الموسوعة الفقهية

طباعة الموضوع

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الإشهاد في الشّفعة :
25 - الشّفيع إمّا أن يكون حاضراً وقت البيع أو غائباً ، فإن كان حاضراً فإنّه يلزمه لثبوت الشّفعة طلبها على الفور ، عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . على أنّ الحنفيّة قالوا : إنّ الأصل إشهاد الشّفيع على طلب المواثبة للتّوثيق ، وهذا الإشهاد على الطّلب ليس شرطاً للثّبوت ، لكن ليتوثّق حقّ الشّفعة إذا أنكر المشتري طلبها . وإنّما يصحّ طلب الإشهاد بحضرة المشتري أو البائع أو المبيع . ثمّ طلب الإشهاد مقدّرٌ بالتّمكّن من الإشهاد ، فمتى تمكّن من الإشهاد عند حضرة واحدٍ من هذه الأشياء ، ولم يطلب الإشهاد ، بطلت شفعته نفياً للضّرر عن المشتري . وإنّما يحتاج إلى طلب المواثبة ، ثمّ إلى طلب الإشهاد بعده ، إذا لم يمكنه الإشهاد عند طلب المواثبة ، بأن سمع الشّراء حال غيبته عن المشتري والبائع والدّار ، أمّا إذا سمع عند حضرة أحد هؤلاء الثّلاث ، وأشهد على ذلك ، فذلك يكفيه ، ويقوم مقام الطّلبين . وعند الشّافعيّة والحنابلة إن كان الشّفيع في البلدة فلا يلزمه الإشهاد على الطّلب ، بل يكفيه الطّلب وحده ، وإن كان غائباً فالحنابلة كالحنفيّة في لزوم طلب الشّفعة والإشهاد عليه ، فإن لم يفعل سقط حقّه ، سواءٌ قدر على التّوكيل أم عجز عنه ، سار عقيب العلم أو أقام . وعند الشّافعيّة إن كان الشّفيع غائباً يلزمه الطّلب ، فإن عجز فإنّه يلزمه التّوكيل ، فإن عجز عن التّوكيل فليشهد ، ولا يكفي الإشهاد عن الطّلب والتّوكيل عند القدرة عليهما . وذهب المالكيّة إلى أنّه ليس الإشهاد شرطاً لثبوت حقّ الشّفعة للشّفيع ، بل يثبت حقّه ولو لم يشهد .
إلاّ أنّهم صرّحوا بسقوط شفعته بالآتي :
أ - سكوته عن المطالبة مع علمه بهدم المشتري أو بنائه أو غرسه .
ب - أن يحضر الشّفيع عقد البيع ويشهد عليه ويسكت - بلا مانعٍ - شهرين .
ج - أن يحضر العقد ولا يشهد ويسكت - بلا عذرٍ - سنةً من يوم العقد .
تأخير الرّدّ للإشهاد :
26 - من كان تحت يده عينٌ لغيره ، إمّا أن يقبل قوله عند التّجاحد في الرّدّ أو لا ، فإن كان يقبل قوله كالأمانة ففي تأخير الرّدّ ثلاثة آراءٍ :
الأوّل : منع التّأخير ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ، والصّحيح عند الحنابلة . ولا يخالف جمهور المالكيّة في هذا ، فإن أخّره ضمن عند الهلاك عند الأئمّة الثّلاثة .
الثّاني : جواز التّأخير للإشهاد ، لأنّ البيّنة تسقط اليمين عن الرّادّ ، وهو قول ابن عبد السّلام من المالكيّة ، ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة ، ومقابل الصّحيح عند الحنابلة ، قالوا وهو قويٌّ خصوصاً في هذه الأزمنة . فإن كان صاحب اليد لا يقبل قوله في الرّدّ إلاّ ببيّنةٍ كالغصب ، فإنّ له التّأخير للإشهاد عند المالكيّة .
الثّالث : التّفريق بين ما إذا أخذها ببيّنةٍ أو بدون ذلك ، فله التّأخير عند الرّدّ حتّى يشهد أنّه أخذها ببيّنةٍ ، وهو قول الشّافعيّة والحنابلة . فإن لم تكن عليه بيّنةٌ ، فالأصحّ عند البغويّ من الشّافعيّة التّأخير نصّاً . وعند الحنابلة لا فرق بينه وبين من يؤخذ قوله بيمينه . ومن تتبّع فروع الحنفيّة نجد أنّهم يمنعون تأخير الرّدّ للإشهاد ، سواءٌ أكانت اليد يد ضمانٍ أم يد أمانةٍ ، ولم نر عندهم من يقول بالتّأخير للإشهاد .
قيام الإشهاد مقام القبض في الهبة :
27 - ذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ الوليّ لو وهب لمحجوره شيئاً ، وأشهد على نفسه ، فالهبة تامّةٌ ، والإشهاد يغني عن القبض . واستدلّوا على ذلك بما رواه مالكٌ عن الزّهريّ عن ابن المسيّب أنّ عثمان رضي الله عنه قال :( من نحل ولداً له صغيراً لم يبلغ أن يحوز نحلته ، فأعلن ذلك وأشهد على نفسه فهي جائزةٌ )، وإنّ وليّها أبوه . واستثنى المالكيّة من ذلك الدّار الّتي يسكنهما الواهب ، والملبوس الّذي هو لابسه ، إذا وهبهما لمحجوره ، فإنّه لا يكتفى بالإشهاد على الهبة ، بل لا بدّ من إخلائه للدّار ، ومثلها الملبوس . ولا بدّ من معاينة البيّنة للإخلاء . وإن لم تعاين البيّنة الحيازة فالإشهاد بالهبة يغني عن الحيازة فيما لا يسكنه الوليّ ولا تلبسه . واستثنوا كذلك ما لا يعرف بعينه ، كالمعدود والموزون والمكيل فلا بدّ من حيازته . والهبة تتمّ كذلك عند الحنفيّة بالإعلام والإشهاد ، إلاّ أنّ الإشهاد ليس شرطاً ، وإنّما هو للاحتياط . وعند الشّافعيّة يتولّى الأب طرفي العقد . وكيفيّة القبض أن ينقله من مكان لآخر . ولم أقف على من اشترط الإشهاد من المتأخّرين ، لكن جاء في الأمّ : أنّ الهبة لا تتمّ إلاّ بأمرين : الإشهاد ، والقبض ، ولا يغني الإشهاد عن القبض .
الإشهاد على التّصرّف في الموهوب قبل قبضه :
28 - ذهب المالكيّة إلى أنّ الموهوب له إذا باع ما اتّهبه أو أعتقه أو وهبه قبل أن يقبضه فإنّ تصرّفه ماضٍ ، وفعله ذلك حوزٌ له إذا أشهد على ذلك وأعلن بما فعله . وعند الحنفيّة ، والشّافعيّة لا يكون الإشهاد بمنزلة القبض ، ولا يثبت حكم الهبة إلاّ بقبضها . وكذلك الحكم عند الحنابلة في المكيل والموزون اللّذين لا تصحّ هبتهما إلاّ بالقبض عندهم . والصّدقة كالهبة عند المالكيّة ، فلو دفع مالاً لمن يفرّقه صدقةً على الفقراء والمساكين ، ولم يشهد على ذلك ، فلم يتصدّق به ، واستمرّ المال عنده حتّى مات الواهب ، فإنّ الصّدقة تبطل وترجع إلى ورثته . أمّا إذا أشهد على ذلك حين دفع المال إلى من يتصدّق به ، فإنّ الصّدقة لا تبطل بموت المتصدّق ، وترجع للفقراء والمساكين . وينطبق على الصّدقة ما ينطبق على الهبة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة من حيث عدم إغناء الإشهاد عن القبض على ما تقدّم .
الإشهاد في الوقف :
29 - عند المالكيّة لو وقف على محجوره ، وهو ولده الصّغير الّذي في حجره ، أو السّفيه أو الوصيّ على يتيمه فإنّه لا يشترط في حوز الوقف الحوز الحسّيّ ، بل يكفي فيه الحوز الحكميّ ، وهو أن يشهد على ذلك . وسواءٌ أكان الحائز الأب أم الوصيّ أو المقام من قبل الحاكم ، فيصحّ الوقف ولو كان تحت يد الحائز إلى موته أو إلى فلسه أو إلى مرضه الّذي مات فيه ، إذا توافرت بقيّة الشّروط مع الإشهاد . ولا بدّ من معاينة البيّنة لما وقع الإشهاد على وقفه إن كان الوقف على أجنبيٍّ ، فلا يكفي إقرار الواقف ، لأنّ المنازع للموقوف عليه إمّا الورثة وإمّا الغرباء . ولا بدّ أن يشهد الواقف على الوقف قبل حصول المانع للواقف من التّصرّف . ولا يشترط أن يقول عند الإشهاد على الوقفيّة : رفعت يد الملك ووضعت يد الحوز ونحو ذلك . والمذاهب الأخرى لم يتكلّموا عن الإشهاد في الوقف ، لعدم اشتراطهم القبض لصحّته .
الإشهاد على بناء الإنسان لنفسه في أرض الوقف :
30 – لو بنى ناظر الوقف لنفسه بمال نفسه في أرض الوقف،أو زرع وأشهد على ذلك فإن الحنفية والحنابلة يعتدون بذلك الإشهاد، ويجعلون البناء والغراس ملكاً للناظر إن أشهد. فإن لم يشهد فهو تابع للوقف. قال الحنفية :ولا بد أنيكون الإشهاد قبل البناء والغراس. والمالكية لا يجعلون للإشهاد أثر. وتفصيل ما يترتب على البناء والغراس يذكر في موطنه الأصلي ( الوقف ). وعند الشافعية ليس للواقف-والناظر بالأولى-أن يزرع أويبني في أرض الوقف لنفسه، وغرسه وبناؤه فيه بغير الحق، والحال لا يحتاج إلى إشهاد عندهم. وتفصيل أحكام البناء والغراس في الوقف ينظر في كتاب الوقف .

الإشهاد في اللّقطة :
31 - ورد في الحديث : « من وجد لقطةً فليشهد ذا عدلٍ أو ذوي عدلٍ ، ولا يكتم ، ولا يغيّب » . وهذا أمرٌ بالإشهاد على اللّقطة ليحفظها الإنسان عن نفسه من أن يطمع فيها ، وعن ورثته إن مات ، وعن غرمائه إن أفلس . وفي الأمر الوارد به رأيان :
أ - استحباب الإشهاد ، وهو مذهب الحنابلة ، والمذهب عند الشّافعيّة ، وهو قول المالكيّة إن خيف أن يدّعيها مع طول الزّمان .. وقد حملوا الحديث السّابق على الاستحباب . واستدلّوا على الاستحباب بخبر زيد بن خالدٍ مرفوعاً : « أعرّف وكاءها وعفاصها » وحديث أبيّ بن كعبٍ ، ولم يؤمر بالإشهاد فيهما ، واكتفي بالتعريف ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة . فلو كان واجباً لبيّنه النّبيّ ، سيّما وقد سئل عن حكم اللّقطة فلم يكن ليخلّ بأمرٍ واجبٍ فيها فيتعيّن حمل الأمر على النّدب في خبر عياضٍ . ولأنّه أمانةٌ فلم يفتقر إلى الإشهاد كالوديعة .
ب - وجوب الإشهاد : وهو قول أبي حنيفة . جاء في كتب الحنفيّة : أنّ الإشهاد لا بدّ منه عند الإمام : وهو قول المالكيّة إن تحقّق الملتقط أو ظنّ أنّه سيجحد اللّقطة . ووجوب الإشهاد هو مقابل المذهب عند الشّافعيّة . قالوا : في الحديث زيادةٌ على بقيّة الأخبار ، وهي الأمر بالإشهاد ، وزيادة الثّقة مقبولةٌ ، والأصل في الأمر الوجوب ، ولا منافاة بين هذه الزّيادة وبين بقيّة الأخبار الّتي ليس فيها أمرٌ . والإشهاد يكون حين الأخذ إن أمكن ، وإلاّ أشهد عند أوّل التّمكّن منه .
نفي الضّمان مع الإشهاد :
32 - يتّفق الفقهاء على أنّ الملتقط لا يضمن اللّقطة إن أشهد عليها . فإن لم يشهد فإنّه يضمنها إن تلفت عند جمهور الفقهاء . وقال الحنابلة وأبو يوسف : لا ضمان على الملتقط سواءٌ أشهد أم لم يشهد . وفي البدائع : ولا ضمان على الملتقط أشهد أو لم يشهد عند الصّاحبين . وعند أبي حنيفة يضمن إن لم يشهد . فإن خشي استيلاء ظالمٍ عليها ، فقد قال الشّافعيّة : إنّه يمتنع الإشهاد ولو أشهد ضمن ، وقال الحنفيّة لا يضمن إن لم يشهد خوفاً من استيلاء ظالمٍ عليها ، وكذا لا يضمن إن لم يتمكّن من الإشهاد .
الإشهاد والتعريف :
33 - لا يغني الإشهاد عن التعريف عند أكثر الفقهاء ، وذهب بعض الحنفيّة إلى أنّه يغني عن التعريف .
الإشهاد على اللّقيط :
34 - لا يختلف حكم الإشهاد على التقاط اللّقيط عن الإشهاد في اللّقطة عند المالكيّة ، وعند الشّافعيّة يجب الإشهاد قولاً واحداً ، وهو وجهٌ عند الحنابلة ، وعليه اقتصرت بعض كتبهم . وإنّما فرّقوا بين اللّقطة واللّقيط في الإشهاد ، لأنّ اللّقطة الغرض منها المال ، والإشهاد في التّصرّف الماليّ مستحبٌّ ، والغرض من التقاط اللّقيط حفظ حرّيّته ونسبه ، فوجب الإشهاد ، كما في النّكاح ، ولأنّ اللّقطة يشيع أمرها بالتعريف ولا تعريف في اللّقيط . واستظهر ابن قدامة وجوب ضمّ مشرفٍ إلى الملتقط إن كان غير أمينٍ .
والوجه الثّاني عند الحنابلة : استحباب الإشهاد . ويجب الإشهاد على ما مع اللّقيط تبعاً له عند الشّافعيّة ، ولئلاّ يتملّكه . وقيّد الماورديّ وجوب الإشهاد على اللّقيط وعلى ما معه بحالة ما إذا كان هو الملتقط . أمّا من سلّمه الحاكم له ليكفله فالإشهاد مستحبٌّ له قطعاً .
الإشهاد على نفقة اللّقيط :
35 - الحنفيّة والشّافعيّة اشترطوا لجواز الرّجوع بما ينفقه الملتقط على اللّقيط الإشهاد على إرادته الرّجوع . وقيّد الشّافعيّة ذلك بما إذا لم يتمكّن المنفق من استئذان الحاكم . ووجوب الإشهاد هو قول شريحٍ والنّخعيّ . وقال الحنابلة : لا يشترط . ولا يتأتّى القول بالإشهاد عند المالكيّة ، فالملتقط ينفق ، ولا يرجع على اللّقيط عندهم ، لأنّه بالالتقاط ألزم نفسه .
الإشهاد بالباطل للتّوصّل إلى الحقّ :
36 - فقهاء الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة على أنّه يجوز الإشهاد بالباطل للتّوصّل إلى الحقّ في صورٍ ذكروها . فعند الحنفيّة : الصّغيرة الّتي يزوّجها وليٌّ غير الأب والجدّ ، ويثبت لها شرعاً خيار البلوغ في النّكاح على الفور ، فإنّها إذا رأت الحيض في اللّيل واختارت الفسخ فوراً ، فإنّها حين تشهد في الصّباح على البلوغ تقول : بلغت الآن ، ضرورة إحياء الحقّ ، لأنّ خيار البلوغ يسقط بالتّراخي ، فلو أخبرت عن اختيارها متباعداً عن الإشهاد لم تستفد من الخيار . وعند المالكيّة : يجوز للإنسان إذا لم يكن له وارثٌ معيّنٌ ، ولم ينتظم بيت المال أن يتحيّل على إخراج ماله بعد موته في طاعة اللّه ، وذلك بأن يشهد في صحّته بشيءٍ من حقوق اللّه تعالى في ذمّته ، كزكاةٍ أو كفّاراتٍ وجب إخراجها من رأس المال ، ولو أتى على جميعه بعد الحقوق المتعلّقة بالعين . وذكر الحنابلة عدّة صورٍ منها : ما يسمّى بمسألة إيداع الشّهادة ، كأن يقول له الخصم : لا أقرّ لك حتّى تبرئني من نصف الدّين أو ثلثه ، وأشهد عليك إنّك لا تستحقّ على بعد ذلك شيئاً ، فيأتي صاحب الحقّ إلى رجلين فيقول : اشهدا أنّي على طلب حقّي كلّه من فلانٍ ، وأنّي لم أبرئه من شيءٍ منه ، وإنّي أريد أن أظهر مصالحته على بعضه ، لأتوصّل بالصّلح إلى أخذ بعض حقّي ، وأنّي إذا أشهدت أنّي لا أستحقّ عليه سوى ما صالحني عليه فهو إشهادٌ باطلٌ ، وأنّي إنّما أشهدت على ذلك توصّلاً إلى أخذ بعض حقّي ، فإذا فعل ذلك جاز له أن يدّعي بقاءه على حقّه ، ويقيم الشّهادة بذلك . فالإنسان له التّوصّل إلى حقّه بكلّ طريقٍ جائزٍ ، وقد توصّل المظلوم إلى حقّه بطريقٍ لم يسقط بها حقّاً لأحدٍ ، ولم يأخذ بها ما لا يحلّ له أخذه ، فلا خرج بها من حقٍّ ، ولا دخل بها في باطلٍ . ونظير هذا أن يكون للمرأة على رجلٍ حقٌّ فيجحده ، ويأبى أن يقرّ به حتّى تقرّ له بالزّوجيّة ، فتشهد على نفسها أنّها ليست امرأة فلانٍ ، وأنّي أريد أن أقرّ له بالزّوجيّة إقراراً كاذباً لا حقيقة له لأتوصّل بذلك إلى أخذ مالي عنده ، فاشهدوا أنّ إقراري بالزّوجيّة باطلٌ أتوصّل به إلى أخذ حقّي . ومثله أيضاً : أن ينكر نسب أخيه ، ويأبى أن يقرّ له به حتّى يشهد أنّه لا يستحقّ في تركة أبيه شيئاً ، وأنّه قد أبرأه من جميع ماله في ذمّته منها ، أو أنّه وهب له جميع ما يخصّه منها ، أو أنّه قبضه ، أو اعتاض عنه ، أو نحو ذلك ، فيودع الشّهادة عدلين أنّه باقٍ على حقّه ، وأنّه يظهر ذلك الإقرار توصّلاً إلى إقرار أخيه بنسبه ، وأنّه لم يأخذ من ميراث أبيه شيئاً ولا أبرأ أخاه ولا عاوضه ولا وهبه .
الإشهاد على كتابة الوصيّة :
37 - يتّفق الفقهاء على نفاذ الوصيّة إن كتب الموصي وصيّته وأشهد عليها ، ثمّ قرأها على المشهود . ويختلفون إن كتبها ولم يعلم الشّهود بما فيها ، سواءٌ أكتبها ولم يشهد عليها أم كتبها في غيبة الشّهود ، ثمّ أشهدهم عليها . فإن كتبها مبهمةً ثمّ دعا الشّهود ، وقال : هذه وصيّتي فاشهدوا على ما في هذا الكتاب ، فللفقهاء في نفاذ هذه الوصيّة وعدمه رأيان :
أحدهما : عدم النّفاذ ، وبه قال الحنفيّة ، والحنابلة ، وجمهور الأصحاب من الشّافعيّة . وبهذا قال الحسن البصريّ وأبو قلابة وأبو ثورٍ . إلاّ أنّ بعض كتب الحنابلة أطلقت هذا القول ، وبعضها قيّده بما إذا لم يعرف خطّ الكاتب ، وقالوا في تعليل عدم النّفاذ : إنّ الحكم لا يجوز برؤية خطّ الشّاهد بالشّهادة بالإجماع فكذا هنا .
الثّاني : أنّ هذا الإشهاد يصحّ وينفذ به الوصيّة وإن لم يقرأها على الشّهود ، وهو قول المالكيّة ، وقول محمّد بن نصر المروزيّ من الشّافعيّة ، وهو قول جماعةٍ من التّابعين منهم سالمٌ وعبد الملك بن يعلى قاضي البصرة . فإن كتبها بحضرتهم ، وأشهدهم عليها ، دون علمٍ بما فيها فإنّها تنفذ عند المالكيّة ، وهو روايةٌ عن أبي يوسف إذا أودعه عنده ، وهو مذهب أحمد إن عرف خطّه . والعمل حينئذٍ بالخطّ لا بالإشهاد . وممّن قال ذلك عبد الملك بن يعلى ومكحولٌ واللّيث والأوزاعيّ ومحمّد بن مسلمة وأبو عبيدٍ وإسحاق ، واحتجّ أبو عبيدٍ بكتب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى عمّاله وأمرائه في أمر ولايته وأحكام سننه ، ثمّ ما عمل به الخلفاء الرّاشدون المهديّون بعده من كتبهم إلى ولاتهم الأحكام الّتي تتضمّن أحكاماً في الدّماء والفروج والأموال ، يبعثون بها مختومةً لا يعلم حاملها ما فيها ، وأمضوها على وجوهها .
وذكر استخلاف سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز بكتابٍ كتبه وختم عليه . قال ابن قدامة : ولا نعلم أحداً أنكر ذلك مع شهرته في علماء العصر فكان إجماعاً . ولا تنفذ عند أبي حنيفة والشّافعيّة ، وهو محكيٌّ عن أحمد بن حنبلٍ ، قال صاحب المغني : ووجهه أنّه كتابٌ لا يعلم الشّاهد ما فيه ، فلم يجز أن يشهد عليه ، ككتاب القاضي إلى القاضي .
الإشهاد على النّكاح :
38 - الحنفيّة والشّافعيّة ، والمشهور عن أحمد أنّه لا يصحّ عقد النّكاح إلاّ بإشهادٍ على العقد ، لقوله « صلى الله عليه وسلم : لا نكاح إلاّ بوليٍّ وشاهدي عدلٍ » . وروي ذلك عن عمر وعليٍّ ، وهو قول ابن عبّاسٍ وسعيد بن المسيّب وجابر بن زيدٍ والحسن والنّخعيّ وقتادة والثّوريّ والأوزاعيّ . والمعنى فيه صيانة الأنكحة عن الجحود ، والاحتياط للأبضاع . وعند المالكيّة الإشهاد على العقد مستحبٌّ ، لكن يشترط الإشهاد عند الدّخول ، فإن أشهدا قبل الدّخول صحّ النّكاح ما لم يقصدا الاستسرار بالعقد . فإن قصداه لم يقرّا على النّكاح عليه ، لنهيه عليه الصلاة والسلام عن نكاح السّرّ ، ويؤمر أن يطلّقها طلقةً وإن طال الزّمان ، ثمّ يستأنف العقد . وإن دخلا بلا إشهادٍ فسخ النّكاح كذلك ، وحدّا في الحالتين ، ما لم يكن النّكاح فاشيّاً . وهناك شروطٌ وتفصيلاتٌ فيما يتعلّق بالإشهاد في هذا الموضوع ، يرجع إليه في مصطلح ( نكاحٌ ) .
الإشهاد على الرّجعة :
39 - للفقهاء في حكم الإشهاد على الرّجعة رأيان :
أوّلهما : ندب الإشهاد ، وهو مذهب الحنفيّة ، والصّحيح عند المالكيّة ، وهو قول الشّافعيّة . والإشهاد عندهم يكون على صيغة الرّجعة أو الإقرار بها ، وهو روايةٌ عند الحنابلة . وثانيهما : وجوب الإشهاد ، وهو قول ابن بكيرٍ وغيره من المالكيّة ، وهو روايةً عند الحنابلة . واستدلّ الفريقان على أنّ الإشهاد مطلوبٌ بقول اللّه سبحانه وتعالى : { فإذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروفٍ أو فارقوهنّ بمعروفٍ وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم } . فحمل الفريق الأوّل الأمر على الاستحباب ، وذلك لأنّ الرّجعة لا تفتقر إلى قبولٍ ، فلم تفتقر إلى شهادةٍ ، كسائر حقوق الزّوج ، ولأنّها استدامةٌ للنّكاح وهذا لا يتطلّب الإشهاد .
وحمل الفريق الثّاني الأمر على الوجوب وهو ظاهر الأمر . ثمّ من أوجب الإشهاد إذا راجعها بدونه هل تصحّ الرّجعة ؟ من اعتبر الإشهاد شرطاً قال : لا تصحّ ، ومن اعتبره واجباً ديانةً فقط صحّت الرّجعة مع الإثم . وتفصيل ذلك في مبحث الرّجعة .
إشهاد المنفق على الصّغير :
40 - نفقة الصّغير في ماله إن كان له مالٌ ، وإلاّ فيلزم بالإنفاق عليه من تجب نفقته عليه شرعاً ، وهذا لا يحتاج إلى إشهادٍ . وإن كان له مالٌ وأنفق عليه وليّه أو وصيّه من مالهما بقصد الرّجوع عليه ، فلا بدّ لجواز الرّجوع على الصّغير في ماله من الإشهاد . وكذلك إن أنفق عليه من لا تجب عليه نفقته . وفي ذلك تفصيلٌ وخلافٌ يرجع إليه في مصطلح ( نفقةٌ ) .
الإشهاد بالإنفاق على من لا تجب عليه النّفقة ليرجع بما أنفق :
41 - من أنفق على من لا تجب نفقته عليه بقصد الرّجوع عليه ، أو على من تلزمه النّفقة كان عليه أن يشهد حتّى يرجع بما ينفق ، وذلك إن عجز عن استئذان من تجب عليه النّفقة أو الحاكم . وهذا هو رأي الشّافعيّة ، وإحدى الرّوايات عن أحمد ، واكتفى المالكيّة بيمين المنفق : أنّه أنفق ليرجع . وأمّا الحنفيّة فإنّهم يقولون : إنّ قيّم الوقف إذا أنفق على الوقف من ماله بقصد الرّجوع فلا بدّ من الإشهاد . ويمكن التّخريج على هذه عندهم فيما يشبه الوقف . وفي الموضوع تفصيلٌ يرجع إليه في ( الوقف الوديعة والرّهن والنّفقة واللّقطة واللّقيط ) .
الإشهاد على الحائط المائل للضّمان :
42 - إذا سقط الحائط المائل ، فتلف بسقوطه شيءٌ ، فيرى الحنفيّة أنّه لا يضمن صاحب الحائط ، إلاّ إذا طلب إليه إزالة الحائط قبل سقوطه ، وأشهدوا على ذلك . ويتحقّق الطّلب من أيّ عاقلٍ ولو صبيّاً . ويكون الضّمان عليه في ماله إن كان الضّرر واقعاً على مال الغير ، ويكون الضّمان في هلاك النّفس على عاقلة صاحب الحائط إلحاقاً بالقتل الخطأ . ويرى المالكيّة أنّ الإشهاد لا يتحقّق إلاّ من القاضي أو ممّن له النّظر في مثل هذه الأمور كالبلديّة الآن . وأمّا طلب النّاس وإشهادهم فلا عبرة به في وجوب الضّمان إلاّ إذا كان في مكان ليس به قاضٍ ولا مسئولٌ عن مثل هذا . ويكون الضّمان عندهم في المال والنّفس على صاحب الحائط إن قصّر . والشّافعيّة والحنابلة لا يوجبون الإشهاد على الطّلب ، وإنّما يكفي عندهم الطّلب وحده في وجوب الضّمان . وأمّا شروط وجوب الضّمان فيرجع إليها في موضوع الضّمان والجنايات .
إشهارٌ *
التعريف :
1 - الإشهار : مصدر أشهر بمعنى أعلن ، والشّهر في اللّغة بمعنى الإعلان والإظهار . يقال : شهّرته بين النّاس وشهرته . أي أبرزته وأوضحته . أمّا الإشهار فغير منقولٍ لغةً - كما قال الفيّوميّ - ولكنّ الفقهاء استعملوه - ولا سيّما المالكيّة - بمعنى الإعلان .
الحكم الإجماليّ :
2 - يستعمل الفقهاء الإشهار في مواطن كثيرةٍ . منها المطلوب : كإشهار النّكاح ، والحجر ، والحدود ، والعقود والعهود : ومنها الممنوع : كإشهار الفاحشة . ففي إشهار النّكاح : يرى جمهور الفقهاء أنّه مندوبٌ بأيّ شيءٍ متعارفٍ كإطعام الطّعام عليه ، أو إحضار جمعٍ من النّاس زيادةً على الشّاهدين ، أو بالضّرب فيه بالدّفّ حتّى يشتهر ويعرف لقوله صلى الله عليه وسلم : « أظهروا النّكاح » وفي لفظٍ : « أعلنوا النّكاح » .
مواطن البحث :
3 - تبحث مسألة إشهار النّكاح في ( النّكاح ) عند الحديث عن أركانه أو الوليمة فيه . ومسألة إشهار الصّلاة المكتوبة في ، ( الصّلاة ) عند الكلام عن السّنن والنّوافل . وإشهار قرار الحجر في ( الحجر ) عند الكلام عن معاملة المحجور عليه .
أشهر الحجّ*
تحديد الفقهاء لأشهر الحج :
1 - جمهور الفقهاء على أنّ أشهر الحجّ هي : شوّالٌ ، وذو القعدة ، وعشرٌ من ذي الحجّة ، لأنّ قوله تعالى : { الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ } مقصودٌ به وقت الإحرام بالحجّ ، لأنّ الحجّ لا يحتاج إلى أشهرٍ ، فدلّ على أنّه أراد به وقت الإحرام . وقد روي ذلك عن العبادلة الأربعة : ابن عبّاسٍ ، وابن عمر ، وابن عمرٍو ، وابن الزّبير رضي الله عنهم . ولأنّ الحجّ يفوت بمضيّ عشر ذي الحجّة ، ومع بقاء الوقت لا يتحقّق الفوات ، وهذا يدلّ على أنّ المراد من الآية شهران وبعض الثّالث لا كلّه ، لأنّ بعض الشّهر يتنزّل منزلة كلّه . وهذا التّحديد يدخل فيه يوم النّحر عند الحنابلة والحنفيّة غير أبي يوسف . وعند الشّافعيّة وأبي يوسف من الحنفيّة ليس منها يوم النّحر ، بل على وجهٍ عند الشّافعيّة لا تدخل ليلة النّحر كذلك ، لأنّ اللّيالي تبعٌ للأيّام ، ويوم النّحر لا يصحّ فيه الإحرام ، فكذا ليلته . والمالكيّة - وإن كانوا يقولون إنّ أشهر الحجّ هي شوّالٌ وذو القعدة وذو الحجّة - إلاّ أنّ مرادهم بذلك أنّ وقت الإحرام يبدأ من شوّالٍ إلى فجر يوم النّحر ، أمّا الإحلال من الحجّ فيمتدّ إلى آخر ذي الحجّة . ثمرة الخلاف في تحديد أشهر الحجّ : ثمرة الخلاف في تحديد أشهر الحجّ ، على ما ذكره ابن رشدٍ ، هي جواز تأخير طواف الإفاضة عند المالكيّة إلى آخر ذي الحجّة ، فإن أخّره إلى المحرّم فعليه دمٌ ، وعند الحنفيّة إن أخّره عن أيّام النّحر كان عليه دمٌ . أمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فإنّ آخره غير موقّتٍ ، بل يبقى ما دام حيّاً ولا دم عليه .
علاقة أشهر الحجّ بالأشهر الحرم :
2 - تظاهرت الأخبار عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأنّ الأشهر الحرم هي : رجبٌ ، وذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم ، وهو قول عامّة أهل التّأويل . وعلى ذلك فأشهر الحجّ تشترك مع الأشهر الحرم في ذي القعدة وعشرٍ من ذي الحجّة ، أمّا شوّالٌ فهو من أشهر الحجّ فقط ، ورجبٌ وبقيّة ذي الحجّة من الأشهر الحرم فقط .
تحديد الفقهاء لأشهر الحجّ :
الحكم الإجماليّ :
3 - تحديد أشهر الحجّ مقصودٌ به أنّ الإحرام بالحجّ يتمّ في هذا الوقت ، ولذلك يرى الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة كراهة الإحرام بالحجّ في غير هذا الوقت ، والمراد عند الحنفيّة بالكراهة كراهة التّحريم ، وبذلك صرّح القهستانيّ . أمّا الشّافعيّة فلا ينعقد عندهم الإحرام بالحجّ في غير هذا الوقت ، وإنّما ينعقد عمرةً ، لأنّ الحجّ عبادةٌ مؤقّتةٌ ، فإذا عقدها في غير وقتها انعقد غيرها من جنسها ، كصلاة الظّهر إذا أحرم بها قبل الزّوال فإنّه ينعقد إحرامه بالنّفل .
مواطن البحث :
4 - أشهر الحجّ تتمّ فيها مناسكه بما في ذلك من إحرامٍ وطوافٍ وسعيٍ ووقوفٍ . ر : ( حجٌّ - طوافٌ - سعيٌ - إحرامٌ ) .
الأشهر الحرم :
المراد بالأشهر الحرم :
1 - الأشهر الحرم هي الّتي ورد ذكرها في قول اللّه تعالى : { إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السّموات والأرض ، منها أربعةٌ حرمٌ } . وهنّ : رجب مضر ، وذو القعدة ، وذو الحجّة ، والمحرّم . وهذا التّحديد تظاهرت به الأخبار عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . فعن أبي بكرة « أنّ النّبيّ قال : إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّماوات والأرض ، السّنة اثنا عشر شهراً منها أربعةٌ حرمٌ : ثلاثٌ متوالياتٌ ، ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم . ورجب مضر الّذي بين جمادى وشعبان » . وروي مثل ذلك عن أبي هريرة وقتادة ، وهو أيضاً قول عامّة أهل التّأويل .
المقارنة بينها وبين أشهر الحجّ :
2 - ذكر أشهر الحجّ ورد في قول اللّه تعالى : { الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ } . وقد اختلف أهل التّأويل في ذلك . فقيل : إنّ أشهر الحجّ شوّالٌ وذو القعدة وذو الحجّة كلّه ، يريدون بذلك أنّهنّ أشهر الحجّ ، لا أشهر العمرة ، وأنّ أشهر العمرة سواهنّ من شهور السّنة . وقيل : يعني بالأشهر المعلومات شوّالاً وذا القعدة وعشراً من ذي الحجّة . وقد صوّب الطّبريّ ذلك القول ، لأنّ ذلك من اللّه خيرٌ من ميقات الحجّ ، ولا عمل للحجّ يعمل بعد انقضاء أيّام منًى وعلى ذلك فبين أشهر الحجّ والأشهر الحرم بعض التّداخل ، إذ أنّ ذا القعدة وعشراً من ذي الحجّة من أشهر الحجّ والأشهر الحرم ، أمّا شوّالٌ فهو من أشهر الحجّ فقط ، والمحرّم ورجبٌ من الأشهر الحرم فقط .
فضل الأشهر الحرم :
3 - الأشهر الحرم فضّلها اللّه على سائر شهور العام ، وشرّفهنّ على سائر الشّهور . فخصّ الذّنب فيهنّ بالتّعظيم ، كما خصّهنّ بالتّشريف ، وذلك نظير قوله تعالى : { حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى } قال ابن عبّاسٍ : خصّ اللّه من شهور العام أربعة أشهرٍ فجعلهنّ حرماً ، وعظّم حرماتهنّ ، وجعل الذّنب فيهنّ والعمل الصّالح والأجر أعظم ، وعن قتادة : الظّلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزراً من الظّلم فيما سواها ، وإن كان الظّلم في كلّ حالٍ عظيماً ، ولكنّ اللّه يعظّم من أمره ما شاء ، فإنّ اللّه تعالى اصطفى صفايا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلاً ، ومن النّاس رسلاً ، واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشّهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيّام يوم الجمعة ، واصطفى من اللّيالي ليلة القدر . قال قتادة : فعظّموا ما عظّم اللّه ، فإنّما تعظّم الأمور بما عظّمها اللّه عند أهل الفهم وأهل العقل .
ما تختصّ به من الأحكام :
أ - القتال في الأشهر الحرم :
4 - كان القتال في الأشهر الحرم محرّماً في الجاهليّة قبل الإسلام ، فكانت الجاهليّة تعظّمهنّ وتحرّم القتال فيهنّ ، حتّى لو لقي الرّجل منهم فيهنّ قاتل أبيه أو أخيه تركه . قال النّيسابوريّ في تفسير قوله تعالى : { ذلك الدّين القيّم } ، أي هو الدّين المستقيم الّذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وقد توارثته العرب منهما فكانوا يحرّمون القتال فيها . ثمّ جاء الإسلام يؤيّد حرمة القتال في الأشهر الحرم بقوله تعالى : { يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه . قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل اللّه وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه والفتنة أكبر من القتل } .
ب - هل نسخ القتال في الأشهر الحرم ؟
5 - اختلف أهل التّأويل في الآية الّتي أثبتت حرمة القتال في الأشهر الحرم ، وهي قوله تعالى : { يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه . قل قتالٌ فيه كبيرٌ } هل هو منسوخٌ أم ثابت الحكم ؟ قال بعضهم : إنّ ذلك حكمٌ ثابتٌ ، لا يحلّ القتال لأحدٍ في الأشهر الحرم ، لأنّ اللّه جعل القتال فيه كبيراً . وقال بعضهم : هو منسوخٌ بقول اللّه عزّ وجلّ : { وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً } وردّ ذلك عن الزّهريّ وعطاء بن ميسرة . قال عطاء بن ميسرة : أحلّ القتال في الشّهر الحرام في براءةٌ قوله تعالى : { فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم وقاتلوا المشركين كافّةً } ، يقول : فيهنّ وفي غيرهنّ . وعن الزّهريّ قال : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا يحرّم القتال في الشّهر الحرام ثمّ أحلّ بعد » . قال الطّبريّ : والصّواب من القول في ذلك ما قال عطاء بن ميسرة من أنّ النّهي عن قتال المشركين في الأشهر الحرم منسوخٌ بقول اللّه عزّ وجلّ : { إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق اللّه السّموات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ ذلك الدّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً } . وإنّما قلنا ذلك ناسخٌ لقوله تعالى : { يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه . قل قتالٌ فيه كبيرٌ } لتظاهر الأخبار بذلك عن رسول اللّه .
تغليظ الدّيات في الأشهر الحرم :
6 - اختلف الفقهاء في تغليظ دية القتل في الأشهر الحرم أو عدم تغليظها ، فالشّافعيّة والحنابلة يرون تغليظ الدّية للقتل في الأشهر الحرم . وعند الحنفيّة والإمام مالكٍ لا تغلّظ الدّية . ومن قال بالتّغليظ اختلف في صفتها ، فقيل : إنّها ثلاثون حقّةً وثلاثون جذعةً وأربعون خلفةً ، وقيل غير ذلك ، ويفصّل الفقهاء ذلك في الدّيات .

إصبعٌ *
التعريف :
1 - الإصبع : معروفةٌ لغةً وعرفاً .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
أ - تخليل أصابع اليدين والرّجلين في الوضوء :
2 - ذهب الفقهاء إلى أنّ تخليل أصابع اليدين والرّجلين في الوضوء مطلوبٌ ، وجمهور الفقهاء على أنّه مسنونٌ في اليدين والرّجلين ، والمالكيّة يرون أنّه واجبٌ في اليدين . واختلفوا في وجوبه في الرّجلين . فقال جماعةٌ منهم بالوجوب ، وقال الآخرون بأنّه مسنونٌ في الرّجلين ، والّذين فرّقوا يرون أنّ التّخليل في أصابع الرّجلين فيه نوعٌ من العسر . واستدلّوا على الوجوب بما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا توضّأت فخلّل بين أصابع يديك ورجليك » . واستدلّ الجمهور على السّنّيّة بأنّ آية الوضوء وردت مطلقةً عن التّخليل .
كيفيّة التّخليل :
3 - يكفي في تحقّق التّخليل أي كيفيّة يخلّل بها بين الأصابع ، إلاّ أنّ بعض الفقهاء توسّع في بيان الكيفيّة ، فقالوا : إنّ تخليل الأصابع في اليدين يكون بتشبيك أصابع اليدين ، مع وضع باطن اليسرى على ظاهر اليمنى والعكس ، وفي الرّجلين يخلّل بخنصر يده اليمنى ، مبتدئاً بخنصر رجله اليمنى منتهياً بإبهامها ، وفي اليسرى يبتدئ بإبهامها منتهياً بخنصرها .
ب - وضع الأصابع في الأذنين عند الأذان :
4 - يسنّ أن يجعل المؤذّن أصبعيه في صماخي أذنيه عند الأذان ، لأنّه أجمع للصّوت ، « لقوله صلى الله عليه وسلم لبلالٍ : اجعل إصبعيك في أذنيك فإنّه أرفع لصوتك » .
ج - ما يتعلّق بالأصابع في الصّلاة :
5 - يكره في الصّلاة تشبيك الأصابع ، وفرقعتها ، وتحريكها إلاّ عند التّشهّد ، فإنّه يرفع السّبّابة عند النّفي ، ويضعها عند الإثبات .
د - قطع الأصابع :
6 - قطع الإصبع الأصليّة إن كان عمداً ففيه القصاص ، وإن كان خطأً ففيه الدّية ، وهي عشر دية النّفس ، أمّا إذا كانت زائدةً ففيها حكومة عدلٍ عند جمهور الفقهاء . ويرى المالكيّة أنّها إن كانت في قوّة الإصبع الأصليّة ففيها دية الإصبع ، وتفصيل ذلك في الجنايات والدّيات .
إصرارٌ *
التعريف :
1 - الإصرار لغةً : مداومة الشّيء وملازمته والثّبوت عليه واصطلاحاً : الإصرار : هو العزم بالقلب على الأمر وعلى ترك الإقلاع عنه . وأكثر ما يستعمل الإصرار في الشّرّ والإثم والذّنوب .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الحكم الإجماليّ :
2 - الإصرار إمّا أن يكون عن جهلٍ ، أو عن علمٍ . فإذا كان الإصرار عن جهلٍ فقد يعذر من لا يعلم حرمة الفعل الّذي أصرّ عليه . أمّا إذا كان عن علمٍ بالحكم فإنّ الفاعل يكون آثماً إذا كان على معصيةٍ ، ويتضاعف إثمه بمقدار ما هو عليه من جرمٍ ، لأنّ الإصرار على الصّغيرة كبيرةٌ ، والإصرار على الكبائر يؤدّي إلى عظم ذنبها وزيادة وزرها . وأمّا إذا كان الإصرار على غير معصيةٍ ، فإنّه قد يكون مندوباً إليه ، كالإصرار على عدم إفشاء أسرار المسلمين للعدوّ رغم ما يلاقيه من عنت الأعداء . وقد يكون واجباً ، كالمداومة على فعل الطّاعات وترك المعاصي . أمّا الإصرار على المعصية دون تحقّقها ففيه رأيان :
الأوّل : يؤاخذ به الإنسان لقوله تعالى : { ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ نذقه من عذابٍ أليمٍ } ، وقوله عليه الصلاة والسلام : « إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النّار . قالوا : يا رسول اللّه هذا القاتل فما بال المقتول ، قال : إنّه كان حريصاً على قتل صاحبه » . الثّاني : لا يؤاخذ به الإنسان ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من همّ بسيّئةٍ فلم يعملها لم تكتب عليه ، فإن عملها كتبت عليه سيّئةٌ واحدةٌ » وقد ضعّف القرطبيّ هذا الرّأي ، وحمل الحديث على أنّ معنى « فلم يعملها » فلم يعزم على عملها .
مبطلات الإصرار :
3 - أ - يبطل الإصرار على المعصية بالتّوبة ، حيث لا إصرار مع التّوبة ، لما روي : « ما أصرّ من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرّةً » وللقاعدة المعروفة : ( لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار ) .
ب - يبطل الإصرار بترك المصرّ عليه واتّباع غيره .
مواطن البحث :
4 - أ - قرّر الفقهاء أنّ الإصرار على الصّغائر مسقطٌ للعدالة - انظر ( شهادةٌ ، وتوبةٌ ) .
ب - إصرار المرتدّ بعد استتابته يوجب القتل ، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من بدّل دينه فاقتلوه » انظر ( ردّةٌ ) .
ج - إصرار المدّعى عليه على السّكوت على جواب الدّعوى يعدّ منه إنكاراً ونكولاً . انظر ( دعوى ) .
اصطيادٌ*
انظر : صيدٌ .
أصلٌ *
التعريف :
1 - الأصل يجمع على أصولٍ . وقد كثر استعمال الأصل ، فاستعمل في كلّ ما يستند إليه غيره ويبتني عليه ، من حيث إنّه يبتني عليه ويتفرّع عنه ، فالأب أصلٌ للولد ، والأساس أصلٌ للجدار ، والنّهر أصلٌ للجدول . وسواءٌ أكان الابتناء حسّيّاً كما مثّل ، أم عقليّاً كابتناء المدلول على الدّليل .
2 - ويطلق الأصل في الاصطلاح بمعانٍ ترجع كلّها إلى استناد الفرع إلى أصله وابتنائه عليه ، ومن تلك المعاني الاصطلاحيّة :
1 - الدّليل في مقابلة المدلول .
2 - القاعدة الكلّيّة .
3 - المستصحب ، وهو الحالة الماضية .
4 - ما يقابل الأوصاف .
5 - وعلى أصول الإنسان : أبيه وأمّه ، وأجداده وجدّاته وإن علوا .
6 - على المبدل منه في مقابلة البدل .
7 وعلى أصل القياس ( المحلّ المقيس عليه )
8 - وعلى الأصول في باب البيوع ، ونحوها الأشجار والدّور ونحو ذلك في مقابلة الثّمرة والمنفعة .
9 - وعلى أصول المسائل في الميراث ، يخرج منه فرض المسألة أو فروضها بلا كسرٍ .
10 - وعلى الأصل في باب رواية الأخبار : ( الشّيخ المرويّ عنه في مقابلة الفرع ، وهو الرّاوي ، أو النّسخة المنقول منها في مقابلة النّسخة المنقولة ) .
11 - وعلى أصول كلّ علمٍ ( مبادئه والقواعد العامّة الّتي تستخدم في دراسته ) .
وفيما يلي بيان هذه الأنواع بإيجازٍ :
أ - الأصل بمعنى الدّليل :
3 - يطلق الأصل بمعنى الدّليل ، كقول الفقهاء : الأصل في وجوب الحجّ الكتاب والسّنّة والإجماع . أمّا الكتاب فقوله تعالى : { وللّه على النّاس حجّ البيت } . والأصول الّتي يستدلّ بها في علم الشّريعة عند الجمهور هي : القرآن العظيم ، والسّنّة النّبويّة الشّريفة ، والإجماع ، والقياس . وهناك أدلّةٌ مختلفٌ فيها . وينظر تفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ .
وأصول الإثبات : الأدلّة الّتي تقدّم في التّقاضي ، مثل البيّنة واليمين والإقرار والنّكول .
ب - الأصل بمعنى القاعدة الكلّيّة :
4 - القاعدة الكلّيّة حكمٌ أكثريٌّ ، ينطبق على معظم جزئيّات موضوعها . وتسمّى الأحكام الدّاخلة فيها فروعها ، واستخراجها من القاعدة الكلّيّة تفريعٌ عليها . فقول الفقهاء : « اليقين لا يزول بالشّكّ " أصلٌ من أصول الفقه بهذا المعنى ، وإن كانت لا تدخل في ( أصول الفقه ) بمعناه العلميّ ، كما سيأتي . وللتّفصيل ينظر مصطلح ( قواعد ) والملحق الأصوليّ .
ت - الأصل بمعنى الحالة الماضية المستصحبة :
5 - يطلق الأصل على المستصحب ، وهو الحالة الماضية ، في مقابلة الحالة الطّارئة ، كقولهم : إذا شكّ في الطّهارة والحدث يستصحب الأصل .
ث - الأصل بمعنى ما قابل الوصف :
6 - من ذلك تفرقة الحنفيّة بين الباطل والفاسد في المعاملات ، فما كان الخلل في أصله فهو باطلٌ غير منعقدٍ ، وما كان في وصفه فهو منعقدٌ فاسدٌ ، وتفصيله في ( بطلانٌ ، وفسادٌ ) .
ج - أصول الإنسان :
7 - أصول الإنسان هم : أبوه وأمّه وأجداده وجدّاته من الطّرفين . وسمّوا بذلك لأنّه فرعٌ لهم . ويقال للأصول والفروع : عمودا النّسب ، والقرابة بين النّوعين تسمّى قرابة الولاد ، أو الولادة . والأصول من أقرب القرابات إلى الإنسان ، ولذا كان لهم في الشّرع أحكامٌ يشاركون فيها سائر القرابات ، من المحرميّة والميراث والبرّ والصّلة وغير ذلك . ثمّ إنّ النّفقة تجب للأصول إذا كانوا محتاجين ، ولا يجوز صرف الزّكاة إليهم . وفي ذلك تفصيلٌ ( ر : زكاةٌ . نفقةٌ ) ولكلٍّ نوعٍ من الأصول أحكامٌ تخصّه ( ر : أبٌ . أمٌّ . جدٌّ . جدّةٌ ) .
8 - وللأصول وللفروع - كلٌّ تجاه الآخر - أحكامٌ معيّنةٌ يختصّون بها دون سائر الأقارب ، عدّها السّيوطيّ من الشّافعيّة كما يلي :
أ- لا يقطع أحد الطّرفين بسرقة مال الآخر .
ب- ولا يقضي ولا يشهد للآخر .
ت - ولا يدخلون في الوصيّة للأقارب .
ث - وتحرم موطوءة كلٍّ منهما ومنكوحته على الآخر .
ج - ومن ملك منهم الآخر عتق عليه .
ح - جواز بيع المسلم منهم للكافر إن كان مملوكاً ، لأنّه يعتق عليه .
خ - وجوب النّفقة عند العجز ووجوب الفطرة ( ر : زكاة الفطر ) . وفي بعض هذه المسائل تفصيلاتٌ واشتراطاتٌ وخلافٌ . ولمعرفة ذلك تنظر كلّ مسألةٍ في بابها .
9 - وللأصول أحكامٌ خاصّةٌ ينفردون بها عن الفروع وسائر القرابات ، حصر منها السّيوطيّ - من الشّافعيّة - جملةً هي ما يلي :
1 - لا يقتل الأصل بالفرع قصاصاً ، وكذلك لا يقتل الأصل قصاصاً إذا كان وليّ القصاص الفرع ، أمّا الفرع فيقتل بالأصل . كما يقتل للأصل أيضاً ، وذلك إذا كان الأصل وليّ الدّم ، كما لو قتل الولد عمّه وكان أبو الولد وليّ الدّم .
2 - لا يحدّ الأصل بقذفه للفرع ، ويحدّ الفرع بقذفه .
3 - لا يحبس الأصل بدين الفرع .
4 - لا تقبل شهادة الفرع على أصله بما يوجب قتلاً .
5 - لا يجوز المسافرة بالفرع الصّغير إلاّ بإذن أصوله .
6 - ولا يجوز له الخروج للجهاد إلاّ بإذنهم .
7 - لا يجوز التّفريق بين الأصل والفرع بالبيع إن كانا مملوكين .
8 - للأصل أن يمنع الفرع من الإحرام .
9 - إذا دعاه أصله وهو في الصّلاة يجيبه ، وفي بطلان الصّلاة بذلك اختلافٌ .
10- للأصل تأديب الفرع وتعزيره .
11 - للأصل الرّجوع فيما وهب للفرع .
12 - يتبع الفرع - إن كان صغيراً - أصله في الإسلام .
13 - يهنّأ كلٌّ من الأصول بالمولود . ووافق ابن نجيمٍ - من الحنفيّة - على أكثر هذه الفروع ، وأضاف :
14 - لا يجوز للفرع قتل أصله الحربيّ إلاّ دفاعاً عن نفسه . وفي كلّ ما سبق من هذه الأحكام الخاصّة بأصول الإنسان خلافٌ وتفصيلٌ يرجع في كلّ شيءٍ منها إلى بابه.
ح-الأصل بمعنى المتفرّع منه :
10 - تتعلّق بالأصل بهذا المعنى أحكامٌ شرعيّةٌ منها قواعد فقهيّةٌ . ومن ذلك ما جاء في مجلّة الأحكام العدليّة في المادّتين التّاليتين :
أ - قد يثبت الفرع مع عدم ثبوت الأصل ( م 81 ) فلو ادّعى شخصٌ على اثنين أنّ أحدهما استقرض منه مبلغاً ، وأنّ الثّاني قد كفله ، فاعترف الكفيل وأنكر الآخر ، وعجز المدّعي عن إثبات دعواه ، يؤخذ المبلغ من الكفيل ، لأنّ المرء مؤاخذٌ بإقراره . وكذا لو أقرّ شخصٌ لمجهول النّسب أنّه أخوه ، وأنكر الأب ، ولا بيّنة ، يؤاخذ المقرّ بإقراره ، فيقاسمه المقرّ له حصّته من الميراث ، ولا تثبت الأبوّة .
ب - إذا سقط الأصل سقط الفرع ( م 50 ) ولا يلزم من سقوط الفرع سقوط الأصل . فلو أبرأ الدّائن المدين برئ الكفيل أيضاً ، وسقط الرّهن إن كان الدّين موثّقاً بكفيلٍ أو رهنٍ . بخلاف ما لو أبرأ الدّائن الكفيل ، أو ردّ الرّهن ، فإنّ الدّين لا يسقط .
خ - الأصل بمعنى المبدل منه :
11 - وذلك كما في إحدى قواعد المجلّة ونصّها : ( إذا تعذّر الأصل يصار إلى البدل )( م 53 ) ومثاله : يجب ردّ عين المغصوب ما دامت قائمةً ، فإذا هلكت يردّ بدلها من مثلها أو قيمتها . وإذا تعذّر ردّ المبيع المعيب لمانعٍ شرعيٍّ ، كما لو كان المبيع ثوباً فصبغه المشتري ، ثمّ ظهر فيه عيبٌ قديمٌ ، يستردّ المشتري من البائع فرق نقصان العيب . لكن إذا وجدت القدرة على الأصل قبل استيفاء المقصود من البدل ينتقل الحكم إلى الأصل ، كالمعتدّة بالأشهر بدلاً عن الحيض ، فلو حاضت في أثناء ذلك يرجع الحكم إلى الأصل ، فتعتدّ بالحيض ، وكالمتيمّم إذا وجد الماء خلال صلاته يلزمه التّوضّؤ لها .
د - الأصل في القياس :
12 - الأصل أحد أركان القياس الأربعة ، وهي : الأصل والفرع والعلّة والحكم . فمن قاس الذّرة على البرّ في جريان الرّبا فيه ، بجامع الكيل في كلٍّ منهما ، فإنّ البرّ في هذا القياس هو الأصل ، والذّرة فرعٌ ، والكيل العلّة ، وتحريم الرّبا هو الحكم . ويرجع في تفصيل ذلك إلى مباحث القياس من الكتب الأصوليّة ، وإلى الملحق الأصوليّ .
ر - الأصول بمعنى الدّور والأشجار في مقابل المنفعة والثّمرة :
13 - يتحدّث الفقهاء عن بيع الأصل دون الثّمرة ، والثّمرة دون الأصل ، وبيع الأصل بشرط أن تكون معه الثّمرة . فيذكرون أنّه إن باع النّخل مثلاً ، ولم ينصّا على الثّمرة لمن تكون ، فإنّها بعد التّأبير للبائع عند الجمهور متروكةٌ إلى الجذاذ ، وكذا سائر الشّجر سوى النّخل ، إذا بيع بعد أن تفتّحت أكمامه أو ظهرت الثّمرة . وفي ذلك خلافٌ وتفصيلٌ يذكره الفقهاء ضمن ( باب بيع الأصول والثّمار ) من كتاب البيع .
ز - أصل المسألة :
أصل المسألة عند الفقهاء والأصوليّين :
14 - يطلق الفقهاء لفظ " أصل المسألة " على القاعدة الفقهيّة المستنبطة من القرآن والسّنّة ، والّتي تشهد لها الفروع بالصّحّة ، كما سبق . كما يطلقونه في الميراث على أقلّ عددٍ يخرج منه فرض المسألة أو فروضها . ويعرف أصل المسألة في الميراث بالنّظر في مخارج فروض الورثة المستحقّين للميراث : فإن كان في المسألة وارثٌ واحدٌ فأصل المسألة من مخرج فرضه . وإن كان في المسألة أكثر من وارثٍ ، ولكنّ مخارج فرائض جميع الورثة من مضاعفات مخرج النّصف فقط ، أو من مضاعفات مخرج الثّلث فقط ، فأصل المسألة يكون أكبر مخرجٍ من هذه الفرائض . كما إذا اجتمع في المسألة 2 / 1 ( نصفٌ ) و 4 / 1 ( ربعٌ ) و 8 / 1 ( ثمنٌ ) فأصل المسألة من ( 8 ) لأنّه أكبر هذه المخارج . وكما إذا اجتمع 3 / 1 ( ثلثٌ ) ، 3 / 2 ( ثلثان ) ، 6 / 1 ( سدسٌ ) فأصل المسألة من ( 6 ) ، لأنّه أكبر هذه المخارج . أمّا إذا اجتمع في المسألة ما كان مخرجه 2 / 1 ( نصفٌ ) أو مضاعفاته ، مع ما كان مخرجه 3 / 1 ( ثلثٌ ) أو مضاعفاته فينظر : فإن كان في المسألة 2 / 1 ( نصفٌ ) و 3 / 1 ( ثلثٌ ) فأصل المسألة من ( 6 ) وإن كان في المسألة 4 / 1 ( ربعٌ ) و 3 / 1 ( ثلثٌ ) فأصل المسألة من ( 12 ) وإن كان في المسألة 8 / 1 ( ثمنٌ ) و 6 / 1 ( سدسٌ ) فأصل المسألة من ( 24 ) وتفصيل ذلك كلّه موجودٌ في الإرث عند بحث ( أصول المسائل ) .
س- تغيّر أصول المسائل :
15 - هذه الأصول قد يحدث أن تكون صالحةً للقسمة على المستحقّين ، وقد لا تكون صالحةً ، وعندئذٍ تحتاج إلى تصحيحٍ بالزّيادة عليها ، أو الإنقاص منها أو إجراء إصلاحٍ عليها .
أ - تكون الزّيادة عليها إذا زادت سهام المستحقّين على أصل المسألة ، وعندئذٍ يقال : إنّ المسألة قد عالت ( ر : عولٌ ) .
ب - ويكون الإنقاص منها إذا نقصت سهام المستحقّين عن عدد سهام أصل المسألة ، وعندئذٍ يقال : إنّ المسألة ردّيّةٌ ( ر : ردٌّ ) .
ج - ويكون الإصلاح بتغييرٍ يطرأ على الشّكل لا على القيمة ، وذلك في حالاتٍ :
الحالة الأولى : إذا كانت الحصّة الخارجة من أصل المسألة لبعض الورثة غير صالحةٍ للقسمة عليهم بغير كسرٍ ، وعندئذٍ يضطرّ لإجراء الإصلاح لإزالة الكسر ، ويسمّى هذا الإصلاح ب( تصحيح المسائل ) .
الحالة الثّانية : إذا اضطرّ لتقسيم التّركة باعتبارين ، لإعطاء الورثة الأقلّ من الحظّين - كما في حالة وجود حملٍ في بطن زوجة الميّت حين وفاته - حيث تحسب المسألة مرّتين : الأولى يفرض فيها الحمل ذكراً ، والثّانية يفرض فيها الحمل أنثى ، ثمّ يجري إصلاحٌ على أصلي المسألتين ، بصنع المسألة الجامعة ، كما هو مفصّلٌ في كتب المواريث في مبحث ( إرث الحمل ) .
الحالة الثّالثة : إذا اتّفق الورثة مع أحدهم على إخراجه من البيّن على مبلغٍ يؤدّونه إليه ، اقتسام حصّته فيما بينهم ، وهذا ما يعرف ب ( التّخارج ) ( ر : تخارجٌ ) .
الحالة الرّابعة : إذا توفّي رجلٌ ولم يقسم ميراثه إلاّ بعد وفاة بعض الورثة ، وكان لهذا الميّت الثّاني ورثةٌ ، وهو ما يسمّى بالمناسخة ( ر : مناسخةٌ ) . وكلّ ذلك مبسوطٌ بالتّفصيل في كتب المواريث .
ش - الأصل في باب الرّواية :
16 - الأصل عند رواة الأحاديث ونقلة الأخبار هو : الشّيخ المرويّ عنه ، في مقابلة " الفرع " وهو : الرّاوي عن ذلك الشّيخ . ويقال مثل ذلك في نسخ الكتب ، فالأصل هو النّسخة المنقول منها ، والفرع النّسخة المنقولة . هذا ويذكر الأصوليّون أنّ الأصل إذا كذّب الفرع في روايته عنه سقط الحديث المرويّ اتّفاقاً ، لانتفاء صدقهما معاً في هذا الحديث ، إذ يشترط للصّحّة صدقهما جميعاً . وبفوات ذلك تفوت الحجّيّة . فقد أورث هذا التّكذيب ريبةً قويّةً لا حجّيّة بعدها . لكن لو قال الأصل : ( لا أدري ) أي لم يكذّب الفرع صريحاً ، فالأكثر قالوا : يبقى المرويّ حجّةً ولا تسقط بذلك حجّيّته ، خلافاً للكرخيّ وأبي زيدٍ ، وللإمام أحمد روايتان . وينظر تمام البحث في الملحق الأصوليّ ، وباب السّنّة من كتب الأصول .
ص - أصول العلوم :
17 - كثيراً ما يضاف لفظ ( الأصول ) إلى أسماء العلوم ، ويراد به حينئذٍ القواعد العامّة الّتي يتبعها أصحاب ذلك العلم في دراسته ، والّتي تحكم طرق البحث والاستنباط في ذلك العلم . وقد تكون تلك الأصول علماً مستقلاًّ .
فمن ذلك أصول التّفسير ، وأصول الحديث ، وأصول الفقه .
أمّا ( أصول الدّين ) - ويسمّى أيضاً علم العقائد ، وعلم الكلام ، والفقه الأكبر - فليس من هذا الباب ، بل هو - كما قال صاحب كشف الظّنون - : ( علمٌ يقتدر به على إثبات العقائد الدّينيّة بإيراد الحجج عليها ، ودفع الشّبه عنها ) . وسمّي أصولاً لا من حيث إنّه قواعد استنباطٍ ودراسةٍ ، بل من حيث إنّ الدّين يبتني عليه ، فإنّ الإيمان باللّه تعالى أساس الإسلام بفروعه المختلفة .
أ - أصول التّفسير :
18 - علم أصول التّفسير : مجموعة القواعد الّتي ينبغي أن يسير عليها المفسّرون في فهم المعاني القرآنيّة ، وتعرّف العبر والأحكام من الآيات . أو - على ما يفهم من كلام ابن تيميّة - هو قواعد كلّيّةٌ تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه ، وعلى التّمييز في ذلك بين الحقّ والباطل .
ب - أصول الحديث :
19 - ويسمّى أيضاً ( علوم الحديث ) ( ومصطلح الحديث ) وعلم ( دراية الحديث ) وعلم ( الإسناد ) . وهو مجموعة القواعد العامّة الّتي يعرف بها صحيح الحديث من سقيمه ، ومقبوله من مردوده ، وذلك بمعرفة أحوال الحديث سنداً ومتناً ، لفظاً ومعنًى ، وما يتبع ذلك من كيفيّة تحمّل الحديث وكتابته وآداب رواته وطالبيه .
ت - أصول الفقه :
20 - وهو علمٌ يتعرّف منه كيفيّة استنباط الأحكام الشّرعيّة الفرعيّة من أدلّتها التّفصيليّة . وموضوع علم أصول الفقه الأدلّة الشّرعيّة الكلّيّة من حيث كيفيّة استنباط الأحكام الشّرعيّة الفرعيّة منها ، ومبادئه مأخوذةٌ من العربيّة وبعض العلوم الشّرعيّة كعلم الكلام والتّفسير والحديث ، وبعض العلوم العقليّة . والغرض منه تحصيل ملكة استنباط الأحكام الشّرعيّة الفرعيّة من أدلّتها الأربعة : الكتاب والسّنّة والإجماع والقياس . وفائدته استنباط تلك الأحكام على وجه الصّحّة . والدّاعي إلى وضعه : أنّهم نظروا في تفاصيل الأحكام والأدلّة وعمومها ، فوجدوا الأدلّة راجعةً إلى الكتاب والسّنّة والإجماع والقياس ، ووجدوا الأحكام راجعةً إلى الوجوب والنّدب والإباحة والكراهة والحرمة ، وتأمّلوا في كيفيّة الاستدلال بتلك الأدلّة على تلك الأحكام إجمالاً من غير نظرٍ إلى تفاصيلها إلاّ على سبيل التّمثيل . فحصل لهم قضايا كلّيّةٌ متعلّقةٌ بكيفيّة الاستدلال بتلك الأدلّة على الأحكام إجمالاً ، وبيان طرقه وشرائطه ، ليتوصّل بكلٍّ من تلك القضايا إلى استنباط كثيرٍ من الأحكام الجزئيّة من أدلّتها التّفصيليّة ، فضبطوها ودوّنوها وأضافوا إليها من اللّواحق ، وسمّوا العلم المتعلّق بها أصول الفقه . وأوّل من صنّف فيه الإمام الشّافعيّ رضي الله عنه . والفرق بين الفقه وأصول الفقه : أنّ الفقه معرفة الأحكام العمليّة المستمدّة من الأدلّة التّفصيليّة . فقولهم الصّلاة واجبةٌ لقوله تعالى : { وأقيموا الصّلاة } ، والأمر للوجوب ، يشتمل على حكمين : أحدهما فقهيٌّ ، والآخر أصوليٌّ أمّا قولهم : الصّلاة واجبةٌ ، فهي مسألةٌ فقهيّةٌ .
وأمّا قولهم : الأمر للوجوب ، فهو قاعدةٌ أصوليّةٌ .
أصل المسألة*
انظر : أصلٌ .
إصلاحٌ *
التعريف :
1 - الإصلاح لغةً : نقيض الإفساد ، والإصلاح : التّغيير إلى استقامة الحال على ما تدعو إليه الحكمة . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى . ومن هذا التعريف يتبيّن أنّ كلمة ( إصلاحٌ ) تطلق على ما هو مادّيٌّ ، وعلى ما هو معنويٌّ ، فيقال : أصلحت العمامة ، وأصلحت بين المتخاصمين .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّرميم :
2 - تطلق كلمة ترميمٍ على إصلاح نحو الحبل والدّار إذا فسد بعضها . وهي أمورٌ مادّيّةٌ محضةٌ . وإن أطلقت كلمة ( ترميمٌ ) على ما هو معنويٌّ فهو إطلاقٌ مجازيٌّ ، يقال : ( أحيا رميم الأخلاق ) من باب المجاز . فالفرق بينهما أنّ الإصلاح أعمّ ، لأنّه يطلق حقيقةً على المادّيّ والمعنويّ ، ويكون في الغالب شاملاً ، في حين أنّ التّرميم جزئيٌّ في الغالب .
ب - الإرشاد :
3 - الإرشاد في اللّغة : الدّلالة ، ويستعمله الفقهاء بمعنى الدّلالة على الخير والمصلحة ، سواءٌ أكانت دنيويّةً أم أخرويّةً . ويطلق لفظ الإرشاد على التّبيين ، ولا يلزم أن يلازم التّبيّن الإصلاح ، في حين أنّ الإصلاح يتضمّن حصول الصّلاح .
ما يدخله الإصلاح وما لا يدخله :
4 - التّصرّفات على ، نوعين :
أ - تصرّفاتٌ هي حقوق اللّه تعالى ، وهذه التّصرّفات إذا طرأ الخلل على شرطٍ من شروطها ، أو ركنٍ من أركانها فإنّها لا يلحقها إصلاحٌ ألبتّة ، كما إذا ترك المصلّي قراءة القرآن في صلاته ، وترك الحاجّ الوقوف في عرفاتٍ ، فإنّه لا سبيل لإصلاح هذه الصّلاة ولا ذلك الحجّ ، كما هو مبيّنٌ في كتابي الصّلاة والحجّ من كتب الفقه . أمّا إذا طرأ الخلل على غير ذلك فيها ، فإنّها يلحقها الإصلاح ، كإصلاح الصّلاة بسجود السّهو ، وإصلاح الحجّ بالدّم في حال حدوث مخالفةٍ من مخالفات الإحرام مثلاً ، ونحو ذلك .
ب - وتصرّفاتٌ هي حقوق العباد ، وهي على نوعين :
1 - تصرّفاتٌ غير عقديّةٍ ، كالإتلاف ، والقذف ، والغصب ، ونحو ذلك . وهذه إذا وقعت لا يلحقها إصلاحٌ ألبتّة ، ولكن ذلك لا يمنع من أن يلحق الإصلاح الآثار المترتّبة عليها ، وعلى هذا فإنّه إذا كان الضّرر من آثار الإتلاف مثلاً ، فإنّ الضّرر يرفع بالضّمان ، كما سيأتي .
2 - تصرّفاتٌ عقديّةٌ : وهذه التّصرّفات إن كان الخلل طارئاً على أحد أركانها ، حتّى يصبح العقد غير مشروعٍ بأصله ولا بوصفه ، فإنّه لا يلحقه إصلاحٌ ، كما هو مبيّنٌ في مصطلح ( بطلانٌ ) . أمّا إن كان الخلل طارئاً على الوصف دون الأصل ، فإنّ الحنفيّة يقولون بلحاق الإصلاح هذا العقد ، ويخالفهم الجمهور في ذلك ، كما يأتي في مصطلح ( فسادٌ ) .
الحكم الإجماليّ للإصلاح :
5 - من استقراء كلام الفقهاء يتبيّن أنّ أقلّ درجات الإصلاح النّدب ، كإصلاح المالك الشّيء المعار لاستمرار الانتفاع بالعاريّة ، كما هو مبيّنٌ في كتاب العاريّة من كتب الفقه . وقد يكون الإصلاح واجباً ، كما هو الحال في سجود السّهو الواجب لإصلاح الخلل الّذي وقع في الصّلاة ، كما هو مبيّنٌ في كتاب الصّلاة ، باب سجود السّهو ، وفي ضمان المتلفات ، كما هو مبيّنٌ في كتاب الضّمان من كتب الفقه ، والإصلاح بين الفئتين الباغيتين . كما ذكر ذلك الفقهاء والمفسّرون في تفسير قوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } .
وسائل الإصلاح ومواطن البحث :
6 - من استقراء الأحكام الفقهيّة يتبيّن أنّ الإصلاح يتمّ بوسائل عديدةٍ منها :
أ - إكمال النّقص ، فمن ترك شيئاً من أعضاء الوضوء دون أن يمسّه الماء يصلح وضوءه بغسل ذلك الجزء المتروك بالماء ، بشروطٍ ذكرها الفقهاء في الوضوء ، ومثل ذلك الغسل . ومن ذلك وجوب إصلاح الشّيء المستأجر على المؤجّر ، إن كان ذلك الخلل أو النّقص ممّا تتعطّل به المنافع ، كما بيّن ذلك الفقهاء في كتاب الإجارة .
ب - التّعويض عن الضّرر : ويتمثّل ذلك في وجوب الدّية على الجنايات ، كما بيّن ذلك الفقهاء في كتاب الدّيات ، وفي ضمان الإتلافات في كتاب الضّمان ، وكما سبق في مصطلح ( إتلافٌ ) .
ت - الزّكوات :
كزكاة المال الّتي هي طهرةٌ للمزكّي وكفايةٌ للفقير ، وزكاة الفطر الّتي هي طهرةٌ للصّائم وكفايةٌ للفقير .
ث - العقوبات :
من حدودٍ وقصاصٍ وتعزيراتٍ وتأديبٍ ، وكلّها شرعت لتكون وسيلة إصلاحٍ ، قال تعالى : { ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب } .
ج - الكفّارات :
فإنّها شرعت لإصلاح خللٍ في تصرّفاتٍ خاصّةٍ ، ككفّارة اليمين ، والظّهار ، والقتل الخطأ ، ونحو ذلك ، كما هو معروفٌ في أبوابه . ومنع التّصرّف بنزع اليد لإيقاف الضّرر : وإيقاف الضّرر يعني الإصلاح . ونزع اليد يكون إصلاحاً في أحوالٍ منها : عزل القاضي ، الّذي لا يحسن القضاء ، وإنهاء حضانة الأمّ إذا تزوّجت ، والحجر على ، السّفيه ، ونحو ذلك كما هو مبيّنٌ في أبوابه من كتب الفقه .
ح - الولاية والوصاية والحضانة :
وهي ما شرعت إلاّ لإصلاح المولى عليه ، أو إصلاح ماله ، كما هو مبيّنٌ في كتاب النّكاح ، وفي الحجر ، وفي الحضانة من كتب الفقه .
خ - الوعظ :
كوعظ الزّوجة الّتي يخاف نشوزها ، قال تعالى : { واللاّتي تخافون نشوزهنّ فعظوهنّ ... } الآية . ويذكر الفقهاء ذلك في كتاب النّكاح باب العشرة ، وكالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عموماً ، وتفصيل ذلك في أبواب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في كتب الآداب الشّرعيّة .
د - التّوبة :
وهي تصلح شأن الإنسان ، وتمحو الذّنب الّذي ارتكبه ، وتفصيل الكلام عنها في باب القذف ، وفي كتب الآداب الشّرعيّة .
ذ - إحياء الموات :
ويتمّ إصلاح الأرض بإحياء الموات فيها ، كما هو مفصّلٌ في كتاب إحياء الموات في كتب الفقه . وفي الجملة : كلّ ما يؤدّي إلى الكفّ عن المعاصي ، أو إلى فعل الخير ، فهو إصلاحٌ .
أصمّ *
التعريف :
1 - الأصمّ : من به صممٌ ، والصّمم : فقدان السّمع ، ويأتي وصفاً للأذن وللشّخص ، فيقال : رجلٌ أصمّ ، وامرأةٌ صمّاء ، وأذنٌ صمّاء ، والجمع صمٌّ . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ .
الحكم الإجماليّ :
يتعلّق بالأصمّ أو الصّمّاء عدّة أحكامٍ أهمّها ما يلي :
في العبادات :
2 - هل يجتزأ بالصّمّ في العدد المشروط لسماع خطبة الجمعة ؟ على اختلاف المذاهب ، فالجمهور على أنّه يجتزأ بهم ، خلافاً للشّافعيّة حيث اشترطوا ألاّ يكون في الحدّ الأدنى من هو أصمّ ، ويجتزئ الحنابلة بهم إن لم يكونوا كلّهم كذلك . ويرى الحنابلة والشّافعيّة صحّة الصّلاة خلف الأصمّ ، وإمامته صحيحةٌ . ولا ينبغي ذلك عند المالكيّة بالنّسبة للإمام الرّاتب ، لأنّه قد يسهو فيسبّح له فلا يسمع ، فيكون ذلك سبباً لإفساد الصّلاة .
في المعاملات :
أ - قضاء الأصمّ وشهادته :
3 - لا يجوز أن يتولّى الأصمّ القضاء ، وإذا ولّي يجب عزله ، لأنّ في توليته ضياع حقوق النّاس ، وهذا باتّفاقٍ . أمّا شهادته فما يتّصل بالسّمع كالأقوال فلا تقبل شهادته فيه ، وأمّا ما يراه من الأفعال كالأكل والضّرب ، فهذا تقبل شهادته فيه .
ب - الجناية على السّمع :
4 - تجب الدّية بذهاب منفعة السّمع بسبب الجناية عليه ، لحديث : « وفي السّمع الدّية» ، ولأنّ عمر رضي الله عنه قضى في رجلٍ ضرب رجلاً ، فذهب سمعه وبصره ونكاحه وعقله ، بأربع دياتٍ والرّجل حيٌّ . هذا مع اختلاف الفقهاء بين القصاص وعدمه .
مواطن البحث :
5 - يتعلّق بالأصمّ أحكامٌ متعدّدةٌ ، مثل حكم سجود التّلاوة بالنّسبة للأصمّ ، سواءٌ كان تالياً أو مستمعاً ، ومثل عقود الأصمّ ، من نكاحٍ وبيعٍ وغير ذلك ، وتنظر في مواضعها .
أصيلٌ *
التعريف :
1 - الأصيل في اللّغة مشتقٌّ من أصلٍ ، وأصل الشّيء أساسه وما يستند وجود ذلك الشّيء إليه ، ويطلق الأصيل على الأصل . ويأتي بمعنى الوقت بعد العصر إلى غروب الشّمس . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذين المعنيين اللّغويّين ، فيطلقونه في الكفالة والحوالة على المطالب ابتداءً بالحقّ ، وفي الوكالة على من يملك التّصرّف ابتداءً .
الحكم الإجماليّ :
2 - يختلف الحكم تبعاً للاستعمالات الفقهيّة ، فالحوالة توجب براءة الأصيل عند جمهور الفقهاء لأنّ معناها نقل الحقّ ، وذلك لا يتحقّق إلاّ بفراغ ذمّة الأصيل ، وأمّا الكفالة فلا توجب براءة الأصيل ، لأنّ معناها ضمّ ذمّةٍ إلى ذمّةٍ في المطالبة ، وأمّا الوكالة ففيها حلول الوكيل محلّ الأصيل في الجملة ، وتفصيل كلّ من ذلك في بابه .
أضاحي*
انظر : أضحيّةٌ .
إضافةٌ *
التعريف :
1 - الإضافة : مصدرٌ فعله أضاف ، على وزن أفعل . ومن معاني الإضافة في اللّغة : ضمّ الشّيء إلى الشّيء ، أو إسناده أو نسبته . والإضافة عند النّحاة : ضمّ اسمٍ إلى اسمٍ على وجهٍ يفيد تعريفاً أو تخصيصاً . والإضافة عند الحكماء هي : نسبةٌ متكرّرةٌ ، بحيث لا تعقل إحداهما إلاّ مع الأخرى ، كالأبوّة والبنوّة . أمّا الإضافة في اصطلاح الفقهاء : فلا تخرج في معناها عن المعاني اللّغويّة السّابقة ، وهي الإسناد والنّسبة وضمّ الشّيء إلى الشّيء .
2 - ويقصد بإضافة الحكم إلى الزّمن المستقبل إرجاء آثار التّصرّف إلى الزّمن المستقبل الّذي حدّده المتصرّف ، فالإضافة تؤخّر ترتّب الحكم على السّبب إلى الوقت الّذي أضيف إليه السّبب ، فيتحقّق السّبب المضاف قبل تحقّق الوقت الّذي أضيف إليه بلا مانعٍ . وعدم المانع وهو التّكلّم بالسّبب بلا تعليقٍ يقتضي تحقّقه ، غاية الأمر أنّه يترتّب على الإضافة تأخير الحكم المسبّب إلى وجود الوقت المعيّن الّذي هو كائنٌ لا محالة ، إذ الزّمان من لوازم الوجود الخارجيّ ، فالإضافة إليه إضافةٌ إلى ما قطع بوجوده ، وفي مثله يكون الغرض من الإضافة تحقيق المضاف إليه . وإذا كانت الإضافة بمعنى الضّمّ فإنّها حينئذٍ تكون بمعنى الزّيادة ، فتحال أحكامها حينئذٍ إلى مصطلح ( زيادةٌ ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّعليق :
3 - التّعليق عند الفقهاء ربط حصول مضمون جملةٍ بحصول مضمون جملةٍ أخرى . وبعض صور التّعليق تسمّى يميناً مجازاً . هذا ، وقد ذكر ابن نجيمٍ في فتح الغفّار الفرق من وجهين بين التّعليق والإضافة الّتي بمعنى إسناد الحكم إلى زمنٍ آخر ، ولكن لم يسلم واحدٌ منهما من الاعتراض .
أحدهما : أنّ التّعليق يمينٌ ، وهي إذا كان المقصود بها البرّ أفادت انتفاء المعلّق ، ولا يفضي إلى الحكم ، أمّا الإضافة فهي لثبوت حكم السّبب في وقته ، لا لمنعه ، فيتحقّق السّبب بلا مانعٍ . إذ الزّمان من لوازم الوجود .
والفرق الثّاني : أنّ الشّرط على خطر ( احتمال الوجود والعدم ) ولا خطر في الإضافة . ويرجع إلى كتب الأصول للاعتراضات على هذين الفرقين ، والأجوبة عنها .
ب - التّقييد :
4 - التّقييد في العقود هو : التزام حكمٍ في التّصرّف القوليّ ، لا يستلزمه ذلك التّصرّف في حال إطلاقه .
ج - الاستثناء :
5 - الاستثناء : قولٌ ذو صيغٍ مخصوصةٍ محصورةٍ ، دالٌّ على أنّ المذكور فيه لم يردّ بالقول الأوّل . والفرق بينه وبين الإضافة : أنّ الحكم في الاستثناء يثبت في الحال ، فلو قال المقرّ : لفلانٍ عليّ عشرةٌ إلاّ ثلاثاً فإنّه يكون مقرّاً بسبعٍ ، بخلاف الإضافة ، فإنّ الحكم فيها لا يثبت إلاّ عند وجود الزّمن الّذي أضيف إليه الحكم ، كما لو قال : أنت طالقٌ أوّل الشّهر ، فإنّها لا تطلق إلاّ إذا جاء رأس الشّهر . أمّا الاستثناء فإنّ تأخير المستثنى عن المستثنى منه ( أي الفصل ) لغير عذرٍ يبطله .
د - التّوقّف :
6 - المراد بالتّوقّف هنا : عدم نفاذ حكم التّصرّف الصّادر من ذي أهليّةٍ لكن لا ولاية له فيه . وهو إنّما يكون في العقود القابلة له ، كالبيع والإجارة والنّكاح ، فإذا باع الفضوليّ أو اشترى فعند القائلين بصحّة تصرّفه يكون العقد موقوفاً ، لا ينفذ إلاّ بعد إجازة المالك في البيع ، والمشتري له في الشّراء . هذا ، وإنّ بين العقود المضافة والعقود الموقوفة شبهاً وفرقاً ، فأمّا الشّبه : فهو أنّ كلاًّ منهما يوجد عند وجود الصّيغة ، مع تأخّر الحكم إلى الزّمن الّذي أضيف إليه في العقد المضاف ، أو إلى إجازة المالك في العقد الموقوف . وأمّا الفرق فمن ثلاثة أوجهٍ :
أوّلها : أنّ تراخي الحكم عن الصّيغة في العقد المضاف نشأ من الصّيغة نفسها ، لأنّ الإيجاب فيها مضافٌ إلى زمنٍ مستقبلٍ ، أمّا تراخي الحكم في العقد الموقوف فليس مرجعه الصّيغة ، لأنّها منجّزةٌ ، وإنّما مرجعه صدور التّصرّف ممّن لا ولاية له في العقد .
ثانيها : أنّ الحكم في العقد الموقوف ينفّذ بعد الإجازة مستنداً إلى وقت صدور التّصرّف ، لأنّ الإجازة اللاّحقة فيه كالإذن السّابق . بخلاف العقد المضاف ، فإنّ الحكم فيه لا يثبت إلاّ عند مجيء الزّمن الّذي أضيف إليه الحكم .
ثالثها : أنّ العقد المضاف يترتّب عليه الحكم في الزّمن الّذي أضيف إليه الإيجاب ، ما دام صحيحاً . بخلاف العقد الموقوف ، فإنّه متردّدٌ بين الإجازة والرّدّ فيما إذا لم يجزه من له الولاية . فبيع الفضوليّ مثلاً لا ينفذ إذا لم يجزه المالك .
هـ - التّعيين :
7 - التّعيين معناه : التّحديد والاختيار ، فمن طلّق إحدى نسائه ، ولم يعيّن المطلّقة منهنّ ، فإنّه يلزمه التّعيين عند المطالبة به . فلو قال عند التّعيين : هذه المطلّقة وهذه ، أو بل هذه ، أو ثمّ هذه ، تعيّنت الأولى ، لأنّ التّعيين إنشاء اختيارٍ ، لا إخبارٌ عن سابقٍ ، والبيان عكسه ، فهناك شبهٌ بين التّعيين والإضافة من حيث تراخي حكم التّصرّف إلى التّعيين ، أو الزّمن المضاف إليه . والتّعيين يأتي في خصال كفّارة اليمين فإنّ من حنث ، فخيّر في الكفّارة بين الإعتاق والإطعام والكسوة ، فلا ينتقل إلى الصّوم إلاّ بعد عدم القدرة على خصلةٍ من تلك الخصال الثّلاثة . وعند القدرة على خصلةٍ منها يلزمه أن يعيّنها .
شروط الإضافة :
8 - يشترط لصحّة الإضافة ثلاثة شروطٍ :
الأوّل : صدورها من أهلها ، وهو شرطٌ مشتركٌ في جميع العقود والتّصرّفات .
الثّاني : مقارنتها للعقد أو التّصرّف .
الثّالث : مصادفتها محلّها المشروع من العقود وغيرها . وسيأتي تفصيل هذين الشّرطين .
أنواع الإضافة :
9 - الإضافة نوعان : أحدهما : الإضافة إلى الوقت .
وثانيهما : الإضافة إلى الشّخص . ومعنى الإضافة إلى الوقت : تأخير الآثار المترتّبة على العقد إلى حلول الوقت الّذي أضيف إليه ذلك العقد ، فإنّ من العقود ما يقبل الإضافة إلى الوقت ، ومنها ما لا يقبل . ومعنى الإضافة إلى الشّخص ، أن ينسب حكم التّصرّف إلى شخصٍ معلومٍ .
النّوع الأوّل الإضافة إلى الوقت
10 - الإضافة تتبع طبيعة التّصرّفات ، ومن التّصرّفات ما يضاف إلى الوقت ، ومنها ما لا يضاف إليه . فالتّصرّفات الّتي تصحّ إضافتها إلى الوقت هي : الطّلاق ، وتفويضه ، والخلع ، والإيلاء ، والظّهار ، واليمين ، والنّذر ، والعتق ، والإجارة ، والمعاملة ، والإيصاء ، والوصيّة ، والقضاء ، والمضاربة ، والكفالة ، والوقف ، والمزارعة ، والوكالة . وهناك تصرّفاتٌ لا تصحّ إضافتها إلى الوقت كالنّكاح ، والبيع ، وغيرهما .
التّصرّفات الّتي تقبل الإضافة إلى الوقت : الطّلاق :
11 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه إن أضاف الطّلاق إلى الماضي وقع في الحال . وللشّافعيّة قولٌ ضعيفٌ أنّه يلغو . وذهب الحنابلة إلى وقوع الطّلاق إن نواه ، وإلاّ فهو لغوٌ . أمّا إضافة الطّلاق إلى الزّمان المستقبل فالجمهور على وقوعه في أوّل الوقت الّذي أضيف إليه . وقال المالكيّة : إذا أضيف إلى وقتٍ محقّق الوقوع وقع في الحال ، لأنّ إضافة الطّلاق إلى الزّمن المستقبل أو المحقّق مجيئه تجعل النّكاح مؤقّتاً ، فحينئذٍ يشبه نكاح المتعة ، وهو حرامٌ ، فينجّز الطّلاق .
إضافة تفويض الطّلاق للمستقبل :
12 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وهو قولٌ قديمٌ للشّافعيّة ( بناءً على قولٍ بعدم اشتراط الفوريّة في تفويض الطّلاق إلى المرأة ، وأنّه بمعنى التّوكيل ) إلى أنّه يجوز إضافة تفويض الطّلاق إلى الزّمن المستقبل . والقول الجديد عند الشّافعيّة أنّه يشترط فيه الفوريّة ، فلا يحتمل الإضافة إلى الوقت بناءً على أنّ التّفويض بمعنى التّمليك .
إضافة الخلع إلى الوقت :
13 - اتّفق العلماء على جواز إضافة الخلع إلى الوقت . فإن طلّقها قبل الوقت ، وكان يراد به التّعجيل وقع الطّلاق بائناً ، واستحقّ الزّوج العوض المتّفق عليه . وأمّا إذا طلّق بعد مضيّ الوقت الّذي أضيف إليه الخلع فإنّه يقع الطّلاق ، ولا شيء للزّوج . وللفقهاء تفصيلٌ في كون هذا الطّلاق رجعيّاً أو بائناً ، ينظر في مصطلح ( خلعٌ ) .
إضافة الإيلاء إلى الوقت :
14 - الإيلاء يقبل الإضافة إلى الوقت عند جمهور الفقهاء ، لأنّ الإيلاء يمينٌ ، واليمين يحتمل التّعليق بالشّرط والإضافة إلى الوقت .
إضافة الظّهار إلى الوقت :
15 - مذهب الحنفيّة والحنابلة ، وعلى قولٍ ضعيفٍ عند المالكيّة ، أنّه يصحّ إضافة الظّهار إلى الوقت . والرّاجح عند المالكيّة أنّه لا يصحّ إضافته إلى الوقت . ولم نجد للشّافعيّة رأياً في هذه المسألة .
إضافة اليمين إلى الوقت :
16 - اتّفق الفقهاء على أنّ اليمين يجوز إضافتها إلى الوقت ، مع تفصيلٍ ذكروه في كتبهم . وينظر في مصطلح ( أيمانٌ ) .
إضافة النّذر إلى الوقت :
17 - اتّفق الفقهاء على جواز إضافة النّذر إلى وقتٍ مستقبلٍ ، كأن يقول : للّه عليّ أن أصوم شهر رجبٍ ، أو أصلّي ركعتين يوم كذا ، على تفصيلٍ ينظر في ( باب النّذر ) .
إضافة الإجارة إلى الوقت :
18 - ذهب الفقهاء إلى جواز إضافة الإجارة إلى الزّمن المستقبل في الجملة . وتفصيل ذلك في مصطلح ( إجارةٌ ) .
إضافة المضاربة إلى المستقبل :
19 - أجاز الحنفيّة إضافة المضاربة إلى الوقت ، وهو الصّحيح عند الحنابلة . وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى عدم الجواز . وتفصيله في مصطلح ( مضاربةٌ ) .
إضافة الكفالة :
20 - أجاز الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إضافة الكفالة ، سواءٌ أكانت في المال أم في البدن ، لأنّها تبرّعٌ من غير عوضٍ ، وضرب أجلٍ لها لا يخلّ بالمقصود ، فصحّت كالنّذر . وعند الشّافعيّة لا تجوز إضافتها أو تعليقها إن كانت في المال اتّفاقاً ، وكذلك في البدن على الأصحّ ، ومقابل الأصحّ عندهم أنّها تجوز وتفصيل آراء الفقهاء في ذلك في مصطلح ( كفالةٌ ) . إضافة الوقف :
21 - يجوز عند الحنفيّة والمالكيّة إضافة الوقف إلى الوقت . والشّافعيّة والحنابلة يجيزون إضافته ، إلاّ أنّ الظّاهر عند الشّافعيّة أنّهم يجيزون إضافة الوقف إذا أشبه التّحرير ، كما لو جعل داره مسجداً إذا جاء رمضان ، حيث جعلها محرّرةً من كلّ ملكٍ إلاّ للّه عزّ وجلّ .
إضافة المزارعة والمعاملة :
22 - يرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ إضافة المعاملة ( المساقاة ) إلى المستقبل جائزةٌ . وأمّا المزارعة ، فالحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة يرون قبولها الإضافة . لأنّ المزارعة والمعاملة عندهم في معنى الإجارة ، والإجارة تصحّ إضافتها إلى الوقت فكذلك المزارعة والمعاملة . ولم يتعرّض المالكيّة إلى ذكر المدّة فيها . وصرّح الحنابلة بأنّ المزارعة والمساقاة لا يفتقران للتّصريح بمدّةٍ يحصل الكمال فيها ، بل لو زارعه أو ساقاه دون أن يذكر مدّةً جاز ، لأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم لم يضرب لأهل خيبر مدّةً .
إضافة الوصيّة والإيصاء إلى الوقت :
23 - الوصيّة والإيصاء بمعنًى واحدٍ في اللّغة ، ويفرّق الفقهاء بينهما في الاستعمال ، فالإيصاء معناه أن يعهد إلى غيره ، بأن يقوم مقامه بعد موته ، والوصيّة تصرّفٌ مضافٌ إلى ما بعد الموت تستعمل غالباً في الأموال . ويرى الفقهاء أنّ الوصيّة والإيصاء يقبلان الإضافة إلى الوقت .
إضافة الوكالة إلى الوقت :
24 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وهو ما يفهم من تفريعات الشّافعيّة ، إلى جواز إضافة الوكالة إلى الوقت . قال صاحب البدائع : ركن التّوكيل قد يكون مضافاً إلى وقتٍ ، بأن يقول وكّلتك في بيع هذه الدّار غداً ، ويصير وكيلاً في الغد فما بعده ، ولا يكون وكيلاً قبل الغد ، لأنّ التّوكيل إطلاق التّصرّف ، والإطلاقات ممّا تحتمل التّعليق بالشّرط والإضافة إلى الوقت ، كالطّلاق والعتاق .
العقود الّتي لا تصحّ إضافتها إلى المستقبل :
25 - اتّفق الفقهاء على أنّ عقود البيع ، والنّكاح ، والصّلح على مالٍ ، والرّجعة ، والقسمة لا تقبل الإضافة إلى المستقبل . ومثلها الشّركة عند الحنفيّة ، ولم يعثر للآخرين على قولٍ فيها . واستثنى المالكيّة من قاعدة عدم قبول النّكاح للإضافة الصّورة التّالية : لو أضاف الأب نكاح ابنته إلى موته ، وكان مريضاً مرضاً مخوفاً أم لا ، طال أو قصر فيصحّ النّكاح إذا مات منه ، لأنّه من وصايا المسلمين . وكذلك عقد الهبة لا يقبل الإضافة عند جمهور الفقهاء ، خلافاً للمالكيّة في بعض الصّور ، ذكروها في موضعها .
وللتّفصيل وبيان الأدلّة في كلٍّ من هذه الموضوعات يرجع إلى مصطلحاتها .
النّوع الثّاني الإضافة إلى الشّخص
26 - التّصرّفات إمّا أن يضيفها مباشرها إلى نفسه ، وإمّا أن يضيفها إلى غيره .
أ - إضافة التّصرّف إلى المباشر نفسه :
27 - الأصل أن يضيف مباشر التّصرّف ذلك التّصرّف إلى نفسه ، وأن يباشر العقد من يملك السّلعة ، وكذلك الطّلاق ، فإنّ الزّوج هو الّذي يملكه ، فلا بدّ أن يصدر منه ، فإن صدر عن غيره بغير إذنه فإنّه لا يقع .
ب - إضافة المباشر التّصرّف إلى غيره :
28 - إذا أضاف المباشر التّصرّف إلى غيره ، فإمّا أن تكون الإضافة بإذن ذلك الغير أو بغير إذنه ، فإن أضيف بإذن ذلك الغير كالوكالة ، فإنّه يصحّ ، فمن وكّل غيره في بيعٍ أو طلاقٍ أو إيصال هبةٍ أو وديعةٍ ، فإنّ التّوكيل يقوم مقام الموكّل فيما وكّل به ، وتصرّفات الوكيل معتبرةٌ . وأمّا إن أضيف التّصرّف إلى الغير غير إذنه فإنّه ينظر إلى ذلك التّصرّف ، فإن كان لا يفتقر إلى إذن الغير فإنّه يصحّ ، وذلك كتصرّف الوصيّ في شأن الموصى عليهم ، فإنّ من أوصى غيره ليقوم مقامه بعد موته في رعاية أبنائه لا يحتاج الوصيّ في تصرّفاته إلى إذن الموصى عليهم ، لأنّهم تحت وصايته ، فتصرّفاته - أي الوصيّ - تنفذ عليهم عملاً بكلام الموصي . ومثل الوصيّة في هذا المعنى الولاية . فإنّ تصرّفات الوليّ تنفذ على من له الولاية عليهم ولا يفتقر إلى إذنهم . وكذلك القيّم الّذي يعينه القاضي ، فإنّ تصرّفاته صحيحةٌ ، ولا يفتقر إلى إذن من له القوامة عليه .
29 - وأمّا إن كان يفتقر إلى إذن الغير فهو تصرّف الفضوليّ الّذي يتصرّف بلا إذنٍ ولا وصايةٍ ولا ولايةٍ ولا قوامة في بيعٍ وغيره . وفي صحّة تصرّفات الفضوليّ خلافٌ بين الفقهاء : فذهب الحنفيّة والمالكيّة - على قولٍ عندهم - والشّافعيّ في القديم إلى أنّ الفضوليّ إذا تصرّف ببيعٍ أو شراءٍ فإنّ تصرّفه هذا موقوفٌ على إجازة المالك ، فإن أجازه نفذ وإلاّ فلا . وذهب المالكيّة - على قولٍ عندهم - والشّافعيّ في الجديد ، والحنابلة إلى أنّ تصرّف الفضوليّ بالبيع أو الشّراء باطلٌ ، حتّى وإن أجازه المالك . واستثنى الحنابلة ما لو اشترى لغيره شيئاً في ذمّته بغير إذنه ، فيصحّ إن لم يسمّ المشتري من اشترى له في العقد ، بأن قال : اشتريت هذا ، ولم يقل : لفلانٍ ، فيصحّ العقد ، سواءٌ نقد المشتري الثّمن من مال الّذي اشترى له ، أو من مال نفسه ، أو لم ينقده بالكلّيّة ، لأنّه متصرّفٌ في ذمّته ، وهي قابلةٌ للتّصرّف ، والّذي نقده إنّما هو عوضٌ عمّا في الذّمّة . فإن سمّاه في العقد لم يصحّ إن لم يكن أذن . وذهب المالكيّة - في قولٍ ثالثٍ عندهم - إلى أنّ تصرّف الفضوليّ بالبيع أو الشّراء باطلٌ في العقار وجائزٌ في العروض ، أي يصحّ تصرّفه في المنقولات دون غيرها كالأراضي والبيوت .
إضجاعٌ *
التعريف :
1 - الإضجاع مصدر أضجع ، يقال : أضجعته إضجاعاً : وضعت جنبه بالأرض . وهو كذلك في الاصطلاح .
الألفاظ ذات الصّلة

أ - الاضطجاع :
2 - الاضطجاع وضع الإنسان جنبه على الأرض بنفسه ، فهو لازمٌ ، والاضطجاع متعدٍّ . وعلى هذا يكون الفرق بينه وبين الإضجاع ، أنّ الإضجاع يقال فيمن ضجع نفسه . أمّا الإضجاع فإنّه يكون بفعل الغير له . والاضطجاع في السّجود أن يتضامّ فيه ولا يجافي بطنه عن فخذيه .
ب - استلقاءٌ :
3 - الاستلقاء : النّوم على القفا .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
4 - يفصّل الفقهاء في ( الذّبائح ) حكم إضجاع الذّبيحة وإراحتها ، ويتّفقون على أنّ هذا مندوبٌ إليه ، لما ورد فيه من آثارٍ ، ولأنّ فيه إراحةً للذّبيحة وتخفيفاً عنها . كما يتكلّم الفقهاء على الإضجاع في الجنائز عند احتضار الشّخص ، وعند دفنه حيث يسنّ إضجاعه على جنبه الأيمن جهة القبلة ، وهذا موضع اتّفاقٍ بين الفقهاء ، لما ورد في ذلك من الآثار . ( ر : جنازةٌ ) .
أضحيّةٌ *
التعريف :
1 - الأضحيّة بتشديد الياء وبضمّ الهمزة أو كسرها ، وجمعها الأضاحيّ بتشديد الياء أيضاً ، ويقال لها : الضّحيّة بفتح الضّاد وتشديد الياء ، وجمعها الضّحايا ، ويقال لها أيضاً : الأضحاة بفتح الهمزة وجمعها الأضحى ، وهو على التّحقيق اسم جنسٍ جمعيٍّ ، وبها سمّي يوم الأضحى ، أي اليوم الّذي يضحّي فيه النّاس . وقد عرّفها اللّغويّون بتعريفين :
أحدهما : الشّاة الّتي تذبح ضحوةً ، أي وقت ارتفاع النّهار والوقت الّذي يليه ، وهذا المعنى نقله صاحب اللّسان عن ابن الأعرابيّ .
وثانيهما : الشّاة الّتي تذبح يوم الأضحى ، وهذا المعنى ذكره صاحب اللّسان أيضاً . أمّا معناها في الشّرع : فهو ما يذكّى تقرّباً إلى اللّه تعالى في أيّام النّحر بشرائط مخصوصةٍ . فليس ، من الأضحيّة ما يذكّى لغير التّقرّب إلى اللّه تعالى ، كالذّبائح الّتي تذبح للبيع أو الأكل أو إكرام الضّيف ، وليس منها ما يذكّى في غير هذه الأيّام ، ولو للتّقرّب إلى اللّه تعالى ، وكذلك ما يذكّى بنيّة العقيقة عن المولود ، أو جزاء التّمتّع أو القران في النّسك ، أو جزاء ترك واجبٍ أو فعل محظورٍ في النّسك ، أو يذكّى بنيّة الهدي كما سيأتي .
الألفاظ ذات الصّلة

أ - القربان :
2 - القربان : ما يتقرّب به العبد إلى ربّه ، سواءٌ أكان من الذّبائح أم من غيرها . والعلاقة العامّة بين الأضحيّة وسائر القرابين أنّها كلّها يتقرّب بها إلى اللّه تعالى ، فإن كانت القرابين من الذّبائح كانت علاقة الأضحيّة بها أشدّ ، لأنّها يجمعها كونها ذبائح يتقرّب بها إليه سبحانه ، فالقربان أعمّ من الأضحيّة .
ب - الهدي :
3 - الهدي : ما يذكّى من الأنعام في الحرم في أيّام النّحر لتمتّعٍ أو قرانٍ ، أو ترك واجبٍ من واجبات النّسك ، أو فعل محظورٍ من محظورات النّسك ، حجّاً كان أو عمرةً ، أو لمحض التّقرّب إلى اللّه تعالى تطوّعاً . ويشترك الهدي مع الأضحيّة في أنّ كلاًّ منهما ذبيحةٌ ، ومن الأنعام ، وتذبح في أيّام النّحر ، ويقصد بها التّقرّب إلى اللّه تعالى . ويفترق الهدي ذو السّبب عن الأضحيّة افتراقاً ظاهراً ، فإنّ الأضحيّة لا تقع عن تمتّعٍ ولا قرانٍ ، ولا تكون كفّارةً لفعلٍ محظورٍ أو ترك واجبٍ . وأمّا الهدي الّذي قصد به التّقرّب المحض فإنّه يشتبه بالأضحيّة اشتباهاً عظيماً ، لا سيّما أضحيّة المقيمين بمنًى من أهلها ومن الحجّاج ، فإنّها ذبيحةٌ من الأنعام ذبحت في الحرم في أيّام النّحر تقرّباً إلى اللّه تعالى ، وكلّ هذه الصّفات صفاتٌ للهدي فلا يفرّق بينهما إلاّ بالنّيّة ، فما نوي به الهدي كان هدياً ، وما نوي به التّضحية كان أضحيّةً . فإن قيل : إنّ النّيّة ليست نيّة ألفاظٍ ، وإنّما هي معانٍ ، فما هو المعنى الّذي يخطر ببال النّاوي ، حين ينوي الهدي ، وحين ينوي الأضحيّة حتّى تكون النّيّة فارقةً بينهما ؟ فالجواب : أنّ ناوي الهدي يخطر بباله الإهداء إلى الحرم وتكريمه ، وناوي الأضحيّة يخطر بباله الذّبح المختصّ بالأيّام الفاضلة من غير ملاحظة الإهداء إلى الحرم . هذا ، والمالكيّة يرون أنّ الحاجّ لا يضحّي كما سيأتي ، فيكون الفرق عندهم بين هدي التّطوّع والأضحيّة ظاهراً ، فإنّ ما يقوم به الحاجّ يكون هدياً ، وما يقوم به غير الحاجّ يكون أضحيّةً .
ج - العقيقة :
4 - العقيقة ما يذكّى من النّعم شكراً للّه تعالى على ما أنعم به ، من ولادة مولودٍ ، ذكراً كان أو أنثى ، ولا شكّ أنّها تخالف الأضحيّة الّتي هي شكرٌ على نعمة الحياة ، لا على الإنعام بالمولود ، فلو ولد لإنسانٍ مولودٌ في عيد الأضحى فذبح عنه شكراً على إنعام اللّه بولادته كانت الذّبيحة عقيقةً . وإن ذبح عنه شكراً للّه تعالى على إنعامه على المولود نفسه بالوجود والحياة في هذا الوقت الخاصّ ، كانت الذّبيحة أضحيّةً .
د - الفرع والعتيرة :
5 - الفرع بفتح الفاء والرّاء ، ويقال له الفرعة : أوّل نتاج البهيمة ، كان أهل الجاهليّة يذبحونه لطواغيتهم ، رجاء البركة في الأمّ وكثرة نسلها ، ثمّ صار المسلمون يذبحونه للّه تعالى . والعتيرة بفتح العين : ذبيحةٌ كان أهل الجاهليّة يذبحونها في العشر الأول من رجبٍ لآلهتهم ويسمّونها العتر ( بكسرٍ فسكونٍ ) والرّجيبة أيضاً ، ثمّ صار المسلمون يذبحونها للّه تعالى من غير وجوبٍ ولا تقيّدٍ بزمنٍ . وعلاقة الأضحيّة بهما أنّهما يشتركان معها في أنّ الجميع ذبائح يتقرّب بها إلى اللّه عزّ وجلّ ، والفرق بينها وبينهما ظاهرٌ . فإنّ الفرع يقصد به شكراً للّه تعالى على أوّل نتاجٍ تنتجه النّاقة وغيرها ورجاء البركة فيها ، والعتيرة يقصد بها شكراً للّه تعالى على نعمة الحياة إلى وقت ذبحها . والأضحيّة يقصد بها شكراً للّه تعالى على نعمة الحياة إلى حلول الأيّام الفاضلة من ذي الحجّة الحرام . مشروعيّة الأضحيّة ودليلها :
6 - الأضحيّة مشروعةٌ إجماعاً بالكتاب والسّنّة : أمّا الكتاب فقوله تعالى : { فصلّ لربّك وانحر } قيل في تفسيره : صلّ صلاة العيد وانحر البدن . وأمّا السّنّة فأحاديث تحكي فعله صلى الله عليه وسلم لها ، وأخرى تحكي قوله في بيان فضلها والتّرغيب فيها والتّنفير من تركها . فمن ذلك ما صحّ من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أنّه قال : « ضحّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ، ذبحهما بيده ، وسمّى وكبّر ، ووضع رجله على صفاحهما » . وأحاديث أخرى سيأتي بعضها منها قوله صلى الله عليه وسلم : « من كان له سعةٌ ولم يضحّ فلا يقربنّ مصلاّنا » . وقد شرعت التّضحية في السّنة الثّانية من الهجرة النّبويّة ، وهي السّنة الّتي شرعت فيها صلاة العيدين وزكاة المال . أمّا حكمة مشروعيّتها ، فهي شكراً للّه تعالى على نعمة الحياة ، وإحياء سنّة سيّدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حين أمره اللّه عزّ اسمه بذبح الفداء عن ولده إسماعيل عليه الصلاة والسلام في يوم النّحر ، وأن يتذكّر المؤمن أنّ صبر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وإيثارهما طاعة اللّه ومحبّته على محبّة النّفس والولد كانا سبب الفداء ورفع البلاء ، فإذا تذكّر المؤمن ذلك اقتدى بهما في الصّبر على طاعة اللّه وتقديم محبّته عزّ وجلّ على هوى النّفس وشهوتها . وقد يقال : أيّ علاقةٍ بين إراقة الدّم وبين شكر المنعم عزّ وجلّ والتّقرّب إليه ؟ والجواب من وجهين :
أحدهما : أنّ هذه الإراقة وسيلةٌ للتّوسعة على النّفس وأهل البيت ، وإكرام الجار والضّيف ، والتّصدّق على الفقير ، وهذه كلّها مظاهر للفرح والسّرور بما أنعم اللّه به على الإنسان ، وهذا تحدّثٌ بنعمة اللّه تعالى كما قال عزّ اسمه : { وأمّا بنعمة ربّك فحدّث } .
ثانيهما : المبالغة في تصديق ما أخبر به اللّه عزّ وجلّ من أنّه خلق الأنعام لنفع الإنسان ، وأذن في ذبحها ونحرها لتكون طعاماً له . فإذا نازعه في حلّ الذّبح والنّحر منازعٌ تمويهاً بأنّهما من القسوة والتّعذيب لذي روحٍ تستحقّ الرّحمة والإنصاف ، كان ردّه على ذلك أنّ اللّه عزّ وجلّ الّذي خلقنا وخلق هذه الحيوانات ، وأمرنا برحمتها والإحسان إليها ، أخبرنا وهو العليم بالغيب أنّه خلقها لنا وأباح تذكيتها ، وأكّد هذه الإباحة بأن جعل هذه التّذكية قربةً في بعض الأحيان .
حكم الأضحيّة :
7 - ذهب جمهور الفقهاء ، ومنهم الشّافعيّة والحنابلة ، وهو أرجح القولين عند مالكٍ ، وإحدى روايتين عن أبو يوسف إلى أنّ الأضحيّة سنّةٌ مؤكّدةٌ . وهذا قول أبي بكرٍ وعمر وبلالٍ وأبي مسعودٍ البدريّ وسويد بن غفلة وسعيد بن المسيّب وعطاءٍ وعلقمة والأسود وإسحاق وأبي ثورٍ وابن المنذر . واستدلّ الجمهور على السّنّيّة بأدلّةٍ : منها قوله عليه الصلاة والسلام : « إذا دخل العشر ، وأراد أحدكم أن يضحّي فلا يمسّ من شعره ولا من بشره شيئاً » . ووجه الدّلالة في هذا الحديث أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال : « وأراد أحدكم » فجعله مفوّضاً إلى إرادته ، ولو كانت التّضحية واجبةً لاقتصر على قوله : « فلا يمسّ من شعره شيئاً حتّى يضحّي » . ومنها أيضاً أنّ أبا بكرٍ وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحّيان السّنة والسّنتين ، مخافة أن يرى ذلك واجباً . وهذا الصّنيع منهما يدلّ على أنّهما علما من الرّسول صلى الله عليه وسلم عدم الوجوب ، ولم يرو عن أحدٍ من الصّحابة خلاف ذلك .
8 - وذهب أبو حنيفة إلى أنّها واجبةٌ . وهذا المذهب هو المرويّ عن محمّدٍ وزفر وإحدى الرّوايتين عن أبي يوسف . وبه قال ربيعة واللّيث بن سعدٍ والأوزاعيّ والثّوريّ ومالكٌ في أحد قوليه . واستدلّوا على ذلك بقوله تعالى : { فصلّ لربّك وانحر } فقد قيل في تفسيره صلّ صلاة العيد وانحر البدن ، ومطلق الأمر للوجوب ، ومتى وجب على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجب على الأمّة لأنّه قدوتها . وبقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من كان له سعةٌ ولم يضحّ فلا يقربنّ مصلاّنا » ، وهذا كالوعيد على ترك التّضحية ، والوعيد إنّما يكون على ترك الواجب . وبقوله عليه الصلاة والسلام : « من ذبح قبل الصّلاة فليذبح شاةً مكانها ، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم اللّه » ، فإنّه أمر بذبح الأضحيّة وبإعادتها إذا ذكّيت قبل الصّلاة ، وذلك دليل الوجوب . ثمّ إنّ الحنفيّة القائلين بالوجوب يقولون : إنّها واجبةٌ عيناً على كلّ من وجدت فيه شرائط الوجوب . فالأضحيّة الواحدة كالشّاة وسبع البقرة وسبع البدنة إنّما تجزئ عن شخصٍ واحدٍ .
9 - وأمّا القائلون بالسّنّيّة فمنهم من يقول : إنّها سنّة عينٍ أيضاً ، كالقول المرويّ عن أبي يوسف فعنده لا يجزئ الأضحيّة الواحدة عن الشّخص وأهل بيته أو غيرهم . ومنهم من يقول : إنّها سنّة عينٍ ولو حكماً ، بمعنى أنّ كلّ واحدٍ مطالبٌ بها ، وإذا فعلها واحدٌ بنيّة نفسه وحده لم تقع إلاّ عنه ، وإذا فعلها بنيّة إشراك غيره في الثّواب ، أو بنيّة كونها لغيره أسقطت الطّلب عمّن أشركهم أو أوقعها عنهم . وهذا رأي المالكيّة ، وإيضاحه أنّ الشّخص إذا ضحّى ناوياً نفسه فقط سقط الطّلب عنه ، وإذا ضحّى ناوياً نفسه وأبويه الفقيرين وأولاده الصّغار ، وقعت التّضحية عنهم ، ويجوز له أن يشرك غيره في الثّواب - قبل الذّبح - ولو كانوا أكثر من سبعةٍ بثلاث شرائط :
الأولى : أن يسكن معه .
الثّانية : أن يكون قريباً له وإن بعدت القرابة ، أو زوجةً .
الثّالثة : أن ينفق على من يشركه وجوباً كأبويه وصغار ولده الفقراء ، أو تبرّعاً كالأغنياء منهم وكعمٍّ وأخٍ وخالٍ . فإذا وجدت هذه الشّرائط سقط الطّلب عمّن أشركهم . وإذا ضحّى بشاةٍ أو غيرها ناوياً غيره فقط ، ولو أكثر من سبعةٍ ، من غير إشراك نفسه معهم سقط الطّلب عنهم بهذه التّضحية ، وإن لم تتحقّق فيهم الشّرائط الثّلاث السّابقة . ولا بدّ في كلّ ذلك أن تكون الأضحيّة ملكاً خاصّاً للمضحّي ، فلا يشاركوه فيها ولا في ثمنها ، وإلاّ لم تجزئ ، كما سيأتي في شرائط الصّحّة .
10 - ومن القائلين بالسّنّيّة من يجعلها سنّة عينٍ في حقّ المنفرد ، وسنّة كفايةٍ في حقّ أهل البيت الواحد ، وهذا رأي الشّافعيّة والحنابلة . فقد قالوا : إنّ الشّخص يضحّي بالأضحيّة الواحدة - ولو كانت شاةً - عن نفسه وأهل بيته .
وللشّافعيّة تفسيراتٌ متعدّدةٌ لأهل البيت الواحد والرّاجح تفسيران :
أحدهما : أنّ المقصود بهم من تلزم الشّخص نفقتهم ، وهذا هو الّذي رجّحه الشّمس الرّمليّ في نهاية المحتاج .
ثانيهما : من تجمعهم نفقة منفقٍ واحدٍ ولو تبرّعاً ، وهذا هو الّذي صحّحه الشّهاب الرّمليّ بهامش شرح الرّوض . قالوا : ومعنى كونها سنّة كفايةٍ - مع كونها تسنّ لكلّ قادرٍ منهم عليها - سقوط الطّلب عنهم بفعل واحدٍ رشيدٍ منهم ، لا حصول الثّواب لكلٍّ منهم ، إلاّ إذا قصد المضحّي تشريكهم في الثّواب . وممّا استدلّ به على كون التّضحية سنّة كفايةٍ عن الرّجل وأهل بيته حديث أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه قال : « كنّا نضحّي بالشّاة الواحدة يذبحها الرّجل عنه وعن أهل بيته ، ثمّ تباهى النّاس بعد فصارت مباهاةً » . وهذه الصّيغة الّتي قالها أبو أيّوب رضي الله عنه تقتضي أنّه حديثٌ مرفوعٌ .
الأضحيّة المنذورة :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّ نذر التّضحية يوجبها ، سواءٌ أكان النّاذر غنيّاً أم فقيراً ، وهو إمّا أن يكون نذراً لمعيّنةٍ نحو : للّه عليّ أن أضحّي بهذه الشّاة ، وإمّا أن يكون نذراً في الذّمّة لغير معيّنةٍ لمضمونةٍ ، كأن يقول : للّه عليّ أن أضحّي ، أو يقول : للّه عليّ أن أضحّي بشاةٍ . فمن نذر التّضحية بمعيّنةٍ لزمه التّضحية بها في الوقت ، وكذلك من نذر التّضحية في الذّمّة بغير معيّنةٍ ، ثمّ عيّن شاةً مثلاً عمّا في ذمّته ، فإنّه يجب عليه التّضحية بها في الوقت . وصرّح الشّافعيّة بأنّ من نذر معيّنةً ، وبها عيبٌ مخلٌّ بالإجزاء صحّ نذره ، ووجب عليه ذبحها في الوقت ، وفاءً بما التزمه ، ولا يجب عليه بدلها . ومن نذر أضحيّةً في ذمّته ، ثمّ عيّن شاةً بها عيبٌ مخلٌّ بالإجزاء لم يصحّ تعيينه إلاّ إذا كان قد نذرها معيبةً ، كأن قال : عليّ أن أضحّي بشاةٍ عرجاء بيّنة العرج . وقال الحنابلة مثل ما قال الشّافعيّة ، إلاّ أنّهم أجازوا إبدال المعيّنة بخيرٍ منها ، لأنّ هذا أنفع للفقراء . ودليل وجوب الأضحيّة بالنّذر : أنّ التّضحية قربةٌ للّه تعالى من جنسها واجبٌ كهدي التّمتّع ، فتلزم بالنّذر كسائر القرب ، والوجوب بسبب النّذر يستوي فيه الفقير والغنيّ .
أضحيّة التّطوّع :
12 - من لم تجب التّضحية عليه لعدم توفّر شرطٍ من شروط وجوبها عند من قال بالوجوب ، ولعدم توفّر شروط السّنّيّة عند من قال بأنّها سنّةٌ ، فالأضحيّة تعتبر في حقّه تطوّعاً .
شروط وجوب الأضحيّة أو سنّيّتها :
13 - الأضحيّة إذا كانت واجبةً بالنّذر فشرائط وجوبها هي شرائط النّذر ، وهي : الإسلام والبلوغ والعقل والحرّيّة والاختيار ، ولتفصيلها يراجع باب النّذر . وإذا كانت واجبةً بالشّرع ( عند من يقول بذلك ) فشروط وجوبها أربعةٌ ، وزاد محمّدٌ وزفر شرطين ، وهذه الشّروط أو بعضها مشترطةٌ في سنّيّتها أيضاً عند من قال بعدم الوجوب ، وزاد المالكيّة شرطاً في سنّيّتها ، وبيان ذلك كما يلي :
14 - الشّرط الأوّل : الإسلام ، فلا تجب على الكافر ، ولا تسنّ له ، لأنّها قربةٌ ، والكافر ليس من أهل القرب ، ولا يشترط عند الحنفيّة وجود الإسلام في جميع الوقت الّذي تجزئ فيه التّضحية ، بل يكفي وجوده آخر الوقت ، لأنّ وقت الوجوب يفضل عن أداء الواجب ، فيكفي في وجوبها بقاء جزءٍ من الوقت كالصّلاة ، وكذا يقال في جميع الشّروط الآتية ، وهذا الشّرط متّفقٌ عليه بين القائلين بالوجوب والقائلين بالسّنّيّة ، بل إنّه أيضاً شرطٌ للتّطوّع .
15 - الشّرط الثّاني : الإقامة ، فلا تجب على المسافر ، لأنّها لا تتأدّى بكلّ مالٍ ولا في كلّ زمانٍ ، بل بحيوانٍ مخصوصٍ في وقتٍ مخصوصٍ ، والمسافر لا يظفر به في كلّ مكان في وقت التّضحية ، فلو أوجبناها عليه لاحتاج لحمل الأضحيّة مع نفسه ، وفيه من الحرج ما لا يخفى ، أو احتاج إلى ترك السّفر ، وفيه ضررٌ ، فدعت الضّرورة إلى امتناع وجوبها عليه ، بخلاف المقيم ولو كان حاجّاً ، لما روى نافعٌ عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنّه كان يخلّف لمن لم يحجّ من أهله أثمان الضّحايا ، وذلك ليضحّوا عنه تطوّعاً . ويحتمل أنّه ليضحّوا عن أنفسهم لا عنه ، فلا يثبت الوجوب مع الاحتمال . هذا مذهب الحنفيّة القائلين بالوجوب ، وأمّا من قال بالسّنّيّة فلا يشترط هذا الشّرط ، وكذلك لا يشترط في التّطوّع ، لأنّه لا يترتّب على سنّيّتها ولا التّطوّع بها حرجٌ .
16 - الشّرط الثّالث : الغنى - ويعبّر عنه باليسار - لحديث « من كان له سعةٌ ولم يضحّ فلا يقربنّ مصلاّنا » والسّعة هي الغنى ، ويتحقّق عند الحنفيّة بأن يكون في ملك الإنسان مائتا درهمٍ أو عشرون ديناراً ، أو شيءٌ تبلغ قيمته ذلك ، سوى مسكنه وحوائجه الأصليّة وديونه . وقال المالكيّة : يتحقّق الغنى بألاّ تجحف الأضحيّة بالمضحّي ، بألاّ يحتاج لثمنها في ضروريّاته في عامه . وقال الشّافعيّة : إنّما تسنّ للقادر عليها ، وهو من ملك ما يحصل به الأضحيّة ، فاضلاً عمّا يحتاج إليه في يوم العيد وليلته وأيّام التّشريق الثّلاثة ولياليها .
17 - الشّرطان الرّابع والخامس : البلوغ والعقل ، وهذان الشّرطان اشترطهما محمّدٌ وزفر ، ولم يشترطهما أبو حنيفة وأبو يوسف ، فعندهما تجب التّضحية في مال الصّبيّ والمجنون إذا كانا موسرين ، فلو ضحّى الأب أو الوصيّ عنها من مالهما لم يضمن في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ، ويضمن في قول محمّدٍ وزفر ، وهذا الخلاف كالخلاف في صدقة الفطر . ولتفصيل حجج الفريقين يرجع لمصطلح ( صدقة الفطر ) .
18 - والّذي يجنّ ويفيق يعتبر حاله في الجنون والإفاقة ، فإن كان مجنوناً في أيّام النّحر فهو على الاختلاف ، وإن كان مفيقاً وجبت من ماله بلا خلافٍ ، وقيل : إنّ حكمه حكم الصّحيح كيفما كان . وهذا الّذي قرّره صاحب " البدائع " يقتضي برجيح القول بالوجوب ، لكن صحّح صاحب الكافي القول بعدم الوجوب ورجّحه ابن الشّحنة واعتمده صاحب " الدّرّ المختار " ناقلاً عن متن " مواهب الرّحمن " أنّه أصحّ ما يفتى به ، وقال ابن عابدين : إنّ هذا القول اختاره صاحب الملتقى حيث قدّمه ، وعبّر عن مقابله بصيغة التّضعيف ، وهي " قيل " . هذا كلّه رأي الحنفيّة . وقال المالكيّة : لا يشترط في سنّيّة التّضحية البلوغ ولا العقل ، فيسنّ للوليّ التّضحية عن الصّغير والمجنون من مالهما ، ولو كانا يتيمين . وقال الشّافعيّة : لا يجوز للوليّ أن يضحّي عن محجوريه من أموالهم ، وإنّما يجوز أن يضحّي عنهم من ماله إن كان أباً أو جدّاً ، وكأنّه ملكها لهم وذبحها عنهم ، فيقع له ثواب التّبرّع لهم ، ويقع لهم ثواب التّضحية . وقال الحنابلة في اليتيم الموسر : يضحّي عنه وليّه من ماله ، أي مال المحجور ، وهذا على سبيل التّوسعة في يوم العيد لا على سبيل الإيجاب .
19 - هذا وقد انفرد المالكيّة بذكر شرطٍ لسنّيّة التّضحية ، وهو ألاّ يكون الشّخص حاجّاً ، فالحاجّ لا يطالب بالتّضحية شرعاً ، سواءٌ ، أكان بمنًى أم بغيرها ، وغير الحاجّ هو المطالب بها ، وإن كان معتمراً أو كان بمنًى . وعند الحنفيّة لا تجب على حاجٍّ مسافرٍ .
20 - هذا وليست الذّكورة ولا المصر من شروط الوجوب ولا السّنّيّة ، فكما تجب على الذّكور تجب على الإناث ، وكما تجب على المقيمين في الأمصار تجب على المقيمين في القرى والبوادي ، لأنّ أدلّة الوجوب أو السّنّيّة شاملةٌ للجميع .
تضحية الإنسان من ماله عن ولده :
21 - إذا كان الولد كبيراً فلا يجب على أبيه أو جدّه التّضحية عنه ، أمّا الولد وولد الولد الصّغيران فإن كان لهما مالٌ فقد سبق الكلام عن ذلك ، وإن لم يكن لهما مالٌ ، فعن أبي حنيفة في ذلك روايتان :
أولاهما : أنّها لا تجب ، وهو ظاهر الرّواية ، وعليه الفتوى ، لأنّ الأصل أنّه لا يجب على الإنسان شيءٌ عن غيره ، وخصوصاً القربات ، لقوله تعالى { وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى } . وقوله جلّ شأنه { لها ما كسبت } . ولهذا لم تجب عليه عن ولده وولد ولده الكبيرين .
ثانيتهما : أنّها تجب ، لأنّ ولد الرّجل جزؤه وكذا ولد ابنه ، فإذا وجب عليه أن يضحّي عن نفسه وجب عليه أن يضحّي عن ولده وولد ابنه قياساً على صدقة الفطر . ثمّ على القول بظاهر الرّواية - وهو عدم الوجوب - يستحبّ للإنسان أن يضحّي عن ولده وولد ابنه الصّغيرين من مال نفسه ، والمقصود بولد ابنه هو اليتيم الّذي تحت ولاية جدّه . وهذا موافقٌ لما سبق من مذهب الجمهور .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
شروط صحّة الأضحيّة
22 - للتّضحية شرائط تشملها وتشمل كلّ الذّبائح ، ولتفصيلها ( ر : ذبائح ) .
وشرائط تختصّ بها ، وهي ثلاثة أنواعٍ : نوعٌ يرجع إلى الأضحيّة ، ونوعٌ يرجع إلى المضحّي ، ونوعٌ يرجع إلى وقت التّضحية .
النّوع الأوّل : شروط الأضحيّة في ذاتها :
23 - الشّرط الأوّل : وهو متّفقٌ عليه بين المذاهب : أن تكون من الأنعام ، وهي الإبل عراباً كانت أو بخاتيّ ، والبقرة الأهليّة ومنها الجواميس ، والغنم ضأناً كانت أو معزاً ، ويجزئ من كلّ ذلك الذّكور والإناث . فمن ضحّى بحيوانٍ مأكولٍ غير الأنعام ، سواءٌ أكان من الدّوابّ أم الطّيور ، لم تصحّ تضحيته به ، لقوله تعالى : { ولكلّ أمّةٍ جعلنا منسكاً ليذكروا اسم اللّه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } ولأنّه لم تنقل التّضحية بغير الأنعام عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولو ذبح دجاجةً أو ديكاً بنيّة التّضحية لم يجزئ . ويتعلّق بهذا الشّرط أنّ الشّاة تجزئ عن واحدٍ ، والبدنة والبقرة كلٌّ منهما عن سبعةٍ ، لحديث جابرٍ رضي الله عنه قال : « نحرنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعةٍ ، والبقرة عن سبعةٍ » ، وهذا مرويٌّ عن عليٍّ وابن عمر وابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ وعائشة رضي الله عنهم ، وبه قال عطاءٌ وطاوسٌ وسالمٌ والحسن وعمرو بن دينارٍ والثّوريّ والأوزاعيّ وأبو ثورٍ وأكثر أهل العلم ، وهو قول الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . وعن ابن عمر رضي الله عنهما روايةٌ أخرى أنّه قال : « لا تجزئ نفسٌ واحدةٌ عن سبعةٍ » وقال المالكيّة : لا يجزئ الاشتراك في اللّحم أو الثّمن ، لا في الشّاة ولا في البدنة ولا في البقرة ، ولكن تجزئ الأضحيّة الواحدة الّتي يملكها شخصٌ واحدٌ أن يضحّي بها عن نفسه وعن أبويه الفقيرين وأولاده الصّغار ، وكذلك يجزئ أن يضحّي الإنسان بالأضحيّة الواحدة الّتي يملكها وحده ناوياً إشراك غيره معه في الثّواب ، أو ناوياً كونها كلّها عن غيره كما سبق ( ف 9 ) .
24 - الشّرط الثّاني : أن تبلغ سنّ التّضحية ، بأن تكون ثنيّةً أو فوق الثّنيّة من الإبل والبقر والمعز ، وجذعةً أو فوق الجذعة من الضّأن ، فلا تجزئ التّضحية بما دون الثّنيّة من غير الضّأن ، ولا بما دون الجذعة من الضّأن ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تذبحوا إلاّ مسنّةً ، إلاّ أن يعسر عليكم ، فتذبحوا جذعةً من الضّأن » . والمسنّة من كلّ الأنعام هي الثّنيّة فما فوقها . حكاه النّوويّ عن أهل اللّغة . ولقوله صلى الله عليه وسلم : « نعمت الأضحيّة الجذع من الضّأن » . وهذا الشّرط متّفقٌ عليه بين الفقهاء ، ولكنّهم اختلفوا في تفسير الثّنيّة والجذعة .
25 - فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ الجذع من الضّأن ما أتمّ ستّة أشهرٍ ، وقيل : ما أتمّ ستّة أشهرٍ وشيئاً . وأيّاً ما كان فلا بدّ أن يكون عظيماً بحيث لو خلط بالثّنايا لاشتبه على النّاظرين من بعيدٍ . والثّنيّ من الضّأن والمعز ابن سنةٍ ، ومن البقر ابن سنتين ، ومن الإبل ابن خمس سنين . وذهب المالكيّة إلى أنّ الجذع من الضّأن ما بلغ سنةً ( قمريّةً ) ودخل في الثّانية ولو مجرّد دخولٍ ، وفسّروا الثّنيّ من المعز بما بلغ سنةً ، ودخل في الثّانية دخولاً بيّناً ، كمضيّ شهرٍ بعد السّنة ، وفسّروا الثّنيّ من البقر بما بلغ ثلاث سنين ، ودخل في الرّابعة ولو دخولاً غير بيّنٍ ، والثّنيّ من الإبل بما بلغ خمساً ودخل في السّادسة ولو دخولاً غير بيّنٍ . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الجذع ما بلغ سنةً ، وقالوا : لو أجذع بأن أسقط مقدّم أسنانه قبل السّنة وبعد تمام ستّة أشهرٍ يكفي ، وفسّروا الثّنيّ من المعز بما بلغ سنتين ، وكذلك البقر .
26 - الشّرط الثّالث : سلامتها من العيوب الفاحشة ، وهي العيوب الّتي من شأنها أن تنقص الشّحم أو اللّحم إلاّ ما استثني . وبناءً على هذا الشّرط لا تجزئ التّضحية بما يأتي :
1 - العمياء .
2 - العوراء البيّن عورها ، وهي الّتي ذهب بصر إحدى عينيها ، وفسّرها الحنابلة بأنّها الّتي انخسفت عينها وذهبت ، لأنّها عضوٌ مستطابٌ ، فلو لم تذهب العين أجزأت عندهم ، وإن كان على عينها بياضٌ يمنع الإبصار .
3 - مقطوعة اللّسان بالكلّيّة .
4 - ما ذهب من لسانها مقدارٌ كثيرٌ . وقال الشّافعيّة : يضرّ قطع بعض اللّسان ولو قليلاً .
5 - الجدعاء وهي مقطوعة الأنف .
6 - مقطوعة الأذنين أو إحداهما ، وكذا السّكّاء وهي : فاقدة الأذنين أو إحداهما خلقةً وخالف الحنابلة في السّكّاء .
7 - ما ذهب من إحدى أذنيها مقدارٌ كثيرٌ ، واختلف العلماء في تفسير الكثير ، فذهب الحنفيّة إلى أنّه ما زاد عن الثّلث في روايةٍ ، والثّلث فأكثر في روايةٍ أخرى ، والنّصف أو أكثر ، وهو قول أبي يوسف ، والرّبع أو أكثر في روايةٍ رابعةٍ . وقال المالكيّة : لا يضرّ ذهاب ثلث الأذن أو أقلّ . وقال الشّافعيّة : يضرّ ذهاب بعض الأذن مطلقاً . وقال الحنابلة : يضرّ ذهاب أكثر الأذن . والأصل في ذلك كلّه حديث : « إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يضحّي بعضباء الأذن » .
8 - العرجاء البيّن عرجها ، وهي الّتي لا تقدر أن تمشي برجلها إلى المنسك - أي المذبح - وفسّرها المالكيّة والشّافعيّة بالّتي لا تسير بسير صواحبها .
9 - الجذماء وهي : مقطوعة اليد أو الرّجل ، وكذا فاقدة إحداهما خلقةً .
10 - الجذّاء وهي : الّتي قطعت رءوس ضروعها أو يبست . وقال الشّافعيّة : يضرّ قطع بعض الضّرع ، ولو قليلاً . وقال المالكيّة : إنّ الّتي لا تجزئ هي يابسة الضّرع جميعه ، فإن أرضعت ببعضه أجزأت .
11 - مقطوعة الألية ، وكذا فاقدتها خلقةً ، وخالف الشّافعيّة فقالوا بإجزاء فاقدة الألية خلقةً ، بخلاف مقطوعتها .
12 - ما ذهب من أليتها مقدارٌ كثيرٌ . وقال الشّافعيّة : يضرّ ذهاب بعض الألية ولو قليلاً .
13 - مقطوعة الذّنب ، وكذا فاقدته خلقةً ، وهي المسمّاة بالبتراء ، وخالف الحنابلة فيهما فقالوا : إنّهما يجزئان . وخالف الشّافعيّة في الثّانية دون الأولى .
14 - ما ذهب من ذنبها مقدارٌ كثيرٌ . وقال المالكيّة : لا تجزئ ذاهبة ثلثه فصاعداً . وقال الشّافعيّة : يضرّ قطع بعضه ولو قليلاً . وقال الحنابلة : لا يضرّ قطع الذّنب كلاًّ أو بعضاً .
15 - المريضة البيّن مرضها ، أي الّتي يظهر مرضها لمن يراها .
16 -العجفاء الّتي لا تنقي ، وهي المهزولة الّتي ذهب نقيها ، وهو المخّ الّذي في داخل العظام ، فإنّها لا تجزئ ، لأنّ تمام الخلقة أمرٌ ظاهرٌ ، فإذا تبيّن خلافه كان تقصيراً .
17 - مصرّمة الأطبّاء ، وهي الّتي عولجت حتّى انقطع لبنها .
18 - الجلاّلة ، وهي الّتي تأكل العذرة ولا تأكل غيرها ، ممّا لم تستبرأ بأن تحبس أربعين يوماً إن كانت من الإبل ، أو عشرين يوماً إن كانت من البقر ، أو عشرةً إن كانت من الغنم .
27 - هذه الأمثلة ذكرت في كتب الحنفيّة . وهناك أمثلةٌ أخرى للأنعام الّتي لا تجزئ التّضحية بها ذكرت في كتب المذاهب الأخرى .
منها ما ذكره المالكيّة حيث قالوا : لا تجزئ ( البكماء ) وهي فاقدة الصّوت ولا ( البخراء ) وهي منتنة رائحة الفم ، ولم يقيّدوا ذلك بكونها جلاّلةً ولا بيّنة البشم ، وهو التّخمة . ولا ( الصّمّاء ) وهي الّتي لا تسمع .
ومنها ما ذكره الشّافعيّة من أنّ ( الهيماء ) لا تجزئ ، وهي المصابة بالهيام وهو عطشٌ شديدٌ لا ترتوي معه بالماء ، فتهيم في الأرض ولا ترعى . وكذا ( الحامل ) على الأصحّ ، لأنّ الحمل يفسد الجوف ويصير اللّحم رديئاً .
ومنها ما ذكره الحنابلة من عدم إجزاء ( العصماء ) وهي الّتي انكسر غلاف قرنها ( والخصيّ المجبوب ) ، وهو ما ذهب أنثياه وذكره معاً ، بخلاف ذاهب أحدهما . والأصل الّذي دلّ على اشتراط السّلامة من هذه العيوب كلّها ما صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا تجزئ من الضّحايا أربعٌ : العوراء البيّن عورها ، والعرجاء البيّن عرجها ، والمريضة البيّن مرضها ، والعجفاء الّتي لا تنقي » . وما صحّ عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال : « استشرفوا العين والأذن » أي تأمّلوا سلامتها عن الآفات ، وما صحّ عنه عليه الصلاة والسلام « أنّه نهى أن يضحّى بعضباء الأذن » . وألحق الفقهاء بما في هذه الأحاديث كلّ ما فيه عيبٌ فاحشٌ .
28 - أمّا الأنعام الّتي تجزئ التّضحية بها لأنّ عيبها ليس بفاحشٍ فهي كالآتي :
1 - الجمّاء : وتسمّى الجلحاء ، وهي الّتي لا قرن لها خلقةً ، ومثلها مكسورة القرن إن لم يظهر عظم دماغها ، لما صحّ عن عليٍّ رضي الله عنه أنّه قال لمن سأله عن مكسورة القرن : لا بأس ، أمرنا أن نستشرف العينين والأذنين . وقد اتّفقت المذاهب على إجزاء الجمّاء ، واختلفت في مكسورة القرن ، فقال المالكيّة : تجزئ ما لم يكن موضع الكسر دامياً ، وفسّروا الدّامي بما لم يحصل الشّفاء منه ، وإن لم يظهر فيه دمٌ . وقال الشّافعيّة : تجزئ وإن أدمى موضع الكسر ، ما لم يؤثّر ألم الانكسار في اللّحم ، فيكون مرضاً مانعاً من الإجزاء . وقال الحنابلة : لا تجزئ إن كان الذّاهب من القرن أكثر من النّصف ، وتسمّى عضباء القرن .
2 - الحولاء ، وهي الّتي في عينها حولٌ لم يمنع البصر .
3 - الصّمعاء ، وهي الصّغيرة إحدى الأذنين أو كليهما . وخالف المالكيّة فقالوا : لا يجزئ الصّمعاء ، وفسّروها بالصّغيرة الأذنين جدّاً ، كأنّها خلقت بدونهما .
4 - الشّرقاء وهي مشقوقة الأذن ، وإن زاد الشّقّ على الثّلث . وقال المالكيّة : لا تجزئ إلاّ إن كان الشّقّ ثلثاً فأقلّ .
5 - الخرقاء وهي مثقوبة الأذن ، ويشترط في إجزائها ألاّ يذهب بسبب الخرق مقدارٌ كثيرٌ .
6 - المدابرة وهي الّتي قطع من مؤخّر أذنها شيءٌ ولم يفصّل ، بل ترك معلّقاً ، فإن فصّل فهي مقطوعة بعض الأذن وقد سبق بيان حكمها .
7 -الهتماء وهي الّتي لا أسنان لها ، لكن يشترط في إجزائها ألاّ يمنعها الهتم عن الرّعي والاعتلاف ، فإن منعها عنهما لم تجزئ . وهو مذهب الحنفيّة . وقال المالكيّة : لا تجزئ مكسور سنّين فأكثر أو مقلوعتهما ، إلاّ إذا كان ذلك لإثغارٍ أو كبرٍ ، أمّا لهذين الأمرين فتجزئ . وقال الشّافعيّة : تجزئ ذاهبة بعض الأسنان إن لم يؤثّر نقصاً في الاعتلاف ، ولا ذاهبة جميعها ولا مكسورة جميعها ، وتجزئ المخلوقة بلا أسنانٍ . وقال الحنابلة : لا تجزئ ما ذهب ثناياها من أصلها ، بخلاف ما لو بقي من الثّنايا بقيّةٌ .
8 - الثّولاء وهي المجنونة ، ويشترط في إجزائها ألاّ يمنعها الثّول عن الاعتلاف ، فإن منعها منه لم تجزئ ، لأنّ ذلك يفضي إلى هلاكها . وقال المالكيّة والشّافعيّة : لا تجزئ الثّولاء ، وفسّرها المالكيّة بأنّها الدّائمة الجنون الّتي فقدت التّمييز بحيث لا تهتدي لما ينفعها ولا تجانب ما يضرّها ، وقالوا : إن كان جنونها غير دائمٍ لم يضرّ . وفسّرها الشّافعيّة بأنّها الّتي تستدير في المرعى ، ولا ترى إلاّ قليلاً ، فتهزل .
9 - الجرباء السّمينة ، بخلاف المهزولة . وقال الشّافعيّة : لا تجزئ الجرباء مطلقاً .
10 - المكويّة وهي الّتي كويت أذنها أو غيرها من الأعضاء .
11 - الموسومة وهي : الّتي في أذنها سمةٌ .
12 - العاجزة عن الولادة لكبر سنّها .
13 - الخصيّ وإنّما أجزأ ، لأنّ ما ذهب بخصائه يعوّض بما يؤدّي إليه من كثرة لحمه وشحمه ، وقد صحّ « وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ضحّى بكبشين أملحين موجوءين » أي مرضوضي الخصيتين ، ويلحق بالمرض الخصاء ، لأنّ أثرهما واحدٌ . وقد اتّفقت على إجزائه المذاهب الأربعة . وحكى صاحب " المغني " الإجزاء عن الحسن وعطاءٍ والشّعبيّ والنّخعيّ ومالكٍ والشّافعيّ وأبي ثورٍ وأصحاب الرّأي . وكالخصيّ الموجوء وهو المرضوض الخصية . وهذا متّفقٌ عليه بين المذاهب .
14 - المجبوب وهو ما قطع ذكره وسبق قول الحنابلة أنّ المجبوب الخصيّ - وهو : ما ذهب أنثياه وذكره معاً - لا يجزئ ، بخلاف ذاهب أحدهما فقط ( ف / 26 ) .
15 - المجزوزة وهي الّتي جزّ صوفها .
16 - السّاعلة وهي الّتي تسعل - بضمّ العين - ويجب تقييد ذلك بما لم يصحبه مرضٌ بيّنٌ .
29 - هذه الأمثلة ذكرها الحنفيّة وجاء في كتب غيرهم أمثلةٌ أخرى لما يجزئ .
ومنها : ما صرّح به المالكيّة من أنّ المقعدة - وهي العاجزة عن القيام لكثرة الشّحم عليها - تجزئ .
منها : ما ذكره الشّافعيّة من أنّ العشواء تجزئ ، وهي الّتي تبصر بالنّهار دون اللّيل ، وكذا العمشاء وضعيفة البصر . وكذا الّتي قطع منها قطعةٌ صغيرةٌ من عضوٍ كبيرٍ ، كالّتي أخذ الذّئب مقداراً قليلاً من فخذها ، بخلاف المقدار البيّن الّذي يعدّ كثيراً بالنّسبة لجميع الفخذ . طروء العيب المخلّ بعد تعيين الأضحيّة :
30 - لو اشترى رجلٌ شاةً بنيّة الأضحيّة فعجفت عنده عجفاً بيّناً لم تجزئه ، إن كان عند الشّراء موسراً مقيماً ، وكان شراؤه إيّاها في وقت الوجوب ، لما سبق من أنّ شراءه للأضحيّة لا يوجبها ، لأنّه تجب عليه أضحيّةٌ في ذمّته بأصل الشّرع ، وإنّما أقام ما اشتراه مقام ما في الذّمّة ، فإذا نقص لم يصلح لهذه الإقامة فيبقى ما في ذمّته بحاله . فإن كان عند الشّراء فقيراً ، أو غنيّاً مسافراً ، أو غنيّاً مقيماً ، واشتراها قبل وقت النّحر ، أجزأته في هذه الصّور كلّها ، لأنّه لم تكن في ذمّته أضحيّةٌ واجبةٌ وقت الشّراء ، فكان الشّراء بنيّة التّضحية إيجاباً لها بمنزلة نذر الأضحيّة المعيّنة ، فكان نقصانها كهلاكها يسقط به إيجابها . ويعلم من هذا أنّ الفقير أو الغنيّ لو أوجب على نفسه بالنّذر أضحيّةً غير معيّنةٍ ، ثمّ اشترى شاةً بنيّة التّضحية ، فتعيّبت ، لم تجزئ ، لأنّ الشّراء في هذه الحالة ليس إيجاباً ، وإنّما هو إقامةٌ لما يشتريه مقام الواجب . ومن شرط الإقامة السّلامة ، فإذا لم تجزئ إقامتها مقام الواجب بقي الواجب في ذمّته كما كان . وكالشّاة الّتي عجفت بعد الشّراء ، كلّ النّعم الّتي يحدث لها بعد الشّراء عيبٌ مخلٌّ ، أو تموت ، أو تسرق ، ففيها التّفصيل السّابق .
31 - ولو قدّم المضحّي أضحيّةً ليذبحها ، فاضطربت في المكان الّذي يذبحها فيه ، فانكسرت رجلها ، أو انقلبت فأصابتها الشّفرة في عينها فاعورّت أجزأته ، لأنّ هذا ممّا لا يمكن الاحتراز عنه ، لأنّ الشّاة تضطرب عادةً ، فتلحقها العيوب من اضطرابها . هذا مذهب الحنفيّة . وذهب المالكيّة إلى أنّ الأضحيّة المعيّنة بالنّذر أو بغيره إذا حدث بها عيبٌ مخلٌّ لم تجزئ ، وله التّصرّف فيها بالبيع وغيره ، وعليه التّضحية بأخرى إن كانت منذورةً ، ويسنّ له التّضحية بأخرى إن لم تكن منذورةً . هذا إن تعيّبت قبل الإضجاع للذّبح ، أمّا لو تعيّبت بعد الإضجاع له فيجزئ ذبحها .
وقال الشّافعيّة : من أوجب أضحيّةً معيّنةً بالنّذر أو الجعل ، ثمّ طرأ عليها - عيبٌ يمنع إجزاءها قبل دخول الوقت الّذي تجزئ فيه التّضحية ، أو بعد دخوله وقبل تمكّنه من الذّبح ، ولم يقع منه تفريطٌ ولا اعتداءٌ - لم يلزمه بدلها ، لزوال ملكه عنها من حين الإيجاب ، ويلزمه أن يذبحها في الوقت ويتصدّق بها كالأضحيّة ، وإن لم تكن أضحيّةً . وإذا طرأ العيب باعتدائه أو تفريطه أو تأخّره عن الذّبح في أوّل الوقت بلا عذرٍ لزمه ذبحها في الوقت والتّصدّق بها ، ولزمه أيضاً أن يضحّي بأخرى لتبرأ ذمّته . ولو اشترى شاةً وأوجبها بالنّذر أو الجعل ، ثمّ وجد بها عيباً قديماً ، فليس له أن يردّها على البائع ، لأنّه زال ملكه عنها بمجرّد الإيجاب ، فيتعيّن أن يبقيها ، وله أن يأخذ أرش النّقص من البائع ، ولا يجب عليه التّصدّق به ، لأنّه ملكه ، وعليه أن يذبحها في الوقت ، ويتصدّق بها كلّها لشبهها بالأضحيّة ، وإن لم تكن أضحيّةً ، ويسقط عنه الوجوب بهذا الذّبح ، ويسنّ له أن يردفها بسليمةٍ ، لتحصل له سنّة التّضحية . ولو زال عيبها قبل الذّبح لم تصر أضحيّةً إذ السّلامة لم توجد إلاّ بعد زوال ملكه عنها . ومن عيّن شاةً ليضحّي بها من غير إيجابٍ بنذرٍ ولا جعلٍ ، فطرأ عليها عيبٌ مخلٌّ بالإجزاء لم تجزئ التّضحية بها ، ولا فرق في طروء العيب بين كونه عند الذّبح أو قبله ، فلو أضجع شاةً ليضحّي بها وهي ، سليمةٌ فاضطربت ، وانكسرت رجلها ، أو عرجت تحت السّكّين لم تجزئه على الأصحّ عند الشّافعيّة . ومذهب الحنابلة قريبٌ من مذهب الشّافعيّة ، إلاّ أنّهم يقولون : إنّ الواجبة لا يجب التّصدّق بجميعها بل ببعضها ، كما أنّهم يقولون بإجزاء التّضحية إذا عيّن شاةً صحيحةً للتّضحية ، ثمّ حدث بها عيبٌ يمنع الإجزاء .
32 - الشّرط الرّابع : أن تكون مملوكةً للذّابح ، أو مأذوناً له فيها صراحةً أو دلالةً ، فإن لم تكن كذلك لم تجزئ التّضحية بها عن الذّابح ، لأنّه ليس مالكاً لها ولا نائباً عن مالكها ، لأنّه لم يأذن له في ذبحها عنه ، والأصل فيما يعمله الإنسان أن يقع للعامل ، ولا يقع لغيره إلاّ بإذنه . فلو غصب إنسانٌ شاةً ، فضحّى بها عن مالكها - من غير إجازته - لم تقع أضحيّةً عنه ، لعدم الإذن منه ، ولو ضحّى بها عن نفسه لم تجزئ عنه ، لعدم الملك ، ثمّ إن أخذها صاحبها مذبوحةً ، وضمّنه النّقصان ، فكذلك لا تجزئ عن واحدٍ منهما . وإن لم يأخذها صاحبها ، وضمّنه قيمتها حيّةً ، أجزأت عن الذّابح ، لأنّه ملكها بالضّمان من وقت الغصب ، فصار ذابحاً لشاةٍ هي ملكه ، لكنّه آثمٌ ، لأنّ ابتداء فعله وقع محظوراً ، فتلزمه التّوبة والاستغفار . وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه وقولٌ للمالكيّة . وقال زفر والشّافعيّة ، وهو أحد قولي المالكيّة ، وأحد روايتي الحنابلة ، لا تجزئ عنه ، لأنّ الضّمان لا يوجب الملك عندهم . ر : ( غصبٌ ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
33 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لو اشترى إنسانٌ شاةً فأضجعها ، وشدّ قوائمها للتّضحية بها ، فجاء إنسانٌ آخر فذبحها بغير إذنه صحّت أضحيّةً لمالكها ، لوجود الإذن منه دلالةً . وعند الحنابلة إذا عيّن الأضحيّة فذبحها غيره بغير إذنه أجزأت عن صاحبها ، ولا ضمان على ذابحها . واشترط المالكيّة لإجزائها وجود الإذن صراحةً أو اعتياده ذلك . ولو اشترى إنسانٌ شاةً ليضحّي بها ، فلمّا ذبحها تبيّن ببيّنةٍ أنّها مستحقّةٌ - أي أنّها كانت ملك إنسانٍ غير البائع - فحكمها حكم المغصوبة ، وشراؤه إيّاها بمنزلة العدم ، صرّح بذلك المالكيّة والحنابلة .
34 - ولو أودع رجلٌ رجلاً شاةً ، فضحّى بها عن نفسه ، فاختار صاحبها القيمة فأخذها ، فإنّ الشّاة لا تكون أضحيّةً عن الذّابح ، بخلاف المغصوبة والمستحقّة عند أبي حنيفة وصاحبيه ، ووجه الفرق أنّ سبب وجوب الضّمان في الوديعة هو الذّبح ، فلا يعتبر الذّابح مالكاً إلاّ بعد الذّبح ، فحين الذّبح لم يذبح ما هو مملوكٌ له ، فلم يجزئه أضحيّةً ، وسبب وجوب الضّمان في الغصب والاستحقاق هو الأخذ السّابق على الذّبح ، والضّمان يوجب الملكيّة كما سبق ، فيكون الذّابح في حالتي الغصب والاستحقاق ذابحاً ما هو مملوكٌ له فيجزئ عنه . وما قيل في الوديعة يقال في العاريّة والمستأجرة .
النّوع الثّاني :
شرائط ترجع إلى المضحّي يشترط في المضحّي لصحّة التّضحية ثلاثة شروطٍ :
35 - الشّرط الأوّل : نيّة التّضحية : لأنّ الذّبح قد يكون للّحم ، وقد يكون للقربة ، والفعل لا يقع قربةً إلاّ بالنّيّة ، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّما الأعمال بالنّيّات ، وإنّما لكلّ امرئٍ ما نوى » . والمراد بالأعمال القربات ، ثمّ إنّ القربات من الذّبائح أنواعٌ كثيرةٌ ، كهدي التّمتّع والقران والإحصار وجزاء الصّيد وكفّارة الحلف وغير ذلك من محظورات الحجّ والعمرة ، فلا تتعيّن الأضحيّة من بين هذه القربات إلاّ بنيّة التّضحية ، وتكفي النّيّة بالقلب دون التّلفّظ بها كما في الصّلاة ، لأنّ النّيّة عمل القلب ، والذّكر باللّسان دليلٌ على ما فيه . وقد اتّفق على هذا الشّرط الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . وصرّح الشّافعيّة باستثناء المعيّنة بالنّذر ، كأن قال بلسانه - من غير نيّةٍ بقلبه - للّه عليّ نذر أن أضحّي بهذه الشّاة ، فإنّ نذره ينعقد باللّفظ ولو بلا نيّةٍ ، ولا تشترط النّيّة عند ذبحها ، بخلاف المجعولة ، بأن قال بلسانه : جعلت هذه الشّاة أضحيّةً ، فإنّ إيجابه ينعقد وإن لم ينو عند النّطق ، لكن لا بدّ من النّيّة عند ذبحها إن لم ينو عند النّطق . وقالوا : لو وكّل في الذّبح كفت نيّته ولا حاجة لنيّة الوكيل ، بل لا حاجة لعلمه بأنّها أضحيّةٌ . وقالوا أيضاً : يجوز لصاحب الأضحيّة أن يفوّض في نيّة التّضحية مسلماً مميّزاً ينوي عند الذّبح أو التّعيين ، بخلاف الكافر وغير المميّز بجنونٍ أو نحوه . وقال الحنابلة : إنّ الأضحيّة المعيّنة لا تجب فيها النّيّة عند الذّبح ، لكن لو ذبحها غير مالكها بغير إذنه ، ونواها عن نفسه عالماً بأنّها ملك غيره لم تجزئ عنهما ، أمّا مع عدم العلم فتجزئ عن المالك ولا أثر لنيّة الفضوليّ .
36 - الشّرط الثّاني : أن تكون النّيّة مقارنةً للذّبح أو مقارنةً للتّعيين السّابق على الذّبح ، سواءٌ أكان هذا التّعيين بشراء الشّاة أم بإفرازها ممّا يملكه ، وسواءٌ أكان ذلك للتّطوّع أم لنذرٍ في الذّمّة ، ومثله الجعل كأن يقول : جعلت هذه الشّاة أضحيّةً ، فالنّيّة في هذا كلّه تكفي عن النّيّة عند الذّبح ، وأمّا المنذورة المعيّنة فلا تحتاج لنيّةٍ كما سبق . هذا عند الشّافعيّة . أمّا الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة فتكفي عندهم النّيّة السّابقة عند الشّراء أو التّعيين .
37 - الشّرط الثّالث : ألاّ يشارك المضحّي فيما يحتمل الشّركة من لا يريد القربة رأساً ، فإن شارك لم يصحّ عن الأضحيّة . وإيضاح هذا ، أنّ البدنة والبقرة كلٌّ منهما يجزئ عن سبعةٍ عند الجمهور كما مرّ . فإذا اشترك فيها سبعةٌ ، فلا بدّ أن يكون كلّ واحدٍ منهم مريداً للقربة ، وإن اختلف نوعها . فلو اشترى سبعةٌ أو أقلّ بدنةً ، أو اشتراها واحدٌ بنيّة التّشريك فيها ، ثمّ شرك فيها ستّةً أو أقلّ ، وأراد واحدٌ منهم التّضحية ، وآخر هدي المتعة ، وثالثٌ هدي القران ، ورابعٌ كفّارة الحلف ، وخامسٌ كفّارة الدّم عن ترك الميقات ، وسادسٌ هدي التّطوّع ، وسابعٌ العقيقة عن ولده أجزأتهم البدنة . بخلاف ما لو كان أحدهم يريد سبعها ليأكله ، أو ليطعم أهله ، أو ليبيعه ، فلا تجزئ عن الآخرين الّذين أرادوا القربة . هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّدٍ . وذلك ، لأنّ القربة الّتي في الأضحيّة ، وفي هذه الأنواع كلّها إنّما هي في إراقة الدّم ، وإراقة الدّم في البدنة الواحدة لا تتجزّأ ، لأنّها ذبحٌ واحدٌ ، فإن لم تكن هذه الإراقة قربةً من واحدٍ أو أكثر لم تكن قربةً من الباقين ، بخلاف ما لو كانت هذه الإراقة قربةً من الجميع ، وإن اختلفت جهتها ، أو كان بعضها واجباً وبعضها تطوّعاً . وقال زفر : لا يجزئ الذّبح عن الأضحيّة أو غيرها من القرب عند الاشتراك ، إلاّ إذا كان المشتركون متّفقين في جهة القربة ، كأن يشترك سبعةٌ كلّهم يريد الأضحيّة ، أو سبعةٌ كلّهم يريد جزاء الصّيد ، فإن اختلفوا في الجهة لم يصحّ الذّبح عن واحدٍ منهم ، لأنّ القياس يأبى الاشتراك ، إذ الذّبح فعل واحدٍ لا يتجزّأ ، فلا يتصوّر أن يقع بعضه عن جهةٍ ، وبعضه عن جهةٍ أخرى ، لكن عند اتّحاد الجهة يمكن أن تجعل كقربةٍ واحدةٍ ، ولا يمكن ذلك عند الاختلاف ، فبقي الأمر فيه مردوداً إلى القياس . وروي عن أبي حنيفة أنّه كره الاشتراك عند اختلاف الجهة ، وقال : لو كان هذا من نوعٍ واحدٍ لكان أحبّ إليّ ، وهكذا قال أبو يوسف .
38 - ولو اشترى رجلٌ بقرةً يريد أن يضحّي بها ، ثمّ أشرك فيها بعد ذلك غيره ، فإن كان فقيراً حين اشتراها فقد أوجبها على نفسه كما سبق ، فلا يجوز أن يشرك فيها غيره . وإن كان غنيّاً مقيماً ، وقد اشتراها قبل وقت الوجوب ، أو غنيّاً مسافراً فكذلك . وإن كان غنيّاً مقيماً ، واشتراها بعد وقت الوجوب فإنّ شراءها لا يوجبها كما تقدّم ، فيجوز له أن يشرك فيها معه ستّةً أو أقلّ يريدون القربة ، لكنّ ذلك مكروهٌ لأنّه لمّا اشتراها بنيّة التّضحية كان ذلك منه وعداً أن يضحّي بها كلّها عن نفسه ، وإخلاف الوعد مكروهٌ ، وينبغي في هذه الحالة أن يتصدّق بالثّمن الّذي أخذه ممّن أشركهم معه ، لما روي « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دفع إلى حكيم بن حزامٍ رضي الله عنه ديناراً ، وأمره أن يشتري له أضحيّةً ، فاشترى شاةً وباعها بدينارين ، واشترى بأحدهما شاةً وجاء النّبيّ عليه الصلاة والسلام بشاةٍ ودينارٍ ، وأخبره بما صنع ، فأمره عليه الصلاة والسلام أن يضحّي بالشّاة ، ويتصدّق بالدّينار » هذا كلّه مذهب الحنفيّة . وخالفهم الشّافعيّة والحنابلة فأجازوا أن يشترك مريد التّضحية أو غيرها من القربات مع مريد اللّحم ، حتّى لو كان لمريد التّضحية سبع البدنة ، ولمريد الهدي سبعها ، ولمريد العقيقة سبعها ، ولمريد اللّحم باقيها ، فذبحت بهذه النّيّات جاز ، لأنّ الفعل إنّما يصير قربةً من كلّ واحدٍ بنيّته لا بنيّة شريكه ، فعدم النّيّة من أحدهم لا يقدح في قربة الباقين . وقال المالكيّة : لا يجوز الاشتراك في الثّمن أو اللّحم ، فإن اشترك جماعةٌ في الثّمن ، بأن دفع كلّ واحدٍ منهم جزءاً منه ، أو اشتركوا في اللّحم ، بأن كانت الشّاة أو البدنة مشتركةً بينهم لم تجزئ عن واحدٍ منهم ، بخلاف إشراكهم في الثّواب ممّن ضحّى بها قبل الذّبح كما مرّ .
وقت التّضحية مبدأٌ ونهايةٌ مبدأ الوقت :
39 - قال الحنفيّة : يدخل وقت التّضحية عند طلوع فجر يوم النّحر ، وهو يوم العيد ، وهذا الوقت لا يختلف في ذاته بالنّسبة لمن يضحّي في المصر أو غيره . لكنّهم اشترطوا في صحّتها لمن يضحّي في المصر أن يكون الذّبح بعد صلاة العيد ، ولو قبل الخطبة ، إلاّ أنّ الأفضل تأخيره إلى ما بعد الخطبة ، وإذا صلّيت صلاة العيد في مواضع من المصر كفى في صحّة التّضحية الفراغ من الصّلاة في أحد المواضع . وإذا عطّلت صلاة العيد ينتظر حتّى يمضي وقت الصّلاة بأن تزول الشّمس ، ثمّ يذبح بعد ذلك . وأمّا من يضحّي في غير المصر فإنّه لا تشترط له هذه الشّريطة ، بل يجوز أن يذبح بعد طلوع فجر يوم النّحر ، لأنّ أهل غير المصر ليس عليهم صلاة العيد . وإذا كان من عليه الأضحيّة مقيماً في المصر ، ووكّل من يضحّي عنه في غيره أو بالعكس ، فالعبرة بمكان الذّبح لا بمكان الموكّل المضحّي ، لأنّ الذّبح هو القربة . وقال المالكيّة ، وهو أحد أقوال الحنابلة : إنّ أوّل وقت التّضحية بالنّسبة لغير الإمام هو وقت الفراغ من ذبح أضحيّة الإمام بعد الصّلاة والخطبتين في اليوم الأوّل ، وبالنّسبة للإمام هو وقت الفراغ من صلاته وخطبته ، فلو ذبح الإمام قبل الفراغ من خطبتيه لم يجزئه ، ولو ذبح النّاس قبل الفراغ من ذبح أضحيّة الإمام لم يجزئهم ، إلاّ إذا بدءوا بعد بدئه ، وانتهوا بعد انتهائه أو معه . وإذا لم يذبح الإمام أو توانى في الذّبح بعد فراغ خطبتيه بلا عذرٍ أو بعذرٍ تحرّى النّاس القدر الّذي يمكن فيه الذّبح ، ثمّ ذبحوا أضاحيّهم ، فتجزئهم وإن سبقوه لكن عند التّواني بعذرٍ ، كقتال عدوٍّ أو إغماءٍ أو جنونٍ يندب انتظاره حتّى يفرغ من تضحيته ، إلاّ إذا قرب زوال الشّمس فينبغي للنّاس حينئذٍ أن يضحّوا ولو قبل الإمام . ثمّ إن لم يكن في البلد إلاّ نائب الإمام الحاكم أو إمام الصّلاة فالمعتبر نائب الإمام ، وإن كان فيها هذا وذاك ، وأخرج نائب الإمام أضحيّته إلى المصلّى فهو المعتبر ، وإلاّ فالمعتبر إمام الصّلاة ، فإن لم يكن هذا ولا ذاك تحرّوا تضحية إمام أقرب البلاد إليهم إن كان واحداً ، فإن تعدّد تحرّوا تضحية أقرب الأئمّة لبلدهم . وقال الشّافعيّة ، وهو أحد أقوالٍ للحنابلة : يدخل وقت التّضحية بعد طلوع الشّمس يوم عيد النّحر بمقدار ما يسع ركعتين خفيفتين وخطبتين خفيفتين ، والمراد بالخفّة الاقتصار على ما يجزئ في الصّلاة والخطبتين . قالوا : وإنّما لم تتوقّف صحّة التّضحية على الفراغ من صلاة الإمام وخطبتيه بالفعل لأنّ الأئمّة يختلفون تطويلاً وتقصيراً ، فاعتبر الزّمان ليكون أشبه بمواقيت الصّلاة وغيرها ، وأضبط للنّاس في الأمصار والقرى والبوادي ، وهذا هو المراد بالأحاديث الّتي تقدّمت ، « وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي صلاة عيد الأضحى عقب طلوع الشّمس » . والأفضل تأخير التّضحية عن ارتفاع الشّمس قدر رمحٍ بالمقدار السّابق الذّكر . وذهب الحنابلة في قولٍ ثالثٍ لهم وهو الأرجح ، إلى أنّ وقتها يبتدئ بعد صلاة العيد ولو قبل الخطبة لكنّ الأفضل انتظار الخطبتين . ولا يلزم انتظار الفراغ من الصّلاة في جميع الأماكن إن تعدّدت ، بل يكفي الفراغ من واحدةٍ منها ، وإذا كان مريد التّضحية في جهةٍ لا يصلّى فيها العيد - كالبادية وأهل الخيام ممّن لا عيد عليهم - فالوقت يبتدئ بعد مضيّ قدر صلاة العيد من ارتفاع الشّمس قدر رمحٍ . وإذا فاتت صلاة العيد بالزّوال في الأماكن الّتي تصلّى فيها ضحّوا من حين الفوات .
نهاية وقت التّضحية :
40 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ أيّام التّضحية ثلاثةٌ ، وهي يوم العيد ، واليومان الأوّلان من أيّام التّشريق ، فينتهي وقت التّضحية بغروب شمس اليوم الأخير من الأيّام المذكورة ، وهو ثاني أيّام التّشريق . واحتجّوا بأنّ عمر وعليّاً وأبا هريرة وأنساً وابن عبّاسٍ وابن عمر رضي الله عنهم أخبروا أنّ أيّام النّحر ثلاثةٌ . ومعلومٌ أنّ المقادير لا يهتدى إليها بالرّأي ، فلا بدّ أن يكون هؤلاء الصّحابة الكرام أخبروا بذلك سماعاً . وقال الشّافعيّة - وهو القول الآخر للحنابلة واختاره ابن تيميّة - أيّام التّضحية أربعةٌ ، تنتهي بغروب شمس اليوم الثّالث من أيّام التّشريق ، وهذا القول مرويٌّ عن عليٍّ وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم أيضاً ، ومرويٌّ كذلك عن جبير بن مطعمٍ رضي الله عنه ، وعن عطاءٍ والحسن البصريّ وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى الأسديّ ومكحولٍ . وحجّة القائلين بهذا قوله عليه الصلاة والسلام : « كلّ أيّام التّشريق ذبحٌ » .
التّضحية في ليالي أيّام النّحر :
41 - أمّا ليلة عيد الأضحى فليست وقتاً للتّضحية بلا خلافٍ ، وكذلك اللّيلة المتأخّرة من أيّام النّحر ، وإنّما الخلاف في اللّيلتين أو اللّيالي المتوسّطة بين أيّام النّحر . فالمالكيّة يقولون : لا تجزئ التّضحية الّتي تقع في اللّيلتين المتوسّطتين ، وهما ليلتا يومي التّشريق من غروب الشّمس إلى طلوع الفجر . وهذا أحد قولي الحنابلة . وقال الحنابلة والشّافعيّة : إنّ التّضحية في اللّيالي المتوسّطة تجزئ مع الكراهة ، لأنّ الذّابح قد يخطئ المذبح ، وإليه ذهب إسحاق وأبو ثورٍ والجمهور . وهو أصحّ القولين عند الحنابلة . واستثنى الشّافعيّة من كراهية التّضحية ليلاً ما لو كان ذلك لحاجةٍ ، كاشتغاله نهاراً بما يمنعه من التّضحية ، أو مصلحةٍ كتيسّر الفقراء ليلاً ، أو سهولة حضورهم .
ما يجب بفوات وقت التّضحية :
42 - ولمّا كانت القربة في الأضحيّة بإراقة الدّم ، وكانت هذه الإراقة لا يعقل السّرّ في التّقرّب بها ، وجب الاقتصار في التّقرّب بها على الوقت الّذي خصّها الشّارع به . فلا تقضى بعينها بعد فوات وقتها ، بل ينتقل التّغرّب إلى التّصدّق بعين الشّاة حيّةً ، أو بقيمتها أو بقيمة أضحيّةٍ مجزئةٍ ، فمن عيّن أضحيّةً شاةً أو غيرها بالنّذر أو بالشّراء بالنّيّة فلم يضحّ بها حتّى مضت أيّام النّحر وجب عليه أن يتصدّق بها حيّةً ، لأنّ الأصل في الأموال التّقرّب بالتّصدّق بها لا بالإتلاف وهو الإراقة . إلاّ أنّ الشّارع نقله إلى إراقة دمها مقيّدةً بوقتٍ مخصوصٍ حتّى أنّه يحلّ أكل لحمها للمالك والأجنبيّ والغنيّ والفقير ، لأنّ النّاس أضياف اللّه تعالى في هذا الوقت .
43 - ومن وجب عليه التّصدّق بالبهيمة حيّةً لم يحلّ له ذبحها ولا الأكل منها ولا إطعام الأغنياء ولا إتلاف شيءٍ منها ، فإن ذبحها وجب عليه التّصدّق بها مذبوحةً ، فإن كانت قيمتها بعد الذّبح أقلّ من قيمتها حيّةً تصدّق بالفرق بين القيمتين فضلاً عن التّصدّق بها . فإن أكل منها بعد الذّبح شيئاً أو أطعم منها غنيّاً أو أتلف شيئاً وجب عليه التّصدّق بقيمته .
44 - ومن وجبت عليه التّضحية ولم يضحّ حتّى فات الوقت ثمّ حضرته الوفاة وجب عليه أن يوصي بالتّصدّق بقيمة شاةٍ من ثلث ماله ، لأنّ الوصيّة هي الطّريق إلى تخليصه من عهدة الواجب . هذا كلّه مذهب الحنفيّة . وللإيصاء بالتّضحية صورٌ نكتفي بالإشارة إليها ، ولتفصيلها وبيان أحكامها ( ر : وصيّةٌ ) . وقال الشّافعيّة والحنابلة : من لم يضحّ حتّى فات الوقت فإن كانت مسنونةً - وهو الأصل - لم يضحّ ، وفاتته تضحية هذا العام ، فإن ذبح ولو بنيّة التّضحية لم تكن ذبيحته أضحيّةً ، ويثاب على ما يعطي الفقراء منها ثواب الصّدقة . وإن كانت منذورةً لزمه أن يضحّي قضاءً ، وهو رأيٌ لبعض المالكيّة ، لأنّها قد وجبت عليه فلم تسقط بفوات الوقت ، فإذا وجبت الأضحيّة بإيجابه لها فضلّت أو سرقت بغير تفريطٍ منه فلا ضمان عليه ، لأنّها أمانةٌ في يده ، فإن عادت إليه ذبحها سواءٌ أكانت عودتها في زمن الأضحيّة أو بعده . فإذا مضى الوقت ولم يضحّ بالشّاة المعيّنة عاد الحكم إلى الأصل ، وهو التّصدّق بعين الأضحيّة حيّةً سواءٌ أكان الّذي عيّنها موسراً أم معسراً أو بقيمتها . وفي هذه الحال لا تحلّ له ولا لأصله ولا لفرعه ولا لغنيٍّ .
ما يستحبّ قبل التّضحية :
45 - يستحبّ قبل التّضحية أمورٌ :
1 - أن يربط المضحّي الأضحيّة قبل يوم النّحر بأيّامٍ ، لما فيه من الاستعداد للقربة وإظهار الرّغبة فيها ، فيكون له فيه أجرٌ وثوابٌ .
2 - أن يقلّدها ويجلّلها قياساً على الهدي ، لأنّ ذلك يشعر بتعظيمها ، قال تعالى : { ومن يعظّم شعائر اللّه فإنّها من تقوى القلوب } .
3 - أن يسوقها إلى مكان الذّبح سوقاً جميلاً لا عنيفاً ولا يجرّ برجلها إليه ، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ اللّه تعالى كتب الإحسان على كلّ شيءٍ ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة ، وليحدّ أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته » .
4 - وقال المالكيّة والشّافعيّة : يسنّ لمن يريد التّضحية ولمن يعلم أنّ غيره يضحّي عنه ألاّ يزيل شيئاً من شعر رأسه أو بدنه بحلقٍ أو قصٍّ أو غيرهما ، ولا شيئاً من أظفاره بتقليمٍ أو غيره ، ولا شيئاً من بشرته كسلعةٍ لا يضرّه بقاؤها ، وذلك من ليلة اليوم الأوّل من ذي الحجّة إلى الفراغ من ذبح الأضحيّة . وقال الحنابلة : إنّ ذلك واجبٌ ، لا مسنونٌ ، وحكي الوجوب عن سعيد بن المسيّب وربيعة وإسحاق . ونقل ابن قدامة عن الحنفيّة عدم الكراهة . وعلى القول بالسّنّيّة يكون الإقدام على هذه الأمور مكروهاً تنزيهاً ، وعلى القول بالوجوب يكون محرّماً . والأصل في ذلك حديث أمّ سلمة رضي الله عنها « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحّي فلا يمسّ من شعره ولا من بشره شيئاً » . وفي روايةٍ أخرى عنها رضي الله عنها أنّه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا رأيتم هلال ذي الحجّة وأراد أحدكم أن يضحّي فليمسك عن شعره وأظفاره » . والقائلون بالسّنّيّة جعلوا النّهي للكراهة . والحديث الدّالّ على عدم تحريم الفعل هو حديث عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : « كنت أفتل قلائد هدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمّ يقلّده ويبعث به ولا يحرم عليه شيءٌ أحلّه اللّه له حتّى ينحر هديه » . قال الشّافعيّ : البعث بالهدي ، أكثر من إرادة التّضحية فدلّ على أنّه لا يحرم ذلك . والحكمة في مشروعيّة الإمساك عن الشّعر والأظفار ونحوهما قيل : إنّها التّشبّه بالمحرم بالحجّ ، والصّحيح : أنّ الحكمة أن يبقى مريد التّضحية كامل الأجزاء رجاء أن يعتق من النّار بالتّضحية .
ما يكره قبل التّضحية :
ذهب الحنفيّة إلى أنّه يكره تحريماً قبل التّضحية أمورٌ :
46 - الأمر الأوّل : حلب الشّاة الّتي اشتريت للتّضحية أو جزّ صوفها ، سواءٌ أكان الّذي اشتراها موسراً أم معسراً ، وكذا الشّاة الّتي تعيّنت بالنّذر ، كأن قال : للّه عليّ أن أضحّي بهذه ، أو قال : جعلت هذه أضحيّةً . وإنّما كره ذلك ، لأنّه عيّنها للقربة فلا يحلّ الانتفاع بها قبل إقامة القربة فيها ، كما لا يحلّ له الانتفاع بلحمها إذا ذبحها قبل وقتها ، ولأنّ الحلب والجزّ يوجبان نقصاً فيها والأضحيّة يمتنع إدخال النّقص فيها . واستثنى بعضهم الشّاة الّتي اشتراها الموسر بنيّة التّضحية ، لأنّ شراءه إيّاها لم يجعلها واجبةً ، إذ الواجب عليه شاةٌ في ذمّته كما تقدّم . وهذا الاستثناء ضعيفٌ ، فإنّها متعيّنةٌ للقربة ما لم يقم غيرها مقامها ، فقبل أن يذبح غيرها بدلاً منها لا يجوز له أن يحلبها ، ولا أن يجزّ صوفها للانتفاع به . ولهذا لا يحلّ له لحمها إذا ذبحها قبل وقتها . فإن كان في ضرع الأضحيّة المعيّنة لبنٌ وهو يخاف عليها الضّرر والهلاك إن لم يحلبها نضح ضرعها بالماء البارد حتّى يتقلّص اللّبن ، لأنّه لا سبيل إلى الحلب . فإن حلبه تصدّق باللّبن ، لأنّه جزءٌ من شاةٍ متعيّنةٍ للقربة . فإن لم يتصدّق به حتّى تلف أو شربه مثلاً وجب عليه التّصدّق بمثله أو بقيمته . وما قيل في اللّبن يقال في الصّوف والشّعر والوبر . وقال المالكيّة : يكره - أي تنزيهاً - شرب لبن الأضحيّة بمجرّد شرائها أو تعيينها من بين بهائمه للتّضحية ، ويكره أيضاً جزّ صوفها قبل الذّبح ، لما فيه من نقص جمالها ، ويستثنى من ذلك صورتان :
أولاهما : أن يعلم أنّه ينبت مثله أو قريبٌ منه قبل الذّبح .
ثانيتهما : أن يكون قد أخذها بالشّراء ونحوه ، أو عيّنها للتّضحية بها من بين بهائمه ناوياً جزّ صوفها ، ففي هاتين الصّورتين لا يكره جزّ الصّوف . وإذا جزّه في غير هاتين الصّورتين كره له بيعه . وقال الشّافعيّة والحنابلة : لا يشرب من لبن الأضحيّة إلاّ الفاضل عن ولدها ، فإن لم يفضل عنه شيءٌ أو كان الحلب يضرّ بها أو ينقص لحمها لم يكن له أخذه ، وإن لم يكن كذلك فله أخذه والانتفاع به . وقالوا أيضاً : إن كان بقاء الصّوف لا يضرّ بها أو كان أنفع من الجزّ لم يجز له أخذه ، وإن كان يضرّ بها أو كان الجزّ أنفع منه جاز الجزّ ووجب التّصدّق بالمجزوز .
47 - الأمر الثّاني : من الأمور الّتي تكره تحريماً عند الحنفيّة قبل التّضحية - بيع الشّاة المتعيّنة للقربة بالشّراء أو بالنّذر ، وإنّما كره بيعها ، لأنّها تعيّنت للقربة ، فلم يحلّ الانتفاع بثمنها كما لم يحلّ الانتفاع بلبنها وصوفها ، ثمّ إنّ البيع مع كراهته ينفذ عند أبي حنيفة ومحمّدٍ ، لأنّه بيع مالٍ مملوكٍ منتفعٍ به مقدورٍ على تسليمه ، وعند أبي يوسف لا ينفذ ، لأنّه بمنزلة الوقف . وبناءً على نفاذ بيعها فعليه مكانها مثلها أو أرفع منها فيضحّي بها ، فإن فعل ذلك فليس عليه شيءٌ آخر ، وإن اشترى دونها فعليه أن يتصدّق بفرق ما بين القيمتين ، ولا عبرة بالثّمن الّذي حصل به البيع والشّراء إن كان مغايراً للقيمة . وقال المالكيّة : يحرم بيع الأضحيّة المعيّنة بالنّذر وإبدالها ، وأمّا الّتي لم تتعيّن بالنّذر فيكره أن يستبدل بها ما هو مثلها أو أقلّ منها . فإذا اختلطت مع غيرها واشتبهت وكان بعض المختلط أفضل من بعضٍ كره له ترك الأفضل بغير قرعةٍ . وقال الشّافعيّة : لا يجوز بيع الأضحيّة الواجبة ولا إبدالها ولو بخيرٍ منها ، وإلى هذا ذهب أبو ثورٍ واختاره أبو الخطّاب من الحنابلة . ولكنّ المنصوص عن أحمد - وهو الرّاجح عند الحنابلة - أنّه يجوز أن يبدّل الأضحيّة الّتي أوجبها بخيرٍ منها ، وبه قال عطاءٌ ومجاهدٌ وعكرمة .
47 - الأمر الثّالث" م": - من الأمور الّتي تكره تحريماً عند الحنفيّة قبل التّضحية - بيع ما ولد للشّاة المتعيّنة بالنّذر أو بالشّراء بالنّيّة ، وإنّما كره بيعه ، لأنّ أمّه تعيّنت للأضحيّة ، والولد يتبع الأمّ في الصّفات الشّرعيّة كالرّقّ والحرّيّة ، فكان يجب الإبقاء عليه حتّى يذبح معها . فإذا باعه وجب عليه التّصدّق بثمنه . وقال القدوريّ : يجب ذبح الولد ، ولو تصدّق به حيّاً جاز ، لأنّ الحقّ لم يسر إليه ولكنّه متعلّقٌ به ، فكان كجلّها وخطامها ، فإن ذبحه تصدّق بقيمته ، وإن باعه تصدّق بثمنه . وفي الفتاوى الخانيّة أنّه يستحبّ التّصدّق به حيّاً ، ويجوز ذبحه ، وإذا ذبح وجب التّصدّق به ، فإن أكل منه تصدّق بقيمة ما أكل . وقال المالكيّة : يحرم بيع ولد الأضحيّة المعيّنة بالنّذر ، ويندب ذبح ولد الأضحيّة مطلقاً ، سواءٌ أكانت معيّنةً بالنّذر أم لا إذا خرج قبل ذبحها ، فإذا ذبح سلك به مسلك الأضحيّة ، وإذا لم يذبح جاز إبقاؤه وصحّت التّضحية به في عامٍ آخر . وأمّا الولد الّذي خرج بعد الذّبح ، فإن خرج ميّتاً ، وكان قد تمّ خلقه ونبت شعره كان كجزءٍ من الأضحيّة ، وإن خرج حيّاً حياةً محقّقةً وجب ذبحه لاستقلاله بنفسه . وقال الشّافعيّة : إذا نذر شاةً معيّنةً أو قال : جعلت هذه الشّاة أضحيّةً ، أو نذر أضحيّةً في الذّمّة ثمّ عيّن شاةً عمّا في ذمّته ، فولدت الشّاة المذكورة وجب ذبح ولدها في الصّور الثّلاث ، والأصحّ أنّه لا يجب تفرقته على الفقراء بخلاف أمّه ، إلاّ إذا ماتت أمّه فيجب تفرقته عليهم ، وولد الأضحيّة في غير هذه الصّور الثّلاث لا يجب ذبحه ، وإذا ذبح لم يجب التّصدّق بشيءٍ منه ، ويجوز فيه الأكل والتّصدّق والإهداء ، وإذا تصدّق بشيءٍ منه لم يغن عن وجوب التّصدّق بشيءٍ منها . وقال الحنابلة : إذا عيّن أضحيّةً فولدت فولدها تابعٌ لها ، حكمه حكمها ، سواءٌ أكانت حاملاً به حين التّعيين ، أو حدث الحمل بعده ، فيجب ذبحه في أيّام النّحر ، وقد روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنّ رجلاً سأله فقال : يا أمير المؤمنين إنّي اشتريت هذه البقرة لأضحّي بها ، وإنّها وضعت هذا العجل ؟ فقال عليٌّ : لا تحلبها إلاّ فضلاً عن تيسير ولدها فإذا كان يوم الأضحى فاذبحها وولدها عن سبعةٍ .
48 - الأمر الرّابع : - من الأمور الّتي تكره تحريماً عند الحنفيّة قبل التّضحية - ركوب الأضحيّة واستعمالها والحمل عليها . فإن فعل شيئاً منها أثم ، ولم يجب عليه التّصدّق بشيءٍ ، إلاّ أن يكون هذا الفعل نقّص قيمتها ، فعليه أن يتصدّق بقيمة النّقص . فإن آجرها للرّكوب أو الحمل تصدّق بقيمة النّقص فضلاً عن تصدّقه بالكراء . وللمالكيّة في إجارة الأضحيّة قبل ذبحها قولان :
أحدهما : المنع
وثانيهما : الجواز وهو المعتمد . وقال الشّافعيّة : يجوز لصاحب الأضحيّة الواجبة ركوبها وإركابها بلا أجرةٍ ، وإن تلفت أو نقصت بذلك ضمنها . لكن إن حصل ذلك في يد المستعير ضمنها المستعير ، وإنّما يضمنها هو أو المستعير إذا تلفت أو نقصت بعد دخول الوقت والتّمكّن من الذّبح ، أمّا قبله فلا ضمان ، لأنّها أمانةٌ في يد المعير ، ومن المعلوم أنّ المستعير إنّما يضمن إذا لم تكن يد معيره يد أمانةٍ .
49 - هذا وهناك مكروهاتٌ ذكرت في غير كتب الحنفيّة : منها : ما صرّح به المالكيّة من أنّ التّغالي بكثرة ثمنها زيادةٌ على عادة أهل البلد يكره - أي تنزيهاً - لأنّ شأن ذلك المباهاة . وكذا زيادة العدد . فإن نوى بزيادة الثّمن أو العدد الثّواب وكثرة الخير لم يكره بل يندب .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ما يستحبّ وما يكره عند إرادة التّضحية :
50 - لمّا كانت التّضحية نوعاً من التّذكية ، كانت مستحبّات التّذكية من ذبحٍ ونحرٍ مستحبّةً فيها ، ومكروهاتها مكروهةٌ فيها . ولتفصيل ما يستحبّ وما يكره في التّذكية ( ر : ذبائح ) . وللتّضحية مستحبّاتٌ ومكروهاتٌ خاصّةٌ تكون عندها ، وهي إمّا أن ترجع إلى الأضحيّة ، أو إلى المضحّي ، أو إلى الوقت . ولنذكر ذلك في ثلاثة مباحث : ما يرجع إلى الأضحيّة من المستحبّات والمكروهات عند التّضحية :
51 - يستحبّ في الأضحيّة أن تكون أسمن وأعظم بدناً من غيرها ، لقوله تعالى : { ومن يعظّم شعائر اللّه فإنّها من تقوى القلوب } . ومن تعظيمها أن يختارها صاحبها عظيمة البدن سمينةً . وإذا اختار التّضحية بالشّياه ، فأفضلها الكبش الأملح الأقرن الموجوء ( أي المخصيّ ) ، لحديث أنسٍ رضي الله عنه : « ضحّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين » ، ولأنّه صلى الله عليه وسلم « ضحّى بكبشين أملحين موجوءين » ، والأقرن : العظيم القرن ، والأملح : الأبيض ، والموجوء : قيل : هو المدقوق الخصيتين ، وقيل : هو الخصيّ ، وفي الحديث أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « دم عفراء أحبّ إلى اللّه من دم سوداوين » . قال الحنفيّة : الشّاة أفضل من سبع البقرة . بل أفضل من البقرة إن استوتا في القيمة ومقدار اللّحم . والأصل في هذا أنّ ما استويا في مقدار اللّحم والقيمة فأطيبهما لحماً أفضل . وما اختلفا فيهما فالفاضل أولى ، والذّكر من الضّأن والمعز إذا كان موجوءاً فهو أولى من الأنثى ، وإلاّ فالأنثى أفضل عند الاستواء في القيمة ومقدار اللّحم . والأنثى من الإبل والبقر أفضل من الذّكر عند استواء اللّحم والقيمة . وقال المالكيّة : يندب أن تكون جيّدةً ، بأن تكون أعلى النّعم ، وأن تكون سمينةً ، ويندب أيضاً تسمينها ، لحديث أبي أمامة رضي الله عنه .« قال : كنّا نسمّن الأضحيّة بالمدينة ، وكان المسلمون يسمّنون » . والذّكر أفضل من الأنثى ، والأقرن أفضل من الأجمّ ، ويفضّل الأبيض على غيره ، والفحل على الخصيّ إن لم يكن الخصيّ أسمن ، وأفضل الأضاحيّ ضأنٌ مطلقاً : فحله ، فخصيّه ، فأنثاه ، فمعزٌ كذلك ، واختلف فيما يليهما أهي الإبل أم البقر . والحقّ أنّ ذلك يختلف باختلاف البلاد ، ففي بعضها تكون الإبل أطيب لحماً فتكون أفضل ، وفي بعضها يكون البقر أطيب لحماً فيكون أفضل . وقال الشّافعيّة : أفضل الأضاحيّ سبع شياهٍ ، فبدنةٌ فبقرةٌ ، فشاةٌ واحدةٌ ، فسبع بدنةٍ ، فسبع بقرةٍ ، والضّأن أفضل من المعز ، والذّكر الّذي لم ينز أفضل من الأنثى الّتي لم تلد ، ويليهما الذّكر الّذي ينزو ، فالأنثى الّتي تلد . والبيضاء أفضل ، فالعفراء ، فالصّفراء ، فالحمراء ، فالبلقاء ، ويلي ذلك السّوداء . ويستحبّ تسمين الأضحيّة . وقال الحنابلة : أفضل الأضاحيّ البدنة ، ثمّ البقرة ، ثمّ الشّاة ، ثمّ شركٌ في بدنةٍ ، ثمّ شركٌ في بقرةٍ .
52 - ويكره في الأضحيّة أن تكون معيبةً بعيبٍ لا يخلّ بالإجزاء . ما يستحبّ في التّضحية من أمورٍ ترجع إلى المضحّي :
53 - أن يذبح بنفسه إن قدر عليه ، لأنّه قربةٌ ، ومباشرة القربة أفضل من تفويض إنسانٍ آخر فيها ، فإن لم يحسن الذّبح فالأولى توليته مسلماً يحسنه ، ويستحبّ في هذه الحالة أن يشهد الأضحيّة لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها : « يا فاطمة قومي إلى أضحيّتك فاشهديها » . وقد اتّفقت المذاهب على هذا . غير أنّ الشّافعيّة قالوا : الأفضل للأكثر والخنثى والأعمى التّوكيل وإن قدروا على الذّبح . ولهذه النّقطة تتمّةٌ ستأتي .
54 - أن يدعو فيقول : ( اللّهمّ منك ولك ، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه ربّ العالمين لا شريك له ، وبذلك أمرت ، وأنا من المسلمين ) لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة رضي الله عنها أن تقول : « إنّ صلاتي ونسكي ... » إلخ . ولحديث جابرٍ رضي الله عنه أنّه قال : « ذبح النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الذّبح كبشين أقرنين أملحين موجوءين فلمّا وجّههما قال : إنّي وجّهت وجهي للّذي فطر السّموات والأرض على ملّة إبراهيم حنيفاً وما أنا من المشركين ، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه ربّ العالمين لا شريك له ، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين . اللّهمّ منك ولك عن محمّدٍ وأمّته ، بسم اللّه واللّه أكبر ثمّ ذبح » . هذا مذهب الحنفيّة . وقال المالكيّة يكره قول المضحّي عند التّسمية " اللّهمّ منك وإليك " ، لأنّه لم يصحبه عمل أهل المدينة . وقال الشّافعيّة : يستحبّ بعد التّسمية التّكبير ثلاثاً والصّلاة والسّلام على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والدّعاء بالقبول ، بأن يقول : اللّهمّ هذا منك وإليك ، واختلفوا في إكمال التّسمية بأن يقال : ( الرّحمن الرّحيم ) فقيل : لا يستحبّ ، لأنّ الذّبح لا تناسبه الرّحمة ، وقيل : يستحبّ وهو أكمل ، لأنّ في الذّبح رحمةً بالآكلين . وقال الحنابلة : يقول المضحّي عند الذّبح : ( بسم اللّه واللّه أكبر ). والتّسمية واجبةٌ عند التّذكّر والقدرة ، والتّكبير مستحبٌّ ، فقد ثبت أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح قال : بسم اللّه واللّه أكبر » . وفي حديث أنسٍ « وسمّى وكبّر » وإن زاد فقال : اللّهمّ هذا منك ولك ، اللّهمّ تقبّل منّي أو من فلانٍ فحسنٌ ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتي بكبشٍ له ليذبحه فأضجعه ثمّ قال : اللّهمّ تقبّل من محمّدٍ وآل محمّدٍ وأمّة محمّدٍ ثمّ ضحّى به » .
55 - أن يجعل الدّعاء المذكور قبل ابتداء الذّبح أو بعد انتهائه ويخصّ حالة الذّبح بالتّسمية مجرّدةً . هكذا قال الحنفيّة . ويكره عند الحنفيّة خلط التّسمية بكلامٍ آخر حالة الذّبح ولو كان دعاءً ، لأنّه ينبغي كما تقدّم أن تجعل الأدعية سابقةً على ابتداء الذّبح أو متأخّرةً عن الفراغ منه .
ما يرجع إلى وقت التّضحية من المستحبّات والمكروهات :
56 - تستحبّ المبادرة إلى التّضحية ، فالتّضحية في اليوم الأوّل أفضل منها فيما يليه ، لأنّها مسارعةٌ إلى الخير ، وقد قال اللّه تعالى : { وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربّكم وجنّةٍ عرضها السّموات والأرض أعدّت للمتّقين } . والمقصود المسارعة إلى سبب المغفرة والجنّة ، وهو العمل الصّالح . وهذا متّفقٌ عليه بين المذاهب ، غير أنّ للمالكيّة تفصيلاً وهو أنّ التّضحية قبل الزّوال في كلّ يومٍ أفضل منها بعد الزّوال ، والتّضحية من ارتفاع الشّمس إلى ما قبل الزّوال في اليومين الثّاني والثّالث أفضل من التّضحية قبل ذلك من الفجر إلى الارتفاع ، وقد تردّدوا في التّضحية بين زوال اليوم الثّاني وغروبه ، والتّضحية بين فجر اليوم الثّالث وزواله ، أيّتهما أفضل ؟ والرّاجح : أنّ التّضحية في الوقت الأوّل أفضل ، ولا تضحية عندهم في اللّيل كما تقدّم . وتقدّم أيضاً أنّ التّضحية في اللّيل تكره عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . ومعلومٌ ممّا تقدّم أنّ من الفقهاء من لا يجيز لأهل القرى أن يضحّوا إلاّ في الوقت الّذي يضحّي فيه أهل المدن .
ما يستحبّ وما يكره بعد التّضحية :
أ - يستحبّ للمضحّي بعد الذّبح أمورٌ :
57 - منها : أن ينتظر حتّى تسكن جميع أعضاء الذّبيحة فلا ينخع ولا يسلخ قبل زوال الحياة عن جميع جسدها .
58 - ومنها : أن يأكل منها ويطعم ويدّخر ، لقوله تعالى : { وأذّن في النّاس بالحجّ يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامرٍ يأتين من كلّ فجٍّ عميقٍ ، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم اللّه في أيّامٍ معلوماتٍ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } . وقوله عزّ وجلّ : { والبدن جعلناها لكم من شعائر اللّه ، لكم فيها خيرٌ ، فاذكروا اسم اللّه عليها صوافّ ، فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعترّ } .
ولقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا ضحّى أحدكم فليأكل من أضحيّته » .
59 - والأفضل أن يتصدّق بالثّلث ، ويتّخذ الثّلث ضيافةً لأقاربه وأصدقائه ، ويدّخر الثّلث ، وله أن يهب الفقير والغنيّ ، وقد صحّ عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما في صفة أضحيّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ويطعم أهل بيته الثّلث ، ويطعم فقراء جيرانه الثّلث ، ويتصدّق على السّؤال بالثّلث » . قال الحنفيّة : ولو تصدّق بالكلّ جاز ، ولو حبس الكلّ لنفسه جاز ، لأنّ القربة في إراقة الدّم ، وله أن يزيد في الادّخار عن ثلاث ليالٍ ، لأنّ نهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك كان من أجل الدّافّة ، وهم جماعةٌ من الفقراء دفّت ( أي نزلت ) بالمدينة ، فأراد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتصدّق أهل المدينة عليهم بما فضل عن أضاحيّهم ، فنهى عن الادّخار فوق ثلاثة أيّامٍ . ففي حديث عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : « قالوا يا رسول اللّه : إنّ النّاس يتّخذون الأسقية من ضحاياهم ويجعلون فيها الودك ، قال : وما ذاك ؟ قالوا : نهيت أن تؤكل لحوم الأضاحيّ بعد ثلاثٍ ، فقال : إنّما نهيتكم من أجل الدّافّة الّتي دفّت ، فكلوا ، وادّخروا وتصدّقوا » . وفي حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنّه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من ضحّى منكم فلا يصبحنّ بعد ثالثةٍ وفي بيته منه شيءٌ ، فلمّا كان العام المقبل . قالوا يا رسول اللّه نفعل كما فعلنا عام الماضي ؟ قال : كلوا وأطعموا وادّخروا ، فإنّ ذلك العام كان بالنّاس جهدٌ ، فأردت أن تعينوا فيها » . وإطعامها والتّصدّق بها أفضل من ادّخارها ، إلاّ أن يكون المضحّي ذا عيالٍ وهو غير موسّع الحال ، فإنّ الأفضل له حينئذٍ أن يدّخره لعياله توسعةً عليهم ، لأنّ حاجته وحاجة عياله مقدّمةٌ على حاجة غيرهم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « ابدأ بنفسك فتصدّق عليها ، فإن فضل شيءٌ فلأهلك ، فإن فضل شيءٌ عن أهلك فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيءٌ فهكذا وهكذا » . هذا مذهب الحنفيّة .
60 - وهاهنا تنبيهٌ مهمٌّ وهو أنّ أكل المضحّي من الأضحيّة وإطعام الأغنياء والادّخار لعياله تمتنع كلّها عند الحنفيّة في صورٍ .
منها : الأضحيّة المنذورة ، وهو مذهب الشّافعيّة أيضاً . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ المنذورة كغيرها في جواز الأكل .
ومنها : أن يمسك عن التّضحية بالشّاة الّتي عيّنها للتّضحية بالنّذر أو بالنّيّة عند الشّراء حتّى تغرب شمس اليوم الثّالث فيجب التّصدّق بها حيّةً .
ومنها : أن يضحّي عن الميّت بأمره فيجب التّصدّق بالأضحيّة كلّها على المختار .
ومنها : أن تلد الأضحيّة فيجب ذبح الولد على قولٍ ، وإذا ذبح وجب التّصدّق به كلّه ، لأنّه لم يبلغ السّنّ الّتي تجزئ التّضحية فيها ، فلا تكون القربة بإراقة دمه ، فتعيّن أن تكون القربة بالتّصدّق به ، ولهذا قيل : إنّ المستحبّ في الولد التّصدّق به حيّاً .
ومنها : أن يشترك في البدنة سبعةٌ أو أقلّ ، وينوي بعضهم بنصيبه القضاء عن أضحيّةٍ فاتته من عامٍ أو أعوامٍ مضت ، فيجب على جميع الشّركاء التّصدّق بجميع حصصهم ، لأنّ الّذي نوى القضاء لم تصحّ نيّته ، فكان نصيبه تطوّعاً محضاً وهو لم ينو التّقرّب بإراقة الدّم ، لأنّ من وجب عليه القضاء إنّما يقضي بالتّصدّق بالقيمة ، ونصيب المضحّي الّذي نوى القضاء شائعٌ في البدنة كلّها ، فلا سبيل للّذي نوى الأداء أن يأكل شيئاً منها ، فلا بدّ من التّصدّق بجميعها . وقال المالكيّة : يندب للمضحّي الجمع بين الأكل من أضحيّته والتّصدّق والإهداء بلا حدٍّ في ذلك بثلثٍ ولا غيره ولم يفرّقوا بين منذورةٍ وغيرها . وقال الشّافعيّة : يجب بعد ذبح الأضحيّة الواجبة بالنّذر أو الجعل والمعيّنة عن المنذور في الذّمّة التّصدّق بها كلّها ، وأمّا غير الواجبة فيجب بعد الذّبح التّصدّق بجزءٍ من لحمها نيئاً غير قديدٍ ولا تافهٍ جدّاً . وزاد الحنابلة أنّه إذا لم يتصدّق حتّى فاتت ضمن للفقراء ثمن أقلّ ما لا يعتبر تافهاً . فلا يكفي التّصدّق بشيءٍ من الشّحم أو الكبد أو نحوهما ولا التّصدّق بمطبوخٍ ، ولا التّصدّق بقديدٍ وهو المجفّف ، ولا التّصدّق بجزءٍ تافهٍ جدّاً ليس له وقعٌ . ووجوب التّصدّق هو أحد وجهين وهو أصحّهما ، ويكفي في التّصدّق الإعطاء ، ولا يشترط النّطق بلفظ التّمليك ونحوه ، وما عدا الجزء المتصدّق به يجوز فيه الأكل والإهداء لمسلمٍ والتّصدّق على مسلمٍ فقيرٍ . والأفضل التّصدّق بها كلّها إلاّ لقماً يسيرةً يأكلها ندباً للتّبرّك ، والأولى أن تكون هذه اللّقم من الكبد ، ويسنّ إن جمع بين الأكل والتّصدّق والإهداء ألاّ يأكل فوق الثّلث ، وألاّ يتصدّق بدون الثّلث ، وأن يهدي الباقي . وقال الحنابلة : يجب التّصدّق ببعض الأضحيّة وهو أقلّ ما يقع عليه اسم لحمٍ وهو الأوقيّة ، فإن لم يتصدّق حتّى فاتت ضمن للفقراء ثمن أوقيّةٍ ، ويجب تمليك الفقير لحماً نيئاً لا إطعامه . والمستحبّ أن يأكل ثلثاً ، يهدي ثلثاً ، ويتصدّق بثلثٍ ، ولو أكل ، أكثر جاز . وسواءٌ فيما ذكر الأضحيّة المسنونة والواجبة بنحو النّذر ، لأنّ النّذر محمولٌ على المعهود ، والمعهود من الأضحيّة الشّرعيّة ذبحها ، والأكل منها ، والنّذر لا يغيّر من صفة المنذور إلاّ الإيجاب .
ب - ويكره للمضحّي بعد الذّبح عند الحنفيّة ، أمورٌ :
61 - منها : أن ينخعها أو يسلخها قبل زهوق روحها ، وهذه الكراهة عامّةٌ في جميع الذّبائح ، وهي كراهةٌ تنزيهيّةٌ .
62 - ومنها : بيع شيءٍ من لحمها أو شحمها أو صوفها أو شعرها أو وبرها أو لبنها الّذي حلب منها بعد ذبحها ، أو غير ذلك إذا كان البيع بدراهم أو دنانير أو مأكولاتٍ ، أو نحو ذلك ممّا لا ينتفع به إلاّ باستهلاك عينه ، فهذا البيع لا يحلّ وهو مكروهٌ تحريماً . بخلاف ما لو باع شيئاً منها بما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه من متاع البيت أو غيره ، كالإناء النّحاس والمنخل والعصا والثّوب والخفّ ، فإنّه يحلّ .
وإنّما لم يحلّ البيع بما يستهلك ، لقوله : « من باع جلد أضحيّته فلا أضحيّة له » فإن باع نفذ البيع عند أبي حنيفة ومحمّدٍ . ووجب عليه التّصدّق بثمنه ، لأنّ القربة ذهبت عنه ببيعه ، ولا ينفذ البيع عند أبي يوسف فعليه أن يستردّه من المشتري ، فإن لم يستطع وجب التّصدّق بثمنه . وإنّما حلّ بيعه بما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه ، لأنّه يقوم مقام المبدل ، فكأنّه باقٍ وهو شبيهٌ بما لو صنع من الجلد شيءٌ ينتفع به ، كالقربة والدّلو . وصرّح المالكيّة بأنّه لا يجوز بيع شيءٍ منها بعد الذّبح ولا إبداله ، سواءٌ أكان الذّبح مجزئاً عن الأضحيّة أو غير مجزئٍ ، كما لو ذبح قبل الإمام ، وكما لو تعيّبت الأضحيّة فذبحها سواءٌ أكان التّعيّب حالة الذّبح أم قبله ، وسواءٌ أكان عند الذّبح عالماً بالعيب أم جاهلاً به ، وسواءٌ أكان عند الذّبح عالماً بأنّها غير مجزئةٍ أم جاهلاً بذلك ، ففي كلّ هذه الصّور متى ذبح لم يجز له البيع ولا الإبدال . وهذا بالنّسبة لصاحبها . وأمّا الّذي أهدي إليه شيءٌ منها ، أو تصدّق عليه به ، فيجوز له البيع والإبدال . وإذا وقع البيع الممنوع أو إبدالٌ ممنوعٌ فسخ العقد إن كان المبيع موجوداً ، فإن فات بأكلٍ ونحوه وجب التّصدّق بالعوض إن كان موجوداً ، فإن فات بالصّرف أو الضّياع وجب التّصدّق بمثله . وقال الشّافعيّة : لا يجوز للمضحّي بيع شيءٍ منها ، وكذلك لا يجوز للغنيّ المهدى إليه ، بخلاف الفقير المتصدّق عليه ، فإنّه يجوز له البيع ، ويجوز للمضحّي التّصدّق بالجلد وإعارته والانتفاع به لا بيعه ولا إجارته . وقول الحنابلة مثل قول الشّافعيّة ، وزادوا أنّه لا يجوز بيع جلّها أيضاً .
63 - ومن الأمور الّتي تكره للمضحّي بعد التّضحية إعطاء الجزّار ونحوه أجرته من الأضحيّة فهو مكروهٌ تحريماً ، لأنّه كالبيع بما يستهلك ، لحديث عليٍّ رضي الله عنه قال : « أمرني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأقسّم جلودها وجلالها ، وأمرني ألاّ أعطي الجزّار منها شيئاً ، وقال : نحن نعطيه من عندنا » . ( وخرج بالبيع وإعطاء الأجرة ) الانتفاع بالجلد وغيره من الأضحيّة الّتي لم يجب التّصدّق بها ، كما لو جعل سقاءً للماء أو اللّبن أو غيرهما ، أو فرواً للجلوس واللّبس ، أو صنع منه غربالٌ أو غير ذلك فهو جائزٌ ، ولأنّه يجوز الانتفاع بلحمها بالأكل وبشحمها بالأكل والادّهان فكذا بجلدها وسائر أجزائها . هذا مذهب الحنفيّة . وصرّح المالكيّة بمنع إعطاء الجزّار في مقابلة جزارته أو بعضها شيئاً منها ، سواءٌ كانت مجزئةً ، أم غير مجزئةٍ كالّتي ذبحت يوم النّحر قبل ذبح ضحيّة الإمام ، وكالتي تعيّبت حالة الذّبح أو قبله . وأجازوا تأجير جلدها على الرّاجح . وقال الشّافعيّة والحنابلة : يحرم إعطاء الجازر في أجرته شيئاً منها ، لحديث عليٍّ رضي الله عنه السّابق ذكره . فإن دفع إليه لفقره أو على سبيل الهديّة فلا بأس ، وله أن ينتفع بجلدها ، ولا يجوز أن يبيعه ولا شيئاً منها .
النّيابة في ذبح الأضحيّة :
64 - اتّفق الفقهاء على أنّه تصحّ النّيابة في ذبح الأضحيّة إذا كان النّائب مسلماً ، لحديث فاطمة السّابق : « يا فاطمة قومي إلى أضحيّتك فاشهديها » لأنّ فيه إقراراً على حكم النّيابة . والأفضل أن يذبح بنفسه إلاّ لضرورةٍ . وذهب الجمهور إلى صحّة التّضحية مع الكراهة إذا كان النّائب كتابيّاً ، لأنّه من أهل الذّكاة ، وذهب المالكيّة - وهو قولٌ محكيٌّ عن أحمد - إلى عدم صحّة إنابته ، فإن ذبح لم تقع التّضحية وإن حلّ أكلها . والنّيابة تتحقّق بالإذن لغيره نصّاً ، كأن يقول : أذنتك أو وكّلتك أو اذبح هذه الشّاة ، أو دلالةً كما لو اشترى إنسانٌ شاةً للأضحيّة فأضجعها وشدّ قوائمها في أيّام النّحر ، فجاء إنسانٌ آخر وذبحها من غير أمرٍ فإنّ ، التّضحية تجزئ عن صاحبها عند أبي حنيفة والصّاحبين .
65 - ويرى الحنفيّة والحنابلة أنّه إذا غلط كلّ واحدٍ من المضحّيين فذبح أضحيّة الآخر أجزأت ، لوجود الرّضى منهما دلالةً . وذهب المالكيّة إلى أنّه لا يجزئ عن أيٍّ منهما . ولم نطّلع على رأيٍ للشّافعيّة في ذلك .
التّضحية عن الميّت :
66 - إذا أوصى الميّت بالتّضحية عنه ، أو وقف وقفاً لذلك جاز بالاتّفاق . فإن كانت واجبةً بالنّذر وغيره وجب على الوارث إنفاذ ذلك . أمّا إذا لم يوص بها فأراد الوارث أو غيره أن يضحّي عنه من مال نفسه ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى جواز التّضحية عنه ، إلاّ أنّ المالكيّة أجازوا ذلك مع الكراهة . وإنّما أجازوه لأنّ الموت لا يمنع التّقرّب عن الميّت كما في الصّدقة والحجّ . وقد صحّ « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ضحّى بكبشين أحدهما عن نفسه ، والآخر عمّن لم يضحّ من أمّته » . وعلى هذا لو اشترك سبعةٌ في بدنةٍ فمات أحدهم قبل الذّبح ، فقال ورثته - وكانوا بالغين - اذبحوا عنه ، جاز ذلك . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الذّبح عن الميّت لا يجوز بغير وصيّةٍ أو وقفٍ .
هل يقوم غير الأضحيّة من الصّدقات مقامها ؟
67 - لا يقوم غير الأضحيّة من الصّدقات مقامها حتّى لو تصدّق إنسانٌ بشاةٍ حيّةٍ أو بقيمتها في أيّام النّحر لم يكن ذلك مغنياً له عن الأضحيّة ، لا سيّما إذا كانت واجبةً ، وذلك أنّ الوجوب تعلّق بإراقة الدّم ، والأصل أنّ الوجوب إذا تعلّق بفعلٍ معيّنٍ لا يقوم غيره مقامه كالصّلاة والصّوم بخلاف الزّكاة ، فإنّ الواجب فيها عند أبي حنيفة والصّاحبين أداء مالٍ يكون جزءاً من النّصاب أو مثله ، لينتفع به المتصدّق عليه ، وعند بعضهم الواجب أداء جزءٍ من النّصاب من حيث إنّه مالٌ لا من حيث إنّه جزءٌ من النّصاب ، لأنّ مبنى وجوب الزّكاة على التّيسير ، والتّيسير في الوجوب من حيث إنّه مالٌ لا من حيث إنّه العين والصّورة ، وبخلاف صدقة الفطر فإنّها تؤدّى بالقيمة عند الحنفيّة ، لأنّ العلّة الّتي نصّ الشّارع عليها في وجوب صدقة الفطر هي الإغناء . قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أغنوهم عن الطّواف في هذا اليوم » ، والإغناء يحصل بأداء القيمة .
المفاضلة بين الضّحيّة والصّدقة :
68 - الضّحيّة أفضل من الصّدقة ، لأنّها واجبةٌ أو سنّةٌ مؤكّدةٌ ، وشعيرةٌ من شعائر الإسلام ، صرّح بهذا الحنفيّة والشّافعيّة وغيرهم . وصرّح المالكيّة بأنّ الضّحيّة أفضل أيضاً من عتق الرّقبة ولو زاد ثمن الرّقبة على أضعاف ثمن الضّحيّة . وقال الحنابلة : الأضحيّة أفضل من الصّدقة بقيمتها نصّ عليه أحمد ، وبهذا قال ربيعة وأبو الزّناد ، وروي عن بلالٍ رضي الله عنه أنّه قال : لأن أضعه في يتيمٍ قد ترب فوه فهو أحبّ إليّ من أن أضحّي ، وبهذا قال الشّعبيّ وأبو ثورٍ ، وقالت عائشة رضي الله عنها : لأن أتصدّق بخاتمي هذا أحبّ إليّ من أن أهدي إلى البيت ألفاً . ويدلّ لأفضليّة التّضحية أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ضحّى والخلفاء من بعده ، ولو علموا أنّ الصّدقة أفضل لعدلوا إليها ، وما روته عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ما عمل ابن آدم يوم النّحر عملاً أحبّ إلى اللّه من إراقة دمٍ ، وأنّه ليؤتى يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها ، وأنّ الدّم ليقع من اللّه بمكانٍ قبل أن يقع على الأرض ، فطيبوا بها نفساً » . ولأنّ إيثار الصّدقة على الأضحيّة يفضي إلى ترك سنّةٍ سنّها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فأمّا قول عائشة فهو في الهدي دون الأضحيّة وليس الخلاف فيه .
إضرابٌ *
التعريف :
1 - الإضراب مصدر أضرب . يقال : أضربت عن الشّيء كففت عنه وأعرضت ، وضرب عنه الأمر : صرفه عنه . قال تعالى : { أفنضرب عنكم الذّكر صفحاً } أي نهملكم فلا نعرّفكم ما يجب عليكم . وهو في الاصطلاح إثبات الحكم لما بعد أداة الإضراب ، وجعل الأوّل ( المعطوف عليه ) كالمسكوت عنه . وصورته أن يقول مثلاً لغير المدخل بها : إن دخلت الدّار فأنت طالقٌ واحدةً بل ثنتين ، أو يقول في الإقرار : له عليّ درهمٌ بل درهمان .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستثناء :
2 - الاستثناء هو المنع من دخول بعض ما تناوله صدر الكلام في حكمه بإلاّ أو بإحدى أخواتها . أو هو قولٌ وصيغٌ مخصوصةٌ محصورةٌ دالّةٌ على أنّ المذكور بعد أداة الاستثناء لم يرد بالقول الأوّل . فهو على هذا يخالف الإضراب ، لأنّ الإضراب إقرارٌ للأوّل على رأيٍ ، وتبديلٌ له على رأيٍ آخر ، وهذا يخالف الاستثناء ، لأنّ الاستثناء تغييرٌ لمقتضى صيغة الكلام الأوّل وليس بتبديلٍ ، إنّما التّبديل أن يخرج الكلام من أن يكون إخباراً بالواجب أصلاً .
ب - النّسخ :
3 - النّسخ رفع الحكم الثّابت بدليلٍ شرعيٍّ متأخّرٍ ، وعلى هذا فالفرق بين النّسخ وبين الإضراب أنّ الإضراب متّصلٌ ، أمّا النّسخ فمنفصلٌ .
الحكم الإجماليّ ، ومواطن البحث :
4 - الإضراب : إبطالٌ وإلغاءٌ للأوّل ورجوعٌ عنه ، ويختلف الحكم ما بين الإنشاء والإقرار : فلا يقبل رجوع المقرّ عن إقراره إلاّ فيما كان حقّاً للّه تعالى يدرأ بالشّبهات ، ويحتاط لإسقاطه ، فأمّا حقوق الآدميّين وحقوق اللّه تعالى الّتي لا تدرأ بالشّبهات كالزّكاة والكفّارات فلا يقبل رجوعه عنها . قال ابن قدامة : لا نعلم في هذا خلافاً . ويفصّل الحنفيّة حكم الإضراب فيقولون : الأصل في ذلك أنّ " لا بل " لاستدراك الغلط ، والغلط إنّما يقع غالباً في جنسٍ واحدٍ ، إلاّ أنّه إذا كان لرجلين كان رجوعاً عن الأوّل فلا يقبل ، ويثبت للثّاني بإقراره الثّاني ، وإذا كان الإقرار الثّاني أكثر صحّ الاستدراك ، ويصدّقه المقرّ له . وإن كان أقلّ كان متّهماً في الاستدراك ، والمقرّ له لا يصدّقه فيلزمه الأكثر ، فلو قال : لفلانٍ عليّ ألفٌ ، لا بل ألفان يلزمه ألفان ، وهذا عند غير زفر ، أمّا عنده فيلزم بإقراريه ( الأوّل والثّاني ) أي ثلاثة آلافٍ ، وجه قول زفر أنّه أقرّ بألفٍ فيلزمه ، وقوله : ( لا ) رجوع ، فلا يصدّق فيه ، ثمّ أقرّ بألفين فصحّ الإقرار ، وصار كقوله : أنت طالقٌ واحدةً ، لا بل اثنتين ، وجوابه : أنّ الإقرار إخبارٌ يجري فيه الغلط فيجري فيه الاستدراك فيلزمه الأكثر ، والطّلاق إنشاءٌ ولا يملك إبطال ما أنشأ فافترقا . كما أنّ الأصل أنّ " لا بل " متى تخلّلت بين المالين من جنسين لزم المالان المقرّ وتفصيله في الإقرار والأيمان والطّلاق والعتق .
إضرارٌ*
انظر : ضررٌ .
اضطباعٌ *
التعريف :
1 - الاضطباع في اللّغة : افتعالٌ من الضّبع ، وهو وسط العضد ، وقيل : الإبط ( للمجاورة ) . ومعنى الاضطباع المأمور به شرعاً : أن يدخل الرّجل رداءه الّذي يلبسه تحت منكبه الأيمن فيلقيه على عاتقه الأيسر وتبقى كتفه اليمنى مكشوفةً ، ويطلق عليه التّأبّط والتّوشّح .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإسدال :
2 - الإسدال لغةً : إرخاء الثّوب وإرساله من غير ضمّ جانبيه باليدين . والإسدال المنهيّ عنه في الصّلاة هو أن يلقي طرف الرّداء من الجانبين ، ولا يردّ أحد طرفيه على الكتف الأخرى ، ولا يضمّ الطّرفين بيده .
ب - اشتمال الصّمّاء :
3 - فسّره أبو عبيدٍ بأن يلتفّ الرّجل بثوبه يغطّي به جسده كلّه ، ولا يرفع منه جانباً يخرج منه يده .. لعلّه يصيبه شيءٌ يريد الاحتراس منه فلا يقدر عليه . وقيل : هو أن يضطبع بالثّوب ولا إزار عليه فيبدو شقّه وعورته . فالفرق بينه وبين الاضطباع أنّه لا يكون تحت الرّداء ما يستتر به فتبدو عورته . وللتّفصيل ينظر ( اشتمال الصّمّاء ) .
الحكم الإجماليّ :
4 - الاضطباع في طواف القدوم مستحبٌّ عند جمهور الفقهاء ، لما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعاً وعليه بردٌ » وعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنه : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة ، فرملوا بالبيت ، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ، ثمّ قذفوها على عواتقهم اليسرى » فإذا فرغ من الطّواف سوّاه فجعله على عاتقيه . وأورد ابن قدامة قول مالكٍ عن الاضطباع في طواف القدوم بأنّه ليس سنّةً ، ولم نجد لذلك إشارةً في كتب المالكيّة الّتي بين أيدينا إلاّ في المنتقى للباجيّ حيث قال : ( الرّمل في الطّواف هو الإسراع فيه بالخبب لا يحسر عن منكبيه ولا يحرّكهما ) .
مواطن البحث :
5 - يبحث الاضطباع في الحجّ عند الكلام عن الطّواف ، وفي الصّلاة عند الكلام عن ستر العورة من شروط الصّلاة .
اضطجاعٌ *
التعريف :
1 - الاضطجاع في اللّغة مصدر اضطجع ، ( وأصله ضجع وقلّما يستعمل الفعل الثّلاثيّ ) . والاضطجاع : النّوم ، وقيل : وضع الجنب بالأرض . والاضطجاع في السّجود ، ألاّ يجافي بطنه عن فخذيه . وإذا قالوا : صلّى مضطجعاً فمعناه : أن يضطجع على أحد شقّيه مستقبلاً القبلة . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذه المعاني اللّغويّة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاتّكاء :
2 - الاتّكاء هو الاعتماد على شيءٍ بجنبٍ معيّنٍ ، سواءٌ كان في الجلوس أو في الوقوف . ( ر : اتّكاءٌ ) .
ب - الاستناد :
3 - الاستناد هو الاتّكاء بالظّهر لا غير . ( ر : استنادٌ ) .
ج - الإضجاع :
4 - الإضجاع هو وضع جنب الإنسان أو الحيوان على أحد شقّيه على الأرض . ( ر : إضجاعٌ ) .
الحكم الإجماليّ :
5 - الاضطجاع في النّوم ينقض الوضوء عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة ) لأنّ الاضطجاع عندهم سببٌ لاسترخاء المفاصل ، فلا يخلو من خروج ريحٍ عادةً ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا وضوء على من نام قائماً أو قاعداً أو راكعاً أو ساجداً ، إنّما الوضوء على من نام مضطجعاً فاسترخت مفاصله » . وهذه الطّريقة لعبد الحقّ وغيره من المالكيّة . أمّا طريقة اللّخميّ من المالكيّة فهي : أنّ المضطجع إذا كان نائماً نوماً ثقيلاً ينتقض وضوءه ، سواءٌ أكان مضطجعاً أم قائماً أو قاعداً أو راكعاً أو ساجداً ، وأرجع ذلك إلى صفة النّوم ، ولا عبرة عنده - ومن يرى رأيه من المالكيّة - بهيئة النّائم . فإن كان نومه غير ثقيلٍ وهو على هيئة الاضطجاع لا ينتقض وضوءه : والاضطجاع بعد سنّة الفجر - على صورةٍ لا ينتقض معها الوضوء - مندوبٌ لفعل النّبيّ . والاضطجاع عند تناول الطّعام مكروهٌ للنّهي عن الأكل متّكئاً .
مواطن البحث :
6 - يبحث الاضطجاع عند الكلام عن نقضه للوضوء بالنّوم ، ويبحث اضطجاع المريض في صلاة المريض .
اضطرارٌ*
انظر : ضرورةٌ .
إطاقةٌ*
انظر : استطاعةٌ .
أطرافٌ *
التعريف :
1 - الأطراف : مفردها طرفٌ . وطرف الشّيء نهايته ، ولذلك سمّيت اليدان والرّجلان والرّأس أطراف البدن ، ولذلك أيضاً كان البنان طرف الأصبع . ومن هنا يقولون : إذا خضّبت المرأة بنانها أنّها طرفت أصبعها . والفقهاء يستعملون كلمة « أطرافٍ " بهذه الاستعمالات الّتي استعملها أهل اللّغة .
الحكم الإجماليّ :
الجناية على الأطراف :
2 - فصّل الفقهاء في كتاب الجنايات الكلام في الجناية على الأطراف في حالتي العمد والخطأ ، وفي حالة ما إذا كان الطّرف المجنيّ عليه قائماً يؤدّي منفعته المقصودة منه ، أو قائماً ولكنّه لا يؤدّي المنفعة المقصودة منه ، وفي حالة ما إذا كان العضو المناظر للعضو المجنيّ عليه في الجاني سليماً يؤدّي المنفعة المقصودة منه ، أو معطوباً لا يؤدّي المنفعة المقصودة منه . وسيأتي ذلك كلّه في مصطلح ( جنايةٌ ) .
الأطراف في السّجود :
3 - اتّفق الفقهاء على وجوب السّجود على الأطراف ( الكفّين ، والرّأس والقدمين ) إضافةً إلى الرّكبتين . ولكنّهم اختلفوا من حيث الاستحباب في ترتيب وضع اليدين على الأرض - عندما يهوى للسّجود - أو بعد وضع الرّكبتين أو قبل وضع الرّكبتين ، وكذلك عند النّهوض من السّجود إلى القيام . كما اختلفوا في حكم السّجود على أطراف أصابع القدمين ، وهل هو سنّةٌ أو واجبٌ . وقد فصّل الفقهاء ذلك كلّه في كتاب الصّلاة عند كلامهم على السّجود .
4 - وكره بعض الفقهاء خضاب المرأة أطراف الأصابع فقط دون الكفّ ( التّطريف ) وورد النّهي عن ذلك عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ، كما ذكر الفقهاء ذلك في خصال الفطرة ، وفي كتاب الحظر والإباحة .
اطّرادٌ *
التعريف :
1 - الاطّراد في اللّغة : مصدر اطّرد الأمر إذا تبع بعضه بعضاً . يقال : اطّرد الماء ، واطّردت الأنهار إذا جرت . واطّراد الوصف عند الأصوليّين معناه : أنّه كلّما وجد الوصف وجد الحكم ، وذلك كوجود حرمة الخمر مع إسكارها ، أو لونها ، أو طعمها ، أو رائحتها . ولا يكون الوصف علّةً للحكم إلاّ إذا كان مطّرداً منعكساً مع كونه مناسباً للحكم ، كالإسكار بالنّسبة إلى تحريم الخمر . كما استعمل الأصوليّون والفقهاء الاطّراد بمعنى الغلبة والذّيوع ، وذلك عند الكلام على الشّروط المعتبرة للعادة والعرف .
الألفاظ ذات الصّلة

أ - العكس :
2 - العكس في اللّغة : ردّ أوّل الشّيء على آخره . يقال عكسه عكساً من باب ضرب . وانعكس الشّيء : مطاوع عكسه . والانعكاس في باب مسالك العلّة عند الأصوليّين أنّه كلّما انتفى الوصف انتفى الحكم ، كانتفاء حرمة الخمر بزوال إسكارها ، أو رائحتها ، أو أحد أوصافها الأخرى . ويقال له : العكس أيضاً . وعليه فهو ضدّ الاطّراد .
ب - الدّوران :
3 - فرّق بعضهم بين الدّوران وبين الاطّراد ، فخصّ الدّوران بالمقارنة في الوجود والعدم ، والطّرد والاطّراد بالمقارنة بالوجود فقط .
ج - الغلبة :
4 - الفرق بين المطّرد والغالب أنّ المطّرد لا يتخلّف ، بخلاف الغالب فإنّه متخلّفٌ في الأقلّ ، وإن كان مطّرداً في الأكثر .
د - العموم :
5 - اطّراد العرف أو العادة غير عمومهما ، فإنّ العموم مرتبطٌ بالمكان والمجال ، فالعرف العامّ على هذا : ما كان شائعاً في البلدان ، والخاصّ ما كان في بلدٍ ، أو بلدانٍ معيّنةٍ ، أو عند طائفةٍ خاصّةٍ .
الحكم الإجماليّ :
أ - اطّراد العلّة :
6 - ذهب بعض الأصوليّين إلى اعتبار الاطّراد في العلّة مسلكاً من مسالكها المعتبرة لمعرفتها ، وإثباتها بها لإفادته الظّنّ ، ولم يعتبره الحنفيّة وكثيرٌ من الأشعريّة ، كالغزاليّ والآمديّ مسلكاً ، على خلافٍ وتفصيل موطنه الملحق الأصوليّ .
ب - الاطّراد في العادة :
7 - ذكر ابن نجيمٍ في الأشباه والنّظائر أنّ العادة إنّما تعتبر إذا اطّردت أو غلبت ، ولذا قالوا في البيع : لو باع بدراهم أو دنانير وكانا في بلدٍ اختلفت فيه النّقود مع الاختلاف في الماليّة والرّواج انصرف البيع إلى الأغلب . قال في الهداية : لأنّه هو المتعارف فينصرف المطلق إليه .. ثمّ تساءل ابن نجيمٍ عن العادة المطّردة ، هل تنزّل منزلة الشّرط ؟ وقال : قال في إجارة الظّهيريّة : والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً . ومراد ابن نجيمٍ من الاطّراد في عبارته الأخيرة ما هو أعمّ من الاطّراد الّذي لا يتخلّف ، وهو ما ذكره صاحب دستور العلماء ، بدليل تصريح ابن نجيمٍ نفسه في عبارته الأولى ، بأنّ غلبة العادة في حكم اطّرادها . وعبارة السّيوطيّ في أشباهه : ( إنّما تعتبر العادة إذا اطّردت فإن اضطربت فلا ) ، ثمّ مثّل لذلك بأنّ من باع شيئاً وأطلق نزّل على النّقد الغالب ، فلو اضطربت العادة في البلد وجب البيان ، وإلاّ بطل البيع . فتقييده النّقد بالغالب صريحٌ في أنّ الغلبة كافيةٌ هنا كما هو واضحٌ . وتمام الكلام على ذلك في الملحق الأصوليّ ، ومصطلح ( عادةٌ ) . هذا ، وقد يحدث أن يطّرد العمل بأمرين ، يتعارفهما النّاس ، قد يكونان متضادّين ، كأن يتعارف بعضهم قبض الصّداق قبل الدّخول ، ويتعارف بعضهم الآخر غير ذلك . من غير غلبةٍ لأحدهما ، فيسمّى ذلك بالعرف المشترك . وموطن تفصيله عند الكلام على ( العرف ) .
مواطن البحث :
8 - يذكر الأصوليّون الاطّراد عند الكلام على مسالك العلّة من باب القياس ، باعتباره مسلكاً من مسالكها ، كما يذكره الفقهاء والأصوليّون عند الكلام على القاعدة الفقهيّة : ( العادة محكّمةٌ ) . وذكر الأصوليّون في كلامهم على الحقيقة والمجاز ، أنّ المعنى الحقيقيّ يلزم فيه اطّراد ما يدلّ عليه من الحقيقة في جميع جزئيّاته ، وأنّ عدم الاطّراد ممّا يعرف به المجاز .
إطعامٌ *
التعريف :
1 - الإطعام لغةً - إعطاء الطّعام لآكله ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّمليك :
2 - تمليك الشّيء جعله ملكاً للغير . وعلى هذا قد يكون الإطعام تمليكاً فيتّفقان ، وقد يكون الإطعام إباحةً فيفترقان . كما أنّ التّمليك قد يكون تمليكاً للطّعام ، وقد يكون تمليكاً لغيره .
ب - الإباحة :
3 - الإباحة لغةً : الإظهار والإعلان ، من قولهم : أباح السّرّ : أعلنه ، وقد يرد بمعنى الإذن والإطلاق يقال : أبحته كذا إذا أطلقته . واصطلاحاً ، يراد بها الإذن بإتيان الفعل أو تركه . وعلى هذا قد يكون الإطعام إباحةً فيجتمعان في وجهٍ ، وقد يكون تمليكاً فيفترقان في وجهٍ آخر ، وقد تكون الإباحة للطّعام أو لغيره .
حكمه التّكليفيّ :
4 - يجب الإطعام على المكلّف في الدّية والكفّارات ، وحالات الضّرورة ، كسدّ الرّمق ويندب في الصّدقات والقربات ، كالإطعام في الأضحيّة . ويستحبّ في أمورٍ ، منها النّكاح والعقيقة والختان . وتحرم في أمورٍ : منها إطعام الظّلمة والعصاة للمساعدة على الظّلم والعصيان ، وسيأتي تفصيل ذلك . أسباب الإطعام المطلوب شرعاً :
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
أ - الاحتباس :
5 - احتباس الزّوجة سببٌ من أسباب النّفقة المتضمّنة للإطعام ، للقاعدة الفقهيّة : النّفقة نظير الاحتباس ، وكذا الحكم في احتباس العجماوات ، لأنّ حبسها بدون طعامٍ هلاكٌ يستوجب العقاب ، لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم : « دخلت امرأةٌ النّار في هرّةٍ ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض » . أمّا إطعام المحبوس في التّهمة ، مثل حبس السّارق حتّى يسأل الشّهود ، والمرتدّ حتّى يتوب ، فإنّه يطعم من ماله ، لا خلاف في هذا بين الفقهاء إذا كان له مالٌ ، غير أنّ الشّافعيّة أجازوا الإنفاق عليه من بيت المال إذا تيسّر ذلك . وإذا لم يكن له مالٌ أنفق عليه من بيت المال وجوباً كما سيأتي .
ب - الاضطرار :
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ إطعام المضطرّ واجبٌ ، فإذا أشرف على الهلاك من الجوع أو العطش ، ومنعه مانعٌ فله أن يقاتل ليحصل على ما يحفظ حياته ، لما روي عن الهيثم : أنّ قوماً وردوا ماءً فسألوا أهله أن يدلّوهم على بئرٍ فأبوا ، فسألوهم أن يعطوهم دلواً فأبوا ، فقالوا لهم : إنّ أعناقنا وأعناق مطايانا قد كادت أن تتقطّع فأبوا أن يعطوهم ، فذكروا ذلك لعمر رضي الله عنه . فقال لهم عمر : فهلاّ وضعتم فيهم السّلاح . قال الفقهاء : فيه دليلٌ على أنّ لهم في الماء حقّ الشّفة وكذلك الطّعام . وللتّفصيل ينظر ( اضطرارٌ ) ( وضرورةٌ ) .
ج - الإكرام :
7 - يندب الإطعام لإكرام الضّيف ، وصلة الرّحم ، وبرّ الجار وإضافة الصّدّيق ، وأهل الخير والفضل والتّقوى ، لقوله تعالى في ضيف إبراهيم : { هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } ولقوله صلى الله عليه وسلم : « من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليصل رحمه » . كما يسنّ في أمورٍ تدخل في باب الإكرام كالأضحيّة والوليمة .
الإطعام في الكفّارات :
8 - الإطعام نوعٌ من الأنواع الواجبة في الكفّارة ، يقدّم تارةً كما في كفّارة الأيمان ، ويؤخّر تارةً كما في كفّارة الظّهار ، وكذا الفطر في رمضان على خلافٍ للمالكيّة فيه . الكفّارات الّتي فيهما إطعامٌ :
أ - كفّارة الصّوم :
9 - اتّفق الفقهاء على وجوب الإطعام في كفّارة الفطر في صوم رمضان أداءً ، غير أنّ الشّافعيّة والحنابلة قصروه على من جامع في رمضان عامداً ، دون من أفطر فيه بغير الجماع ، واختلف الفقهاء في رتبته تقديماً وتأخيراً . فقال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بتأخيره عن الإعتاق والصّيام ، وقال المالكيّة بالتّخيير بين الأنواع الثّلاثة : الإعتاق والصّيام والإطعام . وتفصيله في الكفّارات .
ب - كفّارة اليمين :
10 - اتّفق الفقهاء في وجوب الإطعام في كفّارة اليمين باللّه تعالى إذا حنث فيها على التّخيير بينه وبين الكسوة وتحرير الرّقبة ، فإن عجز فصيام ثلاثة أيّامٍ ، لقوله تعالى : { لا يؤاخذكم اللّه باللّغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان ، فكفّارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبةٍ . فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّامٍ ذلك كفّارة أيمانكم إذا حلفتم ... }
ج - كفّارة الظّهار :
11 - إذا ظاهر الرّجل من امرأته بأن قال لها : أنت كظهر أمّي ، لزمته الكفّارة بالعود . ومن أنواعها الإطعام عند عدم استطاعته تحرير رقبةٍ أو صيام شهرين ، على هذا اتّفق أهل العلم ، فلا يجزئ إلاّ هذا التّرتيب ، لقوله تعالى : { والّذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبةٍ من قبل أن يتماسّا ذلكم توعظون به واللّه بما تعملون خبيرٌ . فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسّا فمن لم يستطع فإطعام ستّين مسكيناً .. }
مقدار الإطعام الواجب في الكفّارة :
12 - قال الحنفيّة : يجب لكلّ فقيرٍ نصف صاعٍ من برٍّ ، أو صاعٌ كاملٌ من تمرٍ أو شعيرٍ . والدّقيق من البرّ أو الشّعير بمنزلة أصله ، وكذا السّويق ، وهل يعتبر تمام الكيل أو القيمة في كلٍّ من الدّقيق والسّويق ؟ . في ذلك رأيان . وقال المالكيّة : يجب لكلّ فقيرٍ مدٌّ من برٍّ ، أو مقدار ما يصلح للإشباع من بقيّة الأقوات التّسعة ، وهي القمح والشّعير والسّلت ، والذّرة ، والدّخن ، والأرزّ ، والتّمر والزّبيب ، والأقط . وقال الشّافعيّة : يجب لكلّ فقيرٍ مدٌّ واحدٌ من غالب قوت البلد ممّا ذكر من الأصناف السّابقة أو غيرها . وقال الحنابلة : يجب لكلّ مسكينٍ مدٌّ من برٍّ أو نصف صاعٍ من شعيرٍ أو تمرٍ أو زبيبٍ أو أقطٍ ، ويجزئ دقيقٌ وسويقٌ بوزن الحبّ ، سواءٌ أكان من قوت البلد أو لا ، وقال أبو الخطّاب منهم : يجزئ كلّ أقوات البلد ، والأفضل عندهم إخراج الحبّ .
الإباحة والتّمليك في الكفّارات :
13 - التّمليك هو إعطاء المقدار الواجب في الإطعام ، ليتصرّف فيه المستحقّ تصرّف الملاّك . والإباحة هي تمكين المستحقّ من تناول الطّعام المخرج في الكفّارة . كأن يغدّيهم ويعشّيهم ، أو يغدّيهم غداءين أو يعشّيهم عشاءين . وقد أجاز الحنفيّة والمالكيّة التّمليك والإباحة في الإطعام ، وهو روايةٌ عن أحمد ، وأجاز الحنفيّة منفردين الجمع بينها ، لأنّه جمعٌ بين جائزين ، والمقصود سدّ الخلّة ، كما أجازوا دفع القيمة سواءٌ أكانت مالاً أم غيره . وقال الشّافعيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة : يجب التّمليك ولا تجزئ الإباحة ، فلو غدّى المساكين أو عشّاهم لا يجزئ ، لأنّ المنقول عن الصّحابة الإعطاء ، ولأنّه مالٌ واجبٌ للفقراء شرعاً ، فوجب تمليكهم إيّاه كالزّكاة .
الإطعام في الفدية :
أ - فدية الصّيام :
14 - اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - وهو المرجوح عند المالكيّة - على أنّه يصار إلى الفدية في الصّيام عند اليأس من إمكان قضاء الأيّام الّتي أفطرها لشيخوخةٍ لا يقدر معها على الصّيام ، أو مرضٍ لا يرجى برؤه ، لقوله تعالى : { وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكينٍ } والمراد من يشقّ عليهم الصّيام . والمشهور عند المالكيّة أنّه لا فدية عليه .
ب - الإطعام في فدية الصّيد :
15 - يخيّر المحرم إذا قتل صيداً بين ثلاثة أشياء : إمّا شراء هديٍ بالقيمة وذبحه ، أو الإطعام بالقيمة ، أو الصّيام ، لقوله تعالى : { فجزاءٌ مثل ما قتل من النّعم يحكم به ذوا عدلٍ منكم هدياً بالغ الكعبة ، أو كفّارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً } ومن قتل ما ليس له مثلٌ أو قيمةٌ كالجراد والقمل ، تصدّق بما شاء كحفنةٍ من طعامٍ للواحدة وحفنتين للاثنتين . وهذا في الجملة ، وينظر تفصيل ذلك في مصطلح - ( إحرامٌ ) - ( فديةٌ ) .
الإطعام في النّفقات : الإطعام في حالات الضّرورة :
16 - يرى الفقهاء وجوب إطعام المضطرّ المشرف على الهلاك ، لأنّ فيه إحياءً لنفسٍ معصومةٍ . فإن كان الطّعام ممّا يباع أعطاه بثمن المثل ليس عليه غيره ، وإن أخذه بغير إذن صاحبه جاز . وضمنه له ، إذ القاعدة الشّرعيّة : أنّ الاضطرار لا يسقط الضّمان . الامتناع عن إطعام المضطرّ :
17 - إذا فقد المضطرّ الطّعام وأشرف على الهلاك ولم يجد إلاّ طعاماً لغيره ، فإن كان صاحب الطّعام مضطرّاً إليه فهو أحقّ به ولم يجز لأحدٍ أن يأخذه منه ، لأنّه ساواه في الضّرورة وانفرد بالملك ، فأشبه غير حال الضّرورة ، وإن أخذه منه أحدٌ فمات أثم وضمن ديته ، لأنّه قتله بغير حقٍّ ، فإذا لم يكن المالك مضطرّاً إلى الطّعام لزمه بذله للمضطرّ ، لحديث أبي هريرة ، قلنا : « يا رسول اللّه ، ما يحلّ لأحدنا من مال أخيه إذا اضطرّ إليه ؟ قال : يأكل ولا يحمل ، ويشرب ولا يحمل » . فإن منعه قاتل عليه بغير سلاحٍ عند الحنفيّة ، وبسلاحٍ عند غيرهم . فإن قتل المضطرّ فهو شهيدٌ ، وعلى قاتله ضمانه ، وإن قتل صاحبه فهو هدرٌ . وتفصيل ذلك في ( قصاصٌ ) . تحديد الإطعام في النّفقة :
18 - النّفقة الواجبة قد تكون عيناً وقد تكون قيمةً ، فإذا كانت عيناً فالواجب من الإطعام - كما في القيمة - يعتبر بحال الزّوجين جميعاً عند المالكيّة والحنابلة ، وهو المفتى به عند الحنفيّة ، فإن كانا موسرين فإطعام الموسرين ، وإن كانا متوسّطين فإطعام الوسط ، وإن كان أحدهما معسراً والآخر موسراً فالتّوسّط ، وإن كانا معسرين فنفقة الإعسار ، ويعتبر العرف في ذلك ، واستدلّوا بقوله تعالى : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } وذهب الشّافعيّة إلى اعتبار حال الزّوج فقط ، واستدلّوا بقوله تعالى : { لينفق ذو سعةٍ من سعته } الآية . وقد أجاز الحنفيّة استبدال القيمة بالإطعام .
التّوسعة في الإطعام :
19 - يندب إطعام الأقارب الفقراء واليتامى والتّوسعة عليهم ، كما يندب بذل الطّعام للمساكين والفقراء والمحتاجين وقت القحط والجوع والحاجة ، لقوله تعالى : { فلا اقتحم العقبة ، وما أدراك ما العقبة ، فكّ رقبةٍ أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبةٍ يتيماً ذا مقربةٍ أو مسكيناً ذا متربةٍ } . وقوله صلى الله عليه وسلم : « من موجبات الرّحمة إطعام المسلم السّغبان » . كما يندب إطعام الغريب إذا كان ضيفاً أو محتاجاً للإطعام ، وقد اعتبر القرآن عدم إطعامه لؤماً في قوله تعالى : { حتّى إذا أتيا أهل قريةٍ استطعما أهلها فأبوا أن يضيّفوهما } .
إطعام المسجون :
20 - لا يضيّق على المحبوس بالجوع أو العطش ، سواءٌ أكان حبسه لردّةٍ أم دينٍ أم أسرٍ ، لقول عمر في المحبوس للرّدّة : فهلاّ حبستموه ثلاثاً فأطعمتموه كلّ يومٍ رغيفاً واستتبتموه » . ولقوله تعالى : { ويطعمون الطّعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً } قال مجاهدٌ وسعيد بن جبيرٍ وعطاءٌ : فيه دليلٌ على أنّ إطعام أهل الحبوس من المسلمين حسنٌ وقربى إلى اللّه تعالى . هذا إذا لم يكن له مالٌ ، فإن كان له مالٌ يطعم من ماله ، كما تقدّم .
إطعام الحيوان المحتبس :
21 - يجوز حبس حيوانٍ لنفعٍ ، كحراسةٍ وسماع صوتٍ وزينةٍ ، وعلى حابسه إطعامه وسقيه لحرمة الرّوح ويقوم مقامه التّخلية للحيوانات لترعى وترد الماء إن ألفت ذلك ، فإن لم تألفه فعل بها ما تألفه ، لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم : « عذّبت امرأةٌ في هرّةٍ سجنتها حتّى ماتت فدخلت فيها النّار ، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض » فإن امتنع أجبر على بيعه أو علفه أو ذبح ما يذبح منه . فإن لم يفعل ناب الحاكم عنه في ذلك على ما يراه . وهذا رأي الشّافعيّة والحنابلة ، وهو الرّأي الرّاجح عند الحنفيّة والمالكيّة ، وهذه المسألة تجري فيها دعوى الحسبة .
الإطعام من الأضحيّة :
22 - ينبغي للمضحّي أن يطعم الأغنياء الثّلث ، والفقراء الثّلث ، ويأكل الثّلث من أضحيّته ، هذا هو الأفضل عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو رأيٌ للمالكيّة والشّافعيّة . وقيل : الأفضل أن يطعمها كلّها الفقراء ، وهو رأيٌ للمالكيّة والشّافعيّة ، وينظر ( أضحيّةٌ ) .
وهدي التّطوّع والمتعة والقران في الحجّ كالأضحيّة ، له أن يأكل ويطعم ، غير أنّ المالكيّة اشترطوا لجواز أكله منه ألاّ يكون قد نواه للمساكين . وأمّا هدي الفدية ، وجزاء الصّيد فإنّه يطعم الفقراء فقط ، ولا يأكل منه ( ر : هديٌ ) .
وأمّا في النّذر فإذا لم ينوه للمساكين جاز له الأكل منه عند المالكيّة ، وعند بقيّة المذاهب لا يأكل منه .
إطعام أهل الميّت :
23 - يستحبّ إعداد طعامٍ لأهل الميّت ، يبعث به إليهم إعانةً لهم وجبراً لقلوبهم ، فإنّهم شغلوا بمصيبتهم وبمن يأتي إليهم عن إصلاح طعامٍ لأنفسهم . وقد روي عن عبد اللّه بن جعفرٍ أنّه لمّا جاء نعي جعفرٍ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « اصنعوا لأهل جعفرٍ طعاماً . فإنّه قد جاءهم ما يشغلهم » . واشترط المالكيّة فيمن يصنع لهم طعامٌ ، ألاّ يكونوا قد اجتمعوا على نياحةٍ أو غيرها من المحرّمات ، وإلاّ حرم إرسال طعامٍ لهم ، لأنّهم عصاةٌ ، وكره الفقهاء إطعام أهل الميّت للنّاس ، لأنّ ذلك يكون في السّرور لا في الشّرور .
المناسبات الّتي يستحبّ الإطعام فيها :
24 - أ - النّكاح : ويسمّى الإطعام فيه وفي كلّ سرورٍ وليمةً ، واستعمال هذه التّسمية في العرس أكثر .
ب - الختان : ويطلق على الإطعام فيه ، إعذارٌ أو عذيرةٌ أو عذيرٌ .
ج - الولادة : ويطلق على الإطعام فيها ، الخرس أو الخرسة .
د - البناء للدّار : ويطلق على الإطعام فيه : وكيرةٌ .
هـ- قدوم الغائب : قدوم الغائب من الحجّ وغيره ويطلق على الإطعام فيه : نقيعةٌ .
و -لأجل الولد : ويطلق على الإطعام له ، عقيقةٌ .
ويستحبّ في العرس ، أن يطعم شاةً إن أمكن ، وكذا يستحبّ عند غير الحنفيّة أن يذبح عن الصّبيّ شاتين إن أمكن ، فإن أولم بغير الشّاة جاز ، فقد أولم النّبيّ صلى الله عليه وسلم بشاةٍ ، وأولم على صفيّة بحيسٍ وأولم على بعض نسائه بمدّين من شعيرٍ . وإجابة طعام الوليمة واجبٌ لمن دعي إليها إذا لم يخالطها حرامٌ ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها » .
القدرة على الإطعام :
25 - من وجب عليه إطعامٌ في كفّارة يمينٍ أو ظهارٍ أو فطرٍ في رمضان فعجز عن الإطعام ، استقرّ ذلك في ذمّته ، وتأخّر وجوب الأداء إلى وقت القدرة عليه ، لأنّ إيجاب الفعل على العاجز محالٌ ، وهذا باتّفاق الفقهاء في غير كفّارة الفطر في رمضان ، إذ عند الحنابلة ومقابل الأظهر للشّافعيّة تسقط كفّارة الفطر في رمضان عمّن عجز عنها ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم للأعرابيّ : « خذه واستغفر اللّه وأطعم أهلك » فقد أمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يطعمه أهله ، ولم يأمره بكفّارةٍ أخرى ، ولا بيّن له بقاءها في ذمّته . ولا دليل على التّخصيص ، بخلاف الكفّارات الأخرى ، لعموم أدلّتها للوجوب حال الإعسار ، ولأنّه القياس ، وقد خولف في رمضان للنّصّ . ( ر - كفّارةٌ ) .
26 - ويشترط فيمن يجب عليه الإطعام ألاّ يكون سفيهاً ، لأنّ السّفيه محجورٌ عليه في ماله ولا يملك التّصرّف فيه ، ولو صدر منه ما يوجب الإطعام في كفّارة يمينٍ أو ظهارٍ أو فديةٍ في الحجّ . فعند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة يكفّر بالصّوم ولا يكفّر بالإطعام ، لأنّه ممنوعٌ من ماله ، ورأى الحنفيّة أنّ محظورات الإحرام الّتي لا يجزئ فيها الصّوم يلزمه فيها الدّم ، ولكن لا يمكن من التّكفير في الحال ، بل يؤخّر إلى أن يصير رشيداً مصلحاً لماله ، فهو بمنزلة الفقير الّذي لا يجد مالاً . وعند المالكيّة يلزم ما يجب عليه من إطعامٍ في ماله . وينظر وليّه فيه بوجه النّظر . وينظر تفصيل ذلك في ( سفهٌ ، وكفّارةٌ ) .
الإطعام عن الغير :
27 - الإطعام الّذي يجب على المكلّف لفعلٍ يوجب عليه ذلك يعتبر من العبادات الماليّة ، والعبادات الماليّة تقبل النّيابة عن المكلّف ، ولذلك من أمر غيره أن يطعم عن ظهاره ففعل ذلك الغير صحّ . وهذا باتّفاق الفقهاء مع اختلافهم فيما لو أطعم إنسانٌ عن غيره بدون إذنه ، حيث صرّح المالكيّة بأنّه لو كفّر عن الحانث رجلٌ بغير أمره أجزأ عنه ، لأنّها من الأفعال الّتي يقصد منها مصلحةٌ مع قطع النّظر عن فاعلها فلم تتوقّف على النّيّة ، قال ابن عبد البرّ : أحبّ إليّ ألاّ يكفّر إلاّ بأمره .
إطعام الزّوجة من مال زوجها :
28 - أجاز الفقهاء للزّوجة التّصدّق بالشّيء اليسير من بيت زوجها من غير إذنه ، لحديث السّيّدة عائشة رضي الله عنها مرفوعاً « إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدةٍ كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره . بما كسب » ولأنّ العادة السّماح وطيب النّفس به إلاّ أن يمنع ربّ البيت فليس لها ذلك .
الحلف على الإطعام :
29 - حلف على آخر أن يأكل معه فهو على أن يأكل معه ما يطعم على وجه التّطعّم كجبنٍ وفاكهةٍ وخبزٍ ، وقيل : هو على المطبوخ . ويندب إبرار القسم ، لما ثبت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أمر بإبرار القسم » . فإن أحنثه ولم يأكل معه فالكفّارة على الحالف ، لأنّ الحالف هو الحانث ، فكانت الكفّارة عليه ، كما لو كان هو الفاعل . وكذلك إن حلف أن يطعم غيره فهو على ما تقدّم ، فإن وفّى لم يحنث وإن لم يوف حنث .
الوصيّة بالإطعام :
30 - الوصيّة بالإطعام إذا أعانت على محرمٍ فهي باطلةٌ في الأصحّ ، كالوصيّة بالإطعام بعد الموت ثلاثة أيّامٍ ، حيث تجتمع النّائحات ، لأنّها من الإعانة على المحرّم ، فإذا لم تعن على حرامٍ جازت ووجب إخراجها من تركته في حدود الثّلث ، كمن أوصى بالأضحيّة ، أو بإطعام الفقراء ، أو بفطرة رمضان أو بنذرٍ عليه .
الوقف على الإطعام :
31 - في وقف الطّعام على الإطعام إن قصد بوقفه بقاء عينه لم يصحّ ، لأنّه يؤدّي إلى فساد الطّعام وذلك إضاعةٌ للمال ، وإن كان على معنى أنّه وقفٌ للقرض إن احتاج إليه محتاجٌ ثمّ يردّ مثله ، فقد رأى جمهور الفقهاء : ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) جوازه ، وإن كان الموقوف أرضاً أو شجرةً ذات ثمرٍ لإطعام ثمرها جاز ، لما روي : « أنّ عمر رضي الله عنه أصاب أرضاً بخيبر فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : إن شئت حبست أصلها وتصدّقت بها غير أنّه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث فتصدّق بها عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرّقاب وفي سبيل اللّه وابن السّبيل والضّيف » فإن كان حيواناً ملك الموقوف عليه صوفه ولبنه وسائر منافعه ، وإن كان الوقف لمعصيةٍ أو لأهل الفسق فالأرجح ردّه ، لأنّه معصيةٌ . وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( وقفٌ ) .
أطعمةٌ *
التعريف :
1 - الأطعمة : جمع طعامٍ ، وهو في اللّغة : كلّ ما يؤكل مطلقاً ، وكذا كلّ ما يتّخذ منه القوت من الحنطة والشّعير والتّمر . ويطلقه أهل الحجاز والعراق الأقدمون على القمح خاصّةً . ويقال : طعم الشّيء يطعمه ( بوزن : غنم يغنم ) طعماً ( بضمٍّ فسكونٍ ) إذا أكله أو ذاقه . وإذا استعمل هذا الفعل بمعنى الذّواق جاز فيما يؤكل وفيما يشرب ، كما في قوله تعالى : { إنّ اللّه مبتليكم بنهرٍ ، فمن شرب منه فليس منّي ومن لم يطعمه فإنّه منّي } . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ الأوّل . ويذكرونه أيضاً في الرّبا يريدون به ( مطعوم الآدميّين ) سواءٌ كان للتّغذّي ، كالقمح والماء ، أم للتّأدّم كالزّيت ، أم للتّفكّه كالتّفّاح ، أم للتّداوي والإصلاح كالحبّة السّوداء والملح . وقد يطلق الفقهاء لفظ " الأطعمة " على ( كلّ ما يؤكل وما يشرب ، سوى الماء والمسكرات ) . ومقصودهم : ما يمكن أكله أو شربه ، على سبيل التّوسّع ، ولو كان ممّا لا يستساغ ولا يتناول عادةً ، كالمسك وقشر البيض . وإنّما استثني الماء لأنّ له باباً خاصّاً باسمه ، واستثنيت المسكرات أيضاً ، لأنّها يعبّر اصطلاحاً عنها بلفظ ( الأشربة ) . ثمّ إنّ موضوع الأطعمة هو عنوانٌ يدلّ به على ما يباح وما يكره وما يحرم منها . وأمّا آداب الأكل والشّرب فإنّها يترجم لها بكلمة ( الأدب ) ويرجع إليها في مصطلح ( أكلٌ ، وشربٌ ) . كما أنّ الولائم المشروعة يترجم لها بعناوين أخرى تخصّها ، كالعقيقة والوكيرة . ( ر : إطعامٌ ) .
تقسيم الأطعمة :
2 - تنقسم الأطعمة إلى نوعين : حيوانيّةٍ ، وغير حيوانيّةٍ .
ثمّ إنّ الحيوان ينقسم إلى قسمين رئيسين : مائيٍّ ، وبرّيٍّ . وفي كلٍّ من القسمين أنواعٌ فيها ما يؤكل وفيها ما لا يؤكل . وينقسم المأكول من الحيوان :
أوّلاً إلى : مباحٍ ، ومكروهٍ .
ثانياً إلى : ما تشترط الذّكاة في حلّه ، وما لا تشترط .
3 - والمقصود بالحيوان في هذا المقام أنواع الحيوان جميعاً ممّا يجوز للإنسان أكله شرعاً أو لا يجوز ، ولا يراد به ما يشمل الإنسان نفسه بالنّسبة للإنسان ، بل الكلام محصورٌ فيما يحلّ للإنسان أو لا يحلّ ، باعتبار أنّ ما سوى الإنسان قد خلقه اللّه سبحانه لمنفعة الإنسان ومصلحته ، فمنه ما ينتفع به الإنسان بالأكل وغيره ، ومنه ما ينتفع به لغير الأكل من وجوه المنافع .
4 - أمّا الإنسان نفسه ، الّذي هو أشرف الحيوان جميعاً والّذي سخّر له كلّ ما عداه ، فلا يدخل لحمه في مفهوم الأطعمة وتقسيمها إلى حلالٍ وحرامٍ ، لكرامته في نظر الشّريعة الإسلاميّة ، أيّاً كانت سلالته ولونه ودينه وبيئته . فحرمة لحمه على بني جنسه معلومةٌ من الدّين بالضّرورة ، ومصرّحٌ بها في مواضع مختلفةٍ من كتب الفقه . ولذلك لا يبحث الفقهاء عن حرمة لحمه في باب الأطعمة ، وإنّما يذكر ذلك في حالات الاضطرار الاستثنائيّة . وتفصيله في مصطلح : ( ضرورةٌ ).
5 - ويجب التّنبّه إلى أنّ الحيوانات غير المأكول يعبّر الفقهاء عادةً عن عدم جواز أكلها بإحدى العبارات التّالية : " لا يحلّ أكلها " ، " يحرم أكلها " ، " غير مأكولٍ " ، " يكره أكلها ، وهذه العبارة الأخيرة تذكر في كتب الحنفيّة في أغلب الأنواع ، ويراد بها الكراهة التّحريميّة عندما يكون دليل حرمتها في نظرهم غير قطعيٍّ . فالحيوانات غير المأكولة واحدٌ منها حرمة أكله قطعيّةٌ إجماعيّةٌ ، وهو الخنزير . وفي بقيّتها خلافٌ قويٌّ أو ضعيفٌ ، فيصحّ وصفها بالحرمة أو بالكراهة ( التّحريميّة ) .
الحكم التّكليفيّ :
6 - الحكم التّكليفيّ ليس منصّباً على ذوات الأطعمة ، وإنّما على أكلها أو استعمالها ، وليس هناك حكمٌ جامعٌ للأطعمة كلّها ، لذلك سيذكر حكم كلّ نوعٍ عند الكلام عليه . ويتبيّن لمن تتبّع ما في كتب الفقه المختلفة في أبواب الأطعمة وغيرها أنّ الأصل في الأطعمة الحلّ ، ولا يصار إلى التّحريم إلاّ لدليلٍ خاصٍّ ، وأنّ لتحريم الأطعمة بوجهٍ عامٍّ - ولو غير حيوانيّةٍ - أسباباً عامّةً عديدةً في الشّريعة متّصلةً بقواعدها العامّة ومقاصدها في إقامة الحياة الإنسانيّة على الطّريق الأفضل . وكذلك يرى المتتبّع أسباباً لكراهة الأطعمة بوجهٍ عامٍّ غير الأسباب المتعلّقة بأنواع الحيوان . وسنعرض فيما يلي بإيجازٍ أمثلةً لذلك ما يحرم أكله لأسبابٍ مختلفةٍ :
7 - يظهر من الاستقراء وتتبّع تعليلات فقهاء المذاهب فيما يحكمون بحرمة أكله أنّه يحرم أكل الشّيء مهما كان نوعه لأحد أسباب خمسةٍ :
السّبب الأوّل : الضّرر اللاّحق بالبدن أو العقل : ولهذا أمثلةٌ كثيرةٌ :
8 - منها : الأشياء السّامّة سواءٌ أكانت حيوانيّةً كالسّمك السّامّ ، وكالوزغ والعقارب والحيّات السّامّة والزّنبور والنّحل ، وما يستخرج منها من موادّ سامّةٍ . أم كانت نباتيّةً كبعض الأزهار والثّمار السّامّة . أم جماديّةً كالزّرنيخ ، فكلّ هذه تحرم ، لقوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } ، ولقول الرّسول صلى الله عليه وسلم : « من تحسّى سمّاً فقتل نفسه فسمّه في يده يتحسّاه في نار جهنّم خالداً مخلّداً فيها أبداً » . لكن صرّح المالكيّة والحنابلة بأنّ هذه السّموم إنّما تحرم على من تضرّه . وهذا ظاهرٌ فإنّ كثيراً من الأدوية الّتي يصفها الأطبّاء محتويةٌ على السّموم بالقدر الّذي لا يضرّ الإنسان ، بل يفيده ويقتل جراثيم الأمراض ، كما أنّ تأثّر الأشخاص بالسّموم أنواعاً ومقادير يختلف . وهذا لا تأباه قواعد المذاهب الأخرى ، حيث المفهوم أنّ المحرّم هو تعاطي القدر الضّارّ من هذه السّموم .
9 - ومنها : الأشياء الضّارّة وإن لم تكن سامّةً ، وقد ذكر منها في كتب الفقه : الطّين ، والتّراب ، والحجر ، والفحم على سبيل التّمثيل ، وإنّما تحرم على من تضرّه . ولا شكّ أنّ هذا النّوع يشمل ما كان من الحيوان أو النّبات أو الجماد . ويعرف الضّارّ من غير الضّارّ من أقوال الأطبّاء والمجرّبين . ولا فرق في الضّرر الحاصل بالسّميّات أو سواها بين أن يكون مرضاً جسمانيّاً أيّاً كان نوعه ، أو آفةً تصيب العقل كالجنون والخبل . وذكر المالكيّة في الطّين قولين : الحرمة ، والكراهة ، وقالوا : إنّ المعتمد الحرمة ، وذكر الشّافعيّة حرمة الطّين والحجر على من يضرّانه ، وذكر الحنابلة كراهة الفحم ، والتّراب ، والطّين الكثير الّذي لا يتداوى به . وعلّل صاحب " مطالب أولي النّهى " الكراهة بالضّرر ، مع أنّه قبل ذلك جعل الضّرر سبباً للتّحريم .
السّبب الثّاني : الإسكار أو التّخدير أو التّرقيد :
10 - فيحرم المسكر ، وهو ما غيّب العقل دون الحواسّ مع نشوةٍ وطربٍ ، كالخمر المتّخذ من عصير العنب النّيء ، وسائر المسكرات ، سواءٌ أكانت من غير الحيوان كالنّبيذ الشّديد المسكر ، أم من الحيوان كاللّبن المخيض الّذي ترك حتّى تخمّر وصار مسكراً . ويحرم أكل كلّ شيءٍ مخدّرٍ ( ويقال له : المفسد ) ، وهو ما غيّب العقل دون الحواسّ بلا نشوةٍ وطربٍ ، كالحشيشة . ويحرم أيضاً المرقّد وهو ما غيّب العقل والحواسّ معاً ، كالأفيون والسّيكران . فما كان من المسكرات الّتي تشرب شرباً فإنّه يتبع موضوع الأشربة ، ويرى تفصيل أحكامه فيها ، وقد يشار إليه هنا بمناسبة الضّرر . وما كان من المخدّرات أو المرقّدات الجامدة الّتي تؤكل أكلاً فإنّه يدخل في موضوع الأطعمة هنا ، وقد يذكر في موضوع الأشربة بالمناسبة .
السّبب الثّالث : النّجاسة :
11 - فيحرم النّجس والمتنجّس ما لا يعفى عنه : - فالنّجس كالدّم . - والمتنجّس كالسّمن الّذي ماتت فيه الفأرة وكان مائعاً فإنّه يتنجّس كلّه ، فإن كان جامداً ينجّس ما حول الفأرة فقط ، فإذا طرح ما حولها حلّ أكل باقيه . ومن أمثلة المتنجّس عند الحنابلة : ما سقط أو سمّد بنجسٍ ، من زرعٍ وثمرٍ ، فهو محرّمٌ لتنجّسه ، ولا يحلّ حتّى يسقى بعد ذلك بماءٍ طاهرٍ يستهلك عين النّجاسة ، ونقل في الإنصاف عن ابن عقيلٍ قوله : ليس بنجسٍ ولا محرّمٍ ، بل يطهر بالاستحالة ، كالدّم يستحيل لبناً ، وجزم به في التّبصرة . وممّا يذكر هنا أنّ روث ما يؤكل لحمه طاهرٌ ، فالتّسميد به لا يحرّم الزّرع . وصرّح الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في المسقيّ المذكور أنّه لا يتنجّس ولا يحرم . ومن أمثلة المتنجّس - على خلافٍ بين الفقهاء - البيض الّذي سلق بماءٍ نجسٍ ، وتفصيله في ( بيضٌ ) .
السّبب الرّابع : الاستقذار عند ذوي الطّباع السّليمة :
12 - ومثّل له الشّافعيّة بالبصاق والمخاط والعرق والمنيّ ، فكلّ هذه طاهرةٌ من الإنسان ، ولكن يحرم تناولها للاستقذار . واستثنوا ما كان الاستقذار فيه لعارضٍ كغسالة يدٍ فلا تحرم . ومثل الحنابلة للمستقذرات بالرّوث والبول والقمل والبرغوث . وممّا ينبغي التّنبّه له أنّ الحنابلة يقولون : إنّ روث ما يؤكل لحمه طاهرٌ ، وكذا بوله ، ولكن يحرم تناولهما للاستقذار . فالقذارة لا تنافي الطّهارة إذ ليس كلّ طاهرٍ يجوز أكله .
السّبب الخامس : عدم الإذن شرعاً لحقّ الغير :
13 - من أمثلة هذا السّبب أن يكون الطّعام غير مملوكٍ لمن يريد أكله ، ولم يأذن له فيه مالكه ولا الشّارع ، وذلك المغصوب أو المسروق أو المأخوذ بالقمار أو بالبغاء . بخلاف ما لو أذن فيه الشّارع ، كأكل الوليّ مال مولّيه بالمعروف ، وأكل ناظر الوقف من مال الوقف . وأكل المضطرّ من مال غيره ، فإنّهم مأذونون من الشّارع ، كما سيأتي في الكلام عن حالة الاضطرار . وفي قضيّة عدم الإذن الشّرعيّ إذا تعلّق بالحيوان الّذي يحلّ أكله يفرّق جمهور الفقهاء بين صحّة التّذكية وحرمة الفعل غير المأذون بالنّسبة للفاعل . فإذا غصب مسلمٌ أو كتابيٌّ شاةً مثلاً ، أو سرقها فذبحها بصورةٍ مستوفيةٍ شرائطها ، فإنّ الذّبيحة تكون لحماً طاهراً مأكولاً ، ولكنّ الذّابح يكون متعدّياً بذبحها دون إذنٍ من صاحبها ولا إذن الشّرع ، وهو ضامنٌ لها . وكذلك لا يحلّ له ولا لغيره أكل شيءٍ من لحمها دون إذنٍ أيضاً لمانع حقّ الغير . وللتّفصيل ينظر في : ( غصبٌ ) ( وذبائح ) .
ما يكره أكله لأسبابٍ مختلفةٍ :
14 - ذكر الفقهاء أمثلةً للأطعمة المكروهة ، منها الأمثلة التّالية :
أ - البصل والثّوم والكرّاث ونحوها من ذوات الرّائحة الكريهة ، فيكره أكل ذلك ، لخبث رائحته ما لم يطبخ ، فإن أكله كره دخوله المسجد حتّى يذهب ريحه ، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا - أو ليعتزل مسجدنا - وليقعد في بيته » وصرّح أحمد بن حنبلٍ أنّ الكراهة لأجل الصّلاة في وقت الصّلاة .
ب - الحبّ الّذي داسته الحمر الأهليّة أو البغال ، وينبغي أن يغسل .
ج - ماء البئر الّتي بين القبور وبقلها ، لقوّة احتمال تسرّب التّلوّث إليها .
د - اللّحم النّيء واللّحم المنتن ، قال صاحب " الإقناع " من الحنابلة بكراهتهما ، لكنّ الرّاجح عند الحنابلة عدم الكراهة . الحيوان المائيّ : حلاله وحرامه :
15 - المقصود بالحيوان المائيّ ما يعيش في الماء ، ملحاً كان أو عذباً ، من البحار أو الأنهار أو البحيرات أو العيون أو الغدران أو الآبار أو المستنقعات أو سواها . ولا يحلّ عند الحنفيّة من الحيوان المائيّ شيءٌ سوى السّمك فيحلّ أكله سواءٌ أكان ذا فلوسٍ ( قشّر ) أم لا . وهناك صنفان من الحيوان المائيّ اختلف فيهما الحنفيّة ، للاختلاف في كونهما من السّمك أو من الحيوانات المائيّة الأخرى ، وهما الجرّيث ، والمارماهيّ . فقال الإمام محمّد بن الحسن بعدم حلّ أكلهما ، لكنّ الرّاجح عند الحنفيّة الحلّ فيهما ، لأنّهما من السّمك . ويستثنى من السّمك ما كان طافياً ، فإنّه لا يؤكل عندهم . والطّافي : هو الّذي مات في الماء حتف أنفه ، بغير سببٍ حادثٍ ، سواءٌ أعلا فوق وجه الماء أم لم يعل ، وهو الصّحيح .
وإنّما يسمّى طافياً إذا مات بلا سببٍ ولو لم يعل فوق سطح الماء نظراً إلى الأغلب ، لأنّ العادة إذا مات حتف أنفه أن يعلو . وإنّ حكمة تحريم الطّافي احتمال فساده وخبثه حينما يموت حتف أنفه ويرى طافياً لا يدرى كيف ومتى مات ؟ فأمّا الّذي قتل في الماء قتلاً بسببٍ حادثٍ فلا فرق بينه وبين ما صيد بالشّبكة وأخرج حتّى مات في الهواء . وإذا ابتلعت سمكةٌ سمكةً أخرى فإنّ السّمكة الدّاخلة تؤكل ، لأنّها ماتت بسببٍ حادثٍ هو ابتلاعها . وإذا مات السّمك من الحرّ أو البرد أو كدر الماء ففيه روايتان عند الحنفيّة :
إحداهما : أنّه لا يؤكل ، لأنّ هذه الأمور الثّلاثة ليست من أسباب الموت غالباً ، فالظّاهر أنّ السّمك فيها مات حتف أنفه فيعتبر طافياً .
والثّانية : أنّه يؤكل ، لأنّ هذه الأمور الثّلاثة أسبابٌ للموت في الجملة فيكون ميّتاً بسببٍ حادثٍ فلا يعتبر طافياً ، وهذا هو الأظهر ، وبه يفتى . وإذا أخذ السّمك حيّاً لم يجز أكله حتّى يموت أو يمات . واستدلّ من حرّم الطّافي بالأدلّة التّالية :
أ - بحديث أبي داود عن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه ، وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه » . وروى نحوه سعيد بن منصورٍ عن جابرٍ مرفوعاً أيضاً .
ب - بآثارٍ عن جابر بن عبد اللّه ، وعن ابن أبي طالبٍ ، وعبد اللّه بن عبّاسٍ رضي الله عنهم : أنّهم نهوا عن أكل الطّافي . ولفظ جابرٍ في روايةٍ : « ما طفا فلا تأكلوه ، وما كان على حافّتيه أو حسر عنه فكلوه » . وفي روايةٍ أخرى : « ما حسر الماء عن ضفّتي البحر فكل ، وما مات فيه طافياً فلا تأكل » . ولفظ عليٍّ : « ما طفا من صيد البحر فلا تأكلوه » . ولفظ ابن عبّاسٍ : « لا تأكل منه - أي من سمكٍ وفي البحر - طافياً ».
16 - وذهب من عدا الحنفيّة إلى إباحة كلّ حيوانات البحر بلا تذكيةٍ ولو طافيةً حتّى ما تطول حياته في البرّ ، كالتّمساح والسّلحفاة البحريّة ، والضّفدع والسّرطان البحريّين . ولا يعدّ الفقهاء طير الماء بحريّاً ، لأنّه لا يسكن تحت سطح الماء ، وإنّما يكون فوقه وينغمس فيه عند الحاجة ثمّ يطير ، ولهذا لا يحلّ عندهم إلاّ بالتّذكية . وللمالكيّة في كلب البحر وخنزيره قولٌ بالإباحة ، وآخر بالكراهة ، والرّاجح في كلب الماء الإباحة ، وفي خنزيره الكراهة ، - أي الكراهة التّنزيهيّة عند الحنفيّة - .
واختلفوا في إنسان الماء ، فمنهم من حرّمه ومنهم من أباحه ، وهو الرّاجح ، وصرّح المالكيّة بجواز قلي السّمك وشيّه من غير شقّ بطنه ولو حيّاً . قالوا : ولا يعدّ هذا تعذيباً ، لأنّ حياته خارج الماء كحياة المذبوح .
17 - ويستحبّ عند الشّافعيّة ذبح ما تطول حياته كسمكةٍ كبيرةٍ . ويكون الذّبح من جهة الذّيل في السّمك ، ومن العنق فيما يشبه حيوان البرّ . فإذا لم يكن ممّا تطول حياته كره ذبحه وقطعه حيّاً . وهذا التّعميم في الحلّ هو أصحّ الوجوه عندهم . وهناك سواه وجهان آخران : أحدهما : أنّه لا يحلّ من حيوان البحر سوى السّمك كمذهب الحنفيّة .
والثّاني : أنّ ما يؤكل مثله في البرّ كالّذي على صورة الغنم يحلّ ، وما لا يؤكل مثله في البرّ كالّذي على صورة الكلب والحمار لا يحلّ . ويحرم عند الشّافعيّة الحيوان ( البرمائيّ ) أي الّذي يمكن عيشه دائماً في كلٍّ من البرّ والبحر إذا لم يكن له نظيرٌ في البرّ مأكولٌ . وقد مثّلوا له بالضّفدع ، والسّرطان ، والحيّة ، والنّسناس ، والتّمساح ، والسّلحفاة . وتحريم هذا النّوع البرمائيّ هو ما جرى عليه الرّافعيّ والنّوويّ في " الرّوضة " وأصلها واعتمده الرّمليّ . لكن صحّح النّوويّ في " المجموع " أنّ جميع ما يكون ساكناً في البحر فعلاً تحلّ ميتته ، ولو كان ممّا يمكن عيشه في البرّ ، إلاّ الضّفدع ، وهذا هو المعتمد عند الخطيب وابن حجرٍ الهيتميّ ، وزادا على الضّفدع كلّ ما فيه سمٌّ . وعلى هذا فالسّرطان والحيّة والنّسناس والتّمساح والسّلحفاة إن كانت هذه الحيوانات ساكنة البحر بالفعل تحلّ ، ولا عبرة بإمكان عيشها في البرّ ، وإن كانت ساكنة البرّ بالفعل تحرم . واختلفوا في الدّنيلس : فأفتى ابن عدلان بحلّه ، ونقل عن الشّيخ عزّ الدّين بن عبد السّلام الإفتاء بتحريمه . ولا يعتبر الإوزّ والبطّ ممّا يعيش في البرّ والبحر ، لأنّها لا تستطيع العيش في البحر دائماً ، فهي من طيور البرّ ، فلا تحلّ إلاّ بالتّذكية كما يأتي ( ف 41 ) . ويكره عند الشّافعيّة ابتلاع السّمك حيّاً إذا لم يضرّ ، وكذا أكل السّمك الصّغير بما في جوفه ، ويجوز قليه وشيّه من غير شقّ بطنه ، لكن يكره ذلك إن كان حيّاً ، وأيّاً ما كان فلا يتنجّس به الدّهن .
18 - وذهب الحنابلة في الحيوان البرمائيّ ، ككلب الماء والسّلحفاة والسّرطان إلى أنّه إنّما يحلّ بالتّذكية . وزادوا بالإضافة للضّفدع استثناء الحيّة والتّمساح ، فقالوا بحرمة الثّلاثة : فالضّفدع للنّهي عن قتلها ، والحيّة لاستخباثها ، والتّمساح لأنّ له ناباً يفترس به . لكنّهم لم يستثنوا سمك القرش فهو حلالٌ ، وإن كان له نابٌ يفترس به . والظّاهر أنّ التّفرقة بينهما مبنيّةٌ على أنّ القرش نوعٌ من السّمك لا يعيش إلاّ في البحر بخلاف التّمساح . وقد قالوا : إنّ كيفيّة ذكاة السّرطان أن يفعل به ما يميته ، بأن يعقر في أيّ موضعٍ كان من بدنه . وإذا أخذ السّمك حيّاً لم يجز أكله حتّى يموت أو يمات ، كما يقول الحنفيّة والحنابلة . ويكره شيّه حيّاً ، لأنّه تعذيبٌ بلا حاجةٍ ، فإنّه يموت سريعاً فيمكن انتظار موته .
19 - وفي حيوانات البحر مذاهب أخرى : منها أنّ ابن أبي ليلى يقول : إنّ ما عدا السّمك منها يؤكل بشريطة الذّكاة واللّيث بن سعدٍ يقول كذلك أيضاً ، غير أنّه لا يحلّ عنده إنسان الماء ولا خنزيره ، وعن سفيان الثّوريّ في هذا روايتان :
إحداهما : تحريم ما سوى السّمك كمذهب الحنفيّة .
وثانيهما : الحلّ بالذّبح كقول ابن أبي ليلى .
20 - ودليل الجمهور الّذين أحلّوا كلّ ما يسكن جوف الماء ولا يعيش إلاّ فيه قوله تعالى : { وما يستوي البحران ، هذا عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابه وهذا ملحٌ أجاجٌ ، ومن كلٍّ تأكلون لحماً طريّاً } . وقوله سبحانه : { أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسّيّارة } ، فلم يفرّق عزّ وجلّ بين ما يسمّيه النّاس سمكاً وما يسمّونه باسمٍ آخر كخنزير الماء أو إنسانه ، فإنّ هذه التّسمية لا تجعله خنزيراً أو إنساناً . ومن أدلّة ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن الوضوء بماء البحر : « هو الطّهور ماؤه ، الحلّ ميتته » . وهذا دليلٌ على حلّ جميع الحيوان الّذي يسكن البحر سواءٌ أخذ حيّاً أم ميّتاً ، وسواءٌ أكان طافياً أم لا . واستدلّوا أيضاً بحديث دابّة العنبر ، وهو حديثٌ صحيحٌ أخرجه مسلمٌ عن أبي الزّبير المكّيّ ، قال حدّثني جابرٌ ، قال : « بعثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأمّر علينا أبا عبيدة ، نتلقّى عيراً لقريشٍ ، وزوّدنا جراباً من تمرٍ لم يجد لنا غيره ، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرةً تمرةً . قال أبو الزّبير : فقلت لجابرٍ : كيف كنتم تصنعون بها ؟ قال : نمصّها كما يمصّ الصّبيّ ، ثمّ نشرب عليها الماء ، فتكفينا يومنا إلى اللّيل . وكنّا نضرب بعصيّنا الخبط ، ثمّ نبلّه بالماء ونأكله . قال : وانطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا كهيئة الكثيب الضّخم ، فأتيناه فإذا هو دابّةٌ تدعى العنبر . قال أبو عبيدة : ميتةٌ ؟ ثمّ قال : لا ، بل نحن رسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، وفي سبيل اللّه تعالى ، وقد اضطررتم ، فكلوا . فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلاثمائةٍ حتّى سمّنّا ، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدّهن ، ونقتطع منه الفدر كالثّور أو كقدر الثّور ، فلقد أخذ منّا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً ، فأقعدهم في وقب عينه ، وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها ثمّ رحل أعظم بعيرٍ معنا فمرّ تحتها . وتزوّدنا من لحمه وشائق . فلمّا قدمنا المدينة أتينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك ، فقال : هو رزقٌ أخرجه اللّه تعالى لكم ، فهل معكم من لحمه شيءٌ فتطعمونا ؟ ، فأرسلنا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منه فأكله » . فهذا الحديث يستدلّون به : على أربعة أمورٍ :
أوّلاً : على أنّ حيوان البحر من غير السّمك يحلّ أكله في حالتي الاختيار والضّرورة .
ثانياً : على أنّه لا يحتاج إلى ذكاةٍ .
ثالثاً : على حلّ الطّافي ، لأنّه لا يدري هل مات حتف أنفه أو بسبب حادثٍ .
رابعاً : على أنّ صيد المجوسيّ والوثنيّ للسّمك لا تأثير له ، لأنّه إذا كانت ميتته حلالاً فصيد المجوسيّ والوثنيّ والمسلم سواءٌ . هذا ، والفسيخ إن كان صغيراً كان طاهراً في المذاهب الأربعة ، لأنّه معفوٌّ عمّا في بطنه ، لعسر تنقية ما فيه ، وإن كان كبيراً فهو طاهرٌ عند الحنفيّة والحنابلة وابن العربيّ والدّردير من المالكيّة ، خلافاً للشّافعيّة ولجمهور المالكيّة . وإذا اعتبر طاهراً فإنّ أكله مع تفسّخه والتّغيّر في رائحته يتبع فيه شرعاً رأي الطّبّ في ضرره أو عدمه : فإن قال الأطبّاء الثّقات : إنّه ضارٌّ يكون أكله محظوراً شرعاً لضرره بالصّحّة ، وإلاّ فلا .
الحيوان البرّيّ : حلاله وحرامه :
21 - المقصود بالحيوان البرّيّ : ما يعيش في البرّ من الدّوابّ أو الطّيور . ويقسم بحسب أنواعه وخصائصه وما يتّصل به من أحكامٍ إلى ثلاثة عشر نوعاً :
النّوع الأوّل : الأنعام :
22 - الأنعام ( بفتح الهمزة ) جمع نعمٍ ( بفتحتين ) وهو اسمٌ يتناول ثلاثة أنواعٍ هي : الإبل ، والبقر ، والغنم ، سواءٌ أكانت البقر عراباً أم جواميس ، وسواءٌ أكانت الغنم ضأناً أم معزاً ، فكلّها حلالٌ بإجماع المسلمين المستند إلى نصوصٍ كثيرةٍ . منها قوله تعالى : { والأنعام خلقها لكم فيها دفءٌ ومنافع ، ومنها تأكلون } ، ومنها قوله جلّ شأنه { اللّه الّذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ، ومنها تأكلون } . واسم الأنعام يقع على هذه الحيوانات بلا خلافٍ بين أهل اللّغة .
النّوع الثّاني : الأرنب :
23 - الأرنب حلالٌ أكلها عند الجمهور . وقد صحّ عن أنسٍ أنّه قال : « أنفجنا أرنباً فسعى القوم فلغبوا ، فأخذتها وجئت بها أبا طلحة ، فذبحها وبعث بوركها - أو قال : بفخذها إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقبله » . وعن محمّد بن صفوان ( أو صفوان بن محمّدٍ ) أنّه قال : « صدت أرنبين فذبحتهما بمروة ، فسألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأمرني بأكلهما » . ثمّ إنّها من الحيوان المستطاب ، وليست ذات نابٍ تفترس به ، ولم يرد نصٌّ بتحريمها ، فهذه المناطات تستوجب حلّها كما سيرى في الأنواع المحرّمة . وقد أكلها سعد بن أبي وقّاصٍ رضي الله عنه ورخّص فيها أبو سعيدٍ الخدريّ وعطاءٌ وابن المسيّب واللّيث وأبو ثورٍ وابن المنذر .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
النّوع الثّالث : الحيوانات المفترسة :
24 - المراد بالحيوانات المفترسة : كلّ دابّةٍ لها نابٌ يفترس به ، سواءٌ أكانت أهليّةً كالكلب والسّنّور الأهليّ ، أم وحشيّةً كالأسد والذّئب والضّبع والنّمر والفهد والثّعلب والسّنّور الوحشيّ والسّنجاب والفنك والسّمّور والدّلق ( وهو أبو مقرضٍ ) والدّبّ والقرد وابن آوى والفيل . وحكمها : أنّها لا يحلّ شيءٌ منها عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو قولٌ للمالكيّة ، غير أنّ الضّبع والثّعلب قال بحلّهما أبو يوسف ومحمّدٌ .
25 - واستدلّ الجمهور على تحريم هذا النّوع كلّه أو كراهته كراهةً تحريميّةً - بقطع النّظر عن الأمثلة - بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « أكل كلّ ذي نابٍ من السّباع حرامٌ » . ومن استثنى الضّبع منهم استدلّ بأخبارٍ كثيرةٍ عن بعض الصّحابة ، منها ما ورد من حديث ابن أبي عمّارٍ قال : « سألت جابر بن عبد اللّه عن الضّبع أآكلها ؟ قال : نعم ، قلت : أصيدٌ هي ؟ قال : نعم ، قلت : أسمعت ذلك من نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم » . وروي أيضاً من حديث نافعٍ مولى ابن عمر ، قال : أخبر رجلٌ ابن عمر أنّ سعد بن أبي وقّاصٍ يأكل الضّباع ، قال نافعٌ : فلم ينكر ابن عمر ذلك .
26 - والقول المشهور للمالكيّة أنّه : يكره تنزيهاً أكل الحيوانات المفترسة سواءٌ أكانت أهليّةً كالسّنّور والكلب ، أم متوحّشةً كالذّئب والأسد . وللمالكيّة في القرد والنّسناس قولٌ بالإباحة ، وهو خلاف المشهور عندهم لكن صحّحه صاحب التّوضيح .
27 - لكنّ الشّافعيّة أباحوا بعض الأمثلة السّابق ذكرها : بالإضافة إلى الضّبع والثّعلب كالسّنجاب والفنك والسّمّور محتجّين بأنّ أنيابها ضعيفةٌ . وقالوا في السّنّور الوحشيّ ، والأهليّ ، وابن آوى ، والنّمس ، والدّلق : إنّها محرّمةٌ في الأصحّ ، وقيل في هذه الخمسة الأخيرة كلّها بالحلّ عندهم .
28 - أمّا الحنابلة فقد أباحوا من الأمثلة السّابقة الضّبع فقط . وقالوا : إنّ في الثّعلب والسّنّور الوحشيّ روايةً بالإباحة .
29 - وأمّا المالكيّة فقد استدلّوا بقول اللّه تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعمٍ يطعمه ... } إلخ الآية فإنّ لحوم السّباع ليست ممّا تضمّنته الآية ، فتكون مباحةً ، وأمّا ما ورد من النّهي عن أكل كلّ ذي نابٍ فهو محمولٌ على الكراهة .
النّوع الرّابع : كلّ وحشٍ ليس له نابٌ يفترس به وليس من الحشرات :
30 - وذلك كالظّباء ، وبقر الوحش ، وحمر الوحش ، وإبل الوحش . وهذا النّوع حلالٌ بإجماع المسلمين ، لأنّه من الطّيّبات . لكن قال المالكيّة : إذا تأنّس حمار الوحش صار حكمه حكم الحمار الأهليّ ، وحكم الأهليّ سيأتي( ر : ف 46 ) . فإن عاد إلى التّوحّش رجع مباحاً كما كان .
النّوع الخامس : كلّ طائرٍ له مخلبٌ صائدٌ :
31 - وذلك كالبازي والباشق والصّقر والشّاهين والحدأة والعقاب ، وهذا النّوع - بقطع النّظر عن الأمثلة - مكروهٌ تحريماً عند الحنفيّة ، وحرامٌ في باقي المذاهب ، إلاّ عند المالكيّة فقد قالوا في المشهور عنهم : إنّ جميع هذه الطّيور مباحةٌ ولو كانت جلاّلةً ، وروي عن جماعةٍ منهم عدم جواز أكلها . ومال المازريّ لحمل النّهي على التّنزيه .
32 - ومن أدلّة تحريم هذا النّوع أو كراهته كراهةً تحريميّةً حديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كلّ ذي نابٍ من السّباع ، وعن كلّ ذي مخلبٍ من الطّير » . والمراد مخلبٌ يصيد به ، إذ من المعلوم أنّه لا يسمّى ذا مخلبٍ عند العرب إلاّ الصّائد بمخلبه وحده . وأمّا الدّيك والعصافير والحمام وسائر ما لا يصيد بمخلبه فلا تسمّى ذوات مخالب في اللّغة ، لأنّ مخالبها للاستمساك والحفر بها ، وليست للصّيد والافتراس . واستدلّ المالكيّة بالحصر الّذي في قوله تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعمٍ يطعمه إلاّ أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزيرٍ فإنّه رجسٌ أو فسقاً أهّل لغير اللّه به } .
النّوع السّادس : الطّائر الّذي لا يأكل إلاّ الجيف غالباً :
33 - اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على تحريم الغراب الأسود الكبير والغراب الأبقع ، إلاّ أنّ الحنفيّة عبّروا بالكراهة التّحريميّة . والمقصود واحدٌ ، وهو منع الشّارع الأكل ، ومعلومٌ أنّ دليل المنع ليس قطعيّاً ، وما كان كذلك يصحّ أن يعبّر عنه بالتّحريم وبالكراهة التّحريميّة . وكلا النّوعين لا يأكل غالباً إلاّ الجيف ، فهما مستخبثان عند ذوي الطّبائع السّليمة ، ويدخل في هذا النّوع النّسر ، لأنّه لا يأكل سوى اللّحم من جيفٍ وسواها ، وإن لم يكن ذا مخلبٍ صائدٍ .
34 - ويحلّ غراب الزّرع ، وهو نوعان :
أحدهما : الزّاغ وهو غرابٌ أسود صغيرٌ ، وقد يكون محمرّ المنقار والرّجلين .
وثانيهما : الغداف الصّغير ، وهو غرابٌ صغيرٌ لونه كلون الرّماد ، وكلاهما يأكل الزّرع والحبّ ولا يأكل الجيف . وبحلّهما أيضاً قال الشّافعيّة والحنابلة .
35 - وأمّا العقعق ، وهو غرابٌ نحو الحمامة حجماً ، طويل الذّنب فيه بياضٌ وسوادٌ ، فهو حرامٌ عند الجمهور ، حلالٌ عند أبي حنيفة ، مكروهٌ تحريماً عند أبي يوسف . والأصحّ عند الحنفيّة حلّه ، لأنّه يخلط فيأكل الجيف والحبّ ، فلا يكون مستخبثاً .
36 - وليست العبرة عند الحنفيّة بالأسماء ، ولا بالكبر والصّغر ، ولا بالألوان ، وإنّما العبرة بنوع غذائه : فالّذي لا يأكل إلاّ الجيف غالباً مكروهٌ تحريماً ، والّذي يخلط حلالٌ عند أبي حنيفة خلافاً لأبي يوسف ، والّذي لا يأكل الجيف حلالٌ اتّفاقاً ، هذا مذهب الحنفيّة .
37 - والمالكيّة أباحوا الغربان كلّها من غير كراهةٍ على المشهور . وروي عن جماعةٍ منهم عدم جواز آكلة الجيف .
38 - وحجّة القائلين بتحريم الغربان أو كراهتها التّحريميّة ( إلاّ ما استثني ) حديث عائشة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « خمسٌ فواسق تقتلن في الحلّ والحرم : الحيّة ، والغراب الأبقع ، والفأرة ، والكلب العقور ، والحديّا » . وحديث عائشة رضي الله عنها أيضاً أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « خمسٌ من الدّوابّ كلّهنّ فاسقٌ ، يقتلن في الحرم : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور » وحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « خمسٌ من الدّوابّ ليس على المحرم في قتلهنّ جناحٌ : الغراب ، والحدأة ، والفأرة ، والعقرب ، والكلب العقور » . فالغراب الأبقع الّذي ذكر في الحديث أبيح قتله ، وكذا سائر الغربان الّتي يدلّ عليها عموم لفظ " الغراب " في الأحاديث الأخرى . وما أبيح قتله فلا ذكاة له ، لأنّ كلمة القتل متى أطلقت تنصرف إلى إزهاق الرّوح بأيّة وسيلةٍ استطاعها الإنسان ، فلو حلّ بالذّكاة لكان إزهاق روحه بغيرها إضاعةً للمال ، وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن إضاعة المال . وقد روى ابن أبي شيبة عن عروة رضي الله عنه أنّه قال : من يأكل الغراب وقد سمّاه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاسقاً ؟ وروى عبد الرّزّاق عن الزّهريّ أنّه قال : كره رجالٌ من أهل العلم أكل الحداء والغراب حيث سمّاهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من فواسق الدّوابّ الّتي تقتل في الحرم .
39 - وحجّة المالكيّة أنّ إباحة القتل لا دلالة فيها على تحريم الأكل لقوله تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعمٍ ... } الآية . ومعلومٌ أنّ الغراب ليس في الآية ، فيكون مباح الأكل .
40 - وحجّة من استثنى إباحة بعض الأنواع من الغربان أنّ الأحاديث الّتي ورد فيها وصف الغراب بالأبقع أشعرت أنّ الغراب المذكور هو المتّصف بصفةٍ توجب خبثه ، وقد لوحظ أنّ هذه الصّفة هي كونه لا يأكل إلاّ الجيفة غالباً ، فحملت الأحاديث المطلقة عليه ، ثمّ ألحق بالأبقع ما ماثله وهو الغداف الكبير . واختلفوا في العقعق تبعاً لاختلاف أنظارهم في كونه يكثر من أكل الجيفة أو لا يكثر .
النّوع السّابع : كلّ طائرٍ ذي دمٍ سائلٍ ، وليس له مخلبٌ صائدٌ ، وليس أغلب أكله الجيف :
41 - وذلك كالدّجاج ، والبطّ ، والإوزّ ، والحمام مستأنساً ومتوحّشاً ، والفواخت ، والعصافير ، والقبج ، والكركيّ ، والخطّاف ، والبوم ، والدّبسيّ ، والصّلصل ، واللّقلق ، واللّحام ، والهدهد ، والصّرد ، والخفّاش ( الوطواط ) . فكلّ هذا مأكولٌ عند الحنفيّة .
42 - وقال المالكيّة بإباحة هذا النّوع كلّه ولو جلاّلةً في المشهور عنهم ، إلاّ الخفّاش فالمشهور عندهم فيه الكراهة ، وقيل بكراهة الهدهد والصّرد ، لما رواه أبو داود بسندٍ صحيحٍ عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه صلى الله عليه وسلم « نهى عن قتل أربعٍ من الدّوابّ : النّملة ، والنّحلة ، والهدهد ، والصّرد » . وقيل بالكراهة في الخطّاف أيضاً ، وخصّ بعضهم الكراهة فيه بما يعشّش في البيوت احتراماً لمن عشّش عنده .
43 - واتّفق الشّافعيّة والحنابلة على التّفصيل التّالي في هذا النّوع ، فذكروا أنّه يحرم ما أمر الشّارع بقتله ، وما نهى عن قتله ، وما استخبث ، ويحلّ ما لم يكن كذلك . لكنّهم اختلفوا في التّطبيق : فالرّخمة والخفّاش واللّقلق والخطّاف والسّنونو تحرم عند الشّافعيّة والحنابلة . والبغاثة تحرم عند الشّافعيّة . والببّغاء والطّاووس يحرمان عند الشّافعيّة لخبث غذائهما ، ويحلاّن عند الحنابلة . والأخيل ، ويسمّى : الشّقراق يحرم عند الحنابلة لخبثه ، ويحلّ عند الشّافعيّة . وأبو زريقٍ ، ويسمّى : الدّرباب أو القيق ، نصّ الحنابلة على تحريمه لخبثه ، ومقتضى كلام الشّافعيّة أنّه يحلّ . والهدهد والصّرد يحرمان في المذاهب الثّلاثة للنّهي عن قتلهما . ويحرم العقعق عند الثّلاثة أيضاً ، لأنّه يأكل الجيف كالغراب الأبقع ، وقد سبق ذكره ( ر : ف 33 ) . والنّعامة ، والكركيّ ، والحبارى ، والدّجاج ، والبطّ ، والإوزّ ، والغرنيق ، وسائر طيور الماء - سوى اللّقلق - كلّها ممّا يؤكل على المذاهب الثّلاثة ، وكذا الحمام ، وهو اسمٌ لكلّ ما عبّ وهدر كالقمريّ ، والدّبسيّ ، واليمام ، والفواخت ، والقطا ، والحجل . وكذلك العصفور وكلّ ما على شكله ، كالعندليب المسمّى بالهزار ، والصّعوة ، والزّرزور ، حلالٌ في المذاهب الثّلاثة ، لأنّها معدودةٌ من الطّيّبات ، ( كما يقول الحنفيّة ، وإن كان هؤلاء يقولون بالكراهة التّنزيهيّة في بعضٍ منها على ما سبق بيانه ) .
النّوع الثّامن : الخيل :
44 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة ، وهو قولٌ للمالكيّة إلى إباحة الخيل ، سواءٌ أكانت عراباً أم براذين . وحجّتهم حديث جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما ، قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهليّة ، وأذن في لحوم الخيل » . وحديث أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما قالت : « نحرنا على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فرساً فأكلناه ونحن بالمدينة » . وذهب الحنفيّة في الرّاجح عندهم ، وهو قولٌ ثانٍ للمالكيّة ، إلى حلّ أكلها مع الكراهة التّنزيهيّة . وحجّتهم هي اختلاف الأحاديث المرويّة في الباب واختلاف السّلف ، فذهبوا إلى كراهة الخيل احتياطاً ، ولأنّ في أكلها تقليل آلة الجهاد .
45 - وبناءً على الكراهة التّنزيهيّة يقرّر الحنفيّة : أنّ سؤر الفرس ولبنها طاهران ، لأنّ كراهة أكل الخيل ليست لنجاستها ، بل لاحترامها ، لأنّها آلة الجهاد ، وفي توفيرها إرهاب العدوّ ، كما يقول اللّه تعالى : { وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّةٍ ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ اللّه وعدوّكم } . وذهب أبو حنيفة في رواية الحسن بن زيادٍ عنه إلى الكراهة التّحريميّة ، ونحوه قولٌ للمالكيّة بالتّحريم ، وبه جزم خليلٌ في مختصره . وحجّتهم قول اللّه تعالى : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينةً } فالاقتصار على الرّكوب والزّينة يدلّ على أنّها ليست مأكولةً ، إذ لو كانت مأكولةً لقال : ومنها تأكلون ، كما قال قبل ذلك : { والأنعام خلقها ، لكم فيها دفءٌ ومنافع ، ومنها تأكلون } . وكذا الحديث المرويّ عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير ، وكلّ ذي نابٍ من السّباع ، وكلّ ذي مخلبٍ من الطّير » . ولمّا كانت دلالة الآية والحديث على التّحريم غير قطعيّةٍ كان الحكم هو الكراهة التّحريميّة عند الحنفيّة . ولا مانع من تسميتها ( تحريماً ) بناءً على أنّ التّحريم هو المنع بالمعنى الشّامل لما كان دليله قطعيّاً أو ظنّيّاً .
النّوع التّاسع : الحمار الأهليّ :
46 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة - وهو القول الرّاجح للمالكيّة - إلى حرمة أكله . ونحوه مذهب الحنفيّة حيث عبّروا بالكراهة التّحريميّة الّتي تقتضي المنع ، وسواءٌ أبقي على أهليّته أم توحّش . ومن أدلّة التّحريم أو الكراهة التّحريميّة : حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمر منادياً فنادى : إنّ اللّه ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهليّة فإنّها رجسٌ ، فأكفئت القدور وإنّها لتفور باللّحم » . وحديث جابر بن عبد اللّه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهليّة ، وأذن في لحوم الخيل » . وذكر ابن حزمٍ أنّه نقل تحريم الحمر الأهليّة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من طريق تسعةٍ من الصّحابة بأسانيد كالشّمس ، فهو نقل تواترٍ لا يسع أحداً خلافه . والقول الثّاني للمالكيّة : أنّه يؤكل مع الكراهة أي التّنزيهيّة .
47 - وقد نقل ابن قدامة : أنّ الإمام أحمد قال : إنّ خمسة عشر من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم كرهوا الحمر الأهليّة ، وأنّ ابن عبد البرّ قال : لا خلاف بين علماء المسلمين اليوم في تحريمها ، وأنّ ابن عبّاسٍ وعائشة كانا يقولان بظاهر قوله تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعمٍ يطعمه إلاّ أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزيرٍ } . تلاها ابن عبّاسٍ وقال : ما خلاّ هذا فهو حلالٌ ، وأنّ عكرمة وأبا وائلٍ لم يريا بأكل الحمر بأساً . ونقل الكاسانيّ أنّ بشراً المريسيّ قال بإباحتها . وصفوة القول أنّ فيها ثلاثة مذاهب : الأوّل : التّحريم أو الكراهة التّحريميّة .
والثّاني : الكراهة التّنزيهيّة .
والثّالث : الإباحة .
النّوع العاشر : الخنزير :
48 - الخنزير حرامٌ لحمه وشحمه وجميع أجزائه ، لقوله تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعمٍ يطعمه إلاّ أن يكون ميتةً ، أو دماً مسفوحاً ، أو لحم خنزيرٍ فإنّه رجسٌ ، أو فسقاً أهّل لغير اللّه به } .
49 - قال الألوسيّ : ( خصّ اللّحم بالذّكر مع أنّ بقيّة أجزائه أيضاً حرامٌ ، خلافاً للظّاهريّة ، لأنّه معظم سما يؤكل من الحيوان ، وسائر أجزائه كالتّابع له ، ثمّ بيّن الألوسيّ أنّه خصّ لحم الخنزير بالذّكر ، مع أنّ بقيّة أجزائه حرامٌ ، لإظهار حرمة ما استطابوه وفضّلوه على سائر اللّحوم واستعظموا وقوع تحريمه ) .
50 - والضّمير في قوله تعالى : { أو لحم خنزيرٍ فإنّه رجسٌ } ، في لغة العرب الّتي نزل بها القرآن راجعٌ إلى أقرب مذكورٍ إليه وهو الخنزير نفسه ، فصحّ بالقرآن أنّ الخنزير بعينه رجسٌ ، فهو كلّه رجسٌ وبعض الرّجس رجسٌ ، والرّجس حرامٌ واجبٌ اجتنابه ، فالخنزير كلّه حرامٌ ، لا يخرج من ذلك شعره ولا غيره .
النّوع الحادي عشر : الحشرات :
51 - الحشرات قد تطلق لغةً على الهوامّ فقط ، وقد تطلق على صغار الدّوابّ كافّةً ممّا يطير أو لا يطير . والمراد هنا المعنى الثّاني الأعمّ . والحشرات تنقسم إلى قسمين :
أ : ما له دمٌ سائلٌ ( ذاتيٌّ ) ومن أمثلته : الحيّة ، والفأرة ، والخلد ، والضّبّ ، واليربوع ، وابن عرسٍ ، والقنفذ .
ب : ما ليس له دمٌ سائلٌ ( ذاتيٌّ ) ومن أمثلته : الوزغ ، والعقرب ، والعظاءة ، والحلزون البرّيّ ، والعنكبوت ، والقراد ، والخنفساء ، والنّمل ، والبرغوث ، والجراد ، والزّنبور ، والذّباب والبعوض .
52 - وهذا التّقسيم في الحشرات إلى ذوات دمٍ سائلٍ وغير سائلٍ لا تأثير له في كونها مأكولةً أو غير مأكولةٍ في موضوع الأطعمة هنا ، ولكنّ له تأثيراً في موضوعٍ آخر هو نجاستها وطهارتها ، فذات الدّم السّائل تنجس ميتتها . وتتنجّس بها المائعات القليلة ، بخلاف ما ليس لها دمٌ سائلٌ ، ولذلك جمع النّوعان في موضوع الأطعمة هنا لوحدة الحكم فيهما من حيث جواز الأكل أو عدمه . ولمّا كان لكلٍّ من الجراد والضّبّ والدّود حكمٌ خاصٌّ بكلٍّ منها حسن إفراد كلٍّ منها على حدةٍ .
الجراد :
53 - أجمعت الأمّة على حلّ الجراد ، وقد ورد في حلّه الحديث القائل : « أحلّت لنا ميتتان ودمان ، فأمّا الميتتان : فالجراد والحوت ، وأمّا الدّمان : فالطّحال والكبد » . - وذهب الجمهور إلى أنّه لا حاجة إلى تذكية الجراد . وقال المالكيّة : لا بدّ من تذكيته بأن يفعل به ما يعجّل موته بتسميةٍ ونيّةٍ . وممّا ينبغي التّنبّه له أنّ الشّافعيّة كرهوا ذبح الجراد وقطعه حيّاً . وصرّحوا بجواز قليه ميتاً دون إخراج ما في جوفه ، ولا يتنجّس به الدّهن . ويحرم عندهم قليه وشيّه حيّاً على الرّاجح لما فيهما من التّعذيب ، وقيل : يحلّ ذلك فيه كما يحلّ في السّمك ، ولكنّ هذا القول عندهم ضعيفٌ ، لأنّ حياة الجراد مستقرّةٌ ليست كحياة المذبوح ، بخلاف السّمك الّذي خرج من الماء ، فإنّ حياته كحياة المذبوح . وخالف الحنابلة في قليه وشيّه حيّاً ، فذهبوا إلى مثل القول الثّاني للشّافعيّة ، وهو إباحتهما ، وإن كان فيهما تعذيبٌ ، لأنّه تعذيبٌ للحاجة ، فإنّ حياته قد تطول فيشقّ انتظار موته . الضّبّ :
54 - اختلف الفقهاء في الضّبّ : فذهب الجمهور إلى إباحته ، واستدلّوا بالحديث المرويّ عن « عبد اللّه بن عبّاسٍ ، قال : دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة ، فأتي بضبٍّ محنوذٍ ، فرفع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يده ، فقلت : أحرامٌ هو يا رسول اللّه ؟ قال : لا ، ولكنّه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه . قال خالدٌ : فاجتررته فأكلته ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينظر » . وذهب أبو حنيفة إلى تحريمه ، واحتجّ بالحديث المرويّ عن « عبد الرّحمن ابن حسنة : أنّهم أصابتهم مجاعةٌ في إحدى الغزوات مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فوجد الصّحابة ضباباً فحرشوها وطبخوها ، فبينما كانت القدور ، تغلي بها علم بذلك الرّسول صلى الله عليه وسلم فأمرهم بإكفاء القدور فألقوا بها » . واعتبر الجمهور ما ورد في تحريمه منسوخاً ، لأنّ حديث الإباحة متأخّرٌ ، لأنّه حضره ابن عبّاسٍ وهو لم يجتمع بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم إلاّ بالمدينة . وممّن كره الضّبّ من الصّحابة رضي الله عنهم عليّ بن أبي طالبٍ ، وجابر بن عبد اللّه ، ويحتمل أن تكون الكراهة عندهما تحريميّةً ، وهذا عندئذٍ يتّفق مع القول بالتّحريم ، ويحتمل أنّها تنزيهيّةٌ . وحجّة من قال بكراهته تنزيهاً تعارض أدلّة الإباحة والتّحريم ، فيكره تنزيهاً احتياطاً . الدّود :
55 - تناولت كتب الفقه تفصيلاتٍ عن الدّود إيجازها فيما يلي : قال الحنفيّة : إنّ دود الزّنبور ونحوه قبل أن تنفخ فيه الرّوح لا بأس بأكله ، لأنّه ليس بميتةٍ ، فإن نفخت فيه الرّوح لم يجز أكله . وعلى هذا لا يجوز أكل الجبن أو الخلّ أو الثّمار بدودها . وقال المالكيّة : إن مات الدّود ونحوه في طعامٍ وتميّز عن الطّعام أخرج منه وجوباً ، فلا يؤكل معه ، ولا يطرح الطّعام بعد إخراجه منه ، لأنّ ميتته طاهرةٌ . وإن لم يتميّز بأن اختلط بالطّعام وتهرّى طرح الطّعام ، لعدم إباحة نحو الدّود الميّت به وإن كان طاهراً ، فيلقى لكلبٍ أو هرٍّ أو دابّةٍ ، إلاّ إذا كان الدّود غير المتميّز قليلاً . وإن لم يمت في الطّعام جاز أكله معه . هذا كلّه إن لم يكن الدّود ونحوه تولّد في الطّعام ( أي عاش وتربّى فيه ) ، سواءٌ أكان فاكهةً أم حبوباً أم تمراً ، فإن كان كذلك جاز أكله معه عندهم ، قلّ أو كثر ، مات فيه أو لا ، تميّز أو لم يتميّز . ومعنى ذلك أنّهم يلحظون فيه حينئذٍ معنى التّبعيّة . وقال الشّافعيّة والحنابلة : يحلّ أكل الدّود المتولّد في طعامٍ كخلٍّ وفاكهةٍ بثلاث شرائط :
الأولى : - أن يؤكل مع الطّعام ، حيّاً كان أو ميّتاً ، فإن أكل منفرداً لم يحلّ .
الثّانية : - ألاّ ينقل منفرداً ، فإن نقل منفرداً لم يجز أكله . وهاتان الشّريطتان منظورٌ فيهما أيضاً إلى معنى التّبعيّة .
الثّالثة : - ألاّ يغيّر طعم الطّعام أو لونه أو ريحه إن كان مائعاً ، فإن غيّر شيئاً من ذلك لم يجز أكله ولا شربه ، لنجاسته حينئذٍ . ويقاس على الدّود السّوس المتولّد في نحو التّمر والباقلاء إذا طبخا ، فإنّه يحلّ أكله ما لم يغيّر الماء . وكذا النّمل إذا وقع في العسل ونحوه فطبخ . وقال أحمد في الباقلاء المدوّد : تجنّبه أحبّ إليّ ، وإن لم يتقذّر فأرجو . وقال عن تفتيش التّمر المدوّد : لا بأس به . وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم « أنّه أتي بتمرٍ عتيقٍ فجعل يفتّشه يخرج السّوس منه » . قال ابن قدامة : وهو أحسن .
بقيّة الحشرات :
56 - للفقهاء في حكم بقيّة الحشرات ، ما عدا الجراد والضّبّ ، والدّود ثلاثة آراءٍ :
الأوّل : - حرمة أصناف الحشرات كلّها ، لأنّها تعدّ من الخبائث لنفور الطّبائع السّليمة منها . وإلى هذا ذهب الحنفيّة .
الثّاني : - حلّ أصنافها كلّها لمن لا تضرّه . وإليه ذهب المالكيّة ، لكنّهم اشترطوا في الحلّ تذكيتها : فإن كانت ممّا ليس له دمٌ سائلٌ ذكّيت كما يذكّى الجراد ، وسيأتي بيان ذلك . وإن كانت ممّا له دمٌ سائلٌ ذكّيت بقطع الحلقوم والودجين من أمام العنق بنيّةٍ وتسميةٍ . وقال المالكيّة في الفأر إذا علم وصوله إلى النّجاسة : إنّه مكروهٌ ، وإن لم يعلم وصوله إليها فهو مباحٌ .
الثّالث : - التّفصيل بتحريم بعض أصنافها دون بعضٍ : فالشّافعيّة : قالوا بإباحة الوبر ، وأمّ حبينٍ ، واليربوع ، وابن عرسٍ ، والقنفذ . أمّا أمّ حبينٍ فلشبهها بالضّبّ ، وأمّا البقيّة فلأنّها غير مستخبثةٍ . والحنابلة خالفوا الشّافعيّة في القنفذ وابن عرسٍ ، فقالوا بحرمتهما ، ولهم روايتان في الوبر واليربوع أصحّهما الإباحة .
النّوع الثّاني عشر : المتولّدات ، ومنها : البغال :
57 - يقصد بالمتولّدات ما تولّد بين نوعين من الحيوان . وهو ثلاثة أصنافٍ :
الصّنف الأوّل : ما تولّد بين نوعين حلالين . وهو حلالٌ بلا خلافٍ .
الصّنف الثّاني : ما تولّد بين نوعين محرّمين أو مكروهين تحريماً . وهو محرّمٌ أو مكروهٌ تحريماً بلا خلافٍ .
الصّنف الثّالث : ما تولّد بين نوعين أحدهما محرّمٌ أو مكروهٌ تحريماً ، والثّاني حلالٌ مع الإباحة أو مع الكراهة التّنزيهيّة . ومن أمثلة هذا الصّنف : البغال . وفي حكمها تفصيلٌ :
58 - قال الشّافعيّة والحنابلة : إنّ البغل وغيره من المتولّدات يتبع أخسّ الأصلين . وصرّح الشّافعيّة بأنّ هذه التّبيعة إنّما هي عند العلم بالتّولّد بين النّوعين . وعلى هذا لو ولدت الشّاة كلبةً دون أن يعلم أنّها نزا عليها كلبٌ فإنّها تحلّ ، لعدم اليقين بتولّدها من كلبٍ ، لأنّه قد تقع الخلقة على خلاف صورة الأصل ، وإن كان الورع تركها . وحجّتهم في قولهم يتبع أخسّ الأصلين ، أنّه متولّدٌ منهما فيجتمع فيه حلٌّ وحرمةٌ ، فيغلّب جانب الحرمة احتياطاً . ومن القواعد الفقهيّة أنّه إذا تعارض المانع والمقتضي ، أو الحاظر والمبيح ، غلّب جانب المانع الحاظر احتياطاً .
59 - وعند الحنفيّة البغال تابعةٌ للأمّ ، فالبغل الّذي أمّه أتانٌ ( حمارةٌ ) يكره أكل لحمه تحريماً تبعاً لأمّه ، والّذي أمّه فرسٌ يجري فيه الخلاف الّذي فيه الخيل : فيكون مكروهاً عند أبي حنيفة ، ومباحاً عند الصّاحبين . فلو فرض تولّده بين حمارٍ وبقرةٍ ، أو بين حصانٍ وبقرةٍ فهو مباحٌ عند جميع الحنفيّة بلا خلافٍ في المذهب ، تبعاً لأمّه كما تقدّم . وما يقال في البغال يقال في كلّ متولّدٍ بين نوعين من الحيوان ، فالتّبعيّة للأمّ هي القاعدة عند الحنفيّة . ويعرف من الدّرّ المختار وحاشيته لابن عابدين أنّ العبرة للأمّ ولو ولدت المأكولة ما صورته صورة غير المأكول ، كما لو ولدت الشّاة ذئباً فإنّه يحلّ .
60 - والمالكيّة أيضاً يقولون بقاعدة التّبعيّة للأمّ في الحكم مع بعض اختلافٍ . فهم يقيّدون ذلك بألاّ يأتي المتولّد بين نوعين على صورة المحرّم ، فإنّه عندئذٍ يحرم ، وإن كانت الأمّ مباحةً ، كما لو ولدت الشّاة خنزيراً . وكذلك لا يجوّزون أكل مباحٍ ولدته محرّمةٌ ، كشاةٍ من أتانٍ ( وفقاً للقاعدة ) ولا عكسه أيضاً ، كأتانٍ من شاةٍ ( على خلاف القاعدة ) ولكنّ هذا الولد الّذي ولدته المحرّمة على صورة المباح إذا نسل يؤكل نسله عندهم حيث كان على صورة المباح ، لبعده عن أمّه المحرّمة . وقد ذكروا في البغل قولين : أحدهما : التّحريم ، وهو المشهور . وثانيهما : الكراهة دون تفريقٍ أيضاً بين كون أمّه فرساً أو أتاناً ، اعتماداً على أدلّةٍ أخرى في خصوص البغل غير قاعدة التّولّد .
61 - وحجّة من قال : إنّ البغل يتبع أمّه أنّه قبل خروجه منها هو جزءٌ منها ، فيكون حكمه حكمها : حلاًّ ، وحرمةً ، وكراهةً ، فيبقى هذا الحكم بعد خروجه استصحاباً . وحجّة من أطلق التّحريم أو الكراهة التّحريميّة . من الكتاب قوله تعالى : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها ، وزينةً } . فقد بيّنت الآية مزاياها أنّها ركائب وزينةٌ ، وسكتت عن الأكل في مقام الامتنان فيدلّ على أنّها غير مأكولةٍ . ومن السّنّة حديث جابر بن عبد اللّه قال : « حرّم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - يعني يوم خيبر - لحوم الحمر الإنسيّة ولحوم البغال ، وكلّ ذي نابٍ من السّباع ، وكلّ ذي مخلبٍ من الطّير » . وحديث خالد بن الوليد : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر والخيل والبغال » . وحجّة من أطلق القول بالكراهة التّنزيهيّة هي الجمع بين دلالة الآيات والأحاديث السّابقة ، وبين قوله تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً ... } فقالوا : إنّها ليست محرّمةٌ ، عملاً بهذه الآية الأخيرة ، وليست واضحة الإباحة للخلاف في دلالة الآية الأولى والأحاديث ، فيخرج من ذلك أنّها مكروهةٌ كراهةً تنزيهيّةً .
وحجّة من قال بالإباحة : أنّ اللّه تعالى قال : { يا أيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيّباً } . وقال أيضاً : { وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلاّ ما اضطررتم إليه } ولم يذكر فيما فصّل تحريم البغل ، فهو حلالٌ . والقول بأنّه متولّدٌ من الحمار فيكون مثله قولٌ لا يصحّ ، لأنّه منذ نفخت فيه الرّوح هو مغايرٌ للحمار ، وليس جزءاً منه .
النّوع الثّالث عشر : كلّ حيوانٍ لم يعرفه العرب في أمصارهم :
62 - المراد بهذا النّوع ما كان غير معروفٍ من قبل عند العرب أهل اللّغة الّتي نزل بها القرآن في أمصارهم وأشبه ما استطابوه أو استخبثوه . فما كان مشبّهاً لما استطابوه فهو حلالٌ أكله . وما كان مشبّهاً لما استخبثوه فهو حرامٌ أو مكروهٌ تحريماً ، لقوله تعالى : { يسألونك ماذا أحلّ لهم ؟ قل : أحلّ لكم الطّيّبات } أي ما استطبتموه أنتم ، لأنّه هم السّائلون الّذين وجّه إليهم الجواب . ولقوله تعالى : { ويحرّم عليهم الخبائث } أي ما استخبثوه ، فالّذين تعتبر استطابتهم واستخباثهم إنّما هم أهل الحجاز ، لأنّ الكتاب نزل عليهم وخوطبوا به أوّلاً . والمعتبر منهم أهل الأمصار لا أهل البوادي ، لأنّ هؤلاء يأكلون للضّرورة ما يجدون مهما كان . فما لم يكن من الحيوان في أمصار الحجاز يردّ إلى أقرب ما يشبهه في بلادهم . فإن أشبه ما استطابوه حلّ ، وإن أشبه ما استخبثوه حرم . وإن لم يشبه شيئاً ممّا عندهم حلّ ، لدخوله تحت قوله تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعمٍ يطعمه إلاّ أن يكون ميتةً ... } الآية . هذا مذهب الحنفيّة . وصرّح بنحوه الشّافعيّة والحنابلة مع اختلافاتٍ يسيرةٍ تعلم بمراجعة كتبهم .
63 - والمالكيّة يحلّون كلّ ما لا نصّ على تحريمه . فالمالكيّة لا يعتبرون استطابة العرب من أهل الحجاز ولا استخباثهم ولا المشابهة أساساً في تفسير الطّيّبات . وممّا يستدلّ به على ذلك مجموع الآيات الثّلاث التّالية ، هي قوله تعالى : { خلق لكم ما في الأرض جميعاً } ، وقوله : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ .. } الآية ، وقوله : { وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم } فمنها يعرف أنّ المحرّم هو ما استثناه النّصّ من عموم الآية الأولى ، فيبقى ما سواه داخلاً في عمومها المبيح .
ما يحرم أو يكره من الحيوان المأكول لسببٍ عارضٍ :
64 - هناك حالاتٌ عارضةٌ تجعل بعض أنواعٍ من الحيوان المأكول حراماً أو مكروهاً أكلها شرعاً ، ولو ذكّيت التّذكية المقبولة شرعاً . فإذا زالت أسباب الحرمة أو الكراهة العارضة عاد الحيوان حلالاً دون حرجٍ . هذه الأسباب العارضة منها ما يتّصل بالإنسان ، ومنها ما يتّصل بالحيوان نفسه ، ومنها ما يتّصل بهما معاً . وفيما يلي بيان ذلك :
أسباب التّحريم العارضة :
أ - الإحرام بالحجّ أو العمرة :
65 - هذا سببٌ يقوم بالإنسان ، فحالة الإحرام بالحجّ أو بالعمرة تجعل من المحظور على المحرم صيد حيوان الصّيد البرّيّ ، ما دام الشّخص محرماً لم يتحلّل من إحرامه . فإذا قتل حيواناً من هذا النّوع صيداً ، أو أمسكه فذبحه ، كان كالميتة حرام اللّحم على قاتله المحرم نفسه وعلى غيره ، سواءٌ اصطاده في الحرم المكّيّ أو خارجه ، لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرمٌ ... } الآية .
66 - والمراد بحيوان الصّيد البرّيّ الحيوان المتوحّش الممتنع ، أي غير الآهل كالظّباء والحمام . أمّا الآهل كالدّواجن من الطّيور ، والأنعام من الدّوابّ فهو حلالٌ للمحرم وغيره . وكذلك الحيوان المائيّ حلالٌ مطلقاً ، لقوله تعالى : { أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسّيّارة ، وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً } . وهذا محلّ اتّفاقٍ بين جميع المذاهب .
ب - وجود حيوان الصّيد في نطاق الحرم المكّيّ :
67 - ويشمل مكّة المكرّمة والأرض المحيطة بها إلى الحدود المقرّرة في أحكام الحجّ ، والمعروفة بحدود الحرم . وهذا سببٌ يتّصل بالحيوان نفسه ، وهو كونه في حماية الحرم الآمن . فكلّ حيوانٍ من حيوان الصّيد البرّيّ المأكول يقطن في نطاق الحرم ، أو يدخل فيه دون أن يجري عليه امتلاكٌ سابقٌ ، فإنّه إذا قتل أو ذبح أو عقر كان لحمه حراماً كالميتة ، ولو كان قاتله غير محرمٍ ، وذلك لحرمة المكان الثّابتة بقوله تعالى : { ومن دخله كان آمناً } ، وبما ثبت من حديث ابن عبّاسٍ قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكّة : إنّ هذا البلد حرامٌ لا يعضد شوكه ، ولا يختلى خلاه ، ولا ينفّر صيده » .
هذا مذهب الجمهور .
68 - وهناك اجتهاداتٌ ترى جريان هذا التّحريم أيضاً في حيوان الحرم المدنيّ ، وهو مدينة الرّسول صلى الله عليه وسلم والأرض المحيطة بها إلى الحدود المقرّرة لها في النّصوص ، وفيه حديث عليٍّ مرفوعاً : « المدينة حرمٌ ما بين عيرٍ إلى ثورٍ ، لا يختلى خلاها ولا ينفّر صيدها » وهذا أحد قولين عند الشّافعيّة . وتفصيل ذلك حكماً ودليلاً وبيان حدود الحرمين يرى في محلّه من موضوع الحجّ وموضوع الصّيد .
وهناك في صيد الحرم وصيد المحرم من يرى أنّه إنّما يحرم ، ويعتبر كالميتة على صائده فقط عقوبةً له . ولكنّه يكون لحماً حلالاً في ذاته ، فيجوز لغير صائده أن يأكل منه . وهو قولٌ مرجوحٌ عند الشّافعيّة . ويرى قومٌ تحريم صيد المحرم في أرض الحلّ على صائده فقط ، ويرى آخرون تحريمه عليه وعلى سواه من المحرمين دون المحلّين .
السّبب العارض الموجب للكراهة : ( الحيوانات الجلاّلة ) :
69 - المقصود هنا بيان ما يكره أكله من الحيوان المباح الأصل بسببٍ عارضٍ اقتضى هذه الكراهة ، فإذا زال العارض زالت الكراهة . ولم يذكر الفقهاء من هذا النّوع سوى الحيوانات الجلاّلة .
فقال الكاسانيّ : إنّ الجلاّلة هي الإبل أو البقر أو الغنم الّتي أغلب أكلها النّجاسات فيكره أكلها ، لما روي « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الإبل الجلاّلة » ، ولأنّها إذا كان الغالب من أكلها النّجاسات يتغيّر لحمها وينتن ، فيكره أكله كالطّعام المنتن . وروي « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلاّلة أن تشرب ألبانها » . أيضاً ، وذلك لأنّ لحمها إذا تغيّر يتغيّر لبنها . وأمّا ما روي من النّهي عن ركوبها فمحمولٌ على أنّها أنتنت فيمتنع من استعمالها حتّى لا يتأذّى النّاس بنتنها . وقيل : لا يحلّ الانتفاع بها ، ولو لغير الأكل ، والأوّل هو الأصحّ ، لأنّ النّهي ليس لمعنًى يرجع إلى ذاتها ، بل لعارضٍ جاورها ، فكان الانتفاع بها حلالاً في ذاته ، ممنوعاً لغيره .
70 - وتزول الكراهية بحبسها عن أكل النّجاسة وعلفها بالعلف الطّاهر . وهل لحبسها تقديرٌ زمنيٌّ ، أو ليس له تقديرٌ ؟ روي عن محمّدٍ أنّه قال : كان أبو حنيفة لا يوقّت في حبسها ، وقال : تحبس حتّى تطيب ، وهو قول محمّدٍ وأبي يوسف أيضاً . وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنّها تحبس ثلاثة أيّامٍ ، وروى ابن رستم عن محمّدٍ في النّاقة والشّاة والبقرة الجلاّلات أنّها إنّما تكون جلاّلةً إذا أنتنت وتغيّرت ووجد منها ريحٌ منتنةٌ ، فهي الّتي لا يؤكل لحمها ولا يشرب لبنها . هذا إذا كانت لا تخلط ولا تأكل إلاّ الجلّة أو العذرة غالباً ، فإن خلطت فليست جلاّلةً فلا تكره ، لأنّها لا تنتن .
71 - ولا يكره أكل الدّجاجة المخلاة وإن كانت تتناول النّجاسة ، لأنّها لا يغلب عليها أكلها ، بل تخلطها بالحبّ . وقيل : إنّما لا تكره ، لأنّها لا تنتن كما تنتن الإبل ، والحكم متعلّقٌ بالنّتن . ولهذا قالوا في الجدي إذا ارتضع بلبن خنزيرةٍ حتّى كبر : إنّه لا يكره أكله ، لأنّ لحمه لا يتغيّر ولا ينتن . وهذا يدلّ على أنّ العبرة للنّتن لا لتناول النّجاسة . والأفضل أن تحبس الدّجاجة المخلاة حتّى يذهب ما في بطنها من النّجاسة ، وذلك على سبيل التّنزّه . وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنّها تحبس ثلاثة أيّامٍ ، وكأنّه ذهب إلى ذلك ، لأنّ ما في جوفها من النّجاسة يزول في هذه المدّة غالباً . هذه خلاصة ما أفاده صاحب " البدائع " ويؤخذ من " الدّرّ المختار " وحاشية ابن عابدين عليه وتقرير الرّافعيّ أنّ كراهة الجلاّلة تنزيهيّةٌ لا تحريميّةٌ ، وأنّ صاحب " التّجنيس " اختار حبس الدّجاجة ثلاثة أيّامٍ ، والشّاة أربعةً ، والإبل والبقرة عشرةً ، وأنّ السّرخسيّ قال : الأصحّ عدم التّقدير وأنّها تحبس حتّى تزول الرّائحة المنتنة .
72 - ومذهب الشّافعيّة قريبٌ من الحنفيّة ، فقد قال الشّافعيّة : إذا ظهر تغيّرٌ في لحم الجلاّلة ، سواءٌ أكانت من الدّوابّ أم من الطّيور ، وسواءٌ أكان التّغيّر في الطّعم أم اللّون أم الرّيح ، ففيها وجهان لأصحاب الشّافعيّ ، أصحّهما عند الرّافعيّ الحرمة ، وعند النّوويّ الكراهة ، وهذا هو الرّاجح ، لأنّ النّهي في الحديث إنّما هو لتغيّر اللّحم فلا يقتضي التّحريم . ويلحق بالجلاّلة ولدها الّذي يوجد في بطنها بعد ذكاتها ، إذا وجد ميّتاً وظهر فيه التّغيّر ، وكذلك العنز الّتي ربّيت بلبن كلبةٍ أو خنزيرةٍ إذا تغيّر لحمها . فإن علفت الجلاّلة ، أو لم تعلف ، فطاب لحمها حلّ بلا كراهةٍ ، لزوال علّة الكراهة وهي التّغيّر . ولا تقدير لمدّة العلف . وتقديرها بأربعين يوماً في البعير ، وثلاثين في البقر ، وسبعةٍ في الشّاة ، وثلاثةٍ في الدّجاجة بناءً على الغالب . ولا يكفي الغسل أو الطّبخ للحكم بطيب اللّحم . وإذا حرم أو كره أكل الجلاّلة حرم أو كره سائر أجزائها كبيضها ولبنها ، ويكره ركوبها من غير حائلٍ ، لأنّ لعرقها حكم لبنها ولحمها .
73 - وروى الحنابلة عن الإمام أحمد قولين :
أوّلهما : أنّ الجلاّلة تحرم ، وهو المذهب ، وعليه الأصحاب .
الثّاني : أنّها تكره . ورووا عن أحمد فيما تزول به الكراهة روايتين :
( إحداهما ) أنّ الجلاّلة مطلقاً تحبس ثلاثة أيّامٍ .
( الثّانية ) أنّ الطّائر يحبس ثلاثةً ، والشّاة سبعةً ، وما عدا ذلك ( من الإبل والبقر ونحوهما في الكبر ) أربعين يوماً . وصرّح المالكيّة : بأنّ الطّيور والأنعام الجلاّلة مباحةٌ ، لكن قال ابن رشدٍ : إنّ مالكاً كره الجلاّلة . ودليل تحريم الجلاّلة عند من حرّمها ما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلاّلة وألبانها » . ووجه حبسها ثلاثاً« أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا أراد أكلها حبسها ثلاثاً وأطعمها الطّاهرات ». ووجه حبس الإبل أربعين يوماً ما روي عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما أنّه قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الإبل الجلاّلة أن يؤكل لحمها ، ولا يشرب لبنها ، ولا يحمل عليها إلاّ الأدم . ولا يركبها النّاس حتّى تعلف أربعين ليلةً » .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
أجزاء الحيوان وما انفصل منه :
حكم العضو المبان :
74 - إنّ العضو الّذي يبان من الحيوان ، أي يفصل منه ، يختلف الحكم الشّرعيّ في حلّ أكله وحرمته بحسب الأحوال . وتفصيل ذلك كما يلي :
أ - العضو المبان من حيوانٍ حيٍّ :
يعتبر كميتة هذا الحيوان في حلّ الأكل وحرمته ، فالمبان من السّمك الحيّ أو الجراد الحيّ يؤكل عند الجمهور ، لأنّ ميتتهما تؤكل . والمالكيّة يقولون في الجراد : إن كانت الإبانة خاليةً عن نيّة التّذكية ، أو خاليةً عن التّسمية عمداً لم يؤكل المبان ، وإن كانت مصحوبةً بالنّيّة والتّسمية أكل المبان إن كان هو الرّأس ، ولا يؤكل إن كان جناحاً أو يداً أو نحوهما . والمبان من سائر الحيوانات البرّيّة ذات الدّم السّائل لا يؤكل ، سواءٌ أكان أصله مأكولاً كالأنعام ، أم غير مأكولٍ كالخنزير ، فإنّ ميتة كلٍّ منهما لا تؤكل بلا خلافٍ ، فكذلك ما أبين منه حيّاً ، فقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ما قطع من البهيمة وهي حيّةٌ فهو ميتةٌ » .
ب - العضو المبان من الميتة :
حكمه حكم سائر الميتة في الأكل وعدمه بلا خلافٍ .
ج - العضو المبان من المذكّى المأكول في أثناء تذكيته قبل تمامها :
حكمه حكم المبان من الحيّ . فلو قطع إنسانٌ حلقوم الشّاة وبعض مريئها للتّذكية ، فقطع إنسانٌ آخر يدها أو أليتها ، فالمقطوع نجسٌ حرام الأكل ، كالمقطوع من الحيّ ، وهذا لا خلاف فيه أيضاً .
د - العضو المبان من المذكّى المأكول بعد تمام تذكيته وقبل زهوق روحه :
يحلّ أكله عند الجمهور ، لأنّ حكمه حكم المذكّى ، لأنّ بقاء رمقٍ من الحياة هو رمقٌ في طريق الزّوال العاجل ، فحكمه حكم الموت .
هـ -العضو المبان من المصيد بآلة الصّيد :
إمّا أن يبقى المصيد بعد إبانته حيّاً حياةً مستقرّةً ، وإمّا أن تصير حياته حياة مذبوحٍ :
ففي الحالة الأولى : يكون عضواً مباناً من حيوانٍ حيٍّ ، فيكون كميتته .
وفي الحالة الثّانية : يكون عضواً مباناً بالتّذكية ، ويختلف النّظر إليه ، لأنّ له صفتين شبه متعارضتين :
الصّفة الأولى : أنّه عضوٌ أبين قبل تمام التّذكية فيكون حكمه حكم المبان من الحيّ فلا يحلّ .
والصّفة الثّانية : أنّ التّذكية سببٌ في حلّ المذكّى ، وكلٌّ من المبان والمبان منه مذكًّى ، لأنّ التّذكية بالصّيد هي تذكيةٌ للمصيد كلّه لا لبعضه ، فيحلّ العضو كما يحلّ الباقي .
ولهذا كان في المسألة خلافٌ وتفصيلٌ ( ر : صيدٌ ) .
حكم أجزاء الحيوان المذكّى :
75 - لا شكّ أنّ التّذكية حينما تقع على الحيوان المأكول تقتضي إباحة أكله في الجملة ، وقد يكون لبعض الأجزاء حكمٌ خاصٌّ : فالدّم المسفوح مثلاً ، حرامٌ بالإجماع ، وهو ما سال من الذّبيحة ، وما بقي بمكان الذّبح ، وما تسرّب إلى داخل الحيوان من الحلقوم والمريء . وأمّا ما بقي في العروق واللّحم والكبد والطّحال والقلب فإنّه حلال الأكل ، حتّى إنّه لو طبخ اللّحم فظهرت الحمرة في المرق لم ينجس ولم يحرم . وقد ذكر الحنفيّة وغيرهم أشياء تكره أو تحرم من الذّبيحة . وفيما يلي تفصيل ما قالوه وما قاله غيرهم في ذلك :
76 - قال الحنفيّة : يحرم من أجزاء الحيوان سبعةٌ : الدّم المسفوح ، والذّكر ، والأنثيان ، والقبل ( أي فرج الأنثى وهو المسمّى بالحيا ) ، والغدّة ، والمثانة ( وهي مجمع البول ) ، والمرارة ( وهي وعاء المرّة الصّفراء ، وتكون ملصقةً بالكبد ) .
وهذه الحرمة في نظرهم لقوله عزّ شأنه : { ويحلّ لهم الطّيّبات ويحرّم عليهم الخبائث } ، وهذه السّبعة ممّا تستخبثه الطّباع السّليمة فكانت محرّمةً ، وقد دلّت السّنّة على خبثها ، لما روى الأوزاعيّ عن واصل بن أبي جميلة عن مجاهدٍ أنّه قال : « كره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الشّاة : الذّكر ، والأنثيين ، والقبل ، والغدّة ، والمرارة ، والمثانة ، والدّم » . والمراد كراهة التّحريم قطعاً ، بدليل أنّه جمع بين الأشياء السّتّة وبين الدّم في الكراهة ، والدّم المسفوح محرّمٌ بنصّ القرآن .
77 - والمرويّ عن أبي حنيفة أنّه قال : الدّم حرامٌ ، وأكره السّتّة . فأطلق وصف الحرام على الدّم المسفوح ، وسمّى ما سواه مكروهاً ، لأنّ الحرام المطلق ما ثبتت حرمته بدليلٍ مقطوعٍ به ، وحرمة الدّم المسفوح قد ثبتت بدليلٍ مقطوعٍ به ، وهو قوله تعالى : { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعمٍ يطعمه إلاّ أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً ... } الآية ، وانعقد الإجماع أيضاً على حرمته . فأمّا حرمة ما سواه من الأجزاء فلم تثبت بدليلٍ مقطوعٍ به بل بالاجتهاد ، أو بظاهر الكتاب العزيز المحتمل للتّأويل ، وهو قوله تعالى : { ويحرّم عليهم الخبائث } ، أو بالحديث السّابق ذكره . لذلك فصّل أبو حنيفة بينهما في الوصف فسمّى الدّم حراماً ، والباقي مكروهاً . وقيل : إنّ الكراهة في الأجزاء السّتّة تنزيهيّةٌ ، لكنّ الأوجه كما في " الدّرّ المختار " أنّها تحريميّةٌ .
78 - هذا ، والدّم المسفوح متّفقٌ على تحريمه كما مرّ .
وروى ابن حبيبٍ من المالكيّة استثقال أكل عشرةٍ - دون تحريمٍ - الأنثيان والعسيب والغدّة والطّحال والعروق والمرارة والكليتان والمثانة وأذنا القلب .
79 - والحنابلة قالوا بكراهة أكل الغدّة وأذن القلب . أمّا الغدّة «فلأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كره أكلها »، روى ذلك عبد اللّه بن أحمد بن حنبلٍ عن أبيه . وأمّا أذن القلب« فلأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن أكلها »، نقل ذلك أبو طالبٍ الحنبليّ .
حكم ما انفصل من الحيوان :
80 - من المقرّر في موضوع " النّجاسة " أنّ المائعات المنفصلة من الحيوان ، والفضلات ، والبيض ، والجنين ، تارةً تكون نجسةً ، وتارةً تكون طاهرةً ، فما كان نجساً منها في مذهبٍ من المذاهب فهو غير مأكولٍ في ذلك المذهب ، وما كان طاهراً فتارةً يكون مأكولاً ، وتارةً يكون غير مأكولٍ ، إذ لا يلزم من الطّهارة حلّ الأكل ، فإنّ الطّاهر قد يكون مضرّاً أو مستقذراً فلا يحلّ أكله .
ويكفينا هنا أن نضرب أمثلةً لما يكثر السّؤال عنه
: أوّلاً - البيض :
81 - إن خرج البيض من حيوانٍ مأكولٍ في حال حياته ، أو بعد تذكيته شرعاً ، أو بعد موته ، وهو ممّا لا يحتاج إلى التّذكية كالسّمك ، فبيضه مأكولٌ إجماعاً ، إلاّ إذا فسد .
وفسّر المالكيّة البيض الفاسد بأنّه ما فسد بعد انفصاله بعفنٍ ، أو صار دماً ، أو صار مضغةً ، أو فرخاً ميّتاً . وفسّره الشّافعيّة بأنّه الّذي تغيّر بحيث أصبح غير صالحٍ للتّخلّق ، فلا يضرّ عندهم صيرورته دماً ، إذا قال أهل الخبرة : إنّه صالحٌ للتّخلّق .
82 - وإن خرج البيض من حيوانٍ مأكولٍ بعد موته دون تذكيةٍ شرعيّةٍ ، وهو ممّا يحتاج إلى الذّكاة ، كالدّجاج ، فعند أبي حنيفة : يؤكل سواءٌ أتصلّبت قشرته أم لا .
وقال المالكيّة : لا يؤكل . وقال الشّافعيّة : يؤكل ما تصلّبت قشرته فقط . وحكى الزّيلعيّ عن أبي يوسف ومحمّدٍ أنّه يكون نجساً إن كان مائعاً ، فلا يؤكل عندهما إلاّ إذا كان جامداً .
83 - وإن خرج البيض من حيوانٍ غير مأكولٍ فمقتضى مذهب الحنفيّة أنّه إن كان من ذوات الدّم السّائل ، كالغراب الأبقع ، فبيضه نجسٌ تبعاً للحمه ، فلا يكون مأكولاً . وإن لم يكن من ذوات الدّم السّائل كالزّنبور فبيضه طاهرٌ تبعاً للحمه ، ومأكولٌ لأنّه ليس بميتةٍ . والمالكيّة يحلّ عندهم كلّ البيض الخارج من الحيّ أو المذكّى ، لأنّ الحيوانات الّتي تبيض لا تنقسم عندهم إلى مأكولٍ وغير مأكولٍ ، بل كلّها مباح الأكل ، إلاّ ما لا يؤمن سمّه كالوزغ ، فهو محرّمٌ على من يضرّه . فكذلك بيضه إن كان يضرّ ، فهو محرّمٌ وإلاّ فلا ، فالعبرة عندهم إنّما هي للضّرر . وصرّح النّوويّ بأنّ بيض الحيّ غير المأكول طاهرٌ مأكولٌ : أمّا كونه طاهراً فلأنّه أصل حيوانٍ طاهرٍ ، وأمّا كونه مأكولاً فلأنّه غير مستقذرٍ ، لكن قال ابن المقري في الرّوض " وفي بيض ما لا يؤكل تردّدٌ ".
وصرّح الحنابلة بأنّ بيض غير المأكول نجسٌ لا يحلّ أكله . وممّا احتجّ به لهذا أنّ البيض بعض الحيوان ، فإذا كان الحيوان غير مأكولٍ فبعضه غير مأكولٍ .
ثانياً : اللّبن :
84 - إن خرج اللّبن من حيوانٍ حيٍّ فهو تابعٌ للحمه في إباحة التّناول وكراهته وتحريمه . ويستثنى من المحرّم : الآدميّ ، فلبنه مباحٌ ، وإن كان لحمه محرّماً ، لأنّ تحريمه للتّكريم لا للاستخباث . وعلى هذا اتّفق الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . واستثنى الحنفيّة من المحرّم أو المكروه الخيل ، بناءً على ما نقل عن الإمام أبي حنيفة من أنّها محرّمةٌ أو مكروهةٌ ، ففي لبنها على هذا رأيان :
أحدهما : أنّه تابعٌ للّحم فيكون حراماً أو مكروهاً .
وثانيهما : - وهو الصّحيح - أنّه مباحٌ ، لأنّ تحريم الخيل أو كراهتها لكونها آلة الجهاد لا لاستخباث لحمها ، واللّبن ليس آلة الجهاد . ونقل عن عطاءٍ وطاوسٍ والزّهريّ أنّهم رخّصوا في لبن الحمر الأهليّة . وإن خرج اللّبن من حيوانٍ مأكولٍ بعد تذكيته فهو مأكولٌ ، وهذا متّفقٌ عليه . وإن خرج من آدميّةٍ ميّتةٍ فهو مأكولٌ عند القائلين بأنّ الآدميّ لا ينجس بالموت . وكذا أيضاً عند بعض القائلين بأنّه ينجس بالموت كأبي حنيفة ، فإنّه مع قوله بنجاسة الآدميّ الميّت يقول : إنّ لبن المرأة الميتة طاهرٌ مأكولٌ ، خلافاً للصّاحبين . وإن خرج اللّبن من ميّتة المأكول ، كالنّعجة مثلاً ، فهو طاهرٌ مأكولٌ عند أبي حنيفة . ويرى صاحباه والمالكيّة والشّافعيّة أنّه حرامٌ لتنجّسه بنجاسة الوعاء ، وهو ضرع الميتة الّذي تنجّس بالموت . وحجّة القائلين بطهارته وإباحته قوله تعالى : { وإنّ لكم في الأنعام لعبرةٌ ، نسقيكم ممّا في بطونه من بين فرثٍ ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشّاربين } . وذلك أنّ اللّه عزّ وجلّ وصفه بكونه خالصاً فلا يتنجّس بنجاسة مجراه ، ووصفه بكونه سائغاً وهذا يقتضي الحلّ ، وامتنّ علينا به ، والمنّة بالحلال لا بالحرام .
ثالثاً : الإنفحة :
85 - الإنفحة هي مادّةٌ بيضاء صفراويّةٌ في وعاءٍ جلديٍّ ، يستخرج من بطن الجدي أو الحمل الرّضيع ، يوضع منها قليلٌ في اللّبن الحليب فينعقد ويتكاثف ويصير جبناً ، يسمّيها النّاس في بعض البلدان : ( مجبنةٌ ) . وجلدة الإنفحة هي الّتي تسمّى : كرشاً ، إذا رعى الحيوان العشب .
فالإنفحة إن أخذت من مذكًّى ذكاةً شرعيّةً فهي طاهرةٌ مأكولةٌ عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
وإن أخذت الإنفحة من ميّتٍ ، أو مذكًّى ذكاةً غير شرعيّةٍ فهي نجسةٌ غير مأكولةٍ عند الجمهور ، وطاهرةٌ مأكولةٌ عند أبي حنيفة ، سواءٌ كانت صلبةً أم مائعةً قياساً على اللّبن كما سبق . وقال الصّاحبان : إن كانت صلبةً يغسل ظاهرها وتؤكل ، وإن كانت مائعةً فهي نجسةٌ لنجاسة وعائها بالموت فلا تؤكل . وبهذا يعلم أنّ الجبن المصنوع من لبن الحيوان المأكول إذا عقد بإنفحة المذكّى ذكاةً شرعيّةً فهو طاهرٌ مأكولٌ بالاتّفاق ، وإن عقد بإنفحة الميتة فهو على الخلاف .
رابعاً - الجنين :
86 - جنين الحيوان المأكول إن خرج من حيٍّ أو ميتةٍ لا يحلّ إلاّ إن أدركت ذكاته ، فذكّي ذكاةً شرعيّةً . وإن خرج من مذكّاةٍ ذكاةً شرعيّةً اختياريّةً أو اضطراريّةً فهناك حالتان :
الحالة الأولى : أن يخرج قبل نفخ الرّوح فيه ، بأن يكون علقةً أو مضغةً أو جنيناً غير كامل الخلقة فلا يحلّ عند الجمهور ، لأنّه ميتةٌ ، إذ لا يشترط في الموت تقدّم الحياة . قال تعالى : { وكنتم أمواتاً فأحياكم ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم } . فمعنى قوله : ( كنتم أمواتاً ) كنتم مخلوقين بلا حياةٍ ، وذلك قبل أن تنفخ فيهم الرّوح .
الحالة الثّانية : أن يخرج بعد نفخ الرّوح فيه بأن يكون جنيناً كامل الخلقة - أشعر أو لم يشعر - ولهذه الحالة صورٌ :
الصّورة الأولى : أن يخرج حيّاً حياةً مستقرّةً فتجب تذكيته ، فإن مات قبل التّذكية فهو ميتةٌ اتّفاقاً .
الصّورة الثّانية : أن يخرج حيّاً حياة مذبوحٍ ، فإن أدركنا ذكاته وذكّيناه حلّ اتّفاقاً ، وإن لم يذكّ حلّ أيضاً عند الشّافعيّة والحنابلة ، لأنّ حياة المذبوح كلا حياةٍ ، فكأنّه مات بتذكية أمّه . وعند أبي يوسف ومحمّدٍ أنّه إذا خرج حيّاً ، ولم يكن من الوقت مقدار ما يقدر على ذبحه فمات يؤكل ، وهو تفريعٌ على قولهما : إنّ ذكاة الجنين بذكاة أمّه .
وقال المالكيّة إن سارعنا إليه بالذّكاة فمات قبلها حلّ ، لأنّ حياته حينئذٍ كلا حياةٍ ، وكأنّه خرج ميّتاً بذكاة أمّه ، لكنّهم اشترطوا في حلّه حينئذٍ أن ينبت شعر جسده ، وإن لم يتكامل ، ولا يكفي شعر رأسه أو عينه .
الصّورة الثّالثة : أن يخرج ميّتاً ، ويعلم أنّ موته كان قبل تذكية أمّه ، فلا يحلّ اتّفاقاً ، ويعرف موته قبل ذكاة أمّه بأمورٍ ، منها : أن يكون متحرّكاً في بطنها فتضرب فتسكن حركته ، ثمّ تذكّى ، فيخرج ميّتاً ، ومنها : أن يخرج رأسه ميّتاً ثمّ تذكّى .
الصّورة الرّابعة : أن يخرج ميّتاً بعد تذكية أمّه بمدّةٍ لتواني المذكّي في إخراجه فلا يحلّ اتّفاقاً للشّكّ في أنّ موته كان بتذكية أمّه أو بالانخناق للتّواني في إخراجه .
الصّورة الخامسة : أن يخرج ميّتاً عقب تذكية أمّه من غير أن يعلم موته قبل التّذكية ، فيغلب على الظّنّ أنّ موته بسبب التّذكية لا بسببٍ آخر . وهذه الصّورة هي محلّ الخلاف بين الفقهاء . فأبو حنيفة وزفر والحسن بن زيادٍ يرون أنّه لا يحلّ ، وأبو يوسف ومحمّدٌ والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وجمهور الفقهاء من الصّحابة وغيرهم يقولون : إنّه لا بأس بأكله . غير أنّ المالكيّة اشترطوا الإشعار . وهو مذهب كثيرٍ من الصّحابة .
وحجّة أبي حنيفة ومن معه قوله تعالى : { حرّمت عليكم الميتة } والجنين الّذي لم يدرك حيّاً بعد تذكية أمّه ميتةٌ ، وممّا يؤكّد ذلك أنّ حياة الجنين مستقلّةٌ ، إذ يتصوّر بقاؤها بعد موت أمّه فتكون تذكيته مستقلّةً .
وحجّة أبي يوسف ومحمّدٍ والجمهور قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ذكاة الجنين ذكاة أمّه » وهذا يقتضي أنّه يتذكّى بذكاة أمّه ، واحتجّوا أيضاً بأنّه تبعٌ لأمّه حقيقةً وحكماً ، أمّا حقيقةٌ فظاهرٌ ، وأمّا حكماً فلأنّه يباع ببيع الأمّ ، ولأنّ جنين الأمّ يعتق بعتقها ، والحكم في التّبع يثبت بعلّة الأصل ، ولا تشترط له علّةٌ على حدةٍ ، لئلاّ ينقلب التّبع أصلاً .
تناول المضطرّ للميتة ونحوها :
87 - أجمع المسلمون على إباحة أكل الميتة ونحوها للمضطرّ ، وقد ذكر اللّه عزّ وجلّ الاضطرار إلى المحرّمات في خمسة مواطن من القرآن الكريم :
الأوّل : - الآية /173 /من سورة البقرة ، وفيها بعد ذكر تحريم الميتة ونحوها : { فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ } .
الثّاني : - الآية الثّالثة من سورة المائدة ، وفيها بعد ذكر تحريم الميتة ونحوها : { فمن اضطرّ في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثمٍ فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ } .
الثّالث : - الآية/145/ من سورة الأنعام ، وفيها بعد ذكر تحريم الميتة ونحوها { فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فإنّ ربّك غفورٌ رحيمٌ } .
الرّابع : - الآية /119/من سورة الأنعام ، وقد جاء فيها : { وما لكم ألاّ تأكلوا ممّا ذكر اسم اللّه عليه وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلاّ ما اضطررتم إليه } .
الخامس : - الآية/115/ من سورة النّحل ، وفيها بعد ذكر تحريم الميتة ونحوها : { فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ } .
88 - فقوله تعالى : { فمن اضطرّ } معناه : فمن دفعته الضّرورة وألجأته إلى تناول الميتة ونحوها ، بأن يخاف عند ترك تناولها ضرراً على نفسه أو بعض أعضائه مثلاً .
( والباغي ) ، هو الّذي يبغي على غيره في تناول الميتة ، بأن يؤثر نفسه على مضطرٍّ آخر ، فينفرد بتناول الميتة ونحوها فيهلك الآخر من الجوع . وقيل : الباغي هو العاصي بالسّفر ونحوه ، وسيأتي الخلاف فيه ( ف/100 ) .
( والعادي ) : هو الّذي يتجاوز ما يسدّ الرّمق ويندفع به الضّرر ، أو يتجاوز حدّ الشّبع ، على الخلاف الآتي .
( والمخمصة ) : المجاعة ، والتّقييد بقوله تعالى : { في مخمصةٍ } . إنّما هو لبيان الحالة الّتي يكثر فيها وقوع الاضطرار ، وليس المقصود به الاحتراز عن الحالة الّتي لا مجاعة فيها ، فإنّ المضطرّ في غير المجاعة يباح له التّناول كالمضطرّ في المجاعة .
( والمتجانف للإثم ) هو المنحرف المائل إليه ، أي الّذي يقصد الوقوع في الحرام ، وهو البغي والعدوان المذكوران في الآيات الأخرى .
89 - وممّا ورد في السّنّة النّبويّة ما رواه أبو واقدٍ اللّيثيّ رضي الله عنه قال : قلت : « يا رسول اللّه إنّا بأرضٍ تصيبنا مخمصةٌ ، فما يحلّ لنا من الميتة ؟ فقال : إذا لم تصطبحوا ، ولم تغتبقوا ، ولم تحتفئوا بقلاً فشأنكم بها » .
غير أنّهم اختلفوا في المقصود بالإباحة ، وفي حدّ الضّرورة المبيحة ، وفي تفصيل المحرّمات الّتي يبيحها الاضطرار ، وترتيبها عند التّعدّد ، وفي الشّبع أو التّزوّد منها ، وغير ذلك من المسائل . وبيان ذلك ما يأتي .
المقصود بإباحة الميتة ونحوها :
90 - اختلف الفقهاء في المقصود بإباحة الميتة ونحوها ، فقال بعضهم : المقصود جواز التّناول وعدمه ، لظاهر قوله تعالى : { فلا إثم عليه } . وهذا القول ذهب إليه بعض المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
وقال آخرون : إنّ المقصود بإباحة الميتة ونحوها للمضطرّ وجوب تناولها . وإلى هذا ذهب الحنفيّة ، وهو الرّاجح عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . ودليله قوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } وقوله عزّ وجلّ : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة } . ولا شكّ أنّ الّذي يترك تناول الميتة ونحوها حتّى يموت يعتبر قاتلاً لنفسه ، وملقياً بنفسه إلى التّهلكة ، لأنّ الكفّ عن التّناول فعلٌ منسوبٌ للإنسان .
91 - ولا يتنافى القول بالوجوب عند القائلين به مع قوله تعالى : { فلا إثم عليه } لأنّ نفي الإثم في الأكل عامٌّ يشمل حالتي الجواز والوجوب ، فإذا وجدت قرينةٌ على تخصيصه بالوجوب عمل بها كما في قوله تعالى : { إنّ الصّفا والمروة من شعائر اللّه فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما } فنفي الجناح عن التّطوّف ، أي السّعي بين الصّفا والمروة ، مفهومٌ عامٌّ قد خصّص بما دلّ على وجوبه أو فرضيّته .
حدّ الضّرورة المبيحة :
92 - قال أبو بكرٍ الجصّاص : معنى الضّرورة في الآيات خوف الضّرر على نفسه أو بعض أعضائه بتركه الأكل . وقد انطوى تحته معنيان :
أحدهما : أن يحصل في وضعٍ لا يجد غير الميتة .
والثّاني : أن يكون غيرها موجوداً ، ولكنّه أكره على أكلها بوعيدٍ يخاف منه تلف نفسه أو تلف بعض أعضائه . وكلا المعنيين مرادٌ بالآية عندنا لاحتمالهما .
وحالة الإكراه يؤيّد دخولها في معنى الاضطرار قول الرّسول عليه الصلاة والسلام : « إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » . ويؤخذ من " الدّرّ المختار " أنّ الضّرورة تشمل خوف الهلاك ، وخوف العجز عن الصّلاة قائماً أو عن الصّيام .
وفسّر " الشّرح الصّغير " للمالكيّة الضّرورة بخوف الهلاك أو شدّة الضّرر .
وفسّرها الرّمليّ الشّافعيّ في " نهاية المحتاج " بخوف الموت أو المرض أو غيرهما من كلّ محذورٍ يبيح التّيمّم ، وكذا خوف العجز عن المشي ، أو التّخلّف عن الرّفقة إن حصل له به ضررٌ ، وكذا إجهاد الجوع إيّاه بحيث لا يستطيع معه الصّبر . والمحذور الّذي يبيح التّيمّم عند الشّافعيّة هو حدوث مرضٍ أو زيادته أو استحكامه ، أو زيادة مدّته ، أو حصول شينٍ فاحشٍ في عضوٍ ظاهرٍ ، بخلاف الشّين الفاحش في عضوٍ باطنٍ . والظّاهر : ما يبدو عند المهنة كالوجه واليدين ، والباطن : بخلافه .
ويعتمد في ذلك قول الطّبيب العدل في الرّواية . وإذا كان المضطرّ عارفاً في الطّبّ عمل بمقتضى معرفته ، ولا يعمل بتجربته إن كان مجرّباً ، على ما قاله الرّمليّ . وقال ابن حجرٍ : يعمل بها ، ولا سيّما عند فقد الطّبيب .
وقال الحنابلة : إنّ الضّرورة أن يخاف التّلف فقط لا ما دونه ، هذا هو الصّحيح من المذهب ، وقيل : إنّها تشمل خوف التّلف أو الضّرر ، وقيل : أن يخاف تلفاً أو ضرراً أو مرضاً أو انقطاعاً عن الرّفقة يخشى معه الهلاك .
تفصيل المحرمات التي تبيحها الضرورة :
93- ذكر في الآيات السابقة تحريم الميتة ، والدم ، ولم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والنخنقة ، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذبح على النصب، فهذه كلها تبيحها الضرورة بلا خلاف .
وكذا كل حيوان حي من الحيونات التي لا تؤكل يحل للمضطر قتله بذبح أو بغير ذبح للتوصل إلى أكله . وكذاما حرم من غير الحيونات لنجاسته، ويمثلون له بالترياق المشتمل على خمر ولحوم حيات .
أما ما حرم لكونه يقتل الإنسان إذا تناوله، كالسموم ، فإن لا تبيحه الضرورة، لأن تناوله استعجال للموت وقتل للنفس، وهو من أكبر الكبائر.وهذا متفق عليه بين المذهب .
94-واختلفت الاجتهادات في الخمر فقال الحنفية :يشربها من خاف العطش ولم يجد غيرها، ولايشرب إلا قدر ما يدفع العطش، إن علم أنها تدفعه .
وقال المالكية والشافعية والحنابلة: لايشرب المضطر الخمر الصرفة للعطش، وإنما يشربها من غص بلقمة أو غيرها، فلم يجد ما يزيل الغصة سوى الخمر .
شروط إباحة الميتة ونحوها للمضطرّ :
95 - إنّ الفقهاء في كلامهم عن الاضطرار وأحكامه الاستثنائيّة لم يجمعوا شروط إباحة الميتة وغيرها من المحرّمات لمضطرٍّ تحت عنوانٍ خاصٍّ بالشّروط ، بل يجدها المتتبّع مفرّقةً في خلال المسائل والأحكام .
ويستخلص من كلامهم عن حالات الاضطرار وأحكامها أنّ الشّروط الشّرعيّة الّتي يشترطها فقهاء المذاهب لإباحة المحرّمات للمضطرّ نوعان :
1 - شروطٌ عامّةٌ متّفقٌ عليها بين المذاهب لجميع أحوال الاضطرار .
2 - شروطٌ عامّةٌ اشترطتها بعض المذاهب دون سواها .
وفيما يلي بيان ذلك :
أوّلاً : - الشّروط العامّة المتّفق عليها :
96 - يشترط في إباحة الميتة ونحوها للمضطرّ بوجهٍ عامٍّ ثلاثة شروطٍ :
الأوّل : - ألاّ يجد طعاماً حلالاً ولو لقمةً ، فإن وجدها وجب تقديمها ، فإن لم تغنه حلّ له المحرّم .
الثّاني : - ألاّ يكون قد أشرف على الموت بحيث لا ينفعه تناول الطّعام ، فإن انتهى إلى هذه الحالة لم يحلّ له المحرّم .
الثّالث : - ألاّ يجد مال مسلمٍ أو ذمّيٍّ من الأطعمة الحلال ، وفي هذا الشّرط بعض تفصيلٍ بيانه فيما يلي :
97 - قال الحنفيّة : لو خاف المضطرّ الموت جوعاً ، ومع رفيقه طعامٌ ليس مضطرّاً إليه فللمضطرّ أن يأخذ بالقيمة منه قدر ما يسدّ جوعته ، فإن لم يكن معه ما يؤدّي به القيمة حالاً لزمته ديناً في ذمّته . وإنّما تلزمه القيمة لأنّ من القواعد العامّة المقرّرة عندهم أنّ " الاضطرار لا يبطل حقّ الغير " . وكذا يأخذ من الماء الّذي لغيره ما يدفع العطش ، فإن منعه صاحبه قاتله المضطرّ بلا سلاحٍ ، لأنّ الرّفيق المانع في هذه الحال ظالمٌ . فإن خاف الرّفيق جوعاً أو عطشاً ترك له بعضه . ولا يحلّ له أن يدفع الجوع أو العطش بالمحرّمات كالميتة والخمر مع وجود حلال مملوكٍ لغيره ليس مضطرّاً إليه ، والمضطرّ قادرٌ على أخذه ولو بالقوّة . وجوّز المالكيّة في هذه الحال مقاتلة صاحب الطّعام بالسّلاح بعد الإنذار ، بأن يعلمه المضطرّ أنّه مضطرٌّ ، وأنّه إن لم يعطه قاتله ، فإن قتله بعد ذلك فدمه هدرٌ ، لوجوب بذل طعامه للمضطرّ ، وإن قتله الآخر فعليه القصاص .
98 - وقال الشّافعيّة والحنابلة : لو وجد المضطرّ طعاماً لغيره . فإن كان صاحبه غائباً ولم يجد المضطرّ سواه ، أكل منه وغرم عند قدرته مثله إن كان مثليّاً ، وقيمته إن كان قيميّاً ، حفظاً لحقّ المالك . فإن كان صاحبه حاضراً ، فإن كان ذلك الحاضر مضطرّاً أيضاً لم يلزمه بذله للأوّل إن لم يفضل عنه ، بل هو أولى ، لحديثٍ : « ابدأ بنفسك ... »
لكن يجوز له إيثاره على نفسه إن كان الأوّل مسلماً معصوماً ، واستطاع الثّاني الصّبر على التّضييق على نفسه . فإن فضل بعد سدّ رمقه شيءٌ لزمه بذله للأوّل . وإن لم يكن صاحب الطّعام الحاضر مضطرّاً لزمه إطعام المضطرّ . فإن منعه ، أو طلب زيادةً على ثمن المثل بمقدارٍ كثيرٍ جاز للمضطرّ قهره ، وإن أدّى إلى قتله ، ويكون دم المانع حينئذٍ مهدراً . وإن قتل المالك المضطرّ في الدّفع عن طعامه لزمه القصاص .
وإن منع المالك الطّعام عن المضطرّ فمات هذا جوعاً لم يضمنه المانع بقصاصٍ ولا ديةٍ ، لأنّه لم يحدث فعلاً مهلكاً . فإن لم يمنع المالك الطّعام ، ولكن طلب ثمناً ، ولو بزيادةٍ على ثمن المثل بمقدارٍ يسيرٍ ، لزم المضطرّ قبوله به ، ولم يجز له قهره . ولو أطعمه ولم يذكر عوضاً فلا عوض له على الأرجح ، حملاً له على المسامحة المعتادة في الطّعام ، ولا سيّما في حقّ المضطرّ . وقيل : يلزمه ثمن المثل ، لأنّه خلص من الهلاك بذلك فيرجع عليه بالبدل ، فإن اختلفا في ذكر العوض صدّق المالك بيمينه ، إذ لو لم يصدّق لرغب النّاس عن إطعام المضطرّ ، وأفضى ذلك إلى الضّرر .
ثانياً : - الشّروط العامّة المختلف فيها :
99 - اختلف فقهاء المذاهب في بعض الشّرائط المبيحة لأكل الميتة ونحوها من المحرّمات للمضطرّ :
فاشترط الشّافعيّة أن يكون المضطرّ نفسه معصوم الدّم . فإن كان المضطرّ مهدر الدّم شرعاً كالحربيّ ، والمرتدّ ، وتارك الصّلاة الّذي استوجب القتل ، لم يجز له أكل المحرّمات من ميتةٍ أو غيرها إلاّ إذا تاب .
أمّا مهدر الدّم الّذي لا تفيد توبته عصمة دمه ، كالزّاني المحصن ، والقاتل في قطع الطّريق الّذي قدر عليه الحاكم ، فقيل : لا يأكل الميتة حتّى يتوب وإن لم تكن توبته مفيدةً لعصمته . وقيل : لا يتوقّف حلّ الميتة له على توبته .
100 - واشترط الشّافعيّة والحنابلة ألاّ يكون المضطرّ عاصياً بسفره أو بإقامته . فإن كان كذلك لم يحلّ له تناول الميتة ونحوها حتّى يتوب .
والعاصي بسفره أو بإقامته هو الّذي نوى بسفره أو إقامته المعصية ، أي هو الّذي سافر أو أقام لأجل المعصية ، كمن خرج من بلده ناوياً قطع الطّريق ، وكذا الّذي قصد بسفره أو إقامته أموراً مباحةً ثمّ قلبه معصيةً ، كمن سافر أو أقام للتّجارة ثمّ بدا له أن يجعل السّفر أو الإقامة لقطع الطّريق .
وأمّا العاصي في أثناء السّفر - وهو من سافر سفراً مباحاً ، وفي أثناء سفره عصى بتأخير الصّلاة عن وقتها ، أو بالزّنى وهو غير محصنٍ ، أو بالسّرقة أو نحو ذلك - فلا يتوقّف حلّ أكله للميتة ونحوها على توبته . ومثله العاصي في إقامته ، كمن كان مقيماً في بلده لغرضٍ مباحٍ ، وعصى فيها بنحو ما سبق ، فإنّه يباح له الأكل من المحرّم إن اضطرّ إليه من غير توقّفٍ على التّوبة .
والوجه لمنع المسافر سفر معصيةٍ أنّ أكل الميتة رخصةٌ ، والعاصي بسفره أو إقامته ليس من أهلها ، وأيضاً في الأكل المذكور عونٌ على المعصية فلا يجوز .
101 - أمّا الحنفيّة والمالكيّة ، فقالوا : لا يشترط في المضطرّ عدم المعصية ، لإطلاق النّصوص وعمومها .
إطلاقٌ *
التعريف :
1 - من معاني الإطلاق في اللّغة : التّخلية ، والحلّ والإرسال ، وعدم التّقييد .
وعند الفقهاء والأصوليّين يؤخذ تعريف الإطلاق من بيان المطلق ، فالمطلق اسم مفعولٍ من أطلق ، والمطلق : ما دلّ على فردٍ شائعٍ ، أو هو : ما دلّ على الماهيّة بلا قيدٍ . أو هو : ما لم يقيّد بصفةٍ تمنعه أن يتعدّاها إلى غيرها .
كما يراد بالإطلاق : استعمال اللّفظ في معناه حقيقةً كان أو مجازاً . كما يأتي أيضاً بمعنى النّفاذ ، فإطلاق التّصرّف نفاذه .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - العموم :
2 - تظهر صلة الإطلاق بالعموم من بيان العلاقة بين المطلق والعامّ ، فالمطلق يشابه العامّ من حيث الشّيوع حتّى ظنّ أنّه عامٌّ . لكن هناك فرقاً بين العامّ والمطلق ، فالعامّ عمومه شموليٌّ ، وعموم المطلق بدليٌّ . فمن أطلق على المطلق اسم العموم فهو باعتبار أنّ موارده غير منحصرةٍ .
والفرق بينهما : أنّ عموم الشّموليّ كلّيٌّ يحكم فيه على كلّ فردٍ فردٍ . وعموم البدل كلّيٌّ من حيث إنّه لا يمنع نفس تصوّر مفهومه من وقوع الشّركة فيه ، ولكن لا يحكم فيه على كلّ فردٍ ، بل على فردٍ شائعٍ في أفراده ، يتناولها على سبيل البدل ، ولا يتناول أكثر من واحدٍ دفعةً . وفي تهذيب الفروق نقلاً عن الأنبابيّ : عموم العامّ شموليٌّ ، بخلاف عموم المطلق ، نحو رجلٍ وأسدٍ وإنسانٍ ، فإنّه بدليٌّ ، حتّى إذا دخلت عليه أداة النّفي أو أل الاستغراقيّة صار عامّاً .
ب - التّنكير :
3 - يتّضح الفرق بين الإطلاق والتّنكير من بيان الفرق بين المطلق والنّكرة ، فيرى بعض الأصوليّين ، أنّه لا فرق بين النّكرة والمطلق ، لأنّ تمثيل جميع العلماء المطلق بالنّكرة في كتبهم يشعر بعدم الفرق . وفي تيسير التّحرير : المطلق والنّكرة بينهما عمومٌ من وجهٍ ، لصدقهما في نحو : تحرير رقبةٍ ، وانفراد النّكرة عنه إذا كانت عامّةً ، كما إذا وقعت في سياق النّفي ، وانفراد المطلق عنها في نحو اشتر اللّحم . هذا عند الإطلاق ، فإن قيّدت النّكرة كانت مباينةً للمطلق .
الشّيء المطلق ومطلق الشّيء :
4 - الشّيء المطلق عبارةٌ عن الشّيء من حيث الإطلاق ، وهو ما صدق عليه اسم الشّيء بلا قيدٍ لازمٍ ، ومنه قول الفقهاء : يرفع الحدث بالماء المطلق أي غير المقيّد بقيدٍ ، فخرج به ماء الورد ، وماء الزّعفران ، والماء المعتصر من شجرٍ أو ثمرٍ ، وكذلك الماء المستعمل عند أكثر الفقهاء ، لأنّها مياهٌ مقيّدةٌ بقيدٍ لازمٍ لا يطلق الماء عليه بدونه ، بخلاف ماء البحر وماء البئر وماء السّماء ونحوها ، لأنّ القيود فيها غير لازمةٍ ، وتستعمل بدونها ، فهي مياهٌ مطلقةٌ .
أمّا مطلق الشّيء فهو عبارةٌ عن الشّيء من حيث هو من غير أن يلاحظ معه الإطلاق أو التّقييد ، فيصدق على أيّ شيءٍ مطلقاً كان أو مقيّداً . ومنه قولهم : مطلق الماء ، فيدخل فيه الماء الطّاهر والطّهور والنّجس وغيرها من أنواع المياه المقيّدة ( كماء الورد والزّعفران ) والمطلقة . فالشّيء المطلق أخصّ من مطلق الشّيء ( الشّامل للمقيّد ) . ومثل ذلك ما يقال في البيع المطلق ، ومطلق البيع ، والطّهارة المطلقة ، ومطلق الطّهارة وأمثالها .
مواطن الإطلاق :
5 - يتناول الأصوليّون الإطلاق في عدّة مواضع منها : مسألة حمل المطلق على المقيّد ، ومنها : مقتضى الأمر هل هو للتّكرار أو لا ؟ وهل هو للفور أو لا ؟ وتفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ .
مواطن الإطلاق عند الفقهاء :
أوّلاً : إطلاق النّيّة في الطّهارة :
أ - الوضوء والغسل :
6 - لو نوى المتوضّئ مطلق ( الطّهارة ) أو مطلق ( الوضوء ) ، لا لرفع حدثٍ ، ولا لاستباحة صلاةٍ ، أو نحوها ، ففي ارتفاع الحدث وعدمه رأيان :
أحدهما : أنّه لا يرتفع ، لعدم نيّته له . وهذا أحد الرّأيين عند الجمهور ، وهم الّذين يشترطون النّيّة لصحّة الطّهارة . وعلّلوا لذلك بأنّ الطّهارة قسمان : طهارة حدثٍ ، وطهارة نجسٍ ، فإذا قصد الطّهارة المطلقة ، فإنّ ذلك لا يرفع الحدث .
والرّأي الأصحّ للجمهور أنّه يرتفع ، لأنّ الطّهارة والوضوء إنّما ينصرف إطلاقهما إلى المشروع ، فيكون ناوياً لوضوءٍ شرعيٍّ . ولا دخل لمذهب الحنفيّة في هذه المسألة ، فالنّيّة سنّةٌ عندهم وليست شرطاً في الوضوء .
ب - التّيمّم :
7 - جمهور الفقهاء على أنّ المتيمّم لو نوى استباحة الصّلاة ، وأطلق ولم يقيّد تلك الصّلاة بفرضٍ أو نفلٍ ، صلّى النّافلة مع هذا الإطلاق . وللشّافعيّة وجهٌ ضعيفٌ أنّه لا يستبيح به النّفل . وللفقهاء في صلاة الفرض بهذا التّيمّم رأيان :
أحدهما : صحّة صلاة الفرض ، وهو قول الحنفيّة ، وقولٌ عند الشّافعيّة اختاره إمام الحرمين والغزاليّ ، لأنّها طهارةٌ يصحّ بها النّفل ، فصحّ بها الفرض كطهارة الماء ، ولأنّ الصّلاة اسم جنسٍ تتناول الفرض والنّفل .
الثّاني : أنّه لا يستبيح به الفرض ، وهو قول المالكيّة ، والحنابلة ، وهو أحد قولي الشّافعيّة .
إطلاق النّيّة في الصّلاة :
أ - صلاة الفرض :
8 - جمهور الفقهاء على أنّه يشترط التّعيين في نيّة الفرض وأنّ الإطلاق لا يكفي . قال الحنفيّة : وكذا الواجب من وترٍ أو نذرٍ أو سجود تلاوةٍ ، وكذا يشترط التّعيين في نيّة سجدة الشّكر ، بخلاف سجود السّهو . وفي روايةٍ عن أحمد أنّه لا يشترط التّعيين في نيّة صلاة الفرض .
ب - النّفل المطلق :
9 - يتّفق الفقهاء على أنّ الإطلاق يكفي في نيّة صلاة النّفل المطلق ، وألحق بعض الشّافعيّة بالنّفل المطلق تحيّة المسجد ، وركعتي الوضوء ، وركعتي الإحرام ، وركعتي الطّواف ، وصلاة الحاجة ، وصلاة الغفلة بين المغرب والعشاء ، والصّلاة في بيته إذا أراد الخروج للسّفر ، والمسافر إذا نزل منزلاً وأراد مفارقته .
ج - السّنن الرّواتب ، والمؤقّتة :
10 - للفقهاء في إطلاق النّيّة في صلاة السّنّة الرّاتبة ، والمؤقّتة رأيان :
الأوّل : أنّه لا يكفي الإطلاق لحصول تلك السّنّة الرّاتبة . وهو قول المالكيّة ، والشّافعيّة والحنابلة باستثناء النّوافل الّتي ألحقت بالنّفل المطلق عند البعض والّتي سبق ذكرها . وهو قول جماعةٍ من الحنفيّة ، قالوا : لأنّ السّنّة وصفٌ زائدٌ على أصل الصّلاة ، كوصف الفرضيّة ، فلا تحصل بمطلق نيّة الصّلاة .
الثّاني : صحّة النّيّة مع الإطلاق ، وهو أحد قولين للحنفيّة مصحّحين ، واعتمده بعضهم . وفي المحيط أنّه قول عامّة المشايخ ، ورجّحه في الفتح ، ونسبه إلى المحقّقين .
إطلاق النّيّة في الصّوم :
11 - للفقهاء في إطلاق نيّة الصّوم رأيان :
الأوّل : عدم الصّحّة مع الإطلاق ، وهو قول المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . واستدلّوا له بأنّه صومٌ واجبٌ فوجب تعيين النّيّة له .
والثّاني : صحّة الصّوم ، وهو قول الحنفيّة ، وروايةٌ عن أحمد ، ووجهٌ شاذٌّ للشّافعيّة حكاه صاحب التّتمّة عن الحليميّ ، واستدلّوا لذلك بأنّه فرضٌ مستحقٌّ في زمنٍ بعينه ، فلا يجب تعيين النّيّة له .
إطلاق نيّة الإحرام :
12 - إذا نوى مريد النّسك نفس الإحرام ، وأطلق بأن لم يقصد القران ، ولا التّمتّع ولا الإفراد جاز بلا خلافٍ ، لأنّ الإحرام يصحّ مع الإبهام فيصحّ مع الإطلاق . وله صرفه إلى أيّ نوعٍ شاء من أنواع الإحرام الثّلاثة ، إن كان ذلك قبل الشّروع في أعمال الإحرام ، وكان في أشهر الحجّ ، غير أنّ المالكيّة والحنابلة قالوا : الأولى الصّرف إلى العمرة ، لأنّ التّمتّع أفضل .
وما عمله قبل التّعيين فلغوٌ عند الشّافعيّة ، والحنابلة ، وعند الحنفيّة والمالكيّة ، يعتدّ بما أتى به من الشّعائر ، غير أنّهم يختلفون فيما تصرف النّيّة له ، فقال الحنفيّة : تصرف إلى العمرة إن لم يعيّن ، وقد طاف ، لكن في اللّباب وشرحه لو وقف بعرفة قبل الطّواف تعيّن إحرامه للحجّ ، ولو لم يقصد الحجّ في وقوفه . وقال المالكيّة : يجب صرفه إلى الحجّ إن وقع الصّرف بعد طواف قدومٍ .
13 - وإن كان الإحرام بنسكٍ ولم يعيّن وذلك في غير أشهر الحجّ - على كراهته أو امتناعه عند الحنابلة - فالحكم لا يختلف عندهم في أنّ الأولى صرف النّيّة إلى العمرة .
وكذا لا يختلف الحكم عند المالكيّة في غير أشهر الحجّ عن أشهر الحجّ إن كان طاف قبل التّعيين - يجب صرف النّيّة للحجّ - ويؤخّر سعيه لإفاضته ، فإن لم يكن قد طاف كره صرف النّيّة إلى الحجّ ، لأنّه أحرم به قبل وقته . وفصّل الشّافعيّة في ذلك فقالوا : إن أحرم قبل الأشهر ، فإن صرفه إلى العمرة صحّ ، وإن صرفه إلى الحجّ بعد دخول الأشهر فوجهان ، الصّحيح : لا يجوز بل انعقد إحرامه ، ( أي عمرةً ) .
والثّاني : ينعقد مبهماً ، وله صرفه بعد دخول أشهر الحجّ إلى حجٍّ أو قرانٍ ، فإن صرفه إلى الحجّ قبل الأشهر كان كمن أحرم بالحجّ قبل الأشهر .
14 - وهل الإطلاق أفضل أم التّعيين ؟ رأيان : أحدهما : أنّ التّعيين أفضل ، وهو قول الحنابلة ، فقد صرّحوا باستحباب التّعيين ، وبه قال مالكٌ ، وهو قول بعض الشّافعيّة . ثانيهما : الإطلاق أفضل ، وهو الأظهر ند الشّافعيّة .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
مواطن البحث :
15 - بالإضافة إلى ما تقدّم يتكلّم الفقهاء والأصوليّون عن الإطلاق في المواطن الآتية :
- -الملك المطلق ، والملك المقيّد .
- - العقود إذا وقعت على اسمٍ مطلقٍ ، هل تصحّ أم لا ؟
- - في المضاربة والوكالة -اختلاف العامل ، والمالك والوكيل ، والموكّل ، في الإطلاق ، والتّقييد .
- - الإقرار المطلق .
- - الوقف المطلق .
- - وفي الظّهار والطّلاق .
- - الإطلاق في الإجارة .
- - الإطلاق في الوصيّة والوقف .
- - القضاء - في تعريف الحكم ، وهل هو إنشاء إلزامٍ أم إطلاقٌ ؟
- - الإطلاق في التّصرّفات عن الغير .
- - تقييد المطلق بالعرف ، وقد أفرد السّيوطيّ المبحث الخامس من كتاب الأشباه والنّظائر في كلّ ما جاء به الشّرع مطلقاً ، ولا ضابط له فيه ولا في اللّغة .
- - حمل المطلق على المقيّد .
- - تقييد المطلق بما يخصّص به العامّ .
- - النّذر المطلق والتّحلّل منه .
- وتفصيل كلّ مسألةٍ من هذه المسائل في بابها .
اطمئنانٌ *
التعريف :
1 - الاطمئنان في اللّغة : السّكون ، يقال : اطمأنّ القلب : سكن ولم يقلق ، واطمأنّ في المكان : أقام به .
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذين الإطلاقين ، فإنّ الاطمئنان في الرّكوع والسّجود بمعنى استقرار الأعضاء في أماكنها عن الحركة .

الألفاظ ذات الصّلة
أ - العلم :
2 – العلم : هو اعتقاد الشّيء على ما هو عليه على سبيل الثّقة ، أمّا الاطمئنان فهو سكون النّفس إلى هذا العلم . وعلى هذا فقد يوجد العلم ولا يوجد الاطمئنان .
ب - اليقين :
3 - اليقين : هو سكون النّفس المستند إلى اعتقاد الشّيء بأنّه لا يمكن أن يكون إلاّ كذا . أمّا الاطمئنان فهو سكون النّفس المستند إلى غلبة الظّنّ ، وعلى هذا فإنّ اليقين أقوى من الاطمئنان .
اطمئنان النّفس :
4 - اطمئنان النّفس أمرٌ غير مقدورٍ للإنسان ، لأنّه من أعمال القلب الّتي لا سلطان له عليها ، ولكن يطالب الإنسان بتحصيل أسبابه .
ما يحصل به الاطمئنان :
5 - بالاستقراء يتبيّن أنّ الاطمئنان يحصل شرعاً بما يلي :
أ - ذكر اللّه تعالى ، لقوله سبحانه { ألا بذكر اللّه تطمئنّ القلوب } .
ب - الدّليل : والدّليل قد يكون شرعيّاً من قرآنٍ أو سنّةٍ ، وقد يكون عقليّاً من قياسٍ على علّةٍ مستنبطةٍ ، أو قرينةٍ قويّةٍ من قرائن الأحوال ، وقد يكون خبراً من مخبرٍ صادقٍ .
ج - استصحاب الحال : ومن هنا قبلت شهادة مستور الحال ، لأنّ الأصل في المسلمين العدالة . كما هو مفصّلٌ في كتاب الشّهادات من كتب الفقه .
د - مضيّ مدّةٍ معيّنةٍ : إذ أنّ مضيّ سنةٍ على العنّين دون أن يستطيع أن يأتي أهله يوجد طمأنينةً حكميّةً بعجزه عن المعاشرة عجزاً دائماً . ومضيّ مدّة الانتظار في المفقود - عند من يقول بها - يوجد طمأنينةً حكميّةً أنّه لن يعود ، وتأخير أداء الشّهادة في الحدود يوجد طمأنينةً حكميّةً بأنّ الشّاهد إنّما شهد عن ضغنٍ ( أي حقدٍ ) .
هـ – القرعة : وهي عند من يقول بها توجد طمأنينةً حكميّةً بأنّه لم يحدث جورٌ أو هوًى ، لأنّها لتطييب القلوب ، كما في القسمة ونحوها .
الاطمئنان الحسّيّ :
6 - يكون ذلك في الصّلاة : وحده في الرّكوع والسّجود والقيام - فهو سكون الجوارح واستقرار كلّ عضوٍ في محلّه - بقدر تسبيحةٍ .
وحكمه الوجوب عند الجمهور ، وعند بعض الحنفيّة سنّةٌ . وتفصيل ذلك في كتاب الصّلاة من كتب الفقه .
والذّبيحة لا يجوز تقطيع أوصالها بعد ذبحها حتّى تسكن حركتها ، لأنّ ذلك دليل إزهاق روحها ، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الذّبائح .
آثار الاطمئنان :
7 - يترتّب على الاطمئنان أثران :
أوّلهما : وقوع العمل المبنيّ على الاطمئنان صحيحاً في الشّرع . فمن تحرّى الأواني الّتي بعضها طاهرٌ وبعضها نجسٌ ، فاطمأنّ قلبه إلى هذا الإناء منها طاهرٌ ، فتوضّأ منه ، وقع وضوءه صحيحاً ، كما فصّل ذلك الفقهاء في كتاب الطّهارة .
ثانيهما : أنّ ما خالف هذا الاطمئنان هو هدرٌ ولا قيمة له ، وكلّ ما بني عليه من التّصرّفات باطلٌ ، فمن تحرّى جهة القبلة حتّى اطمأنّ قلبه إلى جهةٍ ما أنّ القبلة نحوها ، فصلّى إلى غير هذه الجهة فصلاته باطلةٌ ، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الصّلاة . وإذا اطمأنّ قلب إنسانٍ بالإيمان ، ثمّ أكره على إتيان ما يخالف هذا الإيمان لا يضرّه ذلك شيئاً . قال تعالى : { من كفر باللّه من بعد إيمانه إلاّ من أكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان ، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ من اللّه ولهم عذابٌ عظيمٌ } .
قال القرطبيّ : أجمع أهل العلم على أنّ من أكره على الكفر ، حتّى خشي على نفسه القتل ، أنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان ، ولا تبين منه زوجته ، ولا يحكم عليه بحكم الكفر .
أظفارٌ *
التعريف :
1 - الأظفار جمع ظفرٍ ، ويجمع أيضاً على أظفرٍ ، وأظافير . والظّفر معروفٌ ، يكون للإنسان وغيره . وقيل : الظّفر لما لا يصيد ، والمخلب لما يصيد .
الأحكام المتعلّقة بالأظفار :
تقليم الأظفار :
2 - تقليم الأظفار سنّةٌ عند الفقهاء للرّجل والمرأة ، لليدين والرّجلين ، لما روى أبو هريرة قال : « قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : خمسٌ من الفطرة : الاستحداد ، والختان ، وقصّ الشّارب ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار » . والمراد بالتّقليم إزالة ما زيد على ما يلامس رأس الإصبع ، ويستحبّ أن يبدأ باليد اليمنى ثمّ اليسرى ، ثمّ الرّجل اليمنى ثمّ اليسرى . وقال ابن قدامة : روي في حديث : « من قصّ أظفاره مخالفاً لم ير في عينيه رمداً » . وفسّره ابن بطّة ، بأن يبدأ بخنصر اليمنى ، ثمّ الوسطى ثمّ الإبهام ، ثمّ البنصر ثمّ السّبّابة .
أمّا التّوقيت في تقليم الأظفار فهو معتبرٌ بطولها : فمتى طالت قلّمها ، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال ، وقيل : يستحبّ تقليم الأظفار كلّ يوم جمعةٍ ، لما روي عن أنس بن مالكٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّه وقّت لهم في كلّ أربعين ليلةً تقليم الأظفار ، وأخذ الشّارب ، وحلق العانة » وفي روايةٍ عن أنسٍ أيضاً « وقّت لنا في قصّ الشّارب وتقليم الأظفار ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ألاّ نترك أكثر من أربعين يوماً » .
قال السّخاويّ : لم يثبت في كيفيّة قصّ الأظفار ولا في تعيين يومٍ له شيءٌ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم .
توفير الأظفار للمجاهدين في بلاد العدوّ :
3 - ينبغي للمجاهدين أن يوفّروا أظفارهم في أرض العدوّ فإنّه سلاحٌ ، قال أحمد : يحتاج إليها في أرض العدوّ ، ألا ترى أنّه إذا أراد أن يحلّ الحبل أو الشّيء فإذا لم يكن له أظفارٌ لم يستطع . وقال عن الحكم بن عمرٍو : « أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ألاّ نحفي الأظفار في الجهاد ، فإنّ القوّة في الأظفار » .
قصّ الأظفار في الحجّ وما يجب فيه :
4 - ممّا يندب لمن يريد الإحرام تقليم الأظفار ، فإذا دخل في الإحرام فقد أجمع أهل العلم على أنّه ممنوعٌ من قصّ أظفاره إلاّ من عذرٍ ، لأنّ قطع الأظفار إزالة جزءٍ يترفّه به ، فحرم ، كإزالة الشّعر ، وتفصيل حكمه إذا قصّه ينظر في مصطلح إحرامٌ .
إمساك المضحّي عن قصّ أظفاره :
5 - ذهب بعض الحنابلة وبعض الشّافعيّة : إلى أنّ من أراد أن يضحّي فدخل العشر من ذي الحجّة يجب عليه أن يمسك عن قصّ الشّعر والأظفار ، وهو قول إسحاق وسعيد بن المسيّب . وقال الحنفيّة ، والمالكيّة ، وهو قول بعض الشّافعيّة والحنابلة : يسنّ له أن يمسك عن قصّ الشّعر والأظفار . لما روت أمّ سلمة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحّي فلا يأخذ من شعره ، ولا من أظفاره شيئاً حتّى يضحّي » . وفي روايةٍ أخرى عن أمّ سلمة مرفوعاً : « من كان له ذبحٌ يذبحه ، فإذا أهلّ هلال ذي الحجّة ، فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتّى يضحّي » .
والحكمة في ذلك بقاؤه كامل الأجزاء ، لتشملها المغفرة والعتق من النّار . ويفهم من كلام الشّافعيّة والحنابلة أنّهم أطلقوا طلب ترك الأظفار والشّعر في عشرٍ من ذي الحجّة لمن أراد التّضحية مطلقاً ، سواءٌ أكان يملك الأضحيّة أم لا .
دفن قلامة الظّفر :
6 - يستحبّ دفن الظّفر ، إكراماً لصاحبه . وكان ابن عمر يدفن الأظفار .
الذّبح بالأظفار :
7 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة وهو رأيٌ للمالكيّة إلى تحريم الذّبح بالظّفر والسّنّ مطلقاً ، وقالوا : إنّ المذبوح بهذه الأشياء ميتةٌ لا يحلّ أكلها ، لأنّه قاتلٌ وليس بذابحٍ . ولقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ما أنهر الدّم وذكر اسم اللّه فكل ، ليس الظّفر والسّنّ ... » . ووافقهم الحنفيّة ، وكذلك المالكيّة في أحد أقوالٍ عندهم إذا كان الظّفر والسّنّ قائمين غير منزوعين ، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أنهر الدّم » ، وما رواه الشّافعيّة محمولٌ على غير المنزوع ، فإنّ الحبشة كانوا يفعلون ذلك إظهاراً للجلد . ولأنّها إذا انفصلت كانت آلةً جارحةً ، فيحصل بها المقصود ، وهو إخراج الدّم ، فصار كالحجر والحديد ، بخلاف غير المنزوع فإنّه يقتل بالثّقل ، فيكون في معنى الموقوذة .
وفي رأيٍ للمالكيّة يجوز الذّبح بالظّفر والسّنّ مطلقاً سواءٌ أكانا قائمين أم منفصلين .
طلاء الأظفار :
8 - الطّهارة من الحدث تقتضي تعميم الماء على أعضاء الوضوء في الحدث الأصغر ، وعلى الجسم في الحدث الأكبر ، وإزالة كلّ ما يمنع وصول الماء إلى تلك الأعضاء ، ومنها الأظفار ، فإذا منع مانعٌ من وصول الماء إليها من طلاءٍ وغيره - من غير عذرٍ - لم يصحّ الوضوء ، وكذلك الغسل ، لما روى عليٌّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من ترك موضع شعرةٍ من جنابةٍ لم يصبها الماء ، فعل به من النّار كذا وكذا » . وعن عمر رضي الله عنه « أنّ رجلاً توضّأ فترك موضع ظفرٍ على قدميه ، فأبصره النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : ارجع فأحسن وضوءك » . ر : ( وضوءٌ - غسلٌ ) .
أثر الوسخ المتجمّع تحت الأظفار في الطّهارة :
9 - إذا كان تحت الأظفار وسخٌ يمنع وصول الماء إلى ما تحته ، فقد ذهب المالكيّة ، والحنفيّة في الأصحّ عندهم ، إلى أنّه لا يمنع الطّهارة ، وعلّلوا ذلك بالضّرورة ، وبأنّه لو كان غسله واجباً لبيّنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم « وقد عاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم كونهم يدخلون عليه قلحاً ورفغ أحدهم بين أنمله وظفره » . يعني أنّ وسخ أرفاغهم تحت أظفارهم يصل إليه رائحة نتنها ، فعاب عليهم نتن ريحها لا بطلان طهارتهم ، ولو كان مبطلاً للطّهارة لكان ذلك أهمّ فكان أحقّ بالبيان .
وقال الحنابلة ، وهو رأيٌ للحنفيّة ، والمفهوم من مذهب الشّافعيّة : لا تصحّ الطّهارة حتّى يزيل ما تحت الأظفار من وسخٍ ، لأنّه محلٌّ من اليد استتر بما ليس من خلقه ، وقد منع إيصال الماء إليه مع إمكان إيصاله .
الجناية على الظّفر :
10 - لو جني على الظّفر في غير العمد ، فقلع ونبت غيره ، قال المالكيّة ومحمّدٌ وأبو يوسف من الحنفيّة ، وهو رأيٌ للشّافعيّة : فيه أرش الألم ، وهو حكومة عدلٍ ، بقدر ما لحقه إلى أن يبرأ ، من النّفقة من أجرة الطّبيب وثمن الدّواء .
وقال أبو حنيفة وهو رأيٌ آخر للشّافعيّة : ليس فيه شيءٌ . أمّا إذا لم ينبت غيره ففيه الأرش ، وقدّر بخمسٍ من الإبل .
وقال الحنابلة : إذا جني على الظّفر ولم يعد ، أو عاد أسود ففيه خمس دية الإصبع ، وهو منقولٌ عن ابن عبّاسٍ ، وفي ظفرٍ عاد قصيراً أو عاد متغيّراً أو أبيض ثمّ أسود لعلّةٍ حكومة عدلٍ . وهذا في غير العمد ، أمّا في العمد ففيه القصاص . ر : ( قصاصٌ - أرشٌ ) .
الجناية بالظّفر :
11 - لمّا كان تعمّد القتل أمراً خفيّاً ، نظر الفقهاء إلى الآلة المستعملة في القتل ، فذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا قصاص في القتل العمد إلاّ إذا كان بسلاحٍ أو ما جرى مجراه ، من محدّدٍ من الخشب أو الحجر العظيم أو غيرهما ، وذهب جمهور الفقهاء ، ومنهم أبو يوسف ومحمّدٌ إلى أنّ آلة العمد هي ما تقتل غالباً ، مثل الحجر العظيم والخشبة الكبيرة وكلّ ما يقتل ، على تفصيلٍ وخلافٍ بينهم في الضّوابط المعتبرة في ذلك يرجع إليها في : ( مسائل الجنايات والقصاص ) وعلى هذا فإذا كان الظّفر متّصلاً أو منفصلاً معدّاً للقتل والجناية فهو ممّا يقتل غالباً ويثبت به العمد عندهم ، خلافاً لأبي حنيفة ، وأمّا إذا لم يكن معدّاً لذلك ، وتعمّد الضّرب به فهو شبه عمدٍ ، ولا قصاص فيه ، بل يكون فيه الدّية المغلّظة .
طهارة الظّفر ونجاسته :
12 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ ظفر الإنسان طاهرٌ ، حيّاً كان الإنسان أو ميّتاً ، وسواءٌ أكان الظّفر متّصلاً به ، أم منفصلاً عنه ، وذهب بعض الحنابلة في قولٍ مرجوحٍ إلى نجاسة أجزاء الآدميّ ، وبعضهم إلى نجاسة الكافر بالموت دون المسلم ، وهذا الخلاف عندهم في غير النّبيّ صلى الله عليه وسلم والصّحيح عندهم ما وافق الجمهور .
أمّا الحيوان ، فإن كان نجس العين ( الذّات ) ، كالخنزير ، فإنّ ظفره نجسٌ ، وأمّا إذا كان الحيوان طاهر العين ، فظفره المتّصل به حال حياته طاهرٌ . فإن ذكّي فهو طاهرٌ أيضاً ، أمّا إذا مات فظفره نجسٌ كميتته ، وكذا إذا انفصل الظّفر حال حياته فإنّه نجسٌ أيضاً ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « ما أبين من حيٍّ فهو ميتٌ » .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ الظّفر من غير الخنزير طاهرٌ مطلقاً ، سواءٌ كان من مأكولٍ أو غير مأكولٍ ، من حيٍّ أو ميّتٍ ، لأنّ الحياة لا تحلّه ، والّذي ينجس بالموت إنّما هو ما حلّته الحياة دون غيره .
إظهارٌ *
التّعريف :
1 - الإظهار في اللّغة : التّبيين ، والإبراز بعد الخفاء ، بقطع النّظر عمّا إذا علم بالتّصرّف المظهر أحدٌ أو لم يعلم . ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عمّا ذكر .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإفشاء :
2 - إذا كان الإظهار : الإبراز بعد الخفاء ، فإنّ الإفشاء هو كثرة الإظهار ، في أماكن ومناسباتٍ كثيرةٍ قال عليه الصلاة والسلام : « ألا أدلّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السّلام بينكم » أي أكثروا من التّسليم على بعضكم . فالإفشاء أخصّ من الإظهار .
ب - الجهر :
3 - الجهر هو: المبالغة في الإظهار وعمومه ، ألا ترى أنّك إذا كشفت الأمر للرّجل والرّجلين قلت : أظهرته لهما ، ولا تقول جهرت به إلاّ إذا أظهرته للجماعة الكثيرة ، ومن هنا يقول العلماء : الجهر بالدّعوة ، ويعنون إعلانها للملأ . فالجهر أخصّ من الإظهار ، فإنّ الجهر هو المبالغة في الإظهار .
ج - الإعلان :
4 - الإعلان ضدّ الإسرار ، وهو المبالغة في الإظهار ، ومن هنا قالوا : يستحبّ إعلان النّكاح ، ولم يقولوا إظهاره ، لأنّ إظهاره يكون بالإشهاد عليه ، أمّا إعلانه فإعلام الملأ به .

الحكم التّكليفيّ :
يختلف حكم الإظهار باختلاف متعلّقه على ما سيأتي :
الإظهار عند علماء التّجويد :
5 - يطلق علماء التّجويد كلمة إظهارٍ ، ويريدون بها : إخراج الحرف من مخرجه بغير غنّةٍ ولا إدغامٍ . وهم يقسّمون الإظهار إلى قسمين :
القسم الأوّل : إظهارٌ حلقيٌّ ، ويكون الإظهار الحلقيّ عندما يأتي بعد النّون السّاكنة أو التّنوين ، أحد الحروف التّالية ( أ - هـ -ع -غ -ح -خ )
القسم الثّاني : إظهارٌ شفويٌّ : ويكون الإظهار شفويّاً إذا جاء بعد الميم السّاكنة أيّ حرفٍ من حروف الهجاء عدا ( م - ب ) والأصل في حروف الهجاء الإظهار ، ولكنّ بعض الحروف - ولا سيّما النّون والميم - قد تدغم أحياناً ، ولهذا عني ببيان أحكامها من حيث الإظهار والإدغام . وتفصيل ذلك في علم التّجويد .
إظهار نعم اللّه تعالى :
6 - إذا أنعم اللّه تعالى على امرئٍ نعمةً فينبغي أن يظهر أثرها عليه ، لقوله تعالى في سورة الضّحى : { وأمّا بنعمة ربّك فحدّث } ولما رواه النّسائيّ عن مالك بن نضلة الجشميّ قال : « دخلت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فرآني سيّئ الهيئة ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : هل لك من شيءٍ ؟ قال : نعم من كلّ المال قد آتاني اللّه ، فقال : إذا كان لك مالٌ فلير عليك » وروى البيهقيّ عن أبي سعيدٍ الخدريّ « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : إنّ اللّه جميلٌ يحبّ الجمال ، ويحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده » .
إظهار المرء غير ما يبطن في العقائد :
7 - إنّ إظهار المرء غير ما يبطن من أصول الإيمان ، كالإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر ، لا يخرج عن حالين : فهو إمّا أن يظهر الإيمان بها ويبطن الكفر ، أو يظهر الكفر بها ويبطن الإيمان .
أ - فإن أظهر الإيمان بها وأبطن الكفر فهو نفاقٌ مخلّدٌ لصاحبه في النّار ، قال تعالى : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول اللّه ، واللّه يعلم إنّك لرسوله ، واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون } . وسيأتي تفصيل ذلك تحت مصطلح " نفاقٌ " إن شاء اللّه تعالى .
ب - أمّا إن أظهر الكفر بهذه الأصول وأبطن الإيمان فإنّ ذلك لا يخلو من حالين :
الحال الأوّل : أن يظهر ما أظهره طواعيةً ، فيحكم عليه بالظّاهر من حاله ، لأنّ الأحكام الفقهيّة تجري على الظّاهر .
الحال الثّاني : أن يظهر ما أظهره مكرهاً وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان ، وعندئذٍ تبقى أحكام الإيمان جاريةً عليه . كما فصّل الفقهاء ذلك في بحثهم في الرّدّة وفي الإكراه ، لقوله تعالى : { من كفر باللّه من بعد إيمانه إلاّ من أكره وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان ، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ من اللّه ، ولهم عذابٌ عظيمٌ } .
إظهار المتعاقدين خلاف قصدهما :
8 - إذا أظهر العاقدان عقداً في الأموال ، وهما لا يريدانه ، أو ثمناً لمبيعٍ وهما يريدان غيره ، أو أقرّ أحدٌ لآخر بحقٍّ وقد اتّفقا سرّاً على بطلان ذلك الإقرار الظّاهر ، فقد قال بعض الفقهاء ، كالحنابلة وأبي يوسف ومحمّد بن الحسن : الظّاهر باطلٌ . وقال بعضهم كأبي حنيفة والشّافعيّ : الظّاهر صحيح ، وقد فصّل ذلك الفقهاء في كتاب البيوع عند كلامهم على بيع التّلجئة ، وسمّى المعاصرون هذا العقد الظّاهر بالعقد الصّوريّ .
إظهار خلاف قصد الشّارع بالحيلة :
9 - اتّفق الفقهاء على عدم حلّ كلّ تصرّفٍ مهما كان ظاهره ، إذا كان القصد منه إبطال حقّ الغير أو إدخال شبهةٍ فيه ، أو تمويه باطلٍ .
أمّا ما عدا ذلك من التّصرّفات الظّاهرة الّتي تهدف إلى غير ما قصده الشّارع منها ، فقد اختلف في جوازها ، فرأى بعض الفقهاء حلّها ، ورأى آخرون حرمتها ، ونجد ذلك مفصّلاً في كتاب الحظر والإباحة عند الحنفيّة ، وفي ثنايا الأبحاث عند غيرهم ، وسيأتي ذلك مفصّلاً إن شاء اللّه في مصطلح ( حيلةٌ ) .
ما يشرع فيه الإظهار :
10 - من ذلك إظهار سبب الجرح للشّاهد ، لأنّ الجرح لا يقبل إلاّ مفسّراً ، وهذه مسألةٌ اجتهاديّةٌ ، كما فصّل الفقهاء ذلك في كتاب القضاء .
ومن ذلك إظهار إقامة الحدود ليتحقّق فيها الرّدع والمنع ، وعملاً بقوله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين } .
ومن ذلك إظهار الاستثناء والقيود والتّعليقات ، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الإقرار والأيمان .
ومن ذلك إظهار طلب الشّفعة بالإشهاد عليه ، ونحوه ممّا يستوجب الإشهاد ( ر : إشهادٌ ) . ومن ذلك إظهار الحكم بالحجر على شخصٍ معيّنٍ ليتحاشى النّاس التّعامل معه ، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب القضاء ، وفي كتاب الحجر .
ومن ذلك إظهار المؤمن الفقير الاستغناء ، لقوله تعالى في وصف المؤمنين : { يحسبهم الجاهل أغنياء من التّعفّف } ، وإظهار المتصدّق الصّدقة إن كان ممّن يقتدى به ، أو كان في إظهارها تشجيعاً للغير على الصّدقة ونحوها من عمل الخير . كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الصّدقات ، وكما هو مذكورٌ في كتب الآداب الشّرعيّة .
ومن ذلك إظهار البهجة والسّرور في المواسم والأعياد ، والختان ، والأعراس ، وولادة مولودٍ ، وإظهار البشر عند لقاء الضّيف ، ولقاء الإخوان ، وإظهار الأدب عند زيارة قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم ، كما ذكر ذلك في كتب الآداب الشّرعيّة ، وإظهار التّذلّل عند الخروج إلى الاستسقاء ، كما ذكر الفقهاء ذلك في باب صلاة الاستسقاء ، وإظهار المجاهد قوّته وبأسه للعدوّ ، كتبختره بين الصّفّين ونحو ذلك ، كما هو مبيّنٌ في كتاب الجهاد من كتب الفقه . وغير ذلك .
ما يجوز إظهاره :
11 - من ذلك إظهار الحزن على الميّت بالبكاء بدون صوتٍ ، وبالإحداد مدّة ثلاثة أيّامٍ إن لم يكن الميّت زوجاً ، فإن كان الميّت زوجاً فالإحداد واجبٌ على الزّوجة كما تقدّم .
ما لا يجوز إظهاره :
12 - من ذلك إظهار المنكرات كلّها ، وإظهار العورة ، ولا يجوز لأهل الذّمّة إظهار شيءٍ من صلبانهم ونواقيسهم وخمرهم كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الجزية . ولا يجوز إظهار ما يجب إخفاؤه ممّا يكون بين الزّوجين كما ذكر ذلك الفقهاء في باب المعاشرة . ولا يجوز إظهار خطبة المعتدّة ما دامت في عدّتها كما ذكر ذلك الفقهاء في باب العدّة .
إعادةٌ *
التعريف :
1 - الإعادة تطلق في اللّغة على : إرجاع الشّيء إلى حاله الأوّل ، كما تطلق على فعل الشّيء مرّةً ثانيةً ، فمن أسماء اللّه تعالى " المعيد " - أي الّذي يعيد الخلق بعد الفناء ، وقوله تعالى { كما بدأنا أوّل خلقٍ نعيده } بهذا المعنى أيضاً .
والفقهاء غالباً ما يطلقون على إرجاع الشّيء إلى مكانه الأوّل لفظ ( الرّدّ ) فيقولون : ردّ الشّيء المسروق ، وردّ المغصوب ، وقد يقولون أيضاً : إعادة المسروق .
أمّا الإعادة بالمعنى الثّاني - وهو فعل الشّيء ثانيةً - فقد عرّفها الغزاليّ من الشّافعيّة : بأنّها " ما فعل في وقت الأداء ثانياً لخللٍ في الأوّل " .
وتعريف الحنفيّة كما ذكر ابن عابدين " الإعادة : فعل مثل الواجب في وقته لخللٍ غير الفساد " . أمّا الحنابلة فهي عندهم : فعل الشّيء مرّةً أخرى .
وقد عرّفها القرافيّ من المالكيّة بأنّها : إيقاع العبادة في وقتها بعد تقدّم إيقاعها على خللٍ في الإجزاء ، كمن صلّى بدون ركنٍ ، أو في الكمال كمن صلّى منفرداً .
ولعلّ الأحسن من هذا ما عرّفها به بعضهم حيث قال : الإعادة فعل مثل الواجب في وقته لعذرٍ ليشمل نحو إعادة من صلّى منفرداً صلاته مع الجماعة . والكلام في هذا البحث ملحوظٌ فيه التعريف الأعمّ للإعادة وهو تعريف الحنابلة .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّكرار :
2 - الفقهاء يستعملون كلمة " إعادةٌ " في إعادة التّصرّف مرّةً واحدةً ، ويستعملون كلمة " تكرارٌ " عندما تكون الإعادة مراراً .
ب - القضاء :
3 - المأمور به إمّا أن يكون لأدائه وقتٌ محدّدٌ ، كالصّلاة والحجّ ونحو ذلك ، وإمّا ألاّ يكون له وقتٌ محدّدٌ ، فالقضاء هو فعل المأمور به بعد خروج وقته المحدّد ، أمّا الإعادة : فهي فعل المأمور به ثانيةً في وقته إن كان له وقتٌ محدّدٌ ، أو في أيّ وقتٍ كان إن لم يكن له وقتٌ محدّدٌ .
ج - الاستئناف :
4 - الاستئناف لا يستعمل إلاّ في إعادة العمل أو التّصرّف من أوّله ، كاستئناف الوضوء ، أمّا الإعادة فإنّها تستعمل في إعادة التّصرّف من أوّله أو إعادة جزءٍ من أجزائه ، كإعادة غسل عضوٍ من أعضاء الوضوء .
الحكم التّكليفيّ :
5 - الإعادة إمّا أن تكون لخللٍ في الفعل الأوّل ، أو لغير خللٍ فيه :
أ - فإن كانت لخللٍ في الفعل الأوّل : فإنّ حكمها يختلف باختلاف هذا الخلل . فإن كان الخلل مفسداً للتّصرّف ، وكان التّصرّف واجباً وجبت إعادة هذا التّصرّف . كما إذا توضّأ وصلّى ثمّ علم أنّ الماء نجسٌ أعاد الوضوء والصّلاة .
أمّا إن كان التّصرّف غير واجبٍ ، وكان الخلل يمنع انعقاده أصلاً ، كفقد شرطٍ من شروط الانعقاد ، فلا يسمّى فعله مرّةً أخرى ( إعادةٌ ) لأنّه لم يوجد في الاعتبار الشّرعيّ .
أمّا إن كان الفعل غير واجبٍ ، وكان الشّروع فيه صحيحاً ، ثمّ طرأ عليه الخلل فأفسده ، فقد اختلف الفقهاء في وجوب إعادته ، بناءً على اختلافهم في اعتبار الشّروع ملزماً أو غير ملزمٍ . فمن قال : إنّ الشّروع ملزمٌ - كالحنفيّة والمالكيّة - فقد أوجب الإعادة ، ومن قال : إنّ الشّروع غير ملزمٍ - كالشّافعيّة والحنابلة - لم يوجب الإعادة ، كمن شرع في الصّلاة ثمّ ترك إحدى السّجدتين ، أو شرع في الصّيام ثمّ أفطر لعذرٍ أو لغير عذرٍ ، فقال الحنفيّة والمالكيّة : يعيد ، وقال الشّافعيّة والحنابلة : لا إعادة عليه .
ومن استحبّ الإعادة منهم استحبّها للخروج من خلاف العلماء . وإن كان الخلل غير مفسدٍ للفعل ، وكان هذا الخلل يوجب الكراهة التّحريميّة ، فإعادة التّصرّف واجبةٌ ، وإن كان يوجب الكراهة التّنزيهيّة فإعادة التّصرّف مستحبّةٌ . فمن ترك الموالاة أو التّرتيب في الوضوء ، فالسّنّة أن يعيد عند من يقول : إنّهما سنّةٌ .
ب - وإن كانت الإعادة لغير خللٍ ، فهي لا تخلو من أن تكون لسببٍ مشروعٍ أو غير مشروعٍ . فإن كانت لسببٍ مشروعٍ كتحصيل الثّواب كانت مستحبّةً ، إن كانت الإعادة في ذلك مشروعةً ، كإعادة الوضوء الّذي تعبّد به لصلاةٍ يريد أداءها وإعادة الصّلاة الّتي صلاّها منفرداً بجماعةٍ .
وكما لو صلّى جماعةً في بيته ثمّ خرج إلى أحد المساجد الثّلاثة ( المسجد الحرام ، ومسجد الرّسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى ) فوجد النّاس يصلّونها جماعةً فأعادها معهم . أمّا إن صلاّها بجماعةٍ ، ثمّ رأى جماعةً أخرى يصلّونها في غير المساجد الثّلاثة ، ففي إعادتها معهم خلافٌ بين العلماء .
أمّا إن كانت لسببٍ غير مشروعٍ فتكره الإعادة ، كالأذان والإقامة فإنّهما لا يعادان بإعادة الصّلاة عند الحنفيّة وبعض المالكيّة وبعض الشّافعيّة .
أسباب الإعادة :
من أسباب الإعادة ما يلي :
أ - وقوع الفعل غير صحيحٍ لعدم توفّر شروط صحّته :
6 - كمن توضّأ وترك جزءاً يجب غسله من أعضاء الوضوء .
ومن توضّأ أو اغتسل بغير نيّةٍ عند من يشترط النّيّة لهما .
ومن رأوا أسودةً فظنّوها عدوّاً ، فصلّوا صلاة الخوف ، ثمّ تبيّن أنّها غير عدوٍّ .
ب - الشّكّ في وقوع الفعل :
7 - كمن نسي صلاةً من خمس صلواتٍ ، ولا يدري ما هي ، فإنّه يعيد الصّلوات الخمس احتياطاً ، لأنّ الشّكّ قد طرأ على أداء كلّ واحدةٍ منها .
ج - الإبطال بعد الوقوع :
8 - كإعادة ما أبطلته الرّدّة من العبادات ما دام سببها - أي سبب العبادة - باقياً عند المالكيّة والحنفيّة ، وقال الشّافعيّة والحنابلة : الرّدّة لا تبطل الأعمال أبداً إلاّ إذا اتّصلت بالموت .
وعلى هذا فإنّ من صلّى الظّهر ، ثمّ ارتدّ ، ثمّ أسلم قبل العصر ، وجب عليه إعادة الظّهر لأنّ سببه - وهو الوقت - ما زال باقياً ، ومن حجّ ثمّ ارتدّ ، ثمّ أسلم في العام نفسه ، أو بعد أعوامٍ وجب عليه إعادة الحجّ ، لأنّ سببه باقٍ وهو " البيت " .
د - زوال المانع :
9 - كإعادة الصّلاة بالوضوء لمن تيمّم - لوجود عدوٍّ يحول بينه وبين الماء - وجوباً عند الحنفيّة . وكإعادة المتيمّم الصّلاة استحباباً إذا وجد الماء في الوقت عند الحنابلة . وانظر ( التّيمّم ) .
وإذا كان المانع من أمرٍ ليس له بدلٌ ، كمن كان على بدنه نجاسةٌ ، وليس عنده ما يزيلها به ، أو كان في ثوبه نجاسةٌ وليس عنده غيره ، ولا ما يزيلها به ، فإنّه يصلّي فيه ولا إعادة عليه في الوقت ولا في غيره عند الحنفيّة ، وقال غيرهم يعيد مطلقاً إذا زال المانع كما فصّل ذلك الفقهاء في كتاب الصّلاة عند كلامهم على شروط الصّلاة .
هـ - الافتيات على صاحب الحقّ :
10 - إذا كان لمسجدٍ أهلٌ معلومون ، فصلّى فيه غرباء بأذانٍ وإقامةٍ ، فلا يكره لأهله إعادة الأذان ، وإن صلّى فيه أهله بأذانٍ وإقامةٍ يكره لغير أهله إعادة الأذان فيه ، وإذا أذّن غير المؤذّن الرّاتب ثمّ حضر المؤذّن الرّاتب فله إعادة الأذان .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
سقوط الواجب :
11 - إذا أعيد عملٌ لخللٍ غير مفسدٍ ، فهل يسقط ذلك الواجب بالفعل الأوّل أم بالفعل الثّاني ؟ . من الفقهاء من قال : إنّ الواجب يسقط بالفعل الثّاني ، لأنّه الفعل الكامل الخالي من الخلل . وهذا قول الشّعبيّ وسعيد بن المسيّب وعطاءٍ ومذهب الحنفيّة ، كما قال ابن عابدين . واستدلّوا بحديث يزيد بن الأسود مرفوعاً : « إذا جئت إلى الصّلاة فوجدت النّاس فصلّ معهم ، وإن كنت قد صلّيت تكن لك نافلةً وهذه مكتوبةٌ » .
ومنهم من قال : إنّ الواجب يسقط بالفعل الأوّل لأنّه وقع صحيحاً غير باطلٍ ، ولكنّ فيه شيئاً من الخلل ، والإعادة شرعت لجبر هذا الخلل فيه . وهذا مرويٌّ عن عليٍّ ، وقول الثّوريّ وإسحاق والشّافعيّة والحنابلة . واستدلّوا بروايةٍ أخرى للحديث السّابق فيها : « إذا صلّيتما في رحالكما ، ثمّ أتيتما مسجد جماعةٍ ، فصلّيا معهم ، فإنّها لكم نافلةٌ » .
أمّا النّيّة في الإعادة : فقد قال ابن عابدين : ينوي بالفعل الثّاني الفرض - إن كان المعاد فرضاً لأنّ ما فعله أوّلاً هو الفرض ، فإعادته : فعله ثانيةً على الوجه نفسه .
أمّا على القول بأنّ الفرض يسقط بالفعل الثّاني فظاهرٌ .
وأمّا على القول بأنّ الفرض يسقط بالفعل الأوّل ، فإنّ المقصود من تكرار الفعل ثانيةً هو جبران نقصان الفعل الأوّل ، فالأوّل فرضٌ ناقصٌ ، والثّاني فرضٌ كاملٌ ، مثل الفعل الأوّل ذاتاً مع وصف الكمال ، ولو كان الفعل الثّاني نفلاً للزم أن تجب القراءة في الرّكعات الأربع للصّلاة المعادة ، وألاّ تشرع الجماعة فيها ، ولم يذكر الفقهاء شيئاً من هذا .
ولا يلزم من كون الصّلاة الثّانية فرضاً عدم سقوط الفرض بالأولى ، لأنّ المراد أنّها تكون فرضاً بعد الوقوع ، أمّا قبله فالفرض هو الأولى ، وحاصله توقّف الحكم بفرضيّة الأولى على عدم الإعادة ، وله نظائر : كسلام من عليه سجود السّهو يخرجه خروجاً موقوفاً ، وكفساد الصّلاة الوقتيّة مع تذكّر صلاةٍ فائتةٍ .
إعارةٌ *
التعريف :
1 - الإعارة في اللّغة : من التّعاور ، وهو التّداول والتّناوب مع الرّدّ . والإعارة مصدر أعار ، والاسم منه العاريّة ، وتطلق على الفعل ، وعلى الشّيء المعار ، والاستعارة طلب الإعارة . وفي الاصطلاح عرّفها الفقهاء بتعاريف متقاربةٍ .
فقال الحنفيّة : إنّها تمليك المنافع مجّاناً .
وعرّفها المالكيّة : بأنّها تمليك منفعةٍ مؤقّتةٍ بلا عوضٍ .
وقال الشّافعيّة : إنّها شرعاً إباحة الانتفاع بالشّيء مع بقاء عينه .
وعرّفها الحنابلة : بأنّها إباحة الانتفاع بعينٍ من أعيان المال .
الألفاظ ذات الصّلة :

أ - العمرى :
2 - العمرى : تمليك المنفعة طول حياة المستعير بغير عوضٍ ، فهي أخصّ .
ب - الإجارة :
3 - الإجارة : تمليك منفعةٍ بعوضٍ ، فتجتمع مع الإعارة في تمليك المنفعة عند القائلين بالتّمليك ، وتنفرد الإجارة بأنّها بعوضٍ ، والإعارة بأنّها بغير عوضٍ .
ج - الانتفاع :
4 - الانتفاع : هو حقّ المنتفع في استعمال العين واستغلالها ، وليس له أن يؤاجره ، ولا أن يعيره لغيره والمنفعة أعمّ من الانتفاع ، لأنّ له فيها الانتفاع بنفسه وبغيره ، كأن يعيره أو يؤاجره .
دليل مشروعيّتها :
5 - الأصل في مشروعيّة الإعارة الكتاب والسّنّة والإجماع والمعقول :
أمّا الكتاب فقوله تعالى : { ويمنعون الماعون } فقد روي عن ابن عبّاسٍ وابن مسعودٍ أنّهما قالا : الماعون العواريّ . وفسّر ابن مسعودٍ العواريّ بأنّها القدر والميزان والدّلو . وأمّا السّنّة : فما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال في خطبة حجّة الوداع : « والعاريّة مؤدّاةٌ . والدّين مقضيٌّ . والمنحة مردودةٌ . والزّعيم غارمٌ » . وروى « صفوان بن أميّة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعاً يوم حنينٍ ، فقال : أغصباً يا محمّد ؟ قال بل عاريّةٌ مضمونةٌ » .
وأجمع المسلمون على جواز العاريّة . ومن المعقول : أنّه لمّا جازت هبة الأعيان جازت هبة المنافع ، ولذلك صحّت الوصيّة بالأعيان والمنافع جميعاً .
حكمها التّكليفيّ :
6 - اختلف الفقهاء في حكم الإعارة بعد إجماعهم على جوازها ، فذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ حكمها في الأصل النّدب ، لقوله تعالى : { وافعلوا الخير } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « كلّ معروفٍ صدقةٌ » وليست واجبةً لأنّها نوعٌ من الإحسان لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا أدّيت زكاة مالكٍ فقد قضيت ما عليك » ، وقوله : « ليس في المال حقٌّ سوى الزّكاة » .
وقيل : هي واجبةٌ . واستدلّ القائلون بالوجوب بقوله تعالى : { فويلٌ للمصلّين الّذين هم عن صلاتهم ساهون الّذين هم يراءون ويمنعون الماعون } نقل عن كثيرٍ من الصّحابة أنّها عاريّة القدر والدّلو ونحوهما .
قال صاحب الشّرح الصّغير : وقد يعرض لها الوجوب ، كغنيٍّ عنها ، فيجب إعارة كلّ ما فيه إحياء مهجةٍ محترمةٍ لا أجرة لمثله ، وكذا إعارة سكّينٍ لذبح مأكولٍ يخشى موته ، وهذا المنقول عن المالكيّة لا تأباه قواعد المذاهب الأخرى .
وقد تكون حراماً كإعطائها لمن تعينه على معصيةٍ .
وقد تكون مكروهةً كإعطائها لمن تعينه على فعلٍ مكروهٍ .
أركان الإعارة :
7 - قال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إنّ أركان العاريّة أربعةٌ هي : المعير ، والمستعير ، والمعار ، والصّيغة ، وذهب الحنفيّة - كما في سائر العقود - إلى أنّ ركنها هو الصّيغة فقط ، وما عداه يسمّى أطراف العقد ، كما يسمّى المعار محلاًّ .
أ - المعير : ويشترط فيه أن يكون مالكاً للتّصرّف في الشّيء المعار ، مختاراً يصحّ تبرّعه ، فلا تصحّ إعارة مكرهٍ ، ولا محجورٍ عليه ، ولا إعارة من يملك الانتفاع دون المنفعة كسكّان مدرسةٍ موقوفةٍ . وقد صرّح الحنفيّة بأنّ الصّبيّ المأذون إذا أعار ماله صحّت الإعارة .
ب - المستعير : وهو طالب الإعارة ، ويشترط فيه أن يكون أهلاً للتّبرّع عليه بالشّيء المعار ، وأن يكون معيّناً ، فلو فرش بساطه لمن يجلس عليه لم يكن عاريّةً ، بل مجرّد إباحةٍ .
ج - المستعار ( المحلّ ) : هو الّذي يمنحه المعير للمستعير للانتفاع به . ويشترط فيه أن يكون منتفعاً به انتفاعاً مباحاً مقصوداً مع بقاء عينه . أمّا ما تذهب عينه بالانتفاع به كالطّعام فليس إعارةً ، كما لا تحلّ إذا كانت الإعارة لانتفاعٍ محرّمٍ ، كإعارة السّلاح لأهل البغي أو الفساد ، ولا يعار ما لا نفع فيه .
د - الصّيغة : وهي كلّ ما يدلّ على الإعارة من لفظٍ أو إشارةٍ أو فعلٍ ، وهذا عند المالكيّة والحنابلة . والصّحيح عند الشّافعيّة أنّه لا بدّ من اللّفظ للقادر عليه . أو الكتابة مع النّيّة ، وفي غير الصّحيح أنّها تجوز بالفعل .
وعند الحنفيّة أنّ ركن الإعارة الإيجاب بالقول من المعير ، ولا يشترط القول في القبول ، خلافاً لزفر فإنّه ركنٌ عنده ، وهو القياس ، وتنعقد عندهم بكلّ لفظٍ يدلّ عليها ولو مجازاً .
ما تجوز إعارته :
8 - تجوز إعارة كلّ عينٍ ينتفع بها منفعةً مباحةً مع بقائها ، كالدّور والعقار والدّوابّ والثّياب والحليّ للّبس ، والفحل للضّراب ، والكلب للصّيد ، وغير ذلك ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم استعار أدرعاً من صفوان » . وذكر إعارة الدّلو والفحل . وذكر ابن مسعودٍ عاريّة القدر والميزان ، فيثبت الحكم في هذه الأشياء . وما عداها مقيسٌ عليها إذا كان في معناها . ولأنّ ما جاز للمالك استيفاؤه من المنافع ملك إعارته إذا لم يمنع منه مانعٌ ، ولأنّها أعيانٌ تجوز إجارتها فجازت إعارتها . ويجوز استعارة الدّراهم والدّنانير ليزن بها أو للتّزيّن ، فإن استعارها لينفقها فهذا قرضٌ ، وقيل : ليس هذا جائزاً ولا تكون العاريّة في الدّنانير . وقال الحنفيّة : إنّه تجوز أيضاً إعارة المشاع سواءٌ أكان قابلاً للقسمة أم لا . وسواءٌ أكان الجزء المشاع مع شريكٍ أم مع أجنبيٍّ ، وسواءٌ أكانت العاريّة من واحدٍ أم من أكثر ، لأنّ جهالة المنفعة لا تفسد الإعارة . ولم نعثر على حكم ذلك عند غير الحنفيّة .
طبيعتها من حيث اللّزوم وعدمه :
9 - إذا تمّت الإعارة بتحقّق أركانها وشروطها ، فهل تلزم بحيث لا يصحّ الرّجوع فيها من المعير أو لا تلزم ؟
ذهب جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) إلى أنّ الأصل أنّ للمعير أن يرجع في إعارته متى شاء ، سواءٌ أكانت الإعارة مطلقةً أم مقيّدةً بعملٍ أو وقتٍ ، إلاّ أنّ الحنابلة قالوا : إن أعاره شيئاً لينتفع به انتفاعاً يلزم من الرّجوع في العاريّة في أثنائه ضررٌ بالمستعير لم يجز له الرّجوع ، لأنّ الرّجوع يضرّ بالمستعير ، فلم يجز له الإضرار به ، مثل أن يعيره لوحاً يرقّع به سفينته ، فرقّعها به ولجّج بها في البحر ، لم يجز له الرّجوع ما دامت في البحر ، وله الرّجوع قبل دخولها في البحر وبعد الخروج منه ، لعدم الضّرر فيه .
وقال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة : إذا رجع المعير في إعارته بطلت ، وتبقى العين في يد المستعير بأجر المثل إذا حصل ضررٌ ، كمن استعار جدار غيره لوضع جذوعه فوضعها ، ثمّ باع المعير الجدار ، ليس للمشتري رفعها ، وقيل : له رفعها إلاّ إذا شرط البائع وقت البيع بقاء الجذوع . وقد ارتضى القول بالرّفع صاحب الخلاصة والبزّازيّة وغيرهما ، واعتمده في تنوير البصائر ، وقالوا أيضاً : إنّ للوارث أن يأمر الجار برفع الجذوع على أيّ حالٍ .
وقال المالكيّة : إن أعار المعير أرضاً للبناء أو الغراس إعارةً مطلقةً ، ولم يحصل غرسٌ ولا بناءٌ فللمعير الرّجوع في الإعارة ولا شيء عليه على المعتمد ، وعلى غير المعتمد يلزمه بقاء الأرض في يد المستعير المدّة المعتادة ، وإن رجع المعير بعد حصول الغراس والبناء فله ذلك أيضاً ، ويترتّب عليه إخراج المستعير من الأرض ولو كانت الإعارة قريبةً ، لتفريط المستعير بتركه اشتراط الأجل ، لكن ماذا يلزم المعير حينئذٍ ؟ في قولٍ أنّه يلزمه دفع ما أنفق المستعير من ثمن الأعيان الّتي بنى بها أو غرسها من أجرة النّقلة . وفي قولٍ إنّ عليه دفع القيمة إن طال زمن البناء والغرس لتغيّر الغرس والبناء بطول الزّمان . وفي قولٍ إنّ محلّ دفع القيمة إذا كانت الأعيان الّتي بنى بها المستعير هي في ملكه ولم يشترها أو كانت من المباحات . ومحلّ دفع ما أنفق إن اشتراه للعمارة . وكلّ ذلك في الإعارة الصّحيحة ، فإن وقعت فاسدةً فعلى المستعير أجرة المثل ، ويدفع له المعير في بنائه وغرسه قيمته .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الإعارة إن قيّدت بعملٍ أو أجلٍ لزمت ، ولا يجوز الرّجوع قبل انتهاء العمل أو الأجل أيّاً كان المستعار ، أرضاً لزراعةٍ أو لسكنى أو لوضع شيءٍ بها ، أو كان حيواناً لركوبٍ أو حملٍ أو غير ذلك ، أو عرضاً .
وإن لم تقيّد بعملٍ أو أجلٍ بأن أطلقت فلا تلزم ، ولربّها أخذها متى شاء ، ولا يلزم قدر ما تقصد الإعارة لمثله عادةً على المعتمد . وفي غير المعتمد أنّه يلزم بقاؤه في يد المستعير لما يعار لمثله عادةً . وقيل : إنّه تلزم إذا أعيرت الأرض للبناء والغرس وحصلا .
ودليل جواز الرّجوع إلاّ فيما استثني أنّ الإعارة مبرّةٌ من المعير ، وارتفاقٌ من المستعير ، فالإلزام غير لائقٍ بها .
وقال الحنفيّة : إذا أذن أحدٌ لبعض ورثته ببناء محلٍّ في داره ، ثمّ مات ، فلباقي الورثة مطالبته برفعه إن لم تقع القسمة ، أو لم يخرج في قسمه . وإذا استعار أحدٌ داراً ، فبنى فيها بلا إذن المالك . أو قال له صاحب الدّار : ابن لنفسك ، ثمّ باع المعير الدّار بحقوقها يؤمر الباني بهدم بنائه .
وذكر الشّافعيّة والحنابلة أنّه لو أعار إنسانٌ مدفناً لدفن ميّتٍ ، فلا يجوز له الرّجوع حتّى يندرس أثر المدفون بحيث لا يبقى منه شيءٌ ، فيرجع حينئذٍ وتنتهي العاريّة .
وحكم الورثة حكم مورّثهم في عدم الرّجوع ، ولا أجرة لذلك ، محافظةً على كرامة الميّت ، ولقضاء العرف بعدم الأجرة ، والميّت لا مال له . وقواعد المذاهب الأخرى لا تأبى هذا الحكم .
آثار الرّجوع :
10 - قال الحنفيّة : إنّ المعير إذا رجع في إعارته بطلت الإعارة ، ويبقى المعار في يد المستعير بأجر المثل كما مرّ إن حصل ضررٌ للمستعير بأخذ المعار منه . وأوردوا الأحكام الخاصّة بكلّ نوعٍ ممّا يعار . فقالوا في إعارة الأرض للبناء والغرس : لو أعار أرضاً إعارةً مطلقةً للبناء والغرس صحّ للعلم بالمنفعة ، وله أن يرجع متى شاء ، ويكلّف المعير المستعير قلع الزّرع والبناء إلاّ إذا كان فيه مضرّةٌ بالأرض ، فيتركان بالقيمة مقلوعين ، لئلاّ تتلف أرضه ، أو يأخذ المستعير غراسه وبناءه بلا تضمين المعير . وذكر الحاكم الشّهيد أنّ للمستعير أن يضمّن المعير قيمتهما قائمين في الحال ويكونان له وأن يرفعها ، إلاّ إذا كان الرّفع مضرّاً بالأرض فحينئذٍ يكون الخيار للمعير . وفيه رمزٌ إلى أنّه لا ضمان في العاريّة المطلقة . وعنه أنّ عليه القيمة . وأشار أيضاً إلى أنّه لا ضمان في المؤقّتة بعد انقضاء الوقت فيقلع المعير البناء والغرس إلاّ أن يضرّ القلع بالأرض ، فحينئذٍ يضمن قيمتهما مقلوعين لا قائمين .
وإن وقّت المعير الإعارة فرجع عنها قبل الوقت كلّف المستعير قلعها ، وضمن المعير له ما نقص البناء والغرس ، لكن هل يضمنهما قائمين أو مقلوعين ؟ .
ما مشى عليه الكنز والهداية أنّه يضمنهما مقلوعين ، وذكر في البحر عن المحيط ضمان القيمة قائماً إلاّ أن يقلعه المستعير ولا ضرر ، فإن ضمن فضمان القيمة مقلوعاً . وعبارة المجمع : وألزمناه الضّمان فقيل : ما نقصهما القلع ، وقيل : قيمتهما ويملكهما . وقيل : إن ضرّ يخيّر المالك بين ضمان ما نقص ، وضمان القيمة ، ومثله في درر البحار والمواهب والملتقى وكلّهم قدّموا الأوّل ، وبعضهم جزم به وعبّر عن غيره بقيل فلذا اختاره المصنّف ابن عابدين وهو رواية القدوريّ ، والثّاني رواية الحاكم الشّهيد .
وقال القاضي زكريّا الأنصاريّ في المنهج : إذا أعار لبناءٍ أو غرسٍ ، ولو إلى مدّةٍ ، ثمّ رجع بعد أن بنى المستعير أو غرس ، فإن شرط عليه قلعه لزمه ، وإن لم يشرط فإن اختار المستعير القلع قلع مجّاناً ولزمه تسوية الأرض ، لأنّه قلع باختياره ، وإن لم يختر قلعه خيّر المعير بين تملّكه بقيمته مستحقّ القلع حين التّملّك ، وبين قلعه مع ضمان نقصه ، وهو قدر التّفاوت بين قيمته قائماً وقيمته مقلوعاً وبين تبقيته بأجرةٍ .
وقال الحنابلة : إن أعاره أرضاً للغراس والبناء ، وشرط عليه القلع في وقتٍ أو عند رجوعه ، ثمّ رجع لزم المستعير القلع ، وإن لم يشترط لم يلزمه إلاّ أن يضمن له المعير النّقص ، فإن أبى القلع في الحال الّتي لا يجبر عليه فيها ، فبذل له المعير قيمة الغراس والبناء ليملكه أجبر المستعير عليه ، فإن امتنع المعير من دفع القيمة وأرش النّقص ، وامتنع المستعير من القلع ودفع الأجر لم يقلع ، وإن أبيا البيع ترك بحاله وللمعير التّصرّف بأرضه على وجهٍ لا يضرّ بالشّجر .
إعارة الأرض للزّرع :
11 - للفقهاء اختلافٌ وتفصيلٌ في الحكم الّذي يترتّب على الرّجوع في إعارة الأرض للزّراعة قبل تمام الزّرع .
فمذهب الحنفيّة ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة ، وهو الوجه المقدّم عند الحنابلة ، وعليه المذهب ، وهو القول غير المعتمد عند المالكيّة أنّ معير الأرض للزّراعة إذا رجع قبل تمام الزّرع وحصاده فليس له أخذها من المستعير ، بل تبقى في يده بأجر المثل . وهذا الحكم عند الحنفيّة استحسانٌ سواءٌ أكانت الإعارة مطلقةً أم مقيّدةً .
وحجّتهم في ذلك : أنّه يمكن الجمع بين مصلحة المعير والمستعير ، بأن يأخذ المعير أجر مثل الأرض من تاريخ رجوعه حتّى حصاد الزّرع ، فينتفي ضرره بذلك ، ويبقى الزّرع في الأرض حتّى يحصد . وفي ذلك مصلحة المستعير ، فلا يضرّ بالقلع قبل الحصاد ، وهذا هو الأصحّ عند الشّافعيّة في الإعارة المطلقة إن نقص الزّرع بالقلع ، لأنّه محترمٌ ، وله أمدٌ ينتهي إليه ، وتبقى بأجر المثل .
وللمالكيّة ثلاثة أقوالٍ في الإعارة المطلقة :
أحدها : هذا .
والثّاني : أنّ الأرض تبقى في يد المستعير المدّة الّتي تراد الأرض لمثلها عادةً .
والثّالث : لا تبقى ، وهو قول أشهب . أمّا المقيّدة بعملٍ أو أجلٍ فلا يرجع قبل انقضاء العمل أو الأجل .
ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة ألاّ أجرة على المستعير ، بل تبقى الأرض في يده حتّى الحصاد بلا أجرٍ ، لأنّ منفعة الأرض إلى الحصاد . والثّالث أنّ للمعير القلع لانقطاع الإباحة .
ومذهب الحنابلة كمذهب الحنفيّة في عدم جواز الرّجوع ، لكنّهم قالوا : إن كان الزّرع ممّا يحصد قصيلاً فله الرّجوع في وقت إمكان حصاده ، ولم يتعرّض الحنفيّة لهذا النّوع من الزّرع ، كالبرسيم والشّعير الأخضر .
إعارة الدّوابّ وما في معناها :
12 - قال الحنفيّة : إنّ إعارة الدّوابّ إمّا أن تكون مطلقةً أو مقيّدةً ، فإن كانت مطلقةً ، بأن أعار دابّته مثلاً ولم يسمّ مكاناً ولا زماناً ولا ركوباً ولا حملاً معيّناً فللمستعير أن يستعملها في أيّ زمانٍ ومكانٍ شاء ، وله أن يحمل أو يركب ، لأنّ الأصل في المطلق أن يجري على إطلاقه ، وقد ملّكه منافع العاريّة مطلقاً فكان له أن يستوفيها على الوجه الّذي ملكها . إلاّ أنّه لا يحمل عليها ما يضرّها ، ولا يستعملها أكثر ممّا جرى به العرف ، حتّى لو فعل فعطبت ضمن ، لأنّ العقد وإن خرج مخرج الإطلاق لكنّ المطلق يتقيّد بالعرف والعادة دلالةً ، كما يتقيّد نصّاً .
ولا يملك المستعير تأجير العاريّة ، فإن أجّرها وسلّمها إلى المستأجر فهلكت عنده ضمن المستعير أو المستأجر ، لكن إذا ضمن المستأجر رجع على المستعير .
وإذا قيّد المعير الإعارة تقيّدت بما قيّدها به . فإن خالف المستعير ، وعطبت الدّابّة ضمن بالاتّفاق . وإن خالف وسلّمت فهناك اتّجاهان : المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة يرون أنّ المستعير يضمن أجر ما زاد في المسافة أو الحمل وتقدير ذلك يرجع فيه إلى أهل الخبرة . ولم يتعرّض الحنفيّة لهذا الفرع في كتاب الإعارة ولكن تعرّضوا لهذه المسألة في كتاب الإجارة فقالوا : ( إذا زاد على الدّابّة شيئاً غير متّفقٍ عليه وسلّمت يجب عليه المسمّى فقط ، وإن كان لا يحلّ له الزّيادة إلاّ برضى المكاري ) .
ولمّا كان كلٌّ من الإعارة والإجارة فيه تمليك المنفعة وكان أخذ الأجر في الإجارة مسلّماً وفي الإعارة غير مسلّمٍ ، لأنّها من باب الإحسان والتّبرّع ، فإنّ عدم وجوب أجرٍ في مقابلة الزّيادة يكون في الإعارة من بابٍ أولى .
فإذا أعار إنساناً دابّةً على أن يركبها المستعير بنفسه فليس له أن يعيرها غيره . لأنّ الأصل في المقيّد اعتبار القيد فيه إلاّ إذا تعذّر اعتباره . والاعتبار في هذا القيد ممكنٌ ، لأنّه مقيّدٌ لتفاوت النّاس في استعمال الدّوابّ ، فإن خالف المستعير وأعار الدّابّة فهلكت ضمن .
تعليقها وإضافتها :
13 - جمهور الفقهاء المالكيّة والشّافعيّة - ما عدا الزّركشيّ - وفي قولٍ للحنفيّة أنّه لا يجوز إضافتها ، ولا تعليقها ، لأنّها عقدٌ غير لازمٍ فله الرّجوع متى شاء .
وفي قولٍ آخر للحنفيّة جواز إضافتها دون تعليقها .
وقد ذكر بعض المالكيّة والشّافعيّة فروعاً ظاهرها أنّها تعليقٌ أو إضافةٌ كقولهم : أعرني دابّتك اليوم أعيرك دابّتي غداً ، والواقع أنّها إجارةٌ لا إعارةٌ . ولم نطّلع على تصريحٍ للحنابلة بحكم إضافة الإعارة أو تعليقها . وإن كانوا قد صرّحوا بأنّ الأصل في الإعارة عدم لزومها .
حكم الإعارة وأثرها :
14 - مذهب الحنفيّة - عدا الكرخيّ - ومذهب المالكيّة ، وهو وجهٌ للحنابلة ، وهو المرويّ عن الحسن والنّخعيّ والشّعبيّ وعمر بن عبد العزيز والثّوريّ والأوزاعيّ وابن شبرمة أنّ الإعارة تفيد تمليك المنفعة ، والدّليل على ذلك أنّ المعير سلّط المستعير على تحصيل المنافع ، وصرفها إلى نفسه على وجهٍ زالت يده عنها ، والتّسليط على هذا الوجه يكون تمليكاً لا إباحةً ، كما في الأعيان .
ومذهب الشّافعيّة والحنابلة والكرخيّ من الحنفيّة وهو المرويّ عن ابن عبّاسٍ وأبي هريرة وذهب إليه إسحاق أنّها تفيد إباحة المنفعة ، وذلك لجواز العقد من غير أجلٍ ، ولو كان تمليك المنفعة لما جاز من غير أجلٍ كالإجارة .
وكذلك الإعارة تصحّ بلفظ الإباحة ، والتّمليك لا ينعقد بلفظ الإباحة .
وثمرة الخلاف تظهر فيما لو أعار المستعير الشّيء المستعار إلى من يستعمله كاستعماله ، فهل تصحّ إعارته أو لا تصحّ ؟ مذهب المالكيّة والمختار من مذهب الحنفيّة أنّ إعارته صحيحةٌ ، حتّى ولو قيّد المعير الإعارة باستعمال المستعير بنفسه ، لأنّ التّقييد بما لا يختلف غير مفيدٍ . وعند الشّافعيّة والحنابلة لا يجوز .
وفي البحر : وللمستعير أن يودع ، على المفتى به ، وهو المختار ، وصحّح بعضهم عدمه ، ويتفرّع عليه ما لو أرسلها على يد أجنبيٍّ فهلكت ضمن على القول الثّاني لا الأوّل . فللمعير أجر المثل . ويترتّب على مذهب القائلين بالإباحة ، وهم الشّافعيّة والحنابلة والكرخيّ من الحنفيّة ، أنّه لو أعار المستعير الشّيء فلمالك العاريّة أجر المثل ، ويطالب المستعير الأوّل أو الثّاني أيّهما شاء ، لأنّ المستعير الأوّل سلّط غيره على أخذ مال المعير بغير إذنه . ولأنّ المستعير الثّاني استوفى المنفعة بغير إذن مالكها . فإن ضمّن المالك المستعير الأوّل رجع على المستعير الثّاني ، لأنّ الاستيفاء حصل منه فاستقرّ الضّمان عليه . وإن ضمّن الثّاني لم يرجع على الأوّل . إلاّ أن يكون الثّاني لم يعلم بحقيقة الحال ، فيحتمل أن يستقرّ الضّمان على الأوّل ، لأنّه غرّ الثّاني ودفع العين إليه على أنّه يستوفي منافعها بدون عوضٍ . وإن تلفت العين في يد الثّاني ، استقرّ الضّمان عليه بكلّ حالٍ ، لأنّه قبضها على أن تكون مضمونةً عليه . فإن رجع على الأوّل رجع الأوّل على الثّاني . وإن رجع على الثّاني لم يرجع على أحدٍ .
ضمان الإعارة :
15 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ العاريّة إن تلفت بالتّعدّي من المستعير فإنّه يضمنها ، لأنّها إن كانت أمانةً كما يقول الحنفيّة : فالأمانات تضمن بالتّعدّي . ومذهب المالكيّة كذلك فيما لا يغاب عليه ، أي لا يمكن إخفاؤه ، كالعقار والحيوان ، بخلاف ما يمكن إخفاؤه ، كالثّياب والحليّ فإنّه يضمنه ، إلاّ إذا أقام بيّنةً على أنّه تلف أو ضاع بلا سببٍ منه ، وقالوا : إنّه لا ضمان في غير ما ذكر .
وعند الشّافعيّة والحنابلة يضمن المستعير بهلاك الشّيء المعار ، ولو كان الهلاك بآفةٍ سماويّةٍ ، أو أتلفها هو أو غيره ولو بلا تقصيرٍ . وقالوا : إن تلفت باستعمالٍ مأذونٍ فيه ، كاللّبس والرّكوب المعتاد لم يضمن شيئاً ، لحصول التّلف بسببٍ مأذونٍ فيه .
وحجّة الحنفيّة حديث : « ليس على المستعير غير المغلّ ضمانٌ » والمغلّ هو الخائن . ولأنّ الضّمان إمّا أن يجب بالعقد أو بالقبض أو بالإذن ، وليس هنا شيءٌ من ذلك . أمّا العقد فلأنّ اللّفظ الّذي تنعقد به العاريّة لا ينبئ عن التزام الضّمان ، لأنّه لتمليك المنافع بغير عوضٍ أو لإباحتها على الاختلاف . وما وضع لتمليك المنافع لا يتعرّض فيه للعين حتّى يوجب الضّمان عند هلاكه .
وأمّا القبض فإنّما يوجب الضّمان إذا وقع بطريق التّعدّي ، وما هنا ليس كذلك ، لكونه مأذوناً فيه . وأمّا الإذن فلأنّ إضافة الضّمان إليه فسادٌ في الوضع ، لأنّ إذن المالك في قبض الشّيء ينفي الضّمان فكيف يضاف إليه . واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث صفوان « بل عاريّةٌ مضمونةٌ » وبقوله صلى الله عليه وسلم « على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي » . ولأنّه أخذ ملك غيره لنفع نفسه منفرداً بنفعه من غير استحقاقٍ ، ولا إذنٍ في الإتلاف ، فكان مضموناً كالغاصب والمأخوذ على وجه العموم . واستدلّ المالكيّة في التّفرقة بين ما يمكن إخفاؤه وما لا يمكن بحمل أحاديث الضّمان ، على ما يمكن إخفاؤه ، والأحاديث الأخرى على ما لا يمكن إخفاؤه .
ثمّ قال الحنفيّة : إنّ الإتلاف يكون حقيقةً ، ويكون معنًى . فالإتلاف حقيقةً بإتلاف العين ، كعطب الدّابّة بتحميلها ما لا يحمله مثلها ، أو استعمالها فيما لا يستعمل مثلها فيه ، والإتلاف معنًى بالمنع بعد الطّلب ، أو بعد انقضاء المدّة ، أو بجحود الإعارة أو بترك الحفظ ، أو بمخالفة الشّروط في استعمالها ، فلو حبس العاريّة بعد انقضاء المدّة أو بعد الطّلب قبل انقضاء المدّة يضمن لأنّها واجبة الرّدّ في هاتين الحالتين ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « العاريّة مؤدّاةٌ » وقوله عليه الصلاة والسلام « على اليد ما أخذت حتّى تردّه » . ولأنّ حكم العقد انتهى بانقضاء المدّة أو الطّلب ، فصارت العين في يده كالمغصوب . والمغصوب مضمون الرّدّ حال قيامه ، ومضمون القيمة حال هلاكه .
ولم ينصّ المالكيّة على المراد بالهلاك عندهم ، ولكن يفهم من كلامهم السّابق في إعارة الدّوابّ أنّ المراد به تلف العين . قالوا : وإن ادّعى المستعير أنّ الهلاك أو الضّياع ليس بسبب تعدّيه أو تفريطه في الحفظ فهو مصدّقٌ في ذلك بيمينه ، إلاّ أن تقوم بيّنةٌ أو قرينةٌ على كذبه ، وسواءٌ في ذلك ما يغاب عليه وما لا يغاب .
شرط نفي الضّمان :
16 - قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو أحد وجهين عند المالكيّة : إنّ شرط نفي الضّمان فيما يجب ضمانه لا يسقطه ، وقال أبو حفصٍ العكبريّ من الحنابلة : يسقط ، وقال أبو الخطّاب : أومأ إليه أحمد ، وهو قول قتادة والعنبريّ ، لأنّه لو أذن في إتلاف العين المعارة لم يجب ضمانها ، فكذلك إذا أسقط عنه ضمانها . وقيل : بل مذهب قتادة والعنبريّ أنّها لا تضمن إلاّ أن يشترط ضمانها ، فيجب ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لصفوان « بل عاريّةٌ مضمونةٌ » .
واستدلّ لعدم سقوط الضّمان بأنّ كلّ عقدٍ اقتضى الضّمان لم يغيّره الشّرط ، كالمقبوض ببيعٍ صحيحٍ أو فاسدٍ ، وما اقتضى الأمانة فكذلك ، كالوديعة والشّركة والمضاربة .
والوجه الآخر عند المالكيّة أنّه لا يضمن بشرط السّقوط ، لأنّه معروفٌ من وجهين : العاريّة معروفٌ ، وإسقاط الضّمان معروفٌ آخر ، ولأنّ المؤمن عند شرطه . ونصّ الحنفيّة أنّ شرط الضّمان باطلٌ كشرط عدمه ، خلافاً للجوهرة ، حيث جزم فيها بصيرورتها مضمونةً بشرط الضّمان .
وذهب الشّافعيّة في المعتمد عندهم - وهو قول أكثر الحنفيّة - إلى أنّه لو أعار عيناً بشرط ضمانها عند تلفها بقدرٍ معيّنٍ فسد الشّرط دون العاريّة . قال الأذرعيّ من الشّافعيّة وفيه وقفةٌ . ولا يرد هنا مذهب الحنابلة لأنّهم يقولون بالضّمان مطلقاً .
كيفيّة التّضمين :
17 - مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، وهو مقابل المعتمد عند الشّافعيّة أنّه يجب ضمان العين بمثلها إن كانت مثليّةً ، وإلاّ فبقيمتها يوم التّلف .
والأصحّ عند الشّافعيّة أنّه إذا وجب الضّمان في العاريّة فإنّها تضمن بقيمتها يوم التّلف ، متقوّمةً كانت أو مثليّةً ، لأنّ ردّ مثل العين مع استعمال جزءٍ منها متعذّرٌ ، فصار بمنزلة فقد المثل ، فيرجع للقيمة ، ولا تضمن العاريّة بأقصى القيمة ، ولا بيوم القبض .
الاختلاف بين المعير والمستعير :
18 - تقدّم أنّ الحنفيّة يقولون : إنّ العاريّة من الأمانات فلا تضمن . وكذلك المالكيّة فيما لا يخفى . وفرّعوا على ذلك أنّها لا تضمن ، إلاّ بالتّعدّي ، وأنّ الأمين يصدّق فيما يدّعيه بيمينه . واعتبار المقبوض عاريّةً أو غير عاريّةٍ ، وأنّ هناك تعدّياً أم لا ، يرجع فيه للعرف والعادة . فقد قال الحنفيّة : إنّه إذا اختلف ربّ الدّابّة والمستعير فيما أعارها له ، وقد عقرها الرّكوب أو الحمولة ، فالقول قول ربّ الدّابّة . وقال ابن أبي ليلى : القول قول المستعير . وحجّته أنّ ربّ الدّابّة يدّعي على المستعير سبب الضّمان ، وهو المخالفة في الاستعمال ، وهو منكرٌ لذلك فالقول قوله . واحتجّ الحنفيّة بأنّ الإذن في الاستعمال يستفاد من جهة صاحب الدّابّة ، ولو أنكر أصل الإذن كان القول قوله ، فكذلك إذا أنكر الإذن على الوجه الّذي انتفع به المستعير . وفي الولوالجية : إذا جهّز الأب ابنته ثمّ مات فجاء ورثته يطلبون قسمة الجهاز بينهم ، فإن كان الأب اشترى لها الجهاز في صغرها أو بعدما كبرت ، وسلّمه إليها في حال صحّته ، فليس للورثة حقٌّ فيه بل هو للبنت خاصّةً .
فهذا يدلّ على أنّ قبول قول المالك أنّها عاريّةٌ بيمينه ليس على إطلاقه ، بل ذلك إذا صدّقه العرف . وقالوا : كلّ أمينٍ ادّعى إيصال الأمانة إلى مستحقّها قبل قوله بيمينه ، كالمودع إذا ادّعى الرّدّ والوكيل والنّاظر ، وسواءٌ كان ذلك في حياة مستحقّها أو بعد موته ، إلاّ في الوكيل بقبض الدّين ، إذا ادّعى بعد موت الموكّل أنّه قبضه ودفعه له في حياته لم يقبل قوله ، إلاّ ببيّنةٍ .
ولو جهّز ابنته بما يجهّز به مثلها ، ثمّ قال : كنت أعرتها الأمتعة . إن كان العرف مستمرّاً بين النّاس أنّ الأب يدفع الجهاز ملكاً لا إعارةً ، لا يقبل قوله إنّه إعارةٌ ، لأنّ الظّاهر يكذّبه . وإن لم يكن العرف كذلك أو تارةً وتارةً فالقول له في جميع الجهاز ، لا في الزّائد على جهاز مثلها ، والفتوى على ذلك . وإن كان الجهاز أكثر ممّا يجهّز به مثلها فالقول له اتّفاقاً . والمالكيّة كالحنفيّة في أنّ المستعير يصدّق بيمينه ، إذ قالوا : إذا هلكت العين المعارة واختلف المعير والمستعير في سبب هلاكها أو تعيّبها ، فقال المعير : هلكت أو تعيّبت بسبب تفريطك ، وقال المستعير : ما فرّطت ، فإنّه يصدّق بيمينه أنّها ما هلكت أو تعيّبت بسبب تفريطه . فإن نكل غرم بنكوله . ولا تردّ اليمين على المدّعي لأنّها يمين تهمةٍ .
وإذا وجب الضّمان على المستعير فعليه جميع قيمته في حالة الهلاك ، أو عليه الفرق بين قيمته سليماً ومتعيّباً . وإن كان المستعار غير آلة حربٍ كفأسٍ ونحوه ، وأتى به إلى المعير مكسوراً فلا يخرجه من الضّمان ، إلاّ أن تشهد البيّنة أنّه استعمله استعمالاً معهوداً في مثله ، فإن شهدت البيّنة بعكسه فكسر لزمه الضّمان .
وإذا اختلف المالك والمنتفع في كون العين عاريّةً أو مستأجرةً ينظر : فإن كان الاختلاف قبل مضيّ مدّةٍ لمثلها أجرٌ ، ردّت العين إلى مالكها ، وصرّح الحنابلة هنا بتحليف مدّعي الإعارة . وإن كان الاختلاف بعد مضيّ مدّةٍ لمثلها أجرٌ ، فقد صرّح الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بأنّ القول قول المالك مع يمينه ، لأنّ المنتفع يستفيد من المالك ملك الانتفاع ، ولأنّ الظّاهر يشهد له فكان القول قول المالك في التّعيين ، لكن مع اليمين ، دفعاً للتّهمة .
19 - وإن اختلفا في كونها عاريّةً أو مستأجرةً بعد تلف العين : فمذهب الشّافعيّة والحنابلة كما قال ابن قدامة : إن اختلفا في ذلك بعد مضيّ مدّةٍ لمثلها أجرٌ وتلفت البهيمة ، وكان الأجر بقدر قيمتها ، أو كان ما يدّعيه المالك منهما أقلّ ممّا يعترف به الرّاكب ، فالقول قول المالك بغير يمينٍ . سواءٌ ادّعى الإجارة أو الإعارة ، إذ لا فائدة في اليمين على شيءٍ يعترف له به . ويحتمل ألاّ يأخذه إلاّ بيمينٍ ، لأنّه يدّعي شيئاً لا يصدّق فيه ، ويعترف له الرّاكب بما يدّعيه فيحلف على ما يدّعيه ، وإن كان ما يدّعيه المالك أكثر ، مثل إن كانت قيمة البهيمة أكثر من أجرها فادّعى المالك أنّها عاريّةٌ لتجب له القيمة ، وأنكر استحقاق الأجرة ، وادّعى الرّاكب أنّها مكتراةٌ ، أو كان الكراء أكثر من قيمتها ، فادّعى المالك أنّه أجّرها ليجب له الكراء ، وادّعى الرّاكب أنّها عاريّةٌ ، فالقول قول المالك في الصّورتين ، فإذا حلف استحقّ ما حلف عليه .
وقواعد الحنفيّة والمالكيّة تقتضي أنّ القول حينئذٍ قول من يدّعي الإعارة ، لأنّه ينفي الأجرة . وأمّا الضّمان فلا ضمان على كلّ حالٍ في الإجارة والإعارة .
فإن تلفت العين قبل ردّها تلفاً تضمن به العاريّة فقد اتّفقا على الضّمان لها ، لضمان كلٍّ من العاريّة والمغصوب .
وإذا اختلفا ، فادّعى المالك الغصب ، وادّعى المنتفع الإعارة ، فإن كان قبل الاستعمال والدّابّة تالفةٌ فالقول قول المنتفع ، لأنّه ينفي الضّمان ، والأصل براءة الذّمّة ، وإن كان بعد الاستعمال فالقول قول المالك مع يمينه ، لأنّ الظّاهر أنّ الهلاك جاء من الاستعمال .
وقال الشّافعيّة والحنابلة : إن كان الاختلاف عقيب العقد ، والدّابّة قائمةٌ لم يتلف منها شيءٌ ، فلا معنى للاختلاف ، ويأخذ المالك بهيمته . وكذلك إن كانت الدّابّة تالفةً ، لأنّ القيمة تجب على المستعير كوجوبها على الغاصب .
وإن كان الاختلاف بعد مضيّ مدّةٍ لمثلها أجرٌ فالاختلاف في وجوبه ، والقول قول المالك ، لأنّه ينكر انتقال الملك إلى الرّاكب ، والرّاكب يدّعيه والقول قول المنكر ، لأنّ الأصل عدم الانتقال ، فيحلف ويستحقّ الأجرة .
نفقة العاريّة :
20 - ذهب الشّافعيّة - ما عدا القاضي حسينٍ - والحنابلة ، وهو المعتمد عند المالكيّة إلى أنّ نفقة العاريّة الّتي بها بقاؤها كالطّعام مدّة الإعارة على مالكها ، لأنّها لو كانت على المستعير لكان كراءً ، وربّما كان ذلك أكثر من الكراء فتخرج العاريّة عن المعروف إلى الكراء ، ولأنّ تلك النّفقة من حقوق الملك .
ومذهب الحنفيّة ، وغير المعتمد عند المالكيّة ، وهو ما اختاره القاضي حسينٌ من الشّافعيّة أنّ ذلك على المستعير ، لأنّ مالك الدّابّة فعل معروفاً فلا يليق أن يشدّد عليه .
وقال بعضهم : إنّها على المستعير في اللّيلة واللّيلتين ، وعلى المعير في المدّة الطّويلة كما في الموّاق ، وقد عكس عبد الباقي الزّرقانيّ .
مئونة ردّ العاريّة :
21 - فقهاء المذاهب الثّلاثة ، وهو الأظهر عند المالكيّة على أنّ مئونة ردّ العاريّة على المستعير ، لخبر « على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي » ، ولأنّ الإعارة مكرمةٌ فلو لم تجعل المئونة على المستعير لامتنع النّاس منها . وهذا تطبيقٌ لقاعدة " كلّ ما كان مضمون العين فهو مضمون الرّدّ " .
وعلى المستعير ردّها إلى الموضع الّذي أخذها منه ، إلاّ أن يتّفقا على ردّها إلى مكان غيره ، لأنّ ما لزم ردّه وجب ردّه إلى موضعه كالمغصوب .
ما يبرأ به المستعير :
22 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المستعير لو ردّ الدّابّة إلى مالكها أو وكيله في قبضها فإنّه يبرأ منها . أمّا إن ردّها بواسطة آخرين وإلى غير المالك والوكيل ففي ذلك خلافٌ وتفصيلٌ : قال الحنفيّة في الاستحسان والمالكيّة : إن ردّ المستعير الدّابّة مع خادمه أو بعض من هو في عياله فلا ضمان عليه إن عطبت ، لأنّ يد من هو في عياله في الرّدّ كيده ، كما أنّ يد من في عياله في الحفظ كيده . والعرف الظّاهر أنّ المستعير يردّ المستعار بيد من في عياله ولهذا يعولهم ، فكان مأذوناً فيه من جهة صاحبها دلالةً . وكذلك إن ردّها إلى خادم صاحب الدّابّة ، وهو الّذي يقوم عليها ، فهو بريءٌ استحساناً . والقياس ألاّ يبرأ ما لم تصل إلى صاحبها ، كالمودع إذا ردّ الوديعة لا يبرأ عن الضّمان ما لم تصل إلى يد صاحبها .
وجه الاستحسان أنّ صاحبها إنّما يحفظ الدّابّة بسائسها . ولو دفع المستعير الدّابّة إلى مالكها فهذا يدفعها إلى السّائس ، فكذلك إذا ردّها على السّائس . والعرف الظّاهر أنّ صاحب الدّابّة يأمر السّائس بدفعها إلى المستعير ، وباستردادها منه إذا فرغت ، فيصير مأذوناً في دفعها إليه دلالةً . وهذا في غير المعار النّفيس ، إذ فيه لا بدّ من التّسليم للمالك ، وإلاّ لم يبرأ . وعند الشّافعيّة أنّه يجوز الرّدّ إلى الحاكم عند غيبة المعير أو الحجر عليه بسفهٍ أو فلسٍ ، فلو ردّ الدّابّة إلى الإسطبل ، والثّوب ونحوه للبيت الّذي أخذه منه لم يبرأ ، إلاّ أن يعلم به المالك أو يخبره به ثقةٌ . وكذلك لا يبرأ عندهم بالرّدّ إلى ولده أو زوجته ، حتّى ولو لم يجد المالك أو وكيله ، بل يجب الضّمان عليهما بالرّدّ إليها ، فإن أرسلاها إلى المرعى وتلفت فالضّمان عليهما ، لحصول التّلف في يدهما ، حتّى لو غرما لم يرجعا على المستعير ، ولو غرم المستعير رجع عليهما .
والحنابلة كالشّافعيّة في أنّه إذا ردّها إلى المكان الّذي أخذها منه ، أو إلى ملك صاحبها لم يبرأ ، لأنّه لم يردّها إلى مالكها ولا نائبه فيها ، كما لو دفعها إلى أجنبيٍّ .
وإن ردّها إلى من جرت عادته بحصول ذلك على يديه ، كزوجته المتصرّفة في ماله ، أو ردّ الدّابّة إلى سائسها ، فقياس المذهب أنّه يبرأ ، قاله القاضي . وقاس ذلك على الوديعة ، وقد قال الإمام أحمد فيها : إذا سلّمها المودع إلى امرأته لم يضمنها ، لأنّه مأذونٌ في ذلك عرفاً أشبه ما لو أذن فيه نطقاً .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ما تنتهي به الإعارة :
23 - تنتهي الإعارة بأحد الأسباب الآتية :
أ- انتهاء المدّة في الإعارة المؤقّتة .
ب- رجوع المعير في الحالات الّتي يجوز فيها الرّجوع .
ت- جنون أحد المتعاقدين .
ث- الحجر عليه لسفهٍ أو فلسٍ .
ج- موت أحد المتعاقدين .
ح- هلاك العين المعارة .
خ- استحقاقها للغير .
استحقاق العاريّة ، وتلف المستعار المستحقّ ، ونقصانه :
24 - يختلف الفقهاء في رجوع المستحقّ على المعير أو المستعير عند تلف المستعار المستحقّ أو نقصانه ، وفيمن يكون عليه قرار الضّمان ، ولهم في ذلك رأيان :
الأوّل : يرجع المستحقّ على المستعير ، وليس له أن يرجع على المعير ، وهو قول الحنفيّة والمالكيّة . وقد علّل الحنفيّة لذلك بأنّ المستعير يأخذ لنفسه ، ولأنّها عقد تبرّعٍ ، والمعير غير عاملٍ له ، فلا يستحقّ السّلامة ، ولا يثبت به الغرور .
الثّاني : الرّجوع على المعير أو المستعير ، وهو قول الشّافعيّة والحنابلة ، فالرّجوع على المعير لتعدّيه بالدّفع للغير ، وأمّا على المستعير فلقبضه مال غيره - وهو المستحقّ - بغير إذنه ، غير أنّهم يختلفون في الّذي يكون عليه قرار الضّمان ، فقال الشّافعيّة : إن رجع على المستعير فلا يرجع على من أعاره ، لأنّ التّلف أو النّقص كان من فعله ، ولم يغرّ بشيءٍ من ماله فيرجع به ، وإن ضمنه المعير فمن اعتبر العاريّة مضمونةً قال : للمعير أن يرجع على المستعير ، لأنّه كان ضامناً ، ومن اعتبر العاريّة غير مضمونةٍ لم يجعل له أن يرجع عليه بشيءٍ ، لأنّه سلّطه على الاستعمال .
وقال الحنابلة : إن ضمن المستعير رجع على المعير بما غرم ، لأنّه غرّه وغرمه ، ما لم يكن المستعير عالماً بالحال فيستقرّ عليه الضّمان ، لأنّه دخل على بصيرةٍ ، وإن ضمّن المالك المعير لم يرجع بها على أحدٍ إن لم يكن المستعير عالماً ، وإلاّ رجع عليه .
أثر استحقاق العاريّة على الانتفاع :
25 - صرّح الحنابلة بأنّه إذا استعار شخصٌ شيئاً فانتفع به ثمّ ظهر مستحقّاً ، فلمالكه أجر مثله ، يطالب به المعير أو المستعير . فإن ضمن المستعير رجع على المعير بما غرم ، لأنّه غرّه وغرمه ، لأنّ المستعير استعار على ألاّ أجر عليه . وإن رجع على المعير لم يرجع على أحدٍ . وقواعد المذاهب الأخرى لا تأبى ذلك .
الوصيّة بالإعارة :
26 - ذهب جمهور الفقهاء إلى صحّة الوصيّة بالإعارة إذا خرج مقابل المنفعة من الثّلث باعتبارها وصيّةً بالمنفعة . وخالف في ذلك ابن أبي ليلى وابن شبرمة .

إعانةٌ *
التعريف :
1 - الإعانة لغةً : من العون ، وهو اسمٌ بمعنى المساعدة على الأمر .
يقال : أعنته إعانةً ، واستعنته ، واستعنت به فأعانني . كما يقال : رجلٌ معوانٌ ، وهو الحسن المعونة ، وكثير المعونة للنّاس .
الألفاظ ذات الصّلة :
الإغاثة :
2 - الإغاثة : هي الإعانة والنّصرة في حال شدّةٍ أو ضيقٍ . أمّا الإعانة فلا يشترط أن تكون في شدّةٍ أو ضيقٍ .
3 - الاستعانة : هي طلب العون . يقال : استعنت بفلانٍ فأعانني وعاونني ، وفي الحديث : « اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك » .
الحكم التّكليفيّ :
4 - يختلف الحكم التّكليفيّ للإعانة بحسب أحوالها ، فقد تكون واجبةً ، وقد تكون مندوبةً ، وقد تكون مباحةً أو مكروهةً أو محرّمةً .
الإعانة الواجبة :
أ - إعانة المضطرّ :
5 - اتّفق الفقهاء على وجوب إعانة المضطرّ إلى الطّعام والشّراب بإعطائه ما يحفظ عليه حياته ، وكذلك بإنقاذه من كلّ ما يعرّضه للهلاك من غرقٍ أو حرقٍ ، فإن كان قادراً على ذلك دون غيره وجبت الإعانة عليه وجوباً عينيّاً ، وإن كان ثمّ غيره كان ذلك واجباً كفائيّاً على القادرين ، فإن قام به أحدهم سقط عن الباقين ، وإلاّ أثموا جميعاً ، لما روي أنّ قوماً وردوا ماءً فسألوا أهله أن يدلّوهم على البئر فأبوا ، فسألوهم أن يعطوهم دلواً ، فأبوا أن يعطوهم ، فقالوا لهم : إنّ أعناقنا وأعناق مطايانا قد كادت أن تقطّع ، فأبوا أن يعطوهم ، فذكروا ذلك لعمر رضي الله عنه ، فقال لهم : فهلاّ وضعتم فيهم السّلاح . ؟
ومثل ذلك إعانة الأعمى إذا تعرّض لهلاكٍ ، وإعانة الصّغير لإنقاذه من عقربٍ ونحوه .
ب - الإعانة لإنقاذ المال :
6 - تجب الإعانة لتخليص مال الغير من الضّياع قليلاً كان المال أو كثيراً ، حتّى أنّه تقطع الصّلاة لذلك . وفي بناء المصلّي على صلاته أو استئنافها خلافٌ يرجع إليه في مبطلات الصّلاة .
ج - الإعانة في دفع الضّرر عن المسلمين :
7 - يجب إعانة المسلمين بدفع الضّرر العامّ أو الخاصّ عنهم ، لقول اللّه تعالى : { وتعاونوا على البرّ والتّقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } . ولقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه كان اللّه في حاجته » .
وكلّما كان هناك رابطة قرابةٍ أو حرفةٍ كان التّعاون بينهم أوجب . ( ر : عاقلةٌ ) .
د - إعانة البهائم :
8 - صرّح الفقهاء بوجوب إعانة البهائم بالإنفاق عليها فيما تحتاج إليه من علفٍ وإقامةٍ ورعايةٍ ، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « عذّبت امرأةٌ في هرّةٍ سجنتها حتّى ماتت ، فدخلت فيها النّار ، لا هي أطعمتها وسقتها ، إذ حبستها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض » وعن أبي هريرة رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ اشتدّ عليه العطش وجد بئراً ، فنزل فيها فشرب ، ثمّ خرج فإذا كلبٌ يلهث يأكل الثّرى من العطش ، فقال الرّجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الّذي بلغ بي ، فنزل البئر فملأ خفّه ، ثمّ أمسكه بفيه فسقى الكلب ، فشكر اللّه له ، فغفر له . قالوا : يا رسول اللّه وإنّ لنا في البهائم أجراً ، فقال : في كلّ ذات كبدٍ رطبةٍ أجرٌ » .
الإعانة المندوبة :
9 - وتكون الإعانة مندوبةً إذا كانت في خيرٍ لم يجب .
الإعانة المكروهة :
10 - الإعانة على فعل المكروه تأخذ حكمه فتكون مكروهةً ، مثل الإعانة على الإسراف في الماء ، أو الاستنجاء بماء زمزم ، أو على الإسراف في المباح بأن يستعمله فوق المقدّر شرعاً . مثل إعطاء السّفيه المال الكثير ، وإعطاء الصّبيّ غير الرّاشد ما لا يحسن التّصرّف فيه .
الإعانة على الحرام :
11 - تأخذ الإعانة على الحرام حكمه ، مثل الإعانة على شرب الخمر ، وإعانة الظّالم على ظلمه ، لحديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « أتاني جبريل فقال : يا محمّد إنّ اللّه عزّ وجلّ لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وساقيها ومستقيها » . وعن ابن عمر - في إعانة الظّالم - عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من أعان على خصومةٍ بظلمٍ أو يعين على ظلمٍ لم يزل في سخط اللّه حتّى ينزع » . وعن عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن مسعودٍ عن أبيه رضي الله عنهما « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : مثل الّذي يعين قومه على غير الحقّ كمثل بعيرٍ تردّى في بئرٍ فهو ينزع منها بذنبه » . ولحديث « من أعان على قتل مسلمٍ بشطر كلمةٍ لقي اللّه عزّ وجلّ ، مكتوبٌ بين عينيه : آيسٌ من رحمة اللّه » . وحديث « انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ، قالوا : يا رسول اللّه ، هذا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً ؟ قال : تأخذ فوق يديه » .
إعانة الكافر :
أ - الإعانة بصدقة التّطوّع :
12 - يجوز دفع صدقات التّطوّع للكافر غير الحربيّ . انظر مصطلح ( صدقةٌ ) .
ب - الإعانة بالنّفقة :
13 - صرّح الفقهاء بوجوب النّفقة - مع اختلاف الّذي - للزّوجة وقرابة الولاد أعلى وأسفل ، لإطلاق النّصوص ، ولأنّ نفقة الزّوجة جزاء الاحتباس ، وذلك لا يختلف باختلاف الدّين .
وأمّا قرابة الولاد فلمكان الجزئيّة ، إذ الجزئيّة في معنى النّفس ، ونفقة النّفس تجب مع الكفر فكذا الجزء ، وتفصيله في مصطلح ( نفقةٌ ) .
ج - الإعانة في حالة الاضطرار :
14 - يجب إعانة المضطرّ ببذل الطّعام والشّراب إليه إذا كان معصوماً ، مسلماً كان أو ذمّيّاً أو معاهداً ، فإن امتنع من له فضل طعامٍ أو شرابٍ من دفعه للمضطرّ إليه - ولو كافراً - جاز له قتاله بالسّلاح أو بغير السّلاح . على خلافٍ وتفصيلٍ في المذاهب يرجع إليه في مصطلح ( اضطرارٌ ) .
آثار الإعانة :
يترتّب على الإعانة آثارٌ منها :
أ - الأجر على الإعانة :
15 - الأجر على الإعانة إمّا أخرويٌّ ، وهو على الواجب والمستحبّ منها ، وإمّا دنيويٌّ . فإنّ الإعانة من التّبرّعات ، والأصل أنّه لا يستحقّ عليها أجرٌ ، سواءٌ أكانت برّاً للوالدين مثل إعانة الولد لوالده ، أم للنّاس مثل إعانة المحتاج بالقرض والصّدقة والكفالة .
وقد يأخذ المعين أجراً على بعض الأعمال الّتي يؤدّي فيها فعلاً معيّناً مثل الوكالة ، وهي مشروعةٌ بالكتاب والسّنّة .
ولتفصيل ذلك يرجع إلى تلك الأبواب في كتب الفقه وفي مصطلحاتها .
ب - العقاب على الإعانة :
16 - لم يذكر العلماء عقوباتٍ معيّنةً للإعانة على المحرّم ، غير أنّهم قالوا بالتّعزير على الذّنوب الّتي لم تشرع فيها الحدود ، لأنّ درء المفسدين مستحبٌّ في العقول ، فيجب على الحاكم درء الفساد بردع المفسدين ومن يعينهم على ذلك بتعزيرهم بما يتناسب مع تلك الإعانة المحرّمة . أمّا عن الإثم الأخرويّ المترتّب على الإعانة في الحرام ، فقد وردت في ذلك آثارٌ كثيرةٌ : منها ما روى جابر بن عبد اللّه رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة رضي الله عنه : « أعاذك اللّه من إمارة السّفهاء . قال : وما إمارة السّفهاء ؟ قال : أمراء يكونون بعدي ، لا يهتدون بهديي ، ولا يستنّون بسنّتي ، فمن صدّقهم بكذبهم ، وأعانهم على ظلمهم ، فأولئك ليسوا منّي ولست منهم ، ولا يردون عليّ حوضي ، ومن لم يصدّقهم بكذبهم ، ولم يعنهم على ظلمهم ، فأولئك منّي وأنا منهم ، وسيردون عليّ حوضي ، يا كعب بن عجرة : إنّه لا يدخل الجنّة لحمٌ نبت من سحتٍ ، النّار أولى به . يا كعب بن عجرة : النّاس غاديان ، فمبتاعٌ نفسه فمعتقها ، وبائعٌ نفسه فموبقها » .
17 - نصّ بعض الفقهاء على أنّ المعين على الجريمة يأخذ حكم الأصيل في بعض الأحوال ، كالرّبيئة ، ومقدّم السّلاح ، والممسك للقتل ، والرّدء ونحوهم . ويرجع إلى ذلك في مباحث الجنايات والميراث وغيرها .
ج - الضّمان :
18 - من ترك الإعانة الواجبة قد يلحقه الضّمان . قال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إذا ترك إنسانٌ إعانة مضطرٍّ فمنع عنه الطّعام حتّى مات ، فإذا لم يقصد ذلك فعليه الضّمان ، وإن قصده فعمدٌ عند الشّافعيّة والمالكيّة .
وصرّح الحنفيّة والحنابلة ، بجواز قتال المانعين للطّعام والشّراب - غير المحوز - عن المضطرّين له والمشرفين على الهلاك ، لما روي أنّ قوماً وردوا ماءً فسألوا أهله أن يدلّوهم على البئر فأبوا ، فسألوهم أن يعطوهم دلواً فأبوا أن يعطوهم ، فقالوا لهم : إنّ أعناقنا وأعناق مطايانا قد كادت أن تقطّع فأبوا أن يعطوهم . فذكروا ذلك لعمر رضي الله عنه . فقال لهم عمر : فهلاّ وضعتم فيهم السّلاح . وفيه دليلٌ على أنّ المضطرّ إذا منع من الماء ، له أن يقاتل بالسّلاح عليه . على أنّ الحنفيّة لم يصرّحوا بضمان المتسبّب في هلاك العطشان والجائع ، وإن كانت قواعدهم تدلّ على ذلك ( ر : صيالٌ ) .
ومن رأى خطراً محدقاً بإنسانٍ ، أو علم بذلك وكان قادراً على إنقاذه فلم يفعل ، فقد ذهب أبو الخطّاب من الحنابلة إلى أنّه يضمن ، خلافاً للجمهور الّذين ربطوا الضّمان بالمباشرة أو التّسبّب .
كما يضمن ، حامل الحطب عند الشّافعيّة إذا ترك تنبيه الأعمى ومن في معناه حتّى ترتّب على ذلك ضررٌ له أو لثيابه .
هذا وقد يجب الضّمان في بعض عقود التّبرّعات مثل الكفالة بأمر المكفول ، فيضمن عند عجز المكفول المدين . وفي الوكالة عند التّفريط أو التّعدّي ، وهي من الإعانات . ر : ( كفالةٌ ، وكالةٌ ) .
إعتاق*ٌ
انظر : عتقٌ .
اعتبارٌ *
التعريف :
1 - الاعتبار لغةً بمعنى الاتّعاظ كما في قوله تعالى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } . قال الخليل : العبرة الاعتبار بما مضى أي الاتّعاظ والتّذكّر . ويكون الاعتبار بمعنى الاعتداد بالشّيء في ترتّب الحكم ، وكثيراً ما يستعمله الفقهاء بهذا المعنى .
وفي الاصطلاح : عرّفه الجرجانيّ فقال : هو النّظر في الحكم الثّابت أنّه لأيّ معنًى ثبت وإلحاق نظيره به . وهذا عين القياس .
الحكم الإجماليّ :
2 - الاعتبار بمعنى القياس مأمورٌ به شرعاً ، فقد استدلّ القائلون بثبوت التّعبّد بالقياس الشّرعيّ بقوله تعالى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } فقد أمرنا اللّه بالاعتبار ، والاعتبار ردّ الشّيء إلى نظيره وهذا هو القياس ، فكان مأموراً به بهذا النّصّ ، وهناك أدلّةٌ كثيرةٌ على حجّيّة القياس يرجع في بيانها وتفصيلها والاعتراضات عليها إلى الملحق الأصوليّ .
مواطن البحث :
3 - اعتبارات الشّارع في الأحكام لها مجالاتٌ يذكرها الأصوليّون بالتّفصيل في : أبحاث تعريف القياس وحكمه ، وفي مسالك العلّة ، وفي المصالح المرسلة وفي السّببيّة في الحكم الوضعيّ ، وينظر تفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ .
اعتجارٌ *
التعريف :
1 - الاعتجار في اللّغة : لفّ العمامة على الرّأس من غير إدارةٍ تحت الحنك . سواءٌ أأبقى طرفها على وجهه أم لم يبقه ؟ .
وعرّفه صاحب مراقي الفلاح من الحنفيّة بقوله : هو شدّ الرّأس بالمنديل ، أو تكوير عمامته على رأسه وترك وسطه مكشوفاً – أي مكشوفاً عن العمامة -، لا مكشوف الرّأس ، وقيل : أن ينتقب بعمامته فيغطّي أنفه .
حكمه التّكليفيّ :
2 - نصّ الحنفيّة صراحةً على كراهة الاعتجار في الصّلاة كراهةً تحريميّةً ، وعلّلوا ذلك بأنّه فعلٌ ما لم يرد عن الشّرع ، وقالوا :« إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الاعتجار في الصّلاة ». وورد عن الحنابلة أنّه يكره تنزيهاً لبس ما لم يعتد لبسه في الصّلاة ، أو ما فيه خلاف زيّ البلد الّذي هو فيه . فإن كان الاعتجار غير معتادٍ فيكون عندهم مكروهاً في الصّلاة كراهةً تنزيهيّةً .
3 - أمّا الاعتجار خارج الصّلاة للحيّ أو للميّت ، فلم يتعرّض الفقهاء - فيما نعلمه - لذلك بصراحةٍ ولكن الّذين كرهوا العمامة للميّت - كما هو الرّاجح عند الحنفيّة - فإنّهم يكرهون له الاعتجار بالعمامة من بابٍ أولى ، وقد ذكر الفقهاء ذلك في كتاب الجنائز ، عند كلامهم على كفن الميّت .
اعتداءٌ *
التعريف :
1 - الاعتداء في اللّغة وفي الاصطلاح : الظّلم وتجاوز الحدّ . يقال : اعتدى عليه إذا ظلمه ، واعتدى على حقّه أي جاوز إليه بغير حقٍّ .
الحكم الإجماليّ :
2 - الاعتداء حرامٌ ، لقوله تعالى : { ولا تعتدوا إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين } .
أمّا ما يترتّب على الاعتداء من أثرٍ ، فيختلف : فإذا كان المعتدي حيواناً لا يثبت على صاحبه عقوبةٌ ولا ضمانٌ لقوله عليه الصلاة والسلام « جرح العجماء جبارٌ » ، وهذا - ما لم يكن صاحبه متهاوناً أو معتدياً بتحريضه وإغرائه .
أمّا الإنسان : فإنّه يفرّق فيه بين الكبير والصّغير ، إذ الكبير يثبت عليه العقوبة والضّمان ، أمّا الصّغير فإنّه يثبت عليه الضّمان دون العقوبة ، وكلّ ذلك مفصّلٌ في كتاب الجنايات من كتب الفقه . هذا ، ويختلف الحكم بحسب ما يقع عليه الاعتداء .
فإن وقع على نفس الإنسان أو ما دونها من جسده ، فعندئذٍ يجب في عمده القصاص إذا توفّرت شروطه ، وفي خطئه الضّمان بالمال كما هو مفصّلٌ في كتاب الجنايات .
وإن وقع على المال ، فعندئذٍ لا يخلو الأمر من أن يكون بطريق السّرقة ، وعندئذٍ يجب قطع اليد ( ر : سرقةٌ ) . أو يكون بطريق الغصب ، وعندئذٍ يجب الضّمان والتّعزير ، كما هو مفصّلٌ في كتب الفقه في مباحث : الغصب ، والضّمان ، والتّعزير .
وإن وقع الاعتداء على حقٍّ من الحقوق ، فإمّا أن يكون حقّاً للّه تعالى كحفظ العقيدة ، والعقل ، والعرض ، وأرض الإسلام ، وغير ذلك ، فعقوبته الحدّ أو التّعزير ما هو مفصّلٌ في أبوابه . وإمّا أن يكون حقّاً للعبد كعدم تسليم الأب ابنه الصّغير إلى أمّه المطلّقة ، لتقوم بحضانته ، ونحو ذلك فيترتّب على ذلك الإجبار على أداء الحقّ أو ضمانه مع التّعزير إن رأى الحاكم ذلك .
دفع الاعتداء :
3 - إذا وقع الاعتداء فللمعتدى عليه أن يدفعه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً سواءٌ أكان هذا الدّفع ببدنه كما فصّل الفقهاء ذلك في كتاب : ( الصّيال ) والجهاد ) من كتب الفقه ، أو بماله كما إذا صالح المسلمون الكفّار بدفع شيءٍ من أموالهم لئلاّ يحتلّوا بلاد الإسلام ، كما هو مذكورٌ في كتاب الجهاد من كتب الفقه ، وكما إذا أعطى رجلٌ لآخر شيئاً من ماله ليدفعه عن عرضه . كما ذكر ذلك الفقهاء أثناء كلامهم عن الرّشوة .
ودفع الاعتداء عن المسلمين واجبٌ على كلّ مسلمٍ قادرٍ عليه كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الجهاد .
اعتداد*ٌ
انظر : عدّةٌ .
اعتدالٌ *
التعريف :
1 - الاعتدال في اللّغة كون الشّيء متناسباً ، أو صيرورته كذلك ، فإذا مال شيءٌ فأقمته تقول : عدلته فاعتدل .
ولا يفرّق أهل اللّغة بين الاعتدال والاستقامة ، والاستواء ، فهم يقولون : استقام الشّيء إذا استوى واعتدل ، ويقولون أيضاً استوى الشّيء إذا استقام واعتدل .
ويطلق الفقهاء كلمة الاعتدال على أثر الرّفع من الرّكوع أو السّجود .
الحكم التّكليفيّ ومواطن البحث :
2 - ذهب الجمهور وهو روايةٌ عن أبي حنيفة إلى أنّ الاعتدال من الرّكوع والسّجود فرضٌ ، والصّحيح عند الحنفيّة أنّه سنّةٌ .
وقد تكلّم الفقهاء عن تفصيلاتٍ تتعلّق بما يتحقّق به الاعتدال ، ووجوب الاطمئنان في الاعتدال ، وسنّة رفع اليدين في الاعتدال ، والدّعاء فيه دعاء قنوتٍ أو غيره ، كما تحدّثوا عن الشّكّ في تمام الاعتدال ، والاعتدال بغير نيّة الاعتدال ، كاعتدال المصلّي خوفاً من سبعٍ ونحو ذلك ، وعن العجز عن الاعتدال ، وعن تعمّد ترك الاعتدال ، وتجد ذلك كلّه مبسوطاً في كتاب الصّلاة من كتب الفقه .
اعتراف*ٌ
انظر : إقرارٌ .
اعتصار*ٌ
التعريف :
1 - الاعتصار افتعالٌ من العصر ، ومن معانيه المنع والحبس ، ومنها استخراج عصير العنب ونحوه . واعتصر العطيّة : ارتجعها . ومنه قول عمر بن الخطّاب ( رضي الله عنه ) : ( إنّ الوالد يعتصر ولده فيما أعطاه ، وليس للولد أن يعتصر من والده )، فشبّه أخذ المال منه باستخراجه من يده بالاعتصار .
أمّا استعمال الفقهاء ، فهو كما ذكره ابن عرفة من المالكيّة : ارتجاع المعطي عطيّته دون عوضٍ لا بطوع المعطي ، أي بغير رضى الموهوب له . والاعتصار شائعٌ في عبارات المالكيّة ، أمّا غيرهم فيعبّرون عنه بالرّجوع في الهبة .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - جمهور الفقهاء على أنّ الاعتصار ( الرّجوع في الهبة ) ليس من حقّ الواهب بعد القبض إلاّ للوالدين في الجملة عند المالكيّة والحنابلة ، ولهما وللأصول عند الشّافعيّة . واستدلّ من منع الرّجوع بالحديث الثّابت ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : « العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه » واستدلّ للاستثناء بقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحلّ لرجلٍ أن يعطي عطيّةً أو يهب هبةً فيرجع فيها إلاّ الوالد فيما يعطي ولده ، ومثل الّذي يعطي العطيّة ثمّ يرجع فيها كمثل الكلب يأكل ، فإذا شبع قاء ، ثمّ عاد في قيئه » وما عدا الوالد ملحقٌ به عند الشّافعيّة ، وأمّا الحنفيّة فيرون الرّجوع للواهب - مع الكراهة التّحريميّة - في الهبة قبل القبض وبعده إلاّ لمانعٍ . وتفصيل ذلك في ( هبةٌ ) .

اعتقادٌ *
التعريف :
1 - الاعتقاد لغةً : مصدر اعتقد . واعتقدت كذا : عقدت عليه القلب والضّمير ، وقيل : العقيدة ، ما يدين الإنسان به .
واصطلاحاً : يطلق الاعتقاد على معنيين :
الأوّل : التّصديق مطلقاً ، أعمّ من أن يكون جازماً أو غير جازمٍ ، مطابقاً أو غير مطابقٍ ، ثابتاً أو غير ثابتٍ .
الثّاني : أحد أقسام العلم ، وهو اليقين ، وسيأتي تعريفه .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاعتناق :
2 - من معاني الاعتناق في اللّغة : جعل الرّجل يديه على عنق الآخر ، ومنها أخذ الأمر بجدٍّ ، واستعمل مولّداً . فقيل اعتنق ديناً أو نحلةً . فهو أعمّ من الاعتقاد .
ب - العلم :
3 - يطلق العلم على معانٍ : منها الإدراك مطلقاً ، تصوّراً كان أو تصديقاً ، يقينيّاً أو غير يقينيٍّ . وبهذا المعنى يكون العلم أعمّ من الاعتقاد مطلقاً .
ومن معاني العلم اليقين ، وبهذا المعنى يكون العلم أخصّ من الاعتقاد بالمعنى الأوّل ، ومساوياً له بالمعنى الثّاني ، أي اليقين .
ج - اليقين :
4 - اليقين هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع الثّابت ، أي الّذي لا يقبل التّشكيك . ويعرّفه بعضهم بأنّه علمٌ يورث سكون النّفس وثلج الصّدر بما علم ، بعد حيرةٍ وشكٍّ . واليقين أخصّ من العلم ، ومن الاعتقاد .
د - الظّنّ :
5 - الظّنّ : هو إدراك الطّرف الرّاجح مع احتمال النّقيض ، وقد يستعمل في اليقين والشّكّ ، تجوّزاً . فالظّنّ مباينٌ للاعتقاد بمعنى اليقين .
الحكم الإجماليّ :
6 - يعرض لحكم الاعتقاد وجوهٌ :
أ - بالنّسبة للصّحّة والفساد : ينقسم إلى قسمين ، صحيحٌ وفاسدٌ . فالاعتقاد الصّحيح ، هو ما طابق الواقع ، كاعتقاد أنّ صلاة الضّحى مندوبةٌ . والاعتقاد الفاسد هو غير المطابق للواقع ، كاعتقاد الفلاسفة أنّ العالم قديمٌ .
ب - بالنّسبة للحلّ والحرمة : لا يجوز اعتقاد حكمٍ من الأحكام الخمسة على غير ما هو عليه من فرضيّةٍ أو سنّيّةٍ أو إباحةٍ أو كراهةٍ أو تحريمٍ ، فاعتقاد إباحة المباح واجبٌ مثلاً ، فلو اعتقده على غير ما هو عليه فذلك خطأٌ . ويتعلّق الإثم بذلك الخطأ في الأمور المعلومة من الدّين بالضّرورة ، وما عداها فيعذر بالجهل والخطأ فيها ، إذا أخطأ في الاجتهاد ، أو أخطأ مقلّده تبعاً له .
أثر الاعتقاد في التّصرّفات :
7 - ما يعتقده المكلّف قربةً أو مباحاً فإذا هو بخلافه ، كمن فعل فعلاً يظنّه قربةً أو مباحاً وهو من المفاسد في نفس الأمر ، وكالحاكم إذا حكم بما اعتقده حقّاً بناءً على الحجج الشّرعيّة ، أو كمن يصلّي على مرتدٍّ يعتقده مسلماً ، فهذا خطأٌ معفوٌّ عنه ، يثاب فاعله على قصده ، دون فعله ، وكذلك كلّ ما كان حقّاً للّه تعالى .
أمّا إذا قصد إغاثة الجائع ، فأعطاه طعاماً فاسداً ، معتقداً أنّه صحيحٌ ، فمات منه ، وكذلك إذا وطئ أجنبيّةً يعتقدها زوجته فإنّه لا يأثم ، ويلزمه ضمان ما أتلف ، ويلزمه مهر المثل في الوطء في بعض الصّور . وتختلف الأجور باختلاف رتب المصالح ، فإذا تحقّقت الأسباب والشّرائط والأركان في الباطن ، فإن ثبت هذا في الظّاهر - يترتّب على ذلك ثواب الآخرة ، وإن ثبت في الظّاهر ما يخالف الباطن أثيب المكلّف على قصد العمل الحقّ ، ولا يثاب على عمله ، لأنّه خطأٌ ، ولا ثواب على الخطأ ، ولأنّه مفسدةٌ ولا ثواب على المفاسد .
الهزل والاعتقاد :
8 - الهازل لا يدخل في اعتقادٍ بهزله ، ولا يخرج منه بهذا الهزل . إلاّ أنّ المسلم يكفر بالهزل بالكفر ، لا لتبدّل الاعتقادات ، بل لأنّ الهزل استخفافٌ بالدّين ، لقوله تعالى : { ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض ونلعب قل أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون . لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } وللتّفصيل يرجع إلى مصطلح ( استخفافٌ ) ( وردّةٌ ) .

اعتقال*ٌ
انظر : احتباسٌ ، أمانٌ .
اعتكافٌ *
التعريف :
1 - الاعتكاف لغةً : الافتعال ، من عكف على الشّيء عكوفاً وعكفاً . من بابي : قعد ، وضرب . إذا لازمه وواظب عليه ، وعكفت الشّيء : حبسته . ومنه قوله تعالى : { هم الّذين كفروا وصدّوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محلّه } . وعكفته عن حاجته : منعته .
والاعتكاف : حبس النّفس عن التّصرّفات العاديّة .
وشرعاً : اللّبث في المسجد على صفةٍ مخصوصةٍ بنيّةٍ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الخلوة :
2 - الخلوة من خلا المكان ، إذا لم يكن فيه أحدٌ ، ولا شيء فيه ، وهو خالٍ ، ومنه خلوة الرّجل بنفسه إذا انفرد . والاعتكاف قد يكون مع الآخرين بنفس المكان المعدّ لذلك ، فالمعتكف قد ينفرد بنفسه ، وقد لا ينفرد .
ب - الرّباط والمرابطة :
3 - الرّباط هو : الحراسة بمحلٍّ خيف هجوم العدوّ منه ، أو المقام في الثّغور لإعزاز الدّين ودفع الشّرّ عن المسلمين . والاعتكاف يكون في الثّغور وغيرها ، والرّباط لا يكون إلاّ في الثّغور ، ويكون في المسجد وغيره .
ج - الجوار :
4 - الجوار هو : الملاصقة في السّكنى ، ويسمّى الاعتكاف جواراً ، لقول عائشة رضي الله عنها عن اعتكاف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « وهو مجاورٌ في المسجد » .
وعن أبي سعيدٍ رضي الله عنه مرفوعاً : « كنت أجاور هذه العشر - يعني الأوسط - ثمّ قد بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر ، فمن كان اعتكف معي فليثبت في معتكفه » .
قال مالكٌ : الاعتكاف والجوار سواءٌ إلاّ من نذر ، مثل جوار مكّة ، يجاور النّهار ، وينقلب اللّيل إلى منزله ، قال : فمن جاور مثل هذا الجوار الّذي ينقلب فيه اللّيل إلى منزله ، فليس عليه في جواره صيامٌ . فالجوار على هذا أعمّ من الاعتكاف ، لأنّه يكون في المسجد وغيره ، ويكون مع الصّيام وبدونه .
حكمة الاعتكاف :
5 - الاعتكاف فيه تسليم المعتكف نفسه بالكلّيّة إلى عبادة اللّه تعالى طلب الزّلفى ، وإبعاد النّفس من شغل الدّنيا الّتي هي مانعةٌ عمّا يطلبه العبد من القربى ، وفيه استغراق المعتكف أوقاته في الصّلاة إمّا حقيقةً أو حكماً ، لأنّ المقصد الأصليّ من شرعيّة الاعتكاف انتظار الصّلاة في الجماعات ، وتشبيه المعتكف نفسه بالملائكة الّذين لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ويسبّحون اللّيل والنّهار لا يفترون .
حكمه التّكليفيّ :
6 - الاعتكاف سنّةٌ ، ولا يلزم إلاّ بالنّذر ، لكن اختلف الفقهاء في مرتبة هذه السّنّيّة .
فقال الحنفيّة : إنّه سنّةٌ مؤكّدةٌ في العشر الأواخر من رمضان ، ومستحبٌّ فيما عدا ذلك . وفي المشهور عند المالكيّة ، أنّه مندوبٌ مؤكّدٌ وليس بسنّةٍ .
وقال ابن عبد البرّ : إنّه سنّةٌ في رمضان ومندوبٌ في غيره .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّه سنّةٌ مؤكّدةٌ ، في جميع الأوقات ، وفي العشر الأواخر من رمضان آكد ،« اقتداءً برسول اللّه صلى الله عليه وسلم وطلباً للّيلة القدر ».
وقال الحنابلة : إنّه سنّةٌ في كلّ وقتٍ ، وآكده في رمضان ، وآكده في العشر الأخير منه . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ الاعتكاف سنّةٌ ، لا يجب على النّاس فرضاً ، إلاّ أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذراً ، فيجب عليه .
وممّا يدلّ على أنّه سنّةٌ« فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومداومته عليه تقرّباً إلى اللّه تعالى ، وطلباً لثوابه ، واعتكاف أزواجه معه وبعده ».
أمّا أنّ الاعتكاف غير واجبٍ فلأنّ أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يلتزموا الاعتكاف كلّهم ، وإن صحّ عن كثيرٍ من الصّحابة فعله . وأيضاً فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر أصحابه بالاعتكاف إلاّ من أراده ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من كان اعتكف معي ، فليعتكف العشر الأواخر » - أي من شهر رمضان - ولو كان واجباً لما علّقه بالإرادة . ويلزم الاعتكاف بالنّذر ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من نذر أن يطيع اللّه فليطعه » وعن عمر رضي الله عنه أنّه قال : يا رسول اللّه : إنّي نذرت أن أعتكف ليلةً في المسجد الحرام ،« فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك » .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
أقسام الاعتكاف :
7 - ينقسم الاعتكاف إلى واجبٍ ، ومندوبٍ عند الجمهور ، وزاد الحنفيّة المسنون .
أ - الاعتكاف المندوب : وهو أن ينوي الاعتكاف تطوّعاً للّه تعالى . وأقلّه لحظةٌ ، أو ساعةٌ ، أو يومٌ ، أو يومٌ وليلةٌ حسب اختلاف الفقهاء .
وهو سنّةٌ في كلّ وقتٍ ، ويسنّ ألاّ ينقص عن يومٍ وليلةٍ .
ب - الاعتكاف الواجب :
8 - لا يجب الاعتكاف إلاّ بالنّذر عند الجمهور منجّزاً أو معلّقاً ، وبالشّروع في الاعتكاف المسنون عند المالكيّة ، ومقابل الظّاهر عند الحنفيّة ، وسيأتي في ( ف / 13 ) وهل يشترط التّلفّظ بالنّذر أم يكفي النّيّة في القلب ؟ صرّح الجميع بوجوب التّلفّظ بالنّيّة ، ولا يكفي نيّة القلب .
ج - الاعتكاف المسنون :
9 - زاد الحنفيّة قسماً ثالثاً للاعتكاف ، وهو ما أطلقوا عليه " سنّةٌ مؤكّدةٌ " أي سنّة كفايةٍ في العشر الأخير من شهر رمضان ، فإذا قام بها بعض المسلمين سقط الطّلب عن الباقين ، فلم يأثموا بالمواظبة على التّرك بلا عذرٍ ، ولو كان سنّة عينٍ لأثموا بترك السّنّة المؤكّدة إثماً دون إثم ترك الواجب .
أركان الاعتكاف :
10 - أركان الاعتكاف عند الجمهور أربعةٌ :
وهي المعتكف ، والنّيّة ، والمعتكف فيه ، واللّبث في المسجد .
وذهب الحنفيّة إلى أنّ ركن الاعتكاف هو اللّبث في المسجد فقط ، والباقي شروطٌ وأطرافٌ لا أركانٌ ، وزاد المالكيّة ركناً آخر وهو : الصّوم .
المعتكف :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّه يصحّ الاعتكاف من الرّجل والمرأة والصّبيّ المميّز ، واشترطوا لصحّة الاعتكاف الواجب والمندوب ما يلي :
1 - الإسلام : فلا يصحّ الاعتكاف من الكافر ، لأنّه ليس من أهل العبادة .
2 - العقل .
3 - التّمييز : فلا يصحّ الاعتكاف من المجنون والسّكران والمغمى عليه ومن غير المميّز ، إذ لا نيّة لهم ، والنّيّة في الاعتكاف واجبةٌ . أمّا الصّبيّ العاقل المميّز فيصحّ منه الاعتكاف ، لأنّه من أهل العبادة ، كما يصحّ منه صوم التّطوّع .
4 - النّقاء من الحيض والنّفاس ، فلا يصحّ الاعتكاف من الحائض والنّفساء ، لأنّهما ممنوعتان عن المسجد ، ولا يصحّ الاعتكاف إلاّ في مسجدٍ .
5 - الطّهارة من الجنب : فلا يصحّ الاعتكاف من الجنب ، لأنّه ممنوعٌ من اللّبث في المسجد .
اعتكاف المرأة :
12 - يصحّ اعتكاف المرأة باتّفاق الفقهاء بالشّروط المتقدّمة ، ويشترط للمتزوّجة أن يأذن لها زوجها ، لأنّها لا ينبغي لها الاعتكاف إلاّ بإذنه - أي يصحّ من غير إذنه مع الإثم في الافتيات عليه - فإن أذن لها الزّوج بالاعتكاف واجباً أو نفلاً ، فلا ينبغي له أن يطأها ، فإن منعها زوجها بعد إذنه لها لا يصحّ منعه . هذا قول الحنفيّة .
وذهب المالكيّة إلى أنّه لا يحقّ للزّوج أن يمنع زوجته بعد إذنه لها بالاعتكاف المنذور ، سواءٌ أدخلت في العبادة أم لم تدخل ، إلاّ إذا كان النّذر مطلقاً غير مقيّدٍ بأيّامٍ معيّنةٍ ، فإنّ للزّوج حينئذٍ أن يمنع زوجته من الاعتكاف حتّى ولو دخلت في العبادة ، ومن بابٍ أولى ما إذا نذرت بغير إذنه معيّناً أو غير معيّنٍ .
أمّا إذا أذن لها في الاعتكاف بدون نذرٍ ، فلا يقطعه عليها إن دخلت في الاعتكاف ، فإن لم تدخل فيه كان له منعها . والاعتكاف للمرأة مكروهٌ تنزيهاً عند الحنفيّة ، وجعلوه نظير حضورها الجماعات .
وقال الشّافعيّة : لا يجوز اعتكاف المرأة إلاّ بإذن زوجها ، لأنّ التّمتّع بالزّوجة من حقّ الزّوج . وحقّه على الفور بخلاف الاعتكاف . نعم إن لم تفوّت الزّوجة على زوجها منفعةً ، كأن حضرت المسجد بإذنه ، فنوت الاعتكاف فإنّه يجوز . ويكره عندهم اعتكاف المرأة الجميلة ذات الهيئة قياساً على خروجها لصلاة الجماعة .
وللزّوج إخراج زوجته من الاعتكاف المسنون سواءٌ أكان الاعتكاف بإذنه أم لا ، واستدلّ البهوتيّ الحنبليّ بحديث : « لا تصوم المرأة وزوجها شاهدٌ يوماً من غير رمضان إلاّ بإذنه » ، وقال : وضرر الاعتكاف أعظم . وكذا يجوز للزّوج إخراجها من الاعتكاف المنذور إلاّ إذا أذن لها بالاعتكاف وشرعت فيه ، سواءٌ أكان زمن الاعتكاف معيّناً أم كان متتابعاً أم لا . أو إذا كان الإذن أو الشّروع في زمن الاعتكاف المعيّن أو أذن في الشّروع فيه فقط وكان الاعتكاف متتابعاً ، وذلك لإذن الزّوج بالشّروع مباشرةً أو بواسطةٍ ، لأنّ الإذن في النّذر المعيّن إذنٌ في الشّروع فيه ، والمعيّن لا يجوز تأخيره ، والمتتابع لا يجوز الخروج منه ، لما فيه من إبطال العبادة الواجبة بلا عذرٍ .
والحنابلة كالشّافعيّة فيما تقدّم ، إلاّ في مسألة اعتكاف المرأة الجميلة ، فلم يذكروا أنّه مكروهٌ . وإذا اعتكفت المرأة استحبّ لها أن تستتر بخباءٍ ونحوه ،« لفعل عائشة وحفصة وزينب في عهده صلى الله عليه وسلم » وتجعل خباءها في مكان لا يصلّي فيه الرّجال ، لأنّه أبعد في التّحفّظ لها . نقل أبو داود عن أحمد قوله : « يعتكفن في المسجد ، ويضرب لهنّ فيه بالخيم » .
ولا بأس أن يستتر الرّجال أيضاً ،« لفعله صلى الله عليه وسلم »،ولأنّه أخفى لعملهم . ونقل إبراهيم : لا . إلاّ لبردٍ شديدٍ .
النّيّة في الاعتكاف :
13 - النّيّة ركنٌ للاعتكاف عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وشرطٌ له عند الحنفيّة ، وذلك لأنّ الاعتكاف عبادةٌ مقصودةٌ ، فالنّيّة واجبةٌ فيه ، فلا يصحّ اعتكافٌ بدون نيّةٍ . سواءٌ أكان الاعتكاف مسنوناً أم واجباً ، كما يجب التّمييز بين نيّة الفرض والنّفل في الاعتكاف ، ليتميّز الفرض من السّنّة .
وإذا نوى الاعتكاف المسنون ، ثمّ خرج من المسجد ، فهل يحتاج إلى تجديد نيّته إذا رجع ؟ ذهب الحنفيّة في الظّاهر من المذهب ، والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا خرج من الاعتكاف المسنون فقد انقطع اعتكافه ، وإذا رجع فلا بدّ من تجديد نيّة اعتكافٍ مندوبٍ آخر ، لأنّ الخروج من المسجد منه للاعتكاف المندوب ، لا مبطل له .
وذهب المالكيّة ، وهو مقابل الظّاهر عند الحنفيّة إلى أنّ المندوب يلزمه إذا نواه قليلاً كان أو كثيراً بدخوله معتكفه ، لأنّ النّفل يلزم كماله بالشّروع فيه ، فإن لم يدخل معتكفه فلا يلزمه ما نواه . فإذا دخل ثمّ قطع لزمه القضاء وإن اشترط عدم القضاء . والظّاهر من مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّه لا يلزمه الإتمام ولا قضاء عليه .
مكان الاعتكاف :
أ - مكان الاعتكاف للرّجل :
14 - أجمع الفقهاء على أنّه لا يصحّ اعتكاف الرّجل والخنثى إلاّ في مسجدٍ ، لقوله تعالى : { وأنتم عاكفون في المساجد } وللاتباع ،« لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلاّ في المسجد ».
واتّفقوا على أنّ المساجد الثّلاثة أفضل من غيرها ، والمسجد الحرام أفضل ، ثمّ المسجد النّبويّ ، ثمّ المسجد الأقصى .
واتّفقوا على أنّ المسجد الجامع يصحّ فيه الاعتكاف ، وهو أولى من غيره بعد المساجد الثّلاثة ، ويجب الاعتكاف فيه إذا نذر الاعتكاف مدّةً تصادفه فيها صلاة الجمعة ، لئلاّ يحتاج إلى الخروج وقت صلاة الجمعة ، إلاّ إذا اشترط الخروج لها عند الشّافعيّة .
ثمّ اختلفوا في المساجد الأخرى الّتي يصحّ فيها الاعتكاف .
فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه لا يصحّ الاعتكاف إلاّ في مسجد جماعةٍ . وعن أبي حنيفة أنّه لا يصحّ الاعتكاف إلاّ في مسجدٍ تقام فيه الصّلوات الخمس ، لأنّ الاعتكاف عبادة انتظار الصّلاة ، فيختصّ بمكانٍ يصلّى فيه ، وصحّحه بعضهم . وقال أبو يوسف ومحمّدٌ : يصحّ في كلّ مسجدٍ وصحّحه السّروجيّ . وعن أبي يوسف أنّه فرّق بين الاعتكاف الواجب والمسنون ، فاشترط للاعتكاف الواجب مسجد الجماعة ، وأمّا النّفل فيجوز في أيّ مسجدٍ كان . ويعني الحنفيّة بمسجد الجماعة ما له إمامٌ ومؤذّنٌ ، أدّيت فيه الصّلوات الخمس أو لا . واشترط الحنابلة لصحّة الاعتكاف في المسجد أن تقام الجماعة في زمن الاعتكاف الّذي هو فيه ، ولا يضرّ عدم إقامتها في الوقت الّذي لا يعتكف فيه ، وخرج من ذلك المرأة والمعذور والصّبيّ ومن هو في قريةٍ لا يصلّي فيها غيره ، لأنّ الممنوع ترك الجماعة الواجبة ، وهي منتفيةٌ هنا . والمذهب عند المالكيّة والشّافعيّة أنّه يصحّ الاعتكاف في أيّ مسجدٍ كان .
ب - مكان اعتكاف المرأة :
15 - اختلفوا في مكان اعتكاف المرأة :
فذهب الجمهور والشّافعيّ في المذهب الجديد إلى أنّها كالرّجل لا يصحّ اعتكافها إلاّ في المسجد ، وعلى هذا فلا يصحّ اعتكافها في مسجد بيتها ، لما ورد عن ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - أنّه سئل عن امرأةٍ جعلت عليها ( أي نذرت ) أن تعتكف في مسجد بيتها ، فقال : " بدعةٌ ، وأبغض الأعمال إلى اللّه البدع ". فلا اعتكاف إلاّ في مسجدٍ تقام فيه الصّلاة . ولأنّ مسجد البيت ليس بمسجدٍ حقيقةً ولا حكماً ، فيجوز تبديله ، ونوم الجنب فيه ، وكذلك لو جاز لفعلته أمّهات المؤمنين - رضي الله عنهن - ولو مرّةً تبييناً للجواز .
وفي المذهب القديم للشّافعيّ : أنّه يصحّ اعتكاف المرأة في مسجد بيتها ، لأنّه مكان صلاتها . قال النّوويّ : قد أنكر القاضي أبو الطّيّب وجماعةٌ هذا القديم . وقالوا : لا يجوز في مسجد بيتها قولاً واحداً وغلّطوا من قال : فيه قولان .
وذهب الحنفيّة إلى جواز اعتكاف المرأة في مسجد بيتها ، لأنّه هو الموضع لصلاتها ، فيتحقّق انتظارها فيه ، ولو اعتكفت في مسجد الجماعة جاز مع الكراهة التّنزيهيّة ، والبيت أفضل من مسجد حيّها ، ومسجد الحيّ أفضل لها من المسجد الأعظم .
وليس للمرأة أن تعتكف في غير موضع صلاتها من بيتها . وإن لم يكن لها في البيت مكانٌ متّخذٌ للصّلاة لا يجوز لها الاعتكاف في بيتها ، وليس لها أن تخرج من بيتها الّذي اعتكفت فيه اعتكافاً واجباً عليها .
اللّبث في المسجد :
16 - اللّبث في المسجد هو ركن الاعتكاف عند الجميع .
وقد اختلف الفقهاء في مقدار اللّبث المجزئ في الاعتكاف المسنون . فذهب الحنفيّة إلى أنّ أقلّه ساعةٌ من ليلٍ أو نهارٍ عند محمّدٍ ، وهو ظاهر الرّواية عن أبي حنيفة ، لبناء النّفل على المسامحة ، وبه يفتى . وهو المذهب عند الحنابلة . قال في الإنصاف : أقلّه إذا كان تطوّعاً أو نذراً مطلقاً ما يسمّى به معتكفاً لابثاً . قال في الفروع : ظاهره ولو لحظةً ، والمذهب ما تقدّم . والمستحبّ عندهم ألاّ ينقص الاعتكاف عن يومٍ وليلةٍ ، خروجاً من خلاف من يقول : أقلّه ذلك . واختلف المالكيّة في أقلّ المكث في المسجد . فذهب بعضهم إلى أنّه يومٌ وليلةٌ ، سوى وقت خروجه لما يتعيّن عليه الخروج لأجله ، من البول والغائط والوضوء وغسل الجنابة ، والمقصود بليلة اليوم : اللّيلة الّتي قبله . وذهب آخرون إلى أنّ أقلّه يومٌ فما فوقه إذا كان دخوله في الاعتكاف مع الفجر ، باعتبار أنّ أوّل اليوم الفجر .
وعند الشّافعيّة لا يقدّر اللّبث بزمانٍ ، بل اشترطوا في اللّبث أن يكون قدراً يسمّى عكوفاً وإقامةً ، ولو بلا سكونٍ بحيث يكون زمنه فوق زمن الطّمأنينة في الرّكوع ونحوه ، فيكفي التّردّد فيه لا المرور بلا لبثٍ . ويندب عندهم أن يكون يوماً ، لأنّه لم يرد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اعتكف أقلّ من يومٍ ، ولا أحدٌ من الصّحابة .
الصّوم في الاعتكاف :
17 - اختلف العلماء في الصّوم في الاعتكاف ، فمنهم من رآه واجباً ، ومنهم من استحبّه ، إلاّ إن نذره مع الاعتكاف فيجب ، وفيما يلي تفصيل حكم الصّوم في الاعتكاف غير المنذور فيه الصّوم :
أ - القول الأوّل بوجوب الصّوم مع الاعتكاف :
لا يصحّ الاعتكاف إلاّ بصومٍ ، وبه قال أبو حنيفة في رواية الحسن عنه ، ومن مشايخ الحنفيّة من اعتمد هذه الرّواية ، وهو مذهب المالكيّة ، وبه قال ابن عمر وابن عبّاسٍ وعائشة وعروة بن الزّبير والزّهريّ والأوزاعيّ والثّوريّ ، وهو قولٌ قديمٌ محكيٌّ عن الشّافعيّ ، قالوا : لا يصحّ الاعتكاف إلاّ بصومٍ . قال القاضي عياضٌ : وهو قول جمهور العلماء . والصّوم عند المالكيّة ركنٌ للاعتكاف كالنّيّة وغيرها . واستدلّوا بحديث عائشة رضي الله عنها عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا اعتكاف إلاّ بصيامٍ » وبأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « اعتكف هو وأصحابه رضي الله عنهم صياماً في رمضان » ، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن عمر أنّه « سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن اعتكافٍ عليه فأمره أن يعتكف ويصوم » والّذي ذكر عن أبي حنيفة في رواية الحسن عنه في وجوب الصّوم مطلقاً مع الاعتكاف لم يكن هو المعتمد في المذهب كما في الدّرّ المختار وحاشية ابن عابدين والفتاوى الهنديّة وغيرها ، فإنّهم قالوا : إنّ الصّوم ليس بشرطٍ في الاعتكاف المندوب ، كما في ظاهر الرّواية عن أبي حنيفة ، وهو قول أبي يوسف ومحمّدٍ .
ب - القول الثّاني : أفضليّة الصّوم مع الاعتكاف .
ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يشترط الصّوم للاعتكاف مطلقاً ، سواءٌ أكان واجباً أم مندوباً ، فالصّوم ليس شرطاً للاعتكاف عندهم ولا ركناً فيه . وبه قال الحسن البصريّ وأبو ثورٍ وداود وابن المنذر ، وهو مرويٌّ عن عليٍّ وابن مسعودٍ . إلاّ أنّهم صرّحوا بأنّ الاعتكاف مع الصّوم أفضل من الاعتكاف بدونه ، فلو اعتكف صائماً ثمّ أفطر عامداً بغير عذرٍ لا يبطل اعتكافه ، ولا شيء عليه ، لصحّة اعتكافه بغير صومٍ ، واحتجّوا لما ذهبوا إليه بحديث عائشة : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من شوّالٍ » رواه مسلمٌ ، وهذا يتناول اعتكاف يوم العيد ، ويلزم من صحّته أنّ الصّوم ليس بشرطٍ ، واحتجّوا أيضاً بحديث « عمر رضي الله عنه أنّه نذر أن يعتكف ليلةً ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك » .
نيّة الصّوم للاعتكاف المنذور :
18 - اختلف الحنفيّة والمالكيّة في الصّوم الواجب مع الاعتكاف ، فذهب الحنفيّة إلى أنّ الاعتكاف الواجب لا يصحّ إلاّ بصومٍ واجبٍ ، ولا يصحّ مع صوم التّطوّع ، فلو نذر اعتكاف شهر رمضان لزمه وأجزأه صوم رمضان عن صوم الاعتكاف ، فإن لم يعتكفه قضى شهراً متتابعاً غيره ، لأنّه التزم الاعتكاف في شهرٍ بعينه . وقد فاته ، فيقضيه متتابعاً بصومٍ مقصودٍ ، فلم يجز في رمضان آخر ، ولا في واجبٍ آخر ، سوى قضاء رمضان الأوّل ، لأنّه خلفٌ عنه .
وعلى هذا فلو صام تطوّعاً ، ثمّ نذر اعتكاف ذلك اليوم لم يصحّ الاعتكاف ، لعدم استيعاب الاعتكاف للنّهار . مثاله : لو أصبح صائماً متطوّعاً ، أو غير ناوٍ للصّوم ، ثمّ قال : للّه عليّ أن اعتكف هذا اليوم ، لا يصحّ ، وإن كان في وقتٍ تصحّ منه نيّة الصّوم ، لعدم استيعاب النّهار بالاعتكاف ، وعدم استيعابه بالصّوم الواجب . وعند أبي يوسف أقلّه أكثر النّهار ، فإن كان قاله قبل نصف النّهار لزمه ، فإن لم يعتكفه قضاه .
وذهب المالكيّة إلى أنّ الاعتكاف بقسميه الواجب والمسنون يصحّ بأيّ صومٍ كان سواءٌ قيّد بزمنٍ كرمضان ، أو سببٍ ككفّارةٍ ونذرٍ ، أو أطلق كتطوّعٍ ، فلا يصحّ الاعتكاف من مفطرٍ ، ولو لعذرٍ ، فمن لا يستطيع الصّوم لا يصحّ اعتكافه .
نذر الاعتكاف :
19 - إذا نذر الاعتكاف لزمه أداؤه ، سواءٌ أكان منجّزاً أم معلّقاً ، وينقسم إلى متتابعٍ وغير متتابعٍ ، أو نذر مدّةً معيّنةً .
أ - النّذر المتتابع :
20 - وذلك كأن ينذر عشرة أيّامٍ متتابعةً ، أو شهراً متتابعاً مثلاً ، فإنّه يلزمه متتابعاً في قولهم جميعاً ، فلو أفسده وجب استثناؤه بفوات التّتابع .
ب - النّذر المطلق والمدّة المعيّنة :
21 - وهو أن ينذر اعتكاف يومٍ أو أيّامٍ غير متتابعةٍ ، فإن نوى أيّاماً غير متتابعةٍ ، فإنّها تلزمه متتابعةٌ عند الحنفيّة ، وعلّله في المبسوط بأنّ إيجاب العبد معتبرٌ بإيجاب اللّه تعالى ، وما أوجب اللّه تعالى متتابعاً إذا أفطر فيه يوماً لزمه الاستقبال ، كصوم الظّهار والقتل . والإطلاق في الاعتكاف كالتّصريح بالتّتابع ، بخلاف الإطلاق في نذر الصّوم ، والفرق بينهما أنّ الاعتكاف يدوم باللّيل والنّهار ، فكان متّصل الأجزاء ، وما كان متّصل الأجزاء لا يجوز تفريقه إلاّ بالتّنصيص عليه ، بخلاف الصّوم ، فإنّه لا يوجد ليلاً ، فكان متفرّقاً ، وما كان متفرّقاً في نفسه لا يجب الوصل فيه إلاّ بالتّنصيص . وكذلك عند المالكيّة إلاّ إذا نذرها متفرّقةً فتجب متفرّقةً ، ولا يلزمه التّتابع .
أمّا الشّافعيّة فإنّ النّذر المطلق عندهم لا يلزم فيه التّتابع ، فيجوز أداؤه مفرّقاً .
وعلى هذا لو خرج من معتكفه خلال أيّام النّذر المطلق ، إن لم يعزم على العود احتاج إلى استئناف نيّة الاعتكاف ، سواءٌ أخرج لتبرّزٍ أم لغيره ، لأنّ ما مضى عبادةٌ تامّةٌ ، وهو يريد اعتكافاً جديداً ، فإن عزم على العود كانت هذه العزيمة قائمةً مقام النّيّة ، وهو الصّواب كما في المجموع . أمّا إذا نوى مدّةً معيّنةً فكذلك عند الحنفيّة والمالكيّة ، وعند الشّافعيّة لا يلزمه التّتابع ، لكن إن خرج لغير قضاء الحاجة احتاج إلى استئناف النّيّة .
وعند الحنابلة أنّ تعيين مدّةٍ للاعتكاف كشهرٍ بعينه يلزمه التّتابع ، وإن نذر شهراً مطلقاً لزمه ، ولهم قولان في التّتابع وعدمه . أحدهما كالحنفيّة ، والثّاني كالشّافعيّة اختارها الآجرّيّ وصحّحها ابن شهابٍ وغيره . ونصّ صاحب كشّاف القناع على وجوب التّتابع . والتّتابع عند الشّافعيّة في النّذر المطلق أفضل من التّفريق .
وعند الشّافعيّة والحنابلة : لو نذر يوماً لم يجز فيه التّفريق . ولو نذر يوماً من وسط النّهار لزمه الاعتكاف من ذلك الوقت إلى مثله ليتحقّق مضيّ يومٍ من ذلك الوقت . وأمّا اللّيل فلا يلزمه بنذر اعتكاف النّهار لأنّه ليس من اليوم عندهما . وقال الشّافعيّة : يدخل اللّيل مع اليوم بالنّيّة . وإذا نذر اعتكاف شهرٍ بعينه وأطلق لزمه ليلاً ونهاراً ، تامّاً كان الشّهر أو ناقصاً ويجزئه النّاقص بلا خلافٍ عند الشّافعيّة .
زمن دخول الاعتكاف الواجب :
22 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يدخل معتكفه إذا نوى يوماً قبل الفجر ، وعند الشّافعيّة والحنابلة إذا نوى ليلاً قبل غروب الشّمس ، لأنّ الحنفيّة والمالكيّة لا يصحّ عندهم نذر اللّيل وحده ، لأنّه لا صيام فيه ، لكن لو نذر ليلة أيّ ليلةٍ كانت عند المالكيّة لزمته مع نهارها ، لأنّ أقلّه يومٌ وليلةٌ . واللّيل تابعٌ للنّهار إذا نذر أيّاماً متتابعةً ، كمن نذر اعتكاف العشر الأواخر من شهر رمضان .
نذر الصّوم مع الاعتكاف المنذور :
23 - سبق أنّ الحنفيّة والمالكيّة لا يصحّ عندهم الاعتكاف الواجب والمسنون إلاّ بصومٍ واختلفوا في المندوب .
أمّا نذر الصّوم مع الاعتكاف ففيه أوجهٌ عند الشّافعيّة والحنابلة :
أ - اتّفقوا على أنّه إذا نذر صوماً واعتكافاً لا يلزمه الجمع بينهما .
ب - اتّفقوا على أنّه إذا نذر أن يعتكف صائماً لزماه .
ج - واختلفوا فيما إذا نذر أن يصوم معتكفاً . فالصّحيح عند الشّافعيّة والحنابلة أنّهما يلزمانه . وفرّقوا بين الصّورة الثّالثة والثّانية بأنّ الصّوم يصحّ وصفاً للاعتكاف ، والاعتكاف لا يصحّ وصفاً للصّوم .
نذر الصّلاة في الاعتكاف :
24 - ذهب الشّافعيّة إلى أنّ من نذر أن يعتكف مصلّياً فالصّلاة لا تلزمه .
وعند الحنابلة يلزمه الجمع بينهما ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « ليس على المعتكف صيامٌ إلاّ أن يجعله على نفسه » . والاستثناء من النّفي إثباتٌ ، وتقاس الصّلاة على الصّوم ، ولأنّ كلاًّ من الصّلاة والصّوم صفةٌ مقصودةٌ في الاعتكاف فلزمت بالنّذر ، لكن لا يلزمه أن يصلّي جميع الزّمان ، ويكفيه ركعةٌ أو ركعتان بناءً على ما لو نذر الصّلاة وأطلق . هذا ولم أر للحنفيّة والمالكيّة نصّاً في هذه المسألة والظّاهر عدم الوجوب . واللّه أعلم .
نذر الاعتكاف في مكان معيّنٍ :
25 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا نذر الاعتكاف في أحد المساجد الثّلاثة - المسجد الحرام ، ومسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، والمسجد الأقصى - لزمه النّذر وعليه الوفاء ، ولا يجزئه الاعتكاف في غيرها من المساجد ، لفضل العبادة فيها على غيرها ، فتتعيّن بالتّعيين . وأفضلها المسجد الحرام ، ثمّ مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثمّ المسجد الأقصى . وإلحاق غير الثّلاثة بها ممتنعٌ لثبوت فضلها على غيرها بالنّصّ ، قال عليه الصلاة والسلام : « صلاةٌ في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاةٍ فيما سواه إلاّ المسجد الحرام ، وصلاةٌ في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاةٍ فيما سواه » . وورد « أنّ الصّلاة بالمسجد الأقصى بخمسمائةٍ صلاةٍ ».
فإذا عيّن الأفضل في نذره لم يجزئه الاعتكاف فيما دونه ، لعدم مساواته له . فإن عيّن بنذره المسجد الحرام لا يجزئه في مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا المسجد الأقصى . وإن عيّن مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يجزئه المسجد الأقصى ، والعكس صحيحٌ ، فإن عيّن المسجد الأقصى جاز في مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وفي المسجد الحرام ، وإن عيّن مسجد النّبيّ جاز في المسجد الحرام . وأمّا إذا نذر الاعتكاف في غير المساجد الثّلاثة فهل يلزم ؟ ذهب المالكيّة وهو المذهب عند الشّافعيّة والصّحيح عند الحنابلة إلى أنّه لا يلزمه ، وله فعله في غيره .
وأمّا إذا كان المسجد يحتاج إلى شدّ الرّحال إليه فيخيّر عند الحنابلة ، وهو قولٌ للمالكيّة بين الذّهاب وعدمه عند القاضي أبي يعلى وغيره ، واختار بعضهم الإباحة في السّفر القصير ، ولم يجوّزه ابن عقيلٍ والشّيخ تقيّ الدّين ابن تيميّة ، وكذلك يخيّر على الصّحيح من المذهب إن كان لا يحتاج إلى شدّ رحلٍ بين الذّهاب وغيره . لكن قال في الواضح : الوفاء أفضل ، قال في الفروع : وهذا أظهر .
الاشتراط في الاعتكاف :
26 - ذهب الجمهور إلى جواز الشّرط وصحّته في الاعتكاف الواجب .
وذهب المالكيّة وهو مقابل الأظهر عند الشّافعيّة : إلى إلغاء الشّرط .
إلاّ أنّ الجمهور اختلفوا فيما يصحّ أن يدخل تحت الشّرط أو لا يدخل . فقال الحنفيّة : لو اشترط وقت النّذر أن يخرج لعيادة مريضٍ وصلاة جنازةٍ وحضور مجلس علمٍ جاز ذلك . وهذا على قول الإمام أبي حنيفة ، أمّا على قول الصّاحبين فالأمر أوسع . أمّا المالكيّة فقد قالوا في المعتمد : لو اشترط المعتكف لنفسه سقوط القضاء عنه - على فرض حصول عذرٍ أو مبطلٍ - لا ينفعه اشتراط سقوط القضاء ، وشرطه لغوٌ ، ويجب عليه القضاء إن حصل موجبه ، واعتكافه صحيحٌ . ولهم قولٌ آخر بأنّه لا ينعقد ، وقولٌ ثالثٌ بالتّفصيل بين الاشتراطات قبل الدّخول في الاعتكاف فلا ينعقد الاعتكاف ، أو بعد الدّخول فيلغو الشّرط . وقال الحنابلة وهو الأظهر عند الشّافعيّة : إنّ الاعتكاف لزم بالتزامه فيجب بحسب ما التزمه . فإذا اشترط المعتكف الخروج لعارضٍ مباحٍ مقصودٍ غير منافٍ للاعتكاف صحّ الشّرط . فإن اشترطه لخاصٍّ من الأغراض ، كعيادة المرضى خرج له دون غيره ، وإن كان غيره أهمّ منه . وإن اشترطه لأمرٍ عامٍّ كشغلٍ يعرض له خرج لكلّ مهمٍّ دينيٍّ كالجمعة والجماعة ، أو دنيويٍّ مباحٍ ، كاقتضاء الغريم ، فليس له الخروج لأجل الحرام . وخرج بقوله " مقصودٍ " ما لو شرطه ، أو لغير مقصودٍ كنزهةٍ أو فرجةٍ ، كإتيان أهله ، فإذا اشترط الخروج لشيءٍ من ذلك فإنّه لا ينعقد نذره . وقال الحنابلة : لو اشترط الخروج للبيع والشّراء أو الإجارة ، أو التّكسّب بالصّناعة في المسجد لم يصحّ الشّرط بلا خلافٍ . ولو قال : متى مرضت أو عرض لي عارضٌ خرجت فله شرطه على الصّحيح من المذهب . ومحلّ ذلك في الاعتكاف المتتابع عند الشّافعيّة ، ولا يلزمه تدارك ما فاته ، فكأنّه قال : نذرت هذا الشّهر إلاّ كذا . فيكون المنذور شهراً ، والمشروط مستثنًى منه . أمّا عند الحنابلة فإنّ فائدة الشّرط عندهم سقوط القضاء في المدّة المعيّنة . أمّا لو نذر شهراً متتابعاً ، فلا يجوز الخروج منه إلاّ لمرضٍ ، وعليه قضاء زمن المرض ، لإمكان حمل شرطه هنا على نفي التّتابع فقط ، فنزّل على الأقلّ ، ويكون الشّرط قد أفاد هنا البناء مع سقوط القضاء .
ما يفسد الاعتكاف :
يفسد الاعتكاف ما يلي :
الأوّل - الجماع ودواعيه :
27 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجماع في الاعتكاف حرامٌ ومبطلٌ له ، ليلاً كان أو نهاراً ، إن كان عامداً . وكذا إن فعله ناسياً لاعتكافه عند الجمهور ، لقوله تعالى : { ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد } .
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ حرمة الجماع وإفساده . للاعتكاف لا يكون إلاّ من عالمٍ بتحريمه ذاكرٍ للاعتكاف ، سواءٌ أجامع في المسجد أم خارجه عند خروجه لقضاء الحاجة أو نحوها ، لمنافاته العبادة البدنيّة . والبطلان إنّما هو بالنّسبة للمستقبل ، أمّا ما مضى فإنّه لا يبطل في الجملة ، على خلافٍ وتفصيلٍ يعرف في كتب الفقه .
وأمّا دواعي الجماع كاللّمس والقبلة ، فإنّها تفسد الاعتكاف عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو الأظهر للشّافعيّة إذا أنزل ، فإن لم ينزل لم يفسد اعتكافه ، والقولان الآخران للشّافعيّة أنّه يبطل مطلقاً ، وقيل : لا يبطل . قال المالكيّة : إنّه إذا قبّل وقصد اللّذّة ، أو لمس ، أو باشر بقصدها ، أو وجدها بطل اعتكافه ، واستأنفه من أوّله ، فلو قبّل صغيرةً لا تشتهى ، أو قبّل زوجته لوداعٍ أو رحمةٍ ، ولم يقصد لذّةً ولا وجدها لم يبطل . ثمّ إنّ اشتراط الشّهوة في القبلة إذا كانت في غير الفم ، وأمّا إذا كانت فيه فلا تشترط الشّهوة على الظّاهر ، لأنّه يبطله من مقدّمات الوطء ما يبطل الوضوء .
وقد نصّوا على تحريم الوطء في المسجد مطلقاً لكرامته ، ووطء المعتكفة مفسدٌ لاعتكافها . وذهب الجمهور إلى أنّ الجماع المفسد للاعتكاف المنذور المتتابع من المعتكف الذّاكر له العالم بتحريمه لا تلزمه الكفّارة . قال ابن المنذر : أكثر أهل العلم على أنّه لا كفّارة عليه ، وهو قول أهل المدينة والشّام والعراق .
قال الماورديّ هو قول جميع الفقهاء إلاّ الحسن البصريّ والزّهريّ ، فقالا : عليه كفّارة الواطئ في صوم رمضان . وعن الحسن روايةٌ أخرى هي أنّه يعتق رقبةً ، فإن عجز أهدى بدنةً ، فإن عجز تصدّق بعشرين صاعاً من تمرٍ . وقال القاضي أبو يعلى : هي كفّارة الظّهار ، وقال أبو بكرٍ : هي كفّارة يمينٍ .
الثّاني - الخروج من المسجد :
28 - اتّفق الفقهاء على أنّ الخروج من المسجد للرّجل والمرأة ( وكذلك خروج المرأة من مسجد بيتها عند الحنفيّة ) إذا كان لغير حاجةٍ فإنّه يفسد الاعتكاف الواجب ، وألحق المالكيّة وأبو حنيفة - في رواية الحسن عنه - بالواجب الاعتكاف المندوب أيضاً ، سواءٌ أكان الخروج يسيراً أم كثيراً . أمّا إذا كان الخروج لحاجةٍ فلا يبطل الاعتكاف في قولهم جميعاً إلاّ أنّهم اختلفوا في الحاجة الّتي لا تقطع الاعتكاف ولا تفسده على النّحو التّالي :
أ - الخروج لقضاء الحاجة والوضوء والغسل الواجب :
29 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يضرّ الخروج لقضاء الحاجة والغسل الّذي وجب ممّا لا يفسد الاعتكاف . لكن إن طال مكثه بعد ذلك فسد اعتكافه .
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول ، لأنّ هذا ممّا لا بدّ منه ، ولا يمكن فعله في المسجد ، فلو بطل الاعتكاف بخروجه له لم يصحّ لأحدٍ الاعتكاف ، ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعتكف ، وقد علمنا أنّه كان يخرج لحاجته . وروت عائشة أنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل البيت إلاّ لحاجةٍ إذا كان معتكفاً » وله الغسل والوضوء والاغتسال في المسجد إذا لم يلوّث المسجد عند الحنفيّة والحنابلة . وعند الشّافعيّة إن أمكنه الوضوء في المسجد لا يجوز له الخروج في الأصحّ ، والثّاني يجوز . وذهب المالكيّة إلى كراهة دخول منزل أهله وبه أهله - أي زوجته - إذا خرج لقضاء الحاجة ، لئلاّ يطرأ عليه منهما ما يفسد اعتكافه .
أمّا إذا كان له منزلان فيلزمه أقربهما عند الشّافعيّة والحنابلة ، واختلف الحنفيّة في ذلك . وإذا كانت هناك ميضأةٌ يحتشم منها لا يكلّف التّطهّر منها ، ولا يكلّف الطّهارة في بيت صديقه ، لما في ذلك من خرم المروءة ، وتزيد دار الصّدّيق بالمنّة بها . أمّا إذا كان لا يحتشم من الميضأة فيكلّفها . وألحقوا بالخروج لما تقدّم الخروج للقيء وإزالة النّجاسة ، فلا يفسد الاعتكاف أيضاً في قولهم جميعاً . ولا يكلّف الّذي خرج لحاجةٍ الإسراع ، بل له المشي على عادته .
ب - الخروج للأكل والشّرب :
30 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ الخروج للأكل والشّرب يفسد اعتكافه إذا كان هناك من يأتيه به لعدم الضّرورة إلى الخروج ، أمّا إذا لم يجد من يأتيه به فله الخروج ، لأنّه خروجٌ لما لا بدّ منه .
وذهب الشّافعيّة والقاضي من الحنابلة إلى أنّه يجوز له الخروج للأكل ، لأنّ الأكل في المسجد يستحيا منه . وكذا للشّرب إذا لم يكن في المسجد ماءٌ . وخصّ الشّافعيّة جواز الخروج للأكل إذا كان اعتكافه في مسجدٍ مطروقٍ ، أمّا إذا كان المسجد مهجوراً فلا يحقّ له الخروج .
ت - الخروج لغسل الجمعة والعيد :
31 - ذهب المالكيّة إلى أنّ للمعتكف الخروج لغسل الجمعة والعيد ولحرٍّ أصابه فلا يفسد الاعتكاف خلافاً للجمهور . وصرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّه لا يجوز الخروج لغسل الجمعة والعيد ، لأنّه نفلٌ وليس بواجبٍ وليس من باب الضّرورة . فإن اشترط ذلك جاز .
ث - الخروج لصلاة الجمعة :
32 - من وجبت عليه الجمعة ، وكان اعتكافه متتابعاً ، واعتكف في مسجدٍ لا تقام فيه الجمعة فهو آثمٌ ، ويجب عليه الخروج لصلاة الجمعة ، لأنّها فرضٌ . فإذا خرج للجمعة فقد ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ خروجه للجمعة لا يفسد اعتكافه ، لأنّه خروجٌ لما لا بدّ منه ، كالخروج لقضاء الحاجة . وبه قال سعيد بن جبيرٍ والحسن البصريّ والنّخعيّ وأحمد وعبد الملك بن الماجشون وابن المنذر . وذهب المالكيّة في المشهور عندهم والشّافعيّة إلى أنّ خروج المعتكف لصلاة الجمعة يفسد اعتكافه وعليه الاستئناف ، لأنّه يمكنه الاحتراز من الخروج ، بأن يعتكف في المسجد الجامع ، فإذا لم يفعل وخرج بطل اعتكافه ، واستثنى الشّافعيّة ما لو شرط الخروج في اعتكافه لصلاة الجمعة ، فإنّ شرطه يصحّ ، ولا يبطل اعتكافه بخروجه . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الخروج لصلاة الجمعة يكون وقت الزّوال ، ومن بعد مسجد اعتكافه خرج في وقتٍ يدركها . أمّا الحنابلة فإنّهم قالوا بجواز التّبكير إليها . واتّفقوا على أنّ المستحبّ بعد صلاة الجمعة التّعجيل بالرّجوع إلى مكان الاعتكاف . لكن لا يجب عليه التّعجيل لأنّه محلٌّ للاعتكاف ، وكره تنزيهاً المكث بعد صلاة الجمعة لمخالفة ما التزمه بلا ضرورةٍ .
ج -الخروج لعيادة المرضى وصلاة الجنازة :
33 اتّفق الفقهاء على عدم جواز الخروج لعيادة المريض وصلاة الجنازة لعدم الضّرورة إلى الخروج ، إلاّ إذا اشترط الخروج لهما عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة .
ومحلّ ذلك ما إذا خرج لقصد العيادة وصلاة الجنازة . أمّا إذا خرج لقضاء الحاجة ثمّ عرج على مريضٍ لعيادته ، أو لصلاة الجنازة ، فإنّه يجوز بشرطٍ ألاّ يطول مكثه عند المريض ، أو بعد صلاة الجنازة عند الجمهور ، بأن لا يقف عند المريض إلاّ بقدر السّلام ، لقول عائشة رضي الله عنها : « إن كنت أدخل البيت للحاجة ، والمريض فيه فما أسأل عنه إلاّ وأنا مارّةٌ » . وفي سنن أبي داود مرفوعاً عنها : « أنّه عليه الصلاة والسلام كان يمرّ بالمريض ، وهو معتكفٌ ، فيمرّ كما هو ولا يعرّج يسأل عنه » .
فإن طال وقوفه عرفاً ، أو عدل عن طريقه وإن قلّ لم يجز ، وعند أبي يوسف ومحمّدٍ لا ينتقض الاعتكاف إذا لم يكن أكثر من نصف النّهار . أمّا المالكيّة فإنّهم مع الجمهور في فساد الاعتكاف لخروج عيادة المريض وصلاة الجنازة ، إلاّ أنّهم أوجبوا الخروج لعيادة أحد الأبوين المريضين أو كليهما ، وذلك لبرّهما فإنّه آكد من الاعتكاف المنذور ، ويبطل اعتكافه به ويقضيه .
ح - الخروج في حالة النّسيان :
34 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الخروج من المسجد عمداً أو سهواً يبطل الاعتكاف . وعلّلوا ذلك بأنّ حالة الاعتكاف مذكّرةٌ ، ووقوع ذلك نادرٌ ، وإنّما يعتبر العذر فيما يغلب وقوعه . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى عدم البطلان إذا خرج ناسياً ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « عفي لأمّتي عن الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه » .
خ - الخروج لأداء الشّهادة :
35 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الخروج لأجل الشّهادة مفسدٌ للاعتكاف .
وصرّح المالكيّة بأنّ من وجبت عليه شهادةٌ ، بألاّ يكون هناك غيره ، أو لا يتمّ النّصاب إلاّ به ، لا يخرج من المسجد لأدائها ، بل يجب أن يؤدّيها في المسجد إمّا بحضور القاضي ، أو تنقل عنه . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يلزمه الخروج لأداء الشّهادة متى تعيّنت عليه ويأثم بعدم الخروج ، وكذلك التّحمّل للشّهادة إذا تعيّن ، فيجوز له الخروج ولا يبطل اعتكافه بذلك الخروج ، لأنّه خروجٌ واجبٌ على الأصحّ عند الشّافعيّة ، أمّا إذا لم تتعيّن عليه ، فيبطل اعتكافه بالخروج .
د - الخروج للمرض :
المرض على قسمين :
36-أ - المرض اليسير الّذي لا تشقّ معه الإقامة في المسجد كصداعٍ وحمّى خفيفةٍ وغيرهما لا يجوز معه الخروج من المسجد إذا كان اعتكافه منذوراً متتابعاً ، فإن خرج فسد اعتكافه لأنّه غير مضطرٍّ إليه .
37 -ب- أمّا المرض الشّديد الّذي يتعذّر معه البقاء في المسجد ، أو لا يمكن البقاء معه في المسجد ، بأن يحتاج إلى خدمةٍ أو فراشٍ أو مراجعة طبيبٍ ، فقد ذهب الحنفيّة إلى أنّ خروجه مفسدٌ لاعتكافه ، ففي الفتاوى الهنديّة : إذا خرج ساعةً بعذر المرض فسد اعتكافه . هكذا في الظّهيريّة . علماً بأنّ مذهب أبي يوسف ومحمّدٍ اعتبار نصف النّهار كما تقدّم . وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه لا يبطل ولا ينقطع به التّتابع ، ويبني على ما مضى إذا شفي ، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة . وكذلك إذا كان المرض ممّا يتلوّث به المسجد كالقيء ونحوه فإنّه لا ينقطع به التّتابع .
أمّا الخروج حالة الإغماء فإنّه لا يقطع الاعتكاف في قولهم جميعاً ، لأنّه لم يخرج باختياره . قال الكاسانيّ : وإن أغمي عليه أيّاماً ، أو أصابه لممٌ ( جنونٌ ) فسد اعتكافه ، وعليه إذا برأ أن يستقبل ، لأنّه لزمه متتابعاً . وعند الشّافعيّة أنّ المرض والإغماء يحسبان من الاعتكاف . وفي معنى المرض هذا ، الخوف من لصٍّ أو حريقٍ عند الشّافعيّة .
ذ - الخروج لانهدام المسجد :
38 - إذا انهدم المسجد فخرج منه ليقيم اعتكافه في مسجدٍ آخر صحّ ذلك عند الحنفيّة استحساناً ، وكذلك عند غيرهم .
ر - الخروج حالة الإكراه :
39 - اتّفق الفقهاء على أنّ الخروج بسبب الإكراه لحكومةٍ لا يفسد الاعتكاف قبل تمام الاعتكاف . إلاّ أنّ الحنفيّة أطلقوا القول بأنّ الإكراه لا يفسد الاعتكاف إذا دخل المعتكف مسجداً آخر من ساعته . وهذا استحبابٌ منهم ، أمّا إذا لم يدخل مسجداً آخر ، فيبقى الحكم على أصل القياس وهو البطلان .
ز - خروج المعتكف بغير عذرٍ :
40 - تقدّم أنّ خروج المعتكف إن كان بعذرٍ طبيعيٍّ أو شرعيٍّ جاز له الخروج على خلافٍ في ذلك . أمّا إذا خرج المعتكف بدون عذرٍ فسد اعتكافه - حسب اعتبار الفقهاء للعذر وعدمه - ولو كان زمن الخروج يسيراً ، إلاّ عند أبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة ، فإنّهما قيّدا زمن المفسد بأكثر من نصف النّهار .
س - حدّ الخروج من المسجد :
41 - حدّ الخروج من المسجد أن يخرج بجميع جسده ، فإن خرج ببعضه لم يضرّ ، لقول عائشة رضي الله عنها : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يدني إليّ رأسه وأنا في حجرتي ، فأرجّل رأسه وأنا حائضٌ » .
ش - ما يعتبر من المسجد وما لا يعتبر :
42 - اتّفق الفقهاء على أنّ المراد بالمسجد الّذي يصحّ فيه الاعتكاف ، ما كان بناءً معدّاً للصّلاة فيه . أمّا رحبة المسجد ، وهي ساحته الّتي زيدت بالقرب من المسجد لتوسعته ، وكانت محجّراً عليها ، فالّذي يفهم من كلام الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في الصّحيح من المذهب أنّها ليست من المسجد ، ومقابل الصّحيح عندهم أنّها من المسجد ، وجمع أبو يعلى بين الرّوايتين بأنّ الرّحبة المحوطة وعليها بابٌ هي من المسجد . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ رحبة المسجد من المسجد ، فلو اعتكف فيها صحّ اعتكافه ، وأمّا سطح المسجد فقد قال ابن قدامة : يجوز للمعتكف صعود سطح المسجد ، ولا نعلم فيه خلافاً .
أمّا المنارة فإن كانت في المسجد أو بابها فيه فهي من المسجد عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . وإن كان بابها خارج المسجد أو في رحبته فهي منه ، ويصحّ فيها الاعتكاف عند الشّافعيّة . وإن كان بابها خارج المسجد فيجوز أذان المعتكف فيها ، سواءٌ أكان مؤذّناً أم غيره عند الحنفيّة ، وأمّا عند الشّافعيّة فقد فرّقوا بين المؤذّن الرّاتب وغيره ، فيجوز للرّاتب الأذان فيها وهو معتكفٌ دون غيره ، قال النّوويّ : وهو الأصحّ .
الثّالث من المفسدات - الجنون :
43 - إذا طرأ على المعتكف الجنون ، وكان زمنه قليلاً فإنّه لا يفسد الاعتكاف في قول الفقهاء جميعاً . أمّا إذا طال الجنون فالجمهور على أنّه لا يقطع الاعتكاف ، ومتى أفاق بنى . وذهب الحنفيّة إلى أنّ القياس سقوط القضاء قياساً على سقوط قضاء الصّوم إذا جنّ ، إلاّ أنّ الاستحسان أنّه يقضي إذا طال جنونه سنةً فأكثر ، وجه الاستحسان أنّ سقوط القضاء في صوم رمضان إنّما كان لدفع الحرج ، لأنّ الجنون إذا طال قلّما يزول ، فيتكرّر عليه صوم رمضان فيحرج في قضائه ، وهذا المعنى لا يتحقّق في الاعتكاف .
واختلف الحنابلة فيه ، هل يبني أو يبتدئ ؟ بناءً على خلافهم في بطلان الصّوم .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الرّابع - الرّدّة :
44 - يبطل الاعتكاف بالرّدّة على قولهم جميعاً ، لكن إذا تاب وأسلم هل يجب استئناف الاعتكاف ؟
ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى عدم وجوب الاستئناف بعد توبته ، فيسقط عنه القضاء لمّا بطل بردّته ، ولا يبني على ما مضى . لقوله تعالى : { قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } وقوله صلى الله عليه وسلم : « الإسلام يجبّ ما كان قبله » .
ومذهب الشّافعيّة وجوب الاستئناف .
الخامس - السّكر :
45 - ذهب الحنابلة إلى أنّ السّكر بالحرام مفسدٌ للاعتكاف ، وعليه المالكيّة والشّافعيّة إذا كان بسببٍ حرامٍ . ولم يره الحنفيّة مفسداً إن وقع ليلاً ، أمّا إن كان في النّهار فإنّه يبطل الصّوم فيبطل الاعتكاف ، لأنّه كالإغماء لا يقطع التّتابع . وألحق المالكيّة بالسّكر الحرام استعمال المخدّر إذا خدّره .
السّادس : الحيض والنّفاس :
46 - يجب على الحائض والنّفساء الخروج من المسجد ، إذ يحرم عليهما المكث فيه ، ولأنّ الحيض والنّفاس يقطعان الصّيام .
والحائض والنّفساء يبنيان وجوباً وفوراً - في نذر الاعتكاف المتتابع - بمجرّد زوال العذر ، فإذا تأخّرتا بطل الاعتكاف . ولا يحسب زمن الحيض والنّفاس من الاعتكاف . وأمّا المستحاضة ، فإنّها إن أمنت التّلويث لم تخرج عن اعتكافها ، فإن خرجت بطل اعتكافها . وشرط الشّافعيّة لعدم انقطاع الاعتكاف بالحيض والنّفاس ألاّ تكون مدّة الاعتكاف بحيث تخلو عن الحيض ، فإن كانت مدّة الاعتكاف بحيث تخلو عن الحيض انقطع التّتابع في الأظهر ، لإمكان الموالاة بشروعها عقب الطّهر ، والقول الثّاني : لا ينقطع ، لأنّ جنس الحيض ممّا يتكرّر في الجملة ، فلا يؤثّر في التّتابع كقضاء الحاجة . وقال الحنابلة : تخرج المرأة للحيض والنّفاس إلى بيتها إن لم يكن ، للمسجد رحبةٌ على تفصيلٍ ينظر في كتبهم .
ما يباح للمعتكف وما يكره له :
47 - كره العلماء للمعتكف فضول القول والعمل مع اختلافهم فيما يعتبر مكروهاً أو مباحاً على التّفصيل التّالي :
أ - الأكل والشّرب والنّوم :
يباح للمعتكف الأكل والشّرب والنّوم في المسجد في قولهم جميعاً . وزاد المالكيّة أنّ اعتكاف من لا يجد من يأتيه بحاجته من الطّعام والشّراب مكروهٌ . أمّا النّوم للمعتكف فمحلّه المسجد ، لأنّ خروجه للنّوم ليس بعذرٍ ، ولم يذكر أحدٌ أنّ الخروج للنّوم جائزٌ .
ب - العقود والصّنائع في المسجد :
48 - يباح عقد البيع وعقد النّكاح والرّجعة ، وبذلك صرّح الحنفيّة والشّافعيّة إذا احتاج إليه لنفسه أو عياله ، فلو لتجارةٍ كره ، وعند الحنابلة لا يجوز للمعتكف البيع والشّراء إلاّ لما لا بدّ له منه خارج المسجد من غير وقوفٍ لذلك . أمّا إذا خرج لأجلها فسد اعتكافه في قولهم جميعاً . وعند المالكيّة يجوز أن ينكح لنفسه ، وأن ينكح من في ولايته في مجلسه داخل المسجد بغير انتقالٍ ولا طول مدّةٍ ، وإلاّ كره . وصرّح الحنفيّة بأنّ إحضار المبيع في المسجد مكروهٌ تحريماً ، لأنّ المسجد محرّزٌ عن مثل ذلك .
49 - وذهب المالكيّة إلى كراهة الكتابة للمعتكف وإن كان مصحفاً أو علماً إن كثر ، ولا بأس باليسير وإن كان تركه أولى . وعن ابن وهبٍ أنّه يجوز له كتابة المصحف للثّواب لا للأجرة ، بل ليقرأ فيه وينتفع من كان محتاجاً . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يكره للمعتكف الصّنائع في المسجد كالخياطة والكتابة ما لم يكثر منها ، فإن أكثر منها كرهت لحرمته ، إلاّ كتابة العلم ، فلا يكره الإكثار منها ، لأنّها طاعةٌ لتعليم العلم .
أمّا إذا احترف الخياطة والمعاوضات من بيعٍ وشراءٍ بلا حاجةٍ فتكره وإن قلّت . وقال الحنابلة : يحرم التّكسّب بالصّنعة في المسجد ، كالخياطة وغيرها والكثير والقليل والمحتاج وغيره سواءٌ .
ج - الصّمت :
50 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ الصّمت مكروهٌ تحريماً حالة الاعتكاف إن اعتقده قربةً ، أمّا إذا لم يعتقده قربةً فلا ، لحديث « من صمت نجا » ويجب الصّمت عن الغيبة وإنشاد الشّعر القبيح وترويج سلعةٍ وغير ذلك .
وقال الحنابلة : إنّ التّقرّب بالصّمت ليس من شريعة الإسلام . قال ابن عقيلٍ : يكره الصّمت إلى اللّيل . وقال الموفّق والمجد : ظاهر الأخبار تحريمه ، وجزم به في الكافي ، قال في الاختيارات : والتّحقيق في الصّمت أنّه إن طال حتّى تضمّن ترك الكلام الواجب صار حراماً ، وكذا إن تعمّد بالصّمت عن الكلام المستحبّ ، والكلام المحرّم يجب الصّمت عنه ، وفضول الكلام ينبغي الصّمت عنها ، وإن نذر الصّمت لم يف به ، لحديث عليٍّ قال : حفظت من النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا صمات يومٍ إلى اللّيل » .
د - الكلام :
51 - ينبغي للمعتكف ألاّ يتكلّم إلاّ بخيرٍ ، وأن يشتغل بالقرآن والعلم والصّلاة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والذّكر ، لأنّه طاعةٌ في طاعةٍ ، وكتدريس سيرة الرّسول عليه الصلاة والسلام وقصص الأنبياء وحكايات الصّالحين .
قال الحنفيّة : يكره للمعتكف تحريماً التّكلّم إلاّ بخيرٍ ، وهو ما لا إثم فيه . وعند المالكيّة أنّ الاشتغال بغير الذّكر والتّلاوة والصّلاة مكروهٌ ، أمّا هذه الثّلاثة ففعلها مستحبٌّ .
وقال الحنابلة : يستحبّ له اجتناب ما لا يعنيه من جدالٍ ومراءٍ وكثرة كلامٍ وغيره ، لقوله عليه الصلاة والسلام « من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه » ، لأنّه مكروهٌ في غير الاعتكاف ففيه أولى . روى الخلاّل عن عطاءٍ قال : ( كانوا يكرهون فضول الكلام ، وكانوا يعدّون فضول الكلام : ما عدا كتاب اللّه أن تقرأه ، أو أمراً بمعروفٍ ، أو نهياً عن منكرٍ ، أو تنطق في معيشتك بما لا بدّ لك منه ) .
ويكره عند المالكيّة والحنابلة للمعتكف الاشتغال بتدريس العلم ومناظرة الفقهاء ونحو ذلك من غير العبادات الّتي يختصّ نفعها به ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعتكف ، فلم ينقل عنه الاشتغال بغير العبادات المختصّة به . وعند ابن وهبٍ من المالكيّة ، وأبي الخطّاب من الحنابلة استحباب ذلك لأنّه من أنواع البرّ إذا قصد الطّاعة لا المباهاة .
هـ - الطّيب واللّباس :
52 -يجوز للمعتكف أن يتطيّب بأنواع الطّيب في ليلٍ أو نهارٍ عند المالكيّة والشّافعيّة ، سواءٌ أكان رجلاً أم امرأةً عند المالكيّة ، وهو المشهور في مذهبهم . وكذا يجوز عند المالكيّة والشّافعيّة أخذ الظّفر والشّارب ، وقيّد المالكيّة الجواز بكونه خارج المسجد إذا خرج لعذرٍ . أمّا حلق الرّأس ، فقال المالكيّة : يكره مطلقاً إلاّ أن يتضرّر . وزاد الشّافعيّة التّصريح بجواز لبس الثّياب الحسنة ، لأصل الإباحة .
وقال الحنابلة : يستحبّ للمعتكف ترك لبس رفيع الثّياب ، والتّلذّذ بما يباح له قبل الاعتكاف ، ويكره له الطّيب . قال أحمد : لا يعجبني أن يتطيّب .

اعتمار*ٌ
انظر : عمرةٌ .
اعتمامٌ*
انظر : عمامةٌ .
اعتناقٌ*
انظر : معانقةٌ ، اعتقادٌ .
اعتيادٌ*
انظر : عادةٌ .
اعتياضٌ *
التعريف :
1 - الاعتياض لغةً : أخذ العوض ، والاستعاضة : طلب العوض .
ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ عن ذلك ، وقد يطلق الفقهاء الاستعاضة على أخذ العوض .
الحكم الإجماليّ :
2 - الاعتياض نوعٌ من التّصرّفات المشروعة على سبيل الجواز في الجملة إذا كان صادراً ممّن هو أهلٌ للتّصرّف فيما يجوز له التّصرّف فيه ، إلاّ فيما يخالف الشّرع ، أو ما يتعلّق به حقّ الغير . ودليل ذلك قوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم } وقوله تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهنّ أجورهنّ } ، وقوله تعالى : { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } وقوله تعالى : { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً } ، وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الصّلح جائزٌ بين المسلمين إلاّ صلحاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً » . والحكمة تقتضي ذلك للتّعاون ، ولتعلّق حاجة الإنسان بما في يد صاحبه ولا يبذله له بغير عوضٍ ، ومراعاة حاجة النّاس أصلٌ في شرع العقود .
وقد تعرض له الأحكام التّكليفيّة ، فيكون واجباً كما إذا أخرج الوليّ أو الوصيّ أو النّاظر شيئاً ممّا بيدهم ، فيجب عليهم الاعتياض عنه ، لمنعهم من التّبرّع . وقد يكون مندوباً كالاستجابة لحالفٍ عليه فيما لا ضرر فيه ، لأنّ إبرار القسم مندوبٌ . وقد يكون حراماً كأخذ ثمن الخمر ، والخنزير ، ومهر البغيّ ، وحلوان الكاهن ، وكأخذ الأجرة على المعاصي . وهكذا كلّ معاوضةٍ خالفت أمر الشّارع . وكأخذ بدل الخلع إن عضلها الزّوج ، أي ضايقها بدون سببٍ من جهتها لتختلع منه .
ما يجري فيه الاعتياض وأسبابه :
3 - الاعتياض يجري في كلّ ما يملكه الإنسان من عينٍ ، أو دينٍ ، أو منفعةٍ ، أو حقٍّ إذا كان ذلك موافقاً للقواعد العامّة للشّرع .
والأصل في الأعواض وجوبها بالعقود فإنّها أسبابها ، والأصل ترتّب المسبّبات على أسبابها . والاعتياض يتمّ بواسطة عقدٍ بين طرفين وهو ما يسمّى بعقود المعاوضات الّتي يتمّ العقد فيها على الملك كالبيع ، أو على المنفعة كالإجارة والجعالة ، ومن ذلك ما يتمّ ضمن عقودٍ أخرى ، كالصّلح بأقسامه المعروفة ، وكهبة الثّواب . ويلحق بذلك الإسقاط بعوضٍ ، كالخلع ، وكتابة العبد ، والاعتياض عن الحقوق الّتي ليست بعينٍ ولا دينٍ ولا منفعةٍ كحقّ القصاص . يقول القرافيّ : تصرّفات المكلّفين إمّا نقلٌ أو إسقاطٌ أو ... إلخ .
والنّقل ينقسم إلى ما هو بعوضٍ في الأعيان كالبيع والقرض ، أو في المنافع كالإجارة ، ويندرج فيها المساقاة والقراض والمزارعة والجعالة ، وإلى ما هو بغير عوضٍ كالهدايا والوصايا ... إلخ . والإسقاط إمّا بعوضٍ كالخلع والعفو على مالٍ والكتابة ، أو بغير عوضٍ كالإبراء من الدّيون ... إلخ .
أقسام المعاوضات :
4 - المعاوضات قسمان :
أ - معاوضاتٌ محضةٌ : وهي ما يقصد فيها المال من الجانبين ، والمراد بالمال ما يشمل المنفعة ، كالبيع والإجارة ، وهذه العقود يفسد العقد فيها بفساد العوض .
ب - معاوضاتٌ غير محضةٍ : وهي ما يقصد فيها المال من جانبٍ واحدٍ كالخلع . وهذه لا يفسد العقد فيها بفساد العوض . ولكلّ عقدٍ من عقود المعاوضات - سواءٌ أكانت محضةً أم غير محضةٍ - أركانه وشرائطه الخاصّة وتنظر في أبوابها .
شرائط إجماليّةٌ للاعتياض :
5 - في الجملة يجب أن يتوافر في عقود المعاوضات المحضة ما يأتي :
أ - أن يكون محلّ العقد ممّا يمكن تطبيق مقتضى العقد عليه ، ويصلح لاستيفائه منه ، فلا يجوز الاعتياض عمّا لا يصلح محلاًّ للعقد ، كالميتة والدّم ، ولا عن المعدوم كنتاج النّتاج ، ولا عن المباحات كالكلأ ، ولا الإجارة على المعاصي وهكذا .
ب - أن يكون محلّ العقد خالياً من الغرر الّذي يؤدّي إلى النّزاع والخلاف ، فلا يجوز عقد اعتياضٍ على الجمل الشّارد ، والسّمك في الماء ، والطّير في الهواء ، وهكذا .
ج - أن يكون العقد خالياً من الرّبا . والعوض والمعوّض فيما مرّ سواءٌ .
ولا يخلو الأمر عند تفصيل ذلك وتطبيقه على الفروع والجزئيّات من اختلاف الفقهاء وتشعّب آرائهم فيه ، يقول الكاسانيّ : العوض في المعاوضات المطلقة قد يكون عيناً ، وقد يكون ديناً ، وقد يكون منفعةً ، إلاّ أنّه يشترط القبض في بعض الأعواض في بعض الأحوال دون بعضٍ . فمثلاً صفة الجودة في الأموال يجوز الاعتياض عنها ، لكنّ ذلك ساقطٌ في الأموال الرّبويّة تعبّداً لما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم : « جيّدها ورديئها سواءٌ » فبقيت متقوّمةً في غيرها على الأصل .
6 - أمّا في المعاوضات غير المحضة ، فإنّه يتسامح فيها ما لا يتسامح في غيرها ، ومن أمثلة ذلك :
أ - ما جاء في شرح منتهى الإرادات : يصحّ الخلع على ما لا يصحّ مهراً لجهالةٍ أو غررٍ ، لأنّ الخلع إسقاط حقّه من البضع ، والإسقاط يدخله المسامحة . ومثل ذلك في منح الجليل .
ب - ما جاء في العناية بهامش تكملة فتح القدير : ليس من شرط العوض في الهبة أن يساوي الموهوب ، بل القليل والكثير ، الجنس وخلافه سواءٌ ، لأنّها ليست بمعاوضةٍ محضةٍ فلا يتحقّق فيها الرّبا . وفي الدّسوقيّ على الشّرح الكبير : هبة الثّواب تجوز مع جهل عوضها وجهل أجله .
ج - ما قاله ابن القاسم : الكتابة بالغرر جائزةٌ ، كآبقٍ وشاردٍ وثمرٍ لم يبد صلاحه .
7 - في الاعتياض عن الحقوق يجب مراعاة الآتي :
أ - لا يجوز الاعتياض عن حقّ اللّه سبحانه وتعالى ، كحدّ الزّنى وشرب الخمر .
ب - لا يجوز الاعتياض عن حقّ الغير كنسب الصّغير .
ج - يرى جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ) أنّه لا يجوز الاعتياض عن الحقوق الّتي ثبتت لإزالة الضّرر ، وهي ما تسمّى عند الحنفيّة بالحقوق المجرّدة ، كحقّ الشّفعة ، وهبة الزّوجة ليلتها لإحدى ضرائرها . ويجوز ذلك عند المالكيّة . ( ر : إسقاطٌ ) .
مواطن البحث :
8 - الاعتياض يأتي في كثيرٍ من أبواب الفقه ، كالبيع ، والإجارة ، والصّلح ، والهبة ، والخلع .
أعجميٌّ *
التعريف :
1 - الأعجميّ هو من لا يفصح ، سواءٌ أكان من العجم أم من العرب . أمّا العجميّ فهو من كان من غير جنس العرب ، سواءٌ أكان فصيحا أم غير فصيحٍ ، وأصل الكلمة : الأعجم ، وهو من لا يفصح وإن كان عربيّاً فياء النّسبة في الأعجميّ للتّوكيد . وجمعه أعجميّون ، وغالباً ما يطلق على غير العربيّ ممّن ينطق بلغاتٍ أخرى من اللّغات المختلفة في العالم . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذين المعنيين اللّغويّين .
2 - الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الأعجم : من معاني الأعجم أيضاً : من لا ينطق من إنسانٍ أو حيوانٍ . ومؤنّثه عجماء .
ب - اللّحّان : وهو العربيّ الّذي يميل عن جهة الاستقامة في الكلام .
الحكم الإجماليّ :
3 - جمهور الفقهاء على أنّ الأعجميّ إن كان يحسن العربيّة فإنّه لا يجزئه التّكبير بغيرها من اللّغات ، والدّليل أنّ النّصوص أمرت بذلك اللّفظ ، وهو عربيٌّ ، وإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعدل عنها .
وقال أبو حنيفة يجزئه ولو كان يحسنها ، لقوله تعالى : { وذكر اسم ربّه فصلّى } وهذا قد ذكر اسم ربّه ، ولكن يكره له ذلك . أمّا إن كان الأعجميّ لا يحسن العربيّة ، ولم يكن قادراً على النّطق بها ، فإنّه يجزئه عند جمهور الفقهاء التّكبير بلغته بعد ترجمة معانيها بالعربيّة على ما صرّح به الشّافعيّة والحنابلة ، أيّاً كانت تلك اللّغة ، لأنّ التّكبير ذكر اللّه تعالى ، وذكر اللّه تعالى يحصل بكلّ لسانٍ ، فاللّغة غير العربيّة بديلٌ لذلك . ويلزمه تعلّم ذلك . ومذهب المالكيّة ، وهو وجهٌ عند الحنابلة ، أنّه إذا عجز عن التّكبير بالعربيّة سقط عنه ، ويكتفي منه بنيّة الدّخول في الصّلاة . وعلى هذا الخلاف جميع أذكار الصّلاة من التّشهّد والقنوت والدّعاء وتسبيحات الرّكوع والسّجود .
4 - أمّا قراءة القرآن ، فالجمهور على عدم جوازها بغير العربيّة خلافاً لأبي حنيفة ، والمعتمد أنّه رجع إلى قول صاحبيه . ودليل عدم الجواز قوله تعالى : { إنّا أنزلناه قرآناً عربيّاً } ، ولأنّ القرآن معجزٌ لفظه ومعناه ، فإذا غيّر خرج عن نظمه ، فلم يكن قرآناً وإنّما يكون تفسيراً له . هذا في الصّلاة ، وكذلك الحكم في غيرها فلا يسمّى قرآناً ما يقرأ من ترجمة معانيه . والتّفصيل في مصطلحي : ( صلاةٌ ) ( وقراءةٌ ) .
مواطن البحث :
5 - يفصّل الفقهاء ذلك عند الكلام عن تكبيرة الإحرام وقراءة القرآن في الصّلاة ، ويتكلّمون عن الطّلاق بغير العربيّة في بابه ، وعن الشّهادة بالأعجميّة في الشّهادة .

أعذار*ٌ
انظر : عذرٌ .
إعذارٌ *
التعريف :
1 - من معاني الإعذار لغةً : المبالغة ، يقال : أعذر في الأمر ، إذا بالغ فيه ، وفي المثل : أعذر من أنذر ، يقال ذلك لمن يحذر أمراً يخاف ، سواءٌ حذّر أم لم يحذّر ، وأعذر أيضاً : صار ذا عذرٍ ، قيل : ومنه قولهم : أعذر من أنذر . وعذرت الغلام والجارية عذراً : ختنته فهو معذورٌ ، وأعذرته لغةً فيه ، والإعذار أيضاً : طعامٌ يتّخذ لسرورٍ حادثٍ ، ويقال : هو طعام الختان خاصّةً ، وهو مصدرٌ مسمًّى به ، يقال : أعذر إعذاراً : إذا صنع ذلك الطّعام . ولا يخرج معناه في الاصطلاح عن المعاني السّابقة . قال ابن سهلٍ : والإعذار : المبالغة في العذر ، ومنه أعذر من أنذر ، أي قد بالغ في الإعذار من تقدّم إليك فأنذرك ، ومنه إعذار القاضي إلى من ثبت عليه حقٌّ يؤخذ منه ، فيعذر إليه فيمن شهد عليه بذلك .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإنذار :
2 - الإنذار : الإبلاغ ، وأكثر ما يستعمل في التّخويف كقوله تعالى : { وأنذرهم يوم الآزفة } أي خوّفهم عذاب هذا اليوم . فيجتمع مع الإعذار في أنّ كلاًّ منهما إبلاغٌ مع تخويفٍ إلاّ أنّ في الإعذار المبالغة .
ب - الإعلام :
3 - الإعلام : مصدر أعلم . يقال أعلمته الخبر : أي عرّفته إيّاه ، فهو يجتمع مع الإعذار في أنّ في كلٍّ منهما تعريفاً ، إلاّ أنّ في الإعذار المبالغة .
ج - الإبلاغ :
4 - الإبلاغ : مصدر أبلغ ، والاسم منه البلاغ ، وهو بمعنى الإيصال . يقال : أبلغته السّلام : أي أوصلته إيّاه . فهو يجتمع مع الإعذار في أنّ في كلٍّ منهما إيصالاً لما يراد ، لكنّ الإعذار ينفرد بالمبالغة .
د - التّحذير :
5 - التّحذير : التّخويف من فعل الشّيء . يقال : حذّرته الشّيء فحذره : إذا خوّفته فخافه ، فهو يجتمع مع الإعذار في التّخويف ، وينفرد الإعذار بأنّه لقطع العذر .
هـ - الإمهال :
6 -الإمهال لغةً : مصدر أمهل ، وهو التّأخير . ولا يخرج معناه في الاصطلاح عن ذلك . والفرق بينه وبين الإعذار : أنّ الإعذار قد يكون مع ضرب مدّةٍ وقد لا يكون . والإمهال لا يكون إلاّ مع ضرب مدّةٍ . كما أنّ الإمهال لا تلاحظ فيه المبالغة .
و- التّلوّم :
7 - التّلوّم لغةً : الانتظار والتّمكّث ، والمعنى الاصطلاحيّ لا يخرج عن ذلك ، إذ يراد به عند الفقهاء عدم الفوريّة في الأمر ، بل يطلق الانتظار في كلّ أمرٍ بما يناسبه .
والكلام في هذا البحث خاصٌّ بالإعذار بمعنى المبالغة في قطع العذر . أمّا بمعنى الختان أو الطّعام المصنوع لسرورٍ حادثٍ فينظر الكلام فيهما تحت عنواني : ( ختانٌ ، ووليمةٌ ) .
حكمه التّكليفيّ :
8 - مواطن الإعذار متعدّدةٌ ، وليس لها حكمٌ واحدٌ يجمعها ، لكنّه في الجملة مطلوبٌ ، ويختلف حكمه بحسب ما يتعلّق به ، فمن الفقهاء من يراه واجباً في بعض المواطن ، ومنهم من يراه مستحبّاً ، ومنهم من منعه على نحو ما يأتي .
دليل المشروعيّة :
9 - الأصل في مشروعيّة الإعذار قوله تعالى في سورة الإسراء : { وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً } وقوله تعالى في سورة النّمل في قصّة الهدهد : { لأعذّبنّه عذاباً شديداً أو لأذبحنّه أو ليأتينّي بسلطانٍ مبينٍ } وجه الاستدلال بالأولى : أنّ اللّه لا يهلك أمّةً بعذابٍ إلاّ بعد الرّسالة إليهم والإنذار ، ومن لم تبلغه الدّعوة فهو غير مستحقٍّ للعذاب .
ووجه الاستدلال بالثّانية : أنّ فيها دليلاً على أنّ الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيّته ، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم ، لأنّ سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه .
الإعذار في الرّدّة ( الاستتابة ) :
10 - الرّدّة : الرّجوع عن الإسلام قولاً أو فعلاً على خلافٍ وتفصيلٍ فيما يكون ردّةً أو لا يكون ، ينظر تحت عنواني : ( إسلامٌ ، ردّةٌ ) .
حكم الإعذار إلى المرتدّ :
11 - مذهب الحنفيّة ، وقولٌ للشّافعيّة ، وروايةٌ عن الإمام أحمد أنّ استتابة المرتدّ مستحبّةٌ وليست واجبةً ، فقد قال الحنفيّة : من ارتدّ عرض عليه الإسلام استحباباً على المذهب ، وتكشف شبهته ويحبس وجوباً ، وقيل : ندباً ثلاثة أيّامٍ يعرض عليه الإسلام في كلّ يومٍ منها إن طلب المهلة ليتفكّر ، فإن لم يطلب مهلةً بعد عرض الإسلام عليه وكشف شبهته قتل من ساعته ، إلاّ إذا رجي إسلامه فإنّه يمهل ، قيل : وجوباً ، وقيل : استحباباً ، وهو الظّاهر . وإذا ارتدّ ثانياً ثمّ تاب ضربه الإمام وخلّى سبيله ، وإن ارتدّ ثالثاً ضربه الإمام ضرباً وجيعاً وحبسه حتّى تظهر عليه آثار التّوبة ، ويرى أنّه مخلصٌ ثمّ يخلّي سبيله ، فإن عاد فعل به هكذا . لكن نقل ابن عابدين عن آخر حدود الخانيّة معزيّاً للبلخيّ ما يفيد قتله بلا استتابةٍ ، لحديث : « من بدّل دينه فاقتلوه » ، وكره تنزيهاً قتله قبل العرض عليه ، فإن قتله قبل العرض فلا ضمان ، لأنّ الكفر مبيحٌ للدّم .
واستدلّ القائلون بعدم وجوب الاستتابة بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من بدّل دينه فاقتلوه » ولم يذكر استتابته .
ومذهب المالكيّة ، والمعتمد عند الشّافعيّة ، والمذهب عند الحنابلة . أنّ المرتدّ لا يقتل حتّى يستتاب وجوباً ، ومدّة الاستتابة عند المالكيّة والحنابلة ، وفي قولٍ للشّافعيّة ثلاثة أيّامٍ بلياليها ، وفي قول ابن القاسم من المالكيّة ، أنّه يستتاب ثلاث مرّاتٍ في يومٍ واحدٍ ، قال المالكيّة : والأيّام الثّلاثة ، هي من يوم الثّبوت لا من يوم الكفر ، ولا يحسب يوم الرّفع إلى الحاكم ، ولا يوم الثّبوت إن كان الثّبوت بعد طلوع الفجر ، ولا يعاقب بجوعٍ ولا عطشٍ ولا بأيّ نوعٍ من أنواع العقاب ، وإن لم يعد بالتّوبة فإن تاب ترك ، وإن لم يتب قتل ، وفي قول عند الشّافعيّة : أنّ المرتدّ يقتل في الحال بلا استتابةٍ .
دليل القائلين بالوجوب :
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
12 - احتجّ القائلون بوجوب الاستتابة« بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أن يستتاب المرتدّ »، وبما روى الإمام مالكٌ في الموطّأ عن عبد الرّحمن بن محمّد بن عبد اللّه بن عبد القاريّ عن أبيه أنّه قدم على عمر رجلٌ من قبل أبي موسى فقال له عمر : هل من مغربة خبرٍ ؟ قال : نعم . رجلٌ كفر بعد إسلامه ، فقال : ما فعلتم به ؟ قال : قرّبناه فضربنا عنقه . فقال عمر : فهلاّ حبستموه ثلاثاً ، فأطعمتموه رغيفاً كلّ يومٍ واستتبتموه لعلّه يتوب أو يراجع أمر اللّه ، اللّهمّ إنّي لم أحضر ، ولم أرض إذ بلغني .
ولو لم تجب استتابته لما برئ من فعلهم ، ولأنّه أمكن استصلاحه فلم يجز إتلافه قبل استصلاحه كالثّوب النّجس ، وأمّا الأمر بقتله في قوله صلى الله عليه وسلم : « من بدّل دينه فاقتلوه » . فالمراد به قتله بعد الاستتابة .
الإعذار إلى المرتدّة :
13 - مذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّه لا فرق بين الرّجال والنّساء في وجوب قتل المرتدّ أو المرتدّة بعد الاستتابة إن لم يرجعوا إلى الإسلام على التّفصيل السّابق في وجوب الإعذار أو استحبابه . روي ذلك عن أبي بكرٍ وعليٍّ رضي الله عنهما ، وبه قال الحسن والزّهريّ والنّخعيّ ومكحولٌ وحمّادٌ واللّيث والأوزاعيّ مستدلّين بقوله صلى الله عليه وسلم : « من بدّل دينه فاقتلوه » ، وروي عن عليٍّ والحسن وقتادة أنّها تسترقّ ولا تقتل ، لأنّ أبا بكرٍ استرقّ نساء بني حنيفة .
ومذهب الحنفيّة : أنّها تجبر على الإسلام بالحبس والضّرب ولا تقتل ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا تقتلوا امرأةً » ، ولأنّها لا تقتل بالكفر الأصليّ فلا تقتل بالطّارئ . وللمالكيّة تفصيلٌ إذ قالوا : إنّها تقتل إن لم ترجع إلى الإسلام ، لكن تستبرأ قبل القتل بحيضةٍ ، خشية أن تكون حاملاً ، فإن حاضت أيّام الاستتابة انتظر تمامها فينتظر أقصر الأجلين ، فإن ظهر بها حملٌ أخّرت حتّى تضع .
ومقتضى ما ذكر أنّ المرتدّة تستتاب عند الأئمّة الثّلاثة ، فإن رجعت إلى الإسلام وإلاّ قتلت ، وأنّ مذهب الحنفيّة جبرها على العودة إلى الإسلام بالحبس والضّرب .
الإعذار في الجهاد :
14 - الحربيّون هم الكفّار الّذين يقيمون ببلاد الكفر ، ولا صلح لهم مع المسلمين . فهؤلاء هم الّذين يحاربون باتّفاق الفقهاء ، لقوله تعالى : { وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ ويكون الدّين كلّه للّه } . وشرط محاربتهم بلوغ الدّعوة إليهم فلا تجوز محاربتهم قبل ذلك ، وهو أمرٌ أجمع عليه المسلمون ، لقوله تعالى : { وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً } ولكن هل يجب تكرار دعوتهم إذا تكرّرت محاربتهم ؟ فالجمهور على أنّه لا يجب تكرار دعوتهم ، بل يستحبّ . قال الكاسانيّ : وأمّا بيان ما يجب على الغزاة الافتتاح به حالة الوقعة ولقاء العدوّ ، فإنّ الأمر فيه لا يخلو من أحد وجهين : إمّا أن تكون الدّعوة قد بلغتهم ، وإمّا أن تكون لم تبلغهم ، فإن كانت الدّعوة لم تبلغهم فعليهم الافتتاح بالدّعوة إلى الإسلام باللّسان ، لقول اللّه تبارك وتعالى : { ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالّتي هي أحسن } ولا يجوز لهم القتال قبل الدّعوة ، لأنّ الإيمان وإن وجب عليهم قبل بلوغ الدّعوة بمجرّد العقل ، فاستحقّوا القتل بالامتناع ، لكنّ اللّه تبارك وتعالى حرّم قتالهم قبل بعث الرّسول عليه الصلاة والسلام ، وبلوغ الدّعوة إيّاهم فضلاً منه ومنّةً ، قطعاً لمعذرتهم بالكلّيّة ، وإن كان لا عذر لهم في الحقيقة ، لمّا أقام سبحانه وتعالى من الدّلائل العقليّة الّتي لو تأمّلوها حقّ التّأمّل ونظروا فيها لعرفوا حقّ اللّه تبارك وتعالى عليهم ، لكن تفضّل عليهم بإرسال الرّسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، لئلاّ يبقى لهم شبهة عذرٍ فيقولون : { ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتّبع آياتك } وإن لم يكن لهم أن يقولوا ذلك في الحقيقة لما بيّنّا ، ولأنّ القتال ما فرض لعينه ، بل للدّعوة إلى الإسلام .
والدّعوة دعوتان : دعوة بالبنان وهي القتال ، ودعوة بالبيان وهي اللّسان ، وذلك بالتّبليغ ، والثّانية أهون من الأولى ، لأنّ في القتال مخاطرة الرّوح والنّفس والمال ، وليس في دعوة التّبليغ شيءٌ من ذلك ، فإذا احتمل حصول المقصود بأهون الدّعوتين لزم الافتتاح بها ، هذا إذا كانت الدّعوة لم تبلغهم . فإن كانت قد بلغتهم جاز لهم أن يفتتحوا القتال من غير تجديد الدّعوة ، لما بيّنّا أنّ الحجّة لازمةٌ ، والعذر في الحقيقة منقطعٌ ، وشبهة العذر انقطعت بالتّبليغ مرّةً ، لكن مع هذا الأفضل ألاّ يفتتحوا القتال إلاّ بعد تجديد الدّعوة لرجاء الإجابة في الجملة ، وقد روي «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقاتل الكفرة حتّى يدعوهم إلى الإسلام ». فيما كان دعاهم غير مرّةٍ . دلّ أنّ الافتتاح بتجديد الدّعوة أفضل ، ثمّ إذا دعوهم إلى الإسلام فإن أسلموا كفّوا عنهم القتال ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه ، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها » وقوله عليه الصلاة والسلام « من قال : لا إله إلاّ اللّه فقد عصم منّي دمه وماله » فإن أبوا الإجابة إلى الإسلام دعوهم إلى الذّمّة إلاّ مشركي العرب والمرتدّين ( لأنّه لا يقبل منهم إلاّ الإسلام ) فإن أجابوا كفّوا عنهم ، وإن أبوا استعانوا باللّه سبحانه وتعالى على قتالهم . وذهب المالكيّة في المشهور إلى أنّهم يدعون وجوباً سواءٌ بلغتهم الدّعوة أم لا ، ما لم يعاجلونا بالقتال أو يكون الجيش قليلاً ، قالوا : ومن هذا القبيل كانت إغارة سراياه عليه الصلاة والسلام . وللحنابلة تفصيلٌ بيّنه ابن قدامة بقوله : أهل الكتاب والمجوس لا يدعون قبل القتال ، لأنّ الدّعوة قد انتشرت وعمّت ، فلم يبق منهم من لم تبلغه الدّعوة إلاّ نادراً بعيداً . وأمّا عبدة الأوثان فإنّ من بلغته الدّعوة منهم لا يدعون ، وإن وجد منهم من لم تبلغه الدّعوة دعي قبل القتال ، قال أحمد :« كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام قبل أن يحارب حتّى أظهر اللّه الدّين وعلا الإسلام »، ولا أعرف اليوم أحداً يدعى ، قد بلغت الدّعوة كلّ أحدٍ ، فالرّوم قد بلغتهم الدّعوة وعلموا ما يراد منهم ، وإنّما كانت الدّعوة في أوّل الإسلام ، وإن دعا فلا بأس .
الإعذار إلى البغاة :
15 - البغاة : هم الخارجون على الإمام الحقّ بتأويلٍ ، ولهم منعةٌ . وقد اتّفق المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه لا يجوز قتالهم حتّى يبعث إليهم الإمام أميناً فطناً ناصحاً يسألهم ما ينقمون ، فإن ذكروا مظلمةً أو شبهةً أزالها ، فإن أصرّوا بعد الإعذار نصحهم ، بأن يعظهم ويأمرهم بالعودة إلى طاعته ، فإن استمهلوه اجتهد في الإمهال ، وفعل ما رآه صواباً . وهذا كلّه ما لم يعاجلوا بالقتال ، فإن عاجلوا قوتلوا . وقال الحنفيّة : إنّ دعوتهم إلى طاعة الإمام وكشف شبهتهم أمرٌ مستحبٌّ وليس واجباً ، ولو قاتلهم بلا دعوةٍ جاز .
الإعذار في الدّعوى :
16 - المدّعى عليه هو كلّ من توجّه عليه حقٌّ ، إمّا بإقرارٍ ، إن كان ممّن يصحّ إمراره ، وإمّا بالشّهادة عليه بعد عجزه عن دفع الدّعوى وبعد الإعذار إليه قبل الحكم ، وإمّا بالشّهادة عليه مع يمين الاستبراء ، إن كان الحقّ على ميّتٍ أو على غائبٍ ، وإمّا بلدده وتغيّبه عن حضور مجلس الحكم وقيام البيّنة عليه ، وإمّا بالشّهادة عليه ولدده عن الجواب عن الدّعوى . والمقضىّ عليهم أنواعٌ : منهم الحاضر المالك أمره ، ومنهم الغائب الصّغير المحجور عليه ، ومنهم السّفيه المولّى عليه ، ومنهم الورثة المدّعى عليهم في مال الميّت وفيهم الصّغير والكبير . فإذا كان المدّعى عليه حاضراً بمجلس القضاء ، وادّعيت الدّعوى وكانت مستوفية الشّروط ، طلب القاضي من المدّعى عليه الجواب عنها ، وسار القاضي فيها حسبما هو مدوّنٌ في كتب الفقهاء . فإن أقرّ المدّعى عليه بالحقّ المدّعى ، فهل يحكم القاضي بمقتضى الإقرار حالاً ، أو أنّه يجوز له أن يتّخذ إجراءً آخر جائزاً أو واجباً ؟
قال الجمهور ، وهو المنصوص عن أحمد : يقضى على المدّعى عليه بإقراره من غير أمرٍ آخر كالإعذار ونحوه . وقال القاضي أبو يعلى من الحنابلة : لا بدّ للحكم بمقتضى الإقرار أن يشهد على الإقرار شاهدان . وفي المذاهب تفصيلاتٌ في الإعذار إلى الغائب عن مجلس القضاء ، في حكم الإعذار وفي وقته ، وفي المسافة الّتي يعذر إليه فيها ، وفي المدّعى عليه الّذي يمتنع الإعذار إليه . وفقهاء الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة على أنّه لا يقضى على الغائب عن مجلس القضاء إلاّ بعد الإعذار . وقال الشّافعيّة : يقضى عليه . وتختلف المذاهب في زمن الإعذار وكيفيّته .
ما يسقط به الإعذار :
17 - قال المالكيّة : كلّ من قامت عليه بيّنةٌ بحقٍّ من معاملةٍ أو نحوها ، أو دعوى بفسادٍ أو تعدٍّ أو غصبٍ ، فلا بدّ من الإعذار إليه قبل الحكم ، إلاّ أن يكون من أهل الفساد الظّاهر ، أو من الزّنادقة المشهورين بما ينسب إليهم ، فلا يعذر إليهم فيما شهد به عليهم . كما حدث بالنّسبة لأبي الخير الزّنديق ، لمّا شهد عليه ثمانية عشر شاهداً أمام قاضي الجماعة منذر بن سعيدٍ بأنّه يصرّح بالكفر والانسلاخ من الإيمان ، فأشار بعض العلماء بأن يعذر إليه فيما شهد به عليه ، وأشار قاضي الجماعة وبعضٌ آخر من العلماء بأنّه يقتل بغير إعذارٍ ، لأنّه ملحدٌ كافرٌ ، وقد وجب قتله بدون ما ثبت عليه فقتل بغير إعذارٍ ، فقيل لأحدهم أن يذكر لهم وجه الحكم ، فذكر أنّ الّذي اعتمد عليه في الفتيا بالقتل بدون إعذارٍ أنّ مذهب مالكٍ قطع الإعذار عمّن استفاضت عليه الشّهادات في الظّلم ، وعلى مذهبه في السّلاّبة والمغيّرين وأشباههم ، إذا شهد عليهم المسلوبون والمنتهبون أن تقبل شهادتهم عليهم - إذا كانوا من أهل القبول - بدون إعذارٍ . وكذلك لا يعذر في مثل رجلٍ يتعلّق برجلٍ ، وجرحه يدمي ، فيصدّق بقوله . وفي الّتي تتعلّق بالرّجل في المكان الخالي وقد فضحت نفسها بإصابته لها ، فتصدّق بفضيحة نفسها . ومثل هذا كثيرٌ . واستدلّوا على ذلك بأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال : « إنّما أنا بشرٌ ، وإنّكم تختصمون إليّ ، فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعضٍ ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه » وهذا الحديث هو الأصل في هذا الباب ولا إعذار فيه . وكذلك كتاب عمر بن الخطّاب إلى أبي عبيدة بن الجرّاح ، وإلى أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنهم ، وهما أيضاً ملاذ الحكّام في الأحكام ، ولا إعذار منهما ولا إقالة من حجّةٍ ولا كلمةٍ ، غير أنّ الإعذار فيما يتحاكم فيه النّاس من غير أسباب الدّيانات استحسانٌ من الأئمّة ، فأمّا في إقامة الحدود في الإلحاد والزّندقة وتكذيب القرآن والرّسول عليه الصلاة والسلام فلم يرد فيه شيءٌ عندهم . قالوا : وما يمتنع فيه الإعذار كثيرٌ ولم يعثر على أقوالٍ في المذاهب الأخرى في مثل هذا .
التّأجيل في الإعذار :
18 - الإعذار يكون إلى المدّعي ، فيقول له القاضي : أبقيت لك حجّةٌ ؟ وقد يكون إلى المدّعى عليه ، فيسأله القاضي : ألك دفعٌ فيما ادّعى به عليك ؟ فإذا أعذر القاضي إلى من توجّه الإعذار إليه ، سواءٌ أكان مدّعياً أم مدّعًى عليه . وقال : نعم ، وسأله التّأجيل ، ضرب له أجلاً بحسب تلك الواقعة حسب اجتهاده في بلوغ من أجّل له الوصول إلى قصده بغير إضرارٍ بخصمه ، فإن كان التّأجيل للمدّعى عليه ، وأتى بدفعٍ فيما شهد به عليه ، وسأل المدّعي التّأجيل أيضاً ، وزعم أنّ له دفعاً فيما جاء به المدّعى عليه ، ضرب له أجلاً أيضاً ، وتلوّم عليه ( انتظر ) حتّى يتبيّن الحقّ ، ويظهر عجز أحدهما ، فيقضى على نحو ما ثبت . والحكم كذلك في جميع المذاهب .
آجالٌ مقدّرةٌ من الشّارع :
19 - هناك آجالٌ لا يدخلها اجتهاد الحاكم ، بل هي مقدّرةٌ بالشّرع لأجل الإعذار ، منها : تأجيل العنّين ، وسبق تفصيله في ( أجلٌ ) ويأتي في ( عنّةٌ ) .
إعذار المولي :
20 - فقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، عرّفوا الإيلاء بأنّه : الحلف على ترك الزّوج وطء زوجته أكثر من أربعة أشهرٍ .
وعرّفه الحنفيّة بأنّه : الحلف على ترك وطء الزّوجة أربعة أشهرٍ فأكثر ، فالخلاف بينهم وبين غيرهم في أقلّ المدّة الّتي يحلف على التّرك فيها ، فعند الجمهور أكثر من أربعة أشهرٍ ، وعند الحنفيّة أربعة أشهرٍ ، والإعذار عند الجمهور أنّ المولي يقفه ( يحضره ) القاضي بعد تمام الأشهر الأربعة ، إذا رافعته امرأته فيأمره بالفيئة ، فإن أبى أمره بالطّلاق ، ولا تطلق بمضيّ المدّة ، وهذا هو رأي سعيد بن المسيّب وعروة ومجاهدٍ وإسحاق وأبي عبيدٍ وابن المنذر . ومذهب الحنفيّة أنّه إذا مضت أربعة أشهرٍ ولم يقربها ، فقد بانت منه بطلقةٍ واحدةٍ ، ولا حاجة إلى إنشاء تطليقٍ ، أو الحكم بالتّفريق .
والمراد بالأشهر الأشهر القمريّة ، وتبدأ من تاريخ الحلف وهذا باتّفاق الجميع . وينظر أيضاً مصطلح ( أجلٌ ) ومصطلح ( إيلاءٌ ) .
إعذار الممتنع من وطء زوجته :
21 - المنصوص عليه في مذهبي الحنفيّة والشّافعيّة ، أنّ الزّوجة لا حقّ لها في الوطء إلاّ مرّةً واحدةً يستقرّ بها المهر وهذا في القضاء ، وأمّا ديانةً فلها الحقّ في كلّ أربعة أشهرٍ مرّةً ، لأنّ اللّه تعالى جعلها أجلاً لمن آلى من امرأته .
وقال المالكيّة والحنابلة : إنّ الوطء واجبٌ على الزّوج إذا لم يكن له عذرٌ . وقال القاضي أبو يعلى : لا يجب إلاّ أن يترك للإضرار ، وقد بيّن الموّاق أنّ من واصل العبادة وترك الوطء لم ينه عن تبتّله ، وقيل له : إمّا وطئت أو فارقت . قال مالكٌ : وأرى أن يقضى بذلك . قال ابن حبيبٍ : إن كان زاهداً قاضته امرأته ، وقيل له : تخلو معها في كلّ أربع ليالٍ ليلةً ، وهو قسم المرأة مع ضرائرها ، قال خليلٌ : بلا أجلٍ على الأصحّ . وظاهر المدوّنة أنّه يضرب له أجلٌ بمقدار أجل الإيلاء . وروي أنّ عمر ( في حادثة غيبة أحد الغزاة غيبةً طويلةً عن زوجته ) سأل حفصة - زوج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - كم تصبر المرأة عن النّكاح ؟ فقالت : أربعة أشهرٍ ، وبعدها يفنى صبرها أو يقلّ ، فنادى حينئذٍ ألاّ تزيد غزوةٌ عن أربعة أشهرٍ . وفي حاشية سعدي جلبي : والظّاهر أنّ لها حقّاً في الجماع في كلّ أربعة أشهرٍ مرّةً لا أقلّ ، يؤيّده قصّة عمر رضي الله عنه حين سمع من تلك المرأة ما سمع . واستدلّوا « بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد اللّه بن عمرو بن العاص : يا عبد اللّه : ألم أخبر أنّك تصوم النّهار وتقوم اللّيل ؟ قلت : بلى يا رسول اللّه . قال : فلا تفعل . صم وأفطر ، وقم ونم . فإنّ لجسدك عليك حقّاً ، وإنّ لعينك عليك حقّاً ، وإنّ لزوجك عليك حقّاً » فأخبر أنّ للمرأة عليه حقّاً . وقد اشتهرت قصّة كعب بن سورٍ ، ولأنّ النّكاح شرع لمصلحة الزّوجين ، ودفع الضّرر عنهما ، وهو مفضٍ إلى دفع ضرر الشّهوة عن المرأة ، كإفضائه إلى دفع ذلك عن الرّجل ، فيجب تعليله بذلك ، ويكون النّكاح حقّاً لهما جميعاً . ولأنّه لو لم يكن لها فيه حقٌّ لما وجب استئذانها في العزل .
الإعذار إلى الممتنع من الإنفاق على زوجته :
22 - الفقهاء متّفقون على أنّ على الزّوج الإنفاق على زوجته متى تحقّقت الشّروط الموجبة لذلك ، فإذا امتنع من الإنفاق ففي كلّ مذهبٍ شروطٌ وتفصيلاتٌ .
قال الحنفيّة : إذا طلبت المرأة من القاضي أن يفرض لها النّفقة ، ففرض وهو معسرٌ ، فإنّ القاضي يأمرها بالاستدانة ، ثمّ ترجع على الزّوج إذا أيسر ، ولا يحبسه في النّفقة إذا علم أنّه معسرٌ ، وإن لم يعلم القاضي أنّه معسرٌ ، وسألت المرأة حبسه بالنّفقة ، لا يحبسه القاضي في أوّل مرّةٍ ، ولكن يأمره بالإنفاق ويعذر إليه ، بأن يخبره أنّه يحبسه إن لم ينفق . فإن عادت المرأة بعد ذلك مرّتين أو ثلاثاً حبسه القاضي ، وكذا في دينٍ آخر غير النّفقة . وإذا حبسه القاضي شهرين أو ثلاثةً أو أربعةً يسأل عنه . والصّحيح أنّه ليس بمقدّرٍ ، بل هو مفوّضٌ إلى رأي القاضي ، إن كان في أكبر رأيه أنّه لو كان له مالٌ يضجر ويؤدّي الدّين يخلّى سبيله ، ولا يمنع الطّالب عن ملازمته ، ولا يمنعه عن التّصرّف . وإن كان غنيّاً لا يخرجه حتّى يؤدّي الدّين والنّفقة إلاّ برضى الطّالب . فإن كان له مالٌ حاضرٌ أخذ القاضي الدّراهم والدّنانير من ماله ، ويؤدّي منها النّفقة والدّين ، لأنّ صاحب الحقّ لو ظفر بجنس حقّه كان له أن يأخذه ، وكذا إذا ظفر بطعامٍ في النّفقة . والعجز عن الإنفاق لا يوجب حقّ الفراق .
ومذهب المالكيّة : أنّ للزّوجة الفسخ بطلقةٍ رجعيّةٍ ، إن عجز زوجها عن نفقةٍ حاضرةٍ ، ولها أن تبقى معه ، وإن علمت فقره عند العقد فليس لها ذلك . وإذا أرادت الفسخ رفعت الأمر للحاكم فيأمره - إن لم يثبت عسره ببيّنةٍ ، أو تصديقها بالنّفقة أو الكسوة إن شكت عدمها ، أو الطّلاق - ويقول له : إمّا أن تنفق عليها أو تطلّقها . وإن أثبت عسره ابتداءً ، أو بعد الأمر بالطّلاق ، تصبر له بالاجتهاد بما يراه الحاكم من غير تحديدٍ بيومٍ أو أكثر ، وزيد في مدّة التّلوّم إن مرض أو سجن بعد إثبات العسر ، لا في زمن إثباته ، فيزاد بقدر ما يرجى له شيءٌ ، وهذا إذا رجي برؤه من المرض وخلاصه من السّجن عن قربٍ ، وإلاّ طلّق عليه ويستوي في ذلك غياب الزّوج أو حضوره ، والزّوج الغائب الّذي يتلوّم له هو الّذي لم يوجد عنده ما يقابل النّفقة ، ولم يعلم موضعه ، أو زادت غيبته على عشرة أيّامٍ . وأمّا قريب الغيبة كثلاثة أيّامٍ ، فإنّه يرسل إليه الحاكم ، إمّا أن تنفق عليها أو يطلّق عليك .
ومذهب الشّافعيّة أنّ الممتنع من الإنفاق إمّا أن يكون موسراً أو معسراً . فإن كان موسراً فعندهم قولان ، أصحّهما : أنّه لا يفسخ النّكاح حاضراً كان الزّوج أو غائباً ، لانتفاء الإعسار الموجب للفسخ ، وهي متمكّنةٌ من تحصيل حقّها بالرّفع إلى الحاكم .
والثّاني : أنّ لها الفسخ لتضرّرها بالمنع . وإن كان معسراً ، فإن صبرت ، وأنفقت من مالها أو القرض صارت ديناً عليه ، وإلاّ فلها الفسخ في الأظهر ، كما تفسخ بالجبّ والعنّة ، بل هذا أولى ، لأنّ الصّبر على عدم الاستمتاع أسهل من الصّبر على عدم النّفقة ، والثّاني : لا فسخ لها لأنّ المعسر منظرٌ ، لقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ } ولا فسخ حتّى يثبت عند قاضٍ إعساره بالإقرار أو البيّنة .
ثمّ في قولٍ ينجّز الفسخ للإعسار بالنّفقة وقت وجوب تسليمها وهو طلوع الفجر ، ولا يلزم الإمهال ، والأظهر إمهاله ثلاثة أيّامٍ ليتحقّق عجزه ، وهي مدّةٌ قريبةٌ يتوقّع فيها القدرة بقرضٍ أو غيره ، ولها الفسخ صبيحة الرّابع بنفقته إلاّ أن يسلّم نفقته .
ولو رضيت بإعساره العارض ، أو نكحته عالمةً بإعساره فلها الفسخ بعده . ومذهب الحنابلة كمذهب الشّافعيّة في أنّ زوجة المعسر مخيّرةٌ بين الصّبر عليه وبين فراقه . روي نحو ذلك عن عمر وعليٍّ وأبي هريرة ، وبه قال سعيد بن المسيّب والحسن وعمر بن عبد العزيز وربيعة وحمّادٌ وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين . ولم يعثر عند الحنابلة على نصٍّ في لزوم الإعذار للإعسار عن النّفقة ، والظّاهر من كلامهم أنّه يطلّق على الفور .
وتفصيل هذه الأحكام في مصطلحي ( إعسارٌ ، ونفقةٌ ) .
الإعذار إلى المعسر بمعجّل المهر :
23 - إذا ثبت إعسار الزّوج بمعجّل الصّداق وطالبته الزّوجة به فهل يطلّق عليه فور الثّبوت ، أو يعذر إليه قبل الطّلاق ، أو لا إعذار ولا تطليق ؟ اختلف الفقهاء في التّطليق عليه وفي الإعذار إليه ، فقال المالكيّة : إنّه يطلّق عليه لكن بعد الإعذار . وللشّافعيّة والحنابلة أقوالٌ وتفصيلاتٌ في التّطليق عليه . أمّا الحنفيّة فقالوا : لا يطلّق عليه .
وقال المالكيّة : إنّ الزّوجة إن طالبت الزّوج بالصّداق الواجب ولم يجده ، فإن ادّعى العدم ، ولم تصدّقه ، ولا أقام بيّنةً على صدقه ، ولا مال له ظاهرٌ ، ولم يغلب على الظّنّ عسره أجّله الحاكم لإثبات عسره ، إن أعطى حميلاً " كفيلاً " بالوجه ، وإلاّ حبسه كسائر الدّيون . ومدّة التّأجيل متروكةٌ للقاضي . ثمّ إذا ثبت عسره بالبيّنة أو صدّقته تلوّم له ( تمكث ) بالنّظر ، وإذا لم يثبت عسره في مدّة التّأجيل ولم تصدّقه ، فقال الحطّاب : الظّاهر أنّه يحبس إن جهل حاله ليستبين أمره ، ولو غلب على الظّنّ عسره تلوّم له ابتداءً .
فأمّا ظاهر الملاءة ( الغنى ) فيحبس إلى أن يأتي ببيّنةٍ تشهد بعسره ، إلاّ أن يحصل لها ضررٌ بطول المدّة فلها طلب التّطليق . ومن ذهب إلى فسخ النّكاح بإعسار الزّوج بمعجّل المهر من الشّافعيّة والحنابلة قالوا : يثبت لها الفسخ بالإعسار ، ولم يذكروا إعذاراً ، لكنّهم قالوا : إنّ الفسخ لا يكون إلاّ من الحاكم . وقال الحنفيّة : إنّه يترتّب على عدم قبض الزّوجة معجّل مهرها أنّها تملك أن تمتنع عن الدّخول في طاعته ، ولا تكون بذلك ناشزةً ، وليس له حبسها ومنعها من السّفر وغيره . والمفهوم من كلامهم أنّه يستوي في ذلك أن يكون سبب عدم الإقباض العسر أو غيره ، لأنّهم ذكروا أنّ لها المنع حتّى تستوفي المعجّل ، فيفيد الإطلاق على هذا الوجه أنّ لها الامتناع مطلقاً في اليسار والإعسار. وتفصيل ذلك في مصطلح ( مهرٌ ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
إعذار المدين :
24 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الموسر إذا امتنع من قضاء الدّين فإنّه يحبس حتّى يؤدّي الدّين مستدلّين بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ليّ الواجد ظلمٌ . يحلّ عقوبته وعرضه » فعقوبته حبسه ، وعرضه أي يحلّ القول بالإغلاظ له .
وثبوت اليسار يكون بإقرار المدين أو بالبيّنة ، ومدّة الحبس محلّ خلافٍ كما سيأتي .
وإذا اختلف الدّائن والمدين في اليسار أو الإعسار ، ففي كلّ مذهبٍ تفصيلاتٌ وأحكامٌ .
وإذا لم يثبت يساره ولا إعساره فإنّه يمهل للتّحقّق من أمره ، فإن كان معسراً فنظرةٌ إلى ميسرةٍ ، وإن كان موسراً عوقب بالحبس وتفصيله في ( دينٌ ) .
الإعذار عند الأخذ للاضطرار :
25 - أجمع فقهاء المذاهب على أنّ الأكل للغذاء والشّرب للعطش - ولو من حرامٍ ، أو ميتةٍ أو من مال غيره - فرضٌ يثاب عليه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه ليؤجر في كلّ شيءٍ ، حتّى اللّقمة يرفعها العبد إلى فيه » فإن ترك الأكل والشّرب حتّى هلك فقد عصى ، لأنّ فيه إلقاء النّفس إلى التّهلكة ، وهو منهيٌّ عنه في محكم التّنزيل بقوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة } والقدر الواجب هو ما يدفع به الإنسان الهلاك عن نفسه ، والمباح إلى الشّبع ، وما فوق ذلك فحرامٌ .
وأجمع الفقهاء على أنّ من خاف الموت جوعاً ، ومع غيره طعامٌ زائدٌ عن حاجته ، أخذ منه قدر ما يسدّ جوعته ، وكذا يأخذ منه قدر ما يدفع العطش ، فإن منعه أخذه رغماً عنه ، فإن قاتله صاحب الطّعام فله مقاتلته . لكن على المضطرّ أن يعذر إلى صاحب الطّعام ، فيقول له : إن لم تعطني قاتلتك عليه ، فإن لم يعطه وقتله ، فدم صاحب الطّعام هدرٌ في صريح مذاهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . ولم يصرّح الحنفيّة بحكم ذلك ، ولكن مقتضى قولهم : أنّه يباح للمضطرّ قتال صاحب الطّعام أنّه إن قتله فلا شيء عليه .
من له حقّ الإعذار ؟ وبم يكون ؟ وجزاء الممتنع ؟
26 - اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الإعذار إلى الخصم هو حقّ القاضي ، فلا يملك الخصم إجبار خصمه على حضور مجلس القضاء لسماع الخصومة من غير أمر القاضي . لكنّهم قالوا : إذا طلب الخصم من القاضي إحضار المدّعى عليه أجابه إلى ذلك في حالاتٍ ، وفي كلّ مذهبٍ تفصيلٌ ينظر في مواطنه من كتاب الدّعوى والقضاء .
27 - ويلحظ أنّ ما ذكره الفقهاء فيمن له حقّ الإعذار ، وفي وسيلته ، وجزاء الممتنع ، القصد منه إعلام المدّعى عليه بما ادّعي به عليه ، وقطع عذره لئلاّ يقول بعد الحكم عليه : إنّه لم يكن يعلم بأنّ الأمر سيؤدّي إلى ما أدّى إليه من تطليق زوجته ، أو إلزامه بما ادّعي عليه من دينٍ أو نحو ذلك .
أمّا الوسائل الّتي ذكرها الفقهاء للإعذار ، وكيفيّة ذلك فإنّها تتّفق وما عهد في أيّامهم من إجراءاتٍ ، فليست مبنيّةً على نصوصٍ شرعيّةٍ واجبة الاتّباع ، بل هي باجتهادهم . وقد استحدثت في هذا العصر وسائل يعمل بها في المحاكم ، وهي تتّفق وما قرّره الفقهاء من قصد إعلام المدّعى عليه . فتنيط بموظّفين طلب إعلان الخصوم بأوراقٍ رسميّةٍ يوقّع عليها نفس المدّعى عليه ، أو من يقيم معه من زوجٍ أو ولدٍ أو خادمٍ ، وهناك حالاتٌ يستدعى فيها المدّعى عليه بواسطة الشّرطة إذا امتنع من الحضور ، وحالاتٌ يحكم عليه بغرامةٍ ماليّةٍ ، والأصل فيها أنّها وسائل مشروعةٌ فلا بأس من العمل بها والسّير عليها .

أعراب*ٌ
انظر : بدوٌ .
أعرج *
التعريف :
1 - الأعرج : من كانت به علّةٌ لازمةٌ له في مشيته . يقال : عرج فهو أعرج .
الحكم الإجماليّ :
2 - اعتبر العلماء العرج عيباً يردّ به العبد في البيع ، ويمنع الإجزاء في الأضحيّة إذا كان عرجاً بيّناً .
كما اعتبروه في الأشخاص من الأعذار الّتي تعفي من الجهاد . لقوله تعالى : { ليس على الأعمى حرجٌ ولا على الأعرج حرجٌ } وتفصيله في : ( الأضحيّة ، والبيع ، والجهاد ) .

إعسارٌ *
التعريف :
1 - الإعسار في اللّغة : مصدر أعسر ، وهو ضدّ اليسار ، والعسر : اسم مصدرٍ وهو الضّيق والشّدّة والصّعوبة ، قال تعالى : { سيجعل اللّه بعد عسرٍ يسراً } وفي التّنزيل : { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ } والعسرة : قلّة ذات اليد ، وكذلك الإعسار .
وفي الاصطلاح : هو عدم القدرة على النّفقة ، أو أداء ما عليه بمالٍ ولا كسب . وقيل : هو زيادة خرجه عن دخله ، وهما تعريفان متقاربان .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإفلاس :
2 - الإفلاس معناه في اللّغة : الانتقال من حالة اليسر إلى حالة العسر . وفي الاصطلاح : أن يكون الدّين الّذي على الشّخص أكثر من ماله ، فالفرق بينه وبين الإعسار أنّ الإفلاس لا ينفكّ عن دينٍ ، أمّا الإعسار فقد يكون عن دينٍ أو عن قلّة ذات اليد .
ب - الفقر :
3 - الفقر : لغةً الحاجة ، وفي الاصطلاح عرّف بعض الفقهاء الفقير : بأنّه الّذي لا شيء له ، والمسكين : الّذي له بعض ما يكفيه ، وعرّفهما بعضهم بعكسه . هذا إذا اجتمعا ، كما في قوله تعالى : { إنّما الصّدقات للفقراء والمساكين } أمّا إذا افترقا بأن ذكر أحدهما دون الآخر ، فإنّ أحدهما يدلّ على مطلق الحاجة .
ما يثبت به الإعسار :
4 - يثبت الإعسار بأمورٍ منها :
أ - إقرار المستحقّ ( صاحب الدّين ) فإذا أقرّ أنّ مدينه معسرٌ فإنّه يؤخذ بإقراره ، ويخلّى سبيل المدين ، لأنّه استحقّ الإنظار بالنّصّ . لقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ } . وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه ليس له ملازمته خلافاً للحنفيّة حيث قالوا : لا يمنع من ملازمته .
ب - ويثبت الإعسار بأدلّةٍ أخرى كالشّهادة واليمين والقرائن وغير ذلك .
وتفصيل ذلك يرجع إليه في مصطلح ( إثباتٌ ) .
آثار الإعسار :
أوّلاً : آثار الإعسار في حقوق اللّه الماليّة :
أ - أثر الإعسار في سقوط الزّكاة بعد وجوبها :
5 - قد يكون سبب الإعسار تلف المال الّذي فيه الزّكاة على وجهٍ يصير به المزكّي معسراً . وعلى هذا إذا لم يكن لدى المزكّي غير المال التّالف فهو معسرٌ بحقّ الزّكاة ، فيثبت في ذمّته عند الجمهور ، خلافاً للحنفيّة . وتفصيله في ( الزّكاة ) .
ب - أثر الإعسار في منع وجوب الحجّ ابتداءً :
6 - أجمع المسلمون على أنّ الحجّ لا يجب إلاّ على المستطيع ، ومن الاستطاعة القدرة الماليّة ، لقوله تعالى : { وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً } « وسئل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن السّبيل فقال : الزّاد والرّاحلة » . فمن لم يجد الزّاد والرّاحلة يكون معسراً ، فلا يجب عليه الحجّ ابتداءً .
وصرّح الحنابلة بأنّ المعسر لو تكلّف الحجّ بدون إلحاق ضررٍ بغيره ، مثل أن يمشي ويكتسب بصناعته ، أو معاونة من ينفق عليه ، ولا يسأل النّاس ، استحبّ له الحجّ . واستدلّوا لذلك بقوله تعالى : { يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامرٍ } فقدّم ذكر الرّجال وهم المشاة . أمّا من بلغ واستطاع الحجّ فلم يحجّ ثمّ أعسر ، ثبت في ذمّته الحجّ ، وعليه أداؤه إذا أيسر ، ويأثم إذا مات ولم يؤدّه ، فإن أوصى وله تركةٌ وجب الإحجاج عنه قبل تقسيم التّركة .
ت - أثر الإعسار في سقوط النّذر :
7 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه إن نذر التّصدّق بشيءٍ ، وليس في ملكه إلاّ أقلّ منه ، لا يلزمه غيره ، لأنّ النّذر بما لا يملك لا يصحّ .
وذهب المالكيّة إلى أنّ من نذر ما لا يملك لزمه إن قدر عليه ، فإن لم يقدر لزمه بدله أو بدل بدله ، فلو نذر بدنةً لزمته ، فإن أعسر عنها فبقرةٌ ، فإن أعسر عنها فسبع شياهٍ ، فلو قدر على ما دون السّبعة من الغنم فإنّه لا يلزمه إخراج شيءٍ من ذلك ، وهو ظاهر كلام خليلٍ والموّاق ، وفي كلام بعضهم أنّه يلزمه إخراج ما دون السّبعة من الغنم ، ثمّ يكمّل ما بقي متى أيسر ، لأنّه ليس عليه أن يأتي بها كلّها في وقتٍ واحدٍ .
وعند الحنابلة : من نذر طاعةً لا يطيقها ، أو كان قادراً عليها فعجز عنها فعليه كفّارة يمينٍ ، لما روى « عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه قال : نذرت أختي أن تمشي إلى بيت اللّه حافيةً ، فأمرتني أن أستفتي لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فقال : لتمش ولتركب » . وعن عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا نذر في معصية اللّه ، وكفّارته كفّارة يمينٍ » . قال : « ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفّارته كفّارة يمينٍ »
ث - أثر الإعسار في كفّارة اليمين :
8 - إذا حنث الحالف في الأيمان فعليه الكفّارة ، لقوله تعالى { ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان } إن شاء أعتق رقبةً ، وإن شاء أطعم عشرة مساكين أو كساهم ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيّامٍ متتابعاتٍ ، لقوله تعالى : { فكفّارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبةٍ } على التّخيير بينها { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّامٍ } وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه ( ثلاثة أيّامٍ متتابعاتٍ ) وقراءته مع شذوذها عند القرّاء هي كالخبر المشهور من حيث الرّواية .
فمقتضى هذا أنّ الإعسار بالعتق أو الإطعام أو الكسوة ينتقل به المعسر إلى الصّيام .
ج -الإعسار بقيمة الماء للوضوء والغسل :
9 -ذهب الفقهاء إلى أنّه لو لم يجد الماء مريد الوضوء والغسل إلاّ أن يشتريه بثمن المثل وقدر عليه فإنّ عليه أن يشتريه ، ولا يجب عليه أن يشتريه بأكثر ، والكثير ما فيه غبنٌ فاحشٌ ، وفي مقدار الغبن خلافٌ وتفصيلٌ ، وأولى ما قيل فيه : إنّه ما لا يدخل تحت تقويم المقوّمين .
وعلى هذا فإن أعسر بما لزمه شراء الماء به ، فإنّه يتيمّم ولو كان الماء موجوداً .
ح - أثر الإعسار في الفدية :
10 - ذهب الحنفيّة وبعض الحنابلة إلى أنّه إذا أعسر بالفدية في الصّوم سقطت ، ويستغفر اللّه تعالى . وذهب الشّافعيّة ، وهو الصّحيح من مذهب الحنابلة إلى أنّه إذا عجز عن الفدية تبقى في ذمّته . أمّا المالكيّة فالفدية عندهم مندوبةٌ .
ثانياً : آثار الإعسار في حقوق العباد :
أ - الإعسار بمئونة تجهيز الميّت وتكفينه :
11 - إذا مات الإنسان معسراً فكفنه على من وجبت عليه نفقته في حال حياته ، وهو قول أبي حنيفة فيما نقل عنه - وهو المفتى به - وإذا لم يكن للميّت من تجب عليه نفقته ، أو كان - وهو فقيرٌ - فكفنه على بيت المال ، فإن لم يكن بيت المال معموراً أو منتظماً فعلى المسلمين تكفينه . وتفصيله في ( تكفينٌ ) .
ب - الإعسار بأجرة الأجير وأجرة البيت ونحوه :
12 - قال الحنفيّة : إنّ الإجارة تفسخ بالأعذار ، كما لو آجر دكّاناً أو داراً ثمّ أفلس - ولزمته ديونٌ لا يقدر على قضائها إلاّ بثمن ما آجر - فسخ القاضي العقد وباعها في الدّيون ، لأنّ في الجري على موجب العقد إلزام ضررٍ زائدٍ لم يستحقّ بالعقد ، وهو الحبس ، لأنّه قد لا يصدّق على عدم مالٍ آخر .
وعند الشّافعيّة : أجر الأجير دينٌ ، ومتى كان على رجلٍ ، وكان مؤجّلاً ، لم يجز مطالبته به حتّى يحين أجله ، لأنّه لو جاز مطالبته به سقطت فائدة التّأجيل . وإن كان حالاًّ ، فإن كان معسراً لم يجز مطالبته به لقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ } ولا يملك ملازمته ، لأنّ كلّ دينٍ لا يملك المطالبة به لم يملك الملازمة عليه كالدّين المؤجّل . فإن كان يحسن صنعةً فطلب الغريم أن يؤجّر نفسه ليكسب ما يعطيه لم يجبر على ذلك ، لأنّه إجبارٌ على التّكسّب ، فلم يجز كالإجبار على التّجارة ، وإن أكرى أرضاً فأفلس المكتري بالأجرة ، فإن كان قبل استيفاء شيءٍ من المنافع فله أن يفسخ ، لأنّ المنافع في الإجارة كالأعيان المبيعة في البيع ، ثمّ إذا أفلس المشتري والعين باقيةٌ ثبت له الفسخ ، فكذلك إذا أفلس المكتري والمنافع باقيةٌ وجب أن يثبت له الفسخ .
ت - إعسار المحال عليه :
13 - لا يرجع المدين على المحيل إلاّ أن يموت المحال عليه مفلساً ، أو يجحد ولا بيّنة عليه ، لأنّه عجز عن الوصول إلى حقّه ، والمقصود من الحوالة سلامة حقّه ، فكانت مقيّدةً بالسّلامة ، فإذا فاتت السّلامة انفسخت كالعيب في المبيع . هذا عند أبي حنيفة ، وزاد الصّاحبان أنّه يرجع بوجهٍ آخر أيضاً ، وهو أن يحكم الحاكم بإفلاسه في حياته ، بناءً على أنّ الإفلاس يتحقّق عندهما بقضاء القاضي ، وعنده لا . وهي كذلك عند الشّافعيّة ، فإن أحاله على مليءٍ فأفلس أو جحد الحقّ وحلف عليه لم يرجع إلى المحيل ، لأنّه انتقل حقّه إلى مالٍ يملك بيعه فسقط حقّه في الرّجوع ، كما لو أخذ بالدّين سلعةً ثمّ تلفت بعد القبض .
وإن أحاله على رجلٍ بشرط أنّه مليءٌ فبان أنّه معسرٌ ، فقد ذكر المزنيّ أنّه لا خيار له ، وأنكر أبو العبّاس بن سريجٍ هذا وقال : له الخيار ، لأنّه غرّه بالشّرط فثبت له الخيار ، كما لو باعه بقرةً بشرط أنّها حلوبٌ ، ثمّ بان أنّها ليست كذلك .
وقال عامّة الأصحاب : لا خيار له لأنّ الإعسار نقصٌ ، فلو ثبت به الخيار لثبت من غير شرطٍ كالعيب في المبيع ، ويخالف الصّفة المرغوبة ، فإنّ عدمها ليس بنقصٍ وإنّما هو عدم فضيلةٍ ، فاختلف الأمر فيه بين أن يشرط وبين ألاّ يشرط . والمالكيّة كذلك يرون أنّه إن شرط المحال على المحيل إن أفلس المحال عليه رجع على المحيل فله شرطه . ونقله الباجيّ كأنّه المذهب ، وقال ابن رشدٍ : هذا صحيحٌ لا أعلم فيه خلافاً . وأمّا الحنابلة فقد قالوا : متى توفّرت الشّروط برئ المحيل من الدّين بمجرّد الحوالة ، لأنّه قد تحوّل من ذمّته ، فإن أفلس المحال عليه بعد ذلك أو مات أو جحد الدّين فلا يرجع على المحيل ، كما لو أبرأه ، لأنّ الحوالة بمنزلة الإيفاء . ومتى لم تتوفّر الشّروط لم تصحّ الحوالة ، وإنّما تكون وكالةً . قال الشّمس ابن أبي عمر : وإذا لم يرض المحال ثمّ بان المحال عليه مفلّساً أو ميّتاً رجع بغير خلافٍ . وإن رضي مع الجهل بحاله رجع ، لأنّ الفلس عيبٌ في المحال عليه . وإن شرط ملاءة المحال عليه فبان معسراً رجع . لحديث : « المؤمنون عند شروطهم » .
ث - إعسار الزّوج بالمهر المسمّى :
14 - يفصّل الشّافعيّة في إعسار الزّوج بالمهر بين حالتين :
أوّلاهما : إن كان قبل الدّخول ثبت لها الخيار في فسخ النّكاح ، لأنّه يلحقه الفسخ بالإفلاس بالمهر ، وهو وجهٌ عند الحنابلة .
الحالة الثّانية : إن كان بعد الدّخول لم يجز الفسخ ، لأنّ الزّوج استوفى حقّه فلم يفسخ بالإعسار ، وقد وافقهم الحنابلة في وجهٍ لهم على ذلك . وهناك وجهٌ آخر عند الحنابلة أنّه لا يثبت لها خيار الفسخ مطلقاً ، لا قبل الدّخول ولا بعده ، وهو اختيار ابن حامدٍ ، لأنّ المهر دينٌ في الذّمّة ، فلا يفسخ النّكاح للإعسار به ، كالنّفقة الماضية ، ولأنّ تأخيره ليس فيه ضررٌ مجحفٌ . وقال المالكيّة : إن دعت زوجها للدّخول بها ، وطلبت حالّ الصّداق فلم يجده ، وادّعى العدم ولم تصدّقه ، ولم يثبت عدمه ببيّنةٍ ، وليس له مالٌ ظاهرٌ ، أمهله الحاكم لإثبات عسره ( فقره ) ، ثمّ إذا ثبت عسره ، أو صدّقته فيه زيد له في الأجل باجتهاد الحاكم ، فإن أتى بشيءٍ وإلاّ عجّزه . ووجوب التّلوّم لمن ثبت عسره ولا يرجى يساره - لأنّ الغيب قد يكشف عن العجائب - هو تأويل الأكثر . وصحّح - أي صوّبه - المتيطيّ وعياضٌ ، وعدم التّلوّم لمن لا يرجى يساره ، فيطلق عليه ناجزاً هو تأويلٌ فضل على المدوّنة .
ثمّ بعد انقضاء الأجل طلّق عليه ، بأن يطلّق الحاكم ، أو توقعه الزّوجة ثمّ يحكم الحاكم ، على القولين في ذلك . ووجب على الزّوج المطلّق لعجزه عن المهر نصفه يدفعه إن أيسر ، لقوله تعالى : { وإن طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضةً فنصف ما فرضتم }
وأمّا الحنفيّة : فلا يجيزون الفسخ بالإعسار بالمهر أو غيره ، وللزّوجة قبل الدّخول منع تسليم نفسها للزّوج حتّى تستوفي معجّل صداقها .
ج -إعسار المدين بما وجب عليه من الدّين . وهل يحبس بذلك أم لا ؟
15 - قال الحنفيّة : إذا ثبت الحقّ للمدّعي فطلب من القاضي حبس المدين ، أمره القاضي بدفع ما عليه ، فإن امتنع حبسه ، لأنّه ظهر ظلمه . للحديث « ليّ الواجد ظلمٌ يحلّ عرضه وعقوبته » . والعقوبة الحبس .
فإن أقرّ المدّعي أنّ غريمه معسرٌ خلّي سبيله ، لأنّه استحقّ الإنظار بالنّصّ ، ولا يمنع من الملازمة . وإن قال المدّعي : هو موسرٌ ، وهو يقول : أنا معسرٌ ، فإن كان القاضي يعرف يساره ، أو كان الدّين بدل مالٍ كالثّمن والقرض ، أو التزمه كالمهر والكفالة وبدل الخلع ونحوه حبسه ، لأنّ الظّاهر بقاء ما حصل في يده ، والتزامه يدلّ على القدرة ، ولا يحبسه فيما سوى ذلك إذا ادّعى الفقر ، لأنّه الأصل ، وذلك مثل ضمان المتلفات وأروش الجنايات ونفقة الأقارب والزّوجات ، إلاّ أن تقوم البيّنة أنّ له مالاً فيحبسه ، لأنّه ظالمٌ . فإذا حبسه مدّةً يغلب على ظنّه أنّه لو كان مالٌ له أظهره ، وسأل عن حاله فلم يظهر له مالٌ ، خلّى سبيله ، لأنّ الظّاهر إعساره فيستحقّ الإنظار . وكذلك الحكم لو شهد شاهدان بإعساره . وتقبل بيّنة الإعسار بعد الحبس بالإجماع وقبله لا . والفرق أنّه وجد بعد الحبس قرينةً ، وهو تحمّل شدّة الحبس ومضايقه ، وذلك دليل إعساره ولم يوجد ذلك قبل الحبس ، وقيل تقبل في الحالتين ، وإن قامت البيّنة على يساره أبداً حبسه لظلمه حتّى يؤدّي ما عليه . واختلفوا في مدّة الحبس ، قيل : شهران أو ثلاثةٌ ، وبعضهم قدّره بشهرٍ ، وبعضهم بأربعةٍ ، وبعضهم بستّةٍ . ولمّا كان النّاس يختلفون في احتمال الحبس ، ويتفاوتون تفاوتاً كثيراً فإنّه يفوّض إلى رأي القاضي .
وقال المالكيّة : يحبس المدين المجهول إذا ادّعى العدم ليستبين أمره بإثباتٍ ، ومحلّ حبسه ما لم يسأل الصّبر والتّأخير إلى إثبات عسره ، وإلاّ أخّر مع كفالة كفيلٍ ولو بالنّفس ، ويحبس إن جهل حاله إلى أن يثبت عسره ، وإن لم يأت به الحميل ( الكفيل ) غرم ما عليه إلاّ أن يثبت عسره .
وثبوت عسره يكون بشهادة عدلين يشهدان أنّهما لا يعرفان له مالاً ظاهراً ولا باطناً ، ويحلف على ذلك لكن على البتّ ، ويزيد في مينه : وإن وجدت المال لأقضينه عاجلاً ، وإن كنت مسافراً عجّلت الأوبة ( الإياب ) . وبعد الحلف يجب إطلاقه وإنظاره ، لقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ } . فإن لم يثبت عسره وطال حبسه فإنّه يطلّق ، لكن بعد حلفه أنّه لا مال عنده . ولا حبس على معدمٍ ثابت العدم ، للآية المذكورة ، لأنّ حبسه لا يحصل به فائدةٌ ، ويجب على المدين أن يوصي بما عليه من الدّين ، فإن مات ولم يوجد له مالٌ وفّي عنه من بيت المال ، لقوله عليه السلام « فمن توفّي وعليه دينٌ فعليّ قضاؤه ، ومن ترك مالاً فهو لورثته » .
وقال الشّافعيّ : إذا ثبت عليه الدّين بيع ما ظهر له ودفع ولم يحبس ، وإن لم يظهر حبس وبيع ما قدر عليه من ماله ، فإن ذكر عسره قبلت منه البيّنة ، لقوله عزّ وجلّ : { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ } . وأحلّفه مع ذلك باللّه وأخلّيه ، ومنعت غرماءه من لزومه ، حتّى تقوم بيّنةٌ أنّه قد أفاد مالاً ، فإن شهدوا أنّهم رأوا في يده مالاً سئل ، فإن قال مضاربةٌ قبلت مع يمينه ، ولا غاية لحبسه أكثر من الكشف عنه ، فمتى استقرّ عند الحاكم ما وصفت لم يكن له حبسه ، ولا يغفل المسألة عنه .
وعند الحنابلة : من وجب عليه دينٌ حالٌّ فطولب به ولم يؤدّه ، نظر الحاكم ، فإن كان في يده مالٌ ظاهرٌ أمره بالقضاء ، وإن لم يجد له مالاً ظاهراً فادّعى الإعسار وصدّقه غريمه لم يحبس ووجب إنظاره ، ولم تجز ملازمته ، لقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ } ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لغرماء الّذي كثر دينه : « خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلاّ ذلك » ولأنّ الحبس إمّا أن يكون لإثبات عسرته أو لقضاء دينه ، وعسرته ثابتةٌ ، والقضاء متعذّرٌ ، فلا فائدة في الحبس . وإن كذّبه غريمه فلا يخلو إمّا أن يكون عرف له مالٌ أو لم يعرف ، فإن عرف له مالٌ لكون الدّين ثبت عن معاوضةٍ ، كالقرض والبيع ، أو عرف له أصل مالٍ سوى هذا . فالقول قول غريمه مع يمينه ، فإذا حلف أنّه ذو مالٍ حبس حتّى تشهد البيّنة بإعساره . قال ابن المنذر : أكثر من نحفظ عنه من علماء الأمصار وقضاتهم يرون الحبس في الدّين .
ح - الإعسار بدفع الجزية ( الجزية المفروضة ، والجزية المصالح عليها ) :
16 - ذهب الحنفيّة والحنابلة وهو أحد قولي الشّافعيّة إلى أنّه لا جزية على فقيرٍ غير متكسّبٍ لأنّ عمر رضي الله عنه شرط كونه معتملاً ( أي متكسّباً ) وهو دليل عدم وجوبها على الفقير غير المعتمل ، ولأنّه غير مطيقٍ للأداء حيث لا يقدر على العمل .
لكن صرّح الحنفيّة بأنّه إذا أيسر الفقير بعد وضع الجزية عنه وجبت عليه ، لأنّه أهلٌ للجزية ، وإنّما سقطت عنه للعجز وقد زال ، ولا يحاسب بما مضى .
وعند المالكيّة : الذّمّيّ الفقير يضرب عليه بوسعه ( أي بقدر طاقته ) ولو درهماً إن كان له طاقةٌ ، وإلاّ سقطت عنه . فإن أيسر بعد لم يحاسب بما مضى لسقوطه عنه .
وفي قولٍ للشّافعيّة : أنّها تجب عليه ولو كان فقيراً ، لأنّها تجب على سبيل العوض ، فاستوى فيه المعتمل وغير المعتمل ، فعلى هذا ينظر إلى الميسرة ، فإذا أيسر طولب بجزية ما مضى ، وقيل : لا ينظر .
خ - إعسار التّركة عن الوفاء بما وجب فيها من حقوقٍ :
17 - إذا كانت تركة الميّت لا تفي بما عليه من الدّيون ، ففي الأحكام المتعلّقة بذلك خلافٌ وتفصيلٌ يرجع إليه في مصطلحي ( إرثٌ ، وتركةٌ ) .
د - الإعسار بالنّفقة على النّفس :
18 - الأصل أنّ نفقة الإنسان الحرّ في ماله صغيراً كان أو كبيراً ، إلاّ الزّوجة فإنّ نفقتها على زوجها متى استوفت شروط وجوبها عليه . ولا ينتقل حقّه إلى مطالبة الغير بها سواءٌ كان هذا الغير أصلاً أو فرعاً ، إلاّ إذا كان معسراً وغير قادرٍ على الكسب أو عاجزاً عنه في بعض الصّور .
وفي من تجب عليه النّفقة خلافٌ وتفصيلٌ يرجع إليه تحت مصطلح ( نفقة الأقارب ) .
ذ - الإعسار بنفقة الزّوجة :
19 - فيما تقدّر به نفقة الزّوجة ثلاثة اتّجاهاتٍ :
الأوّل : تقدّر بحال الزّوجين جميعاً ، فإن كانا موسرين فلها عليه نفقة الموسرين ، وإن كانا معسرين فعليه لها نفقة المعسرين ، وإن كانا متوسّطين فعليه نفقة المتوسّطين ، وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسراً فلها نفقة المتوسّطين ، سواءٌ كان هو الموسر أو هي . وهذا هو المفتى به عند الحنفيّة والمعتمد عند المالكيّة وهو مذهب الحنابلة جمعاً بين النّصوص المتعارضة ورعايةً لكلا الجانبين .
الثّاني : تقدّر بحال الزّوج وحده . ويستدلّ له بقول اللّه تعالى : { لينفق ذو سعةٍ من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممّا آتاه اللّه لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ ما آتاها سيجعل اللّه بعد عسرٍ يسراً } . وهو ظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، وصحّحه في البدائع ، وهو مذهب الشّافعيّ ، وقولٌ عند المالكيّة .
الثّالث : تقدّر بحال الزّوجة . أخذاً بدلالة قوله تعالى : { وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف } . وبحديث هندٍ إذ قال لها : « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » . وهو قولٌ عند الحنفيّة . وعلى هذا فإذا كان الزّوج معسراً وهي مثله فعليه نفقة المعسرين اتّفاقاً ، وإن كانت موسرةً وهو معسرٌ فعلى القول الأوّل عليه نفقة المتوسّطين ، وعلى الثّاني عليه نفقة المعسرين ، وعلى الثّالث نفقة الموسرين . وإذا عجز الزّوج عمّا وجب عليه من النّفقة على التّفصيل السّابق ، وطلبت الزّوجة التّفريق بينها وبين زوجها بسبب ذلك ، فعند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة يفرّق بينهما .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يفرّق بينهما بذلك ، بل تستدين عليه ، ويؤمر بالأداء من تجب عليه نفقتها لولا الزّوج . وفي المسألة تفصيلاتٌ أوفى من هذا يرجع إليها في أبواب النّفقات من كتب الفقه ( ر : نفقةٌ ) .
ر - الإعسار في النّفقة على الأقارب :
20 - يجب على الغنيّ أن ينفق على والديه وأولاده المعسرين بالإجماع ، ولا تجب عند المالكيّة النّفقة على غير الوالدين والأولاد المباشرين ، وكذلك تجب نفقة سائر الأصول والفروع مهما علوا أو نزلوا عند الجمهور ، وأمّا الحواشي كالأخ والعمّ وأولادهما فإنّ الحنفيّة يشترطون لوجوب النّفقة عليهم المحرميّة ، ويشترط الحنابلة التّوارث ، ويكتفي الشّافعيّة بالقرابة . ويتحقّق الإعسار بالنّسبة للمنفق عليه لعدم وجود الكفاية كلاًّ أو جزءاً مع العجز عن الكسب . فمن كان يجد كفايته أو كان قادراً على الكسب فنفقته على نفسه ولا تجب نفقته على أحدٍ . إلاّ أنّ الحنفيّة والحنابلة أوجبوا نفقة الأصول ولو كانوا قادرين على الكسب . أمّا في النّفقة على غيرهم فعند الحنابلة في اشتراط عدم القدرة على الكسب روايتان ، ولا يشترط ذلك عند الشّافعيّة .
ز - أجرة الحضانة والإرضاع :
21 - الحكم فيهما على ما سبق في النّفقة ، على أنّه إن كان للصّغير مالٌ فذلك في ماله .
س - النّفقة على الحيوان المحتبس :
22 - اتّفق الفقهاء على أنّ النّفقة على الحيوان المحتبس واجبةٌ ديانةً ، وبأنّه يأثم بحبسه عن البيع ، مع عدم الإنفاق عليه ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان . وفي الحديث « دخلت امرأةٌ النّار في هرّةٍ حبستها حتّى ماتت جوعاً فلا هي أطلقتها تأكل من خشاش الأرض ، ولا هي أطعمتها وسقتها لتعيش » .« ونهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ».
ثمّ ذهب الجمهور وأبو يوسف إلى أنّه يجبر على الإنفاق عليه ، إذ في عدم الإنفاق إضاعةٌ للمال وتعذيبٌ للحيوان ، وقد ورد النّهي عنهما ، وليس هذا الحيوان من أهل الاستحقاق ليقضى له بإجبار المالك على نفقته أو بيعه .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجبر مالكه على الإنفاق . فإن عجز محتبس الحيوان عن الإنفاق ، فقد ذهب الجمهور في الجملة إلى إجباره على البيع أو التّذكية إن كان ممّا يذكّى ، وزاد الشّافعيّة أنّه يمكن إجباره على التّخلية للرّعي وورود الماء إن ألف ذلك .
ش - الإعسار بفكاك الأسير :
23 - يجب فكاك الأسير المسلم من أيدي الكفّار ، ويجب ذلك عند الجمهور بأيّ وسيلةٍ مشروعةٍ ، كالقتال والتّفاوض والمفاداة بأسراهم أو بالمال . فإذا وقع الفداء على المال فإنّ فداءه يكون من بيت مال المسلمين عند الجمهور ولو كان للأسير مالٌ . فإن قصّر بيت المال في ذلك فعلى جماعة المسلمين ، وذهب الشّافعيّة وهو قولٌ عند المالكيّة إلى أنّه إذا كان له مالٌ ففداؤه من ماله ، فإن كان معسراً ففكاكه من بيت مال المسلمين . ( ر : أسرى ) .
ص - إعسار الضّامن :
24 - إعسار الكفيل حكمه كحكم إعسار الأصيل في وجوب الإنظار إلى ميسرةٍ ، ولا يسقط به حقّ المطالبة .
ض - إعسار الدّولة بالتّكاليف الواجبة :
25 - إن لم يكن في بيت المال مالٌ يكفي للجهاد وما في معناه فلا بأس أن يفرض الإمام على أرباب الأموال ما يسدّ الحاجة ، وتفصيله في ( بيت المال ) .

أعضاءٌ *
التعريف :
1 - العضو في اللّغة : هو كلّ عظمٍ وافرٍ بلحمةٍ سواءٌ أكان من إنسانٍ أم حيوانٍ . يقال : عضّى الذّبيحة إذا قطعها أعضاءً . والفقهاء يطلقون العضو على الجزء المتميّز عن غيره من بدن إنسانٍ أو حيوانٍ ، كاللّسان والأنف والأصبع .
الألفاظ ذات الصّلة :
الأطراف :
2 - الأطراف : هي النّهايات في البدن كاليدين والرّجلين ، وعلى هذا فكلّ طرفٍ عضوٌ ، وليس كلّ عضوٍ طرفاً .
الحكم الإجماليّ :
3 - هناك أفعالٌ لا يطلق عليها الاسم الشّرعيّ بمفهومه الشّرعيّ إلاّ إذا وقعت على أعضاءٍ مخصوصةٍ ، فالوضوء لا يسمّى وضوءاً إلاّ إذا وقع الغسل والمسح فيه على أعضاءٍ مخصوصةٍ سمّاها الشّارع ، والتّيمّم لا يكون تيمّماً إلاّ إذا وقع على أعضاءٍ مخصوصةٍ سمّاها الشّارع أيضاً ، وهكذا كما هو مبيّنٌ في أبوابه من كتب الفقه .
وهناك أعضاءٌ يعبّر بها عن الكلّ ، كالرّأس ، والظّهر ، والوجه ، والرّقبة ، وهذه الأعضاء لو أطلق الطّلاق أو الظّهار أو العتق عليها ، كان إطلاقاً على الكلّ ، فلو قال : وجهك عليّ كظهر أمّي ، كان كقوله : أنت عليّ كأمّي ، كما هو مبيّنٌ في أبواب الطّلاق والظّهار والعتق من كتب الفقه . وتوجد عاهاتٌ تصيب بعض الأعضاء كالعمى والعرج والعنّة ونحو ذلك ، فيترتّب عليها أحكامٌ خاصّةٌ ، كعدم قبول شهادة الأعمى فيما يحتاج إلى النّظر ، وسقوط وجوب الجمعة عليه عند البعض ، وسقوط الجهاد عنه ، وعدم إجزاء الأضحيّة العمياء ونحو ذلك ، وسيأتي كلّ ذلك مفصّلاً تحت تلك العاهات في مصطلحاتها .
إتلاف الأعضاء :
4 - الإتلاف قد يكون ببتر العضو ، أو بإذهاب منافعه المقصودة منه شرعاً ، كلّها أو بعضها ، ويطلق الفقهاء على ذلك : الجناية على ما دون النّفس . وتفصيل أحكام هذا الإتلاف في مصطلح ( قصاصٌ ) ( ودياتٌ ) ( وتعزيرٌ ) .
هذا ، وإنّ خوف الفقد لعضوٍ من أعضاء البدن أو تعطّله يعتبر عذراً يباح به بعض المحظورات ، فيباح التّيمّم للبرد الشّديد الّذي يخشى منه ذهاب بعض أعضائه ، والتّهديد ببتر عضوٍ من أعضاء البدن - ممّن يعتقد أنّه يفعل ذلك - يعتبر إكراهاً ملجئاً كما فصّل ذلك الفقهاء في ( الإكراه ) .
ما أبين من أعضاء الحيّ :
5 - أ - ما أبين من أعضاء الحيوان الحيّ المأكول اللّحم ، حكمه حكم الميتة ، نجسٌ لا يجوز أكله ما لم تعتبر إبانة العضو تذكيةً على خلافٍ وتفصيلٍ للفقهاء في ( صيدٌ ) ( وذبائح ) ( وأطعمةٌ ) .
ب - وما أبين من أعضاء الإنسان حكمه حكم الإنسان الميّت في الجملة في النّظر إليه ، ووجوب تغسيله وتكفينه ودفنه ، على تفصيلٍ في ذلك مكانه : كتاب الجنائز من كتب الفقه .

أعطياتٌ *
انظر : إعطاءٌ .
إعفافٌ *
التعريف :
1 - الإعفاف : فعل ما يحقّق العفاف للنّفس أو للغير ، والعفّة والعفاف : الكفّ عن الحرام ، وعمّا يستهجن كسؤال النّاس ، وقيل : هو الصّبر والنّزاهة عن الشّيء .
واصطلاحاً : يطلق العفاف في العرف العامّ على شرف النّفس ، فالعفيف - كما في تعريف الجرجانيّ - من يباشر الأمور على وفق الشّرع والمروءة . ويطلق في الاصطلاح غالباً على ترك الزّنى ، باستعفاف المسلم أو المسلمة عن الوطء الحرام ، فلا ينافي العفّة - بالمعنى الاصطلاحيّ - الوطء المحرّم لعارض الحيض أو الصّوم أو الإحرام مثلاً .
الحكم الإجماليّ :
2 - إعفاف المرء نفسه ، أو من تلزمه نفقته ، أو من هو تحت ولايته ، مطلوبٌ شرعاً على سبيل الوجوب أو النّدب ، ويرجع في تفصيل ذلك إلى ( النّكاح ) ، ( والنّفقات ) .
إعفاف الإنسان أصوله :
3 - ذهب الجمهور - وهو رأيٌ مرجوحٌ للحنفيّة - إلى وجوب إعفاف الفرع أباه بتزويجه أو إعطائه ما يتزوّج به ، وذلك إذا وجبت عليه نفقته .
والرّاجح عند الحنفيّة - وهو قولٌ مرجوحٌ للشّافعيّة - أنّه لا يلزمه سواءٌ وجبت نفقته أو لم تجب . أمّا غير الأب كالجدّ ففيه خلافٌ ، يفصّله الفقهاء في ( النّكاح ، والنّفقات ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
إعذار المدين :
24 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الموسر إذا امتنع من قضاء الدّين فإنّه يحبس حتّى يؤدّي الدّين مستدلّين بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ليّ الواجد ظلمٌ . يحلّ عقوبته وعرضه » فعقوبته حبسه ، وعرضه أي يحلّ القول بالإغلاظ له .
وثبوت اليسار يكون بإقرار المدين أو بالبيّنة ، ومدّة الحبس محلّ خلافٍ كما سيأتي .
وإذا اختلف الدّائن والمدين في اليسار أو الإعسار ، ففي كلّ مذهبٍ تفصيلاتٌ وأحكامٌ .
وإذا لم يثبت يساره ولا إعساره فإنّه يمهل للتّحقّق من أمره ، فإن كان معسراً فنظرةٌ إلى ميسرةٍ ، وإن كان موسراً عوقب بالحبس وتفصيله في ( دينٌ ) .
الإعذار عند الأخذ للاضطرار :
25 - أجمع فقهاء المذاهب على أنّ الأكل للغذاء والشّرب للعطش - ولو من حرامٍ ، أو ميتةٍ أو من مال غيره - فرضٌ يثاب عليه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه ليؤجر في كلّ شيءٍ ، حتّى اللّقمة يرفعها العبد إلى فيه » فإن ترك الأكل والشّرب حتّى هلك فقد عصى ، لأنّ فيه إلقاء النّفس إلى التّهلكة ، وهو منهيٌّ عنه في محكم التّنزيل بقوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة } والقدر الواجب هو ما يدفع به الإنسان الهلاك عن نفسه ، والمباح إلى الشّبع ، وما فوق ذلك فحرامٌ .
وأجمع الفقهاء على أنّ من خاف الموت جوعاً ، ومع غيره طعامٌ زائدٌ عن حاجته ، أخذ منه قدر ما يسدّ جوعته ، وكذا يأخذ منه قدر ما يدفع العطش ، فإن منعه أخذه رغماً عنه ، فإن قاتله صاحب الطّعام فله مقاتلته . لكن على المضطرّ أن يعذر إلى صاحب الطّعام ، فيقول له : إن لم تعطني قاتلتك عليه ، فإن لم يعطه وقتله ، فدم صاحب الطّعام هدرٌ في صريح مذاهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . ولم يصرّح الحنفيّة بحكم ذلك ، ولكن مقتضى قولهم : أنّه يباح للمضطرّ قتال صاحب الطّعام أنّه إن قتله فلا شيء عليه .
من له حقّ الإعذار ؟ وبم يكون ؟ وجزاء الممتنع ؟
26 - اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الإعذار إلى الخصم هو حقّ القاضي ، فلا يملك الخصم إجبار خصمه على حضور مجلس القضاء لسماع الخصومة من غير أمر القاضي . لكنّهم قالوا : إذا طلب الخصم من القاضي إحضار المدّعى عليه أجابه إلى ذلك في حالاتٍ ، وفي كلّ مذهبٍ تفصيلٌ ينظر في مواطنه من كتاب الدّعوى والقضاء .
27 - ويلحظ أنّ ما ذكره الفقهاء فيمن له حقّ الإعذار ، وفي وسيلته ، وجزاء الممتنع ، القصد منه إعلام المدّعى عليه بما ادّعي به عليه ، وقطع عذره لئلاّ يقول بعد الحكم عليه : إنّه لم يكن يعلم بأنّ الأمر سيؤدّي إلى ما أدّى إليه من تطليق زوجته ، أو إلزامه بما ادّعي عليه من دينٍ أو نحو ذلك .
أمّا الوسائل الّتي ذكرها الفقهاء للإعذار ، وكيفيّة ذلك فإنّها تتّفق وما عهد في أيّامهم من إجراءاتٍ ، فليست مبنيّةً على نصوصٍ شرعيّةٍ واجبة الاتّباع ، بل هي باجتهادهم . وقد استحدثت في هذا العصر وسائل يعمل بها في المحاكم ، وهي تتّفق وما قرّره الفقهاء من قصد إعلام المدّعى عليه . فتنيط بموظّفين طلب إعلان الخصوم بأوراقٍ رسميّةٍ يوقّع عليها نفس المدّعى عليه ، أو من يقيم معه من زوجٍ أو ولدٍ أو خادمٍ ، وهناك حالاتٌ يستدعى فيها المدّعى عليه بواسطة الشّرطة إذا امتنع من الحضور ، وحالاتٌ يحكم عليه بغرامةٍ ماليّةٍ ، والأصل فيها أنّها وسائل مشروعةٌ فلا بأس من العمل بها والسّير عليها .

أعراب*ٌ
انظر : بدوٌ .
أعرج *
التعريف :
1 - الأعرج : من كانت به علّةٌ لازمةٌ له في مشيته . يقال : عرج فهو أعرج .
الحكم الإجماليّ :
2 - اعتبر العلماء العرج عيباً يردّ به العبد في البيع ، ويمنع الإجزاء في الأضحيّة إذا كان عرجاً بيّناً .
كما اعتبروه في الأشخاص من الأعذار الّتي تعفي من الجهاد . لقوله تعالى : { ليس على الأعمى حرجٌ ولا على الأعرج حرجٌ } وتفصيله في : ( الأضحيّة ، والبيع ، والجهاد ) .

إعسارٌ *
التعريف :
1 - الإعسار في اللّغة : مصدر أعسر ، وهو ضدّ اليسار ، والعسر : اسم مصدرٍ وهو الضّيق والشّدّة والصّعوبة ، قال تعالى : { سيجعل اللّه بعد عسرٍ يسراً } وفي التّنزيل : { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ } والعسرة : قلّة ذات اليد ، وكذلك الإعسار .
وفي الاصطلاح : هو عدم القدرة على النّفقة ، أو أداء ما عليه بمالٍ ولا كسب . وقيل : هو زيادة خرجه عن دخله ، وهما تعريفان متقاربان .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإفلاس :
2 - الإفلاس معناه في اللّغة : الانتقال من حالة اليسر إلى حالة العسر . وفي الاصطلاح : أن يكون الدّين الّذي على الشّخص أكثر من ماله ، فالفرق بينه وبين الإعسار أنّ الإفلاس لا ينفكّ عن دينٍ ، أمّا الإعسار فقد يكون عن دينٍ أو عن قلّة ذات اليد .
ب - الفقر :
3 - الفقر : لغةً الحاجة ، وفي الاصطلاح عرّف بعض الفقهاء الفقير : بأنّه الّذي لا شيء له ، والمسكين : الّذي له بعض ما يكفيه ، وعرّفهما بعضهم بعكسه . هذا إذا اجتمعا ، كما في قوله تعالى : { إنّما الصّدقات للفقراء والمساكين } أمّا إذا افترقا بأن ذكر أحدهما دون الآخر ، فإنّ أحدهما يدلّ على مطلق الحاجة .
ما يثبت به الإعسار :
4 - يثبت الإعسار بأمورٍ منها :
أ - إقرار المستحقّ ( صاحب الدّين ) فإذا أقرّ أنّ مدينه معسرٌ فإنّه يؤخذ بإقراره ، ويخلّى سبيل المدين ، لأنّه استحقّ الإنظار بالنّصّ . لقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ } . وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه ليس له ملازمته خلافاً للحنفيّة حيث قالوا : لا يمنع من ملازمته .
ب - ويثبت الإعسار بأدلّةٍ أخرى كالشّهادة واليمين والقرائن وغير ذلك .
وتفصيل ذلك يرجع إليه في مصطلح ( إثباتٌ ) .
آثار الإعسار :
أوّلاً : آثار الإعسار في حقوق اللّه الماليّة :
أ - أثر الإعسار في سقوط الزّكاة بعد وجوبها :
5 - قد يكون سبب الإعسار تلف المال الّذي فيه الزّكاة على وجهٍ يصير به المزكّي معسراً . وعلى هذا إذا لم يكن لدى المزكّي غير المال التّالف فهو معسرٌ بحقّ الزّكاة ، فيثبت في ذمّته عند الجمهور ، خلافاً للحنفيّة . وتفصيله في ( الزّكاة ) .
ب - أثر الإعسار في منع وجوب الحجّ ابتداءً :
6 - أجمع المسلمون على أنّ الحجّ لا يجب إلاّ على المستطيع ، ومن الاستطاعة القدرة الماليّة ، لقوله تعالى : { وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً } « وسئل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن السّبيل فقال : الزّاد والرّاحلة » . فمن لم يجد الزّاد والرّاحلة يكون معسراً ، فلا يجب عليه الحجّ ابتداءً .
وصرّح الحنابلة بأنّ المعسر لو تكلّف الحجّ بدون إلحاق ضررٍ بغيره ، مثل أن يمشي ويكتسب بصناعته ، أو معاونة من ينفق عليه ، ولا يسأل النّاس ، استحبّ له الحجّ . واستدلّوا لذلك بقوله تعالى : { يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامرٍ } فقدّم ذكر الرّجال وهم المشاة . أمّا من بلغ واستطاع الحجّ فلم يحجّ ثمّ أعسر ، ثبت في ذمّته الحجّ ، وعليه أداؤه إذا أيسر ، ويأثم إذا مات ولم يؤدّه ، فإن أوصى وله تركةٌ وجب الإحجاج عنه قبل تقسيم التّركة .
ت - أثر الإعسار في سقوط النّذر :
7 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه إن نذر التّصدّق بشيءٍ ، وليس في ملكه إلاّ أقلّ منه ، لا يلزمه غيره ، لأنّ النّذر بما لا يملك لا يصحّ .
وذهب المالكيّة إلى أنّ من نذر ما لا يملك لزمه إن قدر عليه ، فإن لم يقدر لزمه بدله أو بدل بدله ، فلو نذر بدنةً لزمته ، فإن أعسر عنها فبقرةٌ ، فإن أعسر عنها فسبع شياهٍ ، فلو قدر على ما دون السّبعة من الغنم فإنّه لا يلزمه إخراج شيءٍ من ذلك ، وهو ظاهر كلام خليلٍ والموّاق ، وفي كلام بعضهم أنّه يلزمه إخراج ما دون السّبعة من الغنم ، ثمّ يكمّل ما بقي متى أيسر ، لأنّه ليس عليه أن يأتي بها كلّها في وقتٍ واحدٍ .
وعند الحنابلة : من نذر طاعةً لا يطيقها ، أو كان قادراً عليها فعجز عنها فعليه كفّارة يمينٍ ، لما روى « عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه قال : نذرت أختي أن تمشي إلى بيت اللّه حافيةً ، فأمرتني أن أستفتي لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فقال : لتمش ولتركب » . وعن عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا نذر في معصية اللّه ، وكفّارته كفّارة يمينٍ » . قال : « ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفّارته كفّارة يمينٍ »
ث - أثر الإعسار في كفّارة اليمين :
8 - إذا حنث الحالف في الأيمان فعليه الكفّارة ، لقوله تعالى { ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان } إن شاء أعتق رقبةً ، وإن شاء أطعم عشرة مساكين أو كساهم ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيّامٍ متتابعاتٍ ، لقوله تعالى : { فكفّارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبةٍ } على التّخيير بينها { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّامٍ } وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه ( ثلاثة أيّامٍ متتابعاتٍ ) وقراءته مع شذوذها عند القرّاء هي كالخبر المشهور من حيث الرّواية .
فمقتضى هذا أنّ الإعسار بالعتق أو الإطعام أو الكسوة ينتقل به المعسر إلى الصّيام .
ج -الإعسار بقيمة الماء للوضوء والغسل :
9 -ذهب الفقهاء إلى أنّه لو لم يجد الماء مريد الوضوء والغسل إلاّ أن يشتريه بثمن المثل وقدر عليه فإنّ عليه أن يشتريه ، ولا يجب عليه أن يشتريه بأكثر ، والكثير ما فيه غبنٌ فاحشٌ ، وفي مقدار الغبن خلافٌ وتفصيلٌ ، وأولى ما قيل فيه : إنّه ما لا يدخل تحت تقويم المقوّمين .
وعلى هذا فإن أعسر بما لزمه شراء الماء به ، فإنّه يتيمّم ولو كان الماء موجوداً .
ح - أثر الإعسار في الفدية :
10 - ذهب الحنفيّة وبعض الحنابلة إلى أنّه إذا أعسر بالفدية في الصّوم سقطت ، ويستغفر اللّه تعالى . وذهب الشّافعيّة ، وهو الصّحيح من مذهب الحنابلة إلى أنّه إذا عجز عن الفدية تبقى في ذمّته . أمّا المالكيّة فالفدية عندهم مندوبةٌ .
ثانياً : آثار الإعسار في حقوق العباد :
أ - الإعسار بمئونة تجهيز الميّت وتكفينه :
11 - إذا مات الإنسان معسراً فكفنه على من وجبت عليه نفقته في حال حياته ، وهو قول أبي حنيفة فيما نقل عنه - وهو المفتى به - وإذا لم يكن للميّت من تجب عليه نفقته ، أو كان - وهو فقيرٌ - فكفنه على بيت المال ، فإن لم يكن بيت المال معموراً أو منتظماً فعلى المسلمين تكفينه . وتفصيله في ( تكفينٌ ) .
ب - الإعسار بأجرة الأجير وأجرة البيت ونحوه :
12 - قال الحنفيّة : إنّ الإجارة تفسخ بالأعذار ، كما لو آجر دكّاناً أو داراً ثمّ أفلس - ولزمته ديونٌ لا يقدر على قضائها إلاّ بثمن ما آجر - فسخ القاضي العقد وباعها في الدّيون ، لأنّ في الجري على موجب العقد إلزام ضررٍ زائدٍ لم يستحقّ بالعقد ، وهو الحبس ، لأنّه قد لا يصدّق على عدم مالٍ آخر .
وعند الشّافعيّة : أجر الأجير دينٌ ، ومتى كان على رجلٍ ، وكان مؤجّلاً ، لم يجز مطالبته به حتّى يحين أجله ، لأنّه لو جاز مطالبته به سقطت فائدة التّأجيل . وإن كان حالاًّ ، فإن كان معسراً لم يجز مطالبته به لقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ } ولا يملك ملازمته ، لأنّ كلّ دينٍ لا يملك المطالبة به لم يملك الملازمة عليه كالدّين المؤجّل . فإن كان يحسن صنعةً فطلب الغريم أن يؤجّر نفسه ليكسب ما يعطيه لم يجبر على ذلك ، لأنّه إجبارٌ على التّكسّب ، فلم يجز كالإجبار على التّجارة ، وإن أكرى أرضاً فأفلس المكتري بالأجرة ، فإن كان قبل استيفاء شيءٍ من المنافع فله أن يفسخ ، لأنّ المنافع في الإجارة كالأعيان المبيعة في البيع ، ثمّ إذا أفلس المشتري والعين باقيةٌ ثبت له الفسخ ، فكذلك إذا أفلس المكتري والمنافع باقيةٌ وجب أن يثبت له الفسخ .
ت - إعسار المحال عليه :
13 - لا يرجع المدين على المحيل إلاّ أن يموت المحال عليه مفلساً ، أو يجحد ولا بيّنة عليه ، لأنّه عجز عن الوصول إلى حقّه ، والمقصود من الحوالة سلامة حقّه ، فكانت مقيّدةً بالسّلامة ، فإذا فاتت السّلامة انفسخت كالعيب في المبيع . هذا عند أبي حنيفة ، وزاد الصّاحبان أنّه يرجع بوجهٍ آخر أيضاً ، وهو أن يحكم الحاكم بإفلاسه في حياته ، بناءً على أنّ الإفلاس يتحقّق عندهما بقضاء القاضي ، وعنده لا . وهي كذلك عند الشّافعيّة ، فإن أحاله على مليءٍ فأفلس أو جحد الحقّ وحلف عليه لم يرجع إلى المحيل ، لأنّه انتقل حقّه إلى مالٍ يملك بيعه فسقط حقّه في الرّجوع ، كما لو أخذ بالدّين سلعةً ثمّ تلفت بعد القبض .
وإن أحاله على رجلٍ بشرط أنّه مليءٌ فبان أنّه معسرٌ ، فقد ذكر المزنيّ أنّه لا خيار له ، وأنكر أبو العبّاس بن سريجٍ هذا وقال : له الخيار ، لأنّه غرّه بالشّرط فثبت له الخيار ، كما لو باعه بقرةً بشرط أنّها حلوبٌ ، ثمّ بان أنّها ليست كذلك .
وقال عامّة الأصحاب : لا خيار له لأنّ الإعسار نقصٌ ، فلو ثبت به الخيار لثبت من غير شرطٍ كالعيب في المبيع ، ويخالف الصّفة المرغوبة ، فإنّ عدمها ليس بنقصٍ وإنّما هو عدم فضيلةٍ ، فاختلف الأمر فيه بين أن يشرط وبين ألاّ يشرط . والمالكيّة كذلك يرون أنّه إن شرط المحال على المحيل إن أفلس المحال عليه رجع على المحيل فله شرطه . ونقله الباجيّ كأنّه المذهب ، وقال ابن رشدٍ : هذا صحيحٌ لا أعلم فيه خلافاً . وأمّا الحنابلة فقد قالوا : متى توفّرت الشّروط برئ المحيل من الدّين بمجرّد الحوالة ، لأنّه قد تحوّل من ذمّته ، فإن أفلس المحال عليه بعد ذلك أو مات أو جحد الدّين فلا يرجع على المحيل ، كما لو أبرأه ، لأنّ الحوالة بمنزلة الإيفاء . ومتى لم تتوفّر الشّروط لم تصحّ الحوالة ، وإنّما تكون وكالةً . قال الشّمس ابن أبي عمر : وإذا لم يرض المحال ثمّ بان المحال عليه مفلّساً أو ميّتاً رجع بغير خلافٍ . وإن رضي مع الجهل بحاله رجع ، لأنّ الفلس عيبٌ في المحال عليه . وإن شرط ملاءة المحال عليه فبان معسراً رجع . لحديث : « المؤمنون عند شروطهم » .
ث - إعسار الزّوج بالمهر المسمّى :
14 - يفصّل الشّافعيّة في إعسار الزّوج بالمهر بين حالتين :
أوّلاهما : إن كان قبل الدّخول ثبت لها الخيار في فسخ النّكاح ، لأنّه يلحقه الفسخ بالإفلاس بالمهر ، وهو وجهٌ عند الحنابلة .
الحالة الثّانية : إن كان بعد الدّخول لم يجز الفسخ ، لأنّ الزّوج استوفى حقّه فلم يفسخ بالإعسار ، وقد وافقهم الحنابلة في وجهٍ لهم على ذلك . وهناك وجهٌ آخر عند الحنابلة أنّه لا يثبت لها خيار الفسخ مطلقاً ، لا قبل الدّخول ولا بعده ، وهو اختيار ابن حامدٍ ، لأنّ المهر دينٌ في الذّمّة ، فلا يفسخ النّكاح للإعسار به ، كالنّفقة الماضية ، ولأنّ تأخيره ليس فيه ضررٌ مجحفٌ . وقال المالكيّة : إن دعت زوجها للدّخول بها ، وطلبت حالّ الصّداق فلم يجده ، وادّعى العدم ولم تصدّقه ، ولم يثبت عدمه ببيّنةٍ ، وليس له مالٌ ظاهرٌ ، أمهله الحاكم لإثبات عسره ( فقره ) ، ثمّ إذا ثبت عسره ، أو صدّقته فيه زيد له في الأجل باجتهاد الحاكم ، فإن أتى بشيءٍ وإلاّ عجّزه . ووجوب التّلوّم لمن ثبت عسره ولا يرجى يساره - لأنّ الغيب قد يكشف عن العجائب - هو تأويل الأكثر . وصحّح - أي صوّبه - المتيطيّ وعياضٌ ، وعدم التّلوّم لمن لا يرجى يساره ، فيطلق عليه ناجزاً هو تأويلٌ فضل على المدوّنة .
ثمّ بعد انقضاء الأجل طلّق عليه ، بأن يطلّق الحاكم ، أو توقعه الزّوجة ثمّ يحكم الحاكم ، على القولين في ذلك . ووجب على الزّوج المطلّق لعجزه عن المهر نصفه يدفعه إن أيسر ، لقوله تعالى : { وإن طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضةً فنصف ما فرضتم }
وأمّا الحنفيّة : فلا يجيزون الفسخ بالإعسار بالمهر أو غيره ، وللزّوجة قبل الدّخول منع تسليم نفسها للزّوج حتّى تستوفي معجّل صداقها .
ج -إعسار المدين بما وجب عليه من الدّين . وهل يحبس بذلك أم لا ؟
15 - قال الحنفيّة : إذا ثبت الحقّ للمدّعي فطلب من القاضي حبس المدين ، أمره القاضي بدفع ما عليه ، فإن امتنع حبسه ، لأنّه ظهر ظلمه . للحديث « ليّ الواجد ظلمٌ يحلّ عرضه وعقوبته » . والعقوبة الحبس .
فإن أقرّ المدّعي أنّ غريمه معسرٌ خلّي سبيله ، لأنّه استحقّ الإنظار بالنّصّ ، ولا يمنع من الملازمة . وإن قال المدّعي : هو موسرٌ ، وهو يقول : أنا معسرٌ ، فإن كان القاضي يعرف يساره ، أو كان الدّين بدل مالٍ كالثّمن والقرض ، أو التزمه كالمهر والكفالة وبدل الخلع ونحوه حبسه ، لأنّ الظّاهر بقاء ما حصل في يده ، والتزامه يدلّ على القدرة ، ولا يحبسه فيما سوى ذلك إذا ادّعى الفقر ، لأنّه الأصل ، وذلك مثل ضمان المتلفات وأروش الجنايات ونفقة الأقارب والزّوجات ، إلاّ أن تقوم البيّنة أنّ له مالاً فيحبسه ، لأنّه ظالمٌ . فإذا حبسه مدّةً يغلب على ظنّه أنّه لو كان مالٌ له أظهره ، وسأل عن حاله فلم يظهر له مالٌ ، خلّى سبيله ، لأنّ الظّاهر إعساره فيستحقّ الإنظار . وكذلك الحكم لو شهد شاهدان بإعساره . وتقبل بيّنة الإعسار بعد الحبس بالإجماع وقبله لا . والفرق أنّه وجد بعد الحبس قرينةً ، وهو تحمّل شدّة الحبس ومضايقه ، وذلك دليل إعساره ولم يوجد ذلك قبل الحبس ، وقيل تقبل في الحالتين ، وإن قامت البيّنة على يساره أبداً حبسه لظلمه حتّى يؤدّي ما عليه . واختلفوا في مدّة الحبس ، قيل : شهران أو ثلاثةٌ ، وبعضهم قدّره بشهرٍ ، وبعضهم بأربعةٍ ، وبعضهم بستّةٍ . ولمّا كان النّاس يختلفون في احتمال الحبس ، ويتفاوتون تفاوتاً كثيراً فإنّه يفوّض إلى رأي القاضي .
وقال المالكيّة : يحبس المدين المجهول إذا ادّعى العدم ليستبين أمره بإثباتٍ ، ومحلّ حبسه ما لم يسأل الصّبر والتّأخير إلى إثبات عسره ، وإلاّ أخّر مع كفالة كفيلٍ ولو بالنّفس ، ويحبس إن جهل حاله إلى أن يثبت عسره ، وإن لم يأت به الحميل ( الكفيل ) غرم ما عليه إلاّ أن يثبت عسره .
وثبوت عسره يكون بشهادة عدلين يشهدان أنّهما لا يعرفان له مالاً ظاهراً ولا باطناً ، ويحلف على ذلك لكن على البتّ ، ويزيد في مينه : وإن وجدت المال لأقضينه عاجلاً ، وإن كنت مسافراً عجّلت الأوبة ( الإياب ) . وبعد الحلف يجب إطلاقه وإنظاره ، لقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ } . فإن لم يثبت عسره وطال حبسه فإنّه يطلّق ، لكن بعد حلفه أنّه لا مال عنده . ولا حبس على معدمٍ ثابت العدم ، للآية المذكورة ، لأنّ حبسه لا يحصل به فائدةٌ ، ويجب على المدين أن يوصي بما عليه من الدّين ، فإن مات ولم يوجد له مالٌ وفّي عنه من بيت المال ، لقوله عليه السلام « فمن توفّي وعليه دينٌ فعليّ قضاؤه ، ومن ترك مالاً فهو لورثته » .
وقال الشّافعيّ : إذا ثبت عليه الدّين بيع ما ظهر له ودفع ولم يحبس ، وإن لم يظهر حبس وبيع ما قدر عليه من ماله ، فإن ذكر عسره قبلت منه البيّنة ، لقوله عزّ وجلّ : { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ } . وأحلّفه مع ذلك باللّه وأخلّيه ، ومنعت غرماءه من لزومه ، حتّى تقوم بيّنةٌ أنّه قد أفاد مالاً ، فإن شهدوا أنّهم رأوا في يده مالاً سئل ، فإن قال مضاربةٌ قبلت مع يمينه ، ولا غاية لحبسه أكثر من الكشف عنه ، فمتى استقرّ عند الحاكم ما وصفت لم يكن له حبسه ، ولا يغفل المسألة عنه .
وعند الحنابلة : من وجب عليه دينٌ حالٌّ فطولب به ولم يؤدّه ، نظر الحاكم ، فإن كان في يده مالٌ ظاهرٌ أمره بالقضاء ، وإن لم يجد له مالاً ظاهراً فادّعى الإعسار وصدّقه غريمه لم يحبس ووجب إنظاره ، ولم تجز ملازمته ، لقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ } ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لغرماء الّذي كثر دينه : « خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلاّ ذلك » ولأنّ الحبس إمّا أن يكون لإثبات عسرته أو لقضاء دينه ، وعسرته ثابتةٌ ، والقضاء متعذّرٌ ، فلا فائدة في الحبس . وإن كذّبه غريمه فلا يخلو إمّا أن يكون عرف له مالٌ أو لم يعرف ، فإن عرف له مالٌ لكون الدّين ثبت عن معاوضةٍ ، كالقرض والبيع ، أو عرف له أصل مالٍ سوى هذا . فالقول قول غريمه مع يمينه ، فإذا حلف أنّه ذو مالٍ حبس حتّى تشهد البيّنة بإعساره . قال ابن المنذر : أكثر من نحفظ عنه من علماء الأمصار وقضاتهم يرون الحبس في الدّين .
ح - الإعسار بدفع الجزية ( الجزية المفروضة ، والجزية المصالح عليها ) :
16 - ذهب الحنفيّة والحنابلة وهو أحد قولي الشّافعيّة إلى أنّه لا جزية على فقيرٍ غير متكسّبٍ لأنّ عمر رضي الله عنه شرط كونه معتملاً ( أي متكسّباً ) وهو دليل عدم وجوبها على الفقير غير المعتمل ، ولأنّه غير مطيقٍ للأداء حيث لا يقدر على العمل .
لكن صرّح الحنفيّة بأنّه إذا أيسر الفقير بعد وضع الجزية عنه وجبت عليه ، لأنّه أهلٌ للجزية ، وإنّما سقطت عنه للعجز وقد زال ، ولا يحاسب بما مضى .
وعند المالكيّة : الذّمّيّ الفقير يضرب عليه بوسعه ( أي بقدر طاقته ) ولو درهماً إن كان له طاقةٌ ، وإلاّ سقطت عنه . فإن أيسر بعد لم يحاسب بما مضى لسقوطه عنه .
وفي قولٍ للشّافعيّة : أنّها تجب عليه ولو كان فقيراً ، لأنّها تجب على سبيل العوض ، فاستوى فيه المعتمل وغير المعتمل ، فعلى هذا ينظر إلى الميسرة ، فإذا أيسر طولب بجزية ما مضى ، وقيل : لا ينظر .
خ - إعسار التّركة عن الوفاء بما وجب فيها من حقوقٍ :
17 - إذا كانت تركة الميّت لا تفي بما عليه من الدّيون ، ففي الأحكام المتعلّقة بذلك خلافٌ وتفصيلٌ يرجع إليه في مصطلحي ( إرثٌ ، وتركةٌ ) .
د - الإعسار بالنّفقة على النّفس :
18 - الأصل أنّ نفقة الإنسان الحرّ في ماله صغيراً كان أو كبيراً ، إلاّ الزّوجة فإنّ نفقتها على زوجها متى استوفت شروط وجوبها عليه . ولا ينتقل حقّه إلى مطالبة الغير بها سواءٌ كان هذا الغير أصلاً أو فرعاً ، إلاّ إذا كان معسراً وغير قادرٍ على الكسب أو عاجزاً عنه في بعض الصّور .
وفي من تجب عليه النّفقة خلافٌ وتفصيلٌ يرجع إليه تحت مصطلح ( نفقة الأقارب ) .
ذ - الإعسار بنفقة الزّوجة :
19 - فيما تقدّر به نفقة الزّوجة ثلاثة اتّجاهاتٍ :
الأوّل : تقدّر بحال الزّوجين جميعاً ، فإن كانا موسرين فلها عليه نفقة الموسرين ، وإن كانا معسرين فعليه لها نفقة المعسرين ، وإن كانا متوسّطين فعليه نفقة المتوسّطين ، وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسراً فلها نفقة المتوسّطين ، سواءٌ كان هو الموسر أو هي . وهذا هو المفتى به عند الحنفيّة والمعتمد عند المالكيّة وهو مذهب الحنابلة جمعاً بين النّصوص المتعارضة ورعايةً لكلا الجانبين .
الثّاني : تقدّر بحال الزّوج وحده . ويستدلّ له بقول اللّه تعالى : { لينفق ذو سعةٍ من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممّا آتاه اللّه لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ ما آتاها سيجعل اللّه بعد عسرٍ يسراً } . وهو ظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، وصحّحه في البدائع ، وهو مذهب الشّافعيّ ، وقولٌ عند المالكيّة .
الثّالث : تقدّر بحال الزّوجة . أخذاً بدلالة قوله تعالى : { وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف } . وبحديث هندٍ إذ قال لها : « خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » . وهو قولٌ عند الحنفيّة . وعلى هذا فإذا كان الزّوج معسراً وهي مثله فعليه نفقة المعسرين اتّفاقاً ، وإن كانت موسرةً وهو معسرٌ فعلى القول الأوّل عليه نفقة المتوسّطين ، وعلى الثّاني عليه نفقة المعسرين ، وعلى الثّالث نفقة الموسرين . وإذا عجز الزّوج عمّا وجب عليه من النّفقة على التّفصيل السّابق ، وطلبت الزّوجة التّفريق بينها وبين زوجها بسبب ذلك ، فعند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة يفرّق بينهما .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يفرّق بينهما بذلك ، بل تستدين عليه ، ويؤمر بالأداء من تجب عليه نفقتها لولا الزّوج . وفي المسألة تفصيلاتٌ أوفى من هذا يرجع إليها في أبواب النّفقات من كتب الفقه ( ر : نفقةٌ ) .
ر - الإعسار في النّفقة على الأقارب :
20 - يجب على الغنيّ أن ينفق على والديه وأولاده المعسرين بالإجماع ، ولا تجب عند المالكيّة النّفقة على غير الوالدين والأولاد المباشرين ، وكذلك تجب نفقة سائر الأصول والفروع مهما علوا أو نزلوا عند الجمهور ، وأمّا الحواشي كالأخ والعمّ وأولادهما فإنّ الحنفيّة يشترطون لوجوب النّفقة عليهم المحرميّة ، ويشترط الحنابلة التّوارث ، ويكتفي الشّافعيّة بالقرابة . ويتحقّق الإعسار بالنّسبة للمنفق عليه لعدم وجود الكفاية كلاًّ أو جزءاً مع العجز عن الكسب . فمن كان يجد كفايته أو كان قادراً على الكسب فنفقته على نفسه ولا تجب نفقته على أحدٍ . إلاّ أنّ الحنفيّة والحنابلة أوجبوا نفقة الأصول ولو كانوا قادرين على الكسب . أمّا في النّفقة على غيرهم فعند الحنابلة في اشتراط عدم القدرة على الكسب روايتان ، ولا يشترط ذلك عند الشّافعيّة .
ز - أجرة الحضانة والإرضاع :
21 - الحكم فيهما على ما سبق في النّفقة ، على أنّه إن كان للصّغير مالٌ فذلك في ماله .
س - النّفقة على الحيوان المحتبس :
22 - اتّفق الفقهاء على أنّ النّفقة على الحيوان المحتبس واجبةٌ ديانةً ، وبأنّه يأثم بحبسه عن البيع ، مع عدم الإنفاق عليه ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان . وفي الحديث « دخلت امرأةٌ النّار في هرّةٍ حبستها حتّى ماتت جوعاً فلا هي أطلقتها تأكل من خشاش الأرض ، ولا هي أطعمتها وسقتها لتعيش » .« ونهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ».
ثمّ ذهب الجمهور وأبو يوسف إلى أنّه يجبر على الإنفاق عليه ، إذ في عدم الإنفاق إضاعةٌ للمال وتعذيبٌ للحيوان ، وقد ورد النّهي عنهما ، وليس هذا الحيوان من أهل الاستحقاق ليقضى له بإجبار المالك على نفقته أو بيعه .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجبر مالكه على الإنفاق . فإن عجز محتبس الحيوان عن الإنفاق ، فقد ذهب الجمهور في الجملة إلى إجباره على البيع أو التّذكية إن كان ممّا يذكّى ، وزاد الشّافعيّة أنّه يمكن إجباره على التّخلية للرّعي وورود الماء إن ألف ذلك .
ش - الإعسار بفكاك الأسير :
23 - يجب فكاك الأسير المسلم من أيدي الكفّار ، ويجب ذلك عند الجمهور بأيّ وسيلةٍ مشروعةٍ ، كالقتال والتّفاوض والمفاداة بأسراهم أو بالمال . فإذا وقع الفداء على المال فإنّ فداءه يكون من بيت مال المسلمين عند الجمهور ولو كان للأسير مالٌ . فإن قصّر بيت المال في ذلك فعلى جماعة المسلمين ، وذهب الشّافعيّة وهو قولٌ عند المالكيّة إلى أنّه إذا كان له مالٌ ففداؤه من ماله ، فإن كان معسراً ففكاكه من بيت مال المسلمين . ( ر : أسرى ) .
ص - إعسار الضّامن :
24 - إعسار الكفيل حكمه كحكم إعسار الأصيل في وجوب الإنظار إلى ميسرةٍ ، ولا يسقط به حقّ المطالبة .
ض - إعسار الدّولة بالتّكاليف الواجبة :
25 - إن لم يكن في بيت المال مالٌ يكفي للجهاد وما في معناه فلا بأس أن يفرض الإمام على أرباب الأموال ما يسدّ الحاجة ، وتفصيله في ( بيت المال ) .

أعضاءٌ *
التعريف :
1 - العضو في اللّغة : هو كلّ عظمٍ وافرٍ بلحمةٍ سواءٌ أكان من إنسانٍ أم حيوانٍ . يقال : عضّى الذّبيحة إذا قطعها أعضاءً . والفقهاء يطلقون العضو على الجزء المتميّز عن غيره من بدن إنسانٍ أو حيوانٍ ، كاللّسان والأنف والأصبع .
الألفاظ ذات الصّلة :
الأطراف :
2 - الأطراف : هي النّهايات في البدن كاليدين والرّجلين ، وعلى هذا فكلّ طرفٍ عضوٌ ، وليس كلّ عضوٍ طرفاً .
الحكم الإجماليّ :
3 - هناك أفعالٌ لا يطلق عليها الاسم الشّرعيّ بمفهومه الشّرعيّ إلاّ إذا وقعت على أعضاءٍ مخصوصةٍ ، فالوضوء لا يسمّى وضوءاً إلاّ إذا وقع الغسل والمسح فيه على أعضاءٍ مخصوصةٍ سمّاها الشّارع ، والتّيمّم لا يكون تيمّماً إلاّ إذا وقع على أعضاءٍ مخصوصةٍ سمّاها الشّارع أيضاً ، وهكذا كما هو مبيّنٌ في أبوابه من كتب الفقه .
وهناك أعضاءٌ يعبّر بها عن الكلّ ، كالرّأس ، والظّهر ، والوجه ، والرّقبة ، وهذه الأعضاء لو أطلق الطّلاق أو الظّهار أو العتق عليها ، كان إطلاقاً على الكلّ ، فلو قال : وجهك عليّ كظهر أمّي ، كان كقوله : أنت عليّ كأمّي ، كما هو مبيّنٌ في أبواب الطّلاق والظّهار والعتق من كتب الفقه . وتوجد عاهاتٌ تصيب بعض الأعضاء كالعمى والعرج والعنّة ونحو ذلك ، فيترتّب عليها أحكامٌ خاصّةٌ ، كعدم قبول شهادة الأعمى فيما يحتاج إلى النّظر ، وسقوط وجوب الجمعة عليه عند البعض ، وسقوط الجهاد عنه ، وعدم إجزاء الأضحيّة العمياء ونحو ذلك ، وسيأتي كلّ ذلك مفصّلاً تحت تلك العاهات في مصطلحاتها .
إتلاف الأعضاء :
4 - الإتلاف قد يكون ببتر العضو ، أو بإذهاب منافعه المقصودة منه شرعاً ، كلّها أو بعضها ، ويطلق الفقهاء على ذلك : الجناية على ما دون النّفس . وتفصيل أحكام هذا الإتلاف في مصطلح ( قصاصٌ ) ( ودياتٌ ) ( وتعزيرٌ ) .
هذا ، وإنّ خوف الفقد لعضوٍ من أعضاء البدن أو تعطّله يعتبر عذراً يباح به بعض المحظورات ، فيباح التّيمّم للبرد الشّديد الّذي يخشى منه ذهاب بعض أعضائه ، والتّهديد ببتر عضوٍ من أعضاء البدن - ممّن يعتقد أنّه يفعل ذلك - يعتبر إكراهاً ملجئاً كما فصّل ذلك الفقهاء في ( الإكراه ) .
ما أبين من أعضاء الحيّ :
5 - أ - ما أبين من أعضاء الحيوان الحيّ المأكول اللّحم ، حكمه حكم الميتة ، نجسٌ لا يجوز أكله ما لم تعتبر إبانة العضو تذكيةً على خلافٍ وتفصيلٍ للفقهاء في ( صيدٌ ) ( وذبائح ) ( وأطعمةٌ ) .
ب - وما أبين من أعضاء الإنسان حكمه حكم الإنسان الميّت في الجملة في النّظر إليه ، ووجوب تغسيله وتكفينه ودفنه ، على تفصيلٍ في ذلك مكانه : كتاب الجنائز من كتب الفقه .

أعطياتٌ *
انظر : إعطاءٌ .
إعفافٌ *
التعريف :
1 - الإعفاف : فعل ما يحقّق العفاف للنّفس أو للغير ، والعفّة والعفاف : الكفّ عن الحرام ، وعمّا يستهجن كسؤال النّاس ، وقيل : هو الصّبر والنّزاهة عن الشّيء .
واصطلاحاً : يطلق العفاف في العرف العامّ على شرف النّفس ، فالعفيف - كما في تعريف الجرجانيّ - من يباشر الأمور على وفق الشّرع والمروءة . ويطلق في الاصطلاح غالباً على ترك الزّنى ، باستعفاف المسلم أو المسلمة عن الوطء الحرام ، فلا ينافي العفّة - بالمعنى الاصطلاحيّ - الوطء المحرّم لعارض الحيض أو الصّوم أو الإحرام مثلاً .
الحكم الإجماليّ :
2 - إعفاف المرء نفسه ، أو من تلزمه نفقته ، أو من هو تحت ولايته ، مطلوبٌ شرعاً على سبيل الوجوب أو النّدب ، ويرجع في تفصيل ذلك إلى ( النّكاح ) ، ( والنّفقات ) .
إعفاف الإنسان أصوله :
3 - ذهب الجمهور - وهو رأيٌ مرجوحٌ للحنفيّة - إلى وجوب إعفاف الفرع أباه بتزويجه أو إعطائه ما يتزوّج به ، وذلك إذا وجبت عليه نفقته .
والرّاجح عند الحنفيّة - وهو قولٌ مرجوحٌ للشّافعيّة - أنّه لا يلزمه سواءٌ وجبت نفقته أو لم تجب . أمّا غير الأب كالجدّ ففيه خلافٌ ، يفصّله الفقهاء في ( النّكاح ، والنّفقات ) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
إعلامٌ *
انظر : إشهارٌ
أعلام الحرم *
التعريف :
1 - الأعلام : في اللّغة جمع علمٍ ، والعلم والعلامة شيءٌ ينصب في الأماكن الّتي تحتاج لعلامةٍ يهتدي به الضّالّ ، ويقال : أعلمت على كذا ، جعلت عليه علامةً ، ويطلق العلم ويراد به ، الجبل والرّاية الّتي يجتمع إليها الجند .
2 - وأعلام الحرم - وتسمّى أيضاً أنصاب الحرم - هي الأشياء الّتي نصبت في أماكن محدّدةٍ . شرعاً لبيان حدود الحرم المكّيّ . فللحرم المكّيّ أعلامٌ بيّنةٌ ، وهي حاليّاً أنصابٌ مبنيّةٌ مكتوبٌ عليها اسم العلم باللّغات العربيّة والأعجميّة .
3 - والأنصاب من الحرم على أطرافه مثل المنار ، وهي ممّا يلي طريق بستان بني عامرٍ ، في طرف بركة زبيدة ، عند عينها ، عن طرق العراق ثمانية أميالٍ .
وممّا يلي عرفاتٍ يرى الواقف بعرفة الأنصاب على اثني عشر ميلاً أو نحوها ، وممّا يلي طريق المدينة فمن التّنعيم . روي عن محمّدٍ الأسود « أنّ أوّل من نصب الأنصاب إبراهيم ، أراه جبريل ، صلّى اللّه عليهما » .
وقال ابن بكّارٍ : أوّل من سمّى أنصاب الحرم وبناها وعمّرها قصيّ بن كلابٍ ، لما روي عن ابن العبّاس أنّ جبريل عليه السلام أرى إبراهيم موضع أنصاب الحرم ، فنصبها ثمّ جدّدها إسماعيل ، ثمّ جدّدها قصيّ بن كلابٍ ، ثمّ جدّدها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
قال الزّهريّ : قال عبد اللّه : فلمّا ولي عمر بن الخطّاب بعث بأربعةٍ من قريشٍ فنصبوا أنصاب الحرم : مخرمة بن نوفل بن عبد مناف بن زهرة ، وأزهر بن عبد عوفٍ ، وسعيد بن يربوع ، وحويطب بن عبد العزّى .
تجديد أعلام الحرم :
4 - روى البزّار في مسنده عن محمّد بن الأسود بن خلفٍ عن أبيه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يجدّد أعلام الحرم عام الفتح » . ثمّ جدّدها عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ، ثمّ عثمان بن عفّان رضي الله عنه ، ثمّ معاوية رضي الله عنه ، وهكذا إلى وقتنا الحاضر .
5 - والحكمة من تنصيب أعلام الحرم أنّ اللّه عزّ وجلّ جعل لمكّة حرماً ، وحدّه بحدودٍ أرادها اللّه تعالى ، والحكمة في ذلك تبيين المكان الّذي ثبتت له أحكامٌ خاصّةٌ ليمكن مراعاتها ، وللتّفصيل ينظر في مصطلح ( حرمٌ ) .

إعلانٌ *
التعريف :
1 - الإعلان : المجاهرة ، ويلاحظ فيه قصد الشّيوع والانتشار ، والفقهاء يستعملون كلمة « إعلانٍ " فيما استعملها فيه أهل اللّغة بمعنى المبالغة في الإظهار .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإظهار :
2 - هو مجرّد الإبراز بعد الخفاء ، وعلى هذا فإنّ الفرق بين الإظهار والإعلان : أنّ الإعلان هو المبالغة في الإظهار . ومن هنا قالوا : يستحبّ إعلان النّكاح ، ولم يقولوا : إظهاره ، لأنّ إظهاره يكون بالإشهاد عليه فحسب .
ب - الإفشاء :
3 - يكون الإفشاء بنشر الخبر من غير مجاهرةٍ ولا إعلانٍ ، وذلك ببثّه بين النّاس .
ج - الإعلام :
4 - الإعلام : إيصال الخبر مثلاً إلى شخصٍ أو طائفةٍ من النّاس ، سواءٌ أكان ذلك بالإعلان ، أم بالتّحديث من غير إعلانٍ ، وعلى هذا فهو يخالف الإعلان من هذه النّاحية ، ومن ناحيةٍ أخرى فإنّه لا يلزم من الإعلان الإعلام ، فقد يتمّ الإعلان ولا يتمّ الإعلام لسفرٍ أو حبسٍ أو نحو ذلك .
د - الإشهاد :
5 - هو إظهار المشهود عليه للشّاهدين مع طلب الشّهادة ، وقد لا يظهر لغيرهما ، ولذلك لم يكن الإشهاد إعلاناً ، لأنّ الإعلان إظهارٌ للملأ .
الحكم الإجماليّ :
يختلف الإعلان بحسب الأمر والشّخص ، فممّا يطلب فيه الإعلان :
أ - إعلان الإسلام ومبادئه :
6 - إذا دخل الإيمان قلب إنسانٍ فعليه أن يعلن إيمانه بالنّطق بالشّهادتين ، وعلى المسلمين عامّةً ، والعلماء منهم خاصّةً ، أن يعلنوا مبادئ الإسلام وأهدافه وأحكامه ، ويدعوا النّاس للإيمان بها عملاً بقوله تعالى : { ولتكن منكم أمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وكما فعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عندما أعلن رسالته للنّاس جميعاً : { يا أيّها النّاس إنّي رسول اللّه إليكم جميعاً } .
وعلى المسلمين أن يعلنوا شعائر الإسلام كالأذان ، وصلاة الجماعة ، وصلاة العيدين ، والحجّ ، والعمرة ، ونحو ذلك كما هو مفصّلٌ في أبوابه من كتب الفقه .
ب - إعلان النّكاح :
7 - جمهور الفقهاء على أنّ إعلان النّكاح مستحبٌّ . وذهب الزّهريّ إلى أنّه فرضٌ ، حتّى أنّه إذا نكح نكاح سرٍّ ، وأشهد رجلين ، وأمرهما بالكتمان وجب التّفريق بين الزّوجين ، وتعتدّ الزّوجة ، ويكون لها المهر حتّى إذا ما انقضت عدّتها وبدا له أن يتزوّجها تزوّجها وأعلن النّكاح . كما هو مفصّلٌ في كتاب النّكاح من كتب الفقه .
ج - إعلان إقامة الحدود :
8 - إعلان إقامة الحدود واجبٌ ، لأنّها شرعت رادعةً مانعةً ، ولا يتحقّق ذلك إلاّ بإعلانها ، وعملاً بقوله تعالى في حدّ الزّنى { وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين } . وباقي الحدود مثله كما هو مفصّلٌ في كتاب الحدود .
د - الإعلان عن المصالح العامّة :
9 - كلّ عملٍ يمكن أن ينال المسلمين منه خيرٌ ويتزاحموا في طلبه ، يجب على وليّ الأمر الإعلان عنه لتتاح الفرصة للجميع على قدرٍ متساوٍ ، كالإعلان عن الوظائف ، والإعلان عن الأعمال الّتي يفرض وليّ الأمر الجوائز لمن يقوم بها ، كقول الإمام : { من قتل قتيلاً فله سلبه } ، كما هو مذكورٌ في كتاب الجهاد من كتب الفقه .
هـ - الإعلان عن موت فلانٍ :
10 - يسمّى الإعلان عن الموت نعياً ، وهو إذا كان لمجرّد الإخبار جائزٌ ، أمّا إن كان كفعل الجاهليّة بالطّواف في المجالس قائلاً : أنعي فلاناً ويعدّد مفاخره ، فإنّه مكروهٌ بالاتّفاق ، لأنّه من نعي الجاهليّة ، وتفصيل ذلك في الجنائز .
و - الإعلان للتّحذير :
11 - كلّ أمرٍ جديدٍ يمكن أن ينال المسلمين منه ضررٌ لجهلهم بحاله ، وجب على وليّ الأمر إعلانه ، كإعلان الحجر على السّفيه والمفلس ، ليحذر المسلمون التّعامل معهما . كما فصّل ذلك الفقهاء في كتاب الحجر ، وفي باب التّفليس .
12 - وكلّ ما لا يصحّ إظهاره لا يصحّ إعلانه ، لأنّ الإعلان أشهر من الإظهار ( ر : إظهارٌ ) .
ما يصحّ إظهاره ولا يصحّ إعلانه :
13 - هناك أمورٌ يجوز إظهارها ، ولكن لا يجوز إعلانها . منها : إظهار سبب الجرح للشّاهد - لأنّ الجرح لا يقبل إلاّ مفسّراً - فإنّه لا يجوز إعلانه لما فيه من التّشهير .
وإظهار الحزن على الميّت ، لأنّه لا يملك إخفاءه ، ولكنّه لا يجوز له المبالغة في إظهار هذا الحزن ، أي لا يجوز له إعلانه .
إعمارٌ *
التعريف :
1 - يأتي الإعمار بمعنيين :
الأوّل : مصدر أعمر فلانٌ فلاناً : إذا جعله يعتمر ، وفي الحديث { أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ أن يعمر عائشة رضي الله عنها من التّنعيم } .
الثّاني : أنّه نوعٌ من الهبة ، فيقولون : أعمر فلانٌ فلاناً داره ، أي جعلها له عمره ، وقد ورد في السّنّة قوله صلى الله عليه وسلم : { لا عمرى ولا رقبى ، فمن أعمر شيئاً أو أرقبه فهو له حياته ومماته } .
2 - وقد فصّل الفقهاء أحكام العمرى والرّقبى على خلافٍ بينهم في الأخذ بظاهر الحديث بجعلها تمليكاً ، أو تأويله على تفصيلٍ ينظر في : ( الهبة ، والعاريّة ) .
أعمى *
انظر : عمًى .
أعوان *ٌ
انظر : إعانةٌ .
أعور *
انظر : عورٌ .
أعيانٌ *
التعريف :
1 - الأعيان في اللّغة : جمع عينٍ ، والعين لها إطلاقاتٌ عديدةٌ منها :
العين بمعنى المال الحاضر النّاضّ . يقال : اشتريت بالدّين ( أي في الذّمّة ) أو بالعين أي المنقود الحاضر . وعين الشّيء نفسه ، يقال أخذت مالي بعينه ، أي نفس مالي .
والعين ما ضرب من الدّنانير والدّراهم ومنها العين الباصرة ، والعين بمعنى الجاسوس .
والإخوة الأعيان هم الإخوة الأشقّاء .
ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ عن هذه المعاني اللّغويّة المذكورة ، إلاّ أنّ أكثر استعمال الفقهاء للأعيان فيما يقابل الدّيون ، وهي الأموال الحاضرة نقداً كانت أو غيره ، يقال : اشتريت عيناً بعينٍ أي حاضراً بحاضرٍ .
الألفاظ ذات الصّلة
أ - الدّين :
2 - هو مالٌ حكميٌّ ، يثبت في الذّمّة ببيعٍ أو استهلاكٍ أو غيرهما ، كمقدارٍ من المال في ذمّة آخر ، في حين أنّ العين هي مالٌ منقودٌ حاضرٌ مشخّصٌ عند التّعامل .
ب - ( العرض ) : العرض ( بسكون الرّاء ) من صنوف الأموال : ما كان من غير الذّهب والفضّة اللّذين هما ثمن كلّ عرضٍ ، ويقال : اشتريت من فلانٍ قلماً بعشرةٍ ، وعرضت له من حقّه ثوباً أي أعطيته إيّاه بدل ثمن القلم ، فالعرض يقابل العين .
الأحكام المتعلّقة بالأعيان :
3 - الأعيان بمعنى الذّهب والفضّة لها أحكامٌ خاصّةٌ يرجع إليها تحت : ( ذهبٌ ، وفضّةٌ ، وصرفٌ ) والأعيان بمعنى الذّوات تختلف أحكامها باختلاف هذه الذّوات وهي موزّعةٌ تحت عناوين متعدّدةٍ في أبوابٍ مختلفةٍ كما في ( الزّكاة ، والبيع ، والإجارة ، والرّهن ، والإتلاف ، والضّمان ) وغيرها . والإخوة الأعيان ينظر حكمهم تحت عنوان ( أخٌ ) .

إغاثةٌ *
انظر : استغاثةٌ .
إغارةٌ *
التعريف :
1 - الإغارة لغةً : الهجوم على القوم بغتةً والإيقاع بهم .
ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك . ويرادفه الهجوم .
الحكم الإجماليّ ، ومواطن البحث :
2 - الأصل أنّه لا تجوز الإغارة على العدوّ الكافر ابتداءً قبل عرض الإسلام عليهم . وقد فصّل ذلك الفقهاء في كتاب الجهاد ، كما لا تجوز الإغارة على البغاة حتّى يبعث إليهم من يسألهم ويكشف لهم الصّواب . وفي ذلك تفصيلٌ بسطه الفقهاء في كتاب البغاة .
وإذا أمر القائد سريّةً من الجيش بالإغارة على العدوّ ، فما غنمته هذه السّريّة شاركها الجيش في هذه الغنيمة . وقد ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الغنيمة من كتب الفقه .

اغترارٌ *
انظر : تغريرٌ .
اغتسالٌ *
انظر : غسلٌ .
اغتيالٌ *
انظر : غيلةٌ .
إغراءٌ *
التعريف :
1 - الإغراء مصدر أغرى ، وأغرى بالشّيء : أولع به ، يقال : أغريت الكلب بالصّيد ، وأغريت بينهم العداوة . ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ عن هذا المعنى .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - التّحريض هو : الحثّ على الشّيء والإحماء عليه . قال تعالى : { يا أيّها النّبيّ حرّض المؤمنين على القتال } .
فالتّحريض لا بدّ له من باعثٍ خارجيٍّ ، أمّا الإغراء فقد يكون الباعث ذاتيّاً .
الحكم الإجماليّ :
3 - يختلف حكم الإغراء باختلاف أحواله :
فالإغراء بالوسيلة الحلال للفعل الحلال جائزٌ ، كإغراء المطلّقة الرّجعيّة زوجها بالتّزيّن له ، وتفصيله في ( الطّلاق والرّجعة ) وإغراء الكلب بالصّيد ، وتفصيله في ( الصّيد ) .
وقد يكون واجباً كإغراء الأب ابنه بحفظ ما يقيم به صلاته من القرآن ، وقد يكون حراماً مثل إغراء المرأة الرّجل الأجنبيّ بالتّزيّن له ، أو الخضوع بالقول لغير الزّوج ، وكذلك عكسه .
إغلاقٌ *
التعريف :
1 - الإغلاق لغةً : مصدر أغلق . يقال : أغلق الباب ، وأغلقه على شيءٍ : أكرهه عليه ، ومنه سمّي الغضب إغلاقاً . وذكر الزّمخشريّ في أساس البلاغة : أنّ من المجاز إطلاق الإغلاق على الإكراه . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك .
الحكم الإجماليّ :
2 - الفقهاء يجعلون إغلاق الأبواب والنّوافذ ممّا تتحقّق به الخلوة كإرخاء السّتور . لما روى زرارة بن أوفى قال : قضى الخلفاء الرّاشدون المهديّون أنّ من أغلق باباً أو أرخى ستراً فقد وجب عليه المهر . ويبحث الفقهاء ذلك في كتاب النّكاح ، عند كلامهم على المهر ، وهل هو مستحقٌّ كلّه بالخلوة الصّحيحة ؟
3 - وورد في السّنّة ما يمنع الأمير من إغلاق بابه دون حاجات النّاس . فقال صلى الله عليه وسلم : « ما من إمامٍ يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلّة والمسكنة إلاّ أغلق اللّه أبواب السّماء دون خلّته وحاجته ومسكنته » وكان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يرسل من يخلع أبواب الأمراء ويحرّقها ، لئلاّ يمنع ذو الحاجة من الدّخول عليهم .
4 - وورد في السّنّة أيضاً ما يوجب إغلاق الأبواب ليلاً ، ففي صحيح مسلمٍ من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « غطّوا الإناء ، وأوكئوا السّقاء ، وأغلقوا الباب ، وأطفئوا السّرج ، فإنّ الشّيطان لا يحلّ سقاءً ، ولا يفتح باباً ، ولا يكشف إناءً » .
5 - ويطلق الفقهاء الإغلاق على احتباس الكلام عند المتكلّم ، فيقولون : إن أغلق على الإمام - أي ارتجّ عليه فلم يتكلّم - في القراءة في الصّلاة ، ركع إن كان قد قرأ القدر المستحبّ ، وهو الظّاهر عند الحنفيّة ، وقيل قدر الفرض . ، وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب الصّلاة عند كلامهم على الفتح على الإمام .
وإن أغلق على الخطيب في الخطبة ، اقتصر على ذكر اللّه ونزل ، وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب الصّلاة عند كلامهم على خطبة الجمعة .
6 - وورد في السّنّة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لا طلاق ولا عتاق في إغلاقٍ » وبناءً على هذا الحديث اختلف الفقهاء في حكم طلاق المكره والسّكران والغضبان ( الّذي فقد سيطرته على نفسه ) ونحوهم ، فأوقع بعضهم طلاق هؤلاء ، ولم يوقعه بعضهم الآخر ، وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب الطّلاق ، وذكره شرّاح الحديث في شرح هذا الحديث الشّريف .

إغماءٌ *
التعريف :
1 - الإغماء : مصدر ( أغمي على الرّجل ) مبنيٌّ للمفعول ، والإغماء مرضٌ يزيل القوى ويستر العقل ، وقيل : فتورٌ عارضٌ لا بمخدّرٍ يزيل عمل القوى .
ولا يخرج التعريف الاصطلاحيّ عن هذا .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - النّوم :
2 - عرّف الجرجانيّ النّوم بأنّه : حالةٌ طبيعيّةٌ تتعطّل معها القوى مع سلامتها .
فبينه وبين الإغماء اشتراكٌ واختلافٌ في تعطّل القوى ، ويختلفان في أنّ الإغماء من المرض ، والنّوم مع السّلامة .
ب - العته :
3 - العته : علّةٌ ناشئةٌ عن الذّات ، توجب خللاً في العقل ، فيصير صاحبه مختلط العقل ، فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء ، وبعضه كلام المجانين ، فالفرق بينه وبين الإغماء : أنّ الإغماء مؤقّتٌ ، والعته مستمرٌّ غالباً ، والإغماء يزيل القوى كلّها ، والعته يضعف القوى المدركة .
ج - الجنون :
4 - الجنون : مرضٌ يزيل العقل ، ويزيد القوى غالباً ، والفرق بينه وبين الإغماء أنّ الجنون يسلب العقل بخلاف الإغماء فإنّه يجعل من وقع به مغلوباً لا مسلوب العقل .
وهناك ألفاظٌ أخرى ذات صلةٍ بالإغماء ، كالسّكر والصّرع والغشي ، تنظر في مواطنها من أصول الفقه عند الكلام على عوارض الأهليّة ، ويتكلّم عنها الفقهاء في نواقض الوضوء والجنايات ، والطّلاق والبيع ونحوه من العقود .
أثر الإغماء في الأهليّة :
5 - الإغماء لا يؤثّر في أهليّة الوجوب لأنّ مناطها الإنسانيّة ، أمّا أهليّة الأداء فإنّه ينافيها ، لأنّ مدارها العقل ، وهو مغلوبٌ على عقله ، وتفصيله في الملحق الأصوليّ .
أثر الإغماء في العبادات البدنيّة :
أ - في الوضوء والتّيمّم :
6 - أجمع الفقهاء على أنّ الإغماء ناقضٌ للوضوء قياساً على النّوم ، بل هو أولى ، لأنّ النّائم إذا أوقظ استيقظ بخلاف المغمى عليه .
ونصّ الفقهاء على أنّ كلّ ما يبطل الوضوء يبطل التّيمّم .
ب - أثر الإغماء في سقوط الصّلاة :
7 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة ، وهو قولٌ عند الحنابلة ، إلى أنّ المغمى عليه لا يلزمه قضاء الصّلاة إلاّ أن يفيق في جزءٍ من وقتها ، مستدلّين بأنّ أمّ المؤمنين « عائشة رضي الله عنها سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الرّجل يغمى عليه فيترك الصّلاة ، فقال صلى الله عليه وسلم : ليس من ذلك قضاءٌ ، إلاّ أن يغمى عليه فيفيق في وقتها فيصلّيها » .
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : إن أغمي عليه خمس صلواتٍ قضاها ، وإن زادت سقط فرض القضاء في الكلّ ، لأنّ ذلك يدخل في التّكرار فأسقط القضاء كالجنون ، وقال محمّدٌ : يسقط القضاء إذا صارت الصّلوات ستّاً ودخل في السّابعة ، لأنّ ذلك هو الّذي يحصل به التّكرار . لكنّ أبا حنيفة وأبا يوسف أقاما الوقت مقام الصّلوات تيسيراً فتعتبر الزّيادة بالسّاعات .
وذهب الحنابلة في المشهور عندهم إلى أنّ المغمى عليه يقضي جميع الصّلوات الّتي كانت في حال إغمائه ، مستدلّين بما روي أنّ عمّاراً غشي عليه أيّاماً لا يصلّي ، ثمّ استفاق بعد ثلاثٍ ، فقال ( أي عمّارٌ ) : هل صلّيت ؟ فقالوا : ما صلّيت منذ ثلاثٍ ، فقال : أعطوني وضوءاً فتوضّأ ثمّ صلّى تلك اللّيلة . وروى أبو مجلزٍ أنّ سمرة بن جندبٍ قال : المغمى عليه يترك الصّلاة يصلّي مع كلّ صلاةٍ صلاةً مثلها قال : قال عمران : زعم ، ولكن ليصلّهنّ جميعاً ، وروى الأثرم هذين الحديثين في سننه وهذا فعل الصّحابة وقولهم ، ولا يعرف لهم مخالفٌ فكان إجماعاً . ولأنّ الإغماء لا يسقط فرض الصّيام ، ولا يؤثّر في استحقاق الولاية على المغمى عليه فأشبه النّوم .
ج - أثر الإغماء في الصّيام :
8 - أجمع الفقهاء على أنّ الإغماء لا يسقط قضاء الصّيام ، فلو أغمي على شخصٍ جميع الشّهر ، ثمّ أفاق بعد مضيّه يلزمه القضاء إن تحقّق ذلك ، وهو نادرٌ والنّادر لا حكم له ، إلاّ عند الحسن البصريّ فإنّه يقول : سبب وجوب الأداء لم يتحقّق في حقّه لزوال عقله بالإغماء ، ووجوب القضاء يبتني على وجوب الأداء .
واستدلّ فقهاء المذاهب بأنّ الإغماء عذرٌ في تأخير الصّوم إلى زواله لا في إسقاطه ، لأنّ سقوطه يكون بزوال الأهليّة أو بالحرج ، ولا تزول الأهليّة به ولا يتحقّق الحرج به ، لأنّ الحرج إنّما يتحقّق فيما يكثر وجوده ، وامتداده في حقّ الصّوم نادرٌ ، لأنّه مانعٌ من الأكل والشّرب . وحياة الإنسان شهراً بدون الأكل والشّرب لا يتحقّق إلاّ نادراً فلا يصلح لبناء الحكم عليه .
9 - ومن نوى الصّوم من اللّيل فأغمي عليه قبل طلوع الفجر فلم يفق حتّى غربت الشّمس ، فقد قال الشّافعيّة والحنابلة : لا يصحّ صومه لأنّ الصّوم هو الإمساك مع النّيّة . قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « يقول اللّه تعالى : كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصّوم فإنّه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشرابه من أجلي » فأضاف ترك الطّعام والشّراب إليه . فإذا كان مغمًى عليه فلا يضاف الإمساك إليه فلم يجزه . وقال أبو حنيفة : يصحّ صومه لأنّ النّيّة قد صحّت وزوال الاستشعار بعد ذلك لا يمنع صحّة الصّوم كالنّوم .
ومن أغمي عليه بعد أن نوى الصّيام وأفاق لحظةً في النّهار أجزأه الصّوم ، أيّ لحظةٍ كانت ، اكتفاءً بالنّيّة مع الإفاقة في جزءٍ ، لأنّ الإغماء في الاستيلاء على العقل فوق النّوم ودون الجنون . فلو قيل : إنّ المستغرق منه لا يضرّ لألحق الأقوى بالأضعف . ولو قيل : إنّ اللّحظة منه تضرّ كالجنون لألحق الأضعف بالأقوى فتوسّط بين الأمرين . وقيل : إنّ الإفاقة في أيّ لحظةٍ كافيةٌ . وفي قولٍ ثانٍ للشّافعيّة : إنّ الإغماء يضرّ مطلقاً قلّ أو كثر .
د - أثره في الحجّ :
10 - الإغماء كما تقدّم من عوارض الأهليّة . فالمغمى عليه لا يتأتّى منه أداء أفعال الحجّ ، ولكن هل يصحّ إحرام الغير عنه بدون إذنٍ منه ؟ وهل إذا أناب أحداً تقبل الإنابة ؟
قال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إنّ المغمى عليه لا يحرم عنه غيره ، لأنّه ليس بزائل العقل وبرؤه مرجوٌّ على القرب . ولو أيس من برئه بأن زاد إغماؤه على ثلاثة أيّامٍ فعند الشّافعيّة يحرم الوليّ عنه في المعتمد ، وقاسوا ذلك على أنّه ليس لأحدٍ أن يتصرّف في ماله وإن لم يبرأ .
ومن يرجى برؤه ليس لأحدٍ أن ينوب عنه ، وإن فعل لم يجزئه عند الشّافعيّة والحنابلة ، لأنّه يرجو القدرة على الحجّ بنفسه ، فلم يكن له الاستنابة ولا تجزئه إن وقعت ، وفارق الميئوس من برئه ، لأنّه عاجزٌ على الإطلاق آيسٌ من القدرة على الأصل فأشبه الميّت . وعند أبي حنيفة أنّ من أغمي عليه فأهلّ عنه رفقاؤه جاز . وقال الصّاحبان : لا يجوز . ولو أمر إنساناً بأن يحرم عنه إذا أغمي عليه ، أو نام فأحرم المأمور عنه صحّ بإجماع الحنفيّة ، حتّى إذا أفاق أو استيقظ وأتى بأفعال الحجّ جاز . استدلّ الصّاحبان على الأوّل بأنّه لم يحرم بنفسه ولا أذن لغيره به وهذا لأنّه لم يصرّح بالإذن ، والدّلالة تقف على العلم وجواز الإذن به لا يعرفه كثيرٌ من الفقهاء فكيف يعرفه العوامّ ؟ بخلاف ما لو أمر غيره بذلك صريحاً . ولأبي حنيفة أنّه لمّا عاقد رفقاءه عقد الرّفقة فقد استعان بكلّ واحدٍ منهم فيما يعجز عن مباشرته بنفسه ، والإحرام هو المقصود بهذا السّفر ، فكان الإذن به ثابتاً دلالةً ، والعلم ثابتٌ نظراً إلى الدّليل ، والحكم يدار عليه .
وعند المالكيّة أنّه لا يصحّ الإحرام عن المغمى . عليه ولو خيف فوات الحجّ ، لأنّه مظنّة عدم الطّول ثمّ إن أفاق في زمنٍ يدرك الوقوف فيه أحرم وأدرك ولا دم عليه في عدم إحرامه من الميقات .
11 - أمّا بالنّسبة للوقوف بعرفة ، فالكلّ مجمعٌ على أنّه لو أفاق المغمى عليه في زمن الوقوف ولو لحظةً أجزأه . وإن لم يفق من إغمائه إلاّ بعد الوقوف فمذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه فاته الحجّ في ذلك العام ، ولا عبرة بإحرام أصحابه عنه ووقوفهم في عرفة . وللشّافعيّة قولان في إجزاء وقوف المغمى عليه أو عدمه .
والحنفيّة يكتفون بالكينونة في محلّ الوقوف وزمنه مع سبق الإحرام ، فوقوف المغمى عليه مجزئٌ . أمّا أثر الإغماء على باقي أعمال الحجّ فينظر في الحجّ .
أثر الإغماء على الزّكاة :
12 - المغمى عليه بالغٌ عاقلٌ فتجب في ماله الزّكاة ، فإذا أغمي عليه بعد وجوبها فلا يتأتّى منه الأداء ، وعليه إذا أفاق قضاؤها ولو امتدّ به الإغماء ، إذ امتداده نادرٌ والنّادر لا حكم له .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
أثر الإغماء في التّصرّفات القوليّة :
13 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الإغماء كالنّوم بل أشدّ منه في فوت الاختيار ، لأنّ النّوم يمكن إزالته بالتّنبيه بخلاف الإغماء . وتبطل عبادات النّائم في الطّلاق والإسلام والرّدّة والبيع والشّراء . فبطلانها بالإغماء أولى .
واستدلّوا على عدم وقوع طلاق المغمى عليه بأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم : « كلّ الطّلاق جائزٌ إلاّ طلاق المعتوه والمغلوب على عقله » وقوله صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاثةٍ ، عن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن الصّبيّ حتّى يشبّ ، وعن المعتوه حتّى يعقل » ، وقد أجمعوا على أنّ الرّجل إذا طلّق في حال نومه لا طلاق له ، والمغمى عليه أشدّ حالاً من النّائم . وقال الإمام أحمد في المغمى عليه إذا طلّق فلمّا أفاق علم أنّه كان مغمًى عليه وهو ذاكرٌ لذلك قال : إذا كان ذاكراً لذلك فليس هو مغمًى عليه ، يجوز طلاقه ، ومثل ما ذكر كلّ تصرّفٍ قوليٍّ .
أثر الإغماء في عقود المعاوضة :
14 - كلّ تصرّفٍ قوليٍّ يصدر في حال الإغماء فهو باطلٌ ، لكن إذا تمّ التّصرّف في حال الصّحّة ثمّ طرأ الإغماء لا ينفسخ لتمامه في حالٍ تصحّ فيها . ولا تصحّ وصيّة المغمى عليه في حالة الإغماء المؤقّت ، ولا المغمى عليه الّذي يئس من إفاقته .
إغماء وليّ النّكاح :
15 - قال الشّافعيّة : إذا أغمي على وليّ النّكاح الأقرب فننتظر إفاقته إن كانت قريبةً كيومٍ ويومين وأكثر ، لأنّ من أصول مذهبهم عدم جواز تزويج الوليّ الأبعد مع جمع وجود الوليّ الأقرب ، وقيل : تنتقل الولاية إلى الأبعد .
قالوا : الأحسن في هذا ما قال إمام الحرمين : إن كانت مدّة الإغماء بحيث يعتبر فيها إذن الوليّ الغائب ذهاباً وإياباً انتظر وإلاّ قام الحاكم بالتّزويج . قال الزّركشيّ : لأنّه إذا زوّج الحاكم مع صحّة عبارة الغائب فمع تعذّر ذلك بإغمائه أولى .
إغماء القاضي :
16 - صرّح الشّافعيّة بأنّ القاضي إذا أغمي عليه فإنّه ينعزل عن ولاية القضاء ، وإذا أفاق لا تعود ولايته على الأصحّ ، ولا ينفذ قضاؤه فيما حكم فيه حال إغمائه ، وفي مقابل الأصحّ تعود ولايته إذا أفاق .
أمّا غير الشّافعيّة فإنّهم لم ينصّوا على ذلك صراحةً ، إلاّ أنّ مفهوم النّصوص عندهم تدلّ على أنّ القاضي لا ينعزل بالإغماء ، فقد جاء في ابن عابدين : لو فسق القاضي أو ارتدّ أو عمي ثمّ صلح وأبصر فهو على قضائه . وفي الشّرح الصّغير : لا يعزل القاضي إلاّ بالكفر فقط . وفي شرح منتهى الإرادات : يتعيّن عزل القاضي مع مرضٍ يمنعه من القضاء لدعاء الحاجة إلى إقامة غيره .
أثر الإغماء في التّبرّعات :
17 - سبق بيان أنّ التّصرّفات القوليّة كلّها لا تصحّ من المغمى عليه ، فلا تصحّ هبته ولا صدقته ولا وقفه وما إلى ذلك ، لأنّ المغمى عليه مغلوب العقل فلا يتوفّر فيه شرط صحّة التّصرّف . وهذا بإجماع الفقهاء ، ولأنّ التّصرّفات يشترط فيها كمال العقل والمغمى عليه ليس كذلك .
أثر الإغماء في الجنايات :
18 - تقدّم أنّ الإغماء عارضٌ وقتيٌّ تسقط فيه المؤاخذة وفهم الخطاب ، فإنّ حالة المغمى عليه هي سترٌ للعقل ينشأ عنه فقدٌ للوعي وفقدٌ للاختيار ، لذلك كان سبباً من أسباب عدم المؤاخذة بالنّسبة لحقوق اللّه تعالى حسب البيان السّابق .
أمّا بالنّسبة لحقوق العباد فإنّها لا تسقط . فإذا وقعت منه جرائم أخذ بها . فإذا انقلب النّائم على غيره فمات فإنّه يعامل معاملة المخطئ وتجب الدّية . وإذا أتلف مال إنسانٍ وهو مغمًى عليه وجب عليه ضمان ما أتلف .
هل يعتبر إغماء المعقود عليه عيباً ؟
19 – نصّ الشّافعيّة على أنّ الإغماء إذا تبيّن في الزّوج أو الزّوجة عقيب عقد النّكاح يبيح لكلٍّ من الزّوجين فسخ النّكاح إذا قرّر الأطبّاء اليأس من الإفاقة ، وعلّته أنّ الإغماء المستديم يمنع من الاستمتاع المقصود من النّكاح .
قال الإمام النّوويّ : قد أجمعوا على ثبوت الخيار في البيع بهذه الصّفات ( الجنون مطبقاً أو متقطّعاً ... ) ومثله الإغماء الميئوس منه بقول الأطبّاء . وإذا كان الإغماء الميئوس منه عيباً يفسخ به النّكاح ويردّ به المبيع فهو في الإجارة أولى . هذا ما ذكر الشّافعيّة ، وقواعد غيرهم لا تأباه .
إفاضةٌ *
التعريف :
1 - من معاني الإفاضة في اللّغة : الكثرة والإسالة ، يقال : أفاض الإناء : إذا ملأه حتّى فاض ، أي كثر ماؤه وسال .
ومن معانيها : دفع النّاس من المكان ، يقال : أفاض النّاس من عرفاتٍ : إذا دفعوا منها ، وكلّ دفعةٍ إفاضةٌ . وتأتي في الاصطلاح بهذين المعنيين موافقةً للمعنى اللّغويّ .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - تأتي إفاضة الماء بمعنى كثرته مع الإسالة في رفع الحدث الأصغر في الوضوء ، والحدث الأكبر في الغسل من الجنابة والحيض والنّفاس والموت وعند الإسلام ، فتكون الإسالة واجبةً والكثرة مندوبةً ما لم يخرج إلى حدّ السّرف ، كما تجب في تطهير النّجاسات . مثل إزالة النّجاسة عن المكان أو الجسد أو الثّوب ، ( ر : غسلٌ ، وضوءٌ ، نجاسةٌ ) .
3 - وتأتي الإفاضة بالمعنى الثّاني ، كالإفاضة من عرفة ومن مزدلفة ، والإفاضة من منًى ( ر : حجٌّ ) . وتكون هذه الإفاضة صحيحةً شرعاً إذا وافقت وقتها ، وتكون سنّةً إذا وافقت فعل الرّسول صلى الله عليه وسلم« مثل الإفاضة من عرفة بعد غروب شمس عرفة ، والإفاضة من مزدلفة بعد صلاة الفجر ».
وتكون جائزةً مثل الإفاضة من منًى في اليوم الثّاني للرّمي للمتعجّل ( ر : حجٌّ ) .
4 - كما يضاف طواف الرّكن إلى الإفاضة فيسمّى " طواف الإفاضة " وحكمه أنّه ركنٌ في الحجّ .
إفاقةٌ *
التعريف :
1 - يقال لغةً : أفاق السّكران إذا صحا ، وأفاق من مرضه رجعت إليه الصّحّة ، وأفاق عنه النّعاس أقلع . وعند الفقهاء تستعمل الإفاقة بمعنى رجوع عقل الإنسان إليه بعد غيابه عنه بسبب الجنون ، أو الإغماء ، أو السّكر ، أو النّوم .
الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - يتناول الفقهاء الإفاقة أثناء الكلام عن الجنون ، والإغماء ، والسّكر ، والنّوم ، ويبنون على الإفاقة من هذه العوارض أحكاماً منها ما يلي :
التّطهّر عند الإفاقة :
3 - لا خلاف في انتقاض الوضوء بالجنون أو الإغماء الأصليّ أو العارض ، فإذا أفاق عليه الوضوء للصّلاة ونحوها ، وذكر أغلب الفقهاء أنّه يستحبّ اغتسال المجنون والمغمى عليه إذا أفاقا ، قال ابن المنذر :« ثبت أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اغتسل من الإغماء ». الصّلاة بعد الإفاقة :
4 - ذهب الجمهور إلى أنّه إذا أفاق المجنون لا يكلّف قضاء ما فاته حال جنونه ، ووافق الحنفيّة الجمهور في الجنون الأصليّ ( الممتدّ بعد البلوغ ) أمّا الجنون العارض فكالإغماء عندهم .
وقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ المغمى عليه لا يلزمه قضاء الصّلوات الّتي لم يكن مفيقاً في جزءٍ من وقتها ، وذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا زاد الإغماء على يومٍ وليلةٍ تسقط به الصّلوات ، وذهب الحنابلة إلى أنّه لا تسقط الصّلاة بالإغماء قياساً على النّوم ، وبالإفاقة من النّوم يطالب بما فاته من صلواتٍ بالغةً ما بلغت .
ولا يخالف أحدٌ من الفقهاء في وجوب الصّلاة الّتي حدثت الإفاقة في وقتها المحدّد لها شرعاً ، وقد بقي من الوقت ما يسع تلك الصّلاة ، وسواءٌ أكانت الإفاقة عن جنونٍ أم غيره ، وذلك لحديث : « رفع القلم عن ثلاثةٍ : عن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن الصّبيّ حتّى يشبّ ، وعن المعتوه حتّى يعقل » فإن ضاق الوقت عنها كلّها ، فإنّ من الفقهاء من يقول بوجوبها إن بقي من الوقت قدر تكبيرةٍ ، ومنهم من يقول بأنّها تجب إن بقي من الوقت ما يدرك به ركعةً . وهل تسقط تلك الصّلاة لو صلّى صلاةً فائتةً ، وخرج الوقت أم لا ؟ تفصيل ذلك يذكره الفقهاء في ( أوقات الصّلاة ) .
أثر الإفاقة في الصّوم :
5 - من الفقهاء من أوجب صيام الشّهر كلّه إن أفاق المجنون في جزءٍ منه ، ومنهم من لا يجعل للإفاقة أثراً إلاّ في اليوم الّذي حدثت فيه ، أمّا اليوم الّذي لم تحدث فيه إفاقةٌ فإنّه يسقط صومه عند هؤلاء . وذهب البعض إلى أنّ الشّهر يسقط عنه إن كانت إفاقته في ليلةٍ من أوّله أو وسطه أو في آخر يومٍ من رمضان بعد الزّوال .
وعند المالكيّة يقضي المكلّف وإن جنّ سنين عديدةً بعد الإفاقة . يرجع إلى تفصيل أحكام ذلك تحت عنوان ( صومٌ ) . ولو نوى الصّوم ثمّ جنّ أو أغمي عليه ثمّ أفاق في أثناء اليوم فهل يصحّ صومه أو لا ؟ خلافٌ بين الفقهاء ، منهم من يقول بالصّحّة إن كانت الإفاقة في أوّل النّهار ، ومنهم من يشترط للصّحّة أن تكون الإفاقة في طرفي النّهار ، ومنهم من يقول بالصّحّة متى وقعت الإفاقة أثناء اليوم ، فإن لم ينعقد صيامه ثمّ أفاق أثناء النّهار هل يندب له الإمساك أم لا ؟ فيه خلافٌ بين الفقهاء يذكر في ( الصّوم ) .
تأخير حدّ الشّرب للإفاقة :
6 - أجمع الأئمّة الأربعة على أنّه لا يقام الحدّ على من ثبت عليه حدّ الشّرب إلاّ بعد الإفاقة تحصيلاً لمقصود الزّجر ، ولأنّ غيبوبة العقل تخفّف الألم . فإن أقامه الإمام حال السّكر حرم ويجزئه ، وتفصيل ذلك في ( حدّ الشّرب ) .
إفاقة المحجور عليه :
7 - لو أفاق المجنون المحجور عليه فإنّ الحجر ينفكّ بالإفاقة ، ثمّ اختلف هل يحتاج إلى فكّ قاضٍ ، وتفصيله في الحجر .
الإفاقة في الحجّ :
8 - بالإضافة إلى ما تقدّم ، يتكلّم الفقهاء عن الإفاقة في الحجّ ممّن أحرم ثمّ أغمي عليه ، وأدّوا به بقيّة المناسك ، ثمّ أفاق قبل تمام الحجّ أو بعده . وتفصيل ذلك في ( إحرامٌ ) .
تزويج المجنون إذا أفاق :
9 - هل يزوّج الوليّ مولّيه المجنون إن كان جنونه منقطعاً في وقت الإفاقة أم لا . انظر ( نكاحٌ ) .
إفتاءٌ *
انظر : فتوى .
افتداءٌ *
التعريف :
1 - الافتداء لغةً : الاستنقاذ بعوضٍ ، كالفداء ، واسم ذلك العوض " الفدية " أو " الفداء " وهو عوض الأسير . ومفاداة الأسرى : أن تدفع رجلاً وتأخذ رجلاً ، والفداء : فكاك الأسير . ويطلق الافتداء في الاصطلاح على ما يشمل المعنى اللّغويّ وهو : الاستنقاذ بعوضٍ ، وعلى ما يكون جبراً لخطأٍ ، أو محواً لإثمٍ أو تقصيرٍ .
الحكم الإجماليّ :
يختلف حكم الافتداء باختلاف مواضعه ومن ذلك :
أ - افتداء اليمين :
2 - يرى جمهور الفقهاء أنّ لمن ادّعي عليه بحقٍّ ووجّهت إليه اليمين ، أن يتحاشى الحلف ويفتدي اليمين بأداء المدّعى أو الصّلح منها على شيءٍ معلومٍ ، لحديث : « ذبّوا عن أعراضكم بأموالكم » والتّفصيل في بحث ( الدّعوى ) وفي ( الصّلح ) .
ب - فداء الرّجال الأسرى المقاتلة من الكفّار :
3 - أجاز المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة قبول افتداء المشركين أسراهم الرّجال المقاتلة بمالٍ أو بأسرى من المسلمين ، إذا رأى الإمام أو أمير الجيش في ذلك مصلحةً وحظّاً للمسلمين . وأجاز أبو يوسف ومحمّدٌ مفاداة الأسير بالأسير ، والدّليل قوله تعالى : { فإذا لقيتم الّذين كفروا فضرب الرّقاب حتّى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق فإمّا منّاً بعد وإمّا فداءً }
افتداء أسرى المسلمين :
4 - افتداؤهم بالمال مندوبٌ إليه ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أطعموا الجائع ، وعودوا المريض ، وفكّوا العاني » ( الأسير ) أمّا افتداؤهم بأسرى الكفّار فهو جائزٌ عند جمهور الفقهاء . وتفصيله في ، مصطلح ( أسرى ) .
ج - الافتداء عن محظورات الإحرام :
5 - تجب عند جمهور الفقهاء الفدية عن ارتكاب محظورٍ من محظورات الإحرام لقوله تعالى : { فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ } ولحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه قال : « أتى عليّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم من الحديبية والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : أيؤذيك هوامّ رأسك ؟ قلت : نعم : قال : فاحلق وصم ثلاثة أيّامٍ ، أو أطعم ستّة مساكين ، أو انسك نسيكةً » .
مواطن البحث :
6 - أبان الفقهاء أحكام الافتداء في مباحث الدّعوى ، والأسرى ، ومحظورات الإحرام وفي الفطر في رمضان لأهل الأعذار ( الحامل والمرضع ) أمّاً كانت أو ظئراً ، ومن أفطر عمداً في رمضان ومات قبل القضاء والكفّارة .
وذكروا الفدية في صوم النّذر . والفدية للشّيخ الفاني العاجز عن الصّوم .
وفي الخلع . وتفصيل كلٍّ ممّا ذكر في مواطنه .
افتراءٌ *
التعريف :
1 - الافتراء في اللّغة ، وفي الشّريعة : الكذب والاختلاق ، قال تعالى : { أم يقولون افتراه } أي اختلقه وكذب به على اللّه ، قال جلّ شأنه : { ولا يأتين ببهتانٍ يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ } وقال أيضاً : { إنّ الّذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون } .
ويطلق بعض الفقهاء الفرية والافتراء على القذف ، وهو رمي المحصن بالزّنى من غير دليلٍ . وقد جاء في كلام عليّ بن أبي طالبٍ حين استشاره عمر بن الخطّاب في حدّ السّكر : أنّه إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ( أي قذف كاذباً ) وحدّ المفتري - أي القاذف - ثمانون جلدةً .
الفرق بين الكذب والافتراء :
الكذب قد يقع على سبيل الإفساد ، وقد يكون على سبيل الإصلاح ، كالكذب للإصلاح بين المتخاصمين ، أمّا الافتراء : فإنّ استعماله لا يكون إلاّ في الإفساد .
الحكم الإجماليّ :
2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يفطر الصّائم بشيءٍ من معاصي الكلام ، ومنها الافتراء ، ولكنّه ينقص أجره ، وتفصيل ذلك تجده في بحث الصّيام عند كلامهم على ما يفطر الصّائم وما لا يفطره .
3 - الافتراء إذا استعمل وأريد به القذف ، فإنّ أحكامه هي أحكام القذف المفصّلة في باب القذف ، أمّا إذا أريد به غير القذف ، ففيه التّعزير ، لأنّه لا حدّ فيه ، وكلّ إساءةٍ لا حدّ فيها ففيها التّعزير .
افتراشٌ *
التعريف :
1 - افتراش الشّيء لغةً : بسطه . يقال : افترش ذراعيه إذا بسطهما على الأرض ، كالفراش له . والافتراش أيضاً : وطء ما فرشه ، ومنه افتراش البساط وطؤه والجلوس عليه ، وافتراش المرأة : اتّخاذها زوجةً ، ولذلك سمّي كلٌّ من الزّوجين فراشاً للآخر . والفقهاء يطلقون " الافتراش " على هذين المعنيين .
الحكم الإجماليّ :
أ - افتراش اليدين والقدمين :
2 - كره الفقهاء للرّجل - دون المرأة - أن يفترش ذراعيه على الأرض في السّجود ، لورود النّهي عن ذلك ، لحديث « لا يفترش أحدكم ذراعيه افتراش الكلب » .
ويكره للرّجل افتراش أصابع قدميه في السّجود . وكره البعض للرّجل في قعود الصّلاة افتراش قدميه والجلوس على عقبيه ، ولكن يسنّ له أن يجلس مفترشاً رجله اليسرى ، ويجلس عليها ، وينصب اليمنى .
وتفصيل ذلك في كتاب الصّلاة عند الكلام على السّجود والقعود فيها .
ب - الصّلاة على الثّوب المفروش على النّجاسة :
3 - اتّفق الفقهاء على جواز الصّلاة على الثّوب المفروش على النّجاسة إذا كان يمنع نفوذ النّجاسة إلى الأعلى ، وظاهر كلام أحمد الجواز مع الكراهة ، وفي روايةٍ عنه : لا تجوز الصّلاة عليه . وفصّل الحنفيّة فقالوا : إنّ النّجاسة إمّا أن تكون طريّةً أو يابسةً ، فإن كانت النّجاسة طريّةً وفرش عليها ثوبٌ ، فإنّه يشترط فيه حتّى تجوز الصّلاة عليه ، أن يكون الثّوب غليظاً يمكن فصله إلى طبقتين ، وألاّ تكون النّجاسة قد نفذت من الطّبقة السّفلى إلى الطّبقة العليا . أمّا إن كانت النّجاسة يابسةً ، فيشترط في الثّوب المفروش عليها حتّى تصحّ الصّلاة عليه أن يكون غليظاً بحيث يمنع لون النّجاسة ورائحتها .
ج - افتراش الحرير :
4 - اتّفق الفقهاء على جواز افتراش النّساء للحرير .
أمّا بالنّسبة للرّجال فذهب جمهور المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى تحريمه ، لقول حذيفة : « نهانا النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذّهب والفضّة ، وأن نأكل فيها ، وأن نلبس الحرير والدّيباج ، وأن نجلس عليه » .
وذهب الحنفيّة وبعض الشّافعيّة وابن الماجشون من المالكيّة إلى جواز ذلك مع الكراهة . ورخّص ابن العربيّ من المالكيّة للرّجل أن يجلس وينام على فراش الحرير مع زوجته .

افتراقٌ *
التعريف :
1 - الافتراق : مصدر افترق . ومن معانيه في اللّغة : انفصال الشّيء عن الشّيء ، أو انفصال أجزاء الشّيء بعضها عن بعضٍ . والاسم ( الفرقة ) .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن هذا المعنى ، لأنّهم استعملوه في الانفصال بالأبدان . وعمّمه بعضهم ليشمل الانفصال بالأقوال وبالأبدان ، كما سيأتي .
الألفاظ ذات الصّلة
أ - التّفرّق :
2 - التّفرّق والافتراق بمعنًى واحدٍ . ومنهم من جعل التّفرّق للأبدان ، والافتراق بالكلام . لكنّ الفقهاء استعملوا الافتراق أيضاً في الأبدان كما قلنا .
ب - التّفريق :
3 - التّفريق : مصدر فرّق . واستعمله الفقهاء كثيراً في الفصل بين الزّوجين بحكم القاضي ، والفصل بين أجزاء المبيع بقبول بعضها وردّ بعضها كما في ( تفريق الصّفقة ) .
الحكم الإجماليّ :
4 - افتراق الطّرفين بعد الإيجاب وقبل القبول في أيّ عقدٍ من العقود يبطل الإيجاب ، فلا يكفي بعده القبول لانعقاد العقد . أمّا افتراق المتبايعين وتركهما المجلس بعد الإيجاب والقبول فموجبٌ للزوم البيع ، إذا لم يكن في المبيع عيبٌ خفيٌّ ، ولم يشترط في العقد خيارٌ ، فلا يمكن فسخه إلاّ بالإقالة ، كما هو الحكم في العقود اللاّزمة . وهذا القدر متّفقٌ عليه بين الفقهاء . وكذلك يلزمهما البيع قبل افتراقهما وتركهما المجلس إذا وجد الإيجاب والقبول عند الحنفيّة والمالكيّة ، ولا يثبت خيار مجلسٍ بعد ذلك ، لأنّ العقد تمّ بالإيجاب والقبول لوجود ركنه وشرائطه ، فخيار الفسخ لأحدهما بعد ذلك يؤدّي إلى عدم استقرار المعاملات والإضرار بالآخر ، لما فيه من إبطال حقّه .
وقال الشّافعيّة والحنابلة : إنّه لا يلزمه البيع إلاّ بافتراقهما عن المجلس ، ولكلٍّ منهما الخيار ما لم يفترقا ، وذلك استناداً إلى ما ورد في الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا » . وفي روايةٍ « ما لم يفترقا » . وحملوا الافتراق في الحديث على افتراق الأبدان . وهذا ما سمّوه بخيار المجلس . والحنفيّة حملوا الحديث على افتراق الكلام والأقوال ، فلم يأخذوا بخيار المجلس . على أنّ عمل أهل المدينة مقدّمٌ على خبر الواحد عند المالكيّة ، لأنّه بمنزلة التّواتر . وتفصيله في مصطلح ( خيار المجلس ) .
مواطن البحث :
5 - يرد مصطلح ( الافتراق ) عند الفقهاء في مبحث خيار المجلس من كتاب البيع ، وفي التّفريق بين الزّوجين بالطّلاق والفسخ ، وفي اللّعان ، وكذلك في زكاة الأنعام من عدم جواز التّفريق بين ما هو مجتمعٌ ، أو جمع ما هو متفرّقٌ .

افتضاضٌ *
انظر : بكارةٌ .
افتياتٌ *
التعريف :
1 - الافتيات : الاستبداد بالرّأي ، والسّبق بفعل شيءٍ دون استئذان من يجب استئذانه ، أو من هو أحقّ منه بالأمر فيه ، والتّعدّي على حقّ من هو أولى منه . واستعمله الفقهاء بهذا المعنى .
الألفاظ ذات الصّلة
أ - التّعدّي :
2 - التّعدّي : الظّلم ومجاوزة الحدّ ، فهو أعمّ من الافتيات ، لأنّه يشمل التّعدّي على شيءٍ لا حقّ له فيه ، أو له فيه حقٌّ وغيره أولى منه به .
ب - الفضالة :
3 - الفضوليّ : من تصرّف في أمرٍ لم يكن فيه وليّاً ولا أصيلاً ولا وكيلاً فهو لا ولاية فيما يقدم عليه ، أمّا المفتات فقد يكون صاحب حقٍّ لكنّ غيره أولى منه به .
الحكم الإجماليّ :
4 - الافتيات غير جائزٍ ، لأنّه تعدٍّ على حقّ من هو الأولى . وقد يكون افتياتاً على حقّ الإمام ، وقد يكون على حقّ غير الإمام . فإن كان على حقّ الإمام ففيه التّعزير ، لأنّه إساءةٌ إلى الإمام ، ومن أمثلته ما يلي :
أ - الافتيات في إقامة الحدود :
5 - يتّفق الفقهاء على أنّ الّذي يقيم الحدّ هو الإمام أو نائبه ، سواءٌ كان الحدّ حقّاً للّه تعالى كحدّ الزّنى ، أو لآدميٍّ كحدّ القذف ، لأنّه يفتقر إلى الاجتهاد ، ولا يؤمن فيه الحيف ، فوجب أن يفوّض إلى الإمام ، ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحدود في حياته ، وكذا خلفاؤه من بعده . ويقوم نائب الإمام فيه مقامه .
لكن إذا افتات المستحقّ أو غيره فأقام الحدّ بدون إذن الإمام ، فإنّ الأئمّة متّفقون على أنّ المرتدّ لو قتله أحدٌ بدون إذن الإمام فإنّه يعتدّ بهذا القتل ، ولا ضمان على القاتل ، لأنّه محلٌّ غير معصومٍ ، وعلى من فعل ذلك التّعزير ، لإساءته وافتياته على الإمام .
وكذلك غير الرّدّة ، فلا ضمان على من أقام حدّاً على من ليس له إقامته عليه فيما حدّه الإتلاف كقتل زانٍ محصنٍ ، أو قطع يد سارقٍ توجّه عليه القطع ، لأنّ هذه حدودٌ لا بدّ أن تقام ، لكنّه يؤدّب لافتياته على الإمام . وأمّا بالنّسبة للجلد في القذف ، وفي زنا البكر ففيه خلافٌ وتفصيلٌ ، ر : ( حدٌّ ، قذفٌ ، زناً ) .
ب - الافتيات في استيفاء القصاص :
6 - الأصل أنّه لا يجوز استيفاء القصاص إلاّ بإذن السّلطان وحضرته ، لأنّه أمرٌ يفتقر إلى الاجتهاد ، ويحرم الحيف فيه فلا يؤمن الحيف مع قصد التّشفّي ، ومع ذلك فمن استوفى حقّه من القصاص من غير حضرة السّلطان وإذنه ، وقع الموقع ويعزّر ، لافتياته على الإمام ، وهذا عند الجمهور ، وعند الحنفيّة لا يشترط إذن الإمام .
أمّا الافتيات على غير الإمام ، فإنّ المقصود بالحكم فيه بيان صحّة هذا العمل أو فساده ، ومن أمثلة ذلك :
الافتيات في التّزويج :
7 - إذا زوّج المرأة وليّها الأبعد مع وجود الوليّ الأقرب الّذي هو الأحقّ بولاية العقد فإنّ الفقهاء يختلفون في ذلك . فعند الحنفيّة والمالكيّة يصحّ العقد برضاها بالقول دون السّكوت ، ويزيد المالكيّة شرطاً آخر ، وهو ألاّ يكون الأقرب غير مجبرٍ ، فإن كان الأقرب مجبراً كالأب فلا يصحّ العقد . ويقول الشّافعيّة والحنابلة : إذا زوّج المرأة من غيره أولى منه وهو حاضرٌ ولم يعضلها لم يصحّ النّكاح .
مواطن البحث :
8 - للافتيات مواطن متعدّدةٌ تأتي في الحدود : كالسّرقة ، والزّنى ، وشرب الخمر ، والقذف ، وتأتي في الإتلاف ، وفي العقود كالنّكاح والبيع ، وتنظر في مواضعها .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
إفرادٌ *
التعريف :
1 - الإفراد لغةً : مصدر أفرد ، والفرد ما كان وحده ، وأفردته : جعلته واحداً ، وعدّدت الدّراهم أفراداً أي : واحداً واحداً ، وأفردت الحجّ عن العمرة ، فعلت كلّ واحدٍ على حدةٍ . وقد استعمله الفقهاء بالمعنى اللّغويّ في مواطن متعدّدةٍ ستأتي :
أ - الإفراد في البيع :
2 - قال الحطّاب : لا يجوز أن يفرد الحنطة في سنبلها بالبيع دون السّنبل .
ب - الإفراد في الوصيّة :
3 - جاء في فتح القدير : يجوز إفراد الأمّ بالوصيّة وكذلك يجوز إفراد الحمل .
ج - الإفراد في الأكل :
4 - جاء في الآداب الشّرعيّة لابن مفلحٍ : يكره القران في التّمر ، وعلى قياسه كلّ ما العادة جاريةٌ بتناوله أفراداً ، وفي الصّحيحين عن ابن عمر قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن القران إلاّ أن يستأذن الرّجل أخاه » .
د - إفراد الحجّ :
5 - هو أن يهلّ بالحجّ مفرداً .
وسيكون البحث هنا خاصّاً بإفراد الحجّ . أمّا المواضع الأخرى فتنظر في مواطنها .
الألفاظ ذات الصّلة :
6 - تقدّم أنّ الإفراد : هو أن يهلّ بالحجّ مفرداً عن العمرة .
أمّا القران : فهو أن يحرم بالعمرة والحجّ معاً فيجمع بينهما في إحرامه ، أو يحرم بالعمرة ثمّ يدخل عليها الحجّ قبل الطّواف لها .
وأمّا التّمتّع : فهو أن يهلّ بعمرةٍ مفردةٍ من الميقات في أشهر الحجّ ، فإذا فرغ منها أحرم بالحجّ من عامه . وسيأتي ما يفترق به الإفراد عن كلٍّ من التّمتّع والقران .
المفاضلة بين كلٍّ من الإفراد والقران والتّمتّع :
7 - اختلف الفقهاء في الإفراد ، والقران ، والتّمتّع أيّها أفضل ، والاتّجاهات في ذلك كالآتي :
أ - الإفراد أفضل عند المالكيّة والشّافعيّة ، لكنّ أفضليّته عند الشّافعيّة ، وفي قولٍ عند المالكيّة إن اعتمر في نفس العام بعد أداء الحجّ ، ولذلك يقول الشّافعيّة إن لم يعتمر في نفس العام كان الإفراد مكروهاً . واستدلّ القائلون بأفضليّة الإفراد بما صحّ عن جابرٍ وعائشة وابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهم « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أفرد الحجّ » ، ثمّ بالإجماع على أنّه لا كراهة فيه ، وأنّ المفرد لم يربح إحراماً من الميقات ( بالاستغناء عن الرّجوع ثانيةً للإحرام ) ولا ربح استباحة المحظورات .
ب - القول الثّاني : أنّ القران أفضل : وذلك عند الحنفيّة ، وفي قولٍ للإمام أحمد أنّه إن ساق الهدي فالقران أفضل ، وإن لم يسق الهدي فالتّمتّع أفضل . واستدلّ الحنفيّة على أفضليّة القران بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « يا آل محمّدٍ : أهّلوا بحجّةٍ وعمرةٍ معاً » ولأنّ في القران جمعاً بين العبادتين . ويلي القران في الأفضليّة عند الحنفيّة التّمتّع ثمّ الإفراد ، وهذا في ظاهر الرّواية ، لأنّ في التّمتّع جمعاً بين العبادتين فأشبه القران ، ثمّ فيه زيادة نسكٍ وهي إراقة الدّم .
وعن أبي حنيفة رحمه الله أنّه يلي القران الإفراد ثمّ التّمتّع ، لأنّ المتمتّع سفره واقعٌ لعمرته والمفرد سفره واقعٌ لحجّته . ووافقه في ذلك أشهب من المالكيّة .
ج - التّمتّع أفضل : وهذا عند الحنابلة وفي قولٍ عند الشّافعيّة والمالكيّة ، ويلي التّمتّع عند الحنابلة الإفراد ثمّ القران . واستدلّ الحنابلة على أفضليّة التّمتّع بما روى ابن عبّاسٍ وجابرٌ وأبو موسى وعائشة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لمّا طافوا بالبيت أن يحلّوا ويجعلوها عمرةً » فنقلهم من الإفراد والقران إلى المتعة ، ولا ينقلهم إلاّ إلى الأفضل ، ولأنّ المتمتّع يجتمع له الحجّ والعمرة في أشهر الحجّ مع كمالها وكمال أفعالها على وجه اليسر والسّهولة مع زيادة نسكٍ فكان ذلك أولى .
8- وقد ذكر الرّمليّ في نهاية المحتاج أنّ منشأ الخلاف اختلاف الرّواة في إحرامه صلى الله عليه وسلم لأنّه صحّ عن جابرٍ وعائشة وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم « أنّه صلى الله عليه وسلم أفرد الحجّ » ، وعن أنسٍ « أنّه قرن » ، وعن ابن عمر « أنّه تمتّع » ، ثمّ قال : إنّ الصّواب الّذي نعتقده أنّه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحجّ ثمّ أدخل عليه العمرة ، وخصّ بجوازه في تلك السّنة للحاجة .
وبهذا يسهل الجمع بين الرّوايات ، فعمدة رواة الإفراد أوّل الإحرام ، ورواة القران آخره ، ومن روى التّمتّع أراد التّمتّع اللّغويّ وهو الانتفاع ، وقد انتفع بالاكتفاء بفعلٍ واحدٍ ، ويؤيّد ذلك أنّه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في تلك السّنة عمرةً مفردةً ، ولو جعلت حجّته مفردةً لكان غير معتمرٍ في تلك السّنة ، ولم يقل أحدٌ إنّ الحجّ وحده أفضل من القران فانتظمت الرّوايات في حجّته .
حالة وجوب الإفراد ( وجوبه في حقّ المكّيّ ) :
9 - اختلف الفقهاء بالنّسبة للمكّيّ ومن في حكمه هل له تمتّعٌ وقرانٌ ، أم ليس له إلاّ الإفراد خاصّةً ؟ فيرى الجمهور أنّ لأهل مكّة المتعة والقران مثل الآفاقيّ ، ولأنّ التّمتّع الّذي ورد في الآية أحد الأنساك الثّلاثة ، فصحّ من المكّيّ كالنّسكين الآخرين ، ولأنّ حقيقة التّمتّع هو أن يعتمر في أشهر الحجّ ثمّ يحجّ من عامه ، وهذا موجودٌ في المكّيّ .
ويرى الحنفيّة أنّ أهل مكّة ليس لهم تمتّعٌ ولا قرانٌ ، وإنّما لهم الإفراد خاصّةً ، لأنّ شرعهما للتّرفّه بإسقاط إحدى السّفرتين وهذا في حقّ الآفاقيّ .
10 - واختلف الفقهاء أيضاً في حاضري المسجد الحرام . فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّهم أهل الحرم ومن بينه وبين مكّة دون مسافة القصر . فإن كانوا على مسافة القصر فليسوا من الحاضرين . وذهب الحنفيّة إلى أنّهم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكّة . وذهب المالكيّة إلى أنّهم أهل مكّة وأهل ذي طوًى .
وفي ذلك فروعٌ كثيرةٌ ( ر : حجٌّ - إحرامٌ - ميقاتٌ - تمتّعٌ ) .
نيّة الإفراد :
11 - ويختلف الفقهاء فيما ينعقد به إحرام المفرد : فعند الشّافعيّة والحنابلة وهو الرّاجح عند المالكيّة أنّ الإحرام ينعقد بمجرّد النّيّة مع استحباب التّلفّظ بما أحرم به فيقول : اللّهمّ إنّي أريد الحجّ فيسّره لي وتقبّله منّي . وفي قولٍ للشّافعيّة أنّ الإطلاق أولى ، لأنّه ربّما حصل عارضٌ من مرضٍ أو غيره فلا يتمكّن من صرفه إلى ما لا يخاف فوته ، فإن أحرم إحراماً مطلقاً في أشهر الحجّ صرفه بالنّيّة - لا باللّفظ - إلى ما شاء من النّسكين أو إليهما معاً إن كان الوقت صالحاً لهما . وعند الحنفيّة لا ينعقد الإحرام إلاّ بأمرين : النّيّة والتّلبية ، ولا يصير شارعاً في الإحرام بمجرّد النّيّة ما لم يأت بالتّلبية ، لأنّ التّلبية في الحجّ كتكبيرة الإحرام في الصّلاة . وفي قولٍ عند المالكيّة : ينعقد بالنّيّة مع قولٍ كالتّلبية والإهلال ، أو فعلٍ كالتّوجّه في الطّريق والتّجرّد من المخيط .
على أنّ الّذي ذكر لا يختصّ بالإفراد وحده ، وإنّما ينطبق على القران والتّمتّع ، إذ لا بدّ في أيّ نسكٍ من هذه الأنساك الثّلاثة عند الإحرام بأيٍّ منها من النّيّة على رأي الجمهور ، أو النّيّة والتّلبية على رأي أبي حنيفة . ( ر : إحرامٌ - قرانٌ - تمتّعٌ ) .
التّلبية في الإفراد :
12 - التّلبية في الحجّ على اختلاف حكمها من أنّها سنّةٌ أو واجبةٌ تستوي كيفيّتها والبدء بها بالنّسبة للمحرم بأيّ نسكٍ من الأنساك الثّلاثة . أمّا قطع التّلبية فيكون المتمتّع والمفرد والقارن بالنّسبة لقطعها سواءً . فعند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة يقطع التّلبية عند ابتداء الرّمي . وعند المالكيّة يقطعها إذا وصل لمصلّى عرفة بعد الزّوال ، وإن كان قد وصل قبل الزّوال لبّى إلى الزّوال ، وإن زالت الشّمس قبل الوصول لبّى إلى الوصول . وهناك تفريعاتٌ كثيرةٌ بالنّسبة للتّلبية . ( ر : تلبيةٌ ) .
ما يفترق به المفرد عن المتمتّع والقارن :
أ - الطّواف بالنّسبة للمفرد :
13 - الطّواف في الحجّ ثلاثة أنواعٍ : طواف القدوم إلى مكّة ، وطواف الإفاضة بعد رمي جمرة العقبة يوم النّحر ، وطواف الوداع . والفرض من ذلك هو طواف الإفاضة ، ويسمّى طواف الزّيارة أو الفرض أو الرّكن ، وما عدا ذلك فهو سنّةٌ أو واجبٌ ينجبر بالدّم على خلافٍ بين الفقهاء في ذلك ( ر : طوافٌ ) .
والفرض على المفرد من هذه الأنواع هو طواف الإفاضة فقط ، لأنّه الرّكن ، فلا يجب عليه طواف القدوم ، بل يطالب به على سبيل السّنّيّة .
ب - عدم وجوب الدّم على المفرد :
14 - لا يجب على المفرد هديٌ لإحرامه بالحجّ مفرداً بخلاف القارن والمتمتّع فإنّ عليهما الهدي ، لقوله تعالى : { فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي } والقارن كالمتمتّع ، لإحرامه بالنّسكين . إلاّ أنّه يستحبّ للمفرد أن يهدي ويكون تطوّعاً .
ثمّ إنّ جزاء الصّيد وفدية الأذى بالنّسبة للمفرد والقارن والمتمتّع سواءٌ عند الجمهور . ( ر : دمٌ - هديٌ - كفّارةٌ - قرانٌ - تمتّعٌ ) .

إفرازٌ *
التعريف :
1 - الإفراز في اللّغة : التّنحية ، وهي عزل شيءٍ عن شيءٍ وتمييزه ، ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - العزل :
2 - العزل يختلف عن الإفراز . في أنّ الإفراز يكون لجزءٍ من الأصل ، أو كالجزء منه في شدّة اختلاطه به ، أمّا العزل فهو التّنحية ، والشّيء المنحّى قد يكون جزءاً من المنحّى عنه ، وقد لا يكون ، بل قد يكون خارجاً عنه . كالعزل عن الزّوجة .
ب - القسمة :
3 - القسمة قد تكون بالإفراز ، وقد يقصد بها بيان الحصص دون إفرازٍ ، كما في المهايأة .
الحكم الإجماليّ :
4 - الإفراز يرد على الأعيان دون المنافع ولذلك لمّا بيّن الفقهاء أنواع القسمة ، قالوا : القسمة إمّا أن تكون قسمة أعيانٍ ، أو قسمة منافع ، وسمّوا قسمة المنافع المهايأة .
أمّا قسمة الأعيان : فقالوا إمّا أن تكون قسمة إفرازٍ ، أو قسمة تعديلٍ ، وهم يعنون بقسمة الإفراز : القسمة الّتي لا يحتاج فيها إلى ردٍّ ولا تقويمٍ . والفقهاء قد اختلفوا في حقيقة القسمة ، فقال بعضهم : هي بيعٌ ، وقال بعضهم : هي إفرازٌ ، وقال آخرون : هي إفراز بعض الأنصباء عن بعضٍ ومبادلة بعضٍ ببعضٍ . كما بيّن الفقهاء ذلك في أوّل كتاب القسمة . وإذا كانت القسمة في حقيقتها لا تخلو من الإفراز ، فإنّ هذا الإفراز يسقط حقّ الشّفعة عند من يقول : إنّ الشّفعة لا تستحقّ بالجوار ، كما بيّن الفقهاء ذلك في كتاب الشّفعة .
5 - الإفراز واجبٌ في العقود الّتي يشترط القبض للزومها أو تمامها ، وهي : الوقف ، والهبة ، والرّهن ، والقرض ، إذا وردت على مشاعٍ ، على خلافٍ وتفصيلٍ في ذلك تجده في أبوابها من كتب الفقه .
6 - يجب ردّ العين المستحقّة المخلوطة بغيرها إن أمكن إفرازها ، وإن لم يمكن وجب ردّ بدلها ، كما إذا غصب شيئاً فخلطه بما يمكن تمييزه عنه ، وجب إفرازه وردّه إلى من غصبه منه كما فصّل ذلك الفقهاء في كتاب الاستحقاق والغصب .
7 - والإفراز يقوم مقام القبض في التّبرّعات الّتي يكون القصد منها تحقيق مثوبة اللّه تعالى ، والّتي يكون التّمليك فيها للّه تعالى كالزّكاة . فإن وجبت عليه الزّكاة فعزلها فهلكت من غير تفريطٍ منه لا يلزمه إخراجها من جديدٍ على خلافٍ وتفصيلٍ موطنه باب الزّكاة .

إفسادٌ *
التعريف :
1 - الإفساد لغةً : ضدّ الإصلاح ، وهو جعل الشّيء فاسداً خارجاً عمّا ينبغي أن يكون عليه . وشرعاً : جعل الشّيء فاسداً ، سواءٌ وجد صحيحاً ثمّ طرأ عليه الفساد - كما لو انعقد الحجّ صحيحاً ثمّ طرأ عليه ما يفسده - أو وجد الفساد مع العقد ، كبيع الطّعام قبل قبضه . وقد فرّق الحنفيّة بين الإفساد والإبطال تبعاً لتفريقهم بين الفاسد والباطل ، فقالوا : الفاسد ما كان مشروعاً بأصله لا بوصفه ، والباطل ما ليس مشروعاً بأصله ولا بوصفه . أمّا غير الحنفيّة فالإفساد والإبطال عندهم بمعنًى واحدٍ ، وقد وافقهم الحنفيّة في العبادات . ولبعض المذاهب تفرقةٌ بين الباطل والفاسد في بعض الأبواب : كالحجّ ، والخلع .
الألفاظ ذات الصّلة
أ - الإتلاف :
2 - الإتلاف في اللّغة : بمعنى الإهلاك يقال : أتلف الشّيء إذا أفناه وأهلكه ، وهو في الشّرع بهذا المعنى ، يقول الكاسانيّ : إتلاف الشّيء إخراجه من أن يكون منتفعاً به منفعةً مطلوبةً منه عادةً . فالإفساد أعمّ من الإتلاف ، فإنّهما يجتمعان في الأمور الحسّيّة ، وينفرد الإفساد في التّصرّفات القوليّة .
ب - الإلغاء :
3 - الإلغاء من معانيه : إبطال العمل بالحكم ، وإسقاطه ، وقد ألغى ابن عبّاسٍ طلاق المكره ، أي أبطله وأسقطه . ويستعمل الأصوليّون الإلغاء في تقسيم العلّة بمعنى عدم تأثير الوصف في الحكم ، وهو المناسب الملغى عندهم ، كما يستعملون الإلغاء في إهدار أثر التّصرّف من فاقد الأهليّة .
ج - التّوقّف :
4 - العقد الموقوف ضدّ النّافذ ، وهو ما توقّف نفاذه على الإجازة من مالكها ، كبيع الفضوليّ . فإنّه يكون بهذا المعنى جائزاً في الجملة ، بخلاف الفاسد ، فإنّه غير مشروعٍ .
الحكم التّكليفيّ :
5 - المقرّر شرعاً أنّ العبادة بعد الفراغ منها صحيحةٌ ، لا يلحقها الإفساد ضرورة أنّ الواقع يستحيل رفعه ، إلاّ بأسبابٍ يصار إليها بالدّليل كالرّدّة ، فإنّها تفسد الأعمال الصّالحة والعبادات ، كما أنّ الإسلام يهدم ما قبله والهجرة تهدم ما قبلها ، وكذلك التّوبة والحجّ المبرور . أمّا بعد الشّروع في العبادة وقبل الفراغ منها ، فيحرم إفساد الفرض بعد التّلبّس به دون عذرٍ شرعيٍّ ، وكذلك النّفل عند الحنفيّة والمالكيّة ، لقوله تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم } ولهذا يجب إعادته . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فيكره عندهم إفساد النّافلة بعد الشّروع فيها ولا إعادة إن أفسد النّافلة المطلقة ، عدا الحجّ والعمرة فيحرم إفسادهما عند الشّافعيّة والحنابلة ، وفي روايةٍ أخرى عن أحمد أنّهما كسائر التّطوّعات .
أمّا التّصرّفات اللاّزمة فلا يرد عليها الإفساد بعد نفاذها . إلاّ أنّه يجوز الفسخ برضا العاقدين كما في الإقالة ، وفي العقود غير اللاّزمة من الجانبين يصحّ لكلّ واحدٍ منهما إفسادها متى شاء ، أمّا اللاّزمة من جانبٍ واحدٍ ، فلا يجوز إفسادها ممّن هي لازمةٌ في حقّه ويجوز للآخر . وفي ذلك تفصيلٌ يرجع إليه في تلك العقود والتّصرّفات .
أثر الإفساد في العبادات :
6 - من شرع في عبادةٍ مفروضةٍ فرضاً عينيّاً أو كفائيّاً ، كالصّلاة والصّوم ، فإنّه يجب عليه القيام بها على الوجه المشروع باستيفاء أركانها وشرائطها حتّى تبرأ الذّمّة ، فإذا أفسدها فعليه أداؤها في الوقت ، أمّا بعده فعليه فعلها تامّةٌ ، كما لو صلّى مسافرٌ خلف مقيمٍ ثمّ أفسد صلاته لزمه قضاؤها تامّةً ، لأنّها لا تبرئ الذّمّة بعد الفساد بلا خلافٍ . كما لا يجب المضيّ في فاسدها أو باطلها في الجملة ، لأنّ فاسد العبادات لا يلحق بصحيحها إلاّ في الحجّ والعمرة ، فإنّه يمضي في فاسدهما وعليه القضاء . وهذا مخالفٌ لسائر العبادات حيث إنّ العبادة الفاسدة ينقطع حكمها ولا يبقى شيءٌ من عهدها .
أمّا ما شرع فيه من التّطوّع فإنّه يجب إتمامه ، وإذا أفسده يقضيه وجوباً ، وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة .
أمّا الشّافعيّة والحنابلة فقد قالوا : يستحبّ إتمام النّفل الّذي شرع فيه ، كما يستحبّ قضاء ما أفسده بعد الشّروع فيه من النّوافل ، وهذا في غير التّطوّع بالحجّ والعمرة ، حيث يجب إتمامهما إذا شرع فيهما . ولو وقع منه مفسدٌ لهما ، يجب عليه قضاؤهما حينئذٍ مع الجزاء اللاّزم في ذمّته على ما سبق . وينظر تفصيل ذلك في ( الإحرام ، والحجّ ) .
إفساد الصّوم :
7 - أجمع العلماء على أنّ من جامع أو استمنى أو طعم أو شرب عن قصدٍ ، مع ذكر الصّوم في نهاره فقد أفسد صومه ، لقوله تعالى : { فالآن باشروهنّ وابتغوا ما كتب اللّه لكم ، وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر }
وقد اختلفوا في مفسداتٍ أخرى للصّوم ، منها ما يرد إلى الجوف من غير منفذ الطّعام والشّراب مثل الحقنة ، ومنها ما يرد إلى باطن الأعضاء ولا يرد الجوف ، مثل أن يرد الدّماغ ولا يرد المعدة . وسبب اختلافهم في هذه هو قياس المغذّي على غير المغذّي . فمن رأى أنّ المقصود بالصّوم معنًى معقولٌ لم يلحق المغذّي بغير المغذّي ، ومن رأى أنّها عبادةٌ غير معقولةٍ ، وأنّ المقصود منها إنّما هو الإمساك فقط عمّا يرد الجوف ، سوّى بين المغذّي وغيره . ر : ( احتقانٌ ) ( وصومٌ ) .
8 - واختلفوا في الحجامة والقيء . فأمّا الحجامة فقد رأى أحمد وداود والأوزاعيّ وإسحاق بن راهويه أنّها تفسد الصّوم ، وقال المالكيّة والشّافعيّة بالكراهة ، وقال الحنفيّة بعدم الإفساد . والسّبب في ذلك هو تعارض الآثار الواردة في ذلك . وأمّا القيء فالجمهور على أنّ من ذرعه القيء فليس بمفطرٍ ، وأنّ من استقاء فقاء فإنّه يفسد صومه . وفي الموضوع تفصيلٌ وخلافٌ يرجع إلى مصطلح : ( صومٌ ) ( وقيءٌ ) .
نيّة إفساد العبادة :
9 - نيّة الإفساد يختلف أثرها صحّةً وبطلاناً عند العلماء باختلاف العبادات والأفعال والأحوال . فإذا نوى إفساد الإيمان أو قطعه ، صار مرتدّاً في الحال والعياذ باللّه ، وإن نوى إفساد الصّلاة بعد الفراغ منها لم تبطل ، وكذلك سائر العبادات ، وإن نوى قطع الصّلاة في أثنائها بطلت بلا خلافٍ ، لأنّها شبيهةٌ بالإيمان ، ولو نوى قطع السّفر بالإقامة صار مقيماً . أمّا إذا نوى قطع الصّيام بالأكل أو الجماع في نهاره ، فإنّه لا يفسد صومه حتّى يأكل أو يجامع .
ولو نوى قطع الحجّ أو العمرة لم يبطلا بلا خلافٍ ، لأنّه لا يخرج منهما بالإفساد ، فلا يخرج بالأولى بنيّة الإفساد أو الإبطال . ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلح : ( نيّةٌ ) وإلى مواطن تلك العبادات .
أثر الشّروط الفاسدة في إفساد العقد :
10 - إفساد العقد بالشّروط الفاسدة يرجع إلى ما يسبّبه من غررٍ أو رباً أو نقصٍ في الملك ، أو اشتراط أمرٍ محظورٍ أو لا يقتضيه العقد ، وفيه منفعةٌ لأحد العاقدين . والعقود عند اقترانها بهذه الشّروط : نوعان :
الأوّل : عقودٌ تفسد عند اقترانها بها ،
والثّاني : عقودٌ تصحّ ، ويسقط الشّرط ، وعلى هذا اتّفقت المذاهب الأربعة .
وقد اختلفت المذاهب في الأثر النّاشئ عن الشّروط : فعند الحنفيّة ، كلّ تصرّفٍ لا يكون الغرض منه مبادلة مالٍ بمالٍ ، لا يفسد بالشّروط الفاسدة ، وما عدا ذلك يعتريه الفساد . فالّذي يفسد بالشّروط الفاسدة مثل : البيع ، والقسمة ، والإجارة ، والّذي لا يفسد مثل : النّكاح والقرض ، والهبة ، والوقف ، والوصيّة .
وكذلك الشّافعيّة ، إذ يفسد العقد عندهم بالشّرط في الجملة ، وعند المالكيّة اشتراط أمرٍ محظورٍ ، أو أمرٍ يؤدّي إلى غررٍ فاحشٍ ، يؤدّي إلى فساد العمد ، فالأمر المحظور مثل : ما إذا اشترى داراً واشترط اتّخاذها مجمعاً للفساد . فالشّرط حرامٌ والبيع فاسدٌ . والغرر الفاحش مثل : ما إذا باع داراً واشترط أن يكون ثمنها يكفيه للنّفقة طول حياته ، فإنّه لا تدرى نفقته ولا كم يعيش .
وخالف الحنابلة فقالوا : هذه الشّروط المحرّمة أو تلك الّتي تؤدّي إلى غررٍ فاحشٍ ، لا تؤدّي إلى إفساد العقد ، وإنّما تلغى ، ويصحّ العقد . أمّا الشّروط الّتي تؤدّي إلى إفساد العقد فهي ، اشتراط عقدٍ في عقدٍ ، أو شرطين في بيعٍ ، أو اشتراط ما ينافي مقصود العقد . مثل : ما إذا اشترط أحد المتبايعين على الآخر عقداً آخر كشرطٍ للبيع ، كأن يقول : بعتك هذه الدّار على أن تبيعني هذه الفرس . فهذا اشتراط عقدٍ في عقدٍ ، ومثل : ما إذا اشترط البائع على المشتري ألا يبيع المبيع ، وكذلك إن شرط أنّ الجارية المبيعة لا تحمل ، أو تضع الولد في وقتٍ بعينه . فهذا اشتراطٌ ينافي مقصود العقد .
إفساد النّكاح :
11 - إفساد النّكاح بعد وجوده صحيحاً لا يسقط حقّ المرأة في الصّداق إن كان بعد الدّخول اتّفاقاً ، أمّا قبل الدّخول فإنّه لا يسقط حقّها في نصف المهر ، إذا وقع الإفساد من جهته ، كردّته . أمّا لو وقع إفساد النّكاح من جهتها ، فلا مهر لها ولا نفقة ، لتسبّبها في إفساد النّكاح الّذي هو موجبٌ للمهر . ولتفصيل ذلك ينظر مصطلح : ( نكاحٌ ) ( ورضاعٌ ) . أثر الإفساد في التّوارث بين الزّوجين :
12 - إذا وقعت الفرقة بإفساد النّكاح بغير طلاقٍ انتفى التّوارث عند موت أحدهما ، أمّا ما كانت الفرقة فيه بطلاقٍ فإنّه يثبت فيه التّوارث في بعض الأحوال ، كما لو طلّقها في مرض الموت فارّاً من توريثها .
إفساد الزّوجة على زوجها :
13 - يحرم إفساد المرأة على زوجها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من خبّب زوجة امرئٍ أو مملوكه فليس منّا » فمن أفسد زوجة امرئٍ أي : أغراها بطلب الطّلاق أو التّسبّب فيه فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الكبائر . وقد صرّح الفقهاء بالتّضييق عليه وزجره ، حتّى قال المالكيّة بتأبيد تحريم المرأة المخبّبة على من أفسدها على زوجها معاملةً له بنقيض قصده ، ولئلاّ يتّخذ النّاس ذلك ذريعةً إلى إفساد الزّوجات . ر - ( تخبيبٌ ) .
الإفساد بين المسلمين :
14 - تحرم الوقيعة وإفساد ذات البين بين المسلمين ، لأمرين :
الأوّل : الإبقاء على وحدة المسلمين .
الثّاني : رعاية حرمتهم ، لقوله تعالى : { واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرّقوا } ، ولما روي عن ابن عمر أنّه نظر يوماً إلى الكعبة فقال :« ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والمؤمن أعظم حرمةً عند اللّه منك »،ولهذا كان إصلاح ذات البين من أفضل القربات ، وإفساد ذات البين من أكبر الكبائر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « ألا أخبركم بأفضل من درجة الصّيام والصّلاة والصّدقة قالوا : بلى ، قال : إصلاح ذات بينٍ ، فإنّ فساد ذات البين هي الحالقة » ولهذا نهى الرّسول صلى الله عليه وسلم عن تتبّع عورات المسلمين ، وعن الغيبة ، والنّميمة ، وسوء الظّنّ ، والتّباغض ، والتّحاسد ، وكلّ ما يؤدّي إلى الوقيعة بين المسلمين : فقال صلى الله عليه وسلم : « لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد اللّه إخواناً ، ولا يحلّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيّامٍ »
أمّا الإفساد في الأرض بقطع الطّريق وسلب الأموال والأعراض وإتلاف النّفوس فهو محرّمٌ ، وعقوبته منصوصٌ عليها في قوله تعالى : { إنّما جزاء الّذين يحاربون اللّه ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض } . وتفصيله في حرابةٌ .
كما نهى الشّارع عن جميع أنواع الإفساد ، بفعل المعاصي ، وإشاعة الفواحش ، وفعل كلّ ما فيه ضررٌ على المسلمين . قال اللّه تعالى : { الّذين ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون } .

إفشاء السّرّ *
التعريف :
1 - الإفشاء لغةً : الإظهار ، يقال : أفشا السّرّ : إذا أظهره ، ففشا فشواً وفشوّاً ، والسّرّ هو ما يكتم ، والإسرار خلاف الإعلان . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الإشاعة :
2 - إشاعة الخبر : إظهاره ونشره ، والشّيوع : الظّهور .
ب - الكتمان :
3 - الكتمان . الإخفاء : يقال : كتمت زيداً الحديث : أي أخفيته عنه ، فهو ضدّ الإفشاء .
ج - التّجسّس :
4 - هو تتبّع الأخبار ، ومنه الجاسوس ، لأنّه يتتبّع الأخبار ، ويفحص عن بواطن الأمور ، وهو يستعمل غالباً في الشّرّ فالتّجسّس : السّعي للحصول على السّرّ .
د - التّحسّس :
5 - هو الاستماع إلى حديث الغير ، وهو منهيٌّ عنه ، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ولا تجسّسوا ولا تحسّسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد اللّه إخواناً » والتّحسّس إن كان لإذاعة أخبار النّاس السّيّئة فهو كإفشاء السّرّ في الحرمة ، وقد يكون التّحسّس لإشاعة الخير ، كما في قوله تعالى : { يا بنيّ اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه } .
 
أعلى