ابن عامر الشامي
وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
- إنضم
- 20 ديسمبر 2010
- المشاركات
- 10,237
- النقاط
- 38
- الإقامة
- المملكة المغربية
- احفظ من كتاب الله
- بين الدفتين
- احب القراءة برواية
- رواية حفص عن عاصم
- القارئ المفضل
- سعود الشريم
- الجنس
- اخ
الإشهاد في الشّفعة :
25 - الشّفيع إمّا أن يكون حاضراً وقت البيع أو غائباً ، فإن كان حاضراً فإنّه يلزمه لثبوت الشّفعة طلبها على الفور ، عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . على أنّ الحنفيّة قالوا : إنّ الأصل إشهاد الشّفيع على طلب المواثبة للتّوثيق ، وهذا الإشهاد على الطّلب ليس شرطاً للثّبوت ، لكن ليتوثّق حقّ الشّفعة إذا أنكر المشتري طلبها . وإنّما يصحّ طلب الإشهاد بحضرة المشتري أو البائع أو المبيع . ثمّ طلب الإشهاد مقدّرٌ بالتّمكّن من الإشهاد ، فمتى تمكّن من الإشهاد عند حضرة واحدٍ من هذه الأشياء ، ولم يطلب الإشهاد ، بطلت شفعته نفياً للضّرر عن المشتري . وإنّما يحتاج إلى طلب المواثبة ، ثمّ إلى طلب الإشهاد بعده ، إذا لم يمكنه الإشهاد عند طلب المواثبة ، بأن سمع الشّراء حال غيبته عن المشتري والبائع والدّار ، أمّا إذا سمع عند حضرة أحد هؤلاء الثّلاث ، وأشهد على ذلك ، فذلك يكفيه ، ويقوم مقام الطّلبين . وعند الشّافعيّة والحنابلة إن كان الشّفيع في البلدة فلا يلزمه الإشهاد على الطّلب ، بل يكفيه الطّلب وحده ، وإن كان غائباً فالحنابلة كالحنفيّة في لزوم طلب الشّفعة والإشهاد عليه ، فإن لم يفعل سقط حقّه ، سواءٌ قدر على التّوكيل أم عجز عنه ، سار عقيب العلم أو أقام . وعند الشّافعيّة إن كان الشّفيع غائباً يلزمه الطّلب ، فإن عجز فإنّه يلزمه التّوكيل ، فإن عجز عن التّوكيل فليشهد ، ولا يكفي الإشهاد عن الطّلب والتّوكيل عند القدرة عليهما . وذهب المالكيّة إلى أنّه ليس الإشهاد شرطاً لثبوت حقّ الشّفعة للشّفيع ، بل يثبت حقّه ولو لم يشهد .
إلاّ أنّهم صرّحوا بسقوط شفعته بالآتي :
أ - سكوته عن المطالبة مع علمه بهدم المشتري أو بنائه أو غرسه .
ب - أن يحضر الشّفيع عقد البيع ويشهد عليه ويسكت - بلا مانعٍ - شهرين .
ج - أن يحضر العقد ولا يشهد ويسكت - بلا عذرٍ - سنةً من يوم العقد .
تأخير الرّدّ للإشهاد :
26 - من كان تحت يده عينٌ لغيره ، إمّا أن يقبل قوله عند التّجاحد في الرّدّ أو لا ، فإن كان يقبل قوله كالأمانة ففي تأخير الرّدّ ثلاثة آراءٍ :
الأوّل : منع التّأخير ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ، والصّحيح عند الحنابلة . ولا يخالف جمهور المالكيّة في هذا ، فإن أخّره ضمن عند الهلاك عند الأئمّة الثّلاثة .
الثّاني : جواز التّأخير للإشهاد ، لأنّ البيّنة تسقط اليمين عن الرّادّ ، وهو قول ابن عبد السّلام من المالكيّة ، ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة ، ومقابل الصّحيح عند الحنابلة ، قالوا وهو قويٌّ خصوصاً في هذه الأزمنة . فإن كان صاحب اليد لا يقبل قوله في الرّدّ إلاّ ببيّنةٍ كالغصب ، فإنّ له التّأخير للإشهاد عند المالكيّة .
الثّالث : التّفريق بين ما إذا أخذها ببيّنةٍ أو بدون ذلك ، فله التّأخير عند الرّدّ حتّى يشهد أنّه أخذها ببيّنةٍ ، وهو قول الشّافعيّة والحنابلة . فإن لم تكن عليه بيّنةٌ ، فالأصحّ عند البغويّ من الشّافعيّة التّأخير نصّاً . وعند الحنابلة لا فرق بينه وبين من يؤخذ قوله بيمينه . ومن تتبّع فروع الحنفيّة نجد أنّهم يمنعون تأخير الرّدّ للإشهاد ، سواءٌ أكانت اليد يد ضمانٍ أم يد أمانةٍ ، ولم نر عندهم من يقول بالتّأخير للإشهاد .
قيام الإشهاد مقام القبض في الهبة :
27 - ذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ الوليّ لو وهب لمحجوره شيئاً ، وأشهد على نفسه ، فالهبة تامّةٌ ، والإشهاد يغني عن القبض . واستدلّوا على ذلك بما رواه مالكٌ عن الزّهريّ عن ابن المسيّب أنّ عثمان رضي الله عنه قال من نحل ولداً له صغيراً لم يبلغ أن يحوز نحلته ، فأعلن ذلك وأشهد على نفسه فهي جائزةٌ )، وإنّ وليّها أبوه . واستثنى المالكيّة من ذلك الدّار الّتي يسكنهما الواهب ، والملبوس الّذي هو لابسه ، إذا وهبهما لمحجوره ، فإنّه لا يكتفى بالإشهاد على الهبة ، بل لا بدّ من إخلائه للدّار ، ومثلها الملبوس . ولا بدّ من معاينة البيّنة للإخلاء . وإن لم تعاين البيّنة الحيازة فالإشهاد بالهبة يغني عن الحيازة فيما لا يسكنه الوليّ ولا تلبسه . واستثنوا كذلك ما لا يعرف بعينه ، كالمعدود والموزون والمكيل فلا بدّ من حيازته . والهبة تتمّ كذلك عند الحنفيّة بالإعلام والإشهاد ، إلاّ أنّ الإشهاد ليس شرطاً ، وإنّما هو للاحتياط . وعند الشّافعيّة يتولّى الأب طرفي العقد . وكيفيّة القبض أن ينقله من مكان لآخر . ولم أقف على من اشترط الإشهاد من المتأخّرين ، لكن جاء في الأمّ : أنّ الهبة لا تتمّ إلاّ بأمرين : الإشهاد ، والقبض ، ولا يغني الإشهاد عن القبض .
الإشهاد على التّصرّف في الموهوب قبل قبضه :
28 - ذهب المالكيّة إلى أنّ الموهوب له إذا باع ما اتّهبه أو أعتقه أو وهبه قبل أن يقبضه فإنّ تصرّفه ماضٍ ، وفعله ذلك حوزٌ له إذا أشهد على ذلك وأعلن بما فعله . وعند الحنفيّة ، والشّافعيّة لا يكون الإشهاد بمنزلة القبض ، ولا يثبت حكم الهبة إلاّ بقبضها . وكذلك الحكم عند الحنابلة في المكيل والموزون اللّذين لا تصحّ هبتهما إلاّ بالقبض عندهم . والصّدقة كالهبة عند المالكيّة ، فلو دفع مالاً لمن يفرّقه صدقةً على الفقراء والمساكين ، ولم يشهد على ذلك ، فلم يتصدّق به ، واستمرّ المال عنده حتّى مات الواهب ، فإنّ الصّدقة تبطل وترجع إلى ورثته . أمّا إذا أشهد على ذلك حين دفع المال إلى من يتصدّق به ، فإنّ الصّدقة لا تبطل بموت المتصدّق ، وترجع للفقراء والمساكين . وينطبق على الصّدقة ما ينطبق على الهبة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة من حيث عدم إغناء الإشهاد عن القبض على ما تقدّم .
الإشهاد في الوقف :
29 - عند المالكيّة لو وقف على محجوره ، وهو ولده الصّغير الّذي في حجره ، أو السّفيه أو الوصيّ على يتيمه فإنّه لا يشترط في حوز الوقف الحوز الحسّيّ ، بل يكفي فيه الحوز الحكميّ ، وهو أن يشهد على ذلك . وسواءٌ أكان الحائز الأب أم الوصيّ أو المقام من قبل الحاكم ، فيصحّ الوقف ولو كان تحت يد الحائز إلى موته أو إلى فلسه أو إلى مرضه الّذي مات فيه ، إذا توافرت بقيّة الشّروط مع الإشهاد . ولا بدّ من معاينة البيّنة لما وقع الإشهاد على وقفه إن كان الوقف على أجنبيٍّ ، فلا يكفي إقرار الواقف ، لأنّ المنازع للموقوف عليه إمّا الورثة وإمّا الغرباء . ولا بدّ أن يشهد الواقف على الوقف قبل حصول المانع للواقف من التّصرّف . ولا يشترط أن يقول عند الإشهاد على الوقفيّة : رفعت يد الملك ووضعت يد الحوز ونحو ذلك . والمذاهب الأخرى لم يتكلّموا عن الإشهاد في الوقف ، لعدم اشتراطهم القبض لصحّته .
الإشهاد على بناء الإنسان لنفسه في أرض الوقف :
30 – لو بنى ناظر الوقف لنفسه بمال نفسه في أرض الوقف،أو زرع وأشهد على ذلك فإن الحنفية والحنابلة يعتدون بذلك الإشهاد، ويجعلون البناء والغراس ملكاً للناظر إن أشهد. فإن لم يشهد فهو تابع للوقف. قال الحنفية :ولا بد أنيكون الإشهاد قبل البناء والغراس. والمالكية لا يجعلون للإشهاد أثر. وتفصيل ما يترتب على البناء والغراس يذكر في موطنه الأصلي ( الوقف ). وعند الشافعية ليس للواقف-والناظر بالأولى-أن يزرع أويبني في أرض الوقف لنفسه، وغرسه وبناؤه فيه بغير الحق، والحال لا يحتاج إلى إشهاد عندهم. وتفصيل أحكام البناء والغراس في الوقف ينظر في كتاب الوقف .
الإشهاد في اللّقطة :
31 - ورد في الحديث : « من وجد لقطةً فليشهد ذا عدلٍ أو ذوي عدلٍ ، ولا يكتم ، ولا يغيّب » . وهذا أمرٌ بالإشهاد على اللّقطة ليحفظها الإنسان عن نفسه من أن يطمع فيها ، وعن ورثته إن مات ، وعن غرمائه إن أفلس . وفي الأمر الوارد به رأيان :
أ - استحباب الإشهاد ، وهو مذهب الحنابلة ، والمذهب عند الشّافعيّة ، وهو قول المالكيّة إن خيف أن يدّعيها مع طول الزّمان .. وقد حملوا الحديث السّابق على الاستحباب . واستدلّوا على الاستحباب بخبر زيد بن خالدٍ مرفوعاً : « أعرّف وكاءها وعفاصها » وحديث أبيّ بن كعبٍ ، ولم يؤمر بالإشهاد فيهما ، واكتفي بالتعريف ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة . فلو كان واجباً لبيّنه النّبيّ ، سيّما وقد سئل عن حكم اللّقطة فلم يكن ليخلّ بأمرٍ واجبٍ فيها فيتعيّن حمل الأمر على النّدب في خبر عياضٍ . ولأنّه أمانةٌ فلم يفتقر إلى الإشهاد كالوديعة .
ب - وجوب الإشهاد : وهو قول أبي حنيفة . جاء في كتب الحنفيّة : أنّ الإشهاد لا بدّ منه عند الإمام : وهو قول المالكيّة إن تحقّق الملتقط أو ظنّ أنّه سيجحد اللّقطة . ووجوب الإشهاد هو مقابل المذهب عند الشّافعيّة . قالوا : في الحديث زيادةٌ على بقيّة الأخبار ، وهي الأمر بالإشهاد ، وزيادة الثّقة مقبولةٌ ، والأصل في الأمر الوجوب ، ولا منافاة بين هذه الزّيادة وبين بقيّة الأخبار الّتي ليس فيها أمرٌ . والإشهاد يكون حين الأخذ إن أمكن ، وإلاّ أشهد عند أوّل التّمكّن منه .
نفي الضّمان مع الإشهاد :
32 - يتّفق الفقهاء على أنّ الملتقط لا يضمن اللّقطة إن أشهد عليها . فإن لم يشهد فإنّه يضمنها إن تلفت عند جمهور الفقهاء . وقال الحنابلة وأبو يوسف : لا ضمان على الملتقط سواءٌ أشهد أم لم يشهد . وفي البدائع : ولا ضمان على الملتقط أشهد أو لم يشهد عند الصّاحبين . وعند أبي حنيفة يضمن إن لم يشهد . فإن خشي استيلاء ظالمٍ عليها ، فقد قال الشّافعيّة : إنّه يمتنع الإشهاد ولو أشهد ضمن ، وقال الحنفيّة لا يضمن إن لم يشهد خوفاً من استيلاء ظالمٍ عليها ، وكذا لا يضمن إن لم يتمكّن من الإشهاد .
الإشهاد والتعريف :
33 - لا يغني الإشهاد عن التعريف عند أكثر الفقهاء ، وذهب بعض الحنفيّة إلى أنّه يغني عن التعريف .
الإشهاد على اللّقيط :
34 - لا يختلف حكم الإشهاد على التقاط اللّقيط عن الإشهاد في اللّقطة عند المالكيّة ، وعند الشّافعيّة يجب الإشهاد قولاً واحداً ، وهو وجهٌ عند الحنابلة ، وعليه اقتصرت بعض كتبهم . وإنّما فرّقوا بين اللّقطة واللّقيط في الإشهاد ، لأنّ اللّقطة الغرض منها المال ، والإشهاد في التّصرّف الماليّ مستحبٌّ ، والغرض من التقاط اللّقيط حفظ حرّيّته ونسبه ، فوجب الإشهاد ، كما في النّكاح ، ولأنّ اللّقطة يشيع أمرها بالتعريف ولا تعريف في اللّقيط . واستظهر ابن قدامة وجوب ضمّ مشرفٍ إلى الملتقط إن كان غير أمينٍ .
والوجه الثّاني عند الحنابلة : استحباب الإشهاد . ويجب الإشهاد على ما مع اللّقيط تبعاً له عند الشّافعيّة ، ولئلاّ يتملّكه . وقيّد الماورديّ وجوب الإشهاد على اللّقيط وعلى ما معه بحالة ما إذا كان هو الملتقط . أمّا من سلّمه الحاكم له ليكفله فالإشهاد مستحبٌّ له قطعاً .
الإشهاد على نفقة اللّقيط :
35 - الحنفيّة والشّافعيّة اشترطوا لجواز الرّجوع بما ينفقه الملتقط على اللّقيط الإشهاد على إرادته الرّجوع . وقيّد الشّافعيّة ذلك بما إذا لم يتمكّن المنفق من استئذان الحاكم . ووجوب الإشهاد هو قول شريحٍ والنّخعيّ . وقال الحنابلة : لا يشترط . ولا يتأتّى القول بالإشهاد عند المالكيّة ، فالملتقط ينفق ، ولا يرجع على اللّقيط عندهم ، لأنّه بالالتقاط ألزم نفسه .
الإشهاد بالباطل للتّوصّل إلى الحقّ :
36 - فقهاء الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة على أنّه يجوز الإشهاد بالباطل للتّوصّل إلى الحقّ في صورٍ ذكروها . فعند الحنفيّة : الصّغيرة الّتي يزوّجها وليٌّ غير الأب والجدّ ، ويثبت لها شرعاً خيار البلوغ في النّكاح على الفور ، فإنّها إذا رأت الحيض في اللّيل واختارت الفسخ فوراً ، فإنّها حين تشهد في الصّباح على البلوغ تقول : بلغت الآن ، ضرورة إحياء الحقّ ، لأنّ خيار البلوغ يسقط بالتّراخي ، فلو أخبرت عن اختيارها متباعداً عن الإشهاد لم تستفد من الخيار . وعند المالكيّة : يجوز للإنسان إذا لم يكن له وارثٌ معيّنٌ ، ولم ينتظم بيت المال أن يتحيّل على إخراج ماله بعد موته في طاعة اللّه ، وذلك بأن يشهد في صحّته بشيءٍ من حقوق اللّه تعالى في ذمّته ، كزكاةٍ أو كفّاراتٍ وجب إخراجها من رأس المال ، ولو أتى على جميعه بعد الحقوق المتعلّقة بالعين . وذكر الحنابلة عدّة صورٍ منها : ما يسمّى بمسألة إيداع الشّهادة ، كأن يقول له الخصم : لا أقرّ لك حتّى تبرئني من نصف الدّين أو ثلثه ، وأشهد عليك إنّك لا تستحقّ على بعد ذلك شيئاً ، فيأتي صاحب الحقّ إلى رجلين فيقول : اشهدا أنّي على طلب حقّي كلّه من فلانٍ ، وأنّي لم أبرئه من شيءٍ منه ، وإنّي أريد أن أظهر مصالحته على بعضه ، لأتوصّل بالصّلح إلى أخذ بعض حقّي ، وأنّي إذا أشهدت أنّي لا أستحقّ عليه سوى ما صالحني عليه فهو إشهادٌ باطلٌ ، وأنّي إنّما أشهدت على ذلك توصّلاً إلى أخذ بعض حقّي ، فإذا فعل ذلك جاز له أن يدّعي بقاءه على حقّه ، ويقيم الشّهادة بذلك . فالإنسان له التّوصّل إلى حقّه بكلّ طريقٍ جائزٍ ، وقد توصّل المظلوم إلى حقّه بطريقٍ لم يسقط بها حقّاً لأحدٍ ، ولم يأخذ بها ما لا يحلّ له أخذه ، فلا خرج بها من حقٍّ ، ولا دخل بها في باطلٍ . ونظير هذا أن يكون للمرأة على رجلٍ حقٌّ فيجحده ، ويأبى أن يقرّ به حتّى تقرّ له بالزّوجيّة ، فتشهد على نفسها أنّها ليست امرأة فلانٍ ، وأنّي أريد أن أقرّ له بالزّوجيّة إقراراً كاذباً لا حقيقة له لأتوصّل بذلك إلى أخذ مالي عنده ، فاشهدوا أنّ إقراري بالزّوجيّة باطلٌ أتوصّل به إلى أخذ حقّي . ومثله أيضاً : أن ينكر نسب أخيه ، ويأبى أن يقرّ له به حتّى يشهد أنّه لا يستحقّ في تركة أبيه شيئاً ، وأنّه قد أبرأه من جميع ماله في ذمّته منها ، أو أنّه وهب له جميع ما يخصّه منها ، أو أنّه قبضه ، أو اعتاض عنه ، أو نحو ذلك ، فيودع الشّهادة عدلين أنّه باقٍ على حقّه ، وأنّه يظهر ذلك الإقرار توصّلاً إلى إقرار أخيه بنسبه ، وأنّه لم يأخذ من ميراث أبيه شيئاً ولا أبرأ أخاه ولا عاوضه ولا وهبه .
الإشهاد على كتابة الوصيّة :
37 - يتّفق الفقهاء على نفاذ الوصيّة إن كتب الموصي وصيّته وأشهد عليها ، ثمّ قرأها على المشهود . ويختلفون إن كتبها ولم يعلم الشّهود بما فيها ، سواءٌ أكتبها ولم يشهد عليها أم كتبها في غيبة الشّهود ، ثمّ أشهدهم عليها . فإن كتبها مبهمةً ثمّ دعا الشّهود ، وقال : هذه وصيّتي فاشهدوا على ما في هذا الكتاب ، فللفقهاء في نفاذ هذه الوصيّة وعدمه رأيان :
أحدهما : عدم النّفاذ ، وبه قال الحنفيّة ، والحنابلة ، وجمهور الأصحاب من الشّافعيّة . وبهذا قال الحسن البصريّ وأبو قلابة وأبو ثورٍ . إلاّ أنّ بعض كتب الحنابلة أطلقت هذا القول ، وبعضها قيّده بما إذا لم يعرف خطّ الكاتب ، وقالوا في تعليل عدم النّفاذ : إنّ الحكم لا يجوز برؤية خطّ الشّاهد بالشّهادة بالإجماع فكذا هنا .
الثّاني : أنّ هذا الإشهاد يصحّ وينفذ به الوصيّة وإن لم يقرأها على الشّهود ، وهو قول المالكيّة ، وقول محمّد بن نصر المروزيّ من الشّافعيّة ، وهو قول جماعةٍ من التّابعين منهم سالمٌ وعبد الملك بن يعلى قاضي البصرة . فإن كتبها بحضرتهم ، وأشهدهم عليها ، دون علمٍ بما فيها فإنّها تنفذ عند المالكيّة ، وهو روايةٌ عن أبي يوسف إذا أودعه عنده ، وهو مذهب أحمد إن عرف خطّه . والعمل حينئذٍ بالخطّ لا بالإشهاد . وممّن قال ذلك عبد الملك بن يعلى ومكحولٌ واللّيث والأوزاعيّ ومحمّد بن مسلمة وأبو عبيدٍ وإسحاق ، واحتجّ أبو عبيدٍ بكتب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى عمّاله وأمرائه في أمر ولايته وأحكام سننه ، ثمّ ما عمل به الخلفاء الرّاشدون المهديّون بعده من كتبهم إلى ولاتهم الأحكام الّتي تتضمّن أحكاماً في الدّماء والفروج والأموال ، يبعثون بها مختومةً لا يعلم حاملها ما فيها ، وأمضوها على وجوهها .
وذكر استخلاف سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز بكتابٍ كتبه وختم عليه . قال ابن قدامة : ولا نعلم أحداً أنكر ذلك مع شهرته في علماء العصر فكان إجماعاً . ولا تنفذ عند أبي حنيفة والشّافعيّة ، وهو محكيٌّ عن أحمد بن حنبلٍ ، قال صاحب المغني : ووجهه أنّه كتابٌ لا يعلم الشّاهد ما فيه ، فلم يجز أن يشهد عليه ، ككتاب القاضي إلى القاضي .
الإشهاد على النّكاح :
38 - الحنفيّة والشّافعيّة ، والمشهور عن أحمد أنّه لا يصحّ عقد النّكاح إلاّ بإشهادٍ على العقد ، لقوله « صلى الله عليه وسلم : لا نكاح إلاّ بوليٍّ وشاهدي عدلٍ » . وروي ذلك عن عمر وعليٍّ ، وهو قول ابن عبّاسٍ وسعيد بن المسيّب وجابر بن زيدٍ والحسن والنّخعيّ وقتادة والثّوريّ والأوزاعيّ . والمعنى فيه صيانة الأنكحة عن الجحود ، والاحتياط للأبضاع . وعند المالكيّة الإشهاد على العقد مستحبٌّ ، لكن يشترط الإشهاد عند الدّخول ، فإن أشهدا قبل الدّخول صحّ النّكاح ما لم يقصدا الاستسرار بالعقد . فإن قصداه لم يقرّا على النّكاح عليه ، لنهيه عليه الصلاة والسلام عن نكاح السّرّ ، ويؤمر أن يطلّقها طلقةً وإن طال الزّمان ، ثمّ يستأنف العقد . وإن دخلا بلا إشهادٍ فسخ النّكاح كذلك ، وحدّا في الحالتين ، ما لم يكن النّكاح فاشيّاً . وهناك شروطٌ وتفصيلاتٌ فيما يتعلّق بالإشهاد في هذا الموضوع ، يرجع إليه في مصطلح ( نكاحٌ ) .
الإشهاد على الرّجعة :
39 - للفقهاء في حكم الإشهاد على الرّجعة رأيان :
أوّلهما : ندب الإشهاد ، وهو مذهب الحنفيّة ، والصّحيح عند المالكيّة ، وهو قول الشّافعيّة . والإشهاد عندهم يكون على صيغة الرّجعة أو الإقرار بها ، وهو روايةٌ عند الحنابلة . وثانيهما : وجوب الإشهاد ، وهو قول ابن بكيرٍ وغيره من المالكيّة ، وهو روايةً عند الحنابلة . واستدلّ الفريقان على أنّ الإشهاد مطلوبٌ بقول اللّه سبحانه وتعالى : { فإذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروفٍ أو فارقوهنّ بمعروفٍ وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم } . فحمل الفريق الأوّل الأمر على الاستحباب ، وذلك لأنّ الرّجعة لا تفتقر إلى قبولٍ ، فلم تفتقر إلى شهادةٍ ، كسائر حقوق الزّوج ، ولأنّها استدامةٌ للنّكاح وهذا لا يتطلّب الإشهاد .
وحمل الفريق الثّاني الأمر على الوجوب وهو ظاهر الأمر . ثمّ من أوجب الإشهاد إذا راجعها بدونه هل تصحّ الرّجعة ؟ من اعتبر الإشهاد شرطاً قال : لا تصحّ ، ومن اعتبره واجباً ديانةً فقط صحّت الرّجعة مع الإثم . وتفصيل ذلك في مبحث الرّجعة .
إشهاد المنفق على الصّغير :
40 - نفقة الصّغير في ماله إن كان له مالٌ ، وإلاّ فيلزم بالإنفاق عليه من تجب نفقته عليه شرعاً ، وهذا لا يحتاج إلى إشهادٍ . وإن كان له مالٌ وأنفق عليه وليّه أو وصيّه من مالهما بقصد الرّجوع عليه ، فلا بدّ لجواز الرّجوع على الصّغير في ماله من الإشهاد . وكذلك إن أنفق عليه من لا تجب عليه نفقته . وفي ذلك تفصيلٌ وخلافٌ يرجع إليه في مصطلح ( نفقةٌ ) .
الإشهاد بالإنفاق على من لا تجب عليه النّفقة ليرجع بما أنفق :
41 - من أنفق على من لا تجب نفقته عليه بقصد الرّجوع عليه ، أو على من تلزمه النّفقة كان عليه أن يشهد حتّى يرجع بما ينفق ، وذلك إن عجز عن استئذان من تجب عليه النّفقة أو الحاكم . وهذا هو رأي الشّافعيّة ، وإحدى الرّوايات عن أحمد ، واكتفى المالكيّة بيمين المنفق : أنّه أنفق ليرجع . وأمّا الحنفيّة فإنّهم يقولون : إنّ قيّم الوقف إذا أنفق على الوقف من ماله بقصد الرّجوع فلا بدّ من الإشهاد . ويمكن التّخريج على هذه عندهم فيما يشبه الوقف . وفي الموضوع تفصيلٌ يرجع إليه في ( الوقف الوديعة والرّهن والنّفقة واللّقطة واللّقيط ) .
الإشهاد على الحائط المائل للضّمان :
42 - إذا سقط الحائط المائل ، فتلف بسقوطه شيءٌ ، فيرى الحنفيّة أنّه لا يضمن صاحب الحائط ، إلاّ إذا طلب إليه إزالة الحائط قبل سقوطه ، وأشهدوا على ذلك . ويتحقّق الطّلب من أيّ عاقلٍ ولو صبيّاً . ويكون الضّمان عليه في ماله إن كان الضّرر واقعاً على مال الغير ، ويكون الضّمان في هلاك النّفس على عاقلة صاحب الحائط إلحاقاً بالقتل الخطأ . ويرى المالكيّة أنّ الإشهاد لا يتحقّق إلاّ من القاضي أو ممّن له النّظر في مثل هذه الأمور كالبلديّة الآن . وأمّا طلب النّاس وإشهادهم فلا عبرة به في وجوب الضّمان إلاّ إذا كان في مكان ليس به قاضٍ ولا مسئولٌ عن مثل هذا . ويكون الضّمان عندهم في المال والنّفس على صاحب الحائط إن قصّر . والشّافعيّة والحنابلة لا يوجبون الإشهاد على الطّلب ، وإنّما يكفي عندهم الطّلب وحده في وجوب الضّمان . وأمّا شروط وجوب الضّمان فيرجع إليها في موضوع الضّمان والجنايات .
إشهارٌ *
التعريف :
1 - الإشهار : مصدر أشهر بمعنى أعلن ، والشّهر في اللّغة بمعنى الإعلان والإظهار . يقال : شهّرته بين النّاس وشهرته . أي أبرزته وأوضحته . أمّا الإشهار فغير منقولٍ لغةً - كما قال الفيّوميّ - ولكنّ الفقهاء استعملوه - ولا سيّما المالكيّة - بمعنى الإعلان .
الحكم الإجماليّ :
2 - يستعمل الفقهاء الإشهار في مواطن كثيرةٍ . منها المطلوب : كإشهار النّكاح ، والحجر ، والحدود ، والعقود والعهود : ومنها الممنوع : كإشهار الفاحشة . ففي إشهار النّكاح : يرى جمهور الفقهاء أنّه مندوبٌ بأيّ شيءٍ متعارفٍ كإطعام الطّعام عليه ، أو إحضار جمعٍ من النّاس زيادةً على الشّاهدين ، أو بالضّرب فيه بالدّفّ حتّى يشتهر ويعرف لقوله صلى الله عليه وسلم : « أظهروا النّكاح » وفي لفظٍ : « أعلنوا النّكاح » .
مواطن البحث :
3 - تبحث مسألة إشهار النّكاح في ( النّكاح ) عند الحديث عن أركانه أو الوليمة فيه . ومسألة إشهار الصّلاة المكتوبة في ، ( الصّلاة ) عند الكلام عن السّنن والنّوافل . وإشهار قرار الحجر في ( الحجر ) عند الكلام عن معاملة المحجور عليه .
أشهر الحجّ*
تحديد الفقهاء لأشهر الحج :
1 - جمهور الفقهاء على أنّ أشهر الحجّ هي : شوّالٌ ، وذو القعدة ، وعشرٌ من ذي الحجّة ، لأنّ قوله تعالى : { الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ } مقصودٌ به وقت الإحرام بالحجّ ، لأنّ الحجّ لا يحتاج إلى أشهرٍ ، فدلّ على أنّه أراد به وقت الإحرام . وقد روي ذلك عن العبادلة الأربعة : ابن عبّاسٍ ، وابن عمر ، وابن عمرٍو ، وابن الزّبير رضي الله عنهم . ولأنّ الحجّ يفوت بمضيّ عشر ذي الحجّة ، ومع بقاء الوقت لا يتحقّق الفوات ، وهذا يدلّ على أنّ المراد من الآية شهران وبعض الثّالث لا كلّه ، لأنّ بعض الشّهر يتنزّل منزلة كلّه . وهذا التّحديد يدخل فيه يوم النّحر عند الحنابلة والحنفيّة غير أبي يوسف . وعند الشّافعيّة وأبي يوسف من الحنفيّة ليس منها يوم النّحر ، بل على وجهٍ عند الشّافعيّة لا تدخل ليلة النّحر كذلك ، لأنّ اللّيالي تبعٌ للأيّام ، ويوم النّحر لا يصحّ فيه الإحرام ، فكذا ليلته . والمالكيّة - وإن كانوا يقولون إنّ أشهر الحجّ هي شوّالٌ وذو القعدة وذو الحجّة - إلاّ أنّ مرادهم بذلك أنّ وقت الإحرام يبدأ من شوّالٍ إلى فجر يوم النّحر ، أمّا الإحلال من الحجّ فيمتدّ إلى آخر ذي الحجّة . ثمرة الخلاف في تحديد أشهر الحجّ : ثمرة الخلاف في تحديد أشهر الحجّ ، على ما ذكره ابن رشدٍ ، هي جواز تأخير طواف الإفاضة عند المالكيّة إلى آخر ذي الحجّة ، فإن أخّره إلى المحرّم فعليه دمٌ ، وعند الحنفيّة إن أخّره عن أيّام النّحر كان عليه دمٌ . أمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فإنّ آخره غير موقّتٍ ، بل يبقى ما دام حيّاً ولا دم عليه .
علاقة أشهر الحجّ بالأشهر الحرم :
2 - تظاهرت الأخبار عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأنّ الأشهر الحرم هي : رجبٌ ، وذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم ، وهو قول عامّة أهل التّأويل . وعلى ذلك فأشهر الحجّ تشترك مع الأشهر الحرم في ذي القعدة وعشرٍ من ذي الحجّة ، أمّا شوّالٌ فهو من أشهر الحجّ فقط ، ورجبٌ وبقيّة ذي الحجّة من الأشهر الحرم فقط .
تحديد الفقهاء لأشهر الحجّ :
الحكم الإجماليّ :
3 - تحديد أشهر الحجّ مقصودٌ به أنّ الإحرام بالحجّ يتمّ في هذا الوقت ، ولذلك يرى الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة كراهة الإحرام بالحجّ في غير هذا الوقت ، والمراد عند الحنفيّة بالكراهة كراهة التّحريم ، وبذلك صرّح القهستانيّ . أمّا الشّافعيّة فلا ينعقد عندهم الإحرام بالحجّ في غير هذا الوقت ، وإنّما ينعقد عمرةً ، لأنّ الحجّ عبادةٌ مؤقّتةٌ ، فإذا عقدها في غير وقتها انعقد غيرها من جنسها ، كصلاة الظّهر إذا أحرم بها قبل الزّوال فإنّه ينعقد إحرامه بالنّفل .
مواطن البحث :
4 - أشهر الحجّ تتمّ فيها مناسكه بما في ذلك من إحرامٍ وطوافٍ وسعيٍ ووقوفٍ . ر : ( حجٌّ - طوافٌ - سعيٌ - إحرامٌ ) .
الأشهر الحرم :
المراد بالأشهر الحرم :
1 - الأشهر الحرم هي الّتي ورد ذكرها في قول اللّه تعالى : { إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السّموات والأرض ، منها أربعةٌ حرمٌ } . وهنّ : رجب مضر ، وذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم . وهذا التّحديد تظاهرت به الأخبار عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . فعن أبي بكرة « أنّ النّبيّ قال : إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّماوات والأرض ، السّنة اثنا عشر شهراً منها أربعةٌ حرمٌ : ثلاثٌ متوالياتٌ ، ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم . ورجب مضر الّذي بين جمادى وشعبان » . وروي مثل ذلك عن أبي هريرة وقتادة ، وهو أيضاً قول عامّة أهل التّأويل .
المقارنة بينها وبين أشهر الحجّ :
2 - ذكر أشهر الحجّ ورد في قول اللّه تعالى : { الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ } . وقد اختلف أهل التّأويل في ذلك . فقيل : إنّ أشهر الحجّ شوّالٌ وذو القعدة وذو الحجّة كلّه ، يريدون بذلك أنّهنّ أشهر الحجّ ، لا أشهر العمرة ، وأنّ أشهر العمرة سواهنّ من شهور السّنة . وقيل : يعني بالأشهر المعلومات شوّالاً وذا القعدة وعشراً من ذي الحجّة . وقد صوّب الطّبريّ ذلك القول ، لأنّ ذلك من اللّه خيرٌ من ميقات الحجّ ، ولا عمل للحجّ يعمل بعد انقضاء أيّام منًى وعلى ذلك فبين أشهر الحجّ والأشهر الحرم بعض التّداخل ، إذ أنّ ذا القعدة وعشراً من ذي الحجّة من أشهر الحجّ والأشهر الحرم ، أمّا شوّالٌ فهو من أشهر الحجّ فقط ، والمحرّم ورجبٌ من الأشهر الحرم فقط .
فضل الأشهر الحرم :
3 - الأشهر الحرم فضّلها اللّه على سائر شهور العام ، وشرّفهنّ على سائر الشّهور . فخصّ الذّنب فيهنّ بالتّعظيم ، كما خصّهنّ بالتّشريف ، وذلك نظير قوله تعالى : { حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى } قال ابن عبّاسٍ : خصّ اللّه من شهور العام أربعة أشهرٍ فجعلهنّ حرماً ، وعظّم حرماتهنّ ، وجعل الذّنب فيهنّ والعمل الصّالح والأجر أعظم ، وعن قتادة : الظّلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزراً من الظّلم فيما سواها ، وإن كان الظّلم في كلّ حالٍ عظيماً ، ولكنّ اللّه يعظّم من أمره ما شاء ، فإنّ اللّه تعالى اصطفى صفايا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلاً ، ومن النّاس رسلاً ، واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشّهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيّام يوم الجمعة ، واصطفى من اللّيالي ليلة القدر . قال قتادة : فعظّموا ما عظّم اللّه ، فإنّما تعظّم الأمور بما عظّمها اللّه عند أهل الفهم وأهل العقل .
ما تختصّ به من الأحكام :
أ - القتال في الأشهر الحرم :
4 - كان القتال في الأشهر الحرم محرّماً في الجاهليّة قبل الإسلام ، فكانت الجاهليّة تعظّمهنّ وتحرّم القتال فيهنّ ، حتّى لو لقي الرّجل منهم فيهنّ قاتل أبيه أو أخيه تركه . قال النّيسابوريّ في تفسير قوله تعالى : { ذلك الدّين القيّم } ، أي هو الدّين المستقيم الّذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وقد توارثته العرب منهما فكانوا يحرّمون القتال فيها . ثمّ جاء الإسلام يؤيّد حرمة القتال في الأشهر الحرم بقوله تعالى : { يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه . قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل اللّه وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه والفتنة أكبر من القتل } .
ب - هل نسخ القتال في الأشهر الحرم ؟
5 - اختلف أهل التّأويل في الآية الّتي أثبتت حرمة القتال في الأشهر الحرم ، وهي قوله تعالى : { يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه . قل قتالٌ فيه كبيرٌ } هل هو منسوخٌ أم ثابت الحكم ؟ قال بعضهم : إنّ ذلك حكمٌ ثابتٌ ، لا يحلّ القتال لأحدٍ في الأشهر الحرم ، لأنّ اللّه جعل القتال فيه كبيراً . وقال بعضهم : هو منسوخٌ بقول اللّه عزّ وجلّ : { وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً } وردّ ذلك عن الزّهريّ وعطاء بن ميسرة . قال عطاء بن ميسرة : أحلّ القتال في الشّهر الحرام في براءةٌ قوله تعالى : { فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم وقاتلوا المشركين كافّةً } ، يقول : فيهنّ وفي غيرهنّ . وعن الزّهريّ قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا يحرّم القتال في الشّهر الحرام ثمّ أحلّ بعد » . قال الطّبريّ : والصّواب من القول في ذلك ما قال عطاء بن ميسرة من أنّ النّهي عن قتال المشركين في الأشهر الحرم منسوخٌ بقول اللّه عزّ وجلّ : { إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق اللّه السّموات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ ذلك الدّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً } . وإنّما قلنا ذلك ناسخٌ لقوله تعالى : { يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه . قل قتالٌ فيه كبيرٌ } لتظاهر الأخبار بذلك عن رسول اللّه .
تغليظ الدّيات في الأشهر الحرم :
6 - اختلف الفقهاء في تغليظ دية القتل في الأشهر الحرم أو عدم تغليظها ، فالشّافعيّة والحنابلة يرون تغليظ الدّية للقتل في الأشهر الحرم . وعند الحنفيّة والإمام مالكٍ لا تغلّظ الدّية . ومن قال بالتّغليظ اختلف في صفتها ، فقيل : إنّها ثلاثون حقّةً وثلاثون جذعةً وأربعون خلفةً ، وقيل غير ذلك ، ويفصّل الفقهاء ذلك في الدّيات .
إصبعٌ *
التعريف :
1 - الإصبع : معروفةٌ لغةً وعرفاً .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
أ - تخليل أصابع اليدين والرّجلين في الوضوء :
2 - ذهب الفقهاء إلى أنّ تخليل أصابع اليدين والرّجلين في الوضوء مطلوبٌ ، وجمهور الفقهاء على أنّه مسنونٌ في اليدين والرّجلين ، والمالكيّة يرون أنّه واجبٌ في اليدين . واختلفوا في وجوبه في الرّجلين . فقال جماعةٌ منهم بالوجوب ، وقال الآخرون بأنّه مسنونٌ في الرّجلين ، والّذين فرّقوا يرون أنّ التّخليل في أصابع الرّجلين فيه نوعٌ من العسر . واستدلّوا على الوجوب بما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا توضّأت فخلّل بين أصابع يديك ورجليك » . واستدلّ الجمهور على السّنّيّة بأنّ آية الوضوء وردت مطلقةً عن التّخليل .
كيفيّة التّخليل :
3 - يكفي في تحقّق التّخليل أي كيفيّة يخلّل بها بين الأصابع ، إلاّ أنّ بعض الفقهاء توسّع في بيان الكيفيّة ، فقالوا : إنّ تخليل الأصابع في اليدين يكون بتشبيك أصابع اليدين ، مع وضع باطن اليسرى على ظاهر اليمنى والعكس ، وفي الرّجلين يخلّل بخنصر يده اليمنى ، مبتدئاً بخنصر رجله اليمنى منتهياً بإبهامها ، وفي اليسرى يبتدئ بإبهامها منتهياً بخنصرها .
ب - وضع الأصابع في الأذنين عند الأذان :
4 - يسنّ أن يجعل المؤذّن أصبعيه في صماخي أذنيه عند الأذان ، لأنّه أجمع للصّوت ، « لقوله صلى الله عليه وسلم لبلالٍ : اجعل إصبعيك في أذنيك فإنّه أرفع لصوتك » .
ج - ما يتعلّق بالأصابع في الصّلاة :
5 - يكره في الصّلاة تشبيك الأصابع ، وفرقعتها ، وتحريكها إلاّ عند التّشهّد ، فإنّه يرفع السّبّابة عند النّفي ، ويضعها عند الإثبات .
د - قطع الأصابع :
6 - قطع الإصبع الأصليّة إن كان عمداً ففيه القصاص ، وإن كان خطأً ففيه الدّية ، وهي عشر دية النّفس ، أمّا إذا كانت زائدةً ففيها حكومة عدلٍ عند جمهور الفقهاء . ويرى المالكيّة أنّها إن كانت في قوّة الإصبع الأصليّة ففيها دية الإصبع ، وتفصيل ذلك في الجنايات والدّيات .
إصرارٌ *
التعريف :
1 - الإصرار لغةً : مداومة الشّيء وملازمته والثّبوت عليه واصطلاحاً : الإصرار : هو العزم بالقلب على الأمر وعلى ترك الإقلاع عنه . وأكثر ما يستعمل الإصرار في الشّرّ والإثم والذّنوب .
25 - الشّفيع إمّا أن يكون حاضراً وقت البيع أو غائباً ، فإن كان حاضراً فإنّه يلزمه لثبوت الشّفعة طلبها على الفور ، عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . على أنّ الحنفيّة قالوا : إنّ الأصل إشهاد الشّفيع على طلب المواثبة للتّوثيق ، وهذا الإشهاد على الطّلب ليس شرطاً للثّبوت ، لكن ليتوثّق حقّ الشّفعة إذا أنكر المشتري طلبها . وإنّما يصحّ طلب الإشهاد بحضرة المشتري أو البائع أو المبيع . ثمّ طلب الإشهاد مقدّرٌ بالتّمكّن من الإشهاد ، فمتى تمكّن من الإشهاد عند حضرة واحدٍ من هذه الأشياء ، ولم يطلب الإشهاد ، بطلت شفعته نفياً للضّرر عن المشتري . وإنّما يحتاج إلى طلب المواثبة ، ثمّ إلى طلب الإشهاد بعده ، إذا لم يمكنه الإشهاد عند طلب المواثبة ، بأن سمع الشّراء حال غيبته عن المشتري والبائع والدّار ، أمّا إذا سمع عند حضرة أحد هؤلاء الثّلاث ، وأشهد على ذلك ، فذلك يكفيه ، ويقوم مقام الطّلبين . وعند الشّافعيّة والحنابلة إن كان الشّفيع في البلدة فلا يلزمه الإشهاد على الطّلب ، بل يكفيه الطّلب وحده ، وإن كان غائباً فالحنابلة كالحنفيّة في لزوم طلب الشّفعة والإشهاد عليه ، فإن لم يفعل سقط حقّه ، سواءٌ قدر على التّوكيل أم عجز عنه ، سار عقيب العلم أو أقام . وعند الشّافعيّة إن كان الشّفيع غائباً يلزمه الطّلب ، فإن عجز فإنّه يلزمه التّوكيل ، فإن عجز عن التّوكيل فليشهد ، ولا يكفي الإشهاد عن الطّلب والتّوكيل عند القدرة عليهما . وذهب المالكيّة إلى أنّه ليس الإشهاد شرطاً لثبوت حقّ الشّفعة للشّفيع ، بل يثبت حقّه ولو لم يشهد .
إلاّ أنّهم صرّحوا بسقوط شفعته بالآتي :
أ - سكوته عن المطالبة مع علمه بهدم المشتري أو بنائه أو غرسه .
ب - أن يحضر الشّفيع عقد البيع ويشهد عليه ويسكت - بلا مانعٍ - شهرين .
ج - أن يحضر العقد ولا يشهد ويسكت - بلا عذرٍ - سنةً من يوم العقد .
تأخير الرّدّ للإشهاد :
26 - من كان تحت يده عينٌ لغيره ، إمّا أن يقبل قوله عند التّجاحد في الرّدّ أو لا ، فإن كان يقبل قوله كالأمانة ففي تأخير الرّدّ ثلاثة آراءٍ :
الأوّل : منع التّأخير ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ، والصّحيح عند الحنابلة . ولا يخالف جمهور المالكيّة في هذا ، فإن أخّره ضمن عند الهلاك عند الأئمّة الثّلاثة .
الثّاني : جواز التّأخير للإشهاد ، لأنّ البيّنة تسقط اليمين عن الرّادّ ، وهو قول ابن عبد السّلام من المالكيّة ، ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة ، ومقابل الصّحيح عند الحنابلة ، قالوا وهو قويٌّ خصوصاً في هذه الأزمنة . فإن كان صاحب اليد لا يقبل قوله في الرّدّ إلاّ ببيّنةٍ كالغصب ، فإنّ له التّأخير للإشهاد عند المالكيّة .
الثّالث : التّفريق بين ما إذا أخذها ببيّنةٍ أو بدون ذلك ، فله التّأخير عند الرّدّ حتّى يشهد أنّه أخذها ببيّنةٍ ، وهو قول الشّافعيّة والحنابلة . فإن لم تكن عليه بيّنةٌ ، فالأصحّ عند البغويّ من الشّافعيّة التّأخير نصّاً . وعند الحنابلة لا فرق بينه وبين من يؤخذ قوله بيمينه . ومن تتبّع فروع الحنفيّة نجد أنّهم يمنعون تأخير الرّدّ للإشهاد ، سواءٌ أكانت اليد يد ضمانٍ أم يد أمانةٍ ، ولم نر عندهم من يقول بالتّأخير للإشهاد .
قيام الإشهاد مقام القبض في الهبة :
27 - ذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ الوليّ لو وهب لمحجوره شيئاً ، وأشهد على نفسه ، فالهبة تامّةٌ ، والإشهاد يغني عن القبض . واستدلّوا على ذلك بما رواه مالكٌ عن الزّهريّ عن ابن المسيّب أنّ عثمان رضي الله عنه قال من نحل ولداً له صغيراً لم يبلغ أن يحوز نحلته ، فأعلن ذلك وأشهد على نفسه فهي جائزةٌ )، وإنّ وليّها أبوه . واستثنى المالكيّة من ذلك الدّار الّتي يسكنهما الواهب ، والملبوس الّذي هو لابسه ، إذا وهبهما لمحجوره ، فإنّه لا يكتفى بالإشهاد على الهبة ، بل لا بدّ من إخلائه للدّار ، ومثلها الملبوس . ولا بدّ من معاينة البيّنة للإخلاء . وإن لم تعاين البيّنة الحيازة فالإشهاد بالهبة يغني عن الحيازة فيما لا يسكنه الوليّ ولا تلبسه . واستثنوا كذلك ما لا يعرف بعينه ، كالمعدود والموزون والمكيل فلا بدّ من حيازته . والهبة تتمّ كذلك عند الحنفيّة بالإعلام والإشهاد ، إلاّ أنّ الإشهاد ليس شرطاً ، وإنّما هو للاحتياط . وعند الشّافعيّة يتولّى الأب طرفي العقد . وكيفيّة القبض أن ينقله من مكان لآخر . ولم أقف على من اشترط الإشهاد من المتأخّرين ، لكن جاء في الأمّ : أنّ الهبة لا تتمّ إلاّ بأمرين : الإشهاد ، والقبض ، ولا يغني الإشهاد عن القبض .
الإشهاد على التّصرّف في الموهوب قبل قبضه :
28 - ذهب المالكيّة إلى أنّ الموهوب له إذا باع ما اتّهبه أو أعتقه أو وهبه قبل أن يقبضه فإنّ تصرّفه ماضٍ ، وفعله ذلك حوزٌ له إذا أشهد على ذلك وأعلن بما فعله . وعند الحنفيّة ، والشّافعيّة لا يكون الإشهاد بمنزلة القبض ، ولا يثبت حكم الهبة إلاّ بقبضها . وكذلك الحكم عند الحنابلة في المكيل والموزون اللّذين لا تصحّ هبتهما إلاّ بالقبض عندهم . والصّدقة كالهبة عند المالكيّة ، فلو دفع مالاً لمن يفرّقه صدقةً على الفقراء والمساكين ، ولم يشهد على ذلك ، فلم يتصدّق به ، واستمرّ المال عنده حتّى مات الواهب ، فإنّ الصّدقة تبطل وترجع إلى ورثته . أمّا إذا أشهد على ذلك حين دفع المال إلى من يتصدّق به ، فإنّ الصّدقة لا تبطل بموت المتصدّق ، وترجع للفقراء والمساكين . وينطبق على الصّدقة ما ينطبق على الهبة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة من حيث عدم إغناء الإشهاد عن القبض على ما تقدّم .
الإشهاد في الوقف :
29 - عند المالكيّة لو وقف على محجوره ، وهو ولده الصّغير الّذي في حجره ، أو السّفيه أو الوصيّ على يتيمه فإنّه لا يشترط في حوز الوقف الحوز الحسّيّ ، بل يكفي فيه الحوز الحكميّ ، وهو أن يشهد على ذلك . وسواءٌ أكان الحائز الأب أم الوصيّ أو المقام من قبل الحاكم ، فيصحّ الوقف ولو كان تحت يد الحائز إلى موته أو إلى فلسه أو إلى مرضه الّذي مات فيه ، إذا توافرت بقيّة الشّروط مع الإشهاد . ولا بدّ من معاينة البيّنة لما وقع الإشهاد على وقفه إن كان الوقف على أجنبيٍّ ، فلا يكفي إقرار الواقف ، لأنّ المنازع للموقوف عليه إمّا الورثة وإمّا الغرباء . ولا بدّ أن يشهد الواقف على الوقف قبل حصول المانع للواقف من التّصرّف . ولا يشترط أن يقول عند الإشهاد على الوقفيّة : رفعت يد الملك ووضعت يد الحوز ونحو ذلك . والمذاهب الأخرى لم يتكلّموا عن الإشهاد في الوقف ، لعدم اشتراطهم القبض لصحّته .
الإشهاد على بناء الإنسان لنفسه في أرض الوقف :
30 – لو بنى ناظر الوقف لنفسه بمال نفسه في أرض الوقف،أو زرع وأشهد على ذلك فإن الحنفية والحنابلة يعتدون بذلك الإشهاد، ويجعلون البناء والغراس ملكاً للناظر إن أشهد. فإن لم يشهد فهو تابع للوقف. قال الحنفية :ولا بد أنيكون الإشهاد قبل البناء والغراس. والمالكية لا يجعلون للإشهاد أثر. وتفصيل ما يترتب على البناء والغراس يذكر في موطنه الأصلي ( الوقف ). وعند الشافعية ليس للواقف-والناظر بالأولى-أن يزرع أويبني في أرض الوقف لنفسه، وغرسه وبناؤه فيه بغير الحق، والحال لا يحتاج إلى إشهاد عندهم. وتفصيل أحكام البناء والغراس في الوقف ينظر في كتاب الوقف .
الإشهاد في اللّقطة :
31 - ورد في الحديث : « من وجد لقطةً فليشهد ذا عدلٍ أو ذوي عدلٍ ، ولا يكتم ، ولا يغيّب » . وهذا أمرٌ بالإشهاد على اللّقطة ليحفظها الإنسان عن نفسه من أن يطمع فيها ، وعن ورثته إن مات ، وعن غرمائه إن أفلس . وفي الأمر الوارد به رأيان :
أ - استحباب الإشهاد ، وهو مذهب الحنابلة ، والمذهب عند الشّافعيّة ، وهو قول المالكيّة إن خيف أن يدّعيها مع طول الزّمان .. وقد حملوا الحديث السّابق على الاستحباب . واستدلّوا على الاستحباب بخبر زيد بن خالدٍ مرفوعاً : « أعرّف وكاءها وعفاصها » وحديث أبيّ بن كعبٍ ، ولم يؤمر بالإشهاد فيهما ، واكتفي بالتعريف ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة . فلو كان واجباً لبيّنه النّبيّ ، سيّما وقد سئل عن حكم اللّقطة فلم يكن ليخلّ بأمرٍ واجبٍ فيها فيتعيّن حمل الأمر على النّدب في خبر عياضٍ . ولأنّه أمانةٌ فلم يفتقر إلى الإشهاد كالوديعة .
ب - وجوب الإشهاد : وهو قول أبي حنيفة . جاء في كتب الحنفيّة : أنّ الإشهاد لا بدّ منه عند الإمام : وهو قول المالكيّة إن تحقّق الملتقط أو ظنّ أنّه سيجحد اللّقطة . ووجوب الإشهاد هو مقابل المذهب عند الشّافعيّة . قالوا : في الحديث زيادةٌ على بقيّة الأخبار ، وهي الأمر بالإشهاد ، وزيادة الثّقة مقبولةٌ ، والأصل في الأمر الوجوب ، ولا منافاة بين هذه الزّيادة وبين بقيّة الأخبار الّتي ليس فيها أمرٌ . والإشهاد يكون حين الأخذ إن أمكن ، وإلاّ أشهد عند أوّل التّمكّن منه .
نفي الضّمان مع الإشهاد :
32 - يتّفق الفقهاء على أنّ الملتقط لا يضمن اللّقطة إن أشهد عليها . فإن لم يشهد فإنّه يضمنها إن تلفت عند جمهور الفقهاء . وقال الحنابلة وأبو يوسف : لا ضمان على الملتقط سواءٌ أشهد أم لم يشهد . وفي البدائع : ولا ضمان على الملتقط أشهد أو لم يشهد عند الصّاحبين . وعند أبي حنيفة يضمن إن لم يشهد . فإن خشي استيلاء ظالمٍ عليها ، فقد قال الشّافعيّة : إنّه يمتنع الإشهاد ولو أشهد ضمن ، وقال الحنفيّة لا يضمن إن لم يشهد خوفاً من استيلاء ظالمٍ عليها ، وكذا لا يضمن إن لم يتمكّن من الإشهاد .
الإشهاد والتعريف :
33 - لا يغني الإشهاد عن التعريف عند أكثر الفقهاء ، وذهب بعض الحنفيّة إلى أنّه يغني عن التعريف .
الإشهاد على اللّقيط :
34 - لا يختلف حكم الإشهاد على التقاط اللّقيط عن الإشهاد في اللّقطة عند المالكيّة ، وعند الشّافعيّة يجب الإشهاد قولاً واحداً ، وهو وجهٌ عند الحنابلة ، وعليه اقتصرت بعض كتبهم . وإنّما فرّقوا بين اللّقطة واللّقيط في الإشهاد ، لأنّ اللّقطة الغرض منها المال ، والإشهاد في التّصرّف الماليّ مستحبٌّ ، والغرض من التقاط اللّقيط حفظ حرّيّته ونسبه ، فوجب الإشهاد ، كما في النّكاح ، ولأنّ اللّقطة يشيع أمرها بالتعريف ولا تعريف في اللّقيط . واستظهر ابن قدامة وجوب ضمّ مشرفٍ إلى الملتقط إن كان غير أمينٍ .
والوجه الثّاني عند الحنابلة : استحباب الإشهاد . ويجب الإشهاد على ما مع اللّقيط تبعاً له عند الشّافعيّة ، ولئلاّ يتملّكه . وقيّد الماورديّ وجوب الإشهاد على اللّقيط وعلى ما معه بحالة ما إذا كان هو الملتقط . أمّا من سلّمه الحاكم له ليكفله فالإشهاد مستحبٌّ له قطعاً .
الإشهاد على نفقة اللّقيط :
35 - الحنفيّة والشّافعيّة اشترطوا لجواز الرّجوع بما ينفقه الملتقط على اللّقيط الإشهاد على إرادته الرّجوع . وقيّد الشّافعيّة ذلك بما إذا لم يتمكّن المنفق من استئذان الحاكم . ووجوب الإشهاد هو قول شريحٍ والنّخعيّ . وقال الحنابلة : لا يشترط . ولا يتأتّى القول بالإشهاد عند المالكيّة ، فالملتقط ينفق ، ولا يرجع على اللّقيط عندهم ، لأنّه بالالتقاط ألزم نفسه .
الإشهاد بالباطل للتّوصّل إلى الحقّ :
36 - فقهاء الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة على أنّه يجوز الإشهاد بالباطل للتّوصّل إلى الحقّ في صورٍ ذكروها . فعند الحنفيّة : الصّغيرة الّتي يزوّجها وليٌّ غير الأب والجدّ ، ويثبت لها شرعاً خيار البلوغ في النّكاح على الفور ، فإنّها إذا رأت الحيض في اللّيل واختارت الفسخ فوراً ، فإنّها حين تشهد في الصّباح على البلوغ تقول : بلغت الآن ، ضرورة إحياء الحقّ ، لأنّ خيار البلوغ يسقط بالتّراخي ، فلو أخبرت عن اختيارها متباعداً عن الإشهاد لم تستفد من الخيار . وعند المالكيّة : يجوز للإنسان إذا لم يكن له وارثٌ معيّنٌ ، ولم ينتظم بيت المال أن يتحيّل على إخراج ماله بعد موته في طاعة اللّه ، وذلك بأن يشهد في صحّته بشيءٍ من حقوق اللّه تعالى في ذمّته ، كزكاةٍ أو كفّاراتٍ وجب إخراجها من رأس المال ، ولو أتى على جميعه بعد الحقوق المتعلّقة بالعين . وذكر الحنابلة عدّة صورٍ منها : ما يسمّى بمسألة إيداع الشّهادة ، كأن يقول له الخصم : لا أقرّ لك حتّى تبرئني من نصف الدّين أو ثلثه ، وأشهد عليك إنّك لا تستحقّ على بعد ذلك شيئاً ، فيأتي صاحب الحقّ إلى رجلين فيقول : اشهدا أنّي على طلب حقّي كلّه من فلانٍ ، وأنّي لم أبرئه من شيءٍ منه ، وإنّي أريد أن أظهر مصالحته على بعضه ، لأتوصّل بالصّلح إلى أخذ بعض حقّي ، وأنّي إذا أشهدت أنّي لا أستحقّ عليه سوى ما صالحني عليه فهو إشهادٌ باطلٌ ، وأنّي إنّما أشهدت على ذلك توصّلاً إلى أخذ بعض حقّي ، فإذا فعل ذلك جاز له أن يدّعي بقاءه على حقّه ، ويقيم الشّهادة بذلك . فالإنسان له التّوصّل إلى حقّه بكلّ طريقٍ جائزٍ ، وقد توصّل المظلوم إلى حقّه بطريقٍ لم يسقط بها حقّاً لأحدٍ ، ولم يأخذ بها ما لا يحلّ له أخذه ، فلا خرج بها من حقٍّ ، ولا دخل بها في باطلٍ . ونظير هذا أن يكون للمرأة على رجلٍ حقٌّ فيجحده ، ويأبى أن يقرّ به حتّى تقرّ له بالزّوجيّة ، فتشهد على نفسها أنّها ليست امرأة فلانٍ ، وأنّي أريد أن أقرّ له بالزّوجيّة إقراراً كاذباً لا حقيقة له لأتوصّل بذلك إلى أخذ مالي عنده ، فاشهدوا أنّ إقراري بالزّوجيّة باطلٌ أتوصّل به إلى أخذ حقّي . ومثله أيضاً : أن ينكر نسب أخيه ، ويأبى أن يقرّ له به حتّى يشهد أنّه لا يستحقّ في تركة أبيه شيئاً ، وأنّه قد أبرأه من جميع ماله في ذمّته منها ، أو أنّه وهب له جميع ما يخصّه منها ، أو أنّه قبضه ، أو اعتاض عنه ، أو نحو ذلك ، فيودع الشّهادة عدلين أنّه باقٍ على حقّه ، وأنّه يظهر ذلك الإقرار توصّلاً إلى إقرار أخيه بنسبه ، وأنّه لم يأخذ من ميراث أبيه شيئاً ولا أبرأ أخاه ولا عاوضه ولا وهبه .
الإشهاد على كتابة الوصيّة :
37 - يتّفق الفقهاء على نفاذ الوصيّة إن كتب الموصي وصيّته وأشهد عليها ، ثمّ قرأها على المشهود . ويختلفون إن كتبها ولم يعلم الشّهود بما فيها ، سواءٌ أكتبها ولم يشهد عليها أم كتبها في غيبة الشّهود ، ثمّ أشهدهم عليها . فإن كتبها مبهمةً ثمّ دعا الشّهود ، وقال : هذه وصيّتي فاشهدوا على ما في هذا الكتاب ، فللفقهاء في نفاذ هذه الوصيّة وعدمه رأيان :
أحدهما : عدم النّفاذ ، وبه قال الحنفيّة ، والحنابلة ، وجمهور الأصحاب من الشّافعيّة . وبهذا قال الحسن البصريّ وأبو قلابة وأبو ثورٍ . إلاّ أنّ بعض كتب الحنابلة أطلقت هذا القول ، وبعضها قيّده بما إذا لم يعرف خطّ الكاتب ، وقالوا في تعليل عدم النّفاذ : إنّ الحكم لا يجوز برؤية خطّ الشّاهد بالشّهادة بالإجماع فكذا هنا .
الثّاني : أنّ هذا الإشهاد يصحّ وينفذ به الوصيّة وإن لم يقرأها على الشّهود ، وهو قول المالكيّة ، وقول محمّد بن نصر المروزيّ من الشّافعيّة ، وهو قول جماعةٍ من التّابعين منهم سالمٌ وعبد الملك بن يعلى قاضي البصرة . فإن كتبها بحضرتهم ، وأشهدهم عليها ، دون علمٍ بما فيها فإنّها تنفذ عند المالكيّة ، وهو روايةٌ عن أبي يوسف إذا أودعه عنده ، وهو مذهب أحمد إن عرف خطّه . والعمل حينئذٍ بالخطّ لا بالإشهاد . وممّن قال ذلك عبد الملك بن يعلى ومكحولٌ واللّيث والأوزاعيّ ومحمّد بن مسلمة وأبو عبيدٍ وإسحاق ، واحتجّ أبو عبيدٍ بكتب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى عمّاله وأمرائه في أمر ولايته وأحكام سننه ، ثمّ ما عمل به الخلفاء الرّاشدون المهديّون بعده من كتبهم إلى ولاتهم الأحكام الّتي تتضمّن أحكاماً في الدّماء والفروج والأموال ، يبعثون بها مختومةً لا يعلم حاملها ما فيها ، وأمضوها على وجوهها .
وذكر استخلاف سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز بكتابٍ كتبه وختم عليه . قال ابن قدامة : ولا نعلم أحداً أنكر ذلك مع شهرته في علماء العصر فكان إجماعاً . ولا تنفذ عند أبي حنيفة والشّافعيّة ، وهو محكيٌّ عن أحمد بن حنبلٍ ، قال صاحب المغني : ووجهه أنّه كتابٌ لا يعلم الشّاهد ما فيه ، فلم يجز أن يشهد عليه ، ككتاب القاضي إلى القاضي .
الإشهاد على النّكاح :
38 - الحنفيّة والشّافعيّة ، والمشهور عن أحمد أنّه لا يصحّ عقد النّكاح إلاّ بإشهادٍ على العقد ، لقوله « صلى الله عليه وسلم : لا نكاح إلاّ بوليٍّ وشاهدي عدلٍ » . وروي ذلك عن عمر وعليٍّ ، وهو قول ابن عبّاسٍ وسعيد بن المسيّب وجابر بن زيدٍ والحسن والنّخعيّ وقتادة والثّوريّ والأوزاعيّ . والمعنى فيه صيانة الأنكحة عن الجحود ، والاحتياط للأبضاع . وعند المالكيّة الإشهاد على العقد مستحبٌّ ، لكن يشترط الإشهاد عند الدّخول ، فإن أشهدا قبل الدّخول صحّ النّكاح ما لم يقصدا الاستسرار بالعقد . فإن قصداه لم يقرّا على النّكاح عليه ، لنهيه عليه الصلاة والسلام عن نكاح السّرّ ، ويؤمر أن يطلّقها طلقةً وإن طال الزّمان ، ثمّ يستأنف العقد . وإن دخلا بلا إشهادٍ فسخ النّكاح كذلك ، وحدّا في الحالتين ، ما لم يكن النّكاح فاشيّاً . وهناك شروطٌ وتفصيلاتٌ فيما يتعلّق بالإشهاد في هذا الموضوع ، يرجع إليه في مصطلح ( نكاحٌ ) .
الإشهاد على الرّجعة :
39 - للفقهاء في حكم الإشهاد على الرّجعة رأيان :
أوّلهما : ندب الإشهاد ، وهو مذهب الحنفيّة ، والصّحيح عند المالكيّة ، وهو قول الشّافعيّة . والإشهاد عندهم يكون على صيغة الرّجعة أو الإقرار بها ، وهو روايةٌ عند الحنابلة . وثانيهما : وجوب الإشهاد ، وهو قول ابن بكيرٍ وغيره من المالكيّة ، وهو روايةً عند الحنابلة . واستدلّ الفريقان على أنّ الإشهاد مطلوبٌ بقول اللّه سبحانه وتعالى : { فإذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروفٍ أو فارقوهنّ بمعروفٍ وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم } . فحمل الفريق الأوّل الأمر على الاستحباب ، وذلك لأنّ الرّجعة لا تفتقر إلى قبولٍ ، فلم تفتقر إلى شهادةٍ ، كسائر حقوق الزّوج ، ولأنّها استدامةٌ للنّكاح وهذا لا يتطلّب الإشهاد .
وحمل الفريق الثّاني الأمر على الوجوب وهو ظاهر الأمر . ثمّ من أوجب الإشهاد إذا راجعها بدونه هل تصحّ الرّجعة ؟ من اعتبر الإشهاد شرطاً قال : لا تصحّ ، ومن اعتبره واجباً ديانةً فقط صحّت الرّجعة مع الإثم . وتفصيل ذلك في مبحث الرّجعة .
إشهاد المنفق على الصّغير :
40 - نفقة الصّغير في ماله إن كان له مالٌ ، وإلاّ فيلزم بالإنفاق عليه من تجب نفقته عليه شرعاً ، وهذا لا يحتاج إلى إشهادٍ . وإن كان له مالٌ وأنفق عليه وليّه أو وصيّه من مالهما بقصد الرّجوع عليه ، فلا بدّ لجواز الرّجوع على الصّغير في ماله من الإشهاد . وكذلك إن أنفق عليه من لا تجب عليه نفقته . وفي ذلك تفصيلٌ وخلافٌ يرجع إليه في مصطلح ( نفقةٌ ) .
الإشهاد بالإنفاق على من لا تجب عليه النّفقة ليرجع بما أنفق :
41 - من أنفق على من لا تجب نفقته عليه بقصد الرّجوع عليه ، أو على من تلزمه النّفقة كان عليه أن يشهد حتّى يرجع بما ينفق ، وذلك إن عجز عن استئذان من تجب عليه النّفقة أو الحاكم . وهذا هو رأي الشّافعيّة ، وإحدى الرّوايات عن أحمد ، واكتفى المالكيّة بيمين المنفق : أنّه أنفق ليرجع . وأمّا الحنفيّة فإنّهم يقولون : إنّ قيّم الوقف إذا أنفق على الوقف من ماله بقصد الرّجوع فلا بدّ من الإشهاد . ويمكن التّخريج على هذه عندهم فيما يشبه الوقف . وفي الموضوع تفصيلٌ يرجع إليه في ( الوقف الوديعة والرّهن والنّفقة واللّقطة واللّقيط ) .
الإشهاد على الحائط المائل للضّمان :
42 - إذا سقط الحائط المائل ، فتلف بسقوطه شيءٌ ، فيرى الحنفيّة أنّه لا يضمن صاحب الحائط ، إلاّ إذا طلب إليه إزالة الحائط قبل سقوطه ، وأشهدوا على ذلك . ويتحقّق الطّلب من أيّ عاقلٍ ولو صبيّاً . ويكون الضّمان عليه في ماله إن كان الضّرر واقعاً على مال الغير ، ويكون الضّمان في هلاك النّفس على عاقلة صاحب الحائط إلحاقاً بالقتل الخطأ . ويرى المالكيّة أنّ الإشهاد لا يتحقّق إلاّ من القاضي أو ممّن له النّظر في مثل هذه الأمور كالبلديّة الآن . وأمّا طلب النّاس وإشهادهم فلا عبرة به في وجوب الضّمان إلاّ إذا كان في مكان ليس به قاضٍ ولا مسئولٌ عن مثل هذا . ويكون الضّمان عندهم في المال والنّفس على صاحب الحائط إن قصّر . والشّافعيّة والحنابلة لا يوجبون الإشهاد على الطّلب ، وإنّما يكفي عندهم الطّلب وحده في وجوب الضّمان . وأمّا شروط وجوب الضّمان فيرجع إليها في موضوع الضّمان والجنايات .
إشهارٌ *
التعريف :
1 - الإشهار : مصدر أشهر بمعنى أعلن ، والشّهر في اللّغة بمعنى الإعلان والإظهار . يقال : شهّرته بين النّاس وشهرته . أي أبرزته وأوضحته . أمّا الإشهار فغير منقولٍ لغةً - كما قال الفيّوميّ - ولكنّ الفقهاء استعملوه - ولا سيّما المالكيّة - بمعنى الإعلان .
الحكم الإجماليّ :
2 - يستعمل الفقهاء الإشهار في مواطن كثيرةٍ . منها المطلوب : كإشهار النّكاح ، والحجر ، والحدود ، والعقود والعهود : ومنها الممنوع : كإشهار الفاحشة . ففي إشهار النّكاح : يرى جمهور الفقهاء أنّه مندوبٌ بأيّ شيءٍ متعارفٍ كإطعام الطّعام عليه ، أو إحضار جمعٍ من النّاس زيادةً على الشّاهدين ، أو بالضّرب فيه بالدّفّ حتّى يشتهر ويعرف لقوله صلى الله عليه وسلم : « أظهروا النّكاح » وفي لفظٍ : « أعلنوا النّكاح » .
مواطن البحث :
3 - تبحث مسألة إشهار النّكاح في ( النّكاح ) عند الحديث عن أركانه أو الوليمة فيه . ومسألة إشهار الصّلاة المكتوبة في ، ( الصّلاة ) عند الكلام عن السّنن والنّوافل . وإشهار قرار الحجر في ( الحجر ) عند الكلام عن معاملة المحجور عليه .
أشهر الحجّ*
تحديد الفقهاء لأشهر الحج :
1 - جمهور الفقهاء على أنّ أشهر الحجّ هي : شوّالٌ ، وذو القعدة ، وعشرٌ من ذي الحجّة ، لأنّ قوله تعالى : { الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ } مقصودٌ به وقت الإحرام بالحجّ ، لأنّ الحجّ لا يحتاج إلى أشهرٍ ، فدلّ على أنّه أراد به وقت الإحرام . وقد روي ذلك عن العبادلة الأربعة : ابن عبّاسٍ ، وابن عمر ، وابن عمرٍو ، وابن الزّبير رضي الله عنهم . ولأنّ الحجّ يفوت بمضيّ عشر ذي الحجّة ، ومع بقاء الوقت لا يتحقّق الفوات ، وهذا يدلّ على أنّ المراد من الآية شهران وبعض الثّالث لا كلّه ، لأنّ بعض الشّهر يتنزّل منزلة كلّه . وهذا التّحديد يدخل فيه يوم النّحر عند الحنابلة والحنفيّة غير أبي يوسف . وعند الشّافعيّة وأبي يوسف من الحنفيّة ليس منها يوم النّحر ، بل على وجهٍ عند الشّافعيّة لا تدخل ليلة النّحر كذلك ، لأنّ اللّيالي تبعٌ للأيّام ، ويوم النّحر لا يصحّ فيه الإحرام ، فكذا ليلته . والمالكيّة - وإن كانوا يقولون إنّ أشهر الحجّ هي شوّالٌ وذو القعدة وذو الحجّة - إلاّ أنّ مرادهم بذلك أنّ وقت الإحرام يبدأ من شوّالٍ إلى فجر يوم النّحر ، أمّا الإحلال من الحجّ فيمتدّ إلى آخر ذي الحجّة . ثمرة الخلاف في تحديد أشهر الحجّ : ثمرة الخلاف في تحديد أشهر الحجّ ، على ما ذكره ابن رشدٍ ، هي جواز تأخير طواف الإفاضة عند المالكيّة إلى آخر ذي الحجّة ، فإن أخّره إلى المحرّم فعليه دمٌ ، وعند الحنفيّة إن أخّره عن أيّام النّحر كان عليه دمٌ . أمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فإنّ آخره غير موقّتٍ ، بل يبقى ما دام حيّاً ولا دم عليه .
علاقة أشهر الحجّ بالأشهر الحرم :
2 - تظاهرت الأخبار عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأنّ الأشهر الحرم هي : رجبٌ ، وذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم ، وهو قول عامّة أهل التّأويل . وعلى ذلك فأشهر الحجّ تشترك مع الأشهر الحرم في ذي القعدة وعشرٍ من ذي الحجّة ، أمّا شوّالٌ فهو من أشهر الحجّ فقط ، ورجبٌ وبقيّة ذي الحجّة من الأشهر الحرم فقط .
تحديد الفقهاء لأشهر الحجّ :
الحكم الإجماليّ :
3 - تحديد أشهر الحجّ مقصودٌ به أنّ الإحرام بالحجّ يتمّ في هذا الوقت ، ولذلك يرى الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة كراهة الإحرام بالحجّ في غير هذا الوقت ، والمراد عند الحنفيّة بالكراهة كراهة التّحريم ، وبذلك صرّح القهستانيّ . أمّا الشّافعيّة فلا ينعقد عندهم الإحرام بالحجّ في غير هذا الوقت ، وإنّما ينعقد عمرةً ، لأنّ الحجّ عبادةٌ مؤقّتةٌ ، فإذا عقدها في غير وقتها انعقد غيرها من جنسها ، كصلاة الظّهر إذا أحرم بها قبل الزّوال فإنّه ينعقد إحرامه بالنّفل .
مواطن البحث :
4 - أشهر الحجّ تتمّ فيها مناسكه بما في ذلك من إحرامٍ وطوافٍ وسعيٍ ووقوفٍ . ر : ( حجٌّ - طوافٌ - سعيٌ - إحرامٌ ) .
الأشهر الحرم :
المراد بالأشهر الحرم :
1 - الأشهر الحرم هي الّتي ورد ذكرها في قول اللّه تعالى : { إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السّموات والأرض ، منها أربعةٌ حرمٌ } . وهنّ : رجب مضر ، وذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم . وهذا التّحديد تظاهرت به الأخبار عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . فعن أبي بكرة « أنّ النّبيّ قال : إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّماوات والأرض ، السّنة اثنا عشر شهراً منها أربعةٌ حرمٌ : ثلاثٌ متوالياتٌ ، ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم . ورجب مضر الّذي بين جمادى وشعبان » . وروي مثل ذلك عن أبي هريرة وقتادة ، وهو أيضاً قول عامّة أهل التّأويل .
المقارنة بينها وبين أشهر الحجّ :
2 - ذكر أشهر الحجّ ورد في قول اللّه تعالى : { الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ } . وقد اختلف أهل التّأويل في ذلك . فقيل : إنّ أشهر الحجّ شوّالٌ وذو القعدة وذو الحجّة كلّه ، يريدون بذلك أنّهنّ أشهر الحجّ ، لا أشهر العمرة ، وأنّ أشهر العمرة سواهنّ من شهور السّنة . وقيل : يعني بالأشهر المعلومات شوّالاً وذا القعدة وعشراً من ذي الحجّة . وقد صوّب الطّبريّ ذلك القول ، لأنّ ذلك من اللّه خيرٌ من ميقات الحجّ ، ولا عمل للحجّ يعمل بعد انقضاء أيّام منًى وعلى ذلك فبين أشهر الحجّ والأشهر الحرم بعض التّداخل ، إذ أنّ ذا القعدة وعشراً من ذي الحجّة من أشهر الحجّ والأشهر الحرم ، أمّا شوّالٌ فهو من أشهر الحجّ فقط ، والمحرّم ورجبٌ من الأشهر الحرم فقط .
فضل الأشهر الحرم :
3 - الأشهر الحرم فضّلها اللّه على سائر شهور العام ، وشرّفهنّ على سائر الشّهور . فخصّ الذّنب فيهنّ بالتّعظيم ، كما خصّهنّ بالتّشريف ، وذلك نظير قوله تعالى : { حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى } قال ابن عبّاسٍ : خصّ اللّه من شهور العام أربعة أشهرٍ فجعلهنّ حرماً ، وعظّم حرماتهنّ ، وجعل الذّنب فيهنّ والعمل الصّالح والأجر أعظم ، وعن قتادة : الظّلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزراً من الظّلم فيما سواها ، وإن كان الظّلم في كلّ حالٍ عظيماً ، ولكنّ اللّه يعظّم من أمره ما شاء ، فإنّ اللّه تعالى اصطفى صفايا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلاً ، ومن النّاس رسلاً ، واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشّهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيّام يوم الجمعة ، واصطفى من اللّيالي ليلة القدر . قال قتادة : فعظّموا ما عظّم اللّه ، فإنّما تعظّم الأمور بما عظّمها اللّه عند أهل الفهم وأهل العقل .
ما تختصّ به من الأحكام :
أ - القتال في الأشهر الحرم :
4 - كان القتال في الأشهر الحرم محرّماً في الجاهليّة قبل الإسلام ، فكانت الجاهليّة تعظّمهنّ وتحرّم القتال فيهنّ ، حتّى لو لقي الرّجل منهم فيهنّ قاتل أبيه أو أخيه تركه . قال النّيسابوريّ في تفسير قوله تعالى : { ذلك الدّين القيّم } ، أي هو الدّين المستقيم الّذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وقد توارثته العرب منهما فكانوا يحرّمون القتال فيها . ثمّ جاء الإسلام يؤيّد حرمة القتال في الأشهر الحرم بقوله تعالى : { يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه . قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل اللّه وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه والفتنة أكبر من القتل } .
ب - هل نسخ القتال في الأشهر الحرم ؟
5 - اختلف أهل التّأويل في الآية الّتي أثبتت حرمة القتال في الأشهر الحرم ، وهي قوله تعالى : { يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه . قل قتالٌ فيه كبيرٌ } هل هو منسوخٌ أم ثابت الحكم ؟ قال بعضهم : إنّ ذلك حكمٌ ثابتٌ ، لا يحلّ القتال لأحدٍ في الأشهر الحرم ، لأنّ اللّه جعل القتال فيه كبيراً . وقال بعضهم : هو منسوخٌ بقول اللّه عزّ وجلّ : { وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً } وردّ ذلك عن الزّهريّ وعطاء بن ميسرة . قال عطاء بن ميسرة : أحلّ القتال في الشّهر الحرام في براءةٌ قوله تعالى : { فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم وقاتلوا المشركين كافّةً } ، يقول : فيهنّ وفي غيرهنّ . وعن الزّهريّ قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا يحرّم القتال في الشّهر الحرام ثمّ أحلّ بعد » . قال الطّبريّ : والصّواب من القول في ذلك ما قال عطاء بن ميسرة من أنّ النّهي عن قتال المشركين في الأشهر الحرم منسوخٌ بقول اللّه عزّ وجلّ : { إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق اللّه السّموات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ ذلك الدّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً } . وإنّما قلنا ذلك ناسخٌ لقوله تعالى : { يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه . قل قتالٌ فيه كبيرٌ } لتظاهر الأخبار بذلك عن رسول اللّه .
تغليظ الدّيات في الأشهر الحرم :
6 - اختلف الفقهاء في تغليظ دية القتل في الأشهر الحرم أو عدم تغليظها ، فالشّافعيّة والحنابلة يرون تغليظ الدّية للقتل في الأشهر الحرم . وعند الحنفيّة والإمام مالكٍ لا تغلّظ الدّية . ومن قال بالتّغليظ اختلف في صفتها ، فقيل : إنّها ثلاثون حقّةً وثلاثون جذعةً وأربعون خلفةً ، وقيل غير ذلك ، ويفصّل الفقهاء ذلك في الدّيات .
إصبعٌ *
التعريف :
1 - الإصبع : معروفةٌ لغةً وعرفاً .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
أ - تخليل أصابع اليدين والرّجلين في الوضوء :
2 - ذهب الفقهاء إلى أنّ تخليل أصابع اليدين والرّجلين في الوضوء مطلوبٌ ، وجمهور الفقهاء على أنّه مسنونٌ في اليدين والرّجلين ، والمالكيّة يرون أنّه واجبٌ في اليدين . واختلفوا في وجوبه في الرّجلين . فقال جماعةٌ منهم بالوجوب ، وقال الآخرون بأنّه مسنونٌ في الرّجلين ، والّذين فرّقوا يرون أنّ التّخليل في أصابع الرّجلين فيه نوعٌ من العسر . واستدلّوا على الوجوب بما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا توضّأت فخلّل بين أصابع يديك ورجليك » . واستدلّ الجمهور على السّنّيّة بأنّ آية الوضوء وردت مطلقةً عن التّخليل .
كيفيّة التّخليل :
3 - يكفي في تحقّق التّخليل أي كيفيّة يخلّل بها بين الأصابع ، إلاّ أنّ بعض الفقهاء توسّع في بيان الكيفيّة ، فقالوا : إنّ تخليل الأصابع في اليدين يكون بتشبيك أصابع اليدين ، مع وضع باطن اليسرى على ظاهر اليمنى والعكس ، وفي الرّجلين يخلّل بخنصر يده اليمنى ، مبتدئاً بخنصر رجله اليمنى منتهياً بإبهامها ، وفي اليسرى يبتدئ بإبهامها منتهياً بخنصرها .
ب - وضع الأصابع في الأذنين عند الأذان :
4 - يسنّ أن يجعل المؤذّن أصبعيه في صماخي أذنيه عند الأذان ، لأنّه أجمع للصّوت ، « لقوله صلى الله عليه وسلم لبلالٍ : اجعل إصبعيك في أذنيك فإنّه أرفع لصوتك » .
ج - ما يتعلّق بالأصابع في الصّلاة :
5 - يكره في الصّلاة تشبيك الأصابع ، وفرقعتها ، وتحريكها إلاّ عند التّشهّد ، فإنّه يرفع السّبّابة عند النّفي ، ويضعها عند الإثبات .
د - قطع الأصابع :
6 - قطع الإصبع الأصليّة إن كان عمداً ففيه القصاص ، وإن كان خطأً ففيه الدّية ، وهي عشر دية النّفس ، أمّا إذا كانت زائدةً ففيها حكومة عدلٍ عند جمهور الفقهاء . ويرى المالكيّة أنّها إن كانت في قوّة الإصبع الأصليّة ففيها دية الإصبع ، وتفصيل ذلك في الجنايات والدّيات .
إصرارٌ *
التعريف :
1 - الإصرار لغةً : مداومة الشّيء وملازمته والثّبوت عليه واصطلاحاً : الإصرار : هو العزم بالقلب على الأمر وعلى ترك الإقلاع عنه . وأكثر ما يستعمل الإصرار في الشّرّ والإثم والذّنوب .