عليه وسلم أبي بكر عبدِ الله بن أبي قُحافة، التَّيْمِيَّةُ، أمُّ المؤمنين، زوجةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَفْقَهُ نساء الأمة على الإطلاق، وأفضلُ نسائه جميعًا عدا خديجة رضي الله عنها. تَزوَّجها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها وذلك قبل الهجرة ببضعة عشر شهرًا، وقيل بعامين، ودخل بها في شوال سنة اثنتين، فرَوَتْ عنه علمًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه. وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟» قال: «عَائِشَةُ»؛ متفق عليه: البخاري [3662]، ومسلم [2384]. وفي الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى الطَّعَامِ
1-ترجمة للصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما
.
اسمه وكنيته ونسبه:
هو الصحابي الجليل الكبير العالم العَلم عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار . الإمام الحبر, فقيه الأمة, أبو عبد الرحمن الهذلي المكي المهاجري البدري , حليف بني زهرة .
إسلامه ومشاهده:
كان من السابقين الأولين , ومن النجباء العالمين , شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهاجر الهجرتين , وكان يوم اليرموك على النفل.
وعن زيد بن وهب قال : قال عبد الله : إن أول شيء علمته من أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : قدمت مكة مع عمومة لي أو أناس من قومي , نبتاع منها متاعا , وكان في بغيتنا شراء عطر , فأرشدونا على العباس , فانتهينا إليه , وهو جالس إلى زمزم , فجلسنا إليه , فبينا نحن عنده , إذ أقبل رجل من باب الصفا , أبيض , تعلوه حمرة , له وفرة جعدة , إلى أنصاف أذنيه , أشم , أقنى , أذلف , أدعج العينين , براق الثنايا , دقيق المسربة , شثن الكفين والقدمين , كث اللحية , عليه ثوبان أبيضان , كأنه القمر ليلة البدر , يمشي على يمينه غلام حسن الوجه , مراهق أو محتلم , تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها , حتى قصد نحو الحجر , فاستلم , ثم استلم الغلام , واستلمت المرأة , ثم طاف بالبيت سبعا , وهما يطوفان معه , ثم استقبل الركن , فرفع يده وكبر , وقام ثم ركع , ثم سجد ثم قام . فرأينا شيئا أنكرناه , لم نكن نعرفه بمكة .
فأقبلنا على العباس , فقلنا : يا أبا الفضل ، إن هذا الدين حدث فيكم , أو أمر لم نكن نعرفه ؟ قال : أجل والله ما تعرفون هذا , هذا ابن أخي محمد بن عبد الله , والغلام علي بن أبي طالب , والمرأة خديجة بنت خويلد امرأته , أما والله ما على وجه الأرض أحد نعلمه يعبد الله بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة .
وقال ابن إسحاق : أسلم ابن مسعود بعد اثنين وعشرين نفسا , وعن يزيد بن رومان قال : أسلم عبد الله قبل دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- دار الأرقم .
وأخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن ابن مسعود قال:" كنت أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط , فمر بي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر , فقال : يا غلام ، هل من لبن ؟ قلت : نعم , ولكني مؤتمن , قال : فهل من شاة لم ينز عليها الفحل ؟ فأتيته بشاة , فمسح ضرعها , فنزل لبن , فحلب في إناء , فشرب , وسقى أبا بكر , ثم قال للضرع : اقلص , فقلص . زاد أحمد قال : ثم أتيته بعد هذا , ثم اتفقا - فقلت : يا رسول الله ، علمني من هذا القول , فمسح رأسي , وقال : يرحمك الله إنك غُلَيِّمٌ مُعلَّم "
وعن عكرمة عن ابن عباس قال: ما بقي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد إلا أربعة , أحدهم ابن مسعود .
وقال عبد الله ابن مسعود: انتهيت إلى أبي جهل وهو صريع , وهو يذب الناس بسيفه , فقلت : الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله . قال : هل هو إلا رجل قتله قومه , فجعلت أتناوله بسيف لي , فأصبت يده , فنذر سيفه , فأخذته ، فضربته به حتى برد , ثم خرجت حتى أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وكأنما أقل من الأرض , فأخبرته , فقال : الله الذي لا إله إلا هو . قال : فقام معي حتى خرج يمشي معي حتى قام عليه , فقال : الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله , هذا كان فرعون هذه الأمة .
قال عبد الله : فنفلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيفه .
علمه وتعليمه
كان من كبار القرّاء للقرآن ورواة العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين منهم أبو موسى , وأبو هريرة , وابن عباس , وابن عمر , وعمران بن حصين , وجابر , وأنس , وأبو أمامة , في طائفة من الصحابة , وعلقمة , والأسود , ومسروق , وعبيدة , وأبو وائلة , وقيس بن أبي حازم , وزر بن حبيش , والربيع , بن خثيم , وطارق بن شهاب , وزيد بن وهب , وولداه أبو عبيدة وعبد الرحمن , وأبو الأحوص عوف بن مالك , وأبو عمرو الشيباني , وخلق كثير من التابعين .
وروى عنه القراءة أبو عبد الرحمن السلمي , وعبيد بن نضيلة , وطائفة .
أخرج له أهل الكتب العشرة والمسانيد والمصنفات وكان من العلماء المعدودين والمجتهدين المشهورين والمعلمين والدعاة الموفقين.وكان معدودا في أذكياء العلماء والفقهاء.
فضائله
كان من المستضعفين الذين طلبت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم طردهم كما رواه المقدام بن شريح عن أبيه , عن سعد قال : كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن ستة , فقال المشركون : اطرد هؤلاء عنك فلا يجترئون علينا , وكنت أنا , وابن مسعود , ورجل من هذيل , ورجلان نسيت اسمهما , لوقع في نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- ما شاء الله , وحدث به نفسه , فأنزل الله تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) .
وكان ابن مسعود أول من إخترق حظر قريش على قراءة القرآن:
كانت قريش قد إئتمرت واتفقت على منع قراءة القرآن حول الكعبة من المسلمين حتى لا يسمعه كفار قريش فقام عبدالله بن مسعود وتوجه إلى الكعبة متحديا الحظر وقرء القرآن وتحمل ما نزل به في سبيل الله قال ابن اسحاق: حدثني يحيى بن عروة بن الزبير , عن أبيه قال : أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن مسعود .
و عن أبي الأحوص سمعت أبا مسعود وأبا موسى حين مات عبد الله بن مسعود , وأحدهما يقول لصاحبه : أتراه ترك بعده مثله ؟ قال : لئن قلت ذاك , لقد كان يؤذن له إذا حجبنا ويشهد إذا غبنا .
وأخرج البخاري والنسائي من حديث أبي موسى قال : قدمت أنا وأخي من اليمن , فمكثنا حينا , وما نحسب ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- لكثرة دخولهم وخروجهم عليه .
وفي رواية عنه قال: والله لقد رأيت عبدالله وما أراه إلا عبد آل محمد صلى الله عليه وسلم.
و عن عبد الله ابن مسعود ، قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : يا عبد الله , إذنك علي أن ترفع الحجاب , وتسمع سوادي حتى أنهاك .
وفي لفظ : أن ترفع الستر , وأن تستمع سوادي .
والسواد : السرار , وقيل : المحادثة .
وكان ابن مسعود صاحب سواد رسول الله -يعني سره- ووساده -يعني فراشه- , وسواكه , ونعليه , وطهوره . وهذا يكون في السفر .
وعن القاسم بن عبد الرحمن قال : كان عبد الله يلبس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نعليه , ثم يمشي أمامه بالعصا , حتى إذا أتى مجلسه , نزع نعليه , فأدخلهما في ذراعه , وأعطاه العصا , وكان يدخل الحجرة أمامه بالعصا .
وعن عبد الله بن شداد قال : كان عبد الله صاحب الوساد والسواك والنعلين .
وعن عبد الله ، قال : لما نزلت (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ)
الآية , قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : قيل لي : أنت منهم رواه مسلم .
وكان هديه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال حذيفة : إن أشبه الناس هديا ودلا وقضاء وخطبة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حين يخرج من بيته , إلى أن يرجع , لا أدري ما يصنع في أهله لعبد الله بن مسعود , ولقد علم المتهجدون من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أن عبد الله من أقربهم عند الله وسيلة يوم القيامة .
هجرته
هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى ثم هاجر إلى المدينة مع السابقين الأولين وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير ابن العوام رضي الله عنه كما أخرجه أبوداود من حديث أنس.
وقال موسى بن عقبة : وممن قدم من مهاجرة الحبشة , الهجرة الأولى إلى مكة , على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن مسعود , ثم هاجر إلى المدينة .
إهتمامه بالعلم والتعليم وحكمته في الدعوة إلى الله
عن علقمة قال : كنا عند عبد الله , فجاء خباب بن الأرت حتى قام علينا , في يده خاتم من ذهب , فقال : أكل هؤلاء يقرؤون كما تقرأ ؟ فقال عبد الله : إن شئت أمرت بعضهم يقرأ , قال : أجل , فقال : اقرأ يا علقمة ، فقال فلان : أتأمره أن يقرأ وليس بأقرئنا ؟ قال عبد الله : إن شئت حدثتك بما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قومه وقومك . قال علقمة : فقرأت خمسين آية من سورة مريم , فقال عبد الله : ما قرأ إلا كما أقرأ . ثم قال عبد الله : ألم يأن لهذا الخاتم أن يطرح ؟ فنزعه , ورمى به , وقال : والله لا تراه علي أبدا .
وقد شهد له الصحابة بذلك واعترفوا له بالعلم
فعن أبي الأحوص قال : أتيت أبا موسى وعنده عبد الله وأبو مسعود الأنصاري وهم ينظرون إلى مصحف , فتحدثنا ساعة , ثم خرج عبد الله , وذهب , فقال أبو مسعود : والله ما أعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك أحدا أعلم بكتاب الله من هذا القائم .
وعن مسروق قال عبد الله : والذي لا إله غيره لقد قرأت من في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضعا وسبعين سورة , ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لأتيته .
وقال عبد الله بن مرداس : كان عبد الله يخطبنا كل خمس على رجليه , فنشتهي أن يزيد .
وعن شقيق , قال عبد الله : لقد قرأت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبعين سورة , ولقد علم أصحاب محمد أني أعلمهم بكتاب الله , ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني , لرحلت إليه . قال شقيق : فجلست في حلق من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ، فما سمعت أحدا منهم يعيب عليه شيئا مما قال ولا يرد عليه .
وعن زر ابن حبيش , عن عبد الله أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بين أبي بكر وعمر , وعبد الله قائم يصلي , فافتتح سورة النساء يسجلها , فقال -صلى الله عليه وسلم- : من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد . فأخذ عبد الله في الدعاء ، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : سل تعط. فكان فيما سأل : اللهم إني أسألك إيمانا لا يرتد , ونعيما لا ينفد , ومرافقة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- في أعلى جنان الخلد . فأتى عمر عبد الله يبشره , فوجد أبا بكر خارجا قد سبقه , فقال : إنك لسباق بالخير .
وعن قيس بن مروان أنه أتى عمر ، فقال : جئت يا أمير المؤمنين من الكوفة , وتركت بها رجلا يملي المصاحف عن ظهر قلب , فغضب عمر , وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شعبتي الرجل , فقال : ومن هو ويحك ؟ فقال : ابن مسعود . فما زال يطفئ غضبه , ويتسرى عنه حتى عاد إلى حاله , ثم قال : ويحك ! والله ما أعلم بقي من الناس أحد هو أحق بذلك منه , وسأحدثك : كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يزال يسمر عند أبي بكر الليلة كذلك في الأمر من أمر المسلمين , وإنه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه , فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- , وخرجنا معه , فإذا رجل قائم يصلي في المسجد , فقام رسول الله يسمع قراءته , فلما كدنا أن نعرفه , قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد . قال : ثم جلس يدعو , فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول له : سل تعطه . فقلت : والله لأغدون إليه فلأبشره , قال : فغدوت فوجدت أبا بكر قد سبقني .رواه أحمد في "مسنده"
وعن الحارث عن علي , قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : لو كنت مؤمراً أحدا عن غير مشورة لأمرت عليهم ابن أم عبد .
وعن علي رضي الله عنه قال : أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابن مسعود , فصعد شجرة يأتيه منها بشيء , فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله , فضحكوا من حموشة ساقيه , فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ما تضحكون ؟ لرجل عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد .
وعن حذيفة قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر , واهتدوا بهدي عمار , وتمسكوا بعهد ابن أم عبد .
وعن زيد بن وهب , عن عبد الله ، قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد .
وعن جعفر بن عمرو بن حريث : عن أبيه قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : قد رضيت لكم ما رضي لكم ابن أم عبد .
وهذا يدل على عمق علم عبدالله ابن مسعود بمسائل العلم والقضاء والسياسة الشرعية.
وعن عبد الله ، قال : قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : اقرأ علي القرآن . قلت : يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : إني أشتهي أن أسمعه من غيري . فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت : (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) فغمزني برجله , فإذا عيناه تذرفان .
وفي لفظ قال : استقرأني النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قائم على المنبر سورة النساء , فقرأت حتى بلغت : (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) فاغرورقت عينا النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: : من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد .
وكان ممن يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجله :
قال عمرو بن العاص: أشهد على رجلين أنه مات-يعني النبي صلى الله عليه وسلم- وهو يحبهما : ابن أم عبد وابن سمية.
وعن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : إنه لم يكن نبي إلا وقد أعطى سبعة نجباء رفقاء وزراء , وإني أعطيت أربعة عشر : حمزة , وأبو بكر , وعمر , وعلي , وجعفر , وحسن , وحسين , وابن مسعود , وأبو ذر , والمقداد وحذيفة , وعمار , وسلمان .
وكان خطيبا مفوَّها يهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن أبي الدرداء قال : خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبة خفيفة , فلما فرغ من خطبته قال : يا أبا بكر ، قم فاخطب . فقام أبو بكر , فخطب , فقصر دون النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال : يا عمر ، قم فاخطب . فقام عمر , فقصر دون أبي بكر , ثم قال : يا فلان ، قم فاخطب , فشقق القول , فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : اسكت أو اجلس , فإن التشقيق من الشيطان , وإن البيان من السحر . وقال : يا ابن أم عبد ، قم فاخطب , فقام , فحمد الله وأثنى عليه , ثم قال : أيها الناس , إن الله -عز وجل- ربنا , وإن الإسلام ديننا , وإن القرآن إمامنا , وإن البيت قبلتنا , وإن هذا نبينا - وأومأ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- رضينا ما رضي الله لنا ورسوله , وكرهنا ما كره الله لنا ورسوله ، والسلام عليكم .
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : أصاب ابن أم عبد وصدق , رضيت بما رضي الله لأمتي وابن أم عبد , وكرهت ما كره الله لأمتي وابن أم عبد .
وعن عبد الرحمن بن يزيد قال : قلنا لحذيفة : أخبرنا برجل قريب السمت والدل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نلزمه , قال : ما أعلم أحدا أقرب سمتا ولا هديا ولا دلا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يواريه جدار بيته من ابن أم عبد . ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن ابن أم عبد من أقربهم إلى الله زلفة .
وعن علقمة قال : كان عبد الله يشبه النبي -صلى الله عليه وسلم- في هديه ودله وسمته , وكان علقمة يشّبه بعبد الله .
وكتب عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة : إنني قد بعثت إليكم عمارا أميرا، وابن مسعود معلما ووزيرا , وهما من النجباء من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- من أهل بدر , فاسمعوا لهما واقتدوا بهما , وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي .
وعن خيثمة قال : كنت جالسا عند عبد الله بن عمرو , فذكر ابن مسعود , فقال : لا أزال أحبه بعد إذ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : استقرئوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود , فبدأ به , وأبي بن كعب , ومعاذ بن جبل , وسالم مولى أبي حذيفة .
توجيهات عبد الله اب مسعود رضي الله عنه لطلابه وأصحابه
لما أراد عبد الله أن يأتي المدينة , جمع أصحابه , فقال : والله إني لأرجو أن يكون قد أصبح اليوم فيكم من أفضل ما أصبح في أجناد المسلمين من الدين والعلم بالقرآن والفقه , إن هذا القرآن أنزل على حروف , والله إن كان الرجلان ليختصمان أشد ما اختصما في شيء قط , فإذا قال القارئ : هذا أقرأني , قال : أحسنت . وإنما هو كقول أحدكم لصاحبه : أعجل وحي هلا .
ولما بعث عثمان إلى ابن مسعود يأمره بالمجيء إلى المدينة , اجتمع إليه الناس , فقالوا : أقم فلا تخرج , ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه . فقال : إن له علي طاعة , وإنها ستكون أمور وفتن لا أحب أن أكون أول من فتحها . فرد الناس وخرج إليه .
منزلته عند الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم
عن زيد بن وهب قال : إني لجالس مع عمر بن الخطاب , إذ جاء ابن مسعود , فكاد الجلوس يوارونه من قصره , فضحك عمر حين رآه , فجعل عمر يكلمه , ويتهلل وجهه , ويضاحكه , وهو قائم عليه , ثم ولى , فأتبعه عمر بصره حتى توارى , فقال : كُنَيْف مُلِئ علما .
وذكر عمر ابن مسعود ، فقال : كنيف ملئ علما آثرت به أهل القادسية .
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل الكوفة: إني والله الذي لا إله إلا هو آثرتكم به على نفسي , فخذوا منه .
وأرسل عثمان إلى عبد الله بن مسعود يسأله عن رجل طلق امرأته , ثم راجعها حين دخلت في الحيضة الثالثة , فقال ابن مسعود : وكيف يفتي منافق ؟ فقال عثمان : نعيذك بالله أن تكون هكذا , قال : هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة .
و لما عليٌّ قدم الكوفة , أتاه نفر من أصحاب عبد الله , فسألهم عنه حتى رأوا أنه يمتحنهم , فقال : وأنا أقول فيه مثل الذي قالوا وأفضل , قرأ القرآن , وأحل حلاله , وحرم حرامه , فقيه في الدين , عالم بالسنة .
وعن أبي البختري , عن علي وقيل له : أخبرنا عن عبد الله , فقال : علم الكتاب والسنة , ثم انتهى .
واستفتي أبو موسى في شيء من الفرائض , فغلط , وخالفه ابن مسعود , فقال أبو موسى : لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم .
وعن أبي موسى قال : مجلس كنت أجالسه ابن مسعود أوثق في نفسي من عمل سنة .
وعندما جاء نعي عبد الله إلى أبي الدرداء , قال : ما ترك بعده مثله .
منزلته العلمية عند علماء التابعين
عن مسروق قال : شاممت أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فوجدت علمهم انتهى إلى ستة : علي , وعمر , وعبد الله , وزيد , وأبي الدرداء , وأبي . ثم شاممت الستة , فوجدت علمهم انتهى إلى علي , وعبد الله .
وقال أبو وائل : ما أعدل بابن مسعود أحدا .
وقال الشعبي : ما دخل الكوفة أحد من الصحابة أنفع علما ولا أفقه صاحبا من عبد الله .
تحريه وصدقه وأمانته العلمية
عن مسروق قال : حدثنا عبد الله يوما ، فقال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرعد حتى رعدت ثيابه , ثم قال نحو ذا أو شبيها بذا .
وعن عمرو بن ميمون قال : صحبت عبد الله ثمانية عشر شهرا فما سمعته يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا حديثا واحدا . فرأيته يفرق , ثم غشيه بهر , ثم قال نحوه أو شبهه .
عبادته وخشيته لله
كان من الأوابين الخاشعين
عن عبيد الله ابن عبدالله قال : كان عبد الله إذا هدأت العيون , قام فسمعت له دويا كدوي النحل .
وكان ابن مسعود حسن الصوت بالقرآن .
وعن زيد بن وهب قال : رأيت بعيني عبد الله أثرين أسودين من البكاء .
عن القاسم بن عبد الرحمن أن ابن مسعود كان يقول في دعائه : خائف مستجير , تائب , مستغفر , راغب , راهب.
من أقواله ووصاياه رضي الله تعالى عنه
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لو سخرت من كلب , لخشيت أن أكون كلبا , وإني لأكره أن أرى الرجل فارغا ليس في عمل آخرة ولا دنيا.
وقال: من أراد الآخرة أضر بالدنيا , ومن أراد الدنيا , أضر بالآخرة , يا قوم فأضروا بالفاني للباقي .
وكان يقول : إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة , وأعمال محفوظة , والموت يأتي بغتة , من زرع خيرا يوشك أن يحصد رغبة , ومن زرع شرا يوشك أن يحصد ندامة , ولكل زارع مثل ما زرع , لا يسبق بطيء بحظه , ولا يدرك حريص ما لم يقدر له , فمن أعطي خيرا , فالله أعطاه , ومن وقي شرا , فالله وقاه , المتقون سادة , والفقهاء قادة , ومجالستهم زيادة .
وعن أبي وائل , عن عبد الله ، قال : ارض بما قسم الله تكن من أغنى الناس , واجتنب المحارم تكن من أورع الناس , وأد ما افترض عليك تكن من أعبد الناس .
و عن عمرو بن جندب , عن ابن مسعود قال : جاهدوا المنافقين بأيديكم , فإن لم تستطيعوا , فبألسنتكم , فإن لم تستطيعوا إلا أن تكفهروا في وجوههم فافعلوا .
وفاته رضي الله عنه
مات ابن مسعود بالمدينة , ودفن بالبقيع سنة اثنتين وثلاثين. أرخه فيها جماعة .
وعاش بضعا وستين سنة .رضي الله تعالى عنه وأرضاه.