفاق العلماء . لأنّ الانحناء لا يكون إلاّ للّه تعالى تعظيماً له ، ولقوله لرجلٍ قال له : « يا رسول اللّه ، الرّجل منّا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له ؟ قال صلى الله عليه وسلم : لا » .
أمّا إن كان ذلك الانحناء مجرّد تقليدٍ للمشركين ، دون قصد التّعظيم للمنحنى له فإنّه مكروه ، لأنّه يشبه فعل المجوس . قال ابن تيميّة : الانحناء للمخلوق ليس من السّنّة ، وإنّما هو مأخوذ من عادات بعض الملوك والجاهلين .
أمّا لو أكره على الانحناء للسّلطان وغيره فتجري عليه أحكام الإكراه بشروطه ، لما فيه من معنى الكفر . وتفصيله في بحث ( إكراه ) .
انحناء المصلّي أثناء القيام :
القيام المطلوب في الصّلاة وغيرها قد يعتريه شيء من الانحناء لسببٍ أو آخر ، فإن كان قليلاً بحيث يبقى اسم القيام موجوداً ، ولا يصل إلى حدّ الرّكوع المطلوب في الصّلاة فإنّه لا يخلّ بصفة القيام المطلوب في الصّلاة عند جمهور الفقهاء ، وقد سمّاه الحنفيّة قياماً غير تامٍّ . واختلفوا في اقتداء المستوي خلف الأحدب ، فقال الحنفيّة والشّافعيّة بجوازه ، وقيّده بعض الحنفيّة بأن لا تبلغ حدبته حدّ الرّكوع ، وتمييز قيامه عن ركوعه ، وقال المالكيّة بجوازه مع الكراهة ، ومنعه الحنابلة مطلقاً .
اندراس *
التّعريف :
1 - الاندراس : مصدر اندرس ، وأصل الفعل درس ، يقال : درس الشّيء ، واندرس أي : عفا وخفيت آثاره ، ومثله الانمحاء بمعنى ذهاب الأثر .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن هذا ، حيث يستعمله الفقهاء في ذهاب معالم الشّيء وبقاء أثره فقط .
الألفاظ ذات الصّلة :
الإزالة - والزّوال :
2 - الإزالة لغةً : مصدر أزلته إذا نحّيته فزال . ومن معاني الزّوال الهلاك والانتهاء . تقول : زال ملك فلانٍ إذا انتهى ، ولا يكون الزّوال إلاّ بعد الاستقرار والثّبوت ، فالزّوال على هذا يشترك مع الاندراس في الانتهاء ، وإن كان يفترق عنه ، فيطلق على تنحية الشّيء من مكان إلى آخر مع بقاء ذاته . ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ عن هذه المعاني .
الحكم الإجماليّ :
للاندراس أحكام تختلف بحسب موضوعه :
أ - اندراس المساجد :
3 - الكلام عن الاندراس في المسجد يتناول ما إذا استغنى النّاس عن المسجد بأن يخلو عن المصلّين في المحلّة ، أو أن يخرب بحيث لا ينتفع به بالكلّيّة ، فذهب أبو حنيفة ومالك والشّافعيّ ، وهي الرّواية المرجوحة عن أحمد ، ورواية عن أبي يوسف إلى أنّه يبقى مسجداً ، ولا يباح ولا يرجع إلى الواقف ، بل يبقى مسجداً عند أبي حنيفة وأبي يوسف إلى قيام السّاعة . وذهب محمّد بن الحسن إلى أنّه يعود ملكاً للواقف أو ورثته .
وذهب الحنابلة في الرّواية الرّاجحة عن أحمد ، وهي الرّواية الأخرى عن أبي يوسف إلى جواز بيع بعضه لإصلاح باقيه ، إن أمكن ذلك ، وإن لم يمكن الانتفاع بشيءٍ منه بيع جميعه ، ووضع ثمنه في مسجدٍ آخر .
وهذا الحكم في بقعة المسجد ، أمّا أنقاضه فتنقل إلى أقرب مسجدٍ ، فإن لم يحتج إليها توضع في مدرسةٍ ونحوها من أماكن الخيرات .
وقال الحنابلة ، وهو قول بعض المالكيّة : يجوز بيعها ووضع ثمنها في مسجدٍ آخر .
ب - اندراس الوقف :
4 - معنى اندراس الوقف أنّه أصبح بحالةٍ لا ينتفع به بالكلّيّة ، بألاّ يحصل منه شيء أصلاً ، أو لا يفي بمئونته ، كأوقاف المسجد إذا تعطّلت وتعذّر استغلالها . في هذه الصّورة جوّز جمهور الحنفيّة الاستبدال على الأصحّ عندهم إذا كان بإذن القاضي ورأيه لمصلحةٍ فيه . وأمّا المالكيّة فقد أجاز جمهورهم استبدال الوقف المنقول فقط إذا دعت إلى ذلك مصلحة ، وهي الرّواية المشهورة عن مالكٍ . قال الخرشيّ : إنّ الموقوف إذا لم يكن عقاراً - إذا صار لا ينتفع به في الوجه الّذي وقف فيه كالثّوب يخلق ، والفرس يمرض ، وما أشبه ذلك - فإنّه يباع ويشتري مثله ممّا ينتفع به .
وأمّا العقار فقد منع المالكيّة استبداله مع شيءٍ من التّفصيل . ففي المساجد : أجمع المالكيّة على عدم جواز بيعها . وفي الدّور والحوانيت إذا كانت قائمة المنفعة لا يجوز بيعها ، واستثنوا توسيع المسجد أو المقبرة أو الطّريق العامّ فأجازوا بيعه ، لأنّ هذا من المصالح العامّة للأمّة ، واذا لم تبع الأحباس لأجلها تعطّلت ، وأصاب النّاس ضيق ، ومن الواجب التّيسير على النّاس في عبادتهم وسيرهم ودفن موتاهم .
وأمّا الشّافعيّة فقد شدّدوا كثيراً في استبدال العين الموقوفة ، حتّى أوشكوا أن يمنعوه مطلقاً خشية ضياع الوقف أو التّفريط فيه . قال النّوويّ : والأصحّ جواز بيع حصر المسجد إذا بليت ، وجذوعه إذا انكسرت ، ولم تصلح إلاّ للإحراق . ولو انهدم مسجد وتعذّر إعادته لم يبع بحالٍ ، وتصرف غلّة وقفه إلى أقرب المساجد إليه .
ثمّ إنّ المسجد المنهدم لا ينقض إلاّ إذا خيف على نقضه ، فينقض ويحفظ أو يعمّر به مسجد آخر إن رآه الحاكم ، والأقرب إليه أولى ، ولا يصرف نقضه لنحو بئرٍ وقنطرةٍ ورباطٍ . واستدلّوا بقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يباع أصلها ولا تبتاع ولا توهب ولا تورث » . وأمّا الحنابلة : فلم يفرّقوا بين عقارٍ ومنقولٍ في جواز الاستبدال وعدمه ، وأخذوا حكم العقار من حكم المنقول ، فكما أنّ الفرس الحبيسة على الغزو إذا كبرت ولم تصلح للغزو ، وصلحت لشيءٍ آخر يجوز بيعها ، فكذلك يقاس المنقول الآخر وغير المنقول عليها . فبيع المسجد للحنابلة لهم فيه روايتان :
الرّواية الأولى : يجوز بيع المسجد إذا صار المسجد غير صالحٍ للغاية المقصودة منه ، كأن ضاق المسجد ، أو خربت النّاحية ، وحينئذٍ يصرف ثمنه في إنشاء مسجدٍ آخر يحتاج إليه في مكان آخر . قال ابن قدامة : إنّ الوقف إذا خرب وتعطّلت منافعه ، كدارٍ انهدمت ، أو أرضٍ خربت وعادت مواتاً ولم تمكن عمارتها ، أو مسجدٍ انتقل أهل القرية عنه وصار في موضعٍ لا يصلّى فيه ، أو ضاق بأهله ولم يمكن توسيعه في موضعه ، أو تشعّب جميعه ، ولم تمكن عمارته ، ولا عمارة بعضه إلاّ ببيع بعضه ، جاز بيع بعضه لتعمّر به بقيّته ، وإن لم يمكن الانتفاع بشيءٍ منه بيع جميعه .
والرّواية الثّانية : لا يجوز بيع المساجد . روى عليّ بن سعيدٍ أنّ المساجد لا تباع وإنّما تنقل آلتها . وقد رجّح ابن قدامة الرّواية الأولى .
ج - اندراس قبور الموتى :
5 - ذهب جماهير العلماء إلى أنّ الميّت المسلم إذا بلي وصار تراباً جاز نبش قبره ودفن غيره فيه ، أمّا إذا بقي شيء من عظامه - غير عجب الذّنب - فلا يجوز نبشه ولا الدّفن فيه لحرمة الميّت ، ويعرف ذلك أهل الخبرة . إلاّ أنّ صاحب التتارخانية من الحنفيّة يرى أنّ الميّت إذا صار تراباً في القبر يكره دفن غيره في قبره ، لأنّ الحرمة باقية .
قال ابن عابدين معقّباً على هذا : لكن في ذلك مشقّة عظيمة ، فالأولى إناطة الجواز بالبلى ، إذ لا يمكن أن يعدّ لكلّ ميّتٍ قبر لا يدفن فيه غيره وإن صار الأوّل تراباً لا سيّما في الأمصار الكبيرة الجامعة ، وإلاّ لزم أن تعمّ القبور السّهل والوعر . على أنّ المنع من الحفر إلى ألاّ يبقى عظم عسر جدّاً ، وإن أمكن ذلك لبعض النّاس ، لكن الكلام في جعله حكماً عامّاً لكلّ أحدٍ . واختلفوا في جواز الحرث والزّراعة والبناء في المقبرة المندرسة ، فأجازه الحنفيّة والحنابلة ، ومنعه المالكيّة ، ولم نعثر على نصٍّ للشّافعيّة في ذلك . وأمّا قبور المشركين فذهب الفقهاء إلى جواز نبشها ، ليتّخذ مكانها مسجداً ، لأنّ موضع مسجد النّبيّ كان قبوراً للمشركين .
إحياء المندرس :
6 - سبق في إحياء الموات - من أبحاث الموسوعة - أنّ من أحيا أرضاً ميّتةً ثمّ تركها حتّى ، اندرست ، فهل تصير مواتاً إذا أحياها غيره ملكها ، أو تبقى على ملك الأوّل ؟
ذهب الشّافعيّة والحنابلة ، وهو أصحّ القولين عند الحنفيّة ، وأحد أقوالٍ ثلاثةٍ عند المالكيّة إلى أنّها تبقى على ملك الأوّل ، ولا يملكها الثّاني بالإحياء ، مستدلّين بقوله صلى الله عليه وسلم : « من أحيا أرضاً ميّتةً ليست لأحدٍ فهي له » . ولأنّ هذه أرض يعرف مالكها فلم تملك بالإحياء ، كالّتي ملكت بشراءٍ أو عطيّةٍ .
وفي قولٍ ثانٍ للمالكيّة ، وهو قول عند الحنفيّة : إنّ الثّاني يملكها ، قياساً على الصّيد ، إذا أفلت ولحق بالوحش وطال زمانه ، فهو للثّاني . وفي قولٍ ثالثٍ للمالكيّة : التّفريق بين أن يكون الأوّل أحياه أو اختطّه أو اشتراه ، فإن كان الأوّل أحياه كان الثّاني أحقّ به ، وإن كان الأوّل اختطّه أو اشتراه كان الأوّل أحقّ به .
إنذار *
التّعريف :
1 - الإنذار لغةً : مصدر أنذره الأمر ، إذا أبلغه وأعلمه به ، وأكثر ما يستعمل في التّخويف ، يقال : أنذره إذا خوّفه وحذّر بالزّجر عن القبيح .
وفي تفسير القرطبيّ : لا يكاد الإنذار يكون إلاّ في تخويفٍ يتّسع مع زمانه للاحتراز ، فإن لم يتّسع زمانه للاحتراز كان إشعاراً ، ولم يكن إنذاراً .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإعذار :
2 - العذر : الحجّة الّتي يعتذر بها ، والجمع أعذار ، وأعذر إعذاراً : أبدى عذراً ، ويكون أعذر بمعنى اعتذر ، وأعذر ثبت له عذر . وفي التّبصرة : الإعذار المبالغة في العذر ، ومنه : قد أعذر من أنذر ، أي قد بالغ في الإعذار من تقدّم إليك فأنذرك .
وقال ابن عرفة : الإعذار سؤال الحاكم من توجّه عليه الحكم : هل له ما يسقطه ؟ وإذن ، فالإنذار يمكن أن يكون إعذاراً إن كان فيه إثبات الحجّة للمنذر ، ودحض حجّة المنذر إذا ما وقع به الضّرر .
ب - النّبذ :
3 - النّبذ : طرح الشّيء ، والنّبذ : إعلام العدوّ بترك الموادعة ، وقوله تعالى : { فانبذ إليهم } أي قل لهم : قد نبذت إليكم عهدكم ، وأنا مقاتلكم ، ليعلموا ذلك .
فالنّبذ مقصود به طرح العهد وعدم الالتزام به . والأمر بالنّبذ في الآية الكريمة يجمع بين الأمرين : طرح العهد ، وإعلامهم بذلك . فهو نوع من الإنذار .
ج - المناشدة :
4 - نشد الضّالّة : طلبها وعرّفها ، ونشدتك اللّه : أي سألتك باللّه ، والمناشدة : المطالبة باستعطافٍ ، وناشده مناشدةً : حلّفه ، وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّي أنشدك عهدك ... » أي أذكّرك ما عاهدتني به ووعدتني وأطلبه منك .
والمناشدة أيضاً تكون بمعنى الإنذار ، لكن مع الاستعطاف ، وهو طلب الكفّ عن الفعل القبيح ، يقول الفقهاء : يقاتل المحارب ( أي قاطع الطّريق ) جوازاً ، ويندب أن يكون قتاله بعد المناشدة ، بأن يقال له ( ثلاث مرّاتٍ ) : ناشدتك اللّه إلاّ ما خلّيت سبيلي .
الحكم الإجماليّ :
5 - يختلف حكم الإنذار باختلاف مواضعه : فقد يكون واجباً : وذلك كإنذار الأعمى مخافة أن يقع في محذورٍ ، كخوف وقوعه في بئرٍ ، فإنّه يجب على من رآه - ولو كان في صلاةٍ - أن يحذّره خشية الضّرر .
وكإنذار الكفّار الّذين لم تبلغهم الدّعوة ، فيحرم الإقدام على قتالهم قبل إبلاغهم بالدّعوة الإسلاميّة . وكإنذار المرتدّ عند من يقول بالوجوب كالحنابلة وغيرهم من العلماء .
وقد يكون مستحبّاً : كإنذار الكفّار الّذين بلغتهم الدّعوة ، فإنّه يستحبّ دعوتهم إلى الإسلام مبالغةً في الإنذار . وكإنذار المرتدّ ، فإنّه يستحبّ أن يستتاب ثلاثة أيّامٍ يوعظ فيها ويخوّف لعلّه يرجع ويتوب . وكتنبيه الإمام في الصّلاة إذا همّ بترك مستحبٍّ .
وقد يكون مباحاً : كإنذار الزّوجة النّاشز بالوعظ أو بغيره كما ورد في الآية الكريمة { واللّاتي تخافون نشوزهنّ فعظوهنّ ... } الآية . وكإنذار صاحب الحائط المائل .
وقد يكون حراماً : كما إذا كان في الإنذار ضرر أشدّ من ضرر المنكر الواقع .
ما يكون به الإنذار :
6 - الإنذار قد يكون بالقول ، وذلك كوعظ المتشاجرين ، واستتابة المرتدّ ، وعرض الدّعوة على الكفّار ، ووعظ الزّوجة النّاشز .
وقد يكون الإنذار بالفعل في أحوالٍ منها :
أ - أن يكون الكلام غير جائزٍ ، كمن كان في الصّلاة ورأى رجلاً عند بئرٍ ، أو رأى عقرباً تدبّ إلى إنسانٍ ، وأمكن تحذيره بغمزه أو لكزه ، فإنّه لا يجوز الكلام حينئذٍ .
وهناك صورة أخرى للتّحذير بيّنها النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهي - لمن كان في الصّلاة ورأى ما يجب التّحذير منه - أن يسبّح الرّجل وتصفّق المرأة ، ففي البخاريّ : « يا أيّها النّاس : ما لكم حين نابكم شيء في الصّلاة أخذتم في التّصفيق ؟ إنّما التّصفيق للنّساء » ، وفي هذا صورة التّحذير بالفعل بدل القول بالنّسبة للمرأة الّتي في الصّلاة .
ب - أن يكون الكلام غير مجدٍ ، وذلك إذا لم تفلح طريقة الوعظ بالنّسبة للزّوجة النّاشز ، فللزّوج بعد الوعظ أن يهجرها ، فإن لم يفلح الهجر ضربها ضرباً خفيفاً . وكتغيير المنكر باليد لمن يملك ذلك ، عملاً بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان » .
من له حقّ الإنذار :
7 - الإنذار في الغالب يكون تحذيراً من شيءٍ ضارٍّ أو عملٍ غير مشروعٍ ، وكلّ ما كان كذلك فهو من حقّ كلّ مسلمٍ ، عملاً بقوله تعالى : { ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان » .
وقد ذكر الفقهاء ذلك تحت عنوان الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وهو فرض كفايةٍ بشروطه الخاصّة . ر : ( أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ) .
ويتعيّن الإنذار بالنّسبة لوالي الحسبة ، لأنّه خصّص من قبل الإمام لذلك . ر : ( حسبة ) . وتثبت ولاية الحسبة للزّوج والمعلّم والأب . ر : ( حسبة - ولاية ) .
مواطن البحث :
يأتي الإنذار في كلّ ما هو ضارّ أو غير مشروعٍ ، ومسائله متعدّدة في أبواب الفقه ، ومن ذلك : إنذار تارك الصّلاة ، في باب الصّلاة وهكذا بقيّة العبادات . وفي الجنايات في الصّيال ، والحائط المائل ، وفعل ما يضرّ بالمسلمين . وفي باب الأذان ، وهل يجوز قطعه لإنذار غيره . في باب الجمعة حكم قطع الخطبة للإنذار وحكم إنذار المستمع لغيره .
وفي حكم الجوار ، وفي القضاء بالنّسبة للشّهود ، وفي إنذار الزّوج الغائب قبل التّفريق لعدم الإنفاق . وغير ذلك .
إنزاء *
التّعريف :
1 - الإنزاء لغةً : حمل الحيوان على النّزو ، وهو : الوثب ، ولا يقال إلاّ للشّاء ، والدّوابّ ، والبقر ، في معنى السّفاد . ولا يختلف معناه عند الفقهاء عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - عسب الفحل :
2 - قيل هو : الكراء الّذي يؤخذ على ضراب الفحل ، وقيل : هو ضرابه ، وقيل : ماؤه .
الحكم الإجماليّ :
3 - الإنزاء الّذي لا يضرّ - كالإنزاء على مثله أو نحوه أو مقاربه - جائز ، كخيلٍ بمثلها أو بحميرٍ ، أمّا إذا كان يضرّ - كإنزاء الحمير على الخيل - فإنّ من الفقهاء من كرهه ، أخذاً بحديث عليٍّ رضي الله عنه قال : « أهديت لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم بغلة فركبها ، فقلت لو حملنا الحمير على الخيل فكانت لنا مثل هذه ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إنّما يفعل ذلك الّذين لا يعلمون » . وقالوا : وسبب النّهي أنّه سبب لقلّة الخيل وضعفها . قال الخطّابيّ : يشبه أن يكون المعنى في ذلك واللّه أعلم - أنّ الحمر إذا حملت على الخيل تعطّلت منافع الخيل ، وقلّ عددها ، وانقطع نماؤها . والخيل يحتاج إليها للرّكوب والطّلب ، وعليها يجاهد العدوّ وبها تحرز الغنائم ، ولحمها مأكول ، ويسهم للفرس كما يسهم للفارس ، وليس للبغل شيء من هذه الفضائل ، فأحبّ صلى الله عليه وسلم أن ينمو عدد الخيل ويكثر نسلها لما فيها من النّفع والصّلاح . ولكن قد يحتمل أن يكون حمل الخيل على الحمر جائزاً ، لأنّ الكراهة في هذا الحديث إنّما جاءت في حمل الحمر على الخيل ، لئلاّ تشغل أرحامها بنسل الحمر ، فيقطعها ذلك عن نسل الخيل ، فإذا كانت الفحولة خيلاً والأمّهات حمراً فقد يحتمل أن لا يكون داخلاً في النّهي ، إلاّ أن يتأوّل متأوّل ، أنّ المراد بالحديث صيانة الخيل عن مزاوجة الحمر ، وكراهة اختلاط مائها ، لئلاّ يضيع طرقها ، ولئلاّ يكون منه الحيوان المركّب من نوعين مختلفين ، فإنّ أكثر المركّبات المتولّدة بين جنسين من الحيوان أخبث طبعاً من أصولها الّتي تتولّد منها وأشدّ شراسةً كالسّمع ، والعسبار ونحوهما ، وكذلك البغل لما يعتريه من الشّماس والحران والعضاض ، ونحوها من العيوب والآفات ، ثمّ هو حيوان عقيم ليس له نسل ولا نماء ولا يذكّى ولا يزكّى .
قلت : وما أرى هذا الرّأي طائلاً ، فإنّ اللّه سبحانه قال : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينةً } فذكر البغال وامتنّ علينا . بها كامتنانه بالخيل والحمير ، وأفرد ذكرها بالاسم الخاصّ الموضوع لها ، ونبّه على ما فيها من الإرب والمنفعة ، والمكروه من الأشياء مذموم لا يستحقّ المدح ولا يقع بها الامتنان ، وقد « استعمل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم البغل واقتناه ، وركبه حضراً وسفراً ، وكان يوم حنينٍ على بغلته رمى المشركين بالحصباء . وقال : شاهت الوجوه فانهزموا » ، ولو كان مكروهاً لم يقتنه ولم يستعمله واللّه أعلم . والحنفيّة أجازوا إنزاء الحمير على الخيل وعكسه .
مواطن البحث :
4 - بالإضافة إلى ما تقدّم تكلّم الشّافعيّة في امتناع الإنزاء على الدّابّة المرهونة ، إلاّ إن ظنّ أنّها تلد قبل حلول الدّين . ويفصّل الفقهاء ذلك في باب ( الرّهن ) ، وينظر حكم الإجارة على الإنزاء في مصطلح ( عسب الفحل ) .
إنزال *
التّعريف :
1 - الإنزال لغةً : مصدر أنزل : وهو من النّزول ، ومن معناه الانحدار من علوٍ إلى سفلٍ ، ومنه إنزال الرّجل ماءه إذا أمنى بجماعٍ أو غيره .
وفي الاصطلاح : يطلق الإنزال على خروج ماء الرّجل أو المرأة بجماعٍ أو احتلامٍ أو نظرٍ أو غيره .
الألفاظ ذات الصّلة :
الاستمناء :
2 - الاستمناء لغةً : طلب خروج المنيّ ، واصطلاحاً : إخراج المنيّ بغير جماعٍ ، محرّماً كان أو غير محرّمٍ .
فالاستمناء على هذا أخصّ من الإنزال ، لأنّ الإنزال خروج المنيّ بالجماع أو غيره .
أسباب الإنزال :
3 - يكون الإنزال بالجماع ، أو باليد ، أو بالمداعبة ، أو النّظر ، أو الفكر ، أو الاحتلام .
الحكم الإجماليّ :
4 - تختلف أحكام الإنزال باختلاف مواطنه ، فيكون حلالاً للرّجل والمرأة إذا كان بنكاحٍ صحيحٍ ، أو ملك يمينٍ . ويكون حراماً إذا كان في غير ذلك .
وكلا الإنزالين يكون حراماً في الجملة إذا كان في نهار رمضان .
ويكون حراماً بالنّسبة للمحرم بحجٍّ أو عمرةٍ .
ويحرم في الاعتكاف الواجب الإنزال ، أو فعل ما يؤدّي إليه كلمسٍ وقبلةٍ .
الإنزال بالاستمناء :
5 - اختلف الفقهاء في حكم الإنزال بالاستمناء على أقوالٍ ما بين الحرمة والكراهة ، والجواز والوجوب في حال الضّرورة . وتفصيله في مصطلح : ( استمناء ج 4 /99 ) والإنزال بالاستمناء ، يبطل الصّوم عند جمهور الفقهاء ، وخالف في ذلك أبو بكر بن الإسكاف وأبو القاسم من الحنفيّة ، فقالا بعدم إبطال الصّوم .
وفي وجوب الكفّارة خلاف يرجع إليه في ( صوم ) .
ويبطل الإنزال باليد الاعتكاف ، وفي هذا تفصيل يرجع إليه في مصطلح : ( استمناء ) . والإنزال بالاستمناء لا يفسد الحجّ والعمرة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لكن يجب فيه دم ، لأنّه كالمباشرة فيما دون الفرج في التّحريم والتّعزير ، فكان بمنزلتها في الجزاء ، أمّا المالكيّة فقالوا بفساد الحجّ والعمرة به ، وأوجبوا القضاء والكفّارة ، ولو كان ناسياً ، لأنّه أنزل بفعلٍ محظورٍ ، وتفصيله في ( الاستمناء ) أيضاً .
وفي الإنزال بالنّظر أو الفكر وأثره على الصّوم أو الاعتكاف أو الحجّ خلاف وتفصيل ينظر في مبحث ( الاستمناء ) . والإنزال بالتّفكّر حكمه حكم الإنزال بالنّظر على الخلاف السّابق .
الإنزال بالاحتلام :
6 - الإنزال بالاحتلام لا يبطل الصّوم ، ولا يوجب قضاءً أو كفّارةً ، ولا يفسد الحجّ ولا يلزم به فدية ، ولا يبطل الاعتكاف .
ويعرف الإنزال في الاحتلام بعلاماتٍ معيّنةٍ ، بوجود منيٍّ في ثوب نومه أو فراشه ، أو بللٍ من أثره . فإذا احتلم ولم ينزل فلا غسل عليه ، أجمع على ذلك الفقهاء ، وإذا أنزل فعليه الغسل . وإن وجد منيّاً ولم يذكر احتلاماً فعليه الغسل ، على خلافٍ وتفصيلٍ ينظر في مصطلح : ( احتلام ) .
حكم الاغتسال من الإنزال :
7 - اتّفق الفقهاء على أنّ المنيّ إذا نزل على وجه الدّفق والشّهوة يجب منه الغسل ، أمّا إذا نزل لا على وجه الدّفق والشّهوة فلا يجب منه الغسل عند الجمهور ، وذهب الشّافعيّة ، وهو رواية عن أحمد وقول للمالكيّة إلى وجوب الغسل بذلك ، فإذا سكنت الشّهوة قبل خروج المنيّ إلى الظّاهر ثمّ نزل ففيه خلاف يرجع إليه في مصطلح : ( غسل ) .
إنزال المرأة :
8 - المرأة كالرّجل في الأحكام الّتي تترتّب على إنزال المنيّ ، لما روى مسلم أنّ أمّ سليمٍ حدّثت أنّها « سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم : المرأة ترى في منامها ما يرى الرّجل ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إذا رأت ذلك المرأة فلتغتسل » .
وفي لفظٍ أنّها قالت : « هل على المرأة غسل إذا هي احتلمت ؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : نعم إذا رأت الماء » .
فخروج المنيّ بشهوةٍ في يقظةٍ أو نومٍ يوجب الغسل على الرّجل والمرأة ، وهذا باتّفاقٍ . ومثل ذلك سائر الأحكام في الصّيام والاعتكاف والحجّ على ما سبق بيانه .
إلاّ أنّ الفقهاء يختلفون فيما يتحقّق به نزول المنيّ من المرأة لترتّب الأحكام عليه .
ويتحقّق ذلك بوصول المنيّ إلى المحلّ الّذي تغسله في الاستنجاء ، وهو ما يظهر عند جلوسها وقت قضاء الحاجة ، وهذا هو ظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، وبهذا قال المالكيّة عدا سندٍ ، والحنابلة الشّافعيّة بالنّسبة للثّيّب . وقال سند من المالكيّة : إنّ بروز المنيّ من المرأة ليس شرطاً ، بل مجرّد الانفصال عن محلّه يوجب الغسل ، لأنّ عادةً منيّ المرأة ينعكس إلى الرّحم ليتخلّق منه الولد ، وهذا ما يقابل ظاهر الرّواية عند الحنفيّة .
وقال الشّافعيّة في البكر : لا يجب عليها الغسل حتّى يخرج المنيّ من فرجها ، لأنّ داخل فرجها في حكم الباطن ر : ( انظر : احتلام ) .
إنزال المنيّ لمرضٍ أو بردٍ ونحو ذلك :
9 - يرى جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ) أنّ خروج المنيّ لغير لذّةٍ وشهوةٍ ، بأن كان بسبب بردٍ أو مرضٍ ، أو ضربةٍ على الظّهر ، أو سقوطٍ من علوٍ ، أو لدغة عقربٍ ، أو ما شابه ذلك ، لا يوجب الغسل ، ولكن يوجب الوضوء .
أمّا الشّافعيّة فإنّه يجب الغسل عندهم بخروج المنيّ ، سواء أكان بشهوةٍ ولذّةٍ ، أم كان بغير ذلك ، بأن كان لمرضٍ ونحوه ممّا سبق ، وهذا إذا خرج المنيّ من المخرج المعتاد ، وكذا الحكم إذا خرج من غير مخرجه المعتاد وكان مستحكماً ، أمّا إذا لم يكن مستحكماً مع خروجه من غير المخرج المعتاد فلا يجب الغسل .
انسحاب *
التّعريف :
1 - الانسحاب لغةً : مصدر انسحب ، مطاوع سحب ، أي جرّ .
ويراد به عند الفقهاء والأصوليّين امتداد الفعل في أوقاتٍ متتاليةٍ امتداداً اعتباريّاً ، كحكمنا على نيّة المتوضّئ بالانسحاب في جميع أركان الوضوء ، إذا نوى في أوّل الرّكن الأوّل ، ثمّ ذهل عنها بعد في بقيّة الأركان . وكذا الحكم في العزم على امتثال المأمور في الواجب الموسّع في أجزاء الوقت بمجرّد العزم الأوّل .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستصحاب :
2 - الاستصحاب في اللّغة : ملازمة الشّيء شيئاً آخر . تقول استصحبت الكتاب وغيره : إذا حملته بصحبتك . ومن هنا قيل : استصحبت الحال : إذا تمسّكت بما كان ثابتاً ، كأنّك جعلت تلك الحالة مصاحبةً غير مفارقةٍ .
واستصحاب الحال عند الأصوليّين معناه : إبقاء ما كان على ما كان عليه لانعدام المغيّر . وقد استعمل الفقهاء الاستصحاب بمعناه اللّغويّ حيث قالوا : إنّ الذّهول عن استمرار النّيّة في الوضوء بعد استحضارها مغتفر لمشقّة استصحابها .
ب - الانجرار :
3 - الانجرار : مصدر انجرّ ، مطاوع جرّ . وهو بمعنى الانسحاب في اللّغة ، والفقهاء جرت عادتهم بالتّعبير بالانجرار في باب الولاء ، ومرادهم به : انتقال الولاء من مولًى إلى آخر بعد بطلان ولاء الأوّل ، وعبّروا بالانسحاب أو الاستصحاب في مباحث النّيّة والعزم على العبادة في الوقت الموسّع .
الحكم الإجماليّ :
أ - الانسحاب عند الأصوليّين :
4 - إذا كان الواجب موسّعاً فجميع الوقت وقت لأدائه ، فيتخيّر المكلّف أن يأتي به في أيّ وقتٍ شاء من وقته المقدّر له شرعاً . والواجب عليه في كلّ وقتٍ إمّا الفعل أو العزم على الفعل ، ولا يجب تجديد العزم في كلّ جزءٍ من أجزاء الوقت ، بل يكفي العزم في أوّل الوقت ، ثمّ ينسحب هذا العزم على بقيّة الأجزاء إلى أن يتضيّق الوقت ، على خلافٍ وتفصيلٍ محلّهما الملحق الأصوليّ .
ب - الانسحاب عند الفقهاء :
5 - الأصل في العبادة الواحدة ذات الأفعال المتعدّدة أن يكتفي بالنّيّة في أوّلها ، ولا يحتاج إلى تجديدها في كلّ فعلٍ ، اكتفاءً بانسحابها عليها . فعند الحنفيّة ، قال في الدّرّ المختار : المعتمد إنّ العبادة ذات الأفعال تنسحب نيّتها على كلّها .
قال ابن عابدين : واحترز بذات الأفعال عمّا هي فعل واحد كالصّوم ، فإنّه لا خلاف في الاكتفاء بالنّيّة في أوّله ، ويرد عليه الحجّ ، فإنّه ذو أفعالٍ منها طواف الإفاضة لا بدّ فيه من أصل نيّة الطّواف ، وإن لم يعيّنه عن الفرض ، حتّى لو طاف نفلاً في أيّامه وقع عنه ، والجواب أنّ الطّواف عبادة مستقلّة في ذاته كما هو ركن للحجّ ، فباعتبار ركنيّته يندرج في نيّة الحجّ ، فلا يشترط تعيينه ، وباعتبار استقلاله اشترط فيه أصل نيّة الطّواف ، حتّى لو طاف هارباً أو طالباً لغريمٍ لا يصحّ ، بخلاف الوقوف بعرفة ، فإنّه ليس بعبادةٍ إلاّ في ضمن الحجّ ، فيدخل في نيّته ، وعلى هذا الرّمي والحلق والسّعي . وأيضاً فإنّ طواف الإفاضة يقع بعد التّحلّل بالحلق ، حتّى إنّه يحلّ له سوى النّساء ، وبذلك يخرج من الحجّ من وجهٍ دون وجهٍ ، فاعتبر فيه الشّبهان .
مواطن البحث :
6 - ذكر الأصوليّون الانسحاب في الكلام على الواجب الموسّع من مباحث الأحكام ، كما ذكره الفقهاء في كلامهم على النّيّة في العبادات في كتب الفروع ، وكتب الأشباه والنّظائر .
إنشاء*
التّعريف :
1- الإنشاء : لغةً ابتداء الشّيء ، ورفعه ، ومنه قوله تعالى : { وهو الّذي أنشأ جَنّاتٍ معروشاتٍ وغيرَ معروشاتٍ } وفعله المجرّد : نشأ ينشأ ، ومنه نشأ السّحاب نشئاً ونشوءاً : إذا ارتفع وبدا . وقوله تعالى : { وله الجَوَار المنشئات في البحر كالأعلام } قال الزّجّاج والفرّاء : المنشئات : السّفن المرفوعة الشّرع .
والإنشاء عند أهل الأدب ، قال القلقشنديّ : هو كلّ ما رجع من صناعة الكتابة إلى تأليف الكلام وترتيب المعاني .
وأمّا في اصطلاح البيانيّين والأصوليّين فالإنشاء أحد قسمي الكلام ، إذ الكلام عندهم إمّا : خبر أو إنشاء . فالخبر هو : ما احتمل الصّدق والكذب لذاته ، كقام زيد ، وأنت أخي . والإنشاء : الكلام الّذي لا يحتمل الصّدق والكذب ، إذ ليس له في الخارج نسبة تطابقه أو لا تطابقه . وسمّي إنشاءً لأنّك أنشأته : أي ابتكرته ، ولم يكن له في الخارج وجود .
2 - والإنشاء نوعان :
الأوّل : الإنشاء الطّلبيّ : ويسمّى طلباً ، وهو ما أفاد طلباً بالوضع ، فيطلب به تحصيل غير حاصلٍ في الخارج . فإن كان المطلوب ذكر الماهيّة فهو الاستفهام . وإن كان المطلوب إيجاد الماهيّة فهو أمر ، أو الكفّ عنها فهو نهي . وهكذا .
الثّاني : الإنشاء غير الطّلبيّ .ويذهب بعض الأصوليّين إلى أنّ قسمة الكلام ثلاثيّة ، فهو إمّا خبر ، أو طلب ، أو إنشاء . خصّ أصحاب هذا القول الطّلب بما سمّاه غيرهم الإنشاء الطّلبيّ ، والإنشاء لما عداه ، كألفاظ العقود نحو : بعت واشتريت .
قال التّهانويّ : والمحقّقون على دخول الطّلب في الإنشاء ، وأنّ معنى ( اضرب ) مثلاً وهو طلب الضّرب ، مقترن بلفظه . وأمّا الضّرب الّذي يوجد بعد ذلك فهو متعلّق الطّلب ، لا الطّلب نفسه . هذا ، ويدخل في الإنشاء الطّلبيّ : الأمر والنّهي والاستفهام والتّمنّي والنّداء . ويدخل في الإنشاء غير الطّلبيّ أفعال المدح والذّمّ ، وفعلا التّعجّب ، والقسم .
3 - واختلف الفقهاء والأصوليّون في ألفاظ العقود كبعت واشتريت ، وألفاظ الفسوخ كطلّقت وأعتقت ، ونحوها كظاهرت ، وصيغ قضاء القاضي كقوله : حكمت بكذا ، أهي خبر أم إنشاء ، ومحلّ الخلاف ليس ما أريد به الإخبار عن عقدٍ سابقٍ أو تصرّفٍ سابقٍ ، كقول القائل : أعتقت عبدي أمس ، ووقفت داري اليوم ، بل الخلاف فيما أريد به إنشاء العقد أو التّصرّف ، أي اللّفظ الموجب لذلك ، وهو الإيجاب والقبول في العقد ، كبعت واشتريت مثلاً .
فقال الشّافعيّة : هي إنشاء : لأنّ دلالة لفظ ( بعت ) مثلاً على المعنى الموجب للبيع ، وهو الحادث في الذّهن عند إحداث البيع ، هي دلالة بالعبارة ، فهو منقول عرفاً عن المعنى الخبريّ إلى الإنشاء ، قالوا : ولو كانت خبراً لكانت محتملةً للتّصديق والتّكذيب . ولكنّها لا تحتملهما ، ولكان لها خارج تطابقه أو لا تطابقه .
وعند الحنفيّة : هي إخبار : لأنّ دلالتها بالاقتضاء لا بالعبارة . ووجه كون دلالتها بالاقتضاء : أنّها حكاية عن تحصيل البيع ، وهو متوقّف على حصول المعنى الموجب للبيع . فالمعنى الموجب لازم متقدّم ، أمّا العبارة فهي : إخبار عن ذلك المعنى . واحتجّوا بأنّ الصّيغة موضوعة للإخبار ، والنّقل عنه إلى الإنشاء لم يثبت .
ورجّح التّهانويّ - وهو حنفيّ - قول الشّافعيّة . وهو قول البيانيّين أيضاً . وينظر تفصيل القول في هذا الملحق الأصوليّ .
انشغال الذّمّة *
انظر : ذمّة .
أنصاب *
التّعريف :
1 - الأنصاب : جمع مفرده نصب ، وقيل : النّصب جمع مفرده نصاب ، والنّصب : كلّ ما نصب فجعل علماً . وقيل : النّصب هي الأصنام . وقيل : النّصب كلّ ما عبد من دون اللّه ، قال الفرّاء : كأنّ النّصب الآلهة الّتي كانت تعبد من أحجارٍ .
والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهلّ ويذبح عليها لغير اللّه تعالى ، وروى مثل ذلك عن مجاهدٍ وقتادة وابن جريجٍ ، قالوا : إنّ النّصب أحجار منصوبة كانوا يعبدونها ويقرّبون الذّبائح لها .
الألفاظ ذات الصّلة :
الأصنام والأوثان :
2 - الأصنام : جمع صنمٍ ، والصّنم : قيل هو الوثن المتّخذ من الحجارة أو الخشب ، ويروى ذلك عن ابن عبّاسٍ .
وقيل الصّنم : جثّة من فضّةٍ أو نحاسٍ أو خشبٍ كانوا يعبدونها متقرّبين بها إلى اللّه تعالى . وقيل : الصّنم ما كان على صورة حيوانٍ .
وقيل : كلّ ما عبد من دون اللّه تعالى يقال له صنم . والفرق بين الأنصاب والأصنام ، أنّ الأصنام مصوّرة منقوشة ، وليس كذلك الأنصاب لأنّها حجارة منصوبة .
وفي أحكام القرآن للجصّاص : الوثن كالنّصب سواء ، ويدلّ على أنّ الوثن اسم يقع على ما ليس بمصوّرٍ ، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعديّ بن حاتمٍ حين جاءه وفي عنقه صليب : « ألق هذا الوثن من عنقك » فسمّى الصّليب وثناً ، فدلّ ذلك على أنّ النّصب والوثن اسم لما نصب للعبادة ، وإن لم يكن مصوّراً ولا منقوشاً ، فعلى هذا الرّأي تكون الأنصاب كالأوثان في أنّها غير مصوّرةٍ . وعلى الرّأي الأوّل يكون الفرق بين الأنصاب والأوثان أنّ الأنصاب غير مصوّرةٍ ، والأوثان مصوّرة .
التّماثيل :
3 - التّماثيل : جمع تمثالٍ ، وهو الصّورة من حجرٍ أو غيره سواء عبد من دون اللّه أم لم يعبد .
أنصاب الحرم :
4 - حرم مكّة هو ما أحاط بها من جوانبها ، جعل اللّه حكمه حكمها في الحرمة .
وللحرم علامات مبيّنة ، وهي أنصاب مبنيّة في جميع جوانبه قيل أوّل من نصبها إبراهيم الخليل عليه السلام بدلالة جبريل له ، فقيل نصبها إسماعيل عليه السلام . ثمّ تتابع ذلك حتّى نصبها النّبيّ صلى الله عليه وسلم عام الفتح ، ثمّ الخلفاء من بعده . ( ر : أعلام الحرم ) .
والفرق بينها وبين أنصاب الكفّار : أنّ أعلام الحرم علامات تبيّن حدود الحرم دون تقديسٍ أو عبادةٍ ، أمّا أنصاب الكفّار فكانت تقدّس ويتقرّب بها لغير اللّه ويذبح عليها .
حكم الذّبح على النّصب :
5 - الذّبح على النّصب كان عادةً من عادات أهل الجاهليّة ، ينصبون الأحجار ويقدّسونها ويتقرّبون إليها بالذّبائح . وقد بيّن اللّه تعالى أنّ هذه الذّبائح لا تحلّ . قال اللّه تعالى : { حرّمت عليكم الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير اللّه به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إلاّ ما ذكّيتم وما ذبح على النّصب } .
قال ابن جريجٍ : المعنى : والنّيّة فيها تعظيم النّصب .
وقال ابن زيدٍ : ما ذبح على النّصب وما أهلّ به لغير اللّه شيء واحد .
وقال ابن عطيّة : ما ذبح على النّصب جزء ممّا أهلّ به لغير اللّه ، ولكن خصّ بالذّكر بعد جنسه لشهرة الأمر .
حكم صنعها وبيعها واقتنائها :
6 - الأنصاب بالمعنى العامّ الشّامل لكلّ ما صنع ليعبد من دون اللّه تعتبر رجساً من عمل الشّيطان كما ورد في الآية الكريمة : { إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشّيطان فاجتنبوه } . وكلّ ما حرّمه اللّه تعالى يحرم صنعه وبيعه واقتناؤه .
وقد اتّفق الفقهاء على أنّ صنعة التّصاوير المجسّدة لإنسانٍ أو حيوانٍ حرام على فاعلها ، سواء أكانت من حجرٍ أم خشبٍ أم طينٍ أم غير ذلك ، لما روى ابن عمر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « الّذين يصنعون هذه الصّور يعذّبون يوم القيامة ، يقال لهم : أحيوا ما خلقتم » وعن مسروقٍ قال : دخلنا مع عبد اللّه بيتاً فيه تماثيل ، فقال لتمثالٍ منها : تمثال من هذا ؟ قالوا : تمثال مريم ، قال عبد اللّه : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة المصوّرون » والأمر بعمله محرّم كعمله ، بل إنّ الأجرة على صنع مثل هذه الأشياء لا تجوز وهذا في مطلق التّصاوير المجسّدة ، فإذا كانت ممّا يعبد من دون اللّه فذلك أشدّ تحريماً .
ففي الفتاوى الهنديّة : لو استأجر رجلاً ينحت له أصناماً لا شيء له ، والإجارة على المعاصي لا تصحّ . ويقول بعض الفقهاء : إنّه لا قطع في سرقة صنمٍ وصليبٍ : لأنّ التّوصّل إلى إزالة المعصية مندوب إليه ، فصار شبهةً كإراقة الخمر ( ر : سرقة ) .
7 - كما يحرم صنع هذه الأشياء يحرم بيعها واقتناؤها ، فقد ورد في الصّحيحين من حديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما أنّه سمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : « إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام » ، يقول ابن القيّم : يستفاد من هذا الحديث تحريم بيع كلّ آلةٍ متّخذةٍ للشّرك على أيّ وجهٍ كانت ، ومن أيّ نوعٍ كانت . صنماً أو وثناً أو صليباً ، فهذه كلّها يجب إزالتها وإعدامها ، وبيعها ذريعة إلى اقتنائها واتّخاذها ، ولذلك يحرم البيع بل إنّ المادّة الّتي تصنع منها هذه الأشياء سواء كانت حجراً أم خشباً أم غير ذلك - وإن كانت مالاً وينتفع بها - لا يجوز بيعها لمن يتّخذها لمثل ذلك ، كما لا يصحّ عند جمهور الفقهاء بيع العنب لمن يتّخذه خمراً ، ولا بيع أدوات القمار ولا بيع دارٍ لتعمل كنيسةً ، ولا بيع الخشبة لمن يتّخذها صليباً ، ولا بيع النّحاس لمن يتّخذه ناقوساً ، وكذلك كلّ شيءٍ علم أنّ المشتري قصد به أمراً لا يجوز . وفي المبسوط في باب الأشربة أورد السّرخسيّ قوله تعالى : { إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشّيطان فاجتنبوه } ثمّ قال بعد ذلك : بيّن اللّه تعالى أنّ كلّ ذلك رجس ، والرّجس ما هو محرّم العين وأنّه من عمل الشّيطان .
حكم ضمان إتلاف الأنصاب ونحوها :
8 - يقول بعض الفقهاء : من كسر صليباً أو صنماً لم يضمنه ، لأنّه لا يحلّ بيعه لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والخنزير والميتة والأصنام » ( ر : ضمان ) .
إنصات *
التّعريف :
1 - الإنصات لغةً واصطلاحاً : السّكوت للاستماع . وعرّفه البعض بالسّكوت .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستماع :
2 - الاستماع قصد السّماع بغية فهم المسموع أو الاستفادة منه ، فالإنصات سكوت بقصد الاستماع . وفي الفروق في اللّغة : أنّ الاستماع استفادة المسموع بالإصغاء إليه ليفهم ، ولهذا لا يقال إنّ اللّه يستمع .
ب - السّماع :
3 - السّماع مصدر ( سمع ) ولا يشترط في السّماع قصد المسموع ، ويشترط في الإنصات قصده .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
4 - يتناول الفقهاء الإنصات في عدّة مواطن منها :
أ - الإنصات لخطبة الجمعة ، فيرى الجمهور وجوب الإنصات على من حضر الجمعة ، وفيه خلاف وتفصيل وينظر في مصطلح ( استماعٍ ) والإنصات في خطبة العيدين ، حكمه حكم الإنصات في خطبة الجمعة ، صرّح بذلك الحنفيّة ، والشّافعيّة ، ويندب عند المالكيّة .
أمّا الإنصات في الصّلاة عند جهر الإمام بالقراءة ، وكذلك الإنصات لقراءة القرآن الكريم خارجها فهو مطلوب شرعاً لقوله سبحانه : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } وتفصيل ذلك كلّه في مصطلح ( استماعٍ ) .
انضباط *
التّعريف :
1 - لم يرد الانضباط فيما بين أيدينا من معاجم اللّغة القديمة ، وإنّما ورد فعله في المعجم الوسيط حيث قال : ( انضبط مطاوع ضبط ) . ومعنى الضّبط : الحفظ بالحزم . والضّابطة : القاعدة . والجمع ضوابط .
والانضباط في الاصطلاح : الاندراج والانتظام تحت ضابطٍ أي حكمٍ كلّيٍّ وبه يكون الشّيء معلوماً .
الحكم الإجماليّ :
2 - ذهب الأصوليّون إلى أنّ من شرائط العلّة أن تكون وصفاً ضابطاً للحكمة ، لا حكمةً مجرّدةً لعدم انضباطها . وذلك كالمشقّة ، فإنّه من الواضح البيّن أنّه لم يعتبر كلّ قدرٍ منها ، بل قدر معيّن ، وهو غير مضبوطٍ في ذاته ، فضبط بمظنّته وهي السّفر .
ولو وجدت الحكمة منضبطةً جاز ربط الحكم بها لعدم المانع ، بل يجب ، لأنّها المناسب المؤثّر في الحقيقة . وقيل لا يجوز ربط الحكم بها ولو مع انضباطها . وتمام الكلام فيه محلّه الملحق الأصوليّ .
وإذ قد كان الأمر على ما بيّنّا فقد اعترض على القائلين بالمناسبة بأنّ المناسب وصف غير منضبطٍ مثل الحرج والزّجر ونحوهما ، فإنّها مشكّكات ، ولا يعتبر كلّ قدرٍ من آحادها . والجواب أنّ الوصف المناسب منضبط ، وطرق انضباطه ثلاثة :
الأولى : أن ينضبط بنفسه بأن يعتبر مطلقه كالإيمان لو قيل بتشكيك اليقين ، فالمعتبر مطلق اليقين في أيّ فردٍ تحقّق من أفراده المختلفة .
الثّانية : أن ينضبط في العرف كالمنفعة والمضرّة ، فإنّهما وصفان مضبوطان عرفاً .
الثّالثة : أن ينضبط في الشّرع بالمظنّة كالسّفر ، فإنّ مرتبة الحرج إنّما تتعيّن به ، وكالحدّ فإنّه به يتحدّد مقدار الزّجر .
ومن أمثلة الانضباط عند الفقهاء :
أوّلاً : انضباط المسلم فيه :
3 - يصحّ السّلم في المختلط بسبب الصّنعة ، إذا انضبطت عند أهل تلك الصّنعة الأجزاء المقصودة الّتي صنع منها المسلم فيه ، وذلك كالعتّابيّ ، وهو ما ركّب من قطنٍ وحريرٍ ، وكالخزّ وهو ما ركّب من حريرٍ ووبرٍ وصوفٍ ، فلا بدّ لكلٍّ من المتعاقدين معرفة وزن كلٍّ من هذه الأجزاء لأنّ القيم والأغراض تتفاوت بذلك تفاوتاً ظاهراً ، فإذا لم تضبط هذه الأمور أدّى ذلك إلى النّزاع ، ومن باب أولى إذا كانت بحيث لا يمكن ضبطها .
ثانياً : الانضباط في القصاص :
4 - يشترط في قصاص ما دون النّفس أن تكون الجناية منضبطةً كالقطع من المفصل ، فإن لم يمكن انضباطهما كالجوائف فلا يجب ، بخلاف قصاص النّفس فلا يشترط الانضباط في جراحته الّتي سرت إليها .
ثالثاً : الانضباط في العين المدّعاة :
5 - على المدّعي إذا ادّعى عيناً تنضبط أن يصفها بصفة السّلم ، ولا فرق في ذلك بين أن تكون العين مثليّةً كالحبوب ، أو قيميّةً كالحيوان ، على خلافٍ وتفصيلٍ يرجع إليه في باب السّلم .
من مواطن البحث :
6 - ذكر الأصوليّون الانضباط في كلامهم على علّة القياس ، وفي آداب المناظرة ضمن الأسئلة الواردة على القياس .
وذكره الفقهاء في كلامهم على شروط المسلم والقصاص والدّعوى .
إنظار *
انظر : إمهال .
أنعام *
التّعريف :
1 - الأنعام لغةً : جمع مفرده نعم ، وهي ذوات الخفّ والظّلف ، وهي الإبل ، والبقر ، والغنم ، وأكثر ما يقع على الإبل . والنّعم مذكّر ، فيقال هذا نعم وارد .
والأنعام تذكّر وتؤنّث ، ونقل النّوويّ عن الواحديّ : اتّفاق أهل اللّغة على إطلاقه على الإبل ، والبقر ، والغنم . وقيل تطلق الأنعام على هذه الثّلاثة ، فإذا انفردت الإبل فهي نعم ، وإن انفردت البقر والغنم لم تسمّ نعماً .
وعند الفقهاء الأنعام هي الإبل ، والبقر ، والغنم سمّيت نعماً لكثرة نعم اللّه تعالى فيها على خلقه بالنّموّ ، والولادة ، واللّبن ، والصّوف ، والوبر ، والشّعر ، وعموم الانتفاع .
الأحكام المتعلّقة بالأنعام ، ومواطن البحث :
2 - تجب الزّكاة في الأنعام إن بلغت نصاباً باتّفاق الفقهاء .
روى أبو ذرٍّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « ما من صاحب إبلٍ ولا بقرٍ ولا غنمٍ لا يؤدّي زكاتها إلاّ جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمن تنطحه بقرونها وتطؤه بأخفافها ، كلّما نفذت أخراها عادت عليه أولاها حتّى يقضى بين النّاس » .
وتفصيل النّصاب في الأنعام بأنواعها الثّلاثة والواجب فيها ينظر في ( الزّكاة ) .
ولا يشرع الهدي والأضحيّة ونحوهما من الذّبائح المسمّاة المطلوبة شرعاً كالعقيقة إلاّ من الأنعام ، لقول اللّه تعالى : { ويذكروا اسم اللّه في أيّامٍ معلوماتٍ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } . والأفضل في الهدي الإبل ثمّ البقر ثمّ الغنم ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثمّ راح فكأنّما قرّب بدنةً ، ومن راح في السّاعة الثّانية فكأنّما قرّب بقرةً ، ومن راح في السّاعة الثّالثة فكأنّما قرّب كبشاً أقرن ، ومن راح في السّاعة الرّابعة فكأنّما قرّب دجاجةً ، ومن راح في السّاعة الخامسة فكأنّما قرّب بيضةً »
وللأنعام الّتي تجعل هدياً أو عقيقةً أو أضحيّةً أحكام خاصّة تنظر في مصطلحاتها .
ويحلّ ذبح الأنعام وأكلها في الحلّ والحرم ، وحالة الإحرام بخلاف الصّيد من الحيوان الوحشيّ ، وبخلاف ما حرم منها من الميتة ونحوها ممّا تفصيله في ( أطعمةٍ ) ، لقول اللّه سبحانه : { أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلاّ ما يتلى عليكم غير محلّي الصّيد وأنتم حرم }
والأفضل في تذكية الأنعام : النّحر في الإبل ، والذّبح في البقر والغنم . وبالإضافة إلى ما تقدّم يتكلّم الفقهاء عن وسم إبل الصّدقة عند كلامهم في قسم الصّدقات . وفي خيار الرّدّ بالتّصرية عند من يقول به ، نرى أنّ البعض يجعل الخيار خاصّاً بالنّعم دون غيرها ، والبعض يخيّر في ردّ المصرّاة من نعمٍ وغيره ، وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في خيار العيب .
انعزال *
التّعريف :
1 - الانعزال : انفعال من العزل . والعزل : هو فصل الشّيء عن غيره : تقول : عزلت الشّيء عن الشّيء إذا نحّيته عنه ، ومنه عزلت النّائب أو الوكيل : إذا أخرجته عمّا كان له من الحكم .
ويفهم من استعمال الفقهاء أنّ المراد به عندهم : خروج ذي الولاية عمّا كان له من حقّ التّصرّف . والانعزال قد يكون بالعزل ، أو يكون حكميّاً ، كانعزال المرتدّ والمجنون .
الحكم الإجماليّ :
2 - الأصل أنّ من تولّى عملاً بأهليّةٍ معيّنةٍ ، أو شروطٍ خاصّةٍ ، ثمّ فقد هذه الأهليّة ، أو شرطاً من الشّروط الأساسيّة ( لا شروط الأولويّة ) فإنّه ينعزل حكماً من غير حاجةٍ إلى عزلٍ ، هذا في الجملة .
وفي تطبيقات هذا الأصل تفصيل يرجع إليه في كلّ مصطلحٍ ذي صلةٍ ، كالإمامة ، والقضاء ، والوقف ( النّاظر ) والولاية على اليتيم ونحوه .
هذا ، وهناك فرق بين الانعزال واستحقاق العزل ، فإنّ الانعزال قد لا يحتاج إلى العزل ، ولا ينفذ شيء من تصرّفات من انعزل .
أمّا استحقاق العزل فيكون بأن يرتكب ذو الولاية أمراً يوجب على وليّ الأمر ، أو على الأصيل أن يعزل ، كفسق القاضي ، أو حكمه بالهوى ، أو أخذه الرّشوة .
انعقاد *
التّعريف :
1 - الانعقاد في اللّغة : ضدّ الانحلال ، ومنه انعقاد الحبل ، ومن معانيه أيضاً الوجوب ، والارتباط ، والتّأكّد . وعند الفقهاء يختلف المراد منه باختلاف الموضوع ، فانعقاد العبادة من صلاةٍ ، وصومٍ : ابتداؤها صحيحةً ، وانعقاد الولد حمل الأمّ به ، وانعقاد ما يتوقّف على صيغةٍ من العقود : هو ارتباط الإيجاب بالقبول على الوجه المعتبر شرعاً .
الألفاظ ذات الصّلة :
الصّحّة :
2 - يعبّر جمهور الفقهاء عن الصّحّة بالانعقاد ، فقولهم : تنعقد الصّلاة بقراءة الآية معناه : تصحّ بها ، إلاّ أنّ النّاظر في اللّفظين يجد أنّ هناك فرقاً بين الصّحّة والانعقاد ، فالصّحّة لا تحصل إلاّ بعد تمام الأركان والشّروط ، أمّا الانعقاد فإنّه قد يحصل وإن لم تتمّ الشّروط .
ما يتحقّق به الانعقاد :
3 - انعقاد العقود يكون تارةً بالقول ، وتارةً بالفعل ، فالقول كالارتباط الحاصل بسبب صيغ العقود المعتبرة شرعاً كالنّكاح ونحوه .
والفعل كالمعاطاة عند أغلب الفقهاء ، وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في صيغ العقود .
والانعقاد قد يقع بالكناية مع النّيّة ، وقد يشترط فيه اللّفظ الصّريح .
فالأوّل نحو كلّ تصرّفٍ يستقلّ به الشّخص كالطّلاق ، والعتاق والإبراء ، فإنّ هذه الأشياء تنعقد بالكناية مع النّيّة ، وكذا ما لا يستقلّ به الشّخص من العقود ، وكان ممّا يقبل التّعليق كالمكاتبة والخلع ، فإن كان العقد لا يقبل التّعليق ففي انعقاده خلاف ، ويفصّل الفقهاء ذلك في صيغ العقود .
والباطل من عبادةٍ وعقدٍ وغيرهما غير منعقدٍ اتّفاقاً ، وأمّا المعاملات ففي انعقاد فاسدها خلاف ، وأغلب الفقهاء على أنّ العقد الفاسد غير منعقدٍ كذلك ، وعند الحنفيّة العقد الفاسد ينعقد غير صحيحٍ ، والانعقاد حينئذٍ بمشروعيّة الأصل دون الوصف .
ومن التّصرّفات ما ينعقد مع الهزل كالنّكاح ، والطّلاق ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ثلاث جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ : النّكاح ، والطّلاق ، والرّجعة » ، ومنها ما لا ينعقد معه كالبيع ونحوه .
وأغلب العقود والفسوخ تنعقد بإشارة الأخرس ، كالبيع ، والنّكاح والطّلاق ، ونحو ذلك .
أمّا إشارة القادر على النّطق فلا يتمّ بها الانعقاد في الجملة عند جمهور الفقهاء ، إذ لا يعدل عن العبارة إلى الإشارة إلاّ لعذرٍ . وقال المالكيّة إنّ إشارة غير الأخرس يعتدّ بها في سائر العقود .
وانعقاد الإمامة الكبرى يكون باختيار أهل الحلّ والعقد ، غير أنّ الفقهاء يتفاوتون في تحديد أقلّ عددٍ تنعقد به البيعة من أهل الحلّ والعقد ، وموطن ذلك مصطلح ( الإمامة الكبرى ) .
أو يكون بعهدٍ من الإمام لمن بعده مع المبايعة من أهل الحلّ والعقد ، وقد أجمع المسلمون على صحّة العهد بالإمامة لأمرين :
أحدهما : أنّ أبا بكرٍ رضي الله عنه عهد بها إلى عمر رضي الله عنه .
والثّاني : أنّ عمر عهد بها إلى أهل الشّورى ، فقبلت الجماعة دخولهم فيها ، وهم أعيان العصر ، اعتقاداً لصحّة العهد بها ، فصار العهد بها إجماعاً في انعقاد الإمامة .
أمّا انعقاد الإمامة بغير عقدٍ ولا اختيارٍ فجمهور الفقهاء على أنّها لا تنعقد ، ويلزم أهل الاختيار عقد الإمامة له ، لكن ذهب بعض الفقهاء إلى انعقادها بالتّغلّب ، وتفصيله في ( الإمامة الكبرى ) .
وتنعقد الولايات مع الحضور باللّفظ مشافهةً ، ومع الغيبة مكاتبةً ، ومراسلةً ، وكيفيّة انعقاد كلّ ولايةٍ تذكر في موطنها ، ويتكلّم الفقهاء عن ذلك غالباً في كتب السّياسة الشّرعيّة والأحكام السّلطانيّة .
مواطن البحث :
4 - يتكلّم الفقهاء في الأيمان عن انعقاد اليمين ، ومواطن الانعقاد يصعب سردها لذا يرجع إلى كلّ عبادةٍ أو تصرّفٍ في موطنه لبيان الانعقاد من عدمه .
انعكاس *
التّعريف :
1 - الانعكاس في اللّغة : مصدر انعكس مطاوع عكس . والعكس : ردّ أوّل الشّيء على آخره . يقال : عكسه يعكسه عكساً من باب ضرب .
ومنه قياس العكس عند الأصوليّين وهو : إثبات عكس حكم شيءٍ لمثله لتعاكسهما في العلّة ، كما في حديث مسلمٍ : « أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزر ؟ » .
والانعكاس عند الأصوليّين : انتفاء الحكم بانتفاء العلّة كانتفاء حرمة الخمر بزوال إسكارها . وضدّ الانعكاس الاطّراد ، كما أنّ ضدّ العكس الطّرد . ( ر : اطّراد ) .
2 - وذهب جمهور الأصوليّين إلى أنّ الانعكاس مع الاطّراد مسلك من المسالك الّتي بها تعرف العلّة . ولم يعتبره الحنفيّة وكثير من الأشعريّة كالغزاليّ والآمديّ من مسالك العلّة . كما ذهب بعض الأصوليّين إلى أنّ الانعكاس من شرائط العلّة ، والآخرون لم يشترطوا فيها هذا الشّرط . وتمام الكلام على ذلك موطنه الملحق الأصوليّ .
مواطن البحث :
3 - ذكر الأصوليّون الانعكاس في مباحث العلّة من القياس ، في شروطها ، وفي مسالكها ، باعتباره أحد شروطها ومسالكها على الخلاف الّذي تقدّم كما ذكروه في مبحث التّرجيحات القياسيّة باعتباره أحد طرق التّرجيح بين الأقيسة ، وفي الكلام على الحكمة والمظنّة ، وأنّه لا يجب في مظنّة الحكمة الطّرد والعكس ، وفي الكلام على قوادح العلّة .
أنف *
التّعريف :
1 - الأنف : المنخر وهو معروف ، والجمع آناف وأنوف .
ما يتعلّق به من الأحكام :
تختلف الأحكام الّتي تتعلّق بالأنف باختلاف مواضعه ، ومن ذلك .
أ - في الوضوء :
2 - غسل الأنف من الدّاخل ( الاستنشاق ) سنّة ، وغسله من الظّاهر فرض باعتباره جزءاً من الوجه ، وتفصيل ذلك في مصطلح ( وضوء ) .
ب - في الغسل :
3 - غسل ظاهر الأنف في الغسل فرض عند جميع الفقهاء . وغسل باطنه ( وهو الاستنشاق ) فرض عند الحنفيّة ، وسنّة عند غيرهم ، وتفصيل ذلك في مصطلح ( غسل ) .
ج - السّجود على الأنف في الصّلاة :
4 - تمكين الأنف مع الجبهة في السّجود سنّة عند جمهور الفقهاء ، لما روى أبو حميدٍ رضي الله تعالى عنه « أنّ النّبيّ سجد ومكّن جبهته وأنفه على الأرض » .
وقال الحنفيّة : إنّه واجب ، وهو رواية للحنابلة والقول المرجوح عند المالكيّة ، لما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أمرت أن أسجد على سبعة أعظمٍ : الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين والرّكبتين وأطراف القدمين » وإشارته إلى أنفه تدلّ على أنّه أراده .
د - وصول شيءٍ إلى جوف الصّائم عن طريق الأنف :
5 - إذا استعط الصّائم فوصل الدّواء إلى جوفه أو حلقه أو دماغه فسد صومه وعليه القضاء ، وعند المالكيّة لا يفسد إلاّ بالوصول إلى الجوف أو الحلق - كذلك من استنشق فوصل الماء إلى جوفه أو حلقه فسد صومه عند المالكيّة وفي قولٍ للشّافعيّة .
وللحنابلة والشّافعيّة إذا بالغ في الاستنشاق فوصل الماء إلى جوفه أو حلقه رأيان : الفساد وعدمه .
هـ – الجناية على الأنف :
6 – الجناية على الأنف عمداً توجب القصاص متى أمكن استيفاء المثل بلا حيفٍ . والقصاص واجب لقوله تعالى : { والأنف بالأنف } .
فإذا لم يمكن استيفاء المثل أو كانت الجناية خطأً فالواجب هو الدّية ، وفي ذهاب الشّمّ وحده الدّية . وفي ذهاب الشّمّ ومارن الأنف ديتان . وإن قطع جزءاً من الأنف وجب فيه الدّية بقدره . وفي الموضوع تفصيل كثير ( ر : جناية ، ودية ، وأطراف ، وجراح ) .
مواطن البحث :
7 - للأنف أحكام تتعلّق به وترد في مسائل متعدّدةٍ من أبواب الفقه ، وذلك كالاستنشاق في باب الوضوء ، وباب الغسل ، وغسل الميّت ، وفي صبّ لبن المرضع فيه ، وهل يوجب حرمة المصاهرة بذلك أم لا ، وذلك في باب الرّضاع ، واتّخاذ أنفٍ من ذهبٍ أو فضّةٍ ، وذلك في باب اللّباس .
إنفاق *
انظر : نفقة .
أنفال *
التّعريف :
1- النّفل بالتّحريك : الغنيمة ، وفي التّنزيل العزيز : { يسألونك عن الأنفال } سألوا عنها ، لأنّها كانت حراماً على من كان قبلهم فأحلّها اللّه لهم . وأصل معنى الأنفال من النّفل - بسكون الفاء - أي الزّيادة .
واصطلاحاً ، اختلف في تعريفها على خمسة أقوالٍ :
2- الأوّل : هي الغنائم ، وهو قول ابن عبّاسٍ في روايةٍ ، ومجاهدٍ في روايةٍ ، والضّحاك وقتادة وعكرمة وعطاءٍ في روايةٍ .
3 - الثّاني : الفيء ، وهي الرّواية الأخرى عن كلٍّ من ابن عبّاسٍ وعطاءٍ ، وهو ما يصل إلى المسلمين من أموال المشركين بغير قتالٍ ، فذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم يضعه حيث يشاء .
4 - الثّالث : الخمس ، وهي الرّواية الأخرى عن مجاهدٍ .
5- الرّابع : التّنفيل ، وهو ما أخذ قبل إحراز الغنيمة بدار الإسلام وقسمتها ، فأمّا بعد ذلك فلا يجوز التّنفيل إلاّ من الخمس . وتفصيله في مصطلح ( تنفيلٍ ) .
6- خامساً : السّلب ، وهو الّذي يدفع إلى الفارس زائداً عن سهمه من المغنم ، ترغيباً له في القتال ، كما إذا قال الإمام : ومن قتل قتيلاً فله سلبه " أو قال لسريّةٍ : ما أصبتم فهو لكم ، أو يقول : فلكم نصفه أو ثلثه أو ربعه .
7- فالأنفال بناءً على هذه الأقوال تطلق على أموال الحربيّين الّتي آلت إلى المسلمين بقتالٍ أو غير قتالٍ ، ويدخل فيها الغنيمة والفيء قال ابن العربيّ : قال علماؤنا رحمهم الله : ها هنا ثلاثة أسماءٍ : الأنفال ، والغنائم ، والفيء .
فالنّفل الزّيادة ، وتدخل فيه الغنيمة ، وهي ما أخذ من أموال الكفّار بقتالٍ . والفيء ، وهو ما أخذ بغير قتالٍ ، وسمّي كذلك ، لأنّه رجع إلى موضعه الّذي يستحقّه وهو انتفاع المؤمن به . ويطلق أيضاً على ما بذله الكفّار لنكفّ عن قتالهم ، وكذلك ما أخذ بغير تخويفٍ كالجزية والخراج ، والعشر ، ومال المرتدّ ، ومال من مات من الكفّار ولا وارث له .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الرّضخ :
8 - الرّضخ لغةً : العطاء غير الكثير ، واصطلاحاً : مال من الغنيمة لا يزيد على سهمٍ واحدٍ من الغانمين ، تقديره إلى وليّ الأمر ، أو من ينوب عنه كقائد الجيش يعطى لمن حضر المعركة ، وأعان على القتال ، من النّساء ، والصّبيان ، ونحوهم ، وكذلك الذّمّيّون والعبيد بقدر ما يبذلون من جهدٍ ، مثل مداواة الجرحى والمرضى ، والدّلالة على الطّريق ، وغير ذلك .
الحكم الإجماليّ :
9 - يختلف حكم الأنفال بحسب مفرداتها السّابقة من : غنيمةٍ ، وفيءٍ ، وسلبٍ ، ورضخٍ ، وتنفيلٍ ، وينظر حكم كلٍّ من ذلك في مصطلحه .
انفراد *
التّعريف :
1 - الانفراد في اللّغة : مصدر انفرد وهو بمعنى تفرّد . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستبداد :
2 - الاستبداد : مصدر استبدّ ، يقال استبدّ بالأمر إذا انفرد به من غير مشاركٍ له فيه .
ب : الاستقلال :
3 - من معاني الاستقلال : الاعتماد على النّفس ، والاستبداد بالأمر ، وهو بهذا المعنى يرادف الانفراد ، غير أنّه يخالفه في غير ذلك من إطلاقاته اللّغويّة ، فيكون من القلّة ومن الارتفاع .
ج - الاشتراك :
4 - الاشتراك ضدّ الانفراد .
أحكام الانفراد :
الانفراد في الصّلاة :
5 - صلاة المنفرد جائزة ولو لغير عذرٍ ، والجماعة ليست بشرط لصحّة الصّلوات الخمس عند الجمهور ( إلاّ في الجمعة بالاتّفاق ، والعيدين على خلافٍ ) ، وفي صلاة المنفرد أجر لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر قال : قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم « إنّ صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بسبعٍ وعشرين درجةً » وفي روايةٍ أخرى « بخمسٍ وعشرين درجةً » لأنّه يلزم من ثبوت النّسبة بينهما - بجزءٍ معلومٍ - ثبوت الأجر فيهما ، وإلاّ فلا نسبة ولا تقدير ، ولا بنقص أجر المصلّي منفرداً مع العذر ، لما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا مرض العبد أو سافر كتب اللّه له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً » ولا تجب الإعادة لفرضٍ على من صلّاه وحده .
أمّا صلاة الجماعة فهي سنّة مؤكّدة للرّجال عند الجمهور ، وقيل هي واجبة إلاّ في جمعةٍ فشرط ، وكذا العيد على القول بوجوب العيد عند من يراه واجباً . ( ر : صلاة الجماعة ) .
الانفراد في التّصرّفات :
أ - انفراد أحد الأولياء بالتّزويج :
6 - إن اجتمع اثنان أو أكثر من الأولياء المتساوين في جهة القرابة والدّرجة والقوّة كالإخوة الأشقّاء ، أو الأب والأعمام كذلك ، وتشاحّوا فيما بينهم ، وطلب كلّ منهم أن يتولّى العقد . فعند الشّافعيّة والحنابلة يقرع بينهم قطعاً للنّزاع ، ولتساويهم في الحقّ ، وتعذّر الجمع بينهم ، فمن خرجت قرعته زوّج . فإن سبق غير من خرجت له القرعة فزوّج ، وقالت أذنت لكلّ واحدٍ منهم صحّ التّزويج ، لأنّه صدر من وليٍّ كامل الولاية بإذن مولّيته فصحّ منه ، كما لو انفرد بالولاية ، ولأنّ القرعة شرعت لإزالة المشاحّة لا لسلب الولاية . وعند المالكيّة : عند تساويهم درجةً وقرابةً ينظر الحاكم فيمن يراه أحسنهم رأياً ليتولّى العقد . وعند الحنفيّة : يكون لكلّ واحدٍ منهم أن يتولّى العقد ويزوّج ، رضي الآخر أو سخط ، إذا كان التّزويج من كفءٍ وبمهرٍ وافرٍ . وهذا إذا اتّحد الخاطب .
7- أمّا إذا تعدّد الخاطب ، فالتّزويج لمن ترضاه المرأة ، لأنّ لها الحقّ عندهم أن تزوّج نفسها من كفءٍ إذا كانت بالغةً رشيدةً ، ولا يزوّجها إلاّ الوليّ الّذي ترضاه بوكالةٍ . فإن لم تعيّن المرأة واحداً من المستوين درجةً وقرابةً ، وأذنت لكلٍّ منهم بانفراده ، أو قالت : أذنت في فلانٍ ، فمن شاء منكم فليزوّجني منه ، صحّ التّزويج من كلّ واحدٍ منهم ، لوجود سبب الولاية في كلّ واحدٍ منهم كما يقول المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ، فإن بادر أحدهم فزوّجها من كفءٍ ، فإنّه يصحّ ، لأنّه لم يوجد ما يميّز أحدهم عن غيره .
ولو أذنت لهم في التّزويج ، فزوّجها أحد الأولياء المستوين في الدّرجة ، وزوّجها الآخر من غيره ، فإن عرف السّابق فهو الصّحيح والآخر باطل ، وإن وقع العقدان في زمنٍ واحدٍ ، أو جهل السّابق منهما ، فباطلان ، وهذا باتّفاقٍ . والتّفصيل في مصطلحي " نكاح ، وولاية " .
ب - انفراد أحد الأولياء بالتّصرّف في مال الصّغير :
8 - قال فقهاء المالكيّة : إن مات الرّجل عن أولادٍ صغارٍ ، ولم يوص إلى أحدٍ عليهم ، فتصرّف في أموالهم أحد أعمامهم ، أو إخوتهم الكبار بالمصلحة ، فتصرّفه ماضٍ ، لجريان العادة بأنّ من ذكر يقوم مقام الأب . ولم يعثر على تعدّد الأولياء وانفراد أحدهم بالتّصرّف في المال سوى ما سبق ذكره في المذهب المالكيّ .
وإذا تعدّد الأولياء أو الأوصياء فإن اتّفقوا في التّصرّف فالأمر ظاهر ، وإن اختلفوا يرفع للحاكم . وفي المسألة تفصيل وخلاف يرجع إليه في مصطلحي ( إيصاء ) ( وولاية ) .
ج - انفراد أحد الوكيلين بالتّصرّف :
9 - لكلٍّ من الوكيلين الانفراد بالتّصرّف ، إن جعل الموكّل الانفراد بالتّصرّف لكلّ واحدٍ منهما ، وبهذا قال الحنابلة والشّافعيّة ، لأنّه مأذون له فيه ، فإن لم يجعل له الانفراد ، فليس له ذلك ، لأنّه لم يأذن له به .
وعند الحنفيّة : يجوز لأحد الوكيلين أن ينفرد بالتّصرّف فيما لا يحتاج فيه إلى اجتماع رأيهما كتوكيل الموكّل لها في الخصومة ، فلا يشترط اجتماعهما ، لأنّ اجتماعهما فيها متعذّر للإفضاء إلى الشّغب في مجلس القضاء ، ولا بدّ من صيانته عن الشّغب ، لأنّ المقصود فيه إظهار الحقّ ، ولهذا لو خاصم أحدهما بدون الآخر جاز ولو لم يحضر الآخر ، عند عامّة مشايخ الحنفيّة . وقال بعضهم : يشترط حضوره أثناء مخاصمة الأوّل ، وكتوكيله لهما بطلاق زوجته بغير عوضٍ ، أو بعتق عبده بغير عوضٍ ، أو بردّ وديعةٍ عنده ، أو بقضاء دينٍ على الموكّل ، لأنّ هذه الأشياء أداء الوكالة فيها تعبير محض لكلام الموكّل ، وعبارة المثنّى والواحد سواء ، لعدم اختلاف المعنى . أمّا ما يحتاج إلى رأيٍ كالبيع والشّراء والتّزويج فلا بدّ من اجتماعهما .
وقال المالكيّة : يجوز لأحد الوكيلين على مالٍ ونحوه الانفراد بما يفعله عن موكّله ، دون إطلاع الوكيل الآخر ، إلاّ لشرطٍ من الموكّل ألاّ يستبدّ أيّ واحدٍ منهما ، أو ألاّ يستبدّ فلان ، فحينئذٍ ليس لواحدٍ منهما الاستبداد ، وسواء فيما ذكر إن كانت وكالتهما على التّعاقب ، علم أحدهما بالآخر أم لا ، أو وكّلا جميعاً .
والوكيل على مالٍ كأن يكون وكّلهما على بيعٍ ، أو شراءٍ ، أو قضاء دينٍ ، ونحو المال : كطلاقٍ وهبةٍ ووقفٍ وغير ذلك . والتّفصيل يكون في مصطلح : ( وكالة ) .
د - انفراد أحد المستحقّين للشّفعة بطلبها :
10 - إن كان أحد الشّفعاء المستحقّين للشّفعة حاضراً أو قدم من السّفر ، وكان بعضهم غائباً وطلب الحاضر الشّفعة ، فليس له إلاّ أخذ الكلّ ، أو تركه لأنّه لم يعلم الآن مطالب سواه ، ولأنّ في أخذه البعض تبعيضاً لصفقة المشتري ، ولا يجوز له ذلك ، ولا يمكن تأخير حقّه إلى أن يقدم شركاؤه لأنّ في التّأخير إضراراً بالمشتري .
وإن كان الشّفعاء كلّهم غائبين لم تسقط الشّفعة لموضع العذر . فإذا أخذ من حضر جميع الشّقص المشفوع ، ثمّ حضر شريك آخر قاسمه إن شاء ، لأنّ المطالبة إنّما وجدت منهما ، وإن عفا بقي الشّقص للأوّل . فإن قاسمه ثمّ حضر الثّالث قاسمهما إن أحبّ الأخذ بالشّفعة ، وبطلت القسمة الأولى ، لأنّه تبيّن أنّ لهما شريكاً لم يقاسم ولم يأذن ، وإن عفا الثّالث عن شفعته بقي الشّقص للأوّلين ، لأنّه لا مشارك لهما وهذا عند جمهور الفقهاء .
والتّفصيل يكون في مصطلح : ( شفعة ) .
هـ – انفراد أحد الشّريكين بالتّصرّف :
11 -إذا كانت الشّركة شركة ملكٍ ، كمن ورثوا داراً ولم يقسموها ، فليس لأحد الشّريكين الانفراد بالتّصرّف في جميع الدّار إلاّ بالتّراضي ، أو بالمهايأة أي استقلال كلّ واحدٍ منهم بالانتفاع بجميعها زمناً محدّداً وهكذا .
أمّا في شركات العقد ، ففي شركة العنان يجوز لأحد الشّركاء عند الإطلاق أن ينفرد بالتّصرّف بإجماع الفقهاء ، لأنّها مبنيّة على الوكالة والأمانة ، لأنّ كلّ واحدٍ منهما بدفع المال إلى صاحبه أمنه ، وبإذنه له في التّصرّف وكّله ، ومن شروط صحّتها ، أن يأذن كلّ واحدٍ منهما لصاحبه في التّصرّف ، فإن أذن له مطلقاً في جميع التّجارات تصرّف فيها ، ويجوز لكلّ واحدٍ منهما أن يبيع ويشتري مساومةً ، ومرابحةً ، وتوليةً ، ومواضعةً ، وكيفما رأى المصلحة ، لأنّ هذا عادة التّجّار ، وأن يقبض المبيع ، والثّمن ، ويقبضهما ، ويخاصم في الدّين ويطالب به ، ويحيل ويقبل الحوالة ، ويردّ بالعيب فيما وليه هو ، وفيما ولي صاحبه ، وأن يستأجر من مال الشّركة ويؤجّر ، وأن يفعل كلّ ما جرت به عادة أمثاله من التّجّار ، إذا رأى فيه مصلحةً ، لتناول الإذن لذلك دون التّبرّع ، والحطيطة ، والقرض ، وتزويجه ، لأنّه ليس بتجارةٍ ، وإنّما فوّض إليه العمل برأيه في التّجارة .
وإن عيّن أحد الشّريكين للآخر جنساً ، أو نوعاً ، أو بلداً ، تصرّف فيه دون غيره ، لأنّه متصرّف بالإذن فوقف عليه .
وإن أذن أحدهما ولم يأذن الآخر تصرّف المأذون له في الجميع ، ولا يتصرّف الآخر إلاّ في نصيبه ، وهذا عند الشّافعيّة . والتّفصيل يكون في مصطلح ( شركة )
و- انفراد أحد الوصيّين أو النّاظرين بالتّصرّف :
12 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الموصي إذا أوصى لاثنين معاً أو على التّعاقب ، وأطلق أو نصّ على وجوب اجتماعهما ، فلا يجوز لأحدهما الانفراد .
أمّا إذا نصّ على جواز الانفراد ، فلكلٍّ منهما أن ينفرد بالتّصرّف ، عملاً بقول الموصي . وذهب أبو يوسف إلى أنّه يجوز الانفراد ، ولو نصّ على الاجتماع ، لأنّه من قبيل الخلافة ، والخليفة ينوب عن المستخلف في كلّ ما يملكه ، وفي المسائل الّتي لا تحتاج إلى تبادل الرّأي كردّ الوديعة ، وشراء حاجات الطّفل ، وشراء كفن الميّت ، وردّ المغصوب ، وقضاء الدّين ، فقد صرّح الفقهاء بجواز انفراد أحد الوصيّين بالتّصرّف فيها .
هذا ، وإنّ أحكام الوقف مستقاة غالباً من أحكام الوصيّة ، وما يجري على الوصيّين هنا يجري كذلك على نظّار الوقف . وتفصيل ذلك في ( وصيّة ، ووكالة ، والوقف ) .
ز - انفراد الزّوجة بمسكنٍ :
13 - للزّوجة حقّ الانفراد بمسكنٍ خاصٍّ بها له غلق ومرافق ، ولو كان في دارٍ واحدةٍ ، وتسكن ضرّتها في جزءٍ مستقلٍّ منه . وكذلك أهل زوجها ، وليس للزّوجة أن تمنع طفل زوجها غير المميّز من السّكنى معهما . وهذا عند جمهور الفقهاء .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الزّوجة إذا اشترط عليها سكناها مع أقارب الزّوج أو مع ضرّتها فليس لها أن تطالب بسكنٍ منفردٍ ، وكذلك إذا كان مستواها الاجتماعيّ يسمح بذلك . والشّروط الواجب توافرها في مسكن الزّوجة وتقدير مستواه يكون في مصطلح : ( بيت الطّاعة ) ( ونفقة ) .
انفساخ *
التّعريف :
1- الانفساخ : مصدر انفسخ ، وهو مطاوع فسخ ، ومن معناه : النّقض والزّوال .
يقال : فسخت الشّيء فانفسخ أي : نقضته فانتقض ، وفسخت العقد أي : رفعته .
والانفساخ في اصطلاح الفقهاء : هو انحلال العقد إمّا بنفسه ، وإمّا بإرادة المتعاقدين ، أو بإرادة أحدهما . وقد يكون الانفساخ أثراً للفسخ ، فهو بهذا المعنى مطاوع للفسخ ونتيجة له ، كما سيأتي في أسباب الانفساخ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإقالة :
2 - الإقالة في اللّغة ، عبارة عن الرّفع ، وفي الشّرع : رفع العقد وإزالته برضا الطّرفين ، وهذا القدر متّفق عليه بين الفقهاء ، لكنّهم اختلفوا في اعتبارها فسخاً أو عقداً جديداً . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( إقالة ) .
ب - الانتهاء :
3 - انتهاء الشّيء : بلوغه أقصى مداه ، وانتهى الأمر : بلغ النّهاية . وانتهاء العقد : معناه بلوغه نهايته ، وهذا يكون بتمام المعقود عليه كالاستئجار لأداء عملٍ فأتمّه الأجير ، أو القضاء مدّة العقد كاستئجار مسكنٍ أو أرضٍ لمدّةٍ محدودةٍ . وقد يستعمل في العقود المستمرّة كانتهاء عقد الزّواج بالموت أو الطّلاق . وعلى ذلك فالفرق بين الانفساخ والانتهاء ، أنّ الانفساخ يستعمل في جميع العقود ، ويكون في عقود المدّة قبل نهايتها أيضاً ، بخلاف الانتهاء ، وبعضهم يستعمل الانفساخ مكان الانتهاء وبالعكس .
ج - البطلان :
4 - البطلان لغةً : فساد الشّيء وزواله ، ويأتي بمعنى : النّقض والسّقوط . والبطلان يطرأ على العبادات والمعاملات إذا وجد سبب من أسبابه ، ويرادف الفساد إذا استعمل في العبادات عند الفقهاء إلاّ في الحجّ . أمّا في العقود فالباطل عند الحنفيّة ، هو ما لم يكن مشروعاً لا بأصله ولا بوصفه ، بأن فقد ركناً من أركانه ، أو ورد العقد على غير محلّه ، ولا يترتّب عليه حكم من نقل الملكيّة أو الضّمان أو غيرهما .
وعلى هذا يختلف الانفساخ عن البطلان ، بأنّ الانفساخ يرد على المعاملات دون العبادات ، ويعتبر العقد قبل الانفساخ عقداً موجوداً ذا أثرٍ شرعيٍّ ، بخلاف البطلان ، لأنّ العقد الباطل في اصطلاح الحنفيّة لا وجود له أصلاً ، وكذلك عند غيرهم ممّن لا يفرّق بينه وبين الفاسد .
د - الفساد :
5 - الفساد نقيض الصّلاح ، وفساد العبادة بطلانها إلاّ في بعض مسائل الحجّ كما سبق ، والفاسد من العقود عند الحنفيّة هو : ما كان مشروعاً بأصله دون وصفه ، وأمّا عند غيرهم فيطلق الفاسد والباطل على كلّ تصرّفٍ غير مشروعٍ ، والفاسد عند الحنفيّة قد تترتّب عليه بعض الأحكام ، فالبيع الفاسد عندهم إذا اتّصل به القبض أفاد الملك ، ولكنّه ملك خبيث ، يجب فسخ العقد ما دامت العين قائمةً ، لحقّ الشّارع . ويعتبر العقد الفاسد عقداً موجوداً ذا أثرٍ ، لكنّه عقد غير لازمٍ ، يجب شرعاً فسخه رفعاً للفساد .
هـ- الفسخ :
6- الفسخ : هو حلّ ارتباط العقد ، وهذا يكون بإرادة أحد العاقدين أو كليهما ، أو بحكم القاضي ، فهو عمل المتعاقدين غالباً ، أو فعل الحاكم في بعض الأحوال كما هو مبيّن في موضعه . أمّا الانفساخ : فهو انحلال ارتباط العقد ، سواء أكان أثراً للفسخ ، أو نتيجةً لعوامل غير اختياريّةٍ . فإذا كان الانحلال أثراً للفسخ كانت العلاقة بين الفسخ والانفساخ علاقة السّبب بالمسبّب ، كما إذا فسخ أحد العاقدين عقد البيع بسبب العيب في المبيع مثلاً ، فالانفساخ في هذه الحالة نتيجة الفسخ الّذي مارسه العاقد اختياراً . يقول القرافيّ : الفسخ قلب كلّ واحدٍ من العوضين لصاحبه ، والانفساخ انقلاب كلّ واحدٍ من العوضين لصاحبه ، فالأوّل فعل المتعاقدين إذا ظفروا بالعقود المحرّمة ، والثّاني صفة العوضين ، فالأوّل سبب شرعيّ ، والثّاني حكم شرعيّ ، فهذان فرعان : فالأوّل من جهة الموضوعات ، والثّاني من جهة الأسباب والمسبّبات . ومثله ما جاء في المنثور للزّركشيّ ، إلاّ أنّه أطلق ولم يقيّد الفسخ بالعقود المحرّمة ، لأنّ الفسخ يمكن أن يقع في العقود غير المحرّمة ، وذلك بإرادة أحد العاقدين أو كليهما كما هو الحال غالباً . أمّا إذا لم يكن الانفساخ أثراً للفسخ ، بل نتيجةً لعوامل خارجةٍ عن إرادة العاقدين ، كموت أحد العاقدين في العقود غير اللّازمة مثلاً ، فلا يوجد بين الفسخ والانفساخ علاقة السّببيّة الّتي قرّرها القرافيّ .
7- ومن الأمثلة الّتي قرّر الفقهاء فيها انفساخ العقد من غير فسخٍ ما يأتي :
أ - اتّفق الفقهاء على أنّه إن تلفت العين المستأجرة انفسخت الإجارة ، كما إذا تلفت الدّابّة المعيّنة ، أو انهدمت الدّار المستأجرة .
ب - لو غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر سقط الأجر لزوال التّمكّن من الانتفاع ، وتنفسخ الإجارة عند الحنفيّة والمالكيّة ، لكنّ الشّافعيّة والحنابلة قالوا : لا ينفسخ العقد بنفسه ، بل يثبت خيار الفسخ للمستأجر .
ج - إذا مات أحد العاقدين أو كلاهما في العقود غير اللّازمة ، كالعاريّة والوكالة انفسخ العقد .
د - ينفسخ عقد الإجارة بموت أحد العاقدين أو كليهما عند الحنفيّة ، خلافاً للجمهور ، وكذلك تنفسخ الإجارة بالأعذار ، على خلافٍ وتفصيلٍ يذكر في أسباب الانفساخ .
وسوف يقتصر الكلام في هذا البحث على الانفساخ الّذي لا يكون أثراً للفسخ .
أمّا الانفساخ الّذي هو أثر للفسخ فيرجع إليه تحت عنوان ( فسخ ) .
ما يرد عليه الانفساخ :
8 - محلّ الانفساخ العقد لا غيره ، سواء أكان سببه الفسخ أم غيره ، لأنّهم عرّفوا الانفساخ بانحلال ارتباط العقد ، وهذا المعنى لا يتصوّر إلاّ إذا كان هناك ارتباط بين الطّرفين بواسطة العقد . أمّا إذا أريد من الانفساخ البطلان والنّقض ، فيمكن أن يرد على التّصرّفات الّتي تنشأ عن إرادةٍ واحدةٍ ، وكذلك العهود والوعود ، كما يستعمل أحياناً في العبادات ويرد على النّيّات ، كانفساخ نيّة صلاة الفرض إلى النّفل ، وكذلك انفساخ الحجّ بالعمرة عند الحنابلة ، فإنّهم قالوا : إذا أحرم بالحجّ فصرفه إلى العمرة ينفسخ الحجّ إلى العمرة . وخالفهم في ذلك الحنفيّة والشّافعيّة في الجديد . قال ابن عابدين : ولا يجوز أن يفسخ نيّة الحجّ بعدما أحرم ، ويقطع أفعاله ، ويجعل إحرامه وأفعاله للعمرة . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( إحرام ) .
أسباب الانفساخ :
9 - الانفساخ له أسباب مختلفة : منها ما هو اختياريّ ، وهو ما يأتي بإرادة أحد العاقدين أو بإرادة كليهما أو بحكم القاضي ، ومنها ما هو سماويّ وهو ما يأتي بدون إرادة العاقدين أو القاضي ، بل بعوامل خارجةٍ عن الإرادة لا يمكن استمرار العقد معها .
يقول الكاسانيّ : ما ينفسخ به العقد نوعان : اختياريّ وضروريّ ، فالاختياريّ هو أن يقول : فسخت العقد أو نقضته ونحوه ، والضّروريّ : أن يهلك المبيع قبل القبض مثلاً .
الأسباب الاختياريّة :
أوّلاً : الفسخ :
10 - المراد بالفسخ هنا ما يرفع به حكم العقد بإرادة أحد العاقدين أو كليهما ، وهذا يكون في العقود غير اللّازمة بطبيعتها ، كعقدي العاريّة والوكالة مثلاً ، أو ما يكون فيه أحد الخيارات ، أو بسبب الأعذار الّتي يتعذّر بها استمرار العقد ، أو بسبب الفساد .
وينظر حكم ذلك كلّه في مصطلحي : ( إقالة وفسخ ) .
ثانياً : الإقالة :
11 - الإقالة رفع العقد وإزالته برضى الطّرفين ، وهي سبب من أسباب الانفساخ الاختياريّة ، وترد على العقود اللّازمة ، كالبيع والإجارة . أمّا إذا كان العقد غير لازمٍ كالعاريّة ، أو لازماً بطبيعته ولكن فيه أحد الخيارات فلا حاجة فيه للإقالة ، لجواز فسخه بطريقٍ أخرى ، كما تقدّم . وينظر الكلام فيه تحت عنوان : ( إقالة ) .
أسباب الانفساخ غير الاختياريّة :
أوّلاً : تلف المعقود عليه :
تلف المعقود عليه له أثر في انفساخ بعض العقود ، والعقود نوعان :
12 - الأوّل : العقود الفوريّة : وهي الّتي لا يحتاج تنفيذها إلى زمنٍ ممتدٍّ يشغله باستمرارٍ ، بل يتمّ تنفيذها فوراً دفعةً واحدةً في الوقت الّذي يختاره العاقدان ، كالبيع المطلق والصّلح والهبة وغيرها . وهذا النّوع من العقود لا ينفسخ بتلف المعقود عليه إذا تمّ قبضه . فعقد البيع مثلاً يتمّ بالإيجاب والقبول ، وإذا قبض المشتري المبيع وهلك بيده لا ينفسخ العقد ، لأنّ الهالك ملك المشتري ، والمالك هو الّذي يتحمّل تبعة الهالك كما هو معروف ، وهذا متّفق عليه بين الفقهاء . أمّا إذا هلك المبيع بعد الإيجاب والقبول وقبل القبض ففيه تفصيل وبيان : فقد صرّح المالكيّة - وهو المفهوم من كلام الحنابلة - أنّه إذا كان المبيع ممّا فيه حقّ توفيةً لمشتريه ، وهو المال المثليّ من مكيلٍ أو موزونٍ أو معدودٍ ، ينفسخ العقد بالتّلف والضّمان على البائع . أمّا إذا كان المبيع معيّناً وكان عقاراً ، أو من الأموال القيميّة الّتي ليس لمشتريها حقّ توفيةٍ فلا ينفسخ العقد بالتّلف ، وينتقل الضّمان إلى المشتري بالعقد الصّحيح اللّازم . وأطلق الحنفيّة والشّافعيّة القول بانفساخ البيع إذا هلك المبيع قبل قبضه . قال السّمرقنديّ : ولو هلك المبيع قبل التّسليم فالهلاك يكون على البائع ، يعني يسقط الثّمن وينفسخ العقد . ومثله ما جاء في القليوبيّ : المبيع قبل قبضه من ضمان البائع ، فإن تلف بآفةٍ سماويّةٍ انفسخ البيع وسقط الثّمن عن المشتري .
13 - وهذا كلّه إذا تلف المبيع ، أمّا إذا تلف الثّمن ، فإن كان معيّناً دراهم أو دنانير أو غيرهما فحكمه حكم المبيع ، لو تلف انفسخ عند الشّافعيّة . وقال الحنفيّة : إذا هلك الثّمن قبل القبض فإن كان مثليّاً لا ينفسخ العقد ، لأنّه يمكن تسليم مثله ، بخلاف المبيع ، لأنّه عين وللنّاس أغراض في الأعيان . أمّا إن هلك الثّمن وليس له مثل في الحال ففيه خلاف . ولا أثر لتلف الثّمن في الانفساخ إذا لم يكن عيناً بأن كان نقداً دراهم أو دنانير ، لأنّه ليس مقصوداً بالعقد ، ولأنّ الدّراهم والدّنانير لا تتعيّن بالتّعيين في العقد .
هذا ، وأمّا إتلاف المبيع قبل القبض إن كان من قبل البائع ينفسخ به العقد بلا خلافٍ . وإن كان من قبل المشتري يعتبر قبضاً يوجب الضّمان عليه .
14 - الثّاني : العقود المستمرّة : وهي الّتي يستغرق تنفيذها مدّةً من الزّمن وتمتدّ بامتداد الزّمن حسب الشّروط المتّفق عليها بين الطّرفين والّتي تقتضيها طبيعة هذه العقود ، كالإجارة والإعارة والوكالة وأمثالها .
وهذا النّوع من العقود ينفسخ بتلف المعقود عليه ، سواء أكان قبل القبض أم بعده ، وهذا متّفق عليه بين الفقهاء في الجملة .
فعقد الإجارة مثلاً ينفسخ بهلاك العين المستأجرة . فإن تلفت قبل القبض أو عقيب القبض قبل مضيّ مدّةٍ يتمكّن المستأجر من الانتفاع بها ينفسخ العقد من أصله ويسقط الأجر . وإن تلفت العين المستأجرة بعد مضيّ شيءٍ من المدّة فإنّ الإجارة تنفسخ فيما بقي من المدّة ، دون ما مضى ، ويكون للمؤجّر من الأجر بقدر ما استوفى من المنفعة أو بقدر ما مضى من المدّة . وفي إجارة الدّوابّ صرّح الفقهاء : أنّه إذا وقعت الإجارة على دوابّ بعينها لحمل المتاع ، فماتت انفسخت الإجارة ، بخلاف ما إذا وقعت على دوابّ لا بعينها وسلّم الأجر إليه فماتت لا ينفسخ العقد ، وعلى المؤجّر أن يأتي بغير ذلك للمستأجر .
وكذلك إذا وقع على العين ما يمنع نفعها بالكلّيّة ، كما لو أصبحت الدّار المستأجرة غير صالحةٍ للسّكنى عند الجمهور ( المالكيّة والحنابلة وهو ظاهر مذهب الحنفيّة والأصحّ عند الشّافعيّة ) وذلك لزوال الاسم بفوات السّكنى ، لأنّ المنفعة المعقود عليها تلفت فانفسخت الإجارة ، كما لو استأجر دابّةً ليركبها فزمنت ( أي مرضت مرضاً مزمناً ) بحيث لا تصلح إلاّ لتدور في الرّحى . وفي قولٍ عند الحنفيّة ، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة : لا ينفسخ العقد لكن له الفسخ ، لأنّ أصل المعقود عليه لا يفوت ، لأنّ الانتفاع بالعرصة ( وهي أرض المبنى ) ممكن بدون البناء ، إلاّ أنّه ناقص ، فصار كالعيب ومن العقود المستمرّة الّتي تنفسخ بتلف المعقود عليه عقد الشّركة وعقد المضاربة ، كما هو مبيّن في موضعهما . وكذلك عقد العاريّة بتلف المعار ، وتنتهي الوكالة الخاصّة بفوات محلّ الوكالة ، كما هو مبيّن في مصطلحي ( إعارة ، ووكالة ) . أمّا إذا غصب المحلّ وحيل بين الشّخص المنتفع والعين المنتفع بها فلا ينفسخ به العقد من تلقاء نفسه عند الجمهور ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض الحنفيّة ) بل للمستأجر حقّ الفسخ . وقال بعض الحنفيّة : إنّ الغصب أيضاً موجب للانفساخ ، لزوال التّمكّن من الانتفاع ، كما سيأتي .
ثانياً : موت أحد العاقدين أو كليهما :
15 - لا يؤثّر الموت في انفساخ جميع العقود على حدٍّ سواءٍ ، فبعض العقود يتمّ الغرض منها بعد الإيجاب والقبول فوراً ، فلا يحتاج إلى العاقدين وأهليّتهما بعد انعقادها ، كالبيع الّذي يفيد تملّك المشتري المبيع ، وتملّك البائع الثّمن فور إنشائه إن لم يكن مقروناً بالخيار فإذا مات أحد العاقدين أو كلاهما بعد إتمام العقد وانتقال ملكيّة البدلين لا ينفسخ العقد وعلى عكس ذلك ينتهي عقد النّكاح بموت أحد العاقدين ، لأنّ الغرض منه دوام العشرة وقد زال بالموت . وهذا ممّا اتّفق الفقهاء عليه .
وهناك عقود اختلف الفقهاء في انفساخها بالموت ، كعقد الإجارة والمزارعة والمساقاة ، وعقود أخرى اتّفقوا على انفساخها بالموت في الجملة ولكنّهم اختلفوا في تكييف انفساخها وتعليله ، كعقود العاريّة الوديعة والشّركة ، وتفصيل ذلك فيما يأتي :
أ - انفساخ العقود اللّازمة :
16 - العقود اللّازمة هو ما لا يستبدّ أحد العاقدين بفسخها ، كالبيع والإجارة والصّلح ونحوها . وبعض هذه العقود لا يحتاج إلى امتداد الزّمن ، فلا أثر للموت في انفساخها بعد تمامها ، كعقد البيع ، فإنّه لا ينفسخ بوفاة البائع أو المشتري بعد ما تمّ العقد بينهما ، ويقوم الورثة مقام المورّث فيما نشأ من آثار العقد .
وهناك نوع آخر من العقود اللّازمة يتوقّف آثارها على مرور الزّمن ، كعقد الإجارة ، وفي انفساخ عقد الإجارة بموت أحد العاقدين أو كليهما خلاف بين الفقهاء :
فجمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) على أنّ عقد الإجارة لا ينفسخ بموت العاقدين أو أحدهما ، بل تبقى إلى انقضاء المدّة ، لأنّها عقد لازم ، فلا ينفسخ بالموت ، كعقد البيع . ويخلف المستأجر وارثه في استيفاء المنفعة . وهذا في الجملة مع خلافٍ بينهم في بعض الفروع سيأتي ذكره . وقال الحنفيّة : إنّ الإجارة تنفسخ بموت أحد العاقدين إن عقدها لنفسه ، لأنّها عقد على المنفعة وهي تحدث شيئاً فشيئاً ، فتنعقد الإجارة بحدوثها شيئاً فشيئاً ، فلا تبقى بدون العاقد . وإن عقدها لغيره لم تنفسخ كالوصيّ والوليّ وقيّم الوقف ، ولأنّ من وقع عليه الموت إن كان هو المؤجّر فالعقد يقتضي استيفاء المنافع من ملكه ، ولو بقي بعد موته لاستوفيت المنافع من ملك غيره ، وهذا خلاف مقتضى العقد ، وإن كان هو المستأجر فالعقد يقتضي استحقاق الأجرة من ماله ، ولو بقي العقد بعد موته لاستحقّت الأجرة من مال غيره ، وهذا خلاف مقتضى العقد . بخلاف ما إذا مات من لم يقع له العقد كالوكيل ونحوه ، لأنّه لا يقتضي استحقاق المنافع ولا استحقاق الأجرة من ملكه ، فإبقاء العقد بعد موته لا يوجب تغيير موجب العقد . وأصل الخلاف يرجع إلى تكييف الإجارة في نقل المنافع . فالجمهور على أنّ الإجارة إذا تمّت وكانت على مدّةٍ معيّنةٍ ملك المستأجر المنافع المعقود عليها إلى المدّة ، ويكون حدوثها على ملكه . وكذلك المؤجّر يملك الأجرة بمجرّد العقد عند الشّافعيّة والحنابلة إذا لم يشترط فيها التّأجيل ، كما يملك البائع الثّمن بالبيع . فإذا مات أحد العاقدين بعد تمام العقد وقبل انقضاء المدّة يقوم الورثة مقام المتوفّى ولا ينفسخ العقد . وقال الحنفيّة : إلى المعقود عليه في الإجارة المنفعة ، والأجرة تستحقّ باستيفائها أو باشتراط التّعجيل . ولا يمكن استيفاء المنفعة لدى العقد ، لأنّها تحدث شيئاً فشيئاً ، وهي عقد معاوضةٍ ، فتقتضي المساواة فلا تجب الأجرة بنفس العقد ، فإذا استوفى المعقود عليه استحقّ الأجرة عملاً بالمساواة . وقول الجمهور بعدم انفساخ عقد الإجارة بموت العاقدين لا يعني أنّهم يخالفون في الانفساخ في جميع الحالات . فقد صرّحوا : أنّ عقد الإجارة ينفسخ بموت الأجير المعيّن ، وبموت المرضعة ، وموت الصّبيّ المستأجر لتعليمه وعلى رضاعه . وقد نقل عن الشّافعيّة في موت الصّبيّ المتعلّم أو المرتضع قول آخر بعدم الانفساخ .
ب - الانفساخ بالموت في العقود غير اللّازمة :
17 - العقود غير اللّازمة ( الجائزة ) هي ما يستبدّ أحد العاقدين بفسخها كالعاريّة والوكالة والشّركة الوديعة ونحوها .
وهذه العقود تنفسخ بوفاة أحد العاقدين أو كليهما ، لأنّها عقود جائزة يجوز لكلّ واحدٍ من الطّرفين فسخها في حياته ، فإذا ما توفّي فقد ذهبت إرادته ، وانتهت رغبته ، فبطلت آثار هذه العقود الّتي كانت تستمرّ باستمرار إرادة العاقدين ، وهذا الحكم متّفق عليه بين الفقهاء في الجملة . فعقد الإعارة ينفسخ بموت المعير أو المستعير عند جمهور الفقهاء : ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) ، لأنّها عقد على المنافع ، وهي تحدث شيئاً فشيئاً ، فيتجدّد العقد حسب حدوث المنافع ، ولا يمكن ذلك بعد وفاة أحد العاقدين ، كما علّله الحنفيّة ، ولأنّ العاريّة إباحة المنافع ، وهي تحتاج إلى الإذن ، وقد بطل بالموت ، فانفسخت الإعارة ، كما علّله الشّافعيّة والحنابلة .
أمّا المالكيّة فالعاريّة عندهم عقد لازم ، إذا كانت مقيّدةً بأجلٍ أو عملٍ ، فلا تنفسخ بموت المعير أو المستعير ، وتدوم إلى أن تتمّ المدّة ، أمّا إذا كانت العاريّة مطلقةً ففي انفساخها عند المالكيّة روايتان ظاهرهما عدم الانفساخ إلى العمل أو الزّمن المعتاد .
وكذلك عقد الوكالة ينفسخ بموت الوكيل أو الموكّل عند عامّة الفقهاء ، لأنّها عقد جائز ينفسخ بالعزل ، والموت في حكم عزل الوكيل . وإذا مات الوكيل زالت أهليّته للتّصرّف ، وإذا مات الموكّل زالت صلاحيّته بتفويض الأمر إلى الوكيل فتبطل الوكالة .
هذا ولا يشترط جمهور الفقهاء في انفساخ الوكالة علم الوكيل بموت الموكّل . واشترط بعض المالكيّة ( وهو رواية عند الحنابلة ) علم الوكيل بموت الموكّل في انفساخ الوكالة كما ذكره ابن رشدٍ . وهكذا الحكم في سائر العقود الجائزة كعقد الشّركة ، الوديعة وغيرهما تنفسخ بموت أحد العاقدين على تفصيلٍ في بعض الفروع يرجع إليها في مواضعها .
هذا ، وهناك عقود أخرى تعتبر لازمةً من جانب أحد العاقدين ، جائزةً من جانب العاقد الآخر ، كعقد الكفالة ، فهي لازمة من ناحية الكفيل الّذي لا يستبدّ بفسخها ، دون إذن المكفول له ، لكنّها جائزة من جانب المكفول له يستبدّ بفسخها . وكعقد الرّهن ، فهو لازم من قبل الرّاهن ، جائز من قبل المرتهن الّذي يستطيع فسخه بدون إذن الرّاهن .
وفيما يلي أثر الموت في انفساخ هذين العقدين :
أثر الموت في انفساخ عقد الكفالة :
18 - موت الكفيل أو المكفول لا تنفسخ به الكفالة ، ولا يمنع مطالبة المكفول له بالدّين ، فإذا مات الكفيل أو المكفول يحلّ الدّين المؤجّل على الميّت عند الجمهور ( الحنفيّة والمالكيّة ، والشّافعيّة ) وهو رواية عند الحنابلة ، تحصّل الدّين من تركة المتوفّى ، ولو ماتا خيّر الطّالب في أخذه من أيّ التّركتين . ولو مات المكفول له يحلّ الورثة محلّه في المطالبة . وفي روايةٍ أخرى عند الحنابلة لا يحلّ الدّين المؤجّل بموت الكفيل أو المكفول ، ويبقى مؤجّلاً كما هو .
أثر الموت في انفساخ عقد الرّهن :
19 - اتّفق الفقهاء على أنّ عقد الرّهن لا ينفسخ بموت أحد العاقدين بعد قبض المرهون ، فإذا مات الرّاهن أو المرهن يقوم الورثة مقام المتوفّى ، وتبقى العين المرهونة تحت يد المرتهن أو ورثته ، ولا سبيل إلى خلاص الرّهن إلاّ بقضاء الدّين أو إبراء من له الحقّ . والمرتهن أحقّ بالرّهن وبثمنه إن بيع في حياة الرّاهن أو بعد وفاته . وعقد الرّهن قبل قبض المرهون عقد غير لازمٍ عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) وكان المفروض أن ينفسخ بموت أحد العاقدين كسائر العقود الجائزة ، إلاّ أنّهم اختلفوا في انفساخه قبل القبض : فقال الحنابلة - وهو الأصحّ عند الشّافعيّة - لا ينفسخ بموت أحد العاقدين . فإن مات المرتهن قام وارثه مقامه في القبض ، لكن إن مات الرّاهن لم يلزم ورثته الإقباض . وقال الحنفيّة : وهي الرّواية الثّانية عند الشّافعيّة - إنّ عقد الرّهن ينفسخ بموت أحد العاقدين قبل القبض ، لأنّه عقد جائز .
أمّا المالكيّة فصرّحوا بأنّ الرّهن يلزم بالعقد ، ويجبر الرّاهن على التّسليم ، إلاّ أن يتراخى المرتهن عن المطالبة ، وعلى ذلك فلا ينفسخ بوفاة المرتهن ، ويقوم ورثته مقام مورّثهم في مطالبة المدين وقبض المرهون ، لكنّهم نصّوا على أنّ الرّهن ينفسخ بموت الرّاهن وفلسه قبل حوزه ولو جدّ فيه .
أثر تغيّر الأهليّة في انفساخ العقود :
20 - الأهليّة : صلاحيّة الإنسان لوجوب الحقوق له وعليه ، ولصدور الفعل منه على وجهٍ يعتدّ به شرعاً . وتعرض للأهليّة أمور تغيّرها وتحدّدها فتتغيّر بها الأحكام الشّرعيّة ، كما سيأتي في الملحق الأصوليّ . وتغيّر الأهليّة بما يعرض من بعض العوارض ، كالجنون أو الإغماء أو الارتداد ونحوها ، له أثر في انفساخ بعض العقود ، فقد صرّح جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) أنّ العقود الجائزة : مثل المضاربة ، والشّركة ، والوكالة ، الوديعة ، والعاريّة ، تنفسخ بجنون أحد العاقدين أو كليهما .
أمّا المالكيّة فعقد المضاربة عندهم عقد لازم بعد الشّروع في العمل ولهذا يورث ، وكذلك عقد العاريّة إذا كانت مقيّدةً بأجلٍ أو عملٍ ، فلا ينفسخان بالجنون .
أمّا في عقد الوكالة فقد صرّح المالكيّة أنّ جنون الوكيل لا يوجب عزله إن برأ ، وكذا جنون الموكّل وإن لم يبرأ ، فإن طال نظر السّلطان في أمره . ويفهم من ذلك حكم الشّركة ، لأنّ الشّريك يعتبر وكيلاً عن صاحبه في تصرّفاته الّتي يقوم بها عنه ، وكلاهما من العقود غير اللّازمة ( الجائزة ) . أمّا العقود اللّازمة كالبيع والإجارة ، فلا تنفسخ بالجنون بعد تمامها عند عامّة الفقهاء . حتّى إنّ الحنفيّة الّذين يقولون بانفساخ الإجارة بالموت ، لأنّها عقد على المنافع - وهي تحدث شيئاً فشيئاً - صرّحوا بعدم انفساخها بالجنون ، ففي الفتاوى الهنديّة : الإجارة لا تنفسخ بجنون الآجر أو المستأجر ولا بارتدادهما ، وإذا ارتدّ الآجر أو المستأجر في مدّة الإجارة ولحق بدار الحرب وقضى القاضي بلحاقه بطلت الإجارة ، وإن عاد مسلماً إلى دار الإسلام في مدّة الإجارة عادت الإجارة .
ولعلّ دليل التّفرقة بين انفساخ الإجارة بالموت وعدم انفساخها بالجنون عند الحنفيّة هو أنّ الموت سبب نقل الملكيّة ، فلو أبقينا العقد لاستوفيت المنافع أو الأجرة من ملك الغير ( الورثة ) وهذا خلاف مقتضى العقد ، بخلاف الجنون ، لأنّه ليس سبباً لانتقال الملكيّة ، فبقاء الإجارة لأنّ استيفاء المنافع والأجرة من ملك العاقدين .
21 - ومن العقود اللّازمة الّتي لا تنفسخ تلقائيّاً بالجنون عقد النّكاح ، لكنّه يعتبر عيباً يثبت به الخيار في فسخ العقد في الجملة عند جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) ر ( نكاح . فسخ ) .
22 - وردّة أحد الزّوجين موجبة لانفساخ عقد النّكاح عند عامّة الفقهاء . بدليل قوله تعالى : { لا هنّ حلّ لهم ولا هم يحلّون لهنّ } ، وقوله سبحانه : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } . فإذا ارتدّ أحدهما وكان ذلك قبل الدّخول انفسخ النّكاح في الحال ولم يرث أحدهما الآخر ، وإن كان بعد الدّخول قال الشّافعيّة - وهو رواية عند الحنابلة - حيل بينهما إلى انقضاء العدّة ، فإن رجع إلى الإسلام قبل أن تنقضي العدّة فالعصمة باقية ، وإن لم يرجع إلى الإسلام انفسخ النّكاح بلا طلاقٍ . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ، وهو رواية عند الحنابلة : إنّ ارتداد أحد الزّوجين فسخ عاجل بلا قضاءٍ فلا ينقص عدد الطّلاق ، سواء أكان قبل الدّخول أم بعده . وقال المالكيّة ، وهو قول محمّدٍ من الحنفيّة : إذا ارتدّ أحد الزّوجين انفسخ النّكاح بطلاقٍ بائنٍ . أمّا إذا أسلم أحد الزّوجين وتخلّف الآخر - ما لم يكن المتخلّف زوجةً كتابيّةً - حتّى انقضت عدّة المرأة انفسخ النّكاح في قول الجمهور ، سواء أكانا بدار الإسلام أم بدار الحرب . وذهب الحنفيّة إلى أنّه إن كان المتخلّف عن الإسلام بدار الحرب فالحكم كذلك ، أمّا إن كان بدار الإسلام فلا بدّ من عرض الإسلام عليه ، فإن أسلم وإلاّ فرّق بينهما .
وهل يعتبر هذا الانفساخ طلاقاً أم لا ؟ اختلفوا فيه : فعند أبي حنيفة ومحمّدٍ – وهو رواية عند المالكيّة- إذا امتنع الزّوج عن الإسلام يعتبر هذا التّفريق طلاقاً ينقص العدد ، بخلاف ما إذا امتنعت المرأة عن الإسلام حيث يعتبر التّفريق فسخاً ، لأنّها لا تملك الطّلاق .
وذهب الجمهور ( الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة في المشهور وأبو يوسف من الحنفيّة ) إلى أنّه فسخ لا طلاق في كلتا الحالتين .
أثر تعذّر أو تعسّر تنفيذ العقد :
23 - المراد بذلك صعوبة دوام العقد ، وهو أعمّ من التّلف ، فيشمل الضّياع والمرض والغصب وغير ذلك . وهذا يكون بأمورٍ ، منها هلاك محلّ العقد ، وقد تقدّم الكلام عليه ، ومنها الاستحقاق وبيانه فيما يلي :
أثر الاستحقاق في الانفساخ :
24 - الاستحقاق : ظهور كون الشّيء حقّاً واجباً للغير ، فإذا بيع أو استؤجر شيء ثمّ ظهر بالبيّنة أنّه حقّ لغير البائع أو المؤجّر فهل ينفسخ العقد ؟ .
صرّح الحنفيّة أنّ الحكم بالاستحقاق لا يوجب فسخ العقد ، بل يوجب توقّفه على إجازة المستحقّ . فإذا لم يجز المستحقّ العقد ، أو رجع المشتري على بائعه بالثّمن ، أو طلب المشتري من القاضي أن يحكم على البائع بدفع الثّمن ، فحكم له بذلك ينفسخ العقد فيأخذ المستحقّ المبيع ، ويستردّ المشتري الثّمن من البائع .
وانفساخ البيع باستحقاق المبيع هو ما ذهب إليه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
هذا إذا كان الاستحقاق قد ثبت بالبيّنة اتّفاقاً ، وكذلك إذا ثبت بإقرار المشتري ، أو نكوله عند بعض الفقهاء . وهذا إذا استحقّ كلّ المبيع . أمّا إذا استحقّ بعض المبيع ، فقيل : ينفسخ العقد في الكلّ ، وقيل : ينفسخ في الجزء المستحقّ فقط ، وقيل : يخيّر المشتري بين فسخ العقد في الجميع وبين فسخه في البعض المستحقّ .
وبعضهم فصّلوا بين ما إذا كان الجزء المستحقّ معيّناً أو مشاعاً .
هذا ، وللاستحقاق أثر في انفساخ عقد الإجارة والرّهن والهبة وعقد المساقاة وغيرها ممّا فصّله الفقهاء في مواضعه . وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( استحقاق ) .
ثالثاً - الغصب :
25 - غصب محلّ العقد يوجب الانفساخ في بعض العقود ففي عقد الإجارة مثلاً صرّح الحنفيّة : أن لو غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر سقط الأجر كلّه فيما إذا غصبت في جميع المدّة . وإن غصبت في بعضها سقط بحسابها لزوال التّمكّن من الانتفاع . وتنفسخ الإجارة بالغصب في المشهور عند الحنفيّة ، خلافاً لقاضي خان . فلو زال الغصب قبل نهاية المدّة لا تعود الإجارة على المشهور ، وتعود على قول قاضي خان فيستوفي باقي المدّة . وألحق المالكيّة الغصب بتلف المحلّ فحكموا بانفساخ العقد به . فقد صرّحوا أنّ الإجارة تنفسخ بتعذّر ما يستوفي من المنفعة ، والتّعذّر أعمّ من التّلف ، فيشمل الضّياع والمرض والغصب وغلق الحوانيت قهراً وغير ذلك .
أمّا الشّافعيّة والحنابلة فقالوا : إن غصبت العين المستأجرة فللمستأجر الفسخ ، لأنّ فيه تأخير حقّه ، فإن فسخ فالحكم فيه كما لو انفسخ ، وإن لم يفسخ حتّى انقضت مدّة الإجارة فله الخيار بين الفسخ والرّجوع بالمسمّى ، وبين البقاء على العقد ومطالبة الغاصب بأجر المثل . ولمعرفة تأثير الغصب في انفساخ العقود الأخرى يرجع إلى هذه العقود وإلى مصطلح ( غصب ) .
26 - هذا وهناك أنواع أخرى من التّعذّر توجب انفساخ العقد ، أو تعطي للعاقد خيار الفسخ ، منها ما يلي :
أوّلاً : عجز العاقد عن المضيّ في موجب العقد شرعاً ، بأن كان المضيّ فيه حراماً ، كما إذا استأجر شخصاً على قلع الضّرس إذا اشتكت ثمّ سكنت ، أو على قطع اليد المتآكلة إذا برأت ، أو استيفاء القصاص إذا سقط بالعفو ، ففي هذه الحالات تنفسخ الإجارة بنفسها .
ثانياً : تضمّن الضّرر بأن كان المضيّ في موجب العقد غير ممكنٍ إلاّ بتحمّل ضررٍ زائدٍ لم يستحقّ بالعقد ، كما إذا استأجر الطّبّاخ للوليمة ثمّ خالع المرأة ، أو استأجر دابّةً ليسافر عليها ففاته وقت الحجّ أو مرض ، أو استأجر ظئراً فحبلت ، ففي هذه الصّور وأمثالها اختلف الفقهاء بين قائلٍ بانفساخ العقد بنفسه ، وقائلٍ باستحقاق المستأجر الخيار في الفسخ .
ثالثاً : زوال المنفعة المعقود عليها ، كدارٍ انهدمت وأرضٍ غرقت وانقطع ماؤها . فهذه الصّور إن لم يبق فيها نفع أصلاً فهي كالتّالفة ينفسخ بها العقد ، كما سبق . وإن بقي فيها نفع غير ما استأجرها له ، مثل أن يمكنه الانتفاع بعرصة الدّار ، والأرض بوضع حطبٍ فيها ، أو نصب خيمةٍ في أرضٍ استأجرها للزّراعة ، انفسخ العقد فيهما عند البعض لزوال الاسم ، ولأنّ المنفعة الّتي وقع عليها العقد تلفت ، ولا تنفسخ عند الآخرين ، لأنّ المنفعة لم تبطل جملةً ، فأشبه ما لو نقص نفعها مع بقائها . فعلى هذا يخيّر المستأجر بين الفسخ والإمضاء .
الانفساخ في الجزء وأثره في الكلّ :
27 - انفساخ العقد في جزءٍ من المعقود عليه بسببٍ من الأسباب يؤدّي في بعض الأحوال إلى الانفساخ في المعقود عليه كلّه .
وهذا إن لم يكن الجزء الّذي ينفسخ فيه العقد قد قدّر نصيبه من العوض ، أو كان في تجزئة العقد ضرر بيّن لأحد العاقدين ، أو يجمع في عقدٍ واحدٍ بين ما يجوز بيعه وما لا يجوز .
وهذا ما يعبّر عنه الفقهاء بتفريق الصّفقة . فإذا جمع في العقد ما يجوز عليه وما لا يجوز يبطل فيما لا يجوز بغير خلافٍ . وهل يبطل في الباقي ، يختلف ذلك باختلاف العقود ، وإمكان التّجزئة والاجتناب عن إلحاق الضّرر بأحد الطّرفين . وفي ذلك خلاف وتفصيل يرجع إليه في مصطلح : ( تفريق الصّفقة ) .
28 - ومن هذا القبيل ما ذكر الفقهاء من المسائل الآتية :
أ - إن وقع العقد على مكيلٍ أو موزونٍ فتلف بعضه قبل قبضه لم ينفسخ العقد في الباقي ، ويأخذ المشتري الباقي بحصّته من الثّمن ، لأنّ العقد وقع صحيحاً ، فذهاب بعض المعقود عليه لا يفسخه ، لإمكان تبعيضه مع عدم إلحاق الضّرر بأحد الجانبين ، كما صرّح به الحنفيّة والحنابلة .
ب - وفي القواعد لابن رجبٍ الحنبليّ أنّه : إذا طرأ ما يقتضي تحريم إحدى المرأتين بعينها ، كردّةٍ ورضاعٍ اختصّت بانفساخ النّكاح وحدها بغير خلافٍ . وإن طرأ ما يقتضي تحريم الجمع بينهما ، فإن لم يكن لإحداهما مزيّة ، بأن صارتا أمّاً وبنتاً بالارتضاع ، ففي ذلك روايتان : أصحّهما يختصّ الانفساخ بالأمّ وحدها إذا لم يدخل بهما ، لأنّ الاستدامة أقوى من الابتداء ، فهو كمن أسلم على أمٍّ وبنتٍ لم يدخل بهما ، فإنّه يثبت نكاح البنت دون الأمّ .
ج - سبق أنّ مذهب الحنفيّة انفساخ عقد الإجارة بموت أحد العاقدين أو كليهما . فإذا أجّر رجلان داراً من رجلٍ ثمّ مات أحد المؤجّرين فإنّ الإجارة تبطل ( تنفسخ ) في نصيبه فقط ، وتبقى بالنّسبة لنصيب الحيّ على حالها . وكذا إذا مات أحد المستأجرين . ولو استأجر دارين فسقطت إحداهما فله أن يتركهما ، لأنّ العقد عليهما صفقةً واحدةً ، وقد تفرّقت ، فيثبت له الخيار .
د - لو باع دابّتين فتلفت إحداهما قبل قبضها انفسخ البيع فيما تلف كما هو معلوم . أمّا فيما لم يتلف فقد صرّح الحنفيّة ، وهو المذهب عند الشّافعيّة : أنّه لا ينفسخ وإن لم يقبض ، بل يتخيّر المشتري بين الفسخ والإجازة ، فإن أجازه فبحصّته من المسمّى ، وفي قولٍ عند الشّافعيّة بجميع الثّمن ، وينفسخ في الجميع عندهم في أحد القولين .
هـ - لو استحقّ بعض المبيع انفسخ العقد كلّه في قولٍ عند الشّافعيّة ، وهو رواية عند الحنابلة كما ذهب إليه المالكيّة إذا كان الجزء المستحقّ هو الأكثر وينفسخ العقد في الجزء المستحقّ وحده في قولٍ آخر عند الشّافعيّة ، وهو ما ذهب إليه الحنفيّة إذا كان الاستحقاق بعد القبض وكان المبيع ممّا لا يضرّ تبعيضه ، كما إذا اشترى ثوبين فاستحقّ أحدهما . وذهب بعض الفقهاء إلى ثبوت الخيار للمشتري بين الفسخ في الكلّ وبين الإمضاء في الباقي على تفصيلٍ ينظر في مصطلح : ( استحقاق ) .
آثار الانفساخ :
29 - آثار الانفساخ تختلف باختلاف العقود واختلاف أسباب الانفساخ ، وطبيعة المعقود عليه ، وهل هو باقٍ على حاله أم طرأ عليه التّغيير من الزّيادة أو النّقصان وغير ذلك . فلا تجمعها قواعد كلّيّة وأحكام شاملة ؟ .
وما أجمله الفقهاء من بعض الآثار في أنواعٍ خاصّةٍ من العقود ، لا يخلو عن استثناءاتٍ حسب طبيعة هذه العقود وما يؤثّر على انفساخها من عوامل ، وفيما يلي تفصيل بعض هذه الآثار .
أوّلاً : إعادة الطّرفين إلى ما قبل العقد :
أ - في العقود الفوريّة :
30 - ذكر الفقهاء في أكثر من موضعٍ أنّ الانفساخ يجعل العقد كأن لم يكن . وهذا صحيح في الجملة في العقود الفوريّة ( الّتي لا تتعلّق بمدّةٍ ) فعقد البيع مثلاً إذا انفسخ بسبب هلاك المبيع قبل القبض يرفع العقد من الأصل ويكون كأن لم يبعه أصلاً ، فيرجع المشتري على البائع بالثّمن إذا سلّمه إيّاه ، لأنّ الضّمان قبل قبض المبيع يكون على البائع على تفصيلٍ بين المنقول والعقار كما تقدّم .
ب - في العقود المستمرّة :
31 - أمّا الانفساخ في العقود المستمرّة ( الّتي تتعلّق بالمدّة ) فإنّه يرفع العقد من حينه قطعاً ، لا من أصله . ففي عقد الإجارة مثلاً ، صرّح الفقهاء أنّ المعقود عليه - الأجير المعيّن والدّابّة المعيّنة - إذا تلف ينفسخ العقد في الزّمان المستقبل لا في الزّمان الماضي ، فيلزمه أجرة ما مضى بحسابه ، وما لم يحصل فلا شيء عليه فيه . وكذلك الحكم في عقود العاريّة والشّركة ، والمضاربة والوكالة ونحوها ، إذا انفسخت فالانفساخ فيها يرفع العقد من حينه لا من أصله . وهذا في الجملة وتفصيله في مصطلحاتها .
ثانياً : أثر تغيير المحلّ قبل الانفساخ :
32 - انفساخ العقد يوجب زوال أثر العقد وردّ المعقود عليه إلى من كان له قبل العقد . فإذا كان قائماً ولم يتغيّر يردّ بعينه كالمبيع إذا انفسخ البيع بسبب الفساد أو الإقالة أو الخيار أو الاستحقاق ونحوها . ففي هذه الحالات وأمثالها تردّ العين المعقود عليها إلى صاحبها الأصليّ ، ويستردّ المشتري الثّمن من البائع . وكذلك إذا انفسخت الإجارة بموت أحد العاقدين أو بالاستحقاق أو بانتهاء المدّة ، فتردّ العين المأجورة إلى صاحبها ، إذا كانت قائمةً ولم تتغيّر . وهكذا الحكم في عقود الإيداع والإعارة والرّهن إذا انفسخت تردّ الوديعة والمعار والمرهون إلى أصحابها بعينها إذا كانت قائمةً .
33 - أمّا لو تغيّر المعقود عليه بأن زاد المبيع مثلاً فالحكم يختلف باختلاف سبب الانفساخ ، ففي انفساخ البيع بسبب الفساد ، إن كانت الزّيادة في المبيع منفصلةً عنه كالثّمرة واللّبن والولد ، أو متّصلةً متولّدةً من الأصل ، فإنّ هذا لا يمنع من ردّ أصل المبيع مع الزّيادة إلى البائع عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) .
ولو حصل التّغيّر بنقصان المبيع بيعاً فاسداً يردّ المبيع مع أرش النّقصان عند الجمهور خلافاً للمالكيّة ، فإنّ التّغيّر بالزّيادة أو النّقصان يعتبر تفويتاً للمبيع عندهم .
34 - وفي عقد الإجارة إذا تغيّر المأجور قبل الانفساخ ثمّ انفسخت الإجارة ، فإن كان التّغيّر بالنّقصان وبتقصيرٍ من المستأجر يلزمه ردّ المأجور مع أرش النّقصان .
وإن كان بالزّيادة كالغرس والبناء في الأرض وقد تمّت مدّة الإجارة ، فعلى المستأجر قلع الغرس وهدم البناء عند الحنفيّة والمالكيّة ، إلاّ إذا رضيا بدفع قيمة الغرس والبناء عند الحنفيّة ، ويخيّر المالك بين تملّك الغرس والبناء بقيمته ، أو تركه بأجرته عند الحنابلة والشّافعيّة . أمّا إذا كان التّغيّر في العين المستأجرة بالزّراعة وانفسخت الإجارة بانقضاء المدّة قبل أن يحين وقت حصادها ، فليس للمؤجّر إجبار المستأجر على تسليم الأرض المستأجرة له ، بل تترك بيد المستأجر إلى وقت الحصاد بأجر المثل . وهكذا الحكم في العاريّة ، لأنّهم صرّحوا أنّه ( إذا استعار أرضاً للزّراعة فزرعها ثمّ أراد صاحب الأرض أن يأخذها لم يكن له ذلك حتّى يحصد الزّرع ، بل يترك إلى وقت الحصاد بأجر المثل ) . ولا خلاف في أصل هذا الحكم بين الفقهاء . إلاّ أنّ الشّافعيّة قيّدوه بأن لا يكون تأخّر الزّرع بتقصير المستأجر أو المستعير . والحنابلة قيّدوه بأن لا يكون ذلك بتفريطهما .
ثالثاً : ضمان الخسارة النّاشئة عن الانفساخ :
35 - إذا انفسخ العقد بالتّلف ، كأن تلف المبيع قبل القبض ، أو تلفت العين المستأجرة بيد المستأجر فضمانها على البائع أو المؤجّر ، لأنّ الهالك من تبعة المالك ، وهذا باتّفاق الفقهاء في الإجارة ، أمّا في البيع فهناك تفصيل وخلاف يرجع إليه في ( بيع ) .
وإذا كان ذلك بالإتلاف والتّعدّي فضمانها على من أتلفها .
ففي عقد البيع مثلاً إتلاف المشتري للمبيع يعتبر قبضاً ، فالملك له والضّمان عليه .
وفي الإجارة يضمن المستأجر كلّ تلفٍ أو نقصٍ يطرأ على المأجور بفعلٍ غير مأذونٍ به .
والأصل أنّ المعقود عليه بعد انفساخ العقد أمانة بيد العاقد غير المالك . فالمبيع والمأجور الوديعة والعاريّة والمرهون ونحوها على خلافٍ فيها ، كلّها أمانة بعد الانفساخ بيد العاقد غير المالك إلاّ إذا امتنع عن تسليمها لأصحابها بدون عذرٍ . فإذا تلفت بغير تعدٍّ أو تقصيرٍ فلا ضمان فيه ، وإلاّ ففيه الضّمان . والمراد بالضّمان أداء المثل في المثليّات وأداء القيمة في القيميّات . وهذا كلّه في الجملة ، وتفصيله في مصطلح : ( ضمان ) .
انفصال *
التّعريف :
1 - الانفصال لغةً : الانقطاع ، يقال : فصل الشّيء فانفصل أي قطعه فانقطع ، فهو مطاوع فصل ، وهو ضدّ الاتّصال . والانفصال هو الانقطاع الظّاهر ، والانقطاع يكون ظاهراً وخافياً ، وهذا من حيث اللّغة . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - البينونة :
2 - البينونة تأتي بمعنى الانفصال ، وكثرت على ألسنة الفقهاء في الطّلاق غير الرّجعيّ .
الحكم الإجماليّ، ومواطن البحث :
4 - الأجزاء الّتي تنفصل من البدن تارةً تبقى لها الأحكام المتعلّقة بها قبل الانفصال ، وتارةً تتغيّر ، فالأوّل نحو كلّ عضوٍ يحرم النّظر إليه قبل الانفصال فإنّه يحرم النّظر إليه بعد الانفصال . فأجزاء العورة لا فرق في حرمة النّظر إليها قبل الانفصال وبعده ، على خلافٍ وتفصيلٍ ينظر في أحكام النّظر من باب الحظر والإباحة .
5- وممّا يتغيّر حكمه بالانفصال استدخال المرأة الذّكر المقطوع ، فلا حدّ فيه ، وإن حرم ذلك الفعل .
6- وما انفصل من أجزاء الميّت أخذ حكمه عند البعض ، يغسّل ويصلّى عليه ، ويدفن ، لإجماع الصّحابة رضي الله عنهم ، قال أحمد : صلّى أبو أيّوب على رِجْلٍ ، وصلّى عمر على عظامٍ بالشّام ، وصلّى أبو عبيدة على رءوسٍ بالشّام ، روى ذلك عبد اللّه بن أحمد بإسناده ، وقال الشّافعيّ : ألقى طائر يداً بمكّة من وقعة الجمل فعرفت بالخاتم ، وكانت يد عبد الرّحمن بن عتّاب بن أسيدٍ ، فصلّى عليها أهل مكّة ، وكان ذلك بمحضرٍ من الصّحابة ، ولم يعرف من الصّحابة مخالف في ذلك .
وقال أبو حنيفة ، ومالك : إن وجد الأكثر صلّي عليه ، وإلاّ فلا ، لأنّه بعض لا يزيد على النّصف فلم يصلّ عليه ، كالّذي بان في حياة صاحبه كالشّعر والظّفر .
ولم يفرّق الحنفيّة والمالكيّة بين أجزاء الحيّ وأجزاء الميّت المنفصلة عنه ، وقال الشّافعيّة : يستحبّ لفّ ودفن ما انفصل من حيٍّ كيد سارقٍ ، وظفرٍ ، وعلقةٍ ، وشعرٍ ، واستظهر بعضهم وجوب لفّ اليد ودفنها . وتنتهي العدّة بانفصال الولد عن رحم أمّه انفصالاً كاملاً ، وفي انفصال المضغة تفصيل يذكر في ( العدّة ) .
انفصال السّقط :
7 - السّقط إن انفصل حيّاً ثمّ مات فإنّه كالكبير في التّسمية ، والإرث ، والجناية عليه ، وفي غسله وتكفينه ، والصّلاة عليه ، ودفنه ، واستثنى بعض المالكيّة من ذلك التّسمية إن مات قبل اليوم السّابع من ولادته .
وإن انفصل ميّتاً ، فإنّه لا يصلّى عليه ، لكنّه يدفن ، وفي غسله خلاف بين الفقهاء : منهم من أوجب الغسل إن نفخ فيه الرّوح ، ومنهم من كره تغسيل السّقط مطلقاً ، وبعض الفقهاء يوجب تكفينه ، والبعض يكتفي بلفّه بخرقةٍ ، ويفصّل الفقهاء ذلك في كتاب ( الجنائز ) . وتسمية من ولد ميّتاً فيها خلاف كذلك ، فالبعض يقول بالتّسمية ، والبعض يمنعها ، ويتكلّمون عن ذلك في مبحث ( العقيقة والجنائز ) .
ولا يرث من انفصل بنفسه ميّتاً باتّفاق الفقهاء ، وكذا إذا انفصل بفعلٍ عند أغلب الفقهاء لا يرث ، وقال الحنفيّة : إنّه من جملة الورثة يرث ويورث ، لأنّ الشّرع لمّا أوجب على الجاني الغرّة فقد حكم بحياته ، ويذكر الفقهاء ذلك في ( الإرث ) ، والبعض يذكره في ( الجنائز ) .
8 - وانفصال الزّوجين يكون بواحدٍ من ثلاثة أمورٍ ، الفسخ أو الانفساخ ، والطّلاق ، والموت .
9 - وانفصال المستثنى عن المستثنى منه زمناً طويلاً في صيغ الإقرار واليمين ونحوهما يبطل الاستثناء ، وقيل يصحّ التّأخير ما دام المجلس ، ويتكلّم الأصوليّون عن ذلك في شرائط الاستثناء ، والفقهاء في الإقرار ، والطّلاق غالباً .
وبالإضافة إلى ما تقدّم بذكر الانفصال في الغسل ، والبيع - الزّيادة المنفصلة - وفي الرّهن - زيادة المرهون المنفصلة ، وفي الوصيّة .
أنقاض *
التّعريف :
1 - أنقاض : جمع مفرده نقض .
والنّقض - بكسر النّون وضمّها - المنقوض أي المهدوم .
والنّقض : اسم لبناء المنقوض إذا هدم ، والنّقض - بالفتح - الهدم .
واستعمله الفقهاء بالمعنى نفسه .
الأحكام الّتي تتعلّق به :
أوّلاً : حكم التّصرّف في أنقاض الوقف :
2 - ما انهدم من بناء الوقف فإنّه ينتفع بأنقاضه في عمارته ، فإن تعذّر إعادة عينه بيع وصرف الثّمن في عمارته .
وكذلك الحكم في المسجد إذا انهدم ، فإذا لم يمكن الانتفاع بالمسجد ولا إعادة بنائه انتفع بأنقاضه أو بثمنها في مسجدٍ آخر .
وهذا عند الحنابلة ، والحنفيّة غير محمّدٍ ، وبعض المالكيّة كابن زربٍ وابن لبابة ، وكذلك عند الشّافعيّة . إلاّ أنّه عندهم إذا لم ينتفع بأنقاض المسجد في مسجدٍ آخر فإنّه يحفظ ولا يباع . وعند محمّد بن الحسن يعود إلى الباني أو إلى الورثة .
وقال الشّيخ خليل والشّيخ عليش من المالكيّة بعدم جواز بيع نقض العقار الموقوف .
ثانياً : حكم نقض الأبنية المقامة :
الأبنية إمّا أن يقيمها الإنسان في ملك نفسه أو في ملك غيره .
ما يقيمه الإنسان في ملك نفسه :
3 - ما يقيمه الإنسان في ملك نفسه وكان فيه ضرر على الغير يجب نقضه ، وذلك كمن أخرج جناحاً إلى الطّريق وكان يضرّ بالمارّة فإنّه يجب نقضه لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » . وهذا باتّفاقٍ . وما تولّد من سقوطه فهو مضمون على صاحبه . وهذا في الجملة وفي ذلك تفصيل : ( ر : جناية - تلف - ضمان ) .
ما يقيمه الإنسان في ملك غيره :
4 - ما يقيمه الإنسان في ملك غيره ، إمّا أن يكون بإذن صاحبه أو بدون إذنه .
أ - ما يقيمه الإنسان في ملك غيره بإذن صاحبه وذلك كمن يستعير أرضاً للبناء بإذن صاحبها . فإن كانت العاريّة مطلقةً أو مؤقّتةً بوقتٍ ، وشرط المعير على المستعير نقض البناء عند انتهاء الوقت أو عند الرّجوع ، فإنّ المستعير يلزم بنقض البناء لحديث :
« المسلمون على شروطهم » .
وإن كان المعير لم يشترط النّقض ، فإن رضي المستعير بالنّقض نقض ، وإن أبي لم يجبر عليه لمفهوم حديث : « ليس لعرقٍ ظالمٍ حقّ » ، ولأنّه بني بإذن ربّ الأرض ، ولم يشترط عليه قلعه ، وفي القلع ضرر بنقص قيمته بذلك . ويكون - في هذه الحالة - الخيار للمعير بين أخذ البناء بقيمته ، وبين قلعه مع ضمان نقصانه جمعاً بين الحقّين ، أو يبقيه بأجر مثله . وهذا عند الحنابلة والشّافعيّة .
وعند الحنفيّة إن كانت العاريّة مطلقةً أو مؤقّتةً وانتهى وقتها فللمالك أن يجبر المستعير على نقض البناء ، لأنّ في التّرك ضرراً بالمعير ، لأنّه لا نهاية له ولا غرر من جهته .
وإن كانت مؤقّتةً وأراد إخراجه قبل الوقت فلا يجبر المستعير على النّقض بل يكون بالخيار إن شاء ضمّن صاحب الأرض قيمة البناء قائماً سليماً وتركه له ، وإن شاء أخذ بناءه ولا شيء على صاحب الأرض . ثمّ إنّما يثبت نقض البناء إذا لم يكن النّقض مضرّاً بالأرض ، فإن كان مضرّاً بها فالخيار للمالك ، لأنّ الأرض أصل والبناء تابع ، فكان المالك صاحب أصلٍ فله الخيار ، إن شاء أمسك البناء بالقيمة ، وإن شاء رضي بالنّقض .
وعند المالكيّة : إذا انقضت مدّة الإعارة المشترطة أو المعتادة وفي الأرض بناء ، فالمعير بالخيار بين إلزام المستعير بالهدم ، وبين أخذ البناء ودفع قيمته منقوضاً .
ب - ما يقيمه الإنسان في ملك غيره بغير إذن صاحبه ، كمن غصب أرضاً وبنى فيها ، فإنّ الغاصب يجبر على نقض البناء متى طالبه ربّ الأرض بذلك ، ويلزم بتسويتها وأرش نقصها ، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
إلاّ أنّه عند الحنفيّة إذا كانت الأرض تنقص بالنّقض فللمالك أخذ البناء وضمان قيمته منقوضاً ، وهو أيضاً رأي المجد ابن تيميّة من الحنابلة . وقال الكرخيّ من الحنفيّة : إن كانت قيمة البناء أكثر فإنّ الغاصب يضمن قيمة الأرض ولا يؤمر بالقلع .
وعند المالكيّة يخيّر المالك بين أخذ البناء ودفع قيمته منقوضاً ، وبين أمر الغاصب بهدمه وتسوية أرضه . ومن غصب لبناً أو آجرّاً أو خشبةً فأدخلها في البناء ، فعند الحنابلة والشّافعيّة يلزم الغاصب بردّها وإن انتقض البناء .
وعند الحنفيّة لا يملك المالك الاسترداد لأنّ المغصوب بالإدخال في البناء صار شيئاً آخر غير الأوّل ، ولذلك لا ينقض البناء . وقال الكرخيّ وأبو جعفرٍ : لا ينقض البناء إذا كان البناء حول الخشبة ، لأنّه غير متعدٍّ في البناء ، أمّا إذا بنى عليها ينقض البناء . وعند المالكيّة يخيّر المالك بين هدم البناء وأخذ ما غصب منه ، وبين إبقائه وأخذ قيمته يوم الغصب .
مواطن البحث :
5 - نقض البناء يأتي في مواطن متعدّدةٍ في كتب الفقه ، فهو يرد في إحياء الموات في ملك الغير أو بدون إذن الإمام ، وفي الشّفعة فيمن اشترى أرضاً وبنى فيها ثمّ حضر الشّفيع وقضى له بشفعة الأرض ، وفي باب الإجارة فيما إذا بنى المستأجر وانتهت مدّة الإجارة ، وفي الشّركة إذا طلب الشّريك نقض حائطٍ مشتركٍ ، وفي الصّلح .
انقراض *
التّعريف :
1 - الانقراض لغةً : الانقطاع ، والموت ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك .
الحكم الإجماليّ :
2 - أ - يختلف الأصوليّون في انقراض عصر أهل الإجماع ، أهو شرط في حجّيّة الإجماع ؟ ذهب الجمهور إلى أنّه لا يشترط ، وذهب جماعة من الفقهاء إلى أنّه يشترط ، وقيل إن كان الإجماع بالقول والفعل أو بأحدهما فلا يشترط ، وإن كان الإجماع بالسّكوت عن مخالفة القائل فيشترط ، روي هذا عن أبي عليٍّ الجبّائيّ ، وقال الجوينيّ : إن كان عن قياسٍ كان شرطاً . وتفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ ( إجماع ) .
3- ب - وفي الوقف ، يرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الوقف لا يصحّ على من ينقرض كالوقف على الأولاد ، لأنّهم يشترطون التّأبيد في الوقف ، ويصحّ عند المالكيّة ، وفي هذه الحال ، إذا انقرض الموقوف عليهم ، لهم تفصيلات فيمن يرجع إليه الوقف ، تنظر في مصطلح ( وقف ) .
انقضاء *
التّعريف :
1 - الانقضاء : مطاوع القضاء . ومن معانيه لغةً : ذهاب الشّيء وفناؤه ، وانقضى الشّيء : إذا تمّ . ويأتي بمعنى الخروج من الشّيء والانفصال منه . قال الزّهريّ والقاضي عياض : قضى في اللّغة على وجوهٍ ، مرجعها إلى انقطاع الشّيء وتمامه والانفصال منه .
ويستعمله الفقهاء بهذه المعاني .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - إمضاء :
2 - يستعمل لفظ الإمضاء بمعنى الإنهاء ، يقال : أمضت المرأة عدّتها أي أنهتها ،
ويستعمل كذلك في إنفاذ الشّيء ، يقال أمضى القاضي حكمه : بمعنى أنفذه .
ب - انتهاء :
3 - يستعمل لفظ الانتهاء بمعنى الانقضاء فيقال : انتهت المدّة بمعنى انقضت ، وانتهى العقد بمعنى انقضى ، ويستعمل كذلك بمعنى الكفّ عن الشّيء ، وبمعنى بلوغ الشّيء والوصول إليه . يقال : انتهى عن الشّيء وانتهى إليه .
الحكم الإجماليّ :
ما يتعلّق بالانقضاء من أحكامٍ يكاد ينحصر في أسبابه وآثاره ، وبيان ذلك فيما يلي :
أسباب الانقضاء وآثاره :
4 - تختلف أسباب الانقضاء وآثاره باختلاف الموضوعات والمسائل الفقهيّة ، فما قد يكون سبباً لانقضاء شيءٍ لا يكون سبباً لانقضاء غيره ، بل قد تتنوّع الأسباب والآثار في موضوعٍ واحدٍ كما في العقود ، وعدّة المرأة ، وغيرهما . ولمّا كان الانقضاء هو بلوغ النّهاية في كلّ شيءٍ بحسبه ، لأنّ كلّ حادثٍ لا بدّ له من نهايةٍ ، فإنّه من العسير استقصاء ذلك في كلّ الموضوعات . لذلك سنكتفي بذكر الأمثلة الّتي توضّح ذلك .
أوّلاً : العقود :
تنقضي العقود لأسبابٍ متنوّعةٍ . ومنها :
انتهاء المقصود من العقد :
5 - كلّ عقدٍ له غاية أو غرض من إنشائه ، ويعتبر العقد منقضياً بتحقّق الغاية أو الغرض منه ، ومن أمثلة ذلك :
أ - عقد الإجارة :
إذا كان عقد الإجارة لمدّةٍ معيّنةٍ أو لمنفعةٍ معيّنةٍ فإنّ العقد ينقضي بانتهاء ذلك ، لأنّ الثّابت إلى غايةٍ ينتهي عند وجود الغاية . وهكذا كلّ عقدٍ مقيّد بزمنٍ أو منفعةٍ ينقضي بانتهاء ذلك ، مثل عقد الهدنة والعاريّة والمساقاة والمزارعة .
وإذا انقضى العقد ترتّبت عليه أحكامه من وجوب الرّدّ ، وثبوت حقّ الاسترداد ، واستقرار الأجرة ، أو القدر المعقود عليه . والضّمان بالتّعدّي ، أو التّفريط ، وإنذار الأعداء بعد انقضاء الهدنة ، وهكذا . والانقضاء في هذه العقود مقيّد بما إذا لم يكن هناك عذر يستدعي امتدادها فترةً أخرى دفعاً للضّرر . ( ر : إجارة . هدنة . مساقاة ) .
ب - عقد الوكالة :
ينقضي عقد الوكالة بتمام الموكّل فيه . فالوكالة بالشّراء مثلاً تنقضي بشراء الوكيل ما وكّل في شرائه ، لأنّ المقصود قد حصل فينقضي العقد بذلك ، وتترتّب عليه أحكامه من انعزال الوكيل ومنعه من التّصرّف ، ومثل ذلك يقال في الرّهن ينقضي بسداد الدّين ، وكذلك الكفالة تنقضي بالأداء أو الإبراء ، وتترتّب أحكام العقود من سقوط حقّ المطالبة ، وردّ المرهون ، والضّمان بالتّفريط أو التّعدّي وهكذا . ( ر : وكالة . رهن . كفالة ) .
فساد العقد :
6 - إذا كان العقد من العقود اللّازمة كالبيع ، ولكنّه وقع فاسداً ، كان من الواجب على كلٍّ من طرفيه فسخه ، لأنّ العقد الفاسد يستحقّ الفسخ حقّاً للّه عزّ وجلّ لما في الفسخ من رفع الفساد ، ورفع الفساد حقّ للّه تعالى على الخلوص ، فيظهر في حقّ الكلّ فكان فسخاً في حقّ النّاس كافّةً ، فلا تقف صحّته على القضاء ولا على الرّضى . ويجوز للقاضي فسخه جبراً على العاقدين . وينقضي العقد بالفسخ للفساد ، ويترتّب على ذلك وجوب ردّ المبيع ، والثّمن ، والضّمان عند تعذّر الرّدّ . وللفقهاء في ذلك تفصيل ( ر : بيع - فساد - عقود ) .
إنهاء صاحب الحقّ حقّه :
7 - ينقضي العقد بإنهاء من يملك ذلك ، سواء أكان الإنهاء من طرفٍ واحدٍ أم من الطّرفين ، ومن أمثلة ذلك :
أ - العقود الجائزة غير اللّازمة كالوكالة والشّركة والمضاربة والعاريّة :
هذه العقود يجوز فيها لكلّ واحدٍ من المتعاقدين فسخ العقد لأنّه غير لازمٍ ، ويعتبر العقد منقضياً بذلك ، وتترتّب عليه أحكام الفسخ من وجوب الرّدّ ، وثبوت حقّ الاسترداد ، ومن الضّمان بالتّفريط أو التّعدّي ، ومن ثبوت الحقّ في الرّبح .
هذا مع التّفصيل فيما إذا تعلّق بالوكالة حقّ ، أو كان رأس المال في المضاربة لم ينضّ وغير ذلك وينظر في ( وكالةٍ - مضاربةٍ - شركةٍ ) .
ب - الإقالة :
قد يصدر العقد مستكملاً أركانه وشروطه ، ومع ذلك يجوز للمتعاقدين فسخه برضاهما ، وذلك ما يسمّى بالإقالة ، فإذا تقايلا انفسخ العقد عند من يقول بأنّ الإقالة فسخ ، وانقضى العقد بذلك ويترتّب على الإقالة ردّ كلّ حقٍّ لصاحبه . ( ر : إقالة ) .
ج - عقد النّكاح :
ينقضي عقد النّكاح بالفرقة بين الزّوجين ، وذلك بإنهاء الزّوج له بالطّلاق البائن ، وكذلك يملك الزّوجان إنهاءه بالخلع ، وبذلك ينقضي عقد النّكاح وتترتّب أحكام الفرقة من عدّةٍ وغيرها . وينظر تفصيل ذلك في ( نكاحٍ - طلاقٍ ) .
د - العقود الموقوفة :
من العقود ما هو موقوف على إجازة غير العاقد ، كعقد الفضوليّ الّذي يتوقّف على إجازة صاحب الشّأن ، عند من يرى مشروعيّة هذا العقد ، كالحنفيّة والمالكيّة ، وللمالك أيضاً إنهاء العقد بعدم إجازته ، وبذلك ينقضي العقد .
استحالة التّنفيذ :
8 - قد يتعذّر تنفيذ العقد ، وذلك كما إذا هلك المبيع القيميّ في يد البائع قبل أن يتسلّمه المشتري ، وكذهاب محلّ استيفاء المنفعة في الإجارة ، وكموت الموكّل أو الوكيل أو الشّريك ، ففي هذه الحالات ينفسخ العقد وينقضي لاستحالة تنفيذه ، وتترتّب الأحكام المقرّرة في ذلك من سقوط الثّمن والأجرة ، وفي ذلك تفصيل ( ر : هلاك - انفساخ ) .
هذه هي أسباب انقضاء العقود غالباً مع وجود غيرها كالجنون ، وتعدّي الأمين في عقود الأمانات .
ثانياً : العدّة :
9 - تنقضي عدّة المعتدّة ، إمّا بوضع الحمل ، أو بانتهاء الأشهر أو بالأقراء .
وإذا انقضت العدّة ترتّب عليها أحكامه ، من انقطاع الرّجعة للمطلّقة رجعيّاً ، وانقطاع الإرث ، وانقطاع النّفقة ، والسّكنى ، وانتهاء الإحداد للمتوفّى عنها زوجها ، وإباحة الخروج من المنزل ، وحلّها للأزواج . وغير ذلك وينظر تفصيله في ( عدّةٍ ) .
ثالثاً : الحضانة والكفالة :
10 - إذا كان الطّفل بين أبويه فإنّ حضانته تكون لهما ، وتنقضي ببلوغ الطّفل ذكراً كان أو أنثى ، وهذا عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) . وعند المالكيّة تكون حضانة الذّكر لبلوغه ، والأنثى لدخول الزّوج بها .
أمّا إذا افترق الأبوان فإنّ الحضانة تكون للأمّ أوّلاً عند جميع الفقهاء ، لكنّهم يختلفون في وقت انقضاء حضانتها . فعند الشّافعيّة والحنابلة تنقضي حضانة الأمّ عند سنّ التّمييز ، وحدّدها الحنابلة بسبع سنين . قال الشّافعيّة : أو ثماني سنين ، ثمّ تكون الحضانة لمن يختاره الطّفل من أبويه إلى وقت البلوغ ، سواء أكان الطّفل ذكراً أم أنثى كما يقول الشّافعيّة أمّا الحنابلة فيجعلون التّخيير للذّكر ، أمّا الأنثى فتنتقل حضانتها إلى الأب دون تخييرٍ وعند المالكيّة تظلّ الحضانة للأمّ قائمةً بعد طلاقها ، ولا تنقضي حضانتها إلاّ ببلوغ الذّكر ودخول الأنثى . ويقول الحنفيّة . تنقضي حضانة الأمّ ببلوع الأنثى وباستغناء الذّكر ، بأن يأكل وحده ، ويشرب وحده ، ويستنجي وحده ، دون تقدير سنٍّ ، وذكر الخصّاف سبع سنين أو ثماني سنين . وإذا استغنى الذّكر أو بلغ سبع سنين أو ثمانياً كما يقول الخصّاف انعقلت حضانته للأب إلى بلوغه . ( ر : حضانة ) .
رابعاً : الإيلاء :
11 - ينقضي الإيلاء - وهو الحلف على ترك وطء الزّوجة - بالآتي :
أ - تعجيل مقتضي الحنث بالفيء قبل مضيّ مدّة الإيلاء - وهي أربعة أشهرٍ - بأن يفعل ما حلف على تركه وهو الوطء ، ويلزمه التّكفير .
ب - تكفير اليمين والوطء بعد المدّة المحلوف عليها .
ج - مضيّ مدّة الإيلاء وهي الأربعة الأشهر عند الحنفيّة ، إذ تبين الزّوجة منه بذلك من غير حاجةٍ إلى قضاء القاضي ، ويترتّب على انقضاء أجل الإيلاء إمّا وجوب الفيء أو الطّلاق الرّجعيّ كما يقول الجمهور ، أو البائن كما يقول الحنفيّة ، إلاّ إذا رضيت الزّوجة بالمقام معه دون فيءٍ كما يقول الجمهور . وينظر تفصيل ذلك في ( إيلاءٍ ) .
خامساً : المسح على الخفّين :
12 - ينقضي حكم المسح على الخفّين بالغسل الواجب ، وبتخرّق الخفّ كثيراً ، وبنزعه ، وبمضيّ المدّة ، وغير ذلك . ويترتّب على ذلك بطلان المسح . ( ر : المسح على الخفّين ) .
سادساً : صلاة المسافر :
13 - ممّا ينقضي به حكم قصر الصّلاة للمسافر انقضاء مدّة الإقامة المبيحة للقصر ، على خلافٍ بين الفقهاء في كونها أربعة أيّامٍ أو خمسة عشر ، وكذلك ينقضي بنيّة الإتمام ، وبدخول الوطن ، وغير ذلك . ( ر : صلاة المسافر ) .
سابعاً : انقضاء الأجل :
14 - ينقضي الأجل إمّا بالإسقاط أو بالسّقوط . ومثاله في الإسقاط : إسقاط المدين حقّه من الأجل . ويترتّب على ذلك أن يصبح الدّين حالّاً . ومثاله في السّقوط : انتهاء مدّته ، ويترتّب عليه إمّا بدء تنفيذ الالتزام ، كوجوب الزّكاة بانقضاء الحول على ملك النّصاب ، وإمّا إنهاء الالتزام كالإجارة المقيّدة بزمنٍ ، فإنّها تنقضي بانقضاء الأجل . وينظر تفصيل ذلك في ( أجلٍ ) . هذه بعض أمثلةٍ للانقضاء ، وغيرها كثير ، كانقضاء الحيض والنّفاس بانقطاع الدّم ، وانقضاء الحجر بالرّشد ، وانقضاء خيار الشّرط بانتهاء مدّته أو بالتّصرّف ممّن له الحقّ . وينظر تفصيل ذلك في مواضعه .
الاختلاف في الانقضاء :
15 - إذا تنازع طرفان في انقضاء شيءٍ أو بقائه ، فإنّ الحكم بالانقضاء وعدمه يختلف باختلاف التّصرّفات . ومن أمثلة ذلك :
أ - في الهداية : إذا قالت المعتدّة انقضت عدّتي وكذّبها الزّوج ، كان القول قولها مع اليمين ، لأنّها أمينة في ذلك ، وقد اتّهمت في ذلك فتحلف كالمودع .
ب - في جواهر الإكليل : إن اختلف البائع والمشتري في انقضاء الأجل ( بالنّسبة للثّمن ) لاختلافهما في مبدئه بأن قال البائع : أوّل الشّهر وقال المبتاع منتصفه ، ولا بيّنة لأحدهما ، وفاتت السّلعة فالقول لمنكر التّقضّي ، أي انقضاء الأجل مشترياً كان أو بائعاً ، بيمينه إن أشبه سواء أشبه الآخر أم لا ، لأنّ الأصل عدم انقضائه ، فإن لم تفت السّلعة حلفا وفسخ البيع .
ج - في المهذّب : إن اختلف الزّوجان في انقضاء مدّة الإيلاء فادّعت المرأة انقضاءها وأنكر الزّوج فالقول قول الزّوج ، لأنّ الأصل أنّها لم تنقض ، ولأنّ هذا اختلاف في وقت الإيلاء فكان القول فيه قوله .
انقطاع *
التّعريف :
1 - يأتي الانقطاع في اللّغة بمعانٍ عدّةٍ منها : التّوقّف والتّفرّق .
ويستعمله الفقهاء بهذه المعاني ، كما يطلقون لفظ المنقطع على الصّغير الّذي فقد أمّه من بني آدم .
والانقطاع عند المحدّثين : عدم اتّصال سند الحديث ، سواء سقط ذكر الرّاوي من أوّل الإسناد أو وسطه أو آخره ، وسواء أكان الرّاوي واحداً أم أكثر ، على التّوالي أو غيره ، فيشمل المرسل ، والمعلّق ، والمعضل ، والمدلّس ، إلاّ أنّ الغالب استعماله في رواية من دون التّابعيّ عن الصّحابيّ كمالكٍ عن ابن عمر .
وهذا أحد معانيه ، وله بعض المعاني يتكلّم عنها الأصوليّون في مبحث السّنّة ( المرسل ) .
الألفاظ ذات الصّلة :
الانقراض :
2 - يعبّر الفقهاء بالانقطاع عن الشّيء الّذي لم يوجد أصلاً كالوقف على منقطع الأوّل ، أمّا الانقراض فيكون في الأشياء الّتي وجدت ثمّ انعدمت .
الحكم الإجماليّ :
3 - يختلف الحكم في الانقطاع باختلاف ما يضاف إليه ، ففي انقطاع دم الحيض أو النّفاس يكون الحكم كالآتي :
اتّفق الفقهاء على حرمة وطء الحائض والنّفساء قبل انقطاع دمهما ، واختلفوا هل يكون الغسل شرطاً لحلّ الاستمتاع بعد انقطاع الدّم ، أو يكفي أن تكون في حكم الطّاهرات ؟ . فذهب الجمهور إلى تحريم الوطء حتّى تغتسل أو تتيمّم إن كانت أهلاً له ، وقال أبو حنيفة : إن انقطع دمها لأكثر الحيض وهو عشرة أيّامٍ عنده حلّ الوطء في الحال ، وإن انقطع لأقلّه لم يحلّ حتّى تغتسل أو تتيمّم ، أو تصير الصّلاة ديناً في ذمّتها ، بأن يمضي وقت بعد انقطاع الدّم يتّسع للغسل أو التّيمّم والصّلاة ، وتفصيل ذلك في باب الحيض والنّفاس .
انقطاع الاقتداء بنيّة المفارقة :
4 - ينقطع الاقتداء في الصّلاة من جانب المأموم إن نوى مفارقة إمامه ، وفي كون الصّلاة مع المفارقة صحيحةً أو باطلةً خلاف بين الفقهاء ، منهم من يرى أنّها صحيحة مطلقاً ، ومنهم من يرى أنّها باطلة مطلقاً ، ويفرّق البعض بين نيّة المفارقة مع العذر وبدونه ، فهي مع العذر صحيحة ، وباطلة بدونه . ويفصّل الفقهاء ذلك في صلاة الجماعة والاقتداء . وكذلك تنقطع القدوة بخروج الإمام من صلاته ومع خروجه تنشأ بعض الأحكام ، فقد تبطل صلاته وصلاة المأمومين ، وقد يستخلف وتصحّ الصّلاة .
ويفصّل الفقهاء ذلك في ( صلاة الجماعة ، واستخلاف ) .
مواطن البحث :
5 - يذكر الفقهاء الانقطاع في المواضع الآتية : في انقطاع التّتابع في صوم الكفّارات الّتي يجب فيها التّتابع ، ككفّارة القتل والظّهار والإفطار في رمضان . وفي الوقف في شرط الموقوف عليه ، وهل يصحّ الوقف إن كان على منقطع الأوّل أو الآخر أو الوسط ؟ .
وفي إحياء الموات ، وحقوق الارتفاق أو المنافع المشتركة : أثناء الكلام عن بذل مياه الآبار إذا كانت تنقطع أو تستخلف ، وعمّا إذا حفر بئراً فانقطع به ماء بئر جاره .
وفي النّكاح : عند الكلام عن الغيبة المنقطعة ، ونقل الولاية بسببها .
وفي القضاء : عند الكلام على انقطاع الإنسان للقضاء والفتيا ، ورزق القاضي للمنقطع لهما ، وعند الكلام عن انقطاع الخصومة باليمين .
انقلاب العين *
انظر : تحوّل .
إنكار *
التّعريف :
1 - الإنكار لغةً : مصدر أنكر ويأتي في اللّغة لثلاثة معانٍ :
الأوّل : الجهل بالشّخص أو الشّيء أو الأمر . تقول : أنكرت زيداً وأنكرت الخبر إنكاراً ، ونكّرته ، إذا لم تعرفه . قال اللّه تعالى : { وجاء إخوة يوسفَ فدخلوا عليه فعَرَفَهُمْ وهم له مُنْكرون } . وقد يكون في الإنكار مع عدم المعرفة بالشّيء النّفرة منه والتّخوّف ، ومنه قوله تعالى : { فلمّا جاء آل لوطٍ المرسلون . قال إنّكم قوم مُنْكَرون } أي تنكركم نفسي وتنفر منكم ، فأخاف أن تطرقوني بشرٍّ .
الثّاني : نفي الشّيء المدّعى ، أو المسئول عنه .
والثّالث : تغيير الأمر المنكر وعيبه والنّهي عنه .
والمنكر هو الأمر القبيح ، خلاف المعروف .
واسم المصدر هنا ( النّكير ) ، ومعناه ( الإنكار )
أمّا في اصطلاح الفقهاء فيرد استعمال ( الإنكار ) بمعنى الجحد ، وبمعنى تغيير المنكر ، ولم يستدلّ على وروده بمعنى الجهل بالشّيء في كلامهم .
أوّلاً : الإنكار بمعنى الجحد
المقارنة بين الإنكار بهذا المعنى والجحد والجحود :
2 - ساوى بعض علماء اللّغة في المعنى بين الإنكار وبين الجحد والجحود .
قال في اللّسان : الجحد والجحود نقيض الإقرار ، كالإنكار والمعرفة .
وقال الجوهريّ : الجحود الإنكار مع العلم . يقال : جحده حقّه وبحقّه .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - النّفي :
3 - النّفي يكون بمعنى الإنكار أو الجحد ، وهو مقابل الإيجاب : وقيل الفرق بين النّفي وبين الجحد أنّ النّافي إن كان صادقاً سمّي كلامه نفياً ولا يسمّى جحداً ، وإن كان كاذباً سمّي جحداً ونفياً أيضاً ، فكلّ جحدٍ نفي . وليس كلّ نفيٍ جحداً . ذكره أبو جعفرٍ النّحّاس . قالوا : ومنه قوله تعالى : { وجَحَدوا بها واستيقنتها أنفسُهم ظلماً وعلوّاً } .
ب - النّكول :
4 - النّكول أن يمتنع من الحلف من توجّهت عليه اليمين في الدّعوى ، بقوله : أنا ناكل ، أو يقول له القاضي : احلف ، فيقول : لا أحلف . أو سكت سكوتاً يدلّ على الامتناع .
ج - الرّجوع :
5 - الرّجوع عن الشّيء تركه بعد الإقدام عليه . فالرّجوع في الشّهادة أن يقول الشّاهد أبطلت شهادتي ، أو فسختها ، أو رددتها .
وقد يكون الرّجوع عن الإقرار بادّعاء الغلط ونحوه .
د - الاستنكار :
6 - الاستنكار يأتي بمعنى عدّ الشّيء منكراً ، وبمعنى الاستفهام عمّا تنكره ، وبمعنى جهالة الشّيء مع حصول الاشتباه .
وبهذا يتبيّن أنّ الاستنكار يوافق الإنكار في مجيئهما بمعنى الجهالة ، وينفرد الإنكار بمجيئه بمعنى الجحد ، وينفرد الاستنكار بمجيئه بمعنى الاستفهام عمّا ينكر .
الأحكام الشّرعيّة المتعلّقة بالإنكار في الدّعوى .
7- يجب على المدّعي لإثبات حقّه أن يأتي ببيّنةٍ تثبت دعواه ، فإن لم تكن له بيّنة فإنّ المدّعى عليه يلزمه الجواب عمّا ادّعى عليه به ، فإمّا أن يقرّ ، وإمّا أن ينكر .
فإن أقرّ لزمه الحقّ ، وإن أنكر فعلى المدّعي البيّنة ، فإن أقام البيّنة قضى له ، وإن لم يقمها وطلب اليمين من المدّعى عليه حلّفه الحاكم ، فإن حلف برئ من المدّعي ، وإن نكل حكم عليه . وقيل : تردّ اليمين على المدّعي . هذا طريق الحكم إجمالاً ، لقول النّبيّ : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر »
وفي ذلك تفصيلات تنظر في ( إثباتٍ ، ودعوى ، حلفٍ ، إقرارٍ ، نكولٍ ) .
ما به يتحقّق الإنكار :
أوّلاً : النّطق :
8 - يتحقّق الإنكار بالنّطق . ويشترط في النّطق أن يكون صريحاً بحيث لا يحتمل إلاّ الإنكار ، كأن يقول لم تسلّفني ما تدّعيه . وهناك ألفاظ اختلف العلماء في كونها صريحةً أو غير صريحةٍ ، كأن يقول : لا حقّ له عندي . فإنّه لا يكون إنكاراً ، وهذا هو القول المقدّم عند المالكيّة ، وهو قول ابن القاسم ، ومذهب الحنفيّة .
والقول الآخر عند المالكيّة ، وهو قول للشّافعيّة ، وقول الحنابلة أن يكون إنكاراً ، لأنّ نفي المطلق يشمل نفي المقيّد ، فقوله ليس له عليّ حقّ نفي مطلق لحقّ المدّعي ، أيّاً كان سببه ، فيعتبر جواباً كافياً وإنكاراً موجباً للحلف بشروطه .
ثانياً : الامتناع من الإقرار والإنكار :
9 - لو قال المدّعى عليه : لا أقرّ ولا أنكر ، فقد اختلفت أقوال الفقهاء في حكم امتناعه هذا . فقال صاحبا أبي حنيفة رحمهم الله : هو إنكار ، فيستحلف بعده .
وعند الحنابلة - وهو قول للمالكيّة - إنّ قوله لا أقرّ ولا أنكر بمنزلة النّكول ، فيقضي بلا استحلافٍ ، كما يقضي على النّاكل عن اليمين ، وذلك بعد أن يعلمه القاضي أنّه إن لم يقرّ ولم ينكر حكم عليه . وقال أبو حنيفة ، وهو قول المالكيّة المقدّم عندهم : إن قال لا أقرّ ولا أنكر لا يستحلف ، لأنّه لم يظهر الإنكار ، ويحبس حتّى يقرّ وينكر .
وفي مذهب المالكيّة التّصريح بأنّ القاضي يؤدّبه حتّى يقرّ أو ينكر ، فإن استمرّ على امتناعه حكم عليه بغير يمينٍ . ونقل الكاسانيّ عن بعض الحنفيّة أنّ قوله لا أقرّ ولا أنكر إقرار .
ولم نر للشّافعيّة نصّاً في هذه المسألة .
ثالثاً : السّكوت :
10 - من ادّعى عليه أمام القضاء فسكت ، ففي اعتبار سكوته إنكاراً أقوال :
الأوّل : إنّ سكوته إنكار ، وهذا قول أبي يوسف من الحنفيّة ، وعليه الفتوى عندهم ، لأنّ الفتوى على قوله فيما يتعلّق بالقضاء ، وهو مذهب الشّافعيّة . قال صاحب البدائع : لأنّ الدّعوى أوجبت الجواب عليه ، والجواب إمّا إقرار وإمّا إنكار ، فلا بدّ من حمل السّكوت على أحدهما ، والحمل على الإنكار أولى ، لأنّ العاقل المتديّن لا يسكت عن إظهار الحقّ المستحقّ لغيره مع القدرة عليه ، فكان حمل السّكوت على الإنكار أولى ، فكان السّكوت إنكاراً دلالةً . وهذا إن كان سكوته لغير عذرٍ ، فإن كان لعذرٍ كما لو كان في لسانه آفة تمنعه عن التّكلّم ، أو في سمعه ما يمنعه من سماع الكلام ، فلا يعدّ سكوته إنكاراً .
وذكر الشّافعيّة من الأعذار أيضاً أن يسكت لدهشةٍ أو غباوةٍ . أمّا الأخرس فقالوا : إنّ تركه الإشارة بمنزله السّكوت . فعلى هذا القول يطلب القاضي من المدّعي البيّنة ، على ما صرّح به في درر الحكّام .
11 - القول الثّاني مذهب المالكيّة والحنابلة ، وهو ثاني قولين للشّافعيّة : أنّ سكوت المدّعى عليه بمنزلة النّكول ، فيحكم عليه القاضي بالسّكوت كما يحكم على المنكر النّاكل عن اليمين ، بعد أن يعلمه القاضي بحكم سكوته ، فيقول له : إن أجبت عن دعواه وإلاّ جعلتك ناكلاً وقضيت عليك ، وهذا هو المذهب عند الحنابلة . على أنّه لا يحكم عليه إلاّ بعد ردّ اليمين على المدّعي عند الشّافعيّة والحنابلة .
12 - القول الثّالث : وهو قول للحنابلة أيضاً : يحبسه القاضي حتّى يجيب عن الدّعوى .
غيبة المدّعى عليه بعد إنكاره :
13 - إذا حضر المدّعى عليه بين يدي القاضي ، فأنكر ما ادّعى عليه به ، ثمّ غاب قبل إقامة البيّنة عليه ، لم يجز الحكم عليه عند أبي حنيفة .
وكذا إذا سمعت البيّنة عليه ثمّ غاب قبل القضاء ، لأنّ الشّرط قيام الإنكار وقت القضاء .
وخالفه أبو يوسف رحمه الله ، فقال بصحّة القضاء في هذه الحال ، لأنّ الشّرط عنده الإصرار على الإنكار إلى وقت القضاء ، والإصرار ثابت بعد غيبته بالاستصحاب .
وكذلك الحكم عند الشّافعيّة القائلين بجواز القضاء على الغائب أصلاً .
وقال الحنابلة : يقضى على الغائب في الحقوق كلّها والمعاملات والمداينات والوكالات وسائر الحقوق إلاّ العقار وحده ، فإنّه لا يحكم عليه فيه إلاّ أن تطول غيبته ويضرّ ذلك بخصمه .
حكم المنكر :
14 - إذا ادّعي على إنسانٍ بشيءٍ فأنكر ، فإنّ البيّنة تطلب من خصمه ، فإن أقامها حكم له ، وإن لم يتمكّن من إقامتها فإنّ القاضي يستحلف المنكر إذا طلب خصمه تحليفه ، فإن حلف حكم ببراءته من المدّعي ، وإن نكل قضى عليه عند الحنفيّة والحنابلة ، أمّا عند المالكيّة والشّافعيّة فلا يقضي عليه حتّى يردّ اليمن على طالب الحقّ ، فإن حلف الطّالب حينئذٍ قضى له . ودليل استحلاف المنكر حديث : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » السّابق ، وحديث وائل بن حجرٍ ، وفيه « أنّ رجلاً من حضرموت ، ورجلاً من كندة أتيا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال الحضرميّ : إنّ هذا غلبني على أرضٍ لي ورثتها عن أبي . وقال الكنديّ : أرضي وفي يدي لا حقّ له فيها . فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : شاهداك أو يمينه . قال : إنّه لا يتورّع عن شيءٍ . قال : ليس لك إلاّ ذلك » .
شرط استحلاف المنكر :
15 - انفرد المالكيّة عن بقيّة المذاهب باشتراط شرطين لاستحلاف المنكر ، وعليه فقهاء المدينة السّبعة على ما ذكره ابن حجرٍ الهيتميّ في شرح الأربعين :
أ - أن يكون بين المتخاصمين مخالطة بدينٍ أو تكرّر بيعٍ ولو مرّةً ، فإن لم يكن بينهما مخالطة ، وأنكر ، ولم تكن بيّنة ، لم يثبت على المنكر شيء ، ولم يطالب بيمينٍ .
والمخالطة عندهم في كلّ معاملةٍ بحسبها .
واستثنوا مواضع تجب فيها اليمين بدون خلطةٍ : منها : أهل الظّلم ، والضّيف ، والمتّهم ، والمريض ، والصّنّاع فيما ادّعي عليهم استصناعه ، وأرباب الأسواق والحوانيت فيما ادّعي عليهم بيعه ، والرّفقاء في السّفر يدّعي بعضهم على بعضٍ ، الوديعة إذا ادّعيت على أهلها ، والمزايدة إذا ادّعي على من حضرها أنّه اشترى المعروض للبيع .
ب - أن يكون المدّعى عليه في دعوى التّعدّي والغصب ونحوهما معروفاً بمثل ما ادّعي عليه به ، فإن لم يكن متّهماً بمثله لم يستحلف .
وتفصيل ذلك في : دعوى ، وقضاءٍ ، ويمينٍ .
المواضع الّتي يستحلف فيها المنكر والّتي لا يستحلف فيها :
16- إنّه وإن كانت القاعدة أنّ « اليمين على من أنكر » إلاّ أنّ بعض الأمور لا استحلاف فيها ، لأنّ الحقوق نوعان :
الأوّل : حقوق اللّه تعالى ، كالعبادات والكفّارات والحدود : فيرى أبو حنيفة ومالك والشّافعيّ واللّيث ، أنّ المنكر يستحلف فيها إذا اتّهم . وقد حكي عن الشّافعيّ فيمن تزوّج من لا تحلّ له ، ثمّ ادّعى الجهل . أنّه يحلف على دعواه . وكذا قال إسحاق في طلاق السّكران : يحلف أنّه ما كان يعقل ، وفي طلاق النّاسي : يحلف على نسيانه .
وقال الحنابلة : لا استحلاف في حقوق اللّه تعالى أصلاً . نصّ عليه أحمد في الزّكاة ، وبه قال طاووس والثّوريّ .
الثّاني : حقوق العباد . أجمع الفقهاء على الاستحلاف في الأموال ، واختلفوا في غيرها : فقال الشّافعيّ وأحمد في إحدى الرّوايات عنه : يستحلف في جميع حقوق الآدميّين .
وقال مالك : لا يستحلف إلاّ في كلّ دعوى لا تحتاج إلى شاهدين .
وعن أحمد : لا يستحلف إلاّ فيما يصحّ بذله . وفي روايةٍ ثالثةٍ : لا يستحلف إلاّ فيما يقضى فيه بالنّكول . ومثّل له ابن القيّم بمن ادّعى ديناً على ميّتٍ ، وللميّت وصيّ بقضاء دينه وتنفيذ وصاياه ، فأنكر . فإن كان للمدّعي بيّنة حكم بها ، وإن لم تكن له بيّنة ، وأراد تحليف الوصيّ على نفي العلم ، لم يكن له ذلك ، لأنّ مقصود التّحليف أن يقضى عليه بالنّكول ، والوصيّ لا يقبل إقراره بالدّين ، ولو نكل لم يقض عليه ، فلا فائدة في تحليفه .
وهذا الخلاف المتقدّم في حقوق الآدميّين هو في غير المؤتمن .
أمّا المؤتمن ففيه للعلماء ثلاثة أقوالٍ :
الأوّل : وهو قول أبي حنيفة ومالكٍ في روايةٍ عنه ، والشّافعيّ وأكثر الحنابلة ، عليه اليمين ، لأنّه منكر فيدخل في عموم الحديث السّابق : « اليمين على من أنكر » .
الثّاني : لا يمين ، لأنّه صدّقه ، ولا يمين مع التّصديق ، وهو قول الحارث العكليّ .
الثّالث : وهو الرّواية الأخرى عن مالكٍ ، وهو نصّ أحمد . لا يمين عليه إلاّ أن يتّهم ، لأنّه إذا قامت قرينة تنافي معنى الائتمان فقد اختلّ الائتمان .
وتفصيل ما عند الحنفيّة في هذه المسألة ، أنّ الاستحلاف لا يكون في الحدود واللّعان ، بأن ادّعت على زوجها أنّه قذفها بما يوجب اللّعان وأنكر الزّوج ذلك ، لأنّ الحدود تندرئ بالشّبهات ، واللّعان في معناها ، فلا يؤخذ فيهما بالنّكول .
واختلف قولهم فيما عدا ذلك . فقال أبو حنيفة : لا يستحلف المنكر في النّكاح والرّجعة والفيء في الإيلاء والرّقّ والاستيلاد والولاء . وقال أبو يوسف ومحمّد : يستحلف فيها . والفتوى على قولهما . وقيل عند المتأخّرين : ينبغي للقاضي أن ينظر في حال المدّعى عليه ، فإن رآه متعنّتاً يحلّفه أخذاً بقولهما ، وإن رآه مظلوماً لا يحلّفه أخذاً بقول أبي حنيفة .
ثمّ قد قال صاحب الأشباه : لا يستحلف في إحدى وثلاثين صورةً .
ونقل هذا صاحب الدّرّ وعدّدها بالتّفصيل ، وأضاف إليها هو وابن عابدين من الصّور ما تمّت به تسعاً وستّين صورةً .
حكم الإنكار كذباً :
17 - يجوز للمدّعى عليه الإنكار إن لم يكن للمدّعي عنده حقّ وكان مبطلاً في دعواه . أمّا إن كان المدّعى عليه عالماً بحقّ المدّعي عنده فلا يحلّ له الإنكار .
واستثنى الحنفيّة مسألتين يجوز فيهما الإنكار ، مع علمه بأنّ المدّعي محقّ :
الأولى : دعوى العيب القديم ، كما إذا ادّعى المشتري أنّ المال الّذي اشتريته منك فيه كذا ، فللبائع - ولو كان واقفاً على العيب القديم - أن ينكر وجوده حتّى يثبته المشتري ، ويردّه إليه ليتمكّن بدوره أن يردّه على من باعه إيّاه .
الثّانية : لوصيّ المتوفّى أن ينكر دين الميّت ولو كان عالماً بذلك .
هذا ما ذكره في درر الحكّام . وفي شرح الأتاسيّ على المجلّة ما يفيد أنّ القاعدة في ذلك أنّه يسوغ له الإنكار إن تحقّقت حاجته إلى البيّنة . قال : وهذا في مسائل منها : استحقّ المبيع في يد المشتري يعذر في الإنكار ، وإن علم صدق المدّعي ، إذ لو أقرّ هو لم يرجع على بائعه باليمين . وعند الشّافعيّة إذا نصب القاضي مسخّراً ( أي ممثّلاً للمدّعى عليه ) ينكر عن البائع جاز للمسخّر الإنكار وإن كان كاذباً . وعلّلوا ذلك بالمصلحة . ولعلّهم يقصدون مصلحة تمكين المدّعي من إقامة البيّنة ، لتكون البيّنة بناءً على إنكار منكرٍ .
وذكر المالكيّة أنّه يجوز الإنكار في حال الخوف على النّفس أو المال ، وجعلوا ذلك من باب الإكراه . قالوا : إذا استخفى الرّجل عند الرّجل من السّلطان الجائر الّذي يريد دمه أو ماله ، فسأله السّلطان عنه ، فستر عليه ، وجحد أن يكون عنده ، فقال له : احلف أنّه ليس عندك ، فحلف أنّه ليس عندي ، ليدفع عن نفسه ودمه ، أو ما دون ذلك من ماله ، فلا شيء عليه إن كان خائفاً على نفسه . أمّا إن كان آمناً على نفسه ، وإنّما أراد أن يقيه بيمينه فقد أجر فيما فعل ، ولزمه الحنث فيما حلف . قالوا : وكذلك فعل مالك في هذا بعينه .
أمّا التّخلّص من مثل هذا المأزق بالتّأويل والتّورية فينظر في مصطلح ( تورية )
جحد من عليه الحقّ كذباً ، إن كان الآخر جاحداً لحقّه :
18 - ذكر المالكيّة والحنابلة أنّ من عليه الدّين ليس له أن يجحده حتّى في حالة ما لو كان له دين قبل المدّعي ، وكان المدّعي قد جحده ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك » .
ولأنّ الدّين الّذي على المدّعى عليه إن كان من غير جنس دينه ، كأن يكون دين أحدهما ذهباً ودين الآخر فضّةً ، فإنّ الجحد هنا يكون كبيع الدّين بالدّين ، وهو لا يجوز ولو تراضيا . وإن كان الدّينان من جنسٍ واحدٍ كان ذلك من قبيل المقاصّة ، وهي لا تجوز إلاّ بالتّراضي . إذن ليس له تعيين حقّه بغير صاحبه .
وأجاز الشّافعيّة للمدين جحد دين من جحد دينه ، إذا كان على الجاحد مثل ما له عليه ، أو أكثر منه ، فتحصل المقاصّة بين الدّينين ، وإن لم توجد شروطها للضّرورة .
فإن كان له دون ما للآخر جحد من حقّة بقدره . ولم نجد للحنفيّة تعرّضاً لهذه المسألة .
تعريض القاضي بالإنكار في الحدود :
19 - للفقهاء في حكم تعريض القاضي بالإنكار للمقرّ بحدٍّ ، ثلاثة أقوالٍ :
الأوّل : وهو قول الحنفيّة والحنابلة وهو اختيار بعض المالكيّة ، والقول الصّحيح عند الشّافعيّة - كما قال النّوويّ - أنّ من أقرّ لدى الحاكم ابتداءً ، أو بعد دعوى بما يستوجب عقوبةً لحقّ اللّه تعالى ، كالزّنى والسّرقة ، فإنّ للحاكم أن يعرض له بالرّجوع عن الإقرار . وهذا عند الشّافعيّة على سبيل الجواز ، وعند الحنفيّة ، والحنابلة على سبيل الاستحباب . واحتجّوا لذلك بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لماعزٍ لمّا أقرّ بالزّنى : « لعلّك قبّلت ، أو غمزت ، أو نظرت » . وقوله صلى الله عليه وسلم للّذي أقرّ بالسّرقة .« ما أخالك سرقت ». القول الثّاني : وهو للشّافعيّة ، أنّه لا يجوز التّعريض بالإنكار في ذلك أصلاً .
والقول الثّالث : وهو للشّافعيّة أيضاً ، أنّه يعرض له بالرّجوع إن كان المقرّ لا يعلم أنّ له الرّجوع . فإن كان يعلم ذلك لا يعرض له .
أمّا التّصريح بالرّجوع عن الإقرار بالحدّ ، وتلقين المقرّ ذلك ، فقد صرّح الشّافعيّة بعدم جوازه . قالوا : لا يقول له : " ارجع عن إقرارك " وأجازه الحنفيّة والحنابلة ، فقالوا : لا بأس بتلقينه الرّجوع . وهذا يفهم منه جواز التّصريح . ويؤيّده احتجاج صاحب المغني من الحنابلة بما رواه سعيد بن منصورٍ عن أبي الدّرداء أنّه أتي بجاريةٍ سوداء قد سرقت ، فقال لها : " أسرقت ؟ قولي : لا " فقالت : لا . فخلّى سبيلها .
الضّمان بعد إنكار الحقّ :
20 - إذا أنكر المودع الوديعة بعد طلب ربّها لها ، دخلت في ضمانه ، فإن تلفت بعد إنكاره ، كأن كانت دابّةً فماتت ، أو داراً فانهدمت ، يتقرّر عليه ضمانها ، ويضمنها بقيمتها ، لأنّه بإنكاره لها يكون غاصباً ، ولأنّ العقد ينفسخ بطلب المالك الوديعة وإنكار المودع لها ، لأنّه بإنكاره عزل نفسه عن الحفظ الّذي هو مقتضى العقد ، فيبقى مال الغير بيده بغير إذنه ، فيكون مضموناً ، فإذا هلك ضمنه .
ولو أنّ المودع عاد بعد إنكاره ، فأقرّ الوديعة ، لم يزل عنه الضّمان .
وقال بعض الحنفيّة : لا يضمن المودع الوديعة بالإنكار ، إلاّ إن نقلها من مكانها الّذي كانت فيه وقت الإنكار ، إن كانت ممّا ينقل ، وإن لم ينقلها من ذلك المكان بعد الجحود ، فهلكت ، لا يضمن . أمّا إن ردّ الوديعة إلى صاحبها بعد الإنكار وقبل تلفها فيزول الضّمان ، فلو أودعه إيّاها مرّةً ثانيةً فتلفت فإنّه لا يضمن .
قطع منكر العاريّة :
مذهب الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عن أحمد : أنّه لا قطع على منكر الوديعة أو العاريّة أو الأمانة ، وكذلك مذهب المالكيّة ، كما يفهم من كلامهم ، وذلك لعدم الأخذ من حرزٍ .
قالوا : ولحديث : « ليس على خائنٍ ، ولا منتهبٍ ، ولا مختلسٍ ، قطع » .
والخائن هو جاحد الوديعة ونحوها .
والرّواية الأخرى عند الحنابلة ، وهي المذهب ، عدم وجوب القطع عليهم ، إلاّ جاحد العاريّة خاصّةً يجب قطعه باعتبار أنّه سارق ، لما ورد « أنّ امرأةً كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقطع يدها » . قال أحمد : لا أعلم شيئاً يدفعه . وقال الجمهور : في حديث المخزوميّة هذا ، إنّ أكثر رواياته أنّها " سرقت " فيؤخذ بها .
ويحتمل أنّها كانت تستعير وتجحد ، وكانت تسرق فقطعت لسرقتها لا لجحودها .
ويرجع في تفصيل هذه المسألة والخلاف فيها إلى مصطلح : ( سرقة ) .
الإنكار بعد الإقرار :
21 - من أقرّ بحقٍّ ثمّ رجع عن إقراره ، فإمّا أن يكون إقراره في الحدود الّتي لحقّ اللّه ، أو في غير ذلك :
أ - الإنكار بعد الإقرار بما هو حقّ للّه :
22 - لو أقرّ رجل بالزّنى أو نحوه ممّا فيه حقّ اللّه ، ثمّ أنكره أو رجع عنه ، فللفقهاء في ذلك اتّجاهات ثلاثة :
الأوّل : وهو قول الحنفيّة والحنابلة ، والقول المقدّم عند كلٍّ من المالكيّة والشّافعيّة : لا يلزمه حكم إقراره ، بل إذا رجع وأنكر السّبب أو أكذب نفسه ، أو أنكر إقراره به ، أو أكذب الشّهود - أي شهود الإقرار - سقط الحدّ ، فلم يقم عليه . ولو كان رجوعه أثناء إقامة الحدّ سقط باقيه . قال المرغينانيّ : لأنّ الرّجوع خبر محتمل للصّدق ، كالإقرار ، وليس أحد يكذّبه فيه ، فتتحقّق الشّبهة في الإقرار ، بخلاف ما فيه حقّ العبد وهو القصاص وحدّ القذف ، لوجود من يكذّبه ، وليس كذلك ما هو حقّ خالص للشّرع .
ومثل حدّ الزّنى في ذلك حدّ السّرقة وشرب الخمر .
الثّاني : أنّ الحدّ إذا ثبت بالإقرار لم يسقط بإنكاره أو الرّجوع عنه .
وهذا قول للشّافعيّة في السّرقة خاصّةً .
الثّالث : وهو قول للمالكيّة قاله أشهب ، وروي عن مالكٍ ، أنّ الرّجوع لا يقبل إلاّ بأمرٍ يعذر به المقرّ - لا مطلقاً - ومثال ما يعذر به المقرّ أن يقول وطئت زوجتي أو أمتي وهي حائض ، فظننت أنّه زنًى .
ب - الإنكار بعد الإقرار فيما هو حقّ للعباد :
23 - قال ابن قدامة : حقوق الآدميّين وحقوق اللّه الّتي لا تدرأ بالشّبهات كالزّكاة والكفّارات لا يقبل رجوعه عن إقراره بها . لا نعلم في هذا خلافاً . حتّى أنّه لو أقرّ بالسّرقة ، ثمّ رجع عنها ثبت المال ، لأنّه حقّ العبد ، وسقط القطع ، لأنّه حقّ اللّه .
غير أنّ الشّبهة الّتي عرضت من احتمال أن يكون صادقاً في رجوعه عن إقراره ، دعت بعض الفقهاء أن يقولوا إنّ القاضي ، إن رجع المقرّ في إقرارٍ ، لا يقضي عليه إلاّ بعد استحلاف خصمه أنّ الإقرار لم يكن باطلاً .
قال ابن قدامة : لو أقرّ أنّه وهب وأقبض الهبة ، أو أنّه قبض المبيع ، أو آجر المستأجر ، ثمّ أنكر ذلك وسأل إحلاف خصمه ، فإنّه لا يستحلف على روايةٍ عن أحمد ، وهو قول أبي حنيفة ومحمّدٍ ، لأنّ دعواه تكذيب لإقراره ، ولأنّ الإقرار أقوى من البيّنة ، ولو شهدت البيّنة فقال : حلّفوه لي مع بيّنته لم يستحلف . فكذلك هنا . قال : وفي الرّواية الثّانية يستحلف وهو قول الشّافعيّ وأبي يوسف ، وعليه الفتوى عند الحنفيّة ، لأنّ العادة جارية بالإقرار قبل القبض ، فيحتمل صحّة ما قاله ، فينبغي أن يستحلف خصمه لنفي الاحتمال .
أثر جحود العقود في انفساخها :
24 - إذا جحد أحد المتبايعين البيع أو غيره من العقود اللّازمة - غير النّكاح - لم يترتّب على إنكاره له انفساخ العقد ، وكان للآخر التّمسّك بالعقد ، وله بعد الإثبات المطالبة بتنفيذه . لكن إن رضي هذا الآخر بالفسخ قولاً ، أو بتركه الخصومة مع فعلٍ يدلّ على الرّضى بالفسخ ، كنقله المبيع إلى منزله ، ينفسخ العقد . فلو قال المالك : اشتريت منّي هذه الدّابّة ، وأنكر الآخر الشّراء ، فرضي البائع ، انفسخ البيع ، وكان له أن يركب الدّابّة ، ولو أنّ المشتري ادّعى الشّراء بعد رضى البائع بالفسخ لا يقبل ، لانفساخ العقد .
أمّا النّكاح فلو جحد الرّجل أنّه تزوّج المرأة ، ثمّ ادّعى الزّواج وبرهن ، يقبل منه برهانه عند الحنفيّة ، لأنّ النّكاح لا يحتمل الفسخ بسائر الأسباب فكذا بهذا السّبب . ويوافق المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة الحنفيّة على أنّ إنكار الزّوج النّكاح لا يكون فسخاً .
وليس هو أيضاً طلاقاً عند الحنفيّة ، والشّافعيّة والحنابلة ولو نواه ، لأنّ الجحود هنا لعقد النّكاح ، لا لكونها امرأته . بخلاف ما لو قال : ليست هي امرأتي ، فإنّه إن نوى الطّلاق وقع طلاقاً . وعند المالكيّة : لو نوى الطّلاق بجحد النّكاح يكون طلاقاً ، كأنّهم جعلوه من كنايات الطّلاق .
أثر إنكار الرّدّة في حصول التّوبة منها :
25 - إذا ثبتت ردّة إنسانٍ بالبيّنة ، فأنكر أن يكون ارتدّ ، فللفقهاء في اعتبار ذلك الإنكار منه توبة قولان :
الأوّل : وهو قول الحنفيّة : أنّ من شهدت عليه البيّنة بالرّدّة ، وهو ينكرها ، وهو مقرّ بالتّوحيد وبمعرفة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبدين الإسلام ، فلا يتعرّض له ، لا لتكذيب الشّهود ، بل لأنّ إنكاره توبة ورجوع ، فيمتنع القتل فقط ، وتثبت بقيّة أحكام الرّدّة ، كحبوط عملٍ وبطلان وقفٍ ... إلخ .
الثّاني : وهو قول الشّافعيّة والحنابلة : يحكم بردّته ، ويلزمه أن يأتي بما يصير به الكافر مسلماً ، فإن لم يفعل استتيب ، فإن تاب وإلاّ قتل .
ولم يتعرّض المالكيّة لهذه المسألة فيما اطّلعنا عليه من كلامهم . هذا وقد نصّ الحنابلة على أنّه إن كان ثبوت ردّته بالإقرار . فإنّ إنكاره يكون توبةً ، ولا يتعرّض له ، كما في سائر الحدود . ولم نجد لغير الحنابلة نصّاً في ذلك ، والظّاهر أنّه موضع اتّفاقٍ .
الصّلح مع الإنكار :
26 - الصّلح عقد يتوصّل به إلى الإصلاح بين المتخاصمين .
والصّلح في الأموال نوعان : صلح مع الإنكار ، وصلح مع الإقرار .
والصّلح مع الإنكار عندما يكون المدّعى عليه يرى أنّه لا حقّ عليه ، فيدفع إلى المدّعي شيئاً افتداءً ليمينه وقطعاً للخصومة ، وصيانةً لنفسه عن التّبذّل بالمخاصمة في مجالس القضاء . وقد اختلف الفقهاء في صحّة مثل هذا الصّلح ، فأجازه الجمهور ، منهم أبو حنيفة ومالك وأحمد ، ومنعه الشّافعيّ . وأمّا متى كان المدّعى عليه مقرّاً بالحقّ فصالح عنه ببعضه ، فهو المسمّى بالصّلح مع الإقرار . وينظر تفصيل القول في نوعي الصّلح تحت عنوان ( صلح ) .
إنكار شيءٍ من أمور الدّين :
27 - لا يجوز للمسلم أن ينكر شيئاً من دين الإسلام . ولكن من أنكر شيئاً من أمور الدّين لا يحكم بكفره ، إلاّ إن كان ما أنكره أمراً مجمعاً عليه قد علم قطعاً مجيء النّبيّ صلى الله عليه وسلم به . كوجوب الصّلاة والزّكاة ، ولم يكن ذلك المنكر جاهلاً بالحكم ولا مكرهاً ، وهذا قول جمهور الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة .
واشترط بعض الحنفيّة وبعض المالكيّة وبعض الشّافعيّة أن يكون المجحود قد علم مجيء النّبيّ صلى الله عليه وسلم به بالضّرورة ، أي علماً ضروريّاً لا يتوقّف على نظرٍ واستدلالٍ . أو كما عبّر البعض : يعرفه كلّ المسلمين .
قال ابن الهمام في المسايرة : وأمّا ما أجمع عليه ، ولم يبلغ حدّ الضّرورة ، كاستحقاق بنت الابن السّدس مع البنت بإجماع المسلمين ، فظاهر كلام جمهور الحنفيّة الإكفار بجحده ، فإنّهم لم يشرطوا سوى القطع في الثّبوت . وأمّا عند من شرط كونه معلوماً بالضّرورة فلا يكفر عنده من جحد مثل هذا الحكم .
ونقل ابن عابدين عن بعض الحنفيّة أنّ المسائل الإجماعيّة تارةً يصحبها التّواتر عن صاحب الشّرع ، وتارةً لا يصحبها . فالأوّل يكفر جاحده لمخالفته التّواتر لا لمخالفته الإجماع . ونقل ابن حجرٍ الهيتميّ مثل ذلك عن بعض الشّافعيّة . وقريب من قول من اشترط في المجحود أن يكون معلوماً من الدّين بالضّرورة قول الحنابلة ، فإنّهم اشترطوا لما يكفر بإنكاره أن يكون ظاهراً بين المسلمين لا شبهة فيه ، وعبارة شرح المنتهى : من جحد حكماً ظاهراً بين المسلمين - بخلاف ( نحو ) فرض السّدس لبنت الابن مع بنت الصّلب ، وكان ذلك الحكم مجمعاً عليه إجماعاً قطعيّاً لا سكوتيّاً ، لأنّ فيه - أي الإجماع السّكوتيّ - شبهةً ، كجحد تحريم الزّنى ، أو جحد تحريم لحم الخنزير ، أو مذكّاة بهيمة الأنعام والدّجاج ، ومثله لا يجهله لكونه نشأ بين المسلمين ، أو كان مثله يجهله وعرف حكمه ، وأصرّ على الجحد ، كفر . وينظر التّفصيل في هذه المسألة تحت عنوان ( ردّة ) .
ثانياً :
الإنكار في المنكرات
28 - إنكار المنكر هو النّهي عن معصية اللّه باليد أو باللّسان ، أو بالقلب . فمن رأى حدود اللّه تنتهك شرع له التّغيير ، لقول اللّه تعالى : { كنتم خيرَ أمّةٍ أُخْرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان » .
وتفصيل القول في هذا الأمر ، وبيان آداب النّهي عن المنكر ينظر تحت عنوان . ( الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ) .
هذا ، وإنّ ترك النّبيّ صلى الله عليه وسلم الإنكار على ما يراه من الأفعال ، أو ما يسمعه من الأقوال ، يدلّ على جواز ذلك الفعل أو القول ، وأنّه لا بأس به شرعاً .
وهذا التّرك هو أحد أصول الأدلّة الشّرعيّة ، وهو نوع من أنواع السّنّة النّبويّة ، ويسمّيه الأصوليّون ( الإقرار ) أو ( التّقرير ) وينظر تفصيل مباحثه تحت عنوان ( تقرير ) وفي باب ( السّنّة ) من الملحق الأصوليّ .
إنماء *
التّعريف :
1 - الإنماء لغةً : مصدر أنمى ، وهو من نمى ينمي نمياً ، ونماءً ، وفي لغةٍ : نما ينمو نموّاً ، أي زاد وكثر ، ونمّيت الشّيء تنميةً جعلته ينمو . فالإنماء والتّنمية : فعل ما به يزيد الشّيء ويكثر . ونمى الصّيد : غاب ، والإنماء أن يرمي الصّيد فيغيب عن عينه ثمّ يدركه ميّتاً ، وعن ابن عبّاسٍ مرفوعاً : « كل ما أصميت ، ودع ما أنميت » .
ولا يخرج استعمال الفقهاء له عمّا ورد في المعنى اللّغويّ .
ثمّ النّماء هو الزّيادة ، أي ما يكون نتيجة الإنماء غالباً ، كما يقول الفقهاء ، وقد يكون النّماء ذاتيّاً .
والنّماء نوعان : حقيقيّ وتقديريّ ، فالحقيقيّ الزّيادة بالتّوالد والتّناسل والتّجارات . والتّقديريّ : التّمكّن من الزّيادة بكون المال في يده أو يد نائبه .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّثمير والاستثمار :
2 - التّثمير والاستثمار كالإنماء أيضاً ، يقال : ثمّر ماله إذا نمّاه .
ب - التّجارة :
3 - التّجارة تقليب المال بالمعاوضة لغرض الرّبح .
فهي بذلك من الأعمال الّتي يطلب بها زيادة المال وتعتبر وسيلةً من وسائل تنميته .
ج - الاكتساب :
4 - الاكتساب هو طلب الرّزق . وأصل الكسب السّعي في طلب الرّزق والمعيشة ، وفي الحديث : « أطيب ما أكل الرّجل من كسبه ، وولده من كسبه » .
فالاكتساب هو طلب المال ، سواء أكان بتنمية مالٍ موجودٍ ، أم بالعمل بغير مالٍ ، كمن يعمل بأجرةٍ . أمّا الإنماء فهو العمل على زيادة المال ، وبذلك يكون الاكتساب أعمّ من الإنماء .
د - الزّيادة :
5 - الإنماء هو فعل ما يزيد به الشّيء ، كما سبق ، أمّا الزّيادة فهي الشّيء الزّائد أو المزيد على غيره ، وفي الفروق في اللّغة : الفعل نما يفيد زيادةً من نفسه ، وزاد لا يفيد ذلك . يقال : زاد مال فلانٍ بما ورثه عن والده ولا يقال ذلك في نما .
ومعنى ذلك أنّ الإنماء هو العمل على أن تكون الزّيادة نابعةً من نفس الشّيء وليست من خارجٍ ، أمّا الزّيادة فقد تكون من خارجٍ فهي أعمّ .
ويقسّم الفقهاء الزّيادة إلى متّصلةٍ ومنفصلةٍ ، ويقسّمون كلّاً منهما إلى متولّدةٍ وغير متولّدةٍ ، فالزّيادة المتّصلة المتولّدة كالسّمن والجمال ، وغير المتولّدة كالصّبغ والخياطة ، والزّيادة المنفصلة المتولّدة كالولد والثّمر ، وغير المتولّدة كالأجرة .
هـ- الكنز :
6- الكنز مصدر كنز ، وهو أيضاً اسم للمال إذا أحرز في وعاءٍ . وقيل : الكنز المال المدفون ، وتسمّي العرب كلّ كثيرٍ مجموعٍ يتنافس فيه كنزاً ، ويطلق على المال المخزون والمصون ، ومنه قوله تعالى : { والّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشّرهم بعذابٍ أليمٍ } وفي الحديث : « كلّ مالٍ لا تؤدّى زكاته فهو كنز » .
فالكنز ضدّ الإنماء .
و- تعطيل :
7 - التّعطيل التّفريغ ، والمعطّل الموات من الأرض ، وإبل معطّلة لا راعي لها ، وعطّل الدّار أخلاها ، وتعطّل الرّجل إذا بقي لا عمل له ، ويقول الفقهاء : من تحجّر أرضاً وترك عمارتها ، قيل له : إمّا أن تعمّر وإمّا أن ترفع يدك ، فإن استمرّ تعطيلها فمن عمّرها فهو أحقّ بها ، لقول عمر رضي الله عنه : من تحجّر أرضاً فعطّلها ثلاث سنين فجاء قوم فعمروها فهم أحقّ بها . فالتّعطيل أيضاً ضدّ الإنماء .
ز - القنية :
8 - القنية ( بكسر القاف وضمّها ) الكسبة ، واقتنيته : كسبته ، ويقال : اقتنيته أي اتّخذته لنفسي قنيةً لا للتّجارة ، والقنية الإمساك ، وفي الزّاهر : القنية : المال الّذي يؤثّله الرّجل ويلزمه ، ولا يبيعه ليستغلّه .
والفقهاء يفرّقون في وجوب الزّكاة بين ما يتّخذ للقنية أي للملك وما يتّخذ للتّجارة .
فالقنية أيضاً تعطيل للمال عن الإنماء .
ح - ادّخار :
9 - الادّخار : إعداد الشّيء وإمساكه لاستعماله لوقت الحاجة ، وفي الحديث :
« كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحيّ فوق ثلاثٍ ، فأمسكوا ما بدا لكم » .
فالمال في حال الادّخار معطّل عن الإنماء .
أوّلاً :
الإنماء بمعنى زيادة المال
حكم إنماء المال :
تمهيد :
10 - الإنسان بالنّسبة للمال : إمّا أن يكون مالكاً للرّقبة ( العين ) وللتّصرّف فيها ، كالشّيء الّذي يتملّكه الإنسان بشراءٍ أو هبةٍ أو إرثٍ ويكون تحت يده وأهلاً للتّصرّف فيه ، وإمّا أن يكون مالكاً للرّقبة فقط دون التّصرّف كالمحجور عليه ، وإمّا أن يكون مالكاً للتّصرّف فقط دون الرّقبة كالوليّ والوصيّ والوكيل وناظر الوقف والقاضي والسّلطان فيما يرجع إلى بيت المال ، وإمّا أن يكون لا يملك الرّقبة ولا التّصرّف كالغاصب والفضوليّ والمرتهن والمودع والملتقط في مدّة التّعريف .
حكم الإنماء بالنّسبة لمالك الرّقبة والتّصرّف :
مشروعيّته :
11 - إنماء المال الّذي يملكه الإنسان ويملك التّصرّف فيه جائز مشروع ، والدّليل على مشروعيّته ، أنّ اللّه تعالى أحلّ البيع والتّجارة حتّى في مواسم الحجّ ، وذلك العمل وسيلة للإنماء كما يقول الفقهاء .
يقول اللّه تعالى : { وأحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا } ، ويقول : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم } ويقول : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللّه } أي يسافرون للتّجارة ، ويقول : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربّكم } يعني في مواسم الحجّ .
كما ورد « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دفع إلى عروة البارقيّ ديناراً ليشتري له شاةً فاشترى شاتين فباع إحداهما بدينارٍ وأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بشاةٍ ودينارٍ فدعا له بالبركة » وكذلك يقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « التّاجر الصّدوق الأمين مع النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء » . ويقول : « الجالب مرزوق والمحتكر محروم أو ملعون » ، ويقول : « لا يغرس مسلم غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان ولا دابّة ولا شيء إلاّ كانت له صدقة » . ويقول : « نعم المال الصّالح للرّجل الصّالح » .
ولتحصيل هذا الغرض ( وهو الإنماء ) أباحت الشّريعة أنواعاً من العقود كالشّركات .
وقد روي عن جماعةٍ من الصّحابة أنّهم دفعوا مال اليتيم مضاربةً ، كذلك بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم والنّاس يتعاملون بالشّركة والمضاربة فأقرّهم ولم ينكر عليهم .
حكمة المشروعيّة :
12 - شرع للإنسان تنمية ماله حفاظاً على المال لمصلحته ومصلحة الجماعة ، والحفاظ على المال مقصد من مقاصد الشّريعة ، ولذلك منع منه السّفهاء حتّى لا يضيّعوه . ومن وسائل حفظه تنميته بتجارةٍ أو زراعةٍ أو صناعةٍ أو غير ذلك ، ولذلك يقول الفقهاء في الحكمة من مشروعيّة الشّركة : الشّركة وضعت لاستنماء المال بالتّجارة لأنّ غالب نماء المال بالتّجارة ، والنّاس في الاهتداء إلى التّجارة مختلفون بعضهم أهدى من بعضٍ ، فشرعت الشّركة لتحصيل غرض الاستنماء ، وحاجة النّاس إلى استنماء المال متحقّقة ، فشرعت هذه العقود لمصالح العباد .
وفي القراض يقول الفقهاء ، إنّ الضّرورة تدعو إليه لاحتياج النّاس إلى التّصرّف في أموالهم وتنميتها بالتّجر فيها ، فهو من المصالح العامّة ، وليس كلّ أحدٍ يقدر عليه بنفسه ، فيضطرّ إلى الاستنابة عليه .
إنماء المال بحسب نيّة الشّخص :
13 - الإنماء نوع من أنواع الاكتساب ، ويختلف حكمه بحسب الغرض منه .
فيفرض إن كان لتحصيل المال بقدر الكفاية لنفسه وعياله وقضاء ديونه .
ويستحبّ الزّائد على الحاجة إذا كان الغرض منه مواساة الفقير ونفع القريب وهو حينئذٍ أفضل من التّفرّغ لنفل العبادة .
ويباح الزّائد إذا كان بغرض التّجمّل والتّنعّم لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم . « نعم المال الصّالح للرّجل الصّالح » .
ويكره ( أي كراهة تحريمٍ ) الزّائد إذا كان للتّفاخر والتّكاثر والبطر والأشر وإن كان من حلٍّ ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من طلبها حلالاً مكاثراً لها مفاخراً لقي اللّه تعالى وهو عليه غضبان » .
حكم الإنماء بالنّسبة لمن يملك التّصرّف دون الرّقبة
14 - من يملك التّصرّف في المال دون الرّقبة كالوليّ والوصيّ وناظر الوقف والوكيل والقاضي والسّلطان . هؤلاء يتصرّفون فيما يلونه من أموال اليتامى والقصّر وأموال الوقف والموكّل وبيت المال بإذنٍ شرعيٍّ ، وهم أمناء على هذه الأموال ، ونظرهم فيها يكون بما فيه الحظّ لأربابها ، ولذلك يجوز لهم إنماء هذه الأموال لأنّه أوفر حظّاً .
يقول الفقهاء : الوكيل والوصيّ والوليّ والقاضي والسّلطان فيما يرجع إلى بيت المال يتصرّفون بإذنٍ شرعيٍّ .
وللوصيّ دفع المال إلى من يعمل فيه مضاربةً نيابةً عن اليتيم ، وللقاضي - حيث لا وصيّ - إعطاء مال الوقف والغائب واللّقطة واليتيم مضاربةً . ولناظر الوقف تنميته بإيجارٍ أو زرعٍ أو غير ذلك . وللإمام النّظر فيما يرجع إلى بيت المال بالتّثمير والإصلاح ، وقد استدلّ الفقهاء على جواز تصرّف هؤلاء المذكورين بالإنماء فيما يلونه من أموالٍ بالآتي :
أ - ما رواه عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من ولي يتيماً له مال فليتّجر له بماله ولا يتركه حتّى تأكله الصّدقة » .
ب - ما روي عن جماعةٍ من الصّحابة أنّهم دفعوا مال اليتيم مضاربةً ، منهم : عمر وعثمان وعليّ وعبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنهم .
ج - ما روي أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم : دفع إلى عروة البارقيّ ديناراً ليشتري له شاةً ، فاشترى شاتين ، فباع إحداهما بدينارٍ ، وأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بشاةٍ ودينارٍ ، فدعا له بالبركة » .
د - استدلّوا على أنّ الإمام له النّظر في أموال بيت المال بالتّثمير والإصلاح ، بما روي" أنّ عبد اللّه وعبيد اللّه ابني عمر بن الخطّاب أخذا من أبي موسى الأشعريّ - وهو أمير البصرة - مالاً من بيت المال ليبتاعا ويربحا ، ثمّ يؤدّيا رأس المال إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب ، فأبى عمر ، وجعل المال قراضاً ، وأخذ نصف الرّبح لبيت المال وترك لهما النّصف ".
هـ - كما ورد أنّ أبا بكرٍ رضي الله تعالى عنه كان يرسل إبل الصّدقة إذا كانت عجافاً إلى الرّبذة وما والاها ترعى هناك .
حكم الإنماء بالنّسبة لمن يملك الرّقبة دون التّصرّف
من يملك الرّقبة ولا يملك التّصرّف كالسّفيه عند غير الحنفيّة ، وكالصّغير والمجنون يمنع من التّصرّف في المال ، والحجر عليهم إنّما هو للحفاظ على أموالهم ، والأصل في ذلك قوله تعالى : { ولا تُؤتوا السّفهاء أموالكم الّتي جعل اللّه لكم قِياماً } ، فأضاف الأموال إلى الأولياء ، لأنّهم مدبّروها ، كذلك أمر اللّه تعالى باختبار اليتامى وعدم دفع الأموال إليهم إلاّ عند إيناس الرّشد منهم . يقول تعالى : { وابتلوا اليتامى حتّى إذا بلغوا النّكاح فإنْ آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } ، يقول ابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهما : { فإن آنستم منهم رشداً } أي صلاحاً في أموالهم . فالمنع من التّصرّف نظر لهم لأنّه يمكن تبذير المال بما يعقدونه من بياعاتٍ . لكن إذا أذن الوليّ للصّغير المميّز جاز تصرّفه بالإذن ، أمّا الصّغير غير المميّز والمجنون فلا يصحّ تصرّفهما ولو بالإذن .
حكم الإنماء بالنّسبة لمن لا يملك الرقبة ولا التّصرّف :
15 - من لا يملك الرّقبة ولا التّصرّف ، وله يد على المال ، سواء أكانت يد أمانةٍ كالمودع ، أو كانت يداً معتديةً كيد الغاصب ، فإنّه لا يجوز له الإنماء ، إذ الأصل أنّه لا يجوز تصرّف أحدٍ في غير ملكه بغير إذن مالكه . وانظر للتّفصيل ( غصب . وديعة ) .
وسائل الإنماء
ما يجوز منها وما لا يجوز :
16 - تقدّم أنّ الأصل في إنماء المال أنّه مشروع ، إلاّ أنّه يجب أن يقتصر فيه على الوسائل المشروعة ، كالتّجارة والزّراعة والصّناعة ، مع مراعاة القواعد والشّرائط الشّرعيّة الّتي أوردها الفقهاء للتّصرّفات الّتي تكون سبيلاً إلى الإنماء ، كالبيع والشّركة والمضاربة والمساقاة والوكالة ، وذلك لضمان صحّة هذه العقود ، وليخلص الرّبح من شبهة الحرام ( ر : بيع - شركة - مضاربة ... إلخ ) .
ولذلك يحرم تنمية المال عن طريقٍ غير مشروعٍ كالرّبا والقمار والتّجارة بالخمر ونحو ذلك . لقوله تعالى : { وأحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الخمر : « لعن اللّه شاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها ... » الحديث . وقوله : « إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام » .
ما يتعلّق بالنّماء من أحكامٍ :
17 - المال سواء أكان في يد مالكه أو يد المتصرّف فيه . أم كان أمانةً أو غصباً ، إذا نما ، سواء أكان نماؤه طبيعيّاً أو ناتجاً بعملٍ ، فلنمائه أحكام ، تختلف باختلاف مواضعها . ولمعرفة تفاصيل ذلك ينظر مصطلح ( زيادة ) .
ثانياً :
الإنماء بمعنى تغيّب الصّيد بعد رميه
18 - التّعبير بالإنماء بمعنى رمي الصّيد حتّى غاب عن العين بعد رميه ، ورد منسوباً لابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهما ، والغالب أنّ الفقهاء لا يستعملون هذا اللّفظ ، وإنّما ذكروا المسألة واستدلّوا على رأيهم بقول ابن عبّاسٍ ، جاء في بدائع الصّنائع : إذا رمى الصّيد وتوارى عن عينه وقعد عن طلبه ثمّ وجده لم يؤكل ، فأمّا إذا لم يتوار أو توارى لكنّه لم يقعد عن الطّلب حتّى وجده يؤكل استحساناً ، والقياس أنّه لا يؤكل ، وروي عن ابن عبّاسٍ أنّه سئل عن ذلك فقال : كل ما أصميت ودع ما أنميت .
قال أبو يوسف رحمه الله : الإصماء ما عاينه ، والإنماء ما توارى عنه .
وقال هشام : الإنماء ما توارى عن بصرك ، إلاّ أنّه أقيم الطّلب مقام البصر للضّرورة ، ولا ضرورة عند عدم الطّلب . وفي المغني لابن قدامة : إذا رمى الصّيد فغاب عن عينه فوجده ميّتاً وسهمه فيه ولا أثر به غيره حلّ أكله ، وهذا هو المشهور عن أحمد ، وكذلك لو أرسل كلبه على صيدٍ فغاب عن عينه ثمّ وجده ميّتاً ومعه كلبه حلّ ، وعن أحمد إن غاب نهاراً فلا بأس ، وإن غاب ليلاً لم يأكله ، وعن أحمد ما يدلّ على أنّه إن غاب مدّةً طويلةً لم يبح ، وإن كانت يسيرةً أبيح ، لأنّه قيل له : إن غاب يوماً ؟ قال : يوم كثير . ووجه ذلك قول ابن عبّاسٍ إذا رميت فأقعصت فكل ، وإن رميت فوجدت فيه سهمك من يومك أو ليلتك فكل ، وإن بات عنك ليلةً فلا تأكل ، فإنّك لا تدري ما حدث فيه بعد ذلك .
وللشّافعيّ فيه قولان لأنّ ابن عبّاسٍ قال : كل ما أصميت ، وما أنميت فلا تأكل .
قال الحكم : الإصماء الإقعاص ، يعني أنّه يموت في الحال ، والإنماء أن يغيب عنك يعني أنّه لا يموت في الحال . وينظر تفصيل الموضوع في ( صيد ) .
أنموذج *
التّعريف :
1- للأنموذج معانٍ منها : أنّه ما يدلّ على صفة الشّيء ، كأن يري إنسان إنساناً صاعاً من صبرة قمحٍ مثلاً ، ويبيعه الصّبرة على أنّها من جنس ذلك الصّاع . ويقال له أيضاً نموذج . قال الصّغائيّ : النّموذج : مثال الشّيء الّذي يعمل عليه ، وهو معرّب .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - البرنامج :
2 - البرنامج : هو الورقة الجامعة للحساب وهو معرّب " برنامه " .
وفي المغرب : هي النّسخة المكتوب فيها عدد الثّياب والأمتعة وأنواعها المبعوث بها من إنسانٍ لآخر . فالبرنامج هي تلك النّسخة الّتي فيها مقدار المبعوث ، ومنه قول السّمسار : إنّ وزن الحمولة في البرنامج كذا .
ونصّ فقهاء المالكيّة على أنّ البرنامج : هو الدّفتر المكتوب فيه صفة ما في الوعاء من الثّياب المبيعة . وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( برنامج ) .
ب - الرّقم :
3 - الرّقم : من رقّمت الشّيء إذا أعلمته بعلامةٍ تميّزه عن غيره كالكتابة ونحوها .
وفسّره الحنفيّة في قولهم البيع بالرّقم بأنّه علامة يعرف بها مقدار ما يقع به البيع .
وقال الحنابلة : بأنّه الثّمن المكتوب على الثّوب ، وهو أوضح من غيره .
وللتّفصيل ينظر : ( البيع بالرّقم ) .
الحكم الإجماليّ :
4 - أورد الحنفيّة في كتاب البيوع أنّ البيع ينعقد بالإيجاب والقبول . وأنّه لا بدّ للعاقدين من معرفة المبيع معرفةً نافيةً للجهالة المفضية للمنازعة .
فإن كان المبيع حاضراً اكتفي بالإشارة إليه ، لأنّها موجبة للتّعريف قاطعة للمنازعة .
وإن كان غائباً فإن كان ممّا يعرف بالأنموذج كالكيليّ والوزنيّ والعدديّ المتقارب فرؤية الأنموذج كرؤية الجميع إلاّ أن يختلف فيكون له خيار العيب ، أو خيار فوات الوصف المرغوب فيه . وإن كان ممّا لا يعرف بالأنموذج كالثّياب والحيوان فيذكر له جميع الأوصاف قطعاً للمنازعة ويكون له خيار الرّؤية .
كما أنّه لا بدّ كذلك من معرفة مقدار الثّمن وصفته إذا كان في الذّمّة قطعاً للمنازعة ، وإن أطلق الثّمن فهو على غالب نقد البلد ، وإن لم يتعاملوا بها انصرف إلى المعتاد عندهم . ويكفي أن يرى المشتري من المبيع ما يدلّ على العلم ، لأنّ رؤية جميع المبيع غير مشروطةٍ لتعذّرها كوجه صبرةٍ لا تتفاوت آحادها . فمتى كان الأنموذج قد دلّ على ما في الصّبرة من مبيعٍ دلالةً نافيةً للجهالة ، وكان ممّا لا تتفاوت آحاده ، وكان الثّمن معلوماً ، كان البيع به صحيحاً وبغيره لا . هذا ما عليه الفقهاء ، فقد شرطوا فيما ينعقد به البيع : معرفة العاقدين بالمبيع والثّمن معرفةً نافيةً للجهالة ، وأنّ رؤية بعض المبيع تكفي إن دلّت على الباقي فيما لا يختلف أجزاؤه اختلافاً بيّناً .
وقال الشّافعيّة في الأنموذج المتماثل المتساوي الأجزاء كالحبوب : إنّ رؤيته تكفي عن رؤية باقي المبيع ، والبيع به جائز . وإذا أحضر البائع الأنموذج وقال : بعتك من هذا النّوع كذا فهو باطل ، لأنّه لم يعيّن مالاً ليكون بيعاً ، ولم يراع شرط السّلم ، ولا يقوم ذلك مقام الوصف في السّلم ، لأنّ الوصف باللّفظ يرجع إليه عند النّزاع ، فإن عيّن الثّمن وبيّنه جاز . وقال الحنابلة : إنّ البيع بالأنموذج لا يصحّ إذا لم ير المبيع وقت العقد ، أمّا إذا رئي في وقته وكان على مثاله فإنّه يصحّ .
إنهاء *
التّعريف :
1 - الإنهاء في اللّغة : يكون بمعنى الإعلام ، والإبلاغ ، يقال أنهيت الأمر إلى الحاكم أي أعلمته به . ويكون بمعنى الإتمام والإنجاز . يقال : أنهى العمل إذا أنجزه .
وقد استعمله المالكيّة والشّافعيّة بمعنى إبلاغ القاضي قاضياً آخر بحكمه لينفّذه ، أو بما حصل عنده ممّا هو دون الحكم ، كسماع الدّعوى لقاضٍ آخر ليتمّمه . ويكون إمّا مشافهةً أو بكتابٍ أو بشاهدين . ويرجع في تفصيل ذلك إلى ( دعوى . قضاءٍ ) .
وأمّا بالمعنى الثّاني فقد استعمله الفقهاء كذلك ، ويرجع إلى بحث ( إتمامٍ ) .
أنوثة *
التّعريف :
1 - الأنوثة خلاف الذّكورة ، والأنثى - كما جاء في الصّحاح وغيره من كتب اللّغة - خلاف الذّكر ، قال تعالى : { يا أَيّها النّاسُ إنّا خلقناكم من ذَكَرٍ وَأُنْثَى } ، وتجمع على إناثٍ وأناثى ، وامرأة أنثى . أي كاملة في أنوثتها .
والأنثيان : الخصيتان . ( ر : خصاء ) .
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى . هذا ، ويذكر الفقهاء للأنوثة علاماتٍ وأماراتٍ تميّزها عن الذّكورة فضلاً عن أعضاء الأنوثة ، وتلك الأمارات إمّا حسّيّة كالحيض ، وإمّا معنويّة كالطّباع . وسيأتي بيان ذلك في مصطلح ( خنثى ) .
الألفاظ ذات الصّلة :
الخنوثة :
2 - الخنوثة حالة بين الذّكورة والأنوثة . وتذكر كتب اللّغة أنّ الخنثى من له ما للرّجال والنّساء جميعاً .
وأمّا عند الفقهاء ، فقد قال النّوويّ : الخنثى ضربان : ضرب له فرج المرأة وذكر الرّجال ، وضرب ليس له واحد منهما . وللتّفصيل ينظر مصطلح : ( خنثى ) .
أحكام الأنوثة :
أنثى الآدميّ :
أوّلاً : تكريم الإسلام للأنثى :
يتمثّل تكريم الإسلام للأنثى فيما يأتي :
حسن استقبالها عند ولادتها :
3 - كان استقبال الأنثى في العرب قبل الإسلام استقبالاً سيّئاً ، يتبرّمون بها ، وتسودّ وجوههم ، ويتوارون عن الأعين ، إذ هي في نظرهم مجلبة للفقر أو للعار ، فكانوا يئدونها حيّةً ، ويستكثر الرّجل عليها النّفقة الّتي لا يستكثرها على عبده أو حيوانه ، فنهى اللّه سبحانه وتعالى المسلمين عن ذلك ، وذمّ هذا الفعل الشّنيع ، وبيّن أنّ من فعل ذلك فقد باء بالخسران المبين ، { قد خَسِرَ الّذين قَتَلُوا أولادَهم سَفَهَاً بغيرِ عِلْمٍ } .
ونبّه الإسلام إلى أنّ حقّ الوجود وحقّ الحياة هبة من اللّه سبحانه وتعالى لكلّ إنسانٍ من ذكرٍ أو أنثى ، قال اللّه تعالى : { يَهَبُ لمن يشاءُ إناثاً ويَهَبُ لمن يشاءُ الذّكورَ } .
قال ابن قيّم الجوزيّة : قدّم اللّه سبحانه وتعالى ما كانت تؤخّره الجاهليّة من أمر البنات حتّى كانوا يئدونهنّ ، أي هذا النّوع المؤخّر الحقير عندكم مقدّم عندي في الذّكر .
والمقصود أنّ التّسخّط بالإناث من أخلاق أهل الجاهليّة الّذين ذمّهم اللّه سبحانه وتعالى في قوله : { وإذا بُشّرَ أحدُهم بالأُنثى ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوّداً وهو كَظيم ، يتوارى من القوم من سُوءِ ما بُشّرَ به ، أَيُمْسِكُه على هُونٍ أم يَدُسُّهُ في التّراب ألا ساء ما يَحْكمون } .
وقال قتادة فيما رواه الطّبريّ : أخبر اللّه تعالى بخبث صنيعهم ، فأمّا المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم اللّه له ، وقضاء اللّه له خير من قضاء المرء نفسه ، ولعمري ما يدري أنّه خير ، لربّ جاريةٍ خير لأهلها من غلامٍ ، وإنّما أخبركم اللّه بصنيعهم لتجتنبوه وتنتهوا عنه ، وكان أحدهم يغذو كلبه ويئد ابنته .
والإسلام لا يكتفي من المسلم بأن يجتنب وأد البنات ، بل يرتقي بالمسلم إلى درجة الإنسانيّة المثلى ، فيأبى عليه أن يتبرّم بذرّيّة البنات ، ويتلقّى ولادتهنّ بالعبوس والانقباض ، بل يتقبّلها بالرّضى والحمد ، قال صالح بن الإمام أحمد : كان أحمد إذا ولد له ابنة يقول : الأنبياء كانوا آباء بناتٍ ، ويقول : قد جاء في البنات ما علمت .
العقّ عنها :
4 - العقيقة عن المولود سنّة ، ويستوي في السّنّة الذّكر والأنثى ، فكما يعقّ الوليّ عن الذّكر يوم السّابع يعقّ عن الأنثى أيضاً ، ولكن يعقّ عن الأنثى شاة ، وعن الذّكر شاتان . وينظر تفصيل ذكر في ( عقيقةٍ ) .