ابن عامر الشامي
وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
- إنضم
- 20 ديسمبر 2010
- المشاركات
- 10,237
- النقاط
- 38
- الإقامة
- المملكة المغربية
- احفظ من كتاب الله
- بين الدفتين
- احب القراءة برواية
- رواية حفص عن عاصم
- القارئ المفضل
- سعود الشريم
- الجنس
- اخ
الإجارة على حفر الآبار :
147 - المعقود عليه هنا فيه نوع جهالة ، لأنّ الأجير لا يعلم ما يصادفه أثناء الحفر . ولهذا فإنّ جمهور الفقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة يشترطون لصحّة العقد معرفة الأرض الّتي يقع فيها الحفر ، لأنّ الحفر يختلف باختلافها ، ومعرفة مساحة القدر المطلوب حفره طولاً وعرضاً وعمقاً . وأجازوا تقدير الإجارة على الحفر بالمدّة أو بالعمل . والحنفيّة يقولون : إنّ القياس يقتضي بيان الموضع وطول البئر وعمقه ، إلاّ أنّهم قالوا : إن لم يبيّن جاز استحساناً ، لجريان العرف بذلك ، ويؤخذ بوسط ما يعمل النّاس . 148 - وإن بيّن له موضع الحفر ، وحدّد له المقدار المطلوب حفره ، فوجد الأجير بعد الشّروع في العمل أنّ الأرض صلبة وتحتاج إلى مئونة أشدّ عملاً وآلات خاصّة ، فإنّه لا يجبر عليه ، ويحقّ له فسخ العقد ويستحقّ أجراً بمقدار ما حفر . وتقدير ذلك يرجع فيه إلى أهل الخبرة . ولو حفر البئر في ملكه ، فظهر الماء قبل أن يبلغ المنتهى الّذي شرط عليه ، فإن أمكنه الحفر في الماء بالآلة الّتي يحفر بها الآبار أجبر على الحفر ، وإن احتيج إلى اتّخاذ آلة أخرى لا يجبر . 149 - كما نصّوا على أنّه لو حفر بعض البئر ، وأراد أن يأخذ حصّتها من الأجر ، فإن كان في ملك المستأجر فله ذلك . وكلّما حفر شيئاً صار مسلّماً إلى المستأجر ، حتّى إذا انهارت البئر فأدخل السّير أو الرّيح فيها التّراب حتّى سوّاها مع الأرض لا يسقط شيء من أجرته . وإن كان في ملك غيره ليس للأجير أن يطالبه بالأجرة ما لم يفرغ من الحفر ، ويسلّمها إليه ، حتّى لو انهارت ، فامتلأت قبل التّسليم ، لا يستحقّ الأجر . وقالوا : إذا استأجر حفّاراً ليحفر له حوضاً عشرةً في عشرة بعشرة دراهم فحفر خمسةً في خمسة استحقّ من الأجر بنسبة ما حفر ، مع ملاحظة أخذ المتوسّط بين قيمة الحفر في الجزء الأعلى والجزء الأسفل . وإن شرط عليه كلّ ذراع في طين أو أرض سهلة بدرهم ، وكلّ ذراع في حجر بدرهمين ، وكلّ ذراع في ماء بثلاثة ، وبيّن مقدار طول البئر ومحيطه جاز . وإذا حفر بعض البئر ، ومات ، قوّم الحفر ، وأخذ ورثته بنسبته من الأجر ، على ما سبق . ويلاحظ أنّ هذه الأحكام مبنيّة على أعراف كانت قائمةً .
إجارة الرّاعي :
150 - الرّاعي إمّا أن يكون أجيراً مشتركاً أو أجيراً خاصّاً ، فتجرى على كلّ منهما الأحكام السّابقة ، إلاّ أنّ هنا ما يستحقّ الإفراد بالذّكر :
1 - إذا عيّن عدد الماشية الّتي يرعاها فليس الرّاعي ملزماً بما يزيده الآجر عمّا اتّفق عليه ، ولكن إذا كانت الزّيادة بطريق الولادة فالقياس أنّه غير ملزم برعيها أيضاً ، ولكنّ الحنفيّة قالوا بلزوم رعيها ، استحساناً ، لأنّها تبع ، ولجريان العرف بذلك . وإلى هذا ذهب بعض الشّافعيّة وبعض الحنابلة ، والظّاهر عندهم أنّه غير ملزم .
2 - إذا خاف الرّاعي الموت على شاة - مثلاً - وغلب على ظنّه أنّها تموت إن لم يذبحها ، فذبحها ، فلا يضمن استحساناً ، وإذا اختلف فالقول قول الرّاعي .
تعليم العلوم والحرف والصّناعات :
151 - نبيّن هنا أنّه لا خلاف في جواز الاستئجار على تعليم العلوم سوى العلوم الدّينيّة البحتة ، حتّى ولو كانت وسيلةً ومقدّمةً للعلوم الشّرعيّة ، كالنّحو والبلاغة وأصول الفقه . ومثل ذلك يقال في الحرف والصّنائع . وإذا كان العقد على مدّة معلومة استحقّ الأجر عن هذه المدّة ، وصحّت الإجارة ، اتّفاقاً . أمّا إذا اشترط في عقد الإجارة على التّعلّم والحذق فالقياس ألاّ تصحّ الإجارة ، لأنّ المعقود عليه مجهول ، لتفاوت الأفراد في الذّكاء والبلادة . وذهب جمهور الفقهاء إلى جواز ذلك استحساناً إذا عاين المعلّم المتعلّم . وقال الحنفيّة : إنّ الإجارة فاسدة ، فإن عمل استحقّ أجر المثل كأيّة إجارة فاسدة .
إجارة وسائل النّقل الحديثة :
152 - لم يتعرّض الفقهاء الأقدمون لبيان أحكام استئجار وسائل النّقل الحديثة من سيّارات وطائرات وسفن كبيرة ، وإنّما تعرّضوا لاستئجار الدّوابّ والأشخاص والسّفن الصّغيرة . وممّا تقدّم يتبيّن أنّ أحكام استئجار الدّوابّ والسّفن الصّغيرة والأشخاص ترجع كلّها إلى الأحوال الآتية : إجارة مشتركة ، أو إجارة خاصّة ، أو إجارة في الذّمّة ، أو إجارة عين موصوفة ، أو إجارة على العمل ، سواء كانت مع المدّة أو بدونها . وقد بيّن الفقهاء كلّ هذه الأحكام على ما تقدّم . ويمكن تطبيقها على وسائل النّقل الحديثة ، لأنّها لا تخرج عن هذه الأحوال الّتي ذكرناها . وإذا كان هناك اختلاف في بعض الأحوال ، كاختلافهم في تعيّن الرّاكب ، فإنّ هذا يرجع فيه إلى العرف . فلا فرق بين شخص وآخر في استئجار سيّارة أو طائرة ، بخلاف الدّابّة ، فإنّها تتأثّر بالأشخاص ضخامةً ونحافةً - وأمّا ما يصحبه الرّاكب من المتاع فرجع ذلك إلى الشّرط . فإن لم يكن فالحكم العرف . وأمّا استحقاق الأجرة ، سواء على نقل الأشخاص أو الأمتعة ، فالمرجع أيضاً إلى الشّرط . وإلاّ فالعرف . وكلّ أحكام الضّمان سواء بالنّسبة للأجير المشترك أو الخاصّ ، أو بالنّسبة لاستئجار عين من الأعيان كالسّفينة ، فإنّ ما سبق ذكره يطبّق عليها .
الاستحقاق في الإجارة :
153 - اختلف الفقهاء في أثر استحقاق العين المؤجّرة ، فمنهم من يرى بطلان الإجارة ومنهم من يرى توقّفها على إجازة المستحقّ كما اختلفوا فيمن يستحقّ الأجرة على خلاف . وتفصيل ينظر بحث ( استحقاق ) .
إجازة
التّعريف
1 - الإجازة في اللّغة الإنفاذ ، يقال : أجاز الشّيء إذا أنفذه . ولا يخرج استعمال الفقهاء للإجازة عن هذا المعنى اللّغويّ . هذا وقد يطلق الفقهاء " الإجازة " بمعنى الإعطاء ، كما يطلقونه على الإذن بالإفتاء أو التّدريس . ويطلق المحدّثون وغيرهم " الإجازة " بمعنى الإذن بالرّواية ، سواء أكانت رواية حديث أم رواية كتاب . وتفصيل ذلك يأتي في آخر البحث ، والإجازة بمعنى الإنفاذ لا تكون إلاّ لاحقةً للتّصرّف ، بخلاف الإذن فلا يكون إلاّ سابقاً عليه . وعلى هذا فنقسّم البحث على هذه الأنواع الأربعة : أوّلاً : الإجازة بمعنى الإنفاذ أركانها :
2 - كلّ إجازة لا بدّ من أن تتوفّر فيها الأمور التّالية : أ - المجاز تصرّفه : وهو من تولّى التّصرّف بلا ولاية كالفضوليّ .
ب - المجيز : وهو من يملك التّصرّف سواء أكان أصيلاً أم وكيلاً أم وليّاً أم وصيّاً أم قيّماً أم ناظر وقف .
ج - المجاز : وهو التّصرّف .
د - الصّيغة : صيغة الإجازة أو ما يقوم مقامها . وقد اصطلح جمهور الفقهاء على أنّ هذه الأمور كلّها أركان والحنفيّة يقصرون إطلاق لفظ الرّكن على الصّيغة أو ما يقوم مقامها . أ - ( المجاز تصرّفه ) :
3 - يشترط في المجاز تصرّفه ما يلي :
1 - أن يكون ممّن ينعقد به التّصرّف كالبالغ العاقل والصّغير المميّز في بعض تصرّفاته . أمّا إذا كان المباشر غير أهل لعقد التّصرّف أصلاً كالمجنون والصّغير غير المميّز فإنّ التّصرّف يقع باطلاً غير قابل للإجازة . بقاء المجاز تصرّفه حيّاً لحين الإجازة :
4 - لكي تكون الإجازة صحيحةً ومعتبرةً عند الحنفيّة فلا بدّ من صدورها حال حياة المباشر ، إن كانت طبيعة التّصرّف ممّا ترجع حقوقه إلى المباشر فيما لو حجبت عنه الإجازة ، كالشّراء والاستئجار أمّا التّصرّفات الّتي يعتبر فيها المباشر سفيراً ومعبّراً ، ولا تعود حقوق التّصرّف إليه بحال من الأحوال ، كالنّكاح فلا تشترط فيه حياة المباشر وقت الإجازة ، كما لو زوّج فضوليّ رجلاً بامرأة ، ثمّ مات الفضوليّ ، ثمّ أجاز الرّجل اعتبرت الإجازة صحيحةً ، لأنّ الوكيل في هذا العقد ما هو إلاّ سفير ومعبّر ، ولا يعود إليه شيء من حقوق هذا العقد حين إخلاله بالشّروط الّتي اشترطها عليه الموكّل . هذا صريح مذهب الحنفيّة وهو المفهوم من بعض الفروع في مذهب الشّافعيّة ، فقد قالوا : لو باع مال مورّثه على ظنّ أنّه حيّ وأنّه فضوليّ فبان ميّتاً حينئذ وأنّه ملك العاقد فقولان ، وقيل وجهان مشهوران ، أصحّهما : أنّ العقد صحيح لصدوره من مالك ، والثّاني : البطلان لأنّه في معنى المعلّق بموته ، ولأنّه كالغائب . والظّاهر أنّ الوجه الأوّل هنا مبنيّ على القول بجواز تصرّف الفضوليّ ، فإنّ تصرّفه كان على ظنّ أنّه فضوليّ ، وإجازته بعد تحقّق وفاة مورّثه على أنّه مالك فله اعتباران : كونه فضوليّاً وكونه مالكاً وهو حيّ في كلتا الحالتين . وأمّا على القول بالبطلان ، وهو المعتمد عندهم ، فلا تنافي . هذا ولم نعثر على هذا الشّرط عند المالكيّة والحنابلة .
ب - ( المجيز ) :
5 - من له الإجازة ( المجيز ) إمّا أن يكون واحداً ، أو أكثر ، فإن كان واحداً فظاهر ، وإن كان أكثر فلا بدّ من اتّفاق جميع من لهم الإجازة عليها حتّى تلحق التّصرّف إذا كان لكلّ واحد منهم حقّ الإجازة كاملاً فإن اختلفوا فأجازه البعض ، وردّه البعض قدّم الرّدّ على الإجازة ، كما لو جعل خيار الشّرط إلى شخصين فأجاز البيع أحدهما وامتنع عن الإجازة الآخر ، لم تلحق الإجازة التّصرّف . أمّا إن كانت الإجازة قابلةً للتّجزئة كما إذا تصرّف فضوليّ في مال مشترك ، فالإجازة تنفذ في حقّ المجيز دون شركائه .
6 - ويشترط في المجيز لكي تصحّ إجازته أن يكون أهلاً لمباشرة التّصرّف وقت الإجازة فإن كان التّصرّف هبةً وجب أن تتوفّر فيه أهليّة التّبرّع ، وإن كان بيعاً وجب أن تتوفّر فيه أهليّة التّعاقد وهكذا لأنّ الإجازة لها حكم الإنشاء ، فيجب فيها من الشّروط ما يجب في الإنشاء .
7 - ويشترط الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في قول عندهم والشّافعيّة في التّصرّفات الّتي تتوقّف على الإجازة كخيار الشّرط لأجنبيّ عن العقد أن يكون المجيز موجوداً حال وقوع التّصرّف ، لأنّ كلّ تصرّف يقع ولا مجيز له حين وقوعه يقع باطلاً ، والباطل لا تلحقه الإجازة . فإذا باع الصّغير المميّز ثمّ بلغ قبل إجازة الوليّ تصرّفه ، فأجاز تصرّفه بنفسه جاز ، لأنّ له وليّاً يجيزه حال العقد ، وإذا زوّج فضوليّ إنساناً ثمّ وكّل هذا الشّخص الفضوليّ في تزويجه قبل أن يجيز التّصرّف ، فأجاز الفضوليّ بعد الوكالة تصرّفه السّابق للوكالة جاز هذا عند كلّ من الحنفيّة والمالكيّة . بخلاف ما إذا طلّق وهو صغير ، ثمّ بلغ فأجاز طلاقه بنفسه ، لم يجز لأنّ طلاق الصّغير ليس له مجيز وقت وقوعه ، إذ ليس للوليّ أن يطلّق زوجة الصّغير ، ولا أن يتصرّف تصرّفاً مضرّاً ضرراً محضاً بالصّغير - مميّزاً أو غير مميّز - هذا عند الجمهور ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وقول لأحمد ) والمعتمد عند الحنابلة وقوع طلاق الصّبيّ المميّز الّذي يعقل الطّلاق وما يترتّب عليه .
8 - ويشترط الشّافعيّة أن يكون من تولّى الإجازة مالكاً للتّصرّف عند العقد ، فلو باع الفضوليّ مال الطّفل ، فبلغ الطّفل ، فأجاز ذلك البيع ، لم ينفذ لأنّ الطّفل لم يكن يملك البيع عند العقد . وهذا بناءً على القول عندهم بجواز تصرّفات الفضوليّ .
9 - كما يشترط في المجيز أن يكون عالماً ببقاء محلّ التّصرّف . أمّا علمه بالتّصرّف الّذي أجازه فظاهر ، وأمّا علمه ببقاء محلّ التّصرّف فقد قال في الهداية : ولو أجاز المالك في حياته وهو لا يعلم حال المبيع جاز البيع في قول أبي يوسف أوّلاً ، وهو قول محمّد لأنّ الأصل بقاؤه ثمّ رجع أبو يوسف فقال : لا يصحّ حتّى يعلم قيامه عند الإجازة ، لأنّ الشّكّ وقع في شرط الإجازة . فلا يثبت مع الشّكّ وهو ما ذهب إليه المالكيّة أيضاً . ولم نقف على نصّ في هذا عند الشّافعيّة والحنابلة لأنّ المعتمد عندهم عدم جواز تصرّفات الفضوليّ ولهذا لم يتوسّعوا في التّفريع .
ج - التّصرّف المجاز ( محلّ الإجازة ) محلّ الإجازة إمّا أن يكون قولاً أو فعلاً إجازة الأقوال :
10 - الإجازة تلحق التّصرّفات القوليّة ، وعندئذ يشترط في تلك التّصرّفات : أوّلاً : أن يكون قد وقع صحيحاً ، فالعقد غير الصّحيح لا تلحقه الإجازة كبيع الميتة ، فبيع الميتة غير منعقد أصلاً ، فهو غير موجود إلاّ من حيث الصّورة فحسب ، والإجازة لا تلحق المعدوم بالبداهة . ويبطل العقد الموقوف وغير اللاّزم بردّ من له الإجازة ، فإذا ردّه فقد بطل ، ولا تلحقه الإجازة بعد ذلك . ثانياً : أن يكون التّصرّف صحيحاً غير نافذ - أي موقوفاً - كهبة المريض مرض الموت فيما زاد على الثّلث وكتصرّف الفضوليّ عند من يرى جوازه ، وكالعقود غير اللاّزمة كالّتي تنعقد مع الخيار . ثالثاً : أن يكون المعقود عليه قائماً وقت الإجازة ، فإن فات المعقود عليه فإنّ العقد لا تلحقه الإجازة ، لأنّ الإجازة تصرّف في العقد ، فلا بدّ من قيام العقد بقيام العاقدين والمعقود عليه . إجازة العقود الواردة على محلّ واحد :
11 - إذا وردت الإجازة على أكثر من عقد واحد على محلّ واحد ، لحقت أحقّ هذه العقود بالإمضاء . وقد صنّف الحنفيّة العقود والتّصرّفات بحسب أحقّيّتها كما يلي : الكتابة والتّدبير والعتق ، ثمّ البيع ، ثمّ النّكاح ، ثمّ الهبة ، ثمّ الإجارة ، ثمّ الرّهن . فإذا باع فضوليّ أمة رجل ، وزوّجها فضوليّ آخر ، أو آجرها أو رهنها ، فأجاز المالك تصرّف الفضوليّين معاً ، جاز البيع وبطل غيره ، لأنّ البيع أحقّ من بقيّة التّصرّفات ، فلحقت به الإجازة دون غيره ولم نجد هذا عند غيرهم . إجازة الأفعال : الأفعال إمّا أن تكون أفعال إيجاد أو إتلاف .
12 - وفي أفعال الإيجاد اتّجاهان : الأوّل : أنّ الإجازة لا تلحقها ، وهو ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة . الثّاني : أنّ الإجازة تلحقها ، وهو ما ذهب إليه الإمام محمّد بن الحسن وهو الرّاجح عند الحنفيّة . وبناءً على ذلك فإنّ الغاصب إذا أعطى المغصوب لأجنبيّ بأيّ تصرّف فأجاز المالك ذلك ، فقد ذهب أبو حنيفة إلى عدم براءة الغاصب وأنّه لا يزال ضامناً إذ الأصل عنده أنّ الإجازة لا تلحق الأفعال . والمفهوم من بعض فروع المالكيّة والشّافعيّة ورواية عن أحمد أنّهم يذهبون مذهب أبي حنيفة . وعلّل المالكيّة ذلك بأنّ الرّضا بتصرّف الغاصب لا يجعل يده يد أمانة . وعلّل الشّافعيّ والحنابلة لهذه الرّواية بأنّ تصرّفات الغاصب في العين المغصوبة حرام ، ولا يملك أحد إجازة تصرّف حرام . وذهب الإمام محمّد بن الحسن إلى أنّ إجازة المالك لتصرّف الغاصب صحيحة وتبرّئ ذمّته وتسقط عنه الضّمان والقاعدة عنده أنّ الإجازة تلحق الأفعال . وهو الرّواية الأخرى عند الحنابلة ، واختلف علماؤهم في تخريج هذه الرّواية عن أحمد .
13 - واتّفقت كلمة الحنفيّة على أنّ الإجازة لا تلحق أفعال الإتلاف ، فليس للوليّ أن يهب من مال الصّغير ، لأنّ الهبة إتلاف ، فإن فعل ذلك كان ضامناً ، فإن بلغ الصّبيّ وأجاز هبته ، لم تجز ، لأنّ الإجازة لا تلحق أفعال الإتلاف . وهذا هو ما يفهم من كلام المالكيّة والشّافعيّة . وأمّا الحنابلة فقد فرّقوا بين ما إذا كان الوليّ أباً أو غير أب فإن كان أباً فلا يعتبر متعدّياً لأنّ له حقّ تملّك مال ولده ، لحديث : « أنت ومالك لأبيك » وإن كان الوليّ غير أب فهم مع الجمهور . أمّا دليل عدم نفاذ الإجازة فلأنّ تصرّفات الوليّ منوطة بمصلحته والتّبرّعات إتلاف فتقع باطلةً فلا تلحقها الإجازة .
14 - وقد وقع خلاف في اللّقطة إذا تصدّق بها الملتقط فالمالكيّة والحنابلة قالوا : إذا عرّفها سنةً ولم يأت مالكها تملّكها الملتقط وعلى هذا فلو تصدّق بها بعد المدّة المذكورة فلا ضمان عليه لأنّه تصدّق بخالص ماله . ومفهوم كلامهم أنّه لو تصدّق بها قبل هذه المدّة أو لم يعرّفها يكون ضامناً إن لم يجز المالك التّصدّق . وسندهم في ذلك حديث زيد بن خالد أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال في شأن اللّقطة : « فإن لم تعرف فاستنفقها » وفي لفظ : « وإلاّ فهي كسبيل مالك » ، وفي لفظ : « ثمّ كلها » ، وفي لفظ : « فانتفع بها » . أمّا الحنفيّة فقالوا : إذا تصدّق الملتقط باللّقطة ، ثمّ جاء صاحبها فأجاز صدقة الملتقط طلباً لثواب اللّه تعالى ، جاز بالاتّفاق . قال عمر بن الخطّاب لمن أتاه مستفسراً عمّا يتصرّف به في اللّقطة الّتي في يده : ألا أخبرك بخير سبيلها ؟ تصدّق بها ، فإن جاء صاحبها فاختار المال غرمت له وكان الأجر لك ، وإن اختار الأجر كان له ، ولك ما نويت ومفهوم مذهب الشّافعيّة أنّ الملتقط إذا تصرّف أيّ تصرّف فيها يكون متعدّياً ويعتبر ضامناً . وتفصيل ذلك في مصطلح « لقطة » . صيغة الإجازة : من استقراء كلام الفقهاء نجد أنّ الإجازة تتحقّق بطرائق متعدّدة . وهي خمسة في الجملة : ( الطّريقة الأولى ) : القول 15 - الأصل في الإجازة أن تكون بالقول المعبّر عنها بنحو قول المجيز : أجزت ، وأنفذت ، وأمضيت ، ورضيت ، ونحو ذلك . وإذا وقعت الإجازة بلفظ يمكن أن يعبّر به عنها كما يمكن أن يعبّر به عن غيرها ، فالاحتكام في ذلك إلى قرائن الأحوال . فإن انعدمت قرائن الأحوال حمل الكلام على حقيقته . وتقوم الكتابة أو الإشارة المفهمة مقام القول عند العجز على تفصيل موضعه الصّيغة في العقد .
( الطّريقة الثّانية )
الفعل
16 - فكلّ ما يصحّ أن يكون قبولاً من الأفعال في العقود ، يصحّ أن يكون إجازةً .
( الطّريقة الثّالثة )
17 - مضيّ المدّة في التّصرّفات الموقوتة : كمضيّ مدّة الخيار في خيار الشّرط ( ر : خيار الشّرط ) .
( الطّريقة الرّابعة )
18 - القرائن القويّة : كتبسّم البكر البالغة ، وضحكها ضحك سرور وابتهاج ، وسكوتها وقبضها مهرها ، عند إعلام وليّها إيّاها أنّه زوّجها من فلان ، فإنّها قرينة قويّة على إجازتها ، بخلاف بكائها بصوت مرتفع وولولتها ، فهي قرينة على الرّفض . ومن القرائن القويّة السّكوت في موطن الحاجة إلى الإبطال ، كسكوت صاحب الحاجة عند رؤية حاجته يبيعها صغيره المميّز في السّوق وغيرها .
( الطّريقة الخامسة ) :
19 - زوال حالة أوجبت عدم نفاذ التّصرّف ، كما هو الحال في تصرّفات الرّجل المرتدّ عن الإسلام من معاوضات ماليّة كالبيع والإجارة ، أو تبرّعات كالهبة والوصيّة والوقف ، فإنّ الإمام أبا حنيفة يعتبر سائر عقود المرتدّ وتصرّفاته الماليّة موقوفةً غير نافذة ، فإن زالت حالة الرّدّة بعودته للإسلام نفذت تلك التّصرّفات الموقوفة ، وإن مات ، أو قتل ، أو التحق بدار الحرب وقضى القاضي باعتباره ملتحقاً بها بطلت تلك العقود والتّصرّفات .
20 - وهذه الطّرق الخمسة هي صريح مذهب الحنفيّة والمفهوم من مذهب المالكيّة عند كلامهم عن صيغة عقد البيع . أمّا الشّافعيّة فالأصل عندهم في التّصرّفات القوليّة العبارة . وهذا هو المعتمد في المذهب الجديد . وفي المذهب القديم جواز الاعتماد على المعاطاة وما في معناها ، وهو اختيار النّوويّ وجماعة ، سواء أكان في النّفيس أم الخسيس واختار بعضهم جواز ذلك في الخسيس فقط . وعليه فتكون الإجازة عندهم على المعتمد بالعبارة دون غيرها . وأمّا الحنابلة فالمأخوذ من فروعهم جواز ذلك في الجملة . وللفقهاء في تصرّفات المرتدّ وكونها موقوفةً أو نافذةً تفصيل حاصله أنّها موقوفة عند أبي حنيفة ومالك والحنابلة ورأي عند الشّافعيّة فإن عاد إلى الإسلام نفذت تصرّفاته بإجازة الشّارع . والصّاحبان من الحنفيّة والشّافعيّة في رأي عندهم أنّ تصرّفاته نافذة . ومبنى هذا الخلاف أنّ من قال بنفاذ تصرّفاته قال : إنّه أهل للتّصرّف وقد تصرّف في ملكه ولم يوجد سبب مزيل للملك وأنّ كلّ ما يستحقّه هو القتل . أمّا الوجه الآخر فإنّهم يرون أنّه بالرّدّة صار مهدر الدّم وماله تبع له ، ويتريّث حتّى يستبين أمره .
( آثار الإجازة ) :
21 - الإجازة يظهر أثرها من حين إنشاء التّصرّف . ولذا اشتهر من أقوال الفقهاء الإجازة اللاّحقة كالإذن السّابق . ويبنى على ذلك كثير من التّطبيقات العمليّة عندهم نذكر منها :
1 - أنّ المجيز يطالب المباشر بالثّمن بعد الإجازة إن كان التّصرّف بيعاً ، ولا يطالب المشتري لأنّ المباشر - وهو الفضوليّ - قد صار بالإجازة وكيلاً .
2 - إذا باع الفضوليّ ملك غيره ثمّ أجاز المالك البيع يثبت البيع والحطّ سواء علم المالك الحطّ أو لم يعلم إلاّ أنّه بالحطّ بعد الإجازة يثبت له الخيار .
3 - إذا تعدّدت التّصرّفات وأجاز المالك أحدها أجاز العقد الّذي أجازه خاصّةً ، فلو باع الغاصب العين المغصوبة ثمّ باعها المشتري أو أجّرها أو رهنها وتداولتها الأيدي فأجاز مالكها أحد هذه العقود جاز العقد الّذي أجازه خاصّةً لتوقّف كلّها على الإجازة فإذا أجاز عقداً منها جاز ذلك خاصّةً ولم نعثر لغير الحنفيّة على ما يتعلّق بهذا .
( رفض الإجازة ) :
22 - يحقّ لمن له الإجازة أن يردّ التّصرّف المتوقّف عليها ، وإذا ردّه فليس له أن يجيزه بعد ذلك لأنّه بالرّدّ أصبح التّصرّف باطلاً . الرّجوع عن الإجازة :
23 - إذا أجاز من له الإجازة التّصرّف ، فليس له أن يرجع عن الإجازة بعد ذلك ، فمن سمع أنّ فضوليّاً باع ملكه فأجاز ولم يعلم مقدار الثّمن ، فلمّا علم ردّ البيع ، فالبيع قد لزم ، ولا عبرة لردّه لصيرورة البائع المباشر للبيع - وهو الفضوليّ هنا - كالوكيل .
ثانياً : الإجازة بمعنى الإعطاء 24 - الإجازة بمعنى الإعطاء . وهي بمعنى العطيّة من حاكم أو ذي شأن كمكافأة على عمل وبيان ذلك في مصطلح هبة .
ثالثاً : الإجازة بمعنى الإذن بالإفتاء أو التّدريس 25 - أمّا الإجازة بمعنى الإفتاء أو التّدريس فلا يحلّ إجازة أحد للإفتاء أو تدريس العلوم الدّينيّة إلاّ أن يكون عالماً بالكتاب والسّنّة والآثار ووجوه الفقه واجتهاد الرّأي عدلاً موثوقاً به .
رابعاً : الإجازة بمعنى الإذن في الرّواية 26 - اختلف العلماء في حكم رواية الحديث بالإجازة والعمل به فذهب جماعة إلى المنع وهو إحدى الرّوايتين عن الشّافعيّ ، وحكي ذلك عن أبي طاهر الدّبّاس من أئمّة الحنفيّة ولكنّ الّذي استقرّ عليه العمل وقال به جماهير أهل العلم من أهل الحديث وغيرهم القول بتجويز الإجازة وإباحة الرّواية بها ، ووجوب العمل بالمرويّ بها .
27 - وتستحسن الإجازة برواية الحديث إذا كان المجيز عالماً بما يجيز ، والمجاز له من أهل العلم ، لأنّها توسّع وترخيص يتأهّل له أهل العلم لمسيس حاجتهم إليها ، وبالغ بعضهم في ذلك فجعله شرطاً فيها ، وقد حكى ذلك أبو العبّاس الوليد بن بكر المالكيّ عن الإمام مالك رحمه الله .
( أنواع الإجازة بالكتب ) 28 - وكما جرت العادة برواية الحديث بالإجازة ، جرت كذلك برواية الكتب وتدريسها بها وهي على أنواع : النّوع الأوّل : أن يجيز إنساناً معيّناً في رواية كتاب معيّن ، كقوله : « أجزت لك رواية كتابي الفلانيّ » . النّوع الثّاني : أن يجيز لإنسان معيّن رواية شيء غير معيّن ، كقوله : « أجزت لك رواية جميع مسموعاتي » . وجمهور الفقهاء والمحدّثين على تجويز الرّواية بهذين النّوعين وعلى وجوب العمل بما روي بهما بشرطه مع العلم أنّ الخلاف في جواز العمل بالنّوع الثّاني أكثر بين العلماء . النّوع الثّالث : إجازة غير معيّن رواية شيء معيّن كقوله : « أجزت للمسلمين رواية كتابي هذا " وهذا النّوع مستحدث فإن كان مقيّداً بوصف حاضر فهو إلى الجواز أقرب ويقول ابن الصّلاح : « لم نر ولم نسمع عن أحد ممّن يقتدى به أنّه استعمل هذه الإجازة » . النّوع الرّابع : الإجازة لغير معيّن برواية غير معيّن ، كأن يقول : أجزت لكلّ من اطّلع على أيّ مؤلّف من مؤلّفاتي روايته وهذا النّوع يراه البعض فاسداً واستظهر عدم الصّحّة وبذلك أفتى القاضي أبو الطّيّب الطّبريّ وحكى الجواز عن بعض الحنابلة والمالكيّة . وهناك أنواع أخرى غير هذه ذهب المحقّقون إلى عدم جواز العمل بها .
147 - المعقود عليه هنا فيه نوع جهالة ، لأنّ الأجير لا يعلم ما يصادفه أثناء الحفر . ولهذا فإنّ جمهور الفقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة يشترطون لصحّة العقد معرفة الأرض الّتي يقع فيها الحفر ، لأنّ الحفر يختلف باختلافها ، ومعرفة مساحة القدر المطلوب حفره طولاً وعرضاً وعمقاً . وأجازوا تقدير الإجارة على الحفر بالمدّة أو بالعمل . والحنفيّة يقولون : إنّ القياس يقتضي بيان الموضع وطول البئر وعمقه ، إلاّ أنّهم قالوا : إن لم يبيّن جاز استحساناً ، لجريان العرف بذلك ، ويؤخذ بوسط ما يعمل النّاس . 148 - وإن بيّن له موضع الحفر ، وحدّد له المقدار المطلوب حفره ، فوجد الأجير بعد الشّروع في العمل أنّ الأرض صلبة وتحتاج إلى مئونة أشدّ عملاً وآلات خاصّة ، فإنّه لا يجبر عليه ، ويحقّ له فسخ العقد ويستحقّ أجراً بمقدار ما حفر . وتقدير ذلك يرجع فيه إلى أهل الخبرة . ولو حفر البئر في ملكه ، فظهر الماء قبل أن يبلغ المنتهى الّذي شرط عليه ، فإن أمكنه الحفر في الماء بالآلة الّتي يحفر بها الآبار أجبر على الحفر ، وإن احتيج إلى اتّخاذ آلة أخرى لا يجبر . 149 - كما نصّوا على أنّه لو حفر بعض البئر ، وأراد أن يأخذ حصّتها من الأجر ، فإن كان في ملك المستأجر فله ذلك . وكلّما حفر شيئاً صار مسلّماً إلى المستأجر ، حتّى إذا انهارت البئر فأدخل السّير أو الرّيح فيها التّراب حتّى سوّاها مع الأرض لا يسقط شيء من أجرته . وإن كان في ملك غيره ليس للأجير أن يطالبه بالأجرة ما لم يفرغ من الحفر ، ويسلّمها إليه ، حتّى لو انهارت ، فامتلأت قبل التّسليم ، لا يستحقّ الأجر . وقالوا : إذا استأجر حفّاراً ليحفر له حوضاً عشرةً في عشرة بعشرة دراهم فحفر خمسةً في خمسة استحقّ من الأجر بنسبة ما حفر ، مع ملاحظة أخذ المتوسّط بين قيمة الحفر في الجزء الأعلى والجزء الأسفل . وإن شرط عليه كلّ ذراع في طين أو أرض سهلة بدرهم ، وكلّ ذراع في حجر بدرهمين ، وكلّ ذراع في ماء بثلاثة ، وبيّن مقدار طول البئر ومحيطه جاز . وإذا حفر بعض البئر ، ومات ، قوّم الحفر ، وأخذ ورثته بنسبته من الأجر ، على ما سبق . ويلاحظ أنّ هذه الأحكام مبنيّة على أعراف كانت قائمةً .
إجارة الرّاعي :
150 - الرّاعي إمّا أن يكون أجيراً مشتركاً أو أجيراً خاصّاً ، فتجرى على كلّ منهما الأحكام السّابقة ، إلاّ أنّ هنا ما يستحقّ الإفراد بالذّكر :
1 - إذا عيّن عدد الماشية الّتي يرعاها فليس الرّاعي ملزماً بما يزيده الآجر عمّا اتّفق عليه ، ولكن إذا كانت الزّيادة بطريق الولادة فالقياس أنّه غير ملزم برعيها أيضاً ، ولكنّ الحنفيّة قالوا بلزوم رعيها ، استحساناً ، لأنّها تبع ، ولجريان العرف بذلك . وإلى هذا ذهب بعض الشّافعيّة وبعض الحنابلة ، والظّاهر عندهم أنّه غير ملزم .
2 - إذا خاف الرّاعي الموت على شاة - مثلاً - وغلب على ظنّه أنّها تموت إن لم يذبحها ، فذبحها ، فلا يضمن استحساناً ، وإذا اختلف فالقول قول الرّاعي .
تعليم العلوم والحرف والصّناعات :
151 - نبيّن هنا أنّه لا خلاف في جواز الاستئجار على تعليم العلوم سوى العلوم الدّينيّة البحتة ، حتّى ولو كانت وسيلةً ومقدّمةً للعلوم الشّرعيّة ، كالنّحو والبلاغة وأصول الفقه . ومثل ذلك يقال في الحرف والصّنائع . وإذا كان العقد على مدّة معلومة استحقّ الأجر عن هذه المدّة ، وصحّت الإجارة ، اتّفاقاً . أمّا إذا اشترط في عقد الإجارة على التّعلّم والحذق فالقياس ألاّ تصحّ الإجارة ، لأنّ المعقود عليه مجهول ، لتفاوت الأفراد في الذّكاء والبلادة . وذهب جمهور الفقهاء إلى جواز ذلك استحساناً إذا عاين المعلّم المتعلّم . وقال الحنفيّة : إنّ الإجارة فاسدة ، فإن عمل استحقّ أجر المثل كأيّة إجارة فاسدة .
إجارة وسائل النّقل الحديثة :
152 - لم يتعرّض الفقهاء الأقدمون لبيان أحكام استئجار وسائل النّقل الحديثة من سيّارات وطائرات وسفن كبيرة ، وإنّما تعرّضوا لاستئجار الدّوابّ والأشخاص والسّفن الصّغيرة . وممّا تقدّم يتبيّن أنّ أحكام استئجار الدّوابّ والسّفن الصّغيرة والأشخاص ترجع كلّها إلى الأحوال الآتية : إجارة مشتركة ، أو إجارة خاصّة ، أو إجارة في الذّمّة ، أو إجارة عين موصوفة ، أو إجارة على العمل ، سواء كانت مع المدّة أو بدونها . وقد بيّن الفقهاء كلّ هذه الأحكام على ما تقدّم . ويمكن تطبيقها على وسائل النّقل الحديثة ، لأنّها لا تخرج عن هذه الأحوال الّتي ذكرناها . وإذا كان هناك اختلاف في بعض الأحوال ، كاختلافهم في تعيّن الرّاكب ، فإنّ هذا يرجع فيه إلى العرف . فلا فرق بين شخص وآخر في استئجار سيّارة أو طائرة ، بخلاف الدّابّة ، فإنّها تتأثّر بالأشخاص ضخامةً ونحافةً - وأمّا ما يصحبه الرّاكب من المتاع فرجع ذلك إلى الشّرط . فإن لم يكن فالحكم العرف . وأمّا استحقاق الأجرة ، سواء على نقل الأشخاص أو الأمتعة ، فالمرجع أيضاً إلى الشّرط . وإلاّ فالعرف . وكلّ أحكام الضّمان سواء بالنّسبة للأجير المشترك أو الخاصّ ، أو بالنّسبة لاستئجار عين من الأعيان كالسّفينة ، فإنّ ما سبق ذكره يطبّق عليها .
الاستحقاق في الإجارة :
153 - اختلف الفقهاء في أثر استحقاق العين المؤجّرة ، فمنهم من يرى بطلان الإجارة ومنهم من يرى توقّفها على إجازة المستحقّ كما اختلفوا فيمن يستحقّ الأجرة على خلاف . وتفصيل ينظر بحث ( استحقاق ) .
إجازة
التّعريف
1 - الإجازة في اللّغة الإنفاذ ، يقال : أجاز الشّيء إذا أنفذه . ولا يخرج استعمال الفقهاء للإجازة عن هذا المعنى اللّغويّ . هذا وقد يطلق الفقهاء " الإجازة " بمعنى الإعطاء ، كما يطلقونه على الإذن بالإفتاء أو التّدريس . ويطلق المحدّثون وغيرهم " الإجازة " بمعنى الإذن بالرّواية ، سواء أكانت رواية حديث أم رواية كتاب . وتفصيل ذلك يأتي في آخر البحث ، والإجازة بمعنى الإنفاذ لا تكون إلاّ لاحقةً للتّصرّف ، بخلاف الإذن فلا يكون إلاّ سابقاً عليه . وعلى هذا فنقسّم البحث على هذه الأنواع الأربعة : أوّلاً : الإجازة بمعنى الإنفاذ أركانها :
2 - كلّ إجازة لا بدّ من أن تتوفّر فيها الأمور التّالية : أ - المجاز تصرّفه : وهو من تولّى التّصرّف بلا ولاية كالفضوليّ .
ب - المجيز : وهو من يملك التّصرّف سواء أكان أصيلاً أم وكيلاً أم وليّاً أم وصيّاً أم قيّماً أم ناظر وقف .
ج - المجاز : وهو التّصرّف .
د - الصّيغة : صيغة الإجازة أو ما يقوم مقامها . وقد اصطلح جمهور الفقهاء على أنّ هذه الأمور كلّها أركان والحنفيّة يقصرون إطلاق لفظ الرّكن على الصّيغة أو ما يقوم مقامها . أ - ( المجاز تصرّفه ) :
3 - يشترط في المجاز تصرّفه ما يلي :
1 - أن يكون ممّن ينعقد به التّصرّف كالبالغ العاقل والصّغير المميّز في بعض تصرّفاته . أمّا إذا كان المباشر غير أهل لعقد التّصرّف أصلاً كالمجنون والصّغير غير المميّز فإنّ التّصرّف يقع باطلاً غير قابل للإجازة . بقاء المجاز تصرّفه حيّاً لحين الإجازة :
4 - لكي تكون الإجازة صحيحةً ومعتبرةً عند الحنفيّة فلا بدّ من صدورها حال حياة المباشر ، إن كانت طبيعة التّصرّف ممّا ترجع حقوقه إلى المباشر فيما لو حجبت عنه الإجازة ، كالشّراء والاستئجار أمّا التّصرّفات الّتي يعتبر فيها المباشر سفيراً ومعبّراً ، ولا تعود حقوق التّصرّف إليه بحال من الأحوال ، كالنّكاح فلا تشترط فيه حياة المباشر وقت الإجازة ، كما لو زوّج فضوليّ رجلاً بامرأة ، ثمّ مات الفضوليّ ، ثمّ أجاز الرّجل اعتبرت الإجازة صحيحةً ، لأنّ الوكيل في هذا العقد ما هو إلاّ سفير ومعبّر ، ولا يعود إليه شيء من حقوق هذا العقد حين إخلاله بالشّروط الّتي اشترطها عليه الموكّل . هذا صريح مذهب الحنفيّة وهو المفهوم من بعض الفروع في مذهب الشّافعيّة ، فقد قالوا : لو باع مال مورّثه على ظنّ أنّه حيّ وأنّه فضوليّ فبان ميّتاً حينئذ وأنّه ملك العاقد فقولان ، وقيل وجهان مشهوران ، أصحّهما : أنّ العقد صحيح لصدوره من مالك ، والثّاني : البطلان لأنّه في معنى المعلّق بموته ، ولأنّه كالغائب . والظّاهر أنّ الوجه الأوّل هنا مبنيّ على القول بجواز تصرّف الفضوليّ ، فإنّ تصرّفه كان على ظنّ أنّه فضوليّ ، وإجازته بعد تحقّق وفاة مورّثه على أنّه مالك فله اعتباران : كونه فضوليّاً وكونه مالكاً وهو حيّ في كلتا الحالتين . وأمّا على القول بالبطلان ، وهو المعتمد عندهم ، فلا تنافي . هذا ولم نعثر على هذا الشّرط عند المالكيّة والحنابلة .
ب - ( المجيز ) :
5 - من له الإجازة ( المجيز ) إمّا أن يكون واحداً ، أو أكثر ، فإن كان واحداً فظاهر ، وإن كان أكثر فلا بدّ من اتّفاق جميع من لهم الإجازة عليها حتّى تلحق التّصرّف إذا كان لكلّ واحد منهم حقّ الإجازة كاملاً فإن اختلفوا فأجازه البعض ، وردّه البعض قدّم الرّدّ على الإجازة ، كما لو جعل خيار الشّرط إلى شخصين فأجاز البيع أحدهما وامتنع عن الإجازة الآخر ، لم تلحق الإجازة التّصرّف . أمّا إن كانت الإجازة قابلةً للتّجزئة كما إذا تصرّف فضوليّ في مال مشترك ، فالإجازة تنفذ في حقّ المجيز دون شركائه .
6 - ويشترط في المجيز لكي تصحّ إجازته أن يكون أهلاً لمباشرة التّصرّف وقت الإجازة فإن كان التّصرّف هبةً وجب أن تتوفّر فيه أهليّة التّبرّع ، وإن كان بيعاً وجب أن تتوفّر فيه أهليّة التّعاقد وهكذا لأنّ الإجازة لها حكم الإنشاء ، فيجب فيها من الشّروط ما يجب في الإنشاء .
7 - ويشترط الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في قول عندهم والشّافعيّة في التّصرّفات الّتي تتوقّف على الإجازة كخيار الشّرط لأجنبيّ عن العقد أن يكون المجيز موجوداً حال وقوع التّصرّف ، لأنّ كلّ تصرّف يقع ولا مجيز له حين وقوعه يقع باطلاً ، والباطل لا تلحقه الإجازة . فإذا باع الصّغير المميّز ثمّ بلغ قبل إجازة الوليّ تصرّفه ، فأجاز تصرّفه بنفسه جاز ، لأنّ له وليّاً يجيزه حال العقد ، وإذا زوّج فضوليّ إنساناً ثمّ وكّل هذا الشّخص الفضوليّ في تزويجه قبل أن يجيز التّصرّف ، فأجاز الفضوليّ بعد الوكالة تصرّفه السّابق للوكالة جاز هذا عند كلّ من الحنفيّة والمالكيّة . بخلاف ما إذا طلّق وهو صغير ، ثمّ بلغ فأجاز طلاقه بنفسه ، لم يجز لأنّ طلاق الصّغير ليس له مجيز وقت وقوعه ، إذ ليس للوليّ أن يطلّق زوجة الصّغير ، ولا أن يتصرّف تصرّفاً مضرّاً ضرراً محضاً بالصّغير - مميّزاً أو غير مميّز - هذا عند الجمهور ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وقول لأحمد ) والمعتمد عند الحنابلة وقوع طلاق الصّبيّ المميّز الّذي يعقل الطّلاق وما يترتّب عليه .
8 - ويشترط الشّافعيّة أن يكون من تولّى الإجازة مالكاً للتّصرّف عند العقد ، فلو باع الفضوليّ مال الطّفل ، فبلغ الطّفل ، فأجاز ذلك البيع ، لم ينفذ لأنّ الطّفل لم يكن يملك البيع عند العقد . وهذا بناءً على القول عندهم بجواز تصرّفات الفضوليّ .
9 - كما يشترط في المجيز أن يكون عالماً ببقاء محلّ التّصرّف . أمّا علمه بالتّصرّف الّذي أجازه فظاهر ، وأمّا علمه ببقاء محلّ التّصرّف فقد قال في الهداية : ولو أجاز المالك في حياته وهو لا يعلم حال المبيع جاز البيع في قول أبي يوسف أوّلاً ، وهو قول محمّد لأنّ الأصل بقاؤه ثمّ رجع أبو يوسف فقال : لا يصحّ حتّى يعلم قيامه عند الإجازة ، لأنّ الشّكّ وقع في شرط الإجازة . فلا يثبت مع الشّكّ وهو ما ذهب إليه المالكيّة أيضاً . ولم نقف على نصّ في هذا عند الشّافعيّة والحنابلة لأنّ المعتمد عندهم عدم جواز تصرّفات الفضوليّ ولهذا لم يتوسّعوا في التّفريع .
ج - التّصرّف المجاز ( محلّ الإجازة ) محلّ الإجازة إمّا أن يكون قولاً أو فعلاً إجازة الأقوال :
10 - الإجازة تلحق التّصرّفات القوليّة ، وعندئذ يشترط في تلك التّصرّفات : أوّلاً : أن يكون قد وقع صحيحاً ، فالعقد غير الصّحيح لا تلحقه الإجازة كبيع الميتة ، فبيع الميتة غير منعقد أصلاً ، فهو غير موجود إلاّ من حيث الصّورة فحسب ، والإجازة لا تلحق المعدوم بالبداهة . ويبطل العقد الموقوف وغير اللاّزم بردّ من له الإجازة ، فإذا ردّه فقد بطل ، ولا تلحقه الإجازة بعد ذلك . ثانياً : أن يكون التّصرّف صحيحاً غير نافذ - أي موقوفاً - كهبة المريض مرض الموت فيما زاد على الثّلث وكتصرّف الفضوليّ عند من يرى جوازه ، وكالعقود غير اللاّزمة كالّتي تنعقد مع الخيار . ثالثاً : أن يكون المعقود عليه قائماً وقت الإجازة ، فإن فات المعقود عليه فإنّ العقد لا تلحقه الإجازة ، لأنّ الإجازة تصرّف في العقد ، فلا بدّ من قيام العقد بقيام العاقدين والمعقود عليه . إجازة العقود الواردة على محلّ واحد :
11 - إذا وردت الإجازة على أكثر من عقد واحد على محلّ واحد ، لحقت أحقّ هذه العقود بالإمضاء . وقد صنّف الحنفيّة العقود والتّصرّفات بحسب أحقّيّتها كما يلي : الكتابة والتّدبير والعتق ، ثمّ البيع ، ثمّ النّكاح ، ثمّ الهبة ، ثمّ الإجارة ، ثمّ الرّهن . فإذا باع فضوليّ أمة رجل ، وزوّجها فضوليّ آخر ، أو آجرها أو رهنها ، فأجاز المالك تصرّف الفضوليّين معاً ، جاز البيع وبطل غيره ، لأنّ البيع أحقّ من بقيّة التّصرّفات ، فلحقت به الإجازة دون غيره ولم نجد هذا عند غيرهم . إجازة الأفعال : الأفعال إمّا أن تكون أفعال إيجاد أو إتلاف .
12 - وفي أفعال الإيجاد اتّجاهان : الأوّل : أنّ الإجازة لا تلحقها ، وهو ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة . الثّاني : أنّ الإجازة تلحقها ، وهو ما ذهب إليه الإمام محمّد بن الحسن وهو الرّاجح عند الحنفيّة . وبناءً على ذلك فإنّ الغاصب إذا أعطى المغصوب لأجنبيّ بأيّ تصرّف فأجاز المالك ذلك ، فقد ذهب أبو حنيفة إلى عدم براءة الغاصب وأنّه لا يزال ضامناً إذ الأصل عنده أنّ الإجازة لا تلحق الأفعال . والمفهوم من بعض فروع المالكيّة والشّافعيّة ورواية عن أحمد أنّهم يذهبون مذهب أبي حنيفة . وعلّل المالكيّة ذلك بأنّ الرّضا بتصرّف الغاصب لا يجعل يده يد أمانة . وعلّل الشّافعيّ والحنابلة لهذه الرّواية بأنّ تصرّفات الغاصب في العين المغصوبة حرام ، ولا يملك أحد إجازة تصرّف حرام . وذهب الإمام محمّد بن الحسن إلى أنّ إجازة المالك لتصرّف الغاصب صحيحة وتبرّئ ذمّته وتسقط عنه الضّمان والقاعدة عنده أنّ الإجازة تلحق الأفعال . وهو الرّواية الأخرى عند الحنابلة ، واختلف علماؤهم في تخريج هذه الرّواية عن أحمد .
13 - واتّفقت كلمة الحنفيّة على أنّ الإجازة لا تلحق أفعال الإتلاف ، فليس للوليّ أن يهب من مال الصّغير ، لأنّ الهبة إتلاف ، فإن فعل ذلك كان ضامناً ، فإن بلغ الصّبيّ وأجاز هبته ، لم تجز ، لأنّ الإجازة لا تلحق أفعال الإتلاف . وهذا هو ما يفهم من كلام المالكيّة والشّافعيّة . وأمّا الحنابلة فقد فرّقوا بين ما إذا كان الوليّ أباً أو غير أب فإن كان أباً فلا يعتبر متعدّياً لأنّ له حقّ تملّك مال ولده ، لحديث : « أنت ومالك لأبيك » وإن كان الوليّ غير أب فهم مع الجمهور . أمّا دليل عدم نفاذ الإجازة فلأنّ تصرّفات الوليّ منوطة بمصلحته والتّبرّعات إتلاف فتقع باطلةً فلا تلحقها الإجازة .
14 - وقد وقع خلاف في اللّقطة إذا تصدّق بها الملتقط فالمالكيّة والحنابلة قالوا : إذا عرّفها سنةً ولم يأت مالكها تملّكها الملتقط وعلى هذا فلو تصدّق بها بعد المدّة المذكورة فلا ضمان عليه لأنّه تصدّق بخالص ماله . ومفهوم كلامهم أنّه لو تصدّق بها قبل هذه المدّة أو لم يعرّفها يكون ضامناً إن لم يجز المالك التّصدّق . وسندهم في ذلك حديث زيد بن خالد أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال في شأن اللّقطة : « فإن لم تعرف فاستنفقها » وفي لفظ : « وإلاّ فهي كسبيل مالك » ، وفي لفظ : « ثمّ كلها » ، وفي لفظ : « فانتفع بها » . أمّا الحنفيّة فقالوا : إذا تصدّق الملتقط باللّقطة ، ثمّ جاء صاحبها فأجاز صدقة الملتقط طلباً لثواب اللّه تعالى ، جاز بالاتّفاق . قال عمر بن الخطّاب لمن أتاه مستفسراً عمّا يتصرّف به في اللّقطة الّتي في يده : ألا أخبرك بخير سبيلها ؟ تصدّق بها ، فإن جاء صاحبها فاختار المال غرمت له وكان الأجر لك ، وإن اختار الأجر كان له ، ولك ما نويت ومفهوم مذهب الشّافعيّة أنّ الملتقط إذا تصرّف أيّ تصرّف فيها يكون متعدّياً ويعتبر ضامناً . وتفصيل ذلك في مصطلح « لقطة » . صيغة الإجازة : من استقراء كلام الفقهاء نجد أنّ الإجازة تتحقّق بطرائق متعدّدة . وهي خمسة في الجملة : ( الطّريقة الأولى ) : القول 15 - الأصل في الإجازة أن تكون بالقول المعبّر عنها بنحو قول المجيز : أجزت ، وأنفذت ، وأمضيت ، ورضيت ، ونحو ذلك . وإذا وقعت الإجازة بلفظ يمكن أن يعبّر به عنها كما يمكن أن يعبّر به عن غيرها ، فالاحتكام في ذلك إلى قرائن الأحوال . فإن انعدمت قرائن الأحوال حمل الكلام على حقيقته . وتقوم الكتابة أو الإشارة المفهمة مقام القول عند العجز على تفصيل موضعه الصّيغة في العقد .
( الطّريقة الثّانية )
الفعل
16 - فكلّ ما يصحّ أن يكون قبولاً من الأفعال في العقود ، يصحّ أن يكون إجازةً .
( الطّريقة الثّالثة )
17 - مضيّ المدّة في التّصرّفات الموقوتة : كمضيّ مدّة الخيار في خيار الشّرط ( ر : خيار الشّرط ) .
( الطّريقة الرّابعة )
18 - القرائن القويّة : كتبسّم البكر البالغة ، وضحكها ضحك سرور وابتهاج ، وسكوتها وقبضها مهرها ، عند إعلام وليّها إيّاها أنّه زوّجها من فلان ، فإنّها قرينة قويّة على إجازتها ، بخلاف بكائها بصوت مرتفع وولولتها ، فهي قرينة على الرّفض . ومن القرائن القويّة السّكوت في موطن الحاجة إلى الإبطال ، كسكوت صاحب الحاجة عند رؤية حاجته يبيعها صغيره المميّز في السّوق وغيرها .
( الطّريقة الخامسة ) :
19 - زوال حالة أوجبت عدم نفاذ التّصرّف ، كما هو الحال في تصرّفات الرّجل المرتدّ عن الإسلام من معاوضات ماليّة كالبيع والإجارة ، أو تبرّعات كالهبة والوصيّة والوقف ، فإنّ الإمام أبا حنيفة يعتبر سائر عقود المرتدّ وتصرّفاته الماليّة موقوفةً غير نافذة ، فإن زالت حالة الرّدّة بعودته للإسلام نفذت تلك التّصرّفات الموقوفة ، وإن مات ، أو قتل ، أو التحق بدار الحرب وقضى القاضي باعتباره ملتحقاً بها بطلت تلك العقود والتّصرّفات .
20 - وهذه الطّرق الخمسة هي صريح مذهب الحنفيّة والمفهوم من مذهب المالكيّة عند كلامهم عن صيغة عقد البيع . أمّا الشّافعيّة فالأصل عندهم في التّصرّفات القوليّة العبارة . وهذا هو المعتمد في المذهب الجديد . وفي المذهب القديم جواز الاعتماد على المعاطاة وما في معناها ، وهو اختيار النّوويّ وجماعة ، سواء أكان في النّفيس أم الخسيس واختار بعضهم جواز ذلك في الخسيس فقط . وعليه فتكون الإجازة عندهم على المعتمد بالعبارة دون غيرها . وأمّا الحنابلة فالمأخوذ من فروعهم جواز ذلك في الجملة . وللفقهاء في تصرّفات المرتدّ وكونها موقوفةً أو نافذةً تفصيل حاصله أنّها موقوفة عند أبي حنيفة ومالك والحنابلة ورأي عند الشّافعيّة فإن عاد إلى الإسلام نفذت تصرّفاته بإجازة الشّارع . والصّاحبان من الحنفيّة والشّافعيّة في رأي عندهم أنّ تصرّفاته نافذة . ومبنى هذا الخلاف أنّ من قال بنفاذ تصرّفاته قال : إنّه أهل للتّصرّف وقد تصرّف في ملكه ولم يوجد سبب مزيل للملك وأنّ كلّ ما يستحقّه هو القتل . أمّا الوجه الآخر فإنّهم يرون أنّه بالرّدّة صار مهدر الدّم وماله تبع له ، ويتريّث حتّى يستبين أمره .
( آثار الإجازة ) :
21 - الإجازة يظهر أثرها من حين إنشاء التّصرّف . ولذا اشتهر من أقوال الفقهاء الإجازة اللاّحقة كالإذن السّابق . ويبنى على ذلك كثير من التّطبيقات العمليّة عندهم نذكر منها :
1 - أنّ المجيز يطالب المباشر بالثّمن بعد الإجازة إن كان التّصرّف بيعاً ، ولا يطالب المشتري لأنّ المباشر - وهو الفضوليّ - قد صار بالإجازة وكيلاً .
2 - إذا باع الفضوليّ ملك غيره ثمّ أجاز المالك البيع يثبت البيع والحطّ سواء علم المالك الحطّ أو لم يعلم إلاّ أنّه بالحطّ بعد الإجازة يثبت له الخيار .
3 - إذا تعدّدت التّصرّفات وأجاز المالك أحدها أجاز العقد الّذي أجازه خاصّةً ، فلو باع الغاصب العين المغصوبة ثمّ باعها المشتري أو أجّرها أو رهنها وتداولتها الأيدي فأجاز مالكها أحد هذه العقود جاز العقد الّذي أجازه خاصّةً لتوقّف كلّها على الإجازة فإذا أجاز عقداً منها جاز ذلك خاصّةً ولم نعثر لغير الحنفيّة على ما يتعلّق بهذا .
( رفض الإجازة ) :
22 - يحقّ لمن له الإجازة أن يردّ التّصرّف المتوقّف عليها ، وإذا ردّه فليس له أن يجيزه بعد ذلك لأنّه بالرّدّ أصبح التّصرّف باطلاً . الرّجوع عن الإجازة :
23 - إذا أجاز من له الإجازة التّصرّف ، فليس له أن يرجع عن الإجازة بعد ذلك ، فمن سمع أنّ فضوليّاً باع ملكه فأجاز ولم يعلم مقدار الثّمن ، فلمّا علم ردّ البيع ، فالبيع قد لزم ، ولا عبرة لردّه لصيرورة البائع المباشر للبيع - وهو الفضوليّ هنا - كالوكيل .
ثانياً : الإجازة بمعنى الإعطاء 24 - الإجازة بمعنى الإعطاء . وهي بمعنى العطيّة من حاكم أو ذي شأن كمكافأة على عمل وبيان ذلك في مصطلح هبة .
ثالثاً : الإجازة بمعنى الإذن بالإفتاء أو التّدريس 25 - أمّا الإجازة بمعنى الإفتاء أو التّدريس فلا يحلّ إجازة أحد للإفتاء أو تدريس العلوم الدّينيّة إلاّ أن يكون عالماً بالكتاب والسّنّة والآثار ووجوه الفقه واجتهاد الرّأي عدلاً موثوقاً به .
رابعاً : الإجازة بمعنى الإذن في الرّواية 26 - اختلف العلماء في حكم رواية الحديث بالإجازة والعمل به فذهب جماعة إلى المنع وهو إحدى الرّوايتين عن الشّافعيّ ، وحكي ذلك عن أبي طاهر الدّبّاس من أئمّة الحنفيّة ولكنّ الّذي استقرّ عليه العمل وقال به جماهير أهل العلم من أهل الحديث وغيرهم القول بتجويز الإجازة وإباحة الرّواية بها ، ووجوب العمل بالمرويّ بها .
27 - وتستحسن الإجازة برواية الحديث إذا كان المجيز عالماً بما يجيز ، والمجاز له من أهل العلم ، لأنّها توسّع وترخيص يتأهّل له أهل العلم لمسيس حاجتهم إليها ، وبالغ بعضهم في ذلك فجعله شرطاً فيها ، وقد حكى ذلك أبو العبّاس الوليد بن بكر المالكيّ عن الإمام مالك رحمه الله .
( أنواع الإجازة بالكتب ) 28 - وكما جرت العادة برواية الحديث بالإجازة ، جرت كذلك برواية الكتب وتدريسها بها وهي على أنواع : النّوع الأوّل : أن يجيز إنساناً معيّناً في رواية كتاب معيّن ، كقوله : « أجزت لك رواية كتابي الفلانيّ » . النّوع الثّاني : أن يجيز لإنسان معيّن رواية شيء غير معيّن ، كقوله : « أجزت لك رواية جميع مسموعاتي » . وجمهور الفقهاء والمحدّثين على تجويز الرّواية بهذين النّوعين وعلى وجوب العمل بما روي بهما بشرطه مع العلم أنّ الخلاف في جواز العمل بالنّوع الثّاني أكثر بين العلماء . النّوع الثّالث : إجازة غير معيّن رواية شيء معيّن كقوله : « أجزت للمسلمين رواية كتابي هذا " وهذا النّوع مستحدث فإن كان مقيّداً بوصف حاضر فهو إلى الجواز أقرب ويقول ابن الصّلاح : « لم نر ولم نسمع عن أحد ممّن يقتدى به أنّه استعمل هذه الإجازة » . النّوع الرّابع : الإجازة لغير معيّن برواية غير معيّن ، كأن يقول : أجزت لكلّ من اطّلع على أيّ مؤلّف من مؤلّفاتي روايته وهذا النّوع يراه البعض فاسداً واستظهر عدم الصّحّة وبذلك أفتى القاضي أبو الطّيّب الطّبريّ وحكى الجواز عن بعض الحنابلة والمالكيّة . وهناك أنواع أخرى غير هذه ذهب المحقّقون إلى عدم جواز العمل بها .