الحمد لله و الصلاة و السلام على صاحب الخلق العظيم سيدنا محمد النبي الكريم و على آله و صحبه و التابعين لهم باحسان إلى يوم الدين
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .. و بعد
فهذه سلسلة من النثر بعنوان " قراءة في كتاب " ، جمعت فيها ما خلج في الخاطر ، و خطه قلم اليراع بالمحابر ، نثر ليس كأيّ نثر ، من جمال المعنى مجتبى ، و من جلال المبنى مرتقى .. يطوف بك حول عرصات كتاب ، بتحليل سلس لصفحات الأبواب ، فيسر بذلك الناظر إليه ، و يمتع الذوق ، و يصنع التوق ..
قراءة في كتاب " صاحب الخلق الراقي " .
هذا الكتاب من تأليف الدكتور خالد عمر الدسوقي . عضو هيئة تدريس بجامعة الأزهر الشريف .
الطبعة الأولى ( 1427 هـ / 2006م ) .
الحلقة الأولى :قراءة في المقدمة .
لقد قدم المؤلف لهذا الكتاب في مقدمته أنّ أصل موضوعات الكتاب ثلاثة موضوعات تعنى بالشخصية الإسلامية ، الأول منها يتعلق بصفات صاحب الخلق الراقي ، الذي وافقت أخلاقه تعاليم الإسلام و هدي الكتاب و السنة ، و الثاني موضوع يتعلق بالتفريق بين الاخلاق التي حث عليها الشرع الحنيف ، و الأخلاق المنهي عنها . و الثالث من الموضوعات يتعلق بحسن التصرف في المواقف التي يتعرض لها الإنسان في الحياة مستعرضا بذلك نماذج من القصص و السير الطريفة و الرائعة من حياة الإنسان المسلم عبر الأزمنة الغابرة ..
و بما أنّ الموضوعات الثلاثة كان لها من عناية الجمع و التأليف حظ كريم فقد عزم المؤلف بجمعها في كتاب سماه " صاحب الخلق الراقي " .
و مع الباب الأول من الكتاب سنستعرض الفصل الأول منه في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى ، فإلى الملتقى بحول الله ..
يبدأ المؤلف بتمهيد لطيف ، يشير فيه إلى أنّ الطباع غلابة ، و أنّ الأخلاق مرآة الإيمان ، و أن النفوس الإنسانية قد تغير حالها في الأخلاق ، فمن مقتصد لا يشمر إلى معالي الكرم ، و من يتصف بالأناة و هو عن المبادرة بعيد ، و من بلغ مرتبة الحلم و نسي مرتبة العزة .. و هكذا و يعزو المؤلف ذلك إلى أنّ الناس يتصرفون وفق الهوى و الطبع و العادة ، و هم في منأى عن منهج الشرع في التحلي بالأخلاق ..و هنا يستدل المؤلف بكلام ابن القيم إلى أنّ الشخصية النبوية كانت جامعة لخصال الخير و الأخلاق .. و لذلك احتج كل فريق بما عنده من جواهر الخصال و الأفعال .. فنجد الفقير يحتج بصبره على أنّه من أعظم الخصال و الصفات ، بينما نجد الغني في المقابل يحتج بشكره .. فهل الأفضل الصبر مع الفاقة و العوز أم الأفضل الغني مع الشكر ؟ لا ريب أن كلا الأمرين حسن ، فمن ابتلي فالصبر خير له ، و من رزق رزقا فالشكر خير له ... فهذا هو خلق المؤمن شاكر حال السراء ، و صابر حال الضراء .. و من الاحتجاج أيضا احتجاج أهل العبادة بنوافلهم أمام احتجاج أهل المعرفة على فضل المعرفة ، و احتج الغزاة و المجاهدون بفضلهم على العلماء و الفقهاء .. و قد علمنا أن مداد العلماء يوزن بدماء الشهداء .. و هكذا فالأخلاق و الصفات و الخصال في الخير و الدين كثيرة حتى بلغ في ذلك ما بلغ في شأن الاحتجاج بالمفاضلة .. و لذلك قرر المؤلف هنا بأنّ يكتفي بذكر سبع صفات لصاحب الخلق الراقي المتخلق بأخلاق الشخصية النبوية سيرا على المنهاج و قياسا على الوصف .. حيث جعل من هذه الصفات السبع فصولا للباب الأول ، فكان الفصل الأول منه هو الصفة الأولى من الصفات السبع و هي :
قلبه مع الله و بدنه مع السبب .
يبدأ المؤلف الفصل الأول منبها إلى فضل التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب ، ثم يأخذ المؤلف بتصوير واقع كثير من الناس و هم قد أفرطوا في التوكل إلى حد ترك الأسباب ، فإذا قلت لشخص احتط و خذ حذرك ، أجابك دعها و توكل ! و يجزم المؤلف هنا أنّ ذلك من أسباب تخلف الركب و توقف المسيرة في هذه الأمة .. ثم يذكر أنّ طائفة أخرى من الناس انشغلت بالأسباب عن المسبب .. لكن بين ذلك كله من هو صاحب الخلق الراقي ؟ إنّه من كان يقتدي بالنبي صلّى الله عليه و آله و سلّم ، يأخذ بالأسباب في الأمور كلها ، و في ذات الحال موكل الأمور إلى مسببها ، فالبدن في شغل و عمل ، و القلب متوكل على مولاه ، يؤمن بأنّه الرازق لكنه يعمل ليجني ثمار الرزق ، يؤمن بأنّ الله الشافي لكنه يجتهد في تحصيل العلاج ، هو شخصية انتجت صاحب الخلق الراقي . إنّ في صفحات التأريخ ما ينبئك عن سيرة الحبيب محمد عليه الصلاة و السلام في التخلق بهذا الخلق العظيم ، و ذلك ما حدث في بيعة العقبة الثانية و كيف أنّ النبي عليه الصلاة و السلام و أصحابه و ضعوا خطة و نظاما أخذا بالأسباب مع توكلهم لرب السماوات و الأرض .. كما نجد في صفحات سير الصالحين ما يعزز هذا المفهوم الخلقي العظيم ، فنجد في سيرة السيدة مريم عندما أمرت أن تهزّ جذع النخلة ليتساقط عليها الرطب حتى تأكل .. رغم أنّها محفوفة بعناية الله تعالى إلا أنّ الأخذ بالأسباب مع التوكل هو الخلق الراقي الكامل للمؤمن ..
فيا صاحب الخلق الراقي توكل على الله و خذ بالأسباب ، و ليكن قلبك موقنا بمعية الله و توفيقه ..
و إلى الملتقى في الحلقة الثالثة من السلسلة مع الفصل الثاني من الباب الأول إن شاء الله ...
و يمضي المؤلف في عرض الصفات السبع لصاحب الخلق الراقي و مع الصفة الثانية .. عادل رحيم .
فهو متصف بالرحمة المحمودة بين الأنام ، ممتدح بذلك في حال العدل ، و مذموم بذلك في حال التجاوز و الميل نحو الظلم .. فالقاضي لا يقضي رحمة للفقير ضد الغني بسبب الرحمة ، بل ينبغي أن يقضي بينهما على أساس العدالة .. و الأستاذ المعلم لا يمنح الدرجات على أساس الرحمة بل يمنحها للمستحق فلكل مجتهد نصيب ..
و خلق الرحمة من الأخلاق الرفيعة ، و من السجايا الكريمة ، تخلق لمن تخلّق بها محبة القلوب ، فمن كان رحيما في معاملاته ألفته البشر ، و صنعت له في القلوب القبول ، فأكرم بها من سجية خلقية ، رفعت صاحبها للدرجات العالية ..
ثم يمضي المؤلف واصفا صاحب الخلق الراقي بأنّه عادل مع رحمته ، فهو عادل في قوله و فعله ، عادل في حكمه ، بعيد عن الظلم أيما بعد .. فالعادل الرحيم لا يكون قاسيا قلبه ، و لا معنفا لمن حوله ، فهو لا يتصف بالغلظة في التعامل ، بل سلس سهل مألوف ، ترى فيه نور الرحمة و العطف ممزوجا بشعاع العدالة و الضبط في الميزان .. و قد ألبس تاج الرحمة العادلة ، و العدل الرحيم ..
ثم يسترسل المؤلف و يسأل : هل يجتمع العدل و الرحمة ؟
نعم كيف لا يجتمعان ، و قد انبلج في القرآن ، كلمتا العدل و الإحسان ..
نعم كيف لا يجتمعان ، و قد ثبتت رحمة و عدل النبي عليه الصلاة و السلام في قصة اليتيم و أبي لبابة ، فكان الحكم لأبي لبابة بسبب العدالة ، و كان كلام النبي عليه الصلاة والسلام لأبي لبابة بأنّ له عذق في الجنة إذا ما أعطى ذلك الصغير اليتيم تلك النخلة التي ملكت قلب الصغير رحمة به ، إلا أن صحابيا آخر قد فاز بالموعود و اشترى النخلة و وهبها للصغير .. فأيّ رحمة و أيّ عدالة بعد ذلك كله ..
و هكذا يمضي المؤلف ساردا الدلائل من الكتاب و السنة على اجتماع خلق الرحمة و العدل في الشخصية النبوية ، الشخصية القدوة و الأسوة الحسنة لصاحب الخلق الراقي ..
فيا صاحب الخلق الراقي أنما رقيّك بالرحمة و العدل معا ..
و إلى الملتقى في الحلقة الرابعة من الفصل الثالث من الباب الأول إن شاء الله ..
يشير المؤلف بالفصل الثالث إلى الصفة الثالثة و هي أن صاحب الخلق الراقي يحسن الظن بإخوانه و يتجنب ما يريبهم .
و في هذا نرى المؤلف قد بدأ بتقسيم الناس في هذا الشأن إلى فريقين ، فريق يتهمه الناس و لا يعبأ بذلك و يرى أنّ الأمر بينه و بين ربه .. و فريق ثاني يتهم الناس لكنه محتاط لمواضع الاتهام حريص بصير ..
و هنا يسأل المؤلف أين صاحب الخلق من الفريقين ؟
بطبيعة الحال صاحب الخلق الراقي ليس مع أيّ من الفريقين ، ذلك لأنّه راقي في أخلاقه فيتنزه عن اتهام الغير و الظن بهم ، راقي بأخلاقه و صفاته فهو لا يطأ مواضع الشبهة و الاتهام ..
ثمّ يستدل المؤلف ببعض من الأدلة الشرعية في الموضوع ، و من ذلك حديث الأفك .. و ما تمخض عنه من دروس للأمَة ..
ثمّ يعرّج المؤلف باقتباس من سير الصالحين ما يستدل به على ذلك ..
و لا ريب أنّ التماس العذر لأخيك المؤمن من الخصال الإسلامية التي حفز المسلم عليها ، فالتمس لأخاك سبعين عذرا .. و صاحب الفضل يتأول هفوات الأخوان على النحو الحسن .. فكفى به خلقا شريفا ..
كذلك من الخلق أن يتجنب ما يريب الإخوان .. و يأتي هنا المؤلف ليسرد قول النبي عليه الصلاة و السلام للرجلين عندما كان ماشيا مع صفية بنت حيي ..
و بعد سوق الأدلة الشرعية يذكر المؤلف أن العلماء اتفقوا على أنّ للمسلم أن يتجنب مواضع التهم .. و قد عد العلماء ذلك من الوجوب في حق المسلم .
فبعد كل ذلك نعلم أن صاحب الخلق الراقي من أمّن نفسه عن مواطن التهمة حتى لا يقع في الناس عليه ظن سيء ، كما أنّه لا يظن باخيه سوءا ، بل يلتمس لأخيه سبعين عذرا ، و إلا اتهم نفسه ..
فيا صاحب الخلق الراقي إنّما رقيّك بحسن ظنك بإخوانك و بتجنبك ما يريبهم .
و إلى الملتقى مع الحلقة الخامسة من الفصل الرابع من الباب الأول إن شاء الله
يضيف المؤلف في هذا الفصل الصفة الرابعة لصاحب الخلق الراقي ، فيصفه بأنّه شاكر لا يطلب الشكر .
حيث يبدأ المؤلف بوصف الناس بشيء من الصفات السائدة بينهم و هي إنكار المعروف و الجميل ، و جحود النعمــة ... و يضرب لذلك مثلا المقرض و تعنيفه للمقترض و في المقابل عدم شكر المقرض للمقترض .. و قيام التعامل على أساس المصلحة و حب الثناء ، فإذا انعدمت المصلحة و ذهب الثناء قلّ النشاط و السعي في مصالح الآخر ..
و صاحب الخلق الراقي ليس من صنف الذي ينتظر الشكر و الثناء من الناس حتى يشكر ، و هو أيضا ليس من صنف الجاحد للمعروف الذي لا يشكر الناس .. بل هو أحسن الناس قضاء ، ويقابل الإحسان إحسانا ..و لا ينتظر الشكر من أحد .. يشيع بين الناس معروفا و إحسانا ، لا غاية له في ذلك سوى مرضاة ربّ العالمين ..
فيا صاحب الخلق الراقي إنمّا الرقي بمقابلة الإحسان بالإحسان ، و أن تكون شاكرا لا تنتظر أو تطلب الشكر من أحد .
و إلى الملتقى مع الفصل الخامس من الباب الأول إن شاء الله ..
و يستمر المؤلف في سرد الصفات التي يتميز بها صاحب الخلق الراقي فيصفه بأنّه مؤثر و عفيف .
و هنا يسأل المؤلف هل يمكننا أن نقتدي بأخلاق السلف الصالح و نكون مثلهم في الجود و الكرم و الإيثار .. و نتعفف من سؤال الناس ؟
الأمر يسير بعون الله ، و إنما العوز إلى الهمّة الوقادة ، و النية الطيبة ..
ثمّ يشرع المؤلف في سرد نماذج من سير السلف في التألق بهذا الخلق الرفيع .. و قبل ذلك أشار المؤلف إلى أن الشخص أمام هاتين السجيتين واحد من أربعة ، الأول كريم يؤثر غيره على نفسه و لو بالغالي النفيس و لكنه يسأل غيره كما قبل من غيره أن يسأله ..
و الثاني بخيل لا يصل خيره لغيره ، لكنه لا يسأل الناس ..
و الثالث جمع صفات الأول و الثاني ، فهو لا يجود أبدا و لو بالنزر القليل ، استغل أخلاق غيره في الكرم فأخذ منه أخذا ، فهو يأخذ من غيره و لا يعطي أحدا ..
و الرابع قد جمع الحسنيين ، فهو كريم جدا يجود بكل شيء ، يتصف بالمعطاء الكريم ، يؤثر على نفسه و لو كان به خصاصة .. و هو أيضا عفيف لا يسأل غيره ، سيماه التعفف ..
و لا ريب أنّ الرابع هو صاحب الخلق الراقي الذي اقتدى بالسلف الصالح في الأخلاق الراقية و الصفات السامقة ..فأكرم به من خلق كريم رفع صاحبه لأعلى الدرجات فكان من المكرمين الكرماء ، الراقين لمراقي الرقي ..
قلّب إن شئت صفحات تاريخ الأصفياء الأنقياء الكرماء من هذه الأمة ستجد الكثير من المذكرات اليومية لأولئك الكرماء الذي جادوا بأموالهم و أنفسهم .. و تعففوا أدبا و خلقا .. فحازوا بذلك خلقا راقيا .. فكانوا أصحاب الخلق الراقي ..
فيا صاحب الخلق الراقي أعطي وجود بلا انتظار و لا التفات .. و تعفّف عن سؤال الناس ..
و إلى الملتقى مع الفصل السادس من الباب الأول إن شاء الله
من صفات صاحب الخلق الراقي أنّه عظيم التأثر عظيم الصبر .
و يمضي المؤلف شارحا بأسلوب المقارنة في معادن الناس ، فيذكر أنّ من الناس صاحب الإحساس المرهف يتأثر من كل شيء حوله لكنه لا يحرك ساكنا ، ومن الناس يتأثر لكنه صاحب ردة فعل مع كل المؤثرات ..
ثم يصف المؤف صاحب الخلق الراقي من الفرقين بأنه إنسان يحمل مشاعر الإحساس المرهف و التأثر فيمن حولـــه ، و أنّه قد بلغ بذلك مبلغ الذوق الراقي ، و هو من أخلاق وصفات الصالحين .. ذلك بأنّه قد يتأثر الإنسان من بعض سلوكيات الناس ، و لربما ظهر من ذلك السلوك أذى ، لكن النفس المؤمنة تجدها في مقابل ذلك صابرة مع كونها متأثرة تأثرا ظاهرا و باديا بالملامح .. و هذا من الفطرة الإنسانية بلا ريب .
ثم يبدأ المؤلف بسرد نماذج و أمثلة من السيرة النبوية ، فمن ذلك أنّ النبي عليه الصلاة و السلام كان يتأثر من سماع بعض الأسماء فيغيرها ليستريح القلب بسماعها ، فقد غيّر اسم امرأة كانت تحمل اسم " عاصية " إلى اسم "جميلة " .. لينبلج بذلك منهج تحسين الأسماء في الأمّة .. فالأرض المسمّاة بغدرة تغير إلى اسم خضرة ، و الذي يسمّى من الرجال بإسم حزن يغير إلى اسم سهل .. و هكذا
بل يصل الأمر بهذا الخلق العظيم إلى تقدير موقف الآخر و الصبر عليه مع جمال إحساس وتأثر المتلقي الصابر ، و هنا يستشهد المؤلف بقصة أبي ذّر عندما شكى إلى النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك الشخص الذي يرفع صوته عند الدعاء فيتأذى من صوته الآخر ..... حتى جاء التوجيه النبوي لأبي ذّر " دعه فإنّه أوّه " .
سبحان الله .. أترانا اليوم إذا عاب أحد من الأكابر أو أصحاب المكانة المرموقة في العلم أوالجاه أو المال أحدا فرمقته الأعين .. أترانا قد حققنا معنى ذلك الخلق الكريم ؟؟ خلق عظيم التأثر عظيم الصبر ..! هل حققنا معنى كظم الغيظ ؟ هل حققنا معنى إذا ما غضبنا غفرنا ؟؟ أين نحن من قول " لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر " .؟
فيا صاحب الخلق الراقي كن عظيم التأثر عظيم الصبر و التحمل ، لا يدفعك ذلك للحماقة أو مخالفة الشرع الحنيف و الأدب الإسلامي الكريم .
و إلى الملتقى مع الفصل السابع من الباب الأول إن شاء الله .
الحلقة الثامنة : الفصل السابع من الباب الأول و خاتمة الباب الأول .
هنا نأتي للصفة السابعة من صفات صاحب الخلق الراقي ، فهو أورع من أن يخدع (بفتح الياء) و أعقل من أن يخدع (بضم الياء).
الدين المعاملة ، على أنّ من الناس من أوتي ذكاء وقادا ، و فطنة و نباهة ، و لكن من أولئك من فقد الورع و التقوى ، فاحتال على الناس بقوة تفكيره .. و غشّهم و دلّس عليهم ..
و منهم من كان ورعا تقيا إلا أنّه كان بسيطا سهلا لمصيدة و دهاء الأذكياء .. فاحتالوا عليه بالحيل ، فصار في قبضتهم أسيرا بالدين أو غيره ..
أمّا صاحب الخلق الراقي فهو تقي ورع لا يغش و لا يخدع غيره ..
و هنا يستعرض المؤلف كمّا من الدلائل الشرعية في الموضوع منبها أن المسلم لا يخدع في غير الحرب ، و لا يغش في معاملته ، بل يتخذ من الورع و التقى نبراسا في حياته و معاملاته مع الناس ..
كما أن صاحب الخلق الراقي ينبغي أن يكونا فطنا منتبها ، فلا يشهد مثلا على مكتوب دون تحري أو علم ، و لا يفتح خزانة فيها كنوز أو أشياء هامة أو أسرار ... ثمّ يذهب و يتركها مفتوحة .. بل ينبغي أن يكونا فطنا محتاطا و منتبها ..
فهو لفضله لا يخدع غيره ، و لفطنته لا يخدعه الخبثاء .. فهكذا ينبغي أن تكون يا صاحب الخلق الراقي ، لترقى لمراقي الكمال في الأخلاق و الأدب ..
و في خاتمة الباب الأول يشير المؤلف أنّ هناك جملة من الخصال و الأخلاقيات و الأدبيات .. تعد من أخلاق صاحب الخلق الراقي و لكن لم تذكر في هذا الكتاب ، و لعل أن يكون هنالك مكتوب آخر يجمع تلك الأخلاق .
و من هذه الأخلاق :
·قائد همام و جندي متحمس . ·ينافس لا يحسد . ·يغار و لا يطغى . ·حسن الوجه مع الصيانة . ·حسن الخلق مع الديانة . ·شديد على الكفار رحيم بالمؤمنين . ·لين في غير ضعف . ·سريع الصفح بطيء الغضب . ·يحذر الاعتذار لكن يبادر إليه حين يخطيء .
و هكذا استعرضنا أهم الصفات التي أوردها المؤلف ، و التي أعتبرها أنّها من صفات صاحب الخلق الراقي ، ثم يبدأ المؤلف بعد ذلك بالباب الثاني و الذي عنونه " بدقة الفارق " حيث جاء بصفات و قابلها بأضدادها بأسلوب رائع يمتاز بالابتكار ..
اتمنى أنني وفقت في استعراض و قراءة الباب الأول و سنبدأ في الحلقة القادمة مع الباب الثاني إن شاء الله ..
يبدأ المؤلف الباب الثاني بما ذكره ابن القيم في كتاب " الروح " فيما معناه أنّ الدين كله فرق و القرآن فرقان ، و الضلال جمع بين الحلال و الحرام و بين عبادة الله و عبادة الأوثان .. يمهد المؤلف للدخول بالباب الثاني بتمهيد لطيف فيذكر أحوال النفس البشرية في التصور و الحكم على السلوكيات الإنسانية ، و كيف أن بعض النفوس الإنسانية تستحسن ما يبغضه الشرع ، أو تبغض ما يستحسنه الشرع دون قصد . ثمّ يذكر المؤلف نبذة عن الأخلاق المتداخلة ، كالتواضع مع المذلة ، و كالإقتصاد مع البخل .. و اختلاف تصورات الناس في الحكم على سلوك الإنسان النامي عن هذه الأخلاق المتداخلة .. ثمّ يبين أن هذه الأخلاق ليست غامضة في التصور الإسلامي , و يشير المؤلف إلى اهتمامه في البحث عمّن كتب في هذا الموضوع ، حيث لم يجد شيئا جامعا بين دفتين يفند الموضوع و ينفع به الناس ، إلا ما ذكره الإمام ابن القيم في كتابه " الروح" عن هذه الفروق ، و أنّه قد عزم على تأليف مؤلف يجمع تلك الفروق ، ثمّ يذكر المؤلف أنّ الإمام لم يمهله القدر لتحقيق ذلك المقصد ، لذلك عزم المؤلف على جمع هذه المادة العلمية في قالب كريم سائع ، يسهل على الناس فهمه ، فينتفعون به ، و ينفعون به .. و قد رأى المؤلف هنا أن يكتفي بعشرة فروق بين الأخلاق المتداخلة ، حيث بدأ بالفارق الأول بين التواضع و المهانة .
و إلى الملتقى مع قراءة الفارق الأول في الحلقة القادمة بإذن الله ..
الحلقة العاشرة : الفارق الأول بين التواضع و المهانة .
يبدأ المؤلف بتوضيح أنّ من الناس من يتواضع لدرجة يهين نفسه ـ و قد كرمها الله ـ ، و منهم من يترفع و يتعالى على الخلق بحجة البعد عن المهانة المذمومة .. و يرى المؤلف أن كلا الفريقين مفتون بما يصنع ، و لذلك يرى ضرورة التفريق بين التواضع و المهانة .. يبدأ المؤلف بتعريف التواضع ، و هو من وضع في الأصل ، بمعنى الوضع و الحط في الدلالة ، أيّ التذلل . و في الاصطلاح له تعاريف كثيرة ذكرها أهل العلم ، تنصب في مجرى واحد ، و هو الإنكسار و التذلل و الخفض و الخضوع و الإنقياد .. ثمّ يعرّف المؤلف المهانة ، و هي من وهن في الأصل ، بمعنى الذل و الضعف في الدلالة ، و الإسم الهوان و المهانة . و في الإصطلاح بمعنى الدناءة و الخسة ، و هو يمثل الإنحراف في خلقي التواضع و العزة ، و الإفراط فيهما .. ثمّ يبين المؤلف نظرة الشرع إليهما فيذكر أنّ التواضع خلق محمود ثبت الحثّ عليه بسنة النبي عليه الصلاة و السلام ، و المهانة صفة مذمومة ثبت النهي بكتاب الله و سنة نبيه عليه الصلاة والسلام أن يهين الإنسان نفسه أو يذلها .. يتولد خلق التواضع من العلم بالله و صفاته ، و أنّه تعالى هو الرازق المهيمن سبحانه ، فيتواضع المؤمن في كل أحواله ، بحيث يتعامل مع خلق الله بتواضع ، و يرى لهم الفضل و التقدير .. أمّا صفة المهانة فتتولد من الجهل بحق النفس الإنسانية ، و بما أراده الله لها من الفضل و التكريم .. نسأل الله أن نكون من أهل التواضع لا من أهل المهانة ..
فيا صاحب الخلق الراقي تواضع تكن راقيا في الخلق الكريم .
و إلى الملتقى مع الحلقة (11) و مع الفارق الثاني الفرق بين التكبر و صيانة النفس .. إن شاء الله .
الحلقة (11) الفارق الثاني الفرق بين التكبر و صيانة النفس .
أكرم الله سبحانه النفس الإنسانية ، و سخر لها ما في الأرض ، و صان الشرع حرمتها ، و حفظ حقوقها .. لذلك فإنّ صيانة النفس من الأخلاق الحميدة ، التي ينبغي للمؤمن أن يحرص عليه .. و الإفراط في الشيء إذا ما أدى إلى الإنحراف عن الجادة أمر مذموم و مردود ، و التكبر داء سلوكي أصيب به الكثير من البشر ، حتى وصف به بعض الناس ممن أوتي نصيبا من العلم .. لذلك أصبح من المهم بيانه و التفريق بينه و بين صيانة النفس التي لا تمتد إلى التكبر بحجة الصيانة و عدم اذلال النفس .. و هنا يبدأ المؤلف بتعريف صيانة النفس فيذكر أنّ كلمة صيانة مصدر صان ، و هو بمعنى الحفظ و الوقاية . و في الشرع فمن خلال تتبع المؤلف لكلام الأئمة يعرّف معناها شرعا بأنّها الوقاية من كل ما يعاب و الحفظ من كل ما يخل بالمروءة و الدين . ثمّ يعرّف التكبر فيذكر أنّه في اللغة مصدر تكبّر و أصله كبر و هو بمعنى تعظم و امتنع عن قبول الحق . و في الشرع يأتي بمعنى أن يرى الإنسان نفسه فوق مرتبة غيره ، و فسره بعض أهل العلم بكلام آخر يلتقي فيه المعنى الوضعي و الاصطلاحي . و قد جاء في الحديث بأنّه " بطر الحق و غمط الناس " . ثمّ يبين المؤلف نظرة الشرع إلى صيانة النفس و التكبر من خلال ما جاء بكتاب الله المنزل و سنة نبيه المرسل ، عليه الصلاة و السلام ، و من خلال ما ذكره أهل العلم في هذا الباب . فيذكر المؤلف من خلال ذلك أنّ الإسلام حثّ على صيانة النفس و ذم التكبر ، فالتكبر مذموم عقلا و شرعا ، حتى عدّ من الكبائر . ثم يبين المؤلف الفروق بينهما فيذكر أنّ الصائن لنفسه هدفه الوقاية بينما المتكبر غايته التعالي و اشباع الرغبة ، و أنّ الصائن لنفسه يصون نفسه مع الجميع بينما المتكبر يتكبر على معظم الناس غير أنّه لا يقوى أمام من هم أقوى شكيمة و بأسا و منعة منه .. و أنّ الصائن لنفسه يتجنب سفاسف الأمور بينما المتكبر لا يتجنبها إلا لمعتقده بأنّه الأفضل من غيره ، و أن الصائن لنفسه يعرف أهل الفضل و ينزل الناس منازلهم بينما المتكبر لا يأبه لهم فهو يرى نفسه في غنى عنهم ، و أنّ الصائن لنفسه متواضع مقتدي بهدي النبي عليه الصلاة و السلام بينما المتكبر ربما ترفع عن أمور حث عليها الشرع و ذلك لتعارضها مع نفسه المتكبرة ، و أنّ الصائن لا يتكلف في قوله أو فعله .. بينما المتكبر يتكلف في ذلك .. ثمّ يذكر المؤلف أنّ الصيانة إنّما تنبعث من شرف النفس و سمو همتها ، بينما الكبر ينبعث من دناءة النفس و خستها .. و في ختام هذا الفارق يوضح المؤلف ثلاثة فوائد مكملة في الموضوع ، و هي : الأولى : ليس من التكبر مدح النفس بما هو فيها ، و ذلك لأنّ القصد عند المدح اظهار نعمة الله . الثانية : الكبر الذي لا يدخل صاحبه الجنة هو كبر الكفر ، المناقض للإيمان و ما يستلزمه الإيمان ، وهو غير الكبر المفرّق بينه و بين خلق الصيانة ، رغم كونه محرما و كبيرة من الكبائر . الثالثة : لبس الثياب الجميلة من غير نية التكبر لا إثم فيه ، فإنّما الأعمال بالنيّات ..
نسأل الله أنّ يعيننا على صيانة النفس لتسمو إلى الكمالات ..
و إلى الملتقى مع الحلقة (12) و مع الفارق الثالث " بين الإقتصاد و البخل " .. إن شاء الله .
الحلقة (12) الفارق الثالث :بين الإقتصاد و البخل .
يستمر المؤلف في عرض الفروق الخلقية ، فيتحدث حول الفارق الثالث بين الإقتصاد و البخل ، و يشير إلى أنّ كثيرا من الناس يرمون أقرانهم و من حولهم بالبخل و الشح .. و ذلك بسبب التصورات و الأعراف و العادات التي تصور لهم الشيء المحمود شيئا مذموما .. فمثلا قد تنعت الزوجة زوجها بالبخل إذا أمرها ألا تلقي ببقايا الطعام أو وجهها بأن تجمع كسر الخبز و تحفظها بطريقة معينة و تعيد تقديمها بشكل آخر .. و هو يرى في تلك الأحوال أن ذلك من الإقتصاد لا من البخل .. أو أن ينعت الزوج زوجته بأنّها بخيلة بسبب أنّها لم تقدم للضيوف أنواع الفاكهة و ألوان الحلوى و أصناف الطعام .. و هي ترى أنّها قدمت القدر المعقول و الوزن المقبول ممّا ينبغي أن يقدم للضيف ، و أنّ ذلك لا يعد منقصة منها .. أو أن يتصور للنّاس أنّ الذي لم يغير سيّارته منذ عشر سنوات هو في الحقيقة بخيل .. ثمّ بعد أن يعرض المؤلف أمثلة عديدة حول ذلك ينتقل ليعرّف الخلقين و يبين الفوارق بينهما بميزان الشرع لا بميزان الهوى . فيذكر أنّ الإقتصاد في اللغة هو القصد و الإستقامة و العدل و الوسط بين الطرفين و هو ما بين الإسراف و التقتير .. و في الاصطلاح الشرعي جاءت تعريفات عديدة على لسان الفقهاء ، و خلاصته أنّ الإقتصاد هو القصد في الإنفاق و في طاعة الله .. ثمّ يذكر تعريف البخل في اللغة حيث جاء بمعنى الضن بما عنده ، و هو ضد الكرم ، بينما الشح هو البخل مع الحرص . أمّا معناه في الشرع فيذكر المؤلف بأنّ هناك تنازع بين العلماء في حد البخل شرعا ، و أكثرهم يعرّفه بأنّه منع ما أوجبه الشرع .. ثمّ يستعرض المؤلف نظرة الشريعة الإسلامية إلى الخلقين من خلال كتاب الله و سنة نبيه المرسل عليه الصلاة و السلام . و بعد ذلك يذكر المؤلف الفروق بين الخلقين . فالمقتصد محافظ على النعمة بمنهج الشرع ، بينما البخيل ممسكا للمال حبا و طمعا .. و المقتصد مؤدي للواجبات الشرعية و للمروءة غير مقصّر ، بينما البخيل بخل عن الأداء شرعا أو قصّر فيه . و المقتصد ينفق بنفس مطمئنة راضية ، بينما البخيل إن أنفق خرجت النفقة كنزع جزء من نفسه أو أشد . و المقتصد ينفع غيره بما عنده ، بينما البخيل لا ينفع غيره و لو في شيء يملكه و هو نفسه لا ينتفع به . و المقتصد يعفو عن اليسير و لا يلتفت إلى المحقرات ، بينما البخيل لا يعفو حتى عن ذرّة .. و المقتصد يوسع في نفقته إذا اقتضى الحال ، بينما البخيل ممسك على الدوام و لا تميل نفسه إلى التوسعة حتى على أهله. ثمّ يضيف المؤلف بعض اللطائف من المعاني في الموضوع .
فيا صاحب الخلق الراقي كن من المقتصدين الربانيين تفز بخلق النبيين و الصالحين ..
و إلى الملتقى مع الحلقة (13) ومع الفارق الرابع بين الجود و التبذير .. إن شاء الله
يحتار الإنسان حينما ينفق ماله هل أنفقه على وجه الجود و السخاء أم على وجه الإسراف و التبذير ؟ فمن الناس من ينفق نفقات عديدة و هو يظن أنّه بذلك حاز مرتبة الجود و البذل بينما في منظور الشرع من المبذرين المسرفين . و تجد من الناس من يمسك ماله في مواطن ، يحق فيها البذل و العطاء لا الإمساك . لذلك شرع المؤلف في استجلاء الأمر ببيان معنى الجود و التبذير ، فذكر أنّ الجود بمعنى البذل ، و هو مرادف السخاء . أمّا التبذير فهو تفريق المال إسرافا . ثمّ بين المؤلف نظرة الشرع إلى الجود على أنّه من مكارم الأخلاق حيث حثّ عليه ، أمّا التبذير فهو مذموم و منهي عنه ، حتى وصف المبذرين بأنّهم إخوان الشياطين . ثمّ اتجه المؤلف إلى التفريق بين الخلقين ، فذكر أنّ الجواد المأجور يريد بعمله و جه الله دون المبذر . و أنّ الجواد ينفق في غير المعصية . و أنّ الجواد ينفق ماله في المفيد النافع . و أنّ الجواد ينفق بمقدار و حكمة . و أنّ الجواد يقدم الأهم على المهم . ثمّ يبين المؤلف أنّ هذا الكلام ليس دعوة إلى الإمساك عن بذل المال ، كما أنّه ليس دعوة إلى الحط أو التقليل من شأن الكرماء الذين يجودون بأموالهم في سبيل الحق . و إنمّا هي دعوة لأن تكون الشريعة ميزاننا ، و الله غايتنا ، في جميع نفقاتنا ..
فيا صاحب الخلق الراقي انفق باعتدال بمنهج الشرع ، و كن كريما ، وتجنب الإسراف و التبذير ..
و إلى الملتقى في الحلقة (14) و مع الفارق الخامس بين المداراة و المداهنة .. إن شاء الله .
الحلقة (14) الفارق الخامس بين المداراة و المداهنة .
المدارة من أخلاق المؤمنين ، و المداهنة من طباع المنافقين .. المدارة في أصل اللغة هي المخاتلة ، أي المخادعة و المراوغة ، و داراه يعني لاطفه ، ولاينه ، و رفق به ، و اتقاه . و في الشرع هي الرفق و ترك الإغلاظ في القول . أمّا المداهنة في اللغة فهي إظهار خلاف ما يبطن . و في الشرع يمكن أن نقول من مجموعة تعاريف سردها المؤلف ، أنّه إظهار الرضا لمن فسق أو خالف دون إنكار و دون مبرر شرعي . ثمّ ذكر المؤلف بعضا من الأفعال تعد من المداهنة كالثناء على الرئيس في حضرته و ذمه في غيبته .. و يذكر المؤلف صورا لا تعد من المداهنة كإطعام المنافق .. ثمّ بين المؤلف نظرة الشرع إليهما ، فيذكر بأنّ المدارة محمودة شرعا ، حثّ عليها الشرع ، و قبلتها الفطرة السليمة ، ثم يذكر بأنّ المداهنة حرمها الإسلام بمعناها الشرعي ، و جاء الوعيد لمن تخلق بها أو بفعلها .. ثمّ يذكر المؤلف الفروق بينهما فيبين بأنّ المداري يكره مجالسة الظالمين بينما المداهن لا يكره ذلك . و المداري يبذل دنياه لصلاح دنياه ، و لصلاح دينه ، بينما المداهن يبذل دينه لصلاح دنياه ، و لا يهتم لصلاح دينه ، فهدفه الدنيا فقط . المداري لا يمدح الظالمين طوعا بينما المداهن يسعى و يبادر في ذلك . المداري إن مدح الظالمين مدحهم لضرورة و بصفات الخير فيهم فقط ، بينما المداهن يثني عليهم في جميع الأحوال طمعا في رضاهم .. المداري لا يزين للظالم ظلمه و لو مع لين القول ، بينما المداهن يزين له جميع أفعاله حبا في العاجلة .. المداري ينكر المنكر ما أمكنه و لو بقلبه ، بينما المداهن ، يظهر الرضا به دوما . المداري قصده رضا الله و لو سخط غيره ، بينما المداهن منفعة الدنيا و لو أسخط الله . و في الختام ذكر المؤلف صورا لرجال لم يداهنوا في الدين بل قالوا الحق و تحملوا العاقبة ..
فيا صاحب الخلق الراقي إنما الرقي بالمداراة لا بالمداهنة ..
و إلى الملتقى بالحلقة (15) و مع الفارق السادس بين المنافسة و الحسد ، إن شاء الله .
المؤمن عالي الهمة ، سبّاق إلى الخيرات و معالي الأمور ، لا يتقاعس عن الخير ، ينافس بشرف ، و من غير حسد . المنافسة في اللغة بمعنى المباراة أو الرغبة ، و في الشرع طلب التشبه بالأفاضل و أصحاب الكمالات و لحاقهم أو تجاوزهم في المراتب . كما تطلق المنافسة على الغبطة ، على أنّ الغبطة أمنية و رجاء ، أمّا المنافسة طلب و عمل و سعي يلي الرجاء . و الحسد في اللغة هو تمني تحول نعمة الغير أو سلبها . و قيل هو بمعنى الغبطة مجازا . و في الشرع لا يغاير المعنى اللغوي . ينظر الشرع إلى المنافسة بأنّها خلق كريم ، و يحثّ عليها في أوجه الخير .. و هنا يذكر المؤلف نماذج من سير الصحابة و الصالحين في المنافسة المشروعة .. ثمّ يبين المؤلف أنّ التنافس يدور مع محله وجوبا و جوازا و حرمة ، فهو واجب مع النعم الدينية كالإيمان و الصلاة و الزكاة .. و هو مندوب مع الفضائل كالعلوم و إنفاق المال المبرات . و هو مباح في النعم المباحة كالنكاح .. ثمّ يتكلم المؤلف عن الحسد على أنّه من الأخلاق المذمومة التي انعقد إجماع الأمة على تحريمه .. و أخيرا يبدأ المؤلف بسرد الفروق بين المنافس والحاسد ، فيذكر بأنّ المنافس عالي الهمة ، شريف النفس يسعى للمجد ، بينما الحاسد خسيس النفس ، بطيء الهمة ، يتثاقل عن العمل .. المنافس يحب الخير لنفسه و لغيره ، بينما الحاسد يحبه لنفسه دون غيره . المنافس يدل غيره للخير و يساعده إليه ، بينما الحاسد يضل غيره عن الغير و لا يساعد منافسه أبدا . المنافس غايته رضا مولاه ، بينما الحاسد يتبع هواه . المنافس شغله إصلاح نفسه لترقى إلى المنافس ، بينما الحاسد مشغول بغيره يتمنى له التعثر .. المنافس يسعد حينما يجد له مسابقا ، بينما الحاسد يغتم إذا وجد له منافسا .. المنافس يريد أن يسابق منافسه ، بينما الحاسد يريد أن يبقى قاعدا ، و يعرقل منافسه ليتساويا في الدرجة .
فيا صاحب الخلق الراقي إنمّا الرقي بالمنافسة المشروعة إلى أعلى الدرجات ، و اجتناب الحسد ..
و إلى الملتقى مع الحلقة (16) و مع الفارق السابع بين الحذر و سوء الظن . إن شاء الله .
الحلقة (16) الفارق السابع :بين الحذر و سوء الظن .
المؤمن نقي بفطرته ، عفيف بلسانه ، مشغول بعيوب نفسه عن عيوب غيره .. و لكنه في ذات الوقت يقظ فطن ، لا يخدعه الخبّ ، و لا يلدغ من جحر واحد مرتين .. هنا يذكر المؤلف أنّه يطيب لبعض الناس أنّ يصفوا كل حذر متيقظ بالوسوسة و سوء الظن .. و لربما تجاوزا ذلك إلى حد رميه بالخبث و الدهاء و المكر .. كما يطيب لبعضهم قذف الطيب من الناس ممّن يحسن الظن بإخوانه المسلمين بعدم الفطنة و الكياسة و بالغفلة .. و لربما رموه بالعته و البله .. ثمّ يذكر المؤلف بأنّ إهمال الحذر يترتب عليه مساوئ لا تحصى من الخلاف .. كما أنّ سوء الظن يترتب عليه الخوض في الأعراض بدون دليل .. و هنا يوضح المؤلف بأن سبب سوء الظن أو إهمال الحذر لعله من التباس الظن المذموم بالحذر المشروع .. لذلك بات من الضروري التفريق بينهما .. يذكر المؤلف بأنّ الحذر في اللغة هو التيقظ و الاحتراز و التأهب .. و في الشرع هو باختصار الحزم حذرا من طرق الخداع و المكر .. أمّا سوء الظن فهو في اللغة مركب من كلمتين : السوء و الظن . أمّا كلمة " سوء " فهي بمعنى كل ما يغم الإنسان أو ما كل ما يقبح . و كلمة " ظن " فهي بمعنى التردد أو الإحتمال بين النقيضين . و في الشرع هو الظن بالمسلم من دون إقرار منه أو دليل عليه يوجبه الشرع . ثمّ يوضح المؤلف نظرة الشرع إليهما فيذكر بأنّ المسلم مطالب بالأخذ بأسباب الحذر و الحيطة و اليقظة .. و قد استدل على ذلك بآيات من القرآن الكريم و أحاديث نبوية .. و بكلام أهل العلم في ذلك .. و يذكر أيضا بأنّ الإسلام نهى المسلم عن أن يظن بأخيه المسلم العدل إلا الخير ، و الدليل على ذلك واضح بين بكتاب الله المنزل و سنة نبيه المرسل عليه الصلاة و السلام .. ثمّ يذكر المؤلف بعضا من المسائل اللطيفة في هذا الباب و جواب أهل العلم عنها . و يتجه المؤلف بعد ذلك إلى بيان الفروق بين الحذر المشروع و الظن المذموم ، فيذكر بأن الحذر مشغول بالتسلح لمواطن الشر و مظان الأذى ، بينما الضان مشغول بظنونه في الناس .. و الحذر محتاط اقتداء و اتباعا للشرع بينما الظان يظن اتباعا و إشباعا لشهوته .. و الحذر لا يصدر منه أذى لمن ظن فيه ظنا دون دليل لا بالقول و لا بالفعل .. بينما الظان لا يتورع عن أذى من ظن به دون دليل .. و الحذر يجاهد حتى لا يظن بمسلم إلا خيرا و يتأول حسنا لأفعال الأخرين .. بينما الظان يطلق لنفسه الحرية لتظن بمن تشاء السوء .. الحذر مشغول بما كلفه الشرع ، بينما الظان ينشغل بعيوب غيره و يحكم عليهم بهواه .. فيا صاحب الخلق الراقي إنّ المسلم هو الذي احتاط فأمن و انشغل بعيوب نفسه عن عيوب الآخرين ، فارتقى لمراتب الراقين و منازل أهل الخلق الكريم .. و إلى الملتقى مع الحلقة (17) و الفارق الثامن بين الإنتصار و الإنتقام .. إن شاء الله
الحلقة (17) الفارق الثامنبين الإنتصار و الإنتقام .
الإسلام لا يحب لأتباعه الهوان و فتور العزائم ، أو الهيجان في الإنتقام .. على أنّ الإنتصار محمود و الإنتقام مذموم .. و الإنتصار من الظالم أيّ الإنتصاف منه ، و في الشرع يمكن أن يفسر بأنّه الإنتصاف من الظالم انتصارا للحق و دون تجاوز .. و الإنتقام هو العقاب , و في الشرع أن تذيق غيرك من الشر بقدر ما أذاقك أو أكثر انتصارا للنفس . ثمّ يذكر المؤلف نظرة الشرع إلى الإنتصار بأنّه خلق نال حظا وافرا من الثناء ، حتى عّد صاحبه من المتوكلين .. و هنا يذكر المؤلف حالات تقديم الإنتصار على العفو أو العكس و شروطه كما هو مقرر عند العلماء . ثمّ يتجه المؤلف إلى بيان نظرة الشرع إلى الإنتقام ، فيبين بأنّ الإنتقام انتصارا للنفس خلق مذموم , و مطلب مردود ، نهى عنه الشرع .. و يذكر المؤلف الفروق بين الخلقين ، و ذلك أنّ المنتصر علامته الصفح و العفو ، بينما المنتقم علامته العقوبة و الإنتقام . و المنتصر لا يتجاوز في العقاب بل يعاقب بمثل ما عوقب أو أقل ، بينما المنتقم قد يحرص على مضاعفة العقوبة دون مبالاة . و المنتصر دافعه الشرع و العقل ، بينما المنتقم دافعه الإنفعال و اتباع الهوى و النفس .. و المنتصر لا يبغض المعتدي بل يبغض فعله ، بينما المنتقم يبغض المعتدي دوما و لا يغفر له بأيّ حال من الأحوال .. فيا أيّها المسلم إذا كنت منتصرا فلا حرج عليك ما دمت متبعا بما جاء في وصف المنتصرين بكتاب الله أو سنة رسوله عليه الصلاة و السلام .. أمّا إذا كنت منتقما فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ، و خالف هواك ، و اتبع نداء الحق .. و بذلك تصل إلى مرتبة صاحب الخلق الراقي فترقى في الراقين ..
و إلى الملتقى مع الحلقة (18) و مع الفارق التاسع بين المبادرة و العجلة .. إن شاء الله
يخمد بعض الناس شعلة همته بحجة في التأني السلامة و في العجلة الندامة .. ومن الناس أيضا من تتفلت العزيمة من قلوبهم بحجة التسويف ليوم غد .. و كل ذلك من باب آفة الخمول و الكسل .. كذلك أصيب البعض بآفة ثانية و هي آفة العجلة و الطيش .. بحجة فضيلة المبادرة .. فقد يتعجل طالب العلم في تخطئة غيره ، ثمّ يتبين له الحق بعد فترة من الزمن .. فالمبادرة في الخير مطلوبة ، و العجلة مذمومة .. يبدأ المؤلف بتعريف المبادرة فيذكر بأنّها في اللغة بمعنى بادرت أيّ أسرعت ، و في الشرع يمكن أن تعرّف من خلال مجموعة تعاريف أوردها العلماء بأنّها المسارعة إلى ما حثّ عليه الشرع في أول وقته دون تأخير .. أمّا العجلة في اللغة فهي بمعنى السرعة خلاف البطء ، و في الشرع فهناك العديد من التعريفات بل ومن التقسيمات لمفهوم العجلة شرعا ، و لكن يمكن القول بأنّها طلب الشيء قبل أوانه . يذكر المؤلف بأنّ الشرع ينظر إلى المبادرة بأنّها مشروعة و يحثّ عليها ، ثمّ يسوق العديد من الأدلة الشرعية في هذا الباب .. أمّا العجلة فينظر إليها الشرع على أنّها خلق مذموم ، نهى عنه كتاب الله المنزل و سنة نبيه المرسل عليه الصلاة و السلام ، و حذر منها الأئمة و العلماء .. ثم يبدأ المؤلف ببيان الفروق بين الخلقين فيذكر بأنّ المبادر سريع في الخير فقط بينما العجول متسرع في كل الأمور خيرها و شرها .. المبادر هو بخلاف المسوف المذموم بينما العجول بخلاف المتأني المحمود .. المبادر ينطلق لنداء الحق بينما العجول ينطلق لنداء هواه .. المبادر لا يفر قوي الهمة و العزيمة و الصبر بينما العجول ينسحب عند أول انهزام و هو ضعيف الهمة لا يقوى على الصبر .. المبادر غايته واضحه فبالشرع يستجلي حكم المبادر إليه فلا يندم و يحقق النجاح دوما بينما العجول يندفع بالحكم قبل العلم بشرعيته قولا و فعلا و حكما و هو بذلك كثير الأسف و الندم .. نسأل الله أن نكون من أهل المبادرة إلى الحق ، المسرعين إلى التوبة و المغفرة ، و نعوذ بالله أن نكون من العجلين النادمين الخاسرين ..
فيا صاحب الخلق الراقي إنمّا الخلق بالمبادرة الطيبة لا بالعجلة أو الطيش المفضي للخسران ..
و إلى الملتقى بالحلقة (19) و مع الفارق العاشر بين الإخبار عن الحال و الشكوى .. إن شاء الله
ينوه المؤلف بأنّ هناك فرقا بين من يعترض على ما قدّر له و يضج بالشكوى ، و بين من يخبر عن حاله لغاية حميدة ..
فيبدأ بتعريف الإخبار عن الحال ، فيذكر بإنّ الإخبار في اللغة هو الإعلام و الإنباء ، و الحال هو ما يطرأ من التغيرات الحسية و المعنوية .
و في الإصطلاح هو الإخبار بما عليه الحال أو البلاء لمصلحة مشروعة .
أمّا الشكوى فهي إظهار ما بك من مكروه و نحوه بقصد السخط و الإعتراض على القضاء و القدر .
ثمّ يذكر المؤلف نظرة الشرع إلى الإخبار عن الحال ، فيذكر بأنّ مدار ذلك إلى نية المخبر عن حاله ، فقد يقع مندوبا أو مرخص به ، و ربما وقع منهيا عنه لأنّه جاء بمعنى الشكوى المنهي عنها ..
فمن نماذج خلق الإخبار المقبول أو المحمود الإخبار بقصد الإقتداء ، و الإخبار للطبيب ، و الإخبار لطلب العون ، و الإخبار لإظهار الذلة لله ، و الإخبار بقصد الإعتذار ، و الإخبار بقصد إجابة السائل ، و الإخبار للتخفيف عن النفس ... و هكذا فالنماذج عديدة و تعج فيها الاستلالات من القرآن و السنة و الأثر ، و لكن الباب هنا لا يحتمل النقل .
أما الشكوى فهي مذمومة شرعا و عقلا .. و من يتصف بها هو الجاهل كما وصفه ابن القيم .
كيف لا يوصف بذلك و هو متصف بسخطه على القدر بشكواه ؟
ثمّ أورد المؤلف أمثلة في ذلك ، و أعقبها بفوائد مكملة ، فذكر بأنّ الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر باتفاق جمهور العلماء مستدلا بذلك على كلام ابن القيم في الموضوع و ما ذكره فيما حكاه المولى تعالى في قصة أيوب عليه الصلاة و السلام ..
و ممّا ذكره المؤلف أيضا من الفوائد أنّ الحمد قبل الشكوى ، و كتمان الشكوى أولى ، و العارف من يشكو الله من نفسه ..
ثمّ يختم المؤلف بالفرق بينهما ، فيذكر بأنّ المخبر عن حاله مقصده مشروع ، بيما الشاكي فليس له مقصد صحيح من شكايته .
و المخبرعن الحال قلبه راض تمام الرضا عن ربه ، بينما الشاكي قلبه ساخط غير راض معترض على ما قدر له ربه ، ذلك لأنّ مدار الأمر على حال القلب .
و المخبر عن الحال إذا نفّس عن نفسه بالإخبار عن حاله فلا يقول إلا ما يرضي الله و الرسول عليه الصلاة و السلام ، منضبط بضابط الشرع لا يحيف و لا يزيغ ، بينما الشاكي فلا يبالي فيما يقول ، و لربما نطق بكلمة أهوت به و أهلكته ..
و المخبر عن الحال غالبا من يسبق إخباره بالحال حمده لله و هذا دليل رضاه لله و الثناء و الشكر له سبحانه ، بينما الشاكي نقيض ذلك من القول ..
و المخبر عن حاله لا يعظم الأمور بالتهويل و العويل .. بينما الشاكي يصنع من الحبة قبة و من النازلة الصغيرة فاجعة عظيمة ..
و المخبر عن الحال لا يخبره عن حاله إلا نادرا لمصلحة أو لجواب السائل ، بينما الشاكي في الشكوى غارق ، و في السخط خائض ..
و المخبر عن حاله صابر محتسب مطمئن القلب ، بينما الشاكي فهو كئيب هلع جزع على الدوام ..
نسأل الله أن يرزقنا صبر النبيين ، و ثبات الصالحين ، و رضا المؤمنين .. و إلى الملتقى مع الباب الثالث " حسن التصرف في تراث الأقدمين " إن شاء الله ..
يمهد المؤلف للباب الثالث فيذكر بأننا في زمن يتطلب فيه أن يكون التقي فطنا لبقا و الفطن تقيا ..ثمّ يذكر بأنّه يعرض في هذا الباب صفحات من تراث الأجداد أو غيرهم لنعيش معهم مواقف حرجة مرت بهم حيث تعاملوا معها بحسن تصرف ..
ثمّ يذكر بأنّ سيرة النبي عليه الصلاة و السلام مليئة بالمواقف التي تؤيد اعتبار حب الله للمؤمن التقي و أنّه سبحانه يلهم من أحب التوفيق و الرشاد في المواقف كلها ..
و على هدي النبي عليه الصلاة و السلام سار الصحابة الكرام رضوان الله عليهم .. ثم يستدل على كلام ابن القيم في شأن ذم الناس لأرباب الحيل غير المشروعة ، فكذلك يذم العاجز الذي لا حيلة له بتصرف حسن يخرج به من مأزقه ..
لذلك علل المؤلف مقصده من هذا الباب بأن يقف صاحب الخلق الراقي على هذه النماذج الفذّة من التراث ليكمل المسير نحو الخلق الراقي ..
و إلى الملتقى مع الفصل الأول " القدرة على الاستنباط " من الباب الثالث إن شاء الله