الشيخ عاطف الفيومي
شيخ فاضل
- إنضم
- 4 يناير 2012
- المشاركات
- 587
- النقاط
- 18
- الإقامة
- الفيوم
- الموقع الالكتروني
- www.alfayyumy.com
- احفظ من كتاب الله
- كاملا بحمد الله
- احب القراءة برواية
- عاصم
- القارئ المفضل
- المنشاوي
- الجنس
- أخ
تبيين الحق بين التصحيح والتجريح
أولاً: منهج واضح:
مما لا ريب فيه في عقيدة أهل السنة والجماعة أن البشر غير معصومين من مقارفة الخطأ والوقوع فيه أحيانًا، وأنه لا معصوم سوى أنبياء الله ورسله - عليهم السلام - وهذا معلوم من الدين والعقل بالضرورة، فكل بني آدم خطاء، إلا مَن رحم الله منهم؛ ولهذا جاء في النصوص الشرعية ما يبيِّنه ويؤكِّده؛ فمنها حديث أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل بَنِي آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون))؛ رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي.
وكذلك من المسلَّمات الشرعية في عقيدتنا عندما يصدر الخطأ من أحدٍ ما أن يصحح الخطأ بالنصيحة الطيبة، والتوجيه السديد، والحكمة البالغة، والموعظة الحسنة، وهذا ما دلت عليه كثير من النصوص الشرعية؛ كما قال - تعالى -: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].
ثانيًا: انحراف عن جادة المنهج:
لكننا نرى في هذا الزمان أمرًا آخر؛ حيث إن البشر لا ينفكُّون عن خطأ في معصية، أو زلَّة في اجتهاد، أو متابعة للهوى، أو جهل بالحكم الشرعي، إلا أنه وجد فريق من بعض طلاب العلم قد أُصيبوا بنوع من الانحراف العلمي والسلوكي في مسألة النصيحة وتصحيح الأخطاء، وقد أصيبوا بلُوثَةٍ من فتنة خطيرة وهي "السب والتبديع" - بحق وبغير حق - لمن خالف طريقهم أو شيخًا من شيوخهم، أو اجتهد في أمر يخالف قولهم فيها، وهم يظنون أنهم يُحسِنون صنعًا، وعن الحق يجاهدون دفعًا، وهذا حقًّا غاية الافتتان، ومقارفة التبديع والبهتان.
إننا نقول: إنه لا يسلم عالِم أو مجتهِد أو طالب حق وعلم من زلةٍ أو خطأ ما، ما دام يسعى في اجتهاده بأمرين:
الأول: يريد الحق بحق.
الثاني: يجتهد في بحثه للوصول للحق في ضمن دائرة أهل السنة والجماعة وأصولها.
وعلى أهل العلم أن يبيِّنوا للناس الحقَّ في المسائل النازلة وغيرها، وأن يبينوا القول الخطأ إذا خالف إجماعًا أو شرعًا، أو كان شذوذًا من الاجتهاد والقول، وهذا لا غبار عليه.
إلا أن فتنة "السب والتبديع" والرمي بالبهتان، ومدرسة الهَدْم بالكلية لمن خالف طريقهم وقولهم - أصبحتْ ذات خطر كبير، فهؤلاء قد أَبْعَدوا النَّجْعَة عن سبيل الهُدَى والحق وأهل السنة، ظنًّا منهم حماية الحق والسنة من كل ضالٍّ مبتدع.
فتراهم إذا وافقهم عالِم في مسائلهم، وَصَفُوه بألفاظ جيِّدة، فيها نوع تزكية ورفعة لمكانته، فيصير على قولهم "شيخنا، وعالمنا، وفقيه الأمة، وبقية السلف"، وغيرها كثير مما هو معروف من أقوالهم، ولا يلتفتون إليه إذا صدر منه خللٌ أو خطأ، بل يُغمِضون عنه الطرف أدبًا زعموا.
وأيضًا على النقيض من هذا يصفون مَن خالف طريقهم واجتهادهم من أهل السنة والجماعة بألفاظٍ تدل على إسقاطه، ونزول مكانته؛ مثل قولهم: "مبتدع، وضال، مخالف، وفاسق، ومتروك، وليس بشيء، وخارجي، لا يُعرف، ليس على المنهج، من أهل الموازنات"، إلى غيرها من الأقوال المشتملة على نوع من التبديع والتفسيق والتجهيل، والرمي والقذف، في كل مخالفة لهم غالبًا.
وهؤلاء لديهم إشكالات في طريقة منهجهم في تبيين الحق، وتوضيح الخطأ ورده لغيرهم؛ حيث إنهم غالبًا:
لا يجتهدون بحثًا شاملاً في معرفة مذهب أهل السنة وأقوالهم في المسألة، ولا يعرفون جملةً خلاصةَ ما عليه الجمهور عامة، والجمهور من أصحاب المذاهب الفقهية خاصة؛ ولهذا كل مخالف ومخالَفة عندهم انحراف عن المنهج، لا عن القول الفقهي.
ولا يسيرون مع الدليل ربما إلا ما سدَّد قولهم وصوَّبه، ثم باقي الأدلة إما أن تعمم، أو تخصص، أو يتأوَّلوها.
ثم إذا عَرَفوا ما سبق من القول والدليل وحكم الفقهاء، وكانوا على صواب فيها، عندئذٍ يكون المخالِف لذلك القول مخالفًا عندهم لما عليه السلف الصالح، ومن ثَمَّ يستلزم الأمر بالمخالفة الأمر بالتبديع والتفسيق أحيانًا، وكذا الرمي بالخروج.
وأمر آخر أنهم لا يتعاملون مع الواقع والمرحلة التي تمر بها أمة الإسلام، ولا ينشغلون بقضايا المسلمين وهمومهم، اللهم إلا لذر الرَّماد في العيون.
وأيضًا لا يُسْقِطون الحكم الشرعي على حقيقته؛ من حيث تقديم النصيحة بحكمة بالغة، وأدب جم للمخالف، وقد أمر بها الكتاب والسنة، حتى مع أهل الكفر من أهل الكتاب.
وليت شعري ماذا يفعل شيخ الإسلام ابن تيميَّة لو عاصر هؤلاء، وهو الذي كان يظهر محاسن المخالف، مع إنكاره عليه في خطأ فعله أو قوله، ومثله ابن القيم، كما فعل مع الهَرَوِي في "منازل السائرين"، وسماه "شيخ الإسلام".
ومن أوهامهم أيضًا التقليد الذي لا خلاف فيه ولا معه، وهذا خلاف منهج طلب العلم والاجتهاد، فهم يقلدون شيوخهم في كل قول واجتهاد، وإذا تقرر الحق لأحدهم رمَوه وقذفوه بالمخالفة.
وقد بيَّن خطرَ هذا شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة - رحمه الله - فقال: "وليس لأحد أن يُنصِّبَ للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها، غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يُنصِّب لهم كلامًا يوالي عليه ويعادي، غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعلِ أهل البدع الذين ينصِّبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرِّقون به بين الأمة، يُوَالُون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون"؛ [مجموع الفتاوى].
ومن أوهامهم أن يَحسَبُوا كلَّ مَن وافقهم بقولٍ - وليس بمشتهر عندهم - أنه على مذهبهم وقولهم، وكما قال أحد الفضلاء يومًا: "إنك إذا وافقتهم في قولهم 100%،فأنت السلفي الأثري حقًّا، وإذا خالفتهم في 1% كنتَ المبتدعَ الضال..."، وهذا فيه وجه شبه بالتصوف وشيوخه ومريديه في تقليدهم واتباعهم.
ومن أوهامِهم الكبيرةِ اعتقادُهم أنهم أصحاب الحق المطلَق، والقول الأوحد، والمنهج الذي لا خلاف عليه، مع أن الشافعي وغيره من أئمة السلف كانوا يقولون: "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب"، أما هؤلاء، فقولهم الصواب المطلق، ولو لم يصرحوا بذلك.
ومن أوهامهم الانتقائيةُ في المسائل الاجتهادية، مما يقبل الاختلاف فيها سعة.
ومن أوهامهم البعد عن الاشتغال بالسياسة مطلقًا، وهذا خلاف منهج أهل السنة والجماعة؛ حيث إن السياسة الشرعية جزء من الإسلام، وإن أخطأ بعض المشتغلين بها، إنما الأَوْلَى عندهم الانشغال بالعلم وحده، وفهم الكتب وحفظ المتون، وترك الأمة تضيع، والشهوات تجرف الشباب والفتيات، وحسبهم أنهم حرَّاس الشريعة، وحماة السُّنة وحدهم، ولا أدري أين تقليدهم لشيخ الإسلام ابن تيميَّة، الذي كان آيةً في الجهاد العلمي، في نشر السنة وقمع البدعة، وآية في الجهاد العملي بالسيف ضد أعداء الإسلام وأهله.
ثالثًا: نداء المحب لشبابنا:
ونحن نقول لهؤلاء الشباب:
رويدًا مهلكم يا طلاب العلم وشباب الإسلام، لقد أخطأتُم الطريق في الاتباع والتعديل، مهلاً يا شبابنا، تعلموا "الأدب قبل الطلب"، وتزيَّنوا بأخلاق الإسلام الجليلة، وآداب طلب العلم النبيلة، فلا خيرَ في علم لا يتبعه الأدب.
اعَرَفوا للعلماء والأشياخ حقَّهم، والزموا أبوابَ الأكابر المشهود لهم، ولا خلاف بين الأمة على إمامتهم، ولا تلتقطوا من فتاواهم وأقوالهم ما يسدِّد قولكم، وتتركون ما خالفه.
واعلموا أنكم على فتنة عظيمة، وانحرافات جسيمة، فسارعوا بالهُدَى والسنة توبة، وبمنهج السلف سبيلاً، لقد كان طلب الأدب مقدَّمًا عندهم على طلب العلم، فهذا الإمام مالك يقول لفتى من قريش: "يا بن أخي، تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم".
وقال إبراهيم بن حبيب بن الشهيد: قال لي أبي: "يا بني، ائتِ الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذْ من أدبهم وأخلاقهم وهَدْيِهم، فإن ذاك أحبُّ إليَّ لك من كثير من الحديث".
وقال بعضهم لابنه: "يا بني، لأن تتعلَّمَ بابًا من الأدب أحبُّ إليَّ من أن تتعلَّم سبعين بابًا من أبواب العلم".
بل وهذا الحسين بن إسماعيل يقول: "سمعت أبي يقول: كنا نجتمع في مجلس الإمام أحمد زهاء على خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون، والباقي يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت".
وقال مخلد بن الحسين لابن المبارك: "نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث".
نعم أنا معكم؛ الخطأ لا بد أن يُرَدَّ عليه، وأن نحذِّر الناس منه، نعم معكم أننا نحذر من أهل البدع والأهواء، نعم نحارب البدعة وأهلها، وننشر السنة وفضلها.
لكن ليس الطريق إلى ذلك بما أنتم عليه الآن، وأصدُقُكم القول: إنكم لو أحسنتم الأدب مع المخالف لأصبتم بذلك خيرًا عظيمًا؛ من قَبولِه نصيحتَكم له، واعترافه بخطئه لو كان، وفتح الطريق معه للتعاون على الخير وفعله، وإحياء الأخوَّة الإيمانية والتراحم بين أهل السنة والسلفية، وعليكم بالجماعة، وهي السواد الأعظم لأمة الإسلام؛ لأن مَن شذَّ، شذَّ في النار.
ليس من خلافٍ بين أهل السنة والجماعة في خطر أهل البدع والأهواء والتحذير من شرورهم؛ إنما الخلاف في تنزيل أصول أهل البدع على مَن ينتمي لأهل السنة، زاد في خطئه أو نقص؛ فهذا يبدِّعهم، وآخر يعتذر عن خطئهم، وثالث يتوقَّف فيهم، فهل كل مَن خالفك أو خالف شيخَك باجتهاد سائغ، أو باجتهاد بأصول أهل السنة، ثم وافق ربما بعض أهل البدع، هل يصير ضالاًّ مضلاًّ، مبتدعًا خارجًا؟!
اجتهد ابنُ حجر العسقلاني الإمام، وكذا الإمام النووي، فوافقوا تأويل الصفات مع الأشاعرة؛ فهل يكونون مبتدعين، أو أن اختلافهم كان عن خطأ بالاجتهاد؟!
فإذا كان الخطأ بالاجتهاد عفا الله عنهم، فلِمَ لا نُنْزِل ذلك على إخواننا وندعو لهم بالحسنى ومعرفة الحق، مع المناصحة الصادقة، لا التشهير الفاضح باسم التحذير من أهل البدع؛ "فهل كل مجتهد مخطئ مبتدع؟!"، وقد اختلف الأئمة الأطهار مع بعضهم، ومع ذلك كان كل منهم يصلِّي خلف الآخر؛ كالشافعي، وأحمد، ولم يفسقه أو يبدعه أو يضلله.
أما جهابذة القرون المتأخِّرة فيختلفون، ثم يبتعدون، ثم يفسقون، ثم يبدعون، ثم في النار يَقذِفون، ويقولون: الدليل، قال الله تعالى، قال رسوله، قال السلف!
أحسنتَ بُنَيَّ؛ لكن هذا العلم ليس لك؛ إنما لأصحاب العلم الواسع، والتاريخ المشرق، والربانية الخالصة، والتجرُّد من الهوى وضيقِ الأفق.
كان الأئمة بالأمس يحذِّرون الأمة من التقليد الأعمى والتعصب المذهبي، فكيف لو رأوا اليوم دعاوى التعصب الشخصي بدعوى التمسك بالشريعة مذهب السلف؟!
عَجِبتُ حقًّا من أمة تَجعلُ ولاءها وبراءها للأشخاصِ، وليس لمنهج الإسلام العظيم، وما نحن فيه الآن من فتنة بين طلاب العلم من مراحل مرض هذه الأمة، وغدًا تنقشع الغمة كما انقشع التعصب الأعمى للمذاهب والتقليد، ولكن صغار العلم لا يفقهون.
يقول أحدهم: هذا ضال، وهذا فاسق، وهذا مبتدع، وهذا خارجي، والآخر قطبي، وهذا وهذا... إلخ.
ولو سألناه: ومَن أنت؟ قال: "أنا سلفي أثري"، عجيبٌ أمرُكم يا طلاب العلم؛ إنما وكِّلتم بتبليغ العلم، ولم تكلَّفوا بالحكم على الناس ظاهرًا وباطنًا.
اسمعوا يا شبابنا ماذا يقول أهل العلم، وكيف يكون إنصافهم لغيرهم:
قال الحافظ ابن عساكر: "واعلم - يا أخي - وفَّقنا الله وإيَّاك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتَّقيه حقَّ تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتكِ أستار منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثَّلْب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب".
وقد قال ابن القيم - رحمه الله -: "ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبَطَهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: التمسكُ بالسنةِ إذا رَغِب عنها الناس، وترْكُ ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريدُ التوحيد وإن أنكر ذلك أكثرُ الناس، وترْكُ الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقًّا، وأكثرُ الناس - بل كلهم - لائم لهم، فلغربتهم بين هذا الخلق؛ يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم".
وقال ابن الأذرعي: "الوقيعة في أهل العلم - لا سيما أكابرهم - من كبائر الذنوب".
وقال ابن المبارك: "مَن استخفَّ بالعلماء ذهبتْ آخرته، ومن استخفَّ بالأمراء ذهبتْ دنياه، ومن استخفَّ بالإخوان ذهبتْ مروءته".
وقال أبو سنان الأسدي: "إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين، يتعلم الوقيعة في الناس، متى يفلح؟!".
وقال الحسن بن ذكوان لرجلٍ تكلَّم عنده على أحد الناس: "مَه؛ لا تذكر العلماء بشيء فيُمِيت الله قلبَك".
وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في"إعلام الموقعين": "ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور؛ بل مأجور؛ لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدد مكانته وإمامته ومنزلته في قلوب المسلمين".
وقال أيضًا: "من قواعد الشرع والحكمة أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل من غيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث؛ بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى الخبث، وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم أن من له ألوف الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها، والله سبحانه يوازن يوم القيامة بين حسنات العبد وسيئاته؛ فأيهما غلب كان التأثير له". [مفتاح دار السعادة: 1-176].
وقال أيضًا: "فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملةً، وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم والصناعات وتعطلت معالمهما". [مدارج السالكين ج2].
وقال عبد الله بن المبارك: "إذا غلبت محاسن الرجل على المساوئ لم تُذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ على المحاسن لم تُذكر المحاسن".[تذكرة الحفاظ 1/276].
وذكر الإمام الذهبي - رحمه الله - في ترجمة شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وقد انفرد بفتاوى نيل من عرضه لأجلها، وهي مغمورة في بحر علمه، فالله تعالى يسامحه ويرضى عنه، فما رأيت مثله، وكل أحد من الأمة فيؤخذ من قوله ويترك فكان ماذا؟ " انتهى. [تذكرة الحفاظ: 4/192].
وقال الذهبي أيضًا: "ثم إنَّ الكبير من أئمة العلم إذا كثُر صوابه، وعلم تحرِّيه للحق، واتَّسَع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحُه ووَرَعُه واتِّباعه، يغفر له، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك". [سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج5، ص325].
وقال الإمام ابن القيم – رحمه الله –:"وقد يكون معنى النص بيناً جلياً فلا تختلف الأمة في تأويله وإن وقع الخلاف في حكمه لخفائه على من لم يبلغه أو لقيام معارض عنده أو لنسيانه فهذا يعذر فيه المخالف إذا كان قصده إتباع الحق ويثيبه الله على قصده وأما من بلغه النص وذكره ولم يقم عنده ما يعارضه فإنه لا يسعه مخالفته ولا يعذر عند الله بتركه لقول أحد كائنا من كان". [الصواعق المرسلة: 1/207].
وهذا كلام نفيس لشيخ الإسلام -رحمه الله- "منهاج السنة النبوية" يبين فيه حال الطوائف من أهل العلم والاجتهاد:
"أنّ الرجل العظيم في العلم والدين، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يومالقيامة، أهل البيت وغيرهم قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونًا بالظنّ، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء اللهالمتقين،ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين:
- طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه.
-وطائفة تذمه فتجعلذلك قادحًا في ولايته وتقواه، بل في برّه، وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتىتخرجه عن الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد.
والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا، ومن سلك طريق الاعتدال عظّم من يستحقّ التعظيم، وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أنّ الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيُحمد ويذم، ويثابويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافًا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم". [منهاج السنة النبوية: 4/543].
وقال أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
"ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين، كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما فهذه طرق أهل البدع والأهواء، الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم، ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلاً بقدره في العلم والدين، وبقدر الآخرين، فيكون جاهلاً ظالماً، والله يأمربالعلم والعدل، وينهى عن الجهل والظلم".[مجموع الفتاوى: 2/252].
وقال أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
"كثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنة والجماعة؛ ويجعل من خالفها أهل البدع وهذا ضلال مبين.
فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فهو الذي يجبتصديقه في كل ما أخبر؛ وطاعته في كل ما أمر وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة بلكل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن جعل شخصا من الأشخاص غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة - كما يوجد ذلك في الطوائف من اتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك - كان من أهل البدع والضلال والتفرق".[مجموع الفتاوى: 3/346].
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله -:
"ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين، وكثر تفرقهم، كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظهر أنه يبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذورا، وقد لا يكون معذورا، بل يكون متبعا لهواه، مقصرا في البحث عن معرفة ما يبغض عليه، فإن كثيرا من البغض كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وهذا الظن خطأ قطعا، وإن أريد أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه، فهذا الظن قد يخطئ ويصيب، وقد يكون الحامل على الميل مجرد الهوى، والإلف، أو العادة، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغضلله، فالواجب على المؤمن أن ينصح نفسه، ويتحرز في هذاغاية التحرز، وما أشكل منه، فلا يدخل نفسهفيه خشية أن يقع فيما نهي عنه من البغض المحرم.
وهاهنا أمر خفي ينبغيالتفطن له، وهو أن كثيرا من أئمة الدين قد يقولقولا مرجوحا، ويكون مجتهدا فيه، مأجورا على اجتهادهفيه، موضوعا عنه خطؤه فيه، ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة، لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله، بحيث إنه لو قاله غيره من أئمة الدين، لما قبله، ولا انتصر له، ولا والى من وافقه، ولا عادى من خالفه، وهو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه، وليس كذلك، فإن متبوعه إنما كان قصده الانتصار للحق، وإن أخطأ في اجتهاده، وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظنه الحق إرادة علو متبوعه، وظهور كلمته، وأنه لا ينسب إلى الخطأ، وهذه دسيسة تقدح في قصد الانتصار للحق، فافهم هذا، فإنه فهم عظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم". [جامع العلوم والحكم].
هَدْي النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوجيه والتصحيح:
ثم اعلموا - يا شبابنا - أن معالجة أخطاء الناس إذا ثبتتْ يقينًا، لا تكون إلا بمنهج الإسلام وما كان عليه السلف الصالح، فهذا خطأ الرماة في غزوة أحد، لما تركوا مواقعهم التي أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزومها، نزل قوله - تعالى -:﴿ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ﴾ [آل عمران: 152]؛ فهل لما ذكر الله - تعالى - أمرهم هنا بثلاثة تعبيرات "فشلتم، وتنازعتم، وعصيتم" - وهم الصحابة - لم يبيِّن حسناتهم في موضع آخر؟ وهل كانوا خوارج على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم؟!
وهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتزل زوجاته تأديبًا لهن، فقال بعض الناس: إنه طلَّق نساءه، فنزل قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83]؛ فماذا نسمِّيهم؟
وبعض المسلمين لما تركوا الهجرة من مكة إلى المدينة لغير عذرٍ شرعي، فأنزل الله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا… ﴾ [النساء: 97] الآية؛ فماذا نقول عنهم؟!
قال ابن سعدي – رحمه الله – في تفسير هذه الآية: "هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات، فإن الملائكة الذين يقبضون روحه يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم، ويقولون لهم: { فِيمَ كُنْتُمْ } أي: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟ بل كثرتم سوادهم، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير، والجهاد مع رسوله، والكون مع المسلمين، ومعاونتهم على أعدائهم.
{ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْض } أي: ضعفاء مقهورين مظلومين، ليس لنا قدرة على الهجرة. وهم غير صادقين في ذلك لأن الله وبخهم [ ص 196 ] وتوعدهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، واستثنى المستضعفين حقيقة".
وتصحيح الخطأ يكون بحسب بمقتضى الحال، وليس بمنهج واحد مع الجميع، فهذه جملة أحاديث تبين التعامل المختلِف مع المواقف، في تصويبها وتصحيحها:
• فعن ابن عباس: أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما شاء الله وشئت، فقال: ((جعلتني لله عدلاً؟ بل ما شاء الله وحده))؛ رواه أحمد: المسند.
• وعن أبي شريح هانئ بن يزيد قال: وفد على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قومٌ، فسَمِعهم يسمُّون رجلاً عبدالحجر، فقال له: ((ما اسمك؟))، قال: عبدالحجر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا، أنت عبدالله))؛ رواه البخاري في الأدب المفرد، وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد: صحيح.
• عن يَعِيشَ بن طِهْفَة الغفاري عن أبيه، قال: "ضِفْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمَن تَضَيَّفه من المساكين، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الليل يتعاهد ضيفه، فرآني منبطحًا على بطني، فركضني برجله، وقال: ((لا تضطجع هذه الضجعة؛ فإنها ضجعة يُبغِضها الله - عز وجل))، وفي رواية: فركضه برجله فأيقظه، فقال: ((هذه ضجعة أهل النار))؛ رواه أحمد.
• وروتْ عائشة - رضي الله عنها - أن قريشًا أهمَّهم شأن المرأة التي سرقتْ في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح، فقالوا: مَن يكلِّم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومَن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ فأُتي بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلَّمه فيها أسامة بن زيد، فتلوَّن وجهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أتشفعُ في حدٍّ من حدود الله؟!))، فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العَشِيُّ قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: ((أما بعد، فإنما أَهْلَك الذين مِن قبلكم أنهم كانوا إذا سَرَق فيهم الشريفُ تَرَكوه، وإذا سَرَق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ، وإني - والذي نفسي بيده - لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سَرَقتْ، لقطعتُ يدَها))، ثم أمر بتلك المرأة التي سَرَقتْ فقُطِعتْ يدها؛ الحديث في الصحيحين، وهذا لفظ مسلم.
• وعن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه بُرْد نَجْرَاني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجَبَذه بردائه جبذةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أثَّرت بها حاشيةُ البُرْد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء".
• وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجَّاجًا حتى إذا كنا بالعَرْج نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزلنا، فجلستْ عائشة - رضي الله عنها - إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلستُ إلى جنب أبي، وكانت زِمَالة (دابة السفر) أبي بكر وزِمَالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدةً مع غلام لأبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع وليس معه بعيره، قال: أين بعيرك؟ قال: أضللتُه البارحة، قال: فقال أبو بكر: بعير واحد تضله؟! قال: فطَفِق يضربه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبسم ويقول: ((انظروا إلى هذا المُحْرِم، ما يصنع))، قال ابن أبي رزمة: فما يزيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يقول: ((انظروا إلى هذا المُحْرِم، ما يصنع)) ويتبسم؛ رواه أبو داود في سننه، كتاب المناسك، باب المحرم يؤدِّب غلامه، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود.
• وروى البخاري - رحمه الله تعالى - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الحسن بن علي أخذ تمرةً من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفارسية: ((كَخْ كَخْ، أمَا تعرِف أنَّا لا نأكل الصدقة؟)).
• وعن جَرْهَد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ به وهو كاشف عن فخذه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((غطِّ فَخِذَك؛ فإنها من العورة))؛ رواه الترمذي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
• وروى البخاري - رحمه الله تعالى - في صحيحه عن جابر - رضي الله عنه - قال: "غزونا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ثاب معه ناسٌ من المهاجرين حتى كَثُروا، وكان من المهاجرين رجلٌ لَعَّابٌ، فكسع أنصاريًّا؛ فغضب الأنصاري غضبًا شديدًا حتى تَدَاعَوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ما بال دعوى أهل الجاهلية؟))، ثم قال: ((ما شأنهم؟))، فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دَعُوها؛ فإنها خبيثة)).
وفي رواية مسلم: ((ولينصر الرجلُ أخاه ظالمًا أو مظلومًا، إن كان ظالمًا فليَنْهَه؛ فإنه له نصر، وإن كان مظلومًا فلينصره))؛ صحيح مسلم.
• وفي صحيح البخاري عن حُمَيد بن أبي حميد الطويل، أنه سَمِع أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عِبَادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أُخبِروا كأنهم تَقَالُّوها (أي رأى كل منهم أنها قليلة)، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ (أي: إنهم ظنوا بأن من لم يعلم مغفرة ذنوبه يحتاج إلى المبالغة في العبادة أكثر من النبي - صلى الله عليه وسلم - رجاء أن تحصل له المغفرة)، قال أحدهم: أمَّا أنا، فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أُفطِر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبدًا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أمَا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له؛ لكني أصوم وأُفطِر، وأصلي وأرقد، وأتزوج)).
• وعن أنس أن نفرًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراشٍ، فحمد الله وأثنى عليه، فقال: ((ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمَن رغب عن سنتي فليس مني))؛ ورواه مسلم.
• وعن ابن عباس: أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ظاهر من امرأته، فوقع عليها، فقال: يا رسول الله، إني قد ظاهرتُ من زوجتي فوقعتُ عليها قبل أن أكفِّر، فقال: ((وما حملك على ذلك - يرحمك الله؟!))، قال: رأيتُ خَلْخَالها في ضوء القمر، قال: ((فلا تقربْها حتى تفعل ما أمرك الله به))، قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن غريب"؛ صحيح سنن الترمذي.
• وهذا عمر - رضي الله عنه - يقول: "سمعتُ هشام بن حكيم بن حِزَام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستمعتُ لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يُقْرِئنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكِدتُ أُسَاوِره في الصلاة، فتصبَّرتُ حتى سلَّم، فلبَّبتُه بردائه، فقلتُ: مَن أقرأك هذه السورة، التي سمعتُك تقرأ؟ قال: أقرَأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: كذبتَ؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أقرأنيها على غير ما قرأتَ، فانطلقتُ به أقوده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: إني سمعتُ هذا يقرأ بسورةِ الفرقان على حروفٍ لم تُقْرِئنيها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أرسله، اقرأ يا هشام))، فقرأ عليه القراءة التي سمعتُه يقرأ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كذلك أنزلتْ))، ثم قال: ((اقرأ يا عمر))، فقرأتُ القراءة التي أقرأَنِي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كذلك أنزلتْ، إن هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه))؛ رواه البخاري.
• وعن أنس بن مالك قال: "بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي، فقام يَبُول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَهْ مَهْ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُزْرِمُوه، دَعُوه))، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه، فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر؛ إنما هي لذكر الله - عز وجل - والصلاة، وقراءة القرآن))، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلوٍ من ماء فشنَّه عليه"؛ صحيح مسلم.
• وعن أنس بن مالك حدَّثهم قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم))، فاشتد قوله في ذلك حتى قال: ((لينتهنَّ عن ذلك أو لتُخْطَفنَّ أبصارُهم))؛ رواه البخاري.
ففي هذه الأحاديث عدة أساليب تربوية نبوية توجيهية في الإرشاد والتصحيح؛ منها الرحمة بالمخالف، وعدم التسرع في تخطئته، وبيان الحق له، وأحيانًا بالزجر المناسب، وصدق القائل:
وَعَيْنُالرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ وَلَكِنَّ عَيْنَالسُّخْطِ تُبْدِي المَسَاوِيَا
الخلاصة والتوجيه:
إذًا نخلص من ذلك التبيان السالف بعدة نقاط مهمة:
الأولى: أن البشر سوى الأنبياء والرسل غيرُ معصومين.
الثانية: أن تصحيح الخطأ وبيانَه يكون بالعلم الصواب، والأدب الجم، والخلق الجميل، والحكمة البالغة، وليس بالقذف والرمي بالبهتان.
الثالثة: أن منهج هؤلاء ليس منهج السلف في أمور كثيرة؛ منها ما يلي:
(أ) الاشتغال بالتبديع والتفسيق، تحت مسمى تصحيح الخطأ والحفاظ على المنهج السلفي.
(ب) الانشغال بالتقليد - لو صح القول - "الأعمى" للشيوخ وطلاب العلم.
(ج) رمي الغير بالجهل والابتداع والخروج، دون محجة بينة، ودليل قاطع لا خلاف عليه.
(د) فصلهم السياسة عن الدين عمليًّا.
(هـ) إسقاط الأحكام على الناس بالحق والباطل، وتجرِئة الشباب الصغار والأغمار من المبتدئين على فحش القول، ورمي الأكابر من أهل العلم بكل قول وفعل قبيح، وهذا يكفي لهدم العلم ومنزلة العلماء.
الرابعة: أن الواجب عليهم العودة للحق والهُدَى والسنة، والانشغال بما هو أولى لهم في معاشهم ومعادهم.
الخامسة: على أهل العلم الأخيار أن يحذِّروا الشباب وطلاب العلم من خطر هذه المدرسة الفكرية بالدليل الصحيح، وأن يرشدوهم لمنهج أهل السنة والجماعة الصحيح في تبيين الخطأ ونقد المخالف فيما يكون بالتصحيح لا بمنهج التبديع والتجريح.
إن هذا التوجه الفكري يمثِّل نوعًا من الانحراف عن جادة الطريق، ومعاملة الناس بالإحسان، وعذر المخالف في اجتهاده، وتقديم النصيحة بالتي هي أحسن؛ فالواجب دعوتهم للخير والسنة، وتوجيه الشباب لخطرهم على المنهج السلفي خاصة، وتفريق الصف المسلم عامة.
مما لا ريب فيه في عقيدة أهل السنة والجماعة أن البشر غير معصومين من مقارفة الخطأ والوقوع فيه أحيانًا، وأنه لا معصوم سوى أنبياء الله ورسله - عليهم السلام - وهذا معلوم من الدين والعقل بالضرورة، فكل بني آدم خطاء، إلا مَن رحم الله منهم؛ ولهذا جاء في النصوص الشرعية ما يبيِّنه ويؤكِّده؛ فمنها حديث أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل بَنِي آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون))؛ رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي.
وكذلك من المسلَّمات الشرعية في عقيدتنا عندما يصدر الخطأ من أحدٍ ما أن يصحح الخطأ بالنصيحة الطيبة، والتوجيه السديد، والحكمة البالغة، والموعظة الحسنة، وهذا ما دلت عليه كثير من النصوص الشرعية؛ كما قال - تعالى -: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].
ثانيًا: انحراف عن جادة المنهج:
لكننا نرى في هذا الزمان أمرًا آخر؛ حيث إن البشر لا ينفكُّون عن خطأ في معصية، أو زلَّة في اجتهاد، أو متابعة للهوى، أو جهل بالحكم الشرعي، إلا أنه وجد فريق من بعض طلاب العلم قد أُصيبوا بنوع من الانحراف العلمي والسلوكي في مسألة النصيحة وتصحيح الأخطاء، وقد أصيبوا بلُوثَةٍ من فتنة خطيرة وهي "السب والتبديع" - بحق وبغير حق - لمن خالف طريقهم أو شيخًا من شيوخهم، أو اجتهد في أمر يخالف قولهم فيها، وهم يظنون أنهم يُحسِنون صنعًا، وعن الحق يجاهدون دفعًا، وهذا حقًّا غاية الافتتان، ومقارفة التبديع والبهتان.
إننا نقول: إنه لا يسلم عالِم أو مجتهِد أو طالب حق وعلم من زلةٍ أو خطأ ما، ما دام يسعى في اجتهاده بأمرين:
الأول: يريد الحق بحق.
الثاني: يجتهد في بحثه للوصول للحق في ضمن دائرة أهل السنة والجماعة وأصولها.
وعلى أهل العلم أن يبيِّنوا للناس الحقَّ في المسائل النازلة وغيرها، وأن يبينوا القول الخطأ إذا خالف إجماعًا أو شرعًا، أو كان شذوذًا من الاجتهاد والقول، وهذا لا غبار عليه.
إلا أن فتنة "السب والتبديع" والرمي بالبهتان، ومدرسة الهَدْم بالكلية لمن خالف طريقهم وقولهم - أصبحتْ ذات خطر كبير، فهؤلاء قد أَبْعَدوا النَّجْعَة عن سبيل الهُدَى والحق وأهل السنة، ظنًّا منهم حماية الحق والسنة من كل ضالٍّ مبتدع.
فتراهم إذا وافقهم عالِم في مسائلهم، وَصَفُوه بألفاظ جيِّدة، فيها نوع تزكية ورفعة لمكانته، فيصير على قولهم "شيخنا، وعالمنا، وفقيه الأمة، وبقية السلف"، وغيرها كثير مما هو معروف من أقوالهم، ولا يلتفتون إليه إذا صدر منه خللٌ أو خطأ، بل يُغمِضون عنه الطرف أدبًا زعموا.
وأيضًا على النقيض من هذا يصفون مَن خالف طريقهم واجتهادهم من أهل السنة والجماعة بألفاظٍ تدل على إسقاطه، ونزول مكانته؛ مثل قولهم: "مبتدع، وضال، مخالف، وفاسق، ومتروك، وليس بشيء، وخارجي، لا يُعرف، ليس على المنهج، من أهل الموازنات"، إلى غيرها من الأقوال المشتملة على نوع من التبديع والتفسيق والتجهيل، والرمي والقذف، في كل مخالفة لهم غالبًا.
وهؤلاء لديهم إشكالات في طريقة منهجهم في تبيين الحق، وتوضيح الخطأ ورده لغيرهم؛ حيث إنهم غالبًا:
لا يجتهدون بحثًا شاملاً في معرفة مذهب أهل السنة وأقوالهم في المسألة، ولا يعرفون جملةً خلاصةَ ما عليه الجمهور عامة، والجمهور من أصحاب المذاهب الفقهية خاصة؛ ولهذا كل مخالف ومخالَفة عندهم انحراف عن المنهج، لا عن القول الفقهي.
ولا يسيرون مع الدليل ربما إلا ما سدَّد قولهم وصوَّبه، ثم باقي الأدلة إما أن تعمم، أو تخصص، أو يتأوَّلوها.
ثم إذا عَرَفوا ما سبق من القول والدليل وحكم الفقهاء، وكانوا على صواب فيها، عندئذٍ يكون المخالِف لذلك القول مخالفًا عندهم لما عليه السلف الصالح، ومن ثَمَّ يستلزم الأمر بالمخالفة الأمر بالتبديع والتفسيق أحيانًا، وكذا الرمي بالخروج.
وأمر آخر أنهم لا يتعاملون مع الواقع والمرحلة التي تمر بها أمة الإسلام، ولا ينشغلون بقضايا المسلمين وهمومهم، اللهم إلا لذر الرَّماد في العيون.
وأيضًا لا يُسْقِطون الحكم الشرعي على حقيقته؛ من حيث تقديم النصيحة بحكمة بالغة، وأدب جم للمخالف، وقد أمر بها الكتاب والسنة، حتى مع أهل الكفر من أهل الكتاب.
وليت شعري ماذا يفعل شيخ الإسلام ابن تيميَّة لو عاصر هؤلاء، وهو الذي كان يظهر محاسن المخالف، مع إنكاره عليه في خطأ فعله أو قوله، ومثله ابن القيم، كما فعل مع الهَرَوِي في "منازل السائرين"، وسماه "شيخ الإسلام".
ومن أوهامهم أيضًا التقليد الذي لا خلاف فيه ولا معه، وهذا خلاف منهج طلب العلم والاجتهاد، فهم يقلدون شيوخهم في كل قول واجتهاد، وإذا تقرر الحق لأحدهم رمَوه وقذفوه بالمخالفة.
وقد بيَّن خطرَ هذا شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة - رحمه الله - فقال: "وليس لأحد أن يُنصِّبَ للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها، غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يُنصِّب لهم كلامًا يوالي عليه ويعادي، غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعلِ أهل البدع الذين ينصِّبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرِّقون به بين الأمة، يُوَالُون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون"؛ [مجموع الفتاوى].
ومن أوهامهم أن يَحسَبُوا كلَّ مَن وافقهم بقولٍ - وليس بمشتهر عندهم - أنه على مذهبهم وقولهم، وكما قال أحد الفضلاء يومًا: "إنك إذا وافقتهم في قولهم 100%،فأنت السلفي الأثري حقًّا، وإذا خالفتهم في 1% كنتَ المبتدعَ الضال..."، وهذا فيه وجه شبه بالتصوف وشيوخه ومريديه في تقليدهم واتباعهم.
ومن أوهامِهم الكبيرةِ اعتقادُهم أنهم أصحاب الحق المطلَق، والقول الأوحد، والمنهج الذي لا خلاف عليه، مع أن الشافعي وغيره من أئمة السلف كانوا يقولون: "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب"، أما هؤلاء، فقولهم الصواب المطلق، ولو لم يصرحوا بذلك.
ومن أوهامهم الانتقائيةُ في المسائل الاجتهادية، مما يقبل الاختلاف فيها سعة.
ومن أوهامهم البعد عن الاشتغال بالسياسة مطلقًا، وهذا خلاف منهج أهل السنة والجماعة؛ حيث إن السياسة الشرعية جزء من الإسلام، وإن أخطأ بعض المشتغلين بها، إنما الأَوْلَى عندهم الانشغال بالعلم وحده، وفهم الكتب وحفظ المتون، وترك الأمة تضيع، والشهوات تجرف الشباب والفتيات، وحسبهم أنهم حرَّاس الشريعة، وحماة السُّنة وحدهم، ولا أدري أين تقليدهم لشيخ الإسلام ابن تيميَّة، الذي كان آيةً في الجهاد العلمي، في نشر السنة وقمع البدعة، وآية في الجهاد العملي بالسيف ضد أعداء الإسلام وأهله.
ثالثًا: نداء المحب لشبابنا:
ونحن نقول لهؤلاء الشباب:
رويدًا مهلكم يا طلاب العلم وشباب الإسلام، لقد أخطأتُم الطريق في الاتباع والتعديل، مهلاً يا شبابنا، تعلموا "الأدب قبل الطلب"، وتزيَّنوا بأخلاق الإسلام الجليلة، وآداب طلب العلم النبيلة، فلا خيرَ في علم لا يتبعه الأدب.
اعَرَفوا للعلماء والأشياخ حقَّهم، والزموا أبوابَ الأكابر المشهود لهم، ولا خلاف بين الأمة على إمامتهم، ولا تلتقطوا من فتاواهم وأقوالهم ما يسدِّد قولكم، وتتركون ما خالفه.
واعلموا أنكم على فتنة عظيمة، وانحرافات جسيمة، فسارعوا بالهُدَى والسنة توبة، وبمنهج السلف سبيلاً، لقد كان طلب الأدب مقدَّمًا عندهم على طلب العلم، فهذا الإمام مالك يقول لفتى من قريش: "يا بن أخي، تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم".
وقال إبراهيم بن حبيب بن الشهيد: قال لي أبي: "يا بني، ائتِ الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذْ من أدبهم وأخلاقهم وهَدْيِهم، فإن ذاك أحبُّ إليَّ لك من كثير من الحديث".
وقال بعضهم لابنه: "يا بني، لأن تتعلَّمَ بابًا من الأدب أحبُّ إليَّ من أن تتعلَّم سبعين بابًا من أبواب العلم".
بل وهذا الحسين بن إسماعيل يقول: "سمعت أبي يقول: كنا نجتمع في مجلس الإمام أحمد زهاء على خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون، والباقي يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت".
وقال مخلد بن الحسين لابن المبارك: "نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث".
نعم أنا معكم؛ الخطأ لا بد أن يُرَدَّ عليه، وأن نحذِّر الناس منه، نعم معكم أننا نحذر من أهل البدع والأهواء، نعم نحارب البدعة وأهلها، وننشر السنة وفضلها.
لكن ليس الطريق إلى ذلك بما أنتم عليه الآن، وأصدُقُكم القول: إنكم لو أحسنتم الأدب مع المخالف لأصبتم بذلك خيرًا عظيمًا؛ من قَبولِه نصيحتَكم له، واعترافه بخطئه لو كان، وفتح الطريق معه للتعاون على الخير وفعله، وإحياء الأخوَّة الإيمانية والتراحم بين أهل السنة والسلفية، وعليكم بالجماعة، وهي السواد الأعظم لأمة الإسلام؛ لأن مَن شذَّ، شذَّ في النار.
ليس من خلافٍ بين أهل السنة والجماعة في خطر أهل البدع والأهواء والتحذير من شرورهم؛ إنما الخلاف في تنزيل أصول أهل البدع على مَن ينتمي لأهل السنة، زاد في خطئه أو نقص؛ فهذا يبدِّعهم، وآخر يعتذر عن خطئهم، وثالث يتوقَّف فيهم، فهل كل مَن خالفك أو خالف شيخَك باجتهاد سائغ، أو باجتهاد بأصول أهل السنة، ثم وافق ربما بعض أهل البدع، هل يصير ضالاًّ مضلاًّ، مبتدعًا خارجًا؟!
اجتهد ابنُ حجر العسقلاني الإمام، وكذا الإمام النووي، فوافقوا تأويل الصفات مع الأشاعرة؛ فهل يكونون مبتدعين، أو أن اختلافهم كان عن خطأ بالاجتهاد؟!
فإذا كان الخطأ بالاجتهاد عفا الله عنهم، فلِمَ لا نُنْزِل ذلك على إخواننا وندعو لهم بالحسنى ومعرفة الحق، مع المناصحة الصادقة، لا التشهير الفاضح باسم التحذير من أهل البدع؛ "فهل كل مجتهد مخطئ مبتدع؟!"، وقد اختلف الأئمة الأطهار مع بعضهم، ومع ذلك كان كل منهم يصلِّي خلف الآخر؛ كالشافعي، وأحمد، ولم يفسقه أو يبدعه أو يضلله.
أما جهابذة القرون المتأخِّرة فيختلفون، ثم يبتعدون، ثم يفسقون، ثم يبدعون، ثم في النار يَقذِفون، ويقولون: الدليل، قال الله تعالى، قال رسوله، قال السلف!
أحسنتَ بُنَيَّ؛ لكن هذا العلم ليس لك؛ إنما لأصحاب العلم الواسع، والتاريخ المشرق، والربانية الخالصة، والتجرُّد من الهوى وضيقِ الأفق.
كان الأئمة بالأمس يحذِّرون الأمة من التقليد الأعمى والتعصب المذهبي، فكيف لو رأوا اليوم دعاوى التعصب الشخصي بدعوى التمسك بالشريعة مذهب السلف؟!
عَجِبتُ حقًّا من أمة تَجعلُ ولاءها وبراءها للأشخاصِ، وليس لمنهج الإسلام العظيم، وما نحن فيه الآن من فتنة بين طلاب العلم من مراحل مرض هذه الأمة، وغدًا تنقشع الغمة كما انقشع التعصب الأعمى للمذاهب والتقليد، ولكن صغار العلم لا يفقهون.
يقول أحدهم: هذا ضال، وهذا فاسق، وهذا مبتدع، وهذا خارجي، والآخر قطبي، وهذا وهذا... إلخ.
ولو سألناه: ومَن أنت؟ قال: "أنا سلفي أثري"، عجيبٌ أمرُكم يا طلاب العلم؛ إنما وكِّلتم بتبليغ العلم، ولم تكلَّفوا بالحكم على الناس ظاهرًا وباطنًا.
اسمعوا يا شبابنا ماذا يقول أهل العلم، وكيف يكون إنصافهم لغيرهم:
قال الحافظ ابن عساكر: "واعلم - يا أخي - وفَّقنا الله وإيَّاك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتَّقيه حقَّ تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتكِ أستار منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثَّلْب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب".
وقد قال ابن القيم - رحمه الله -: "ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبَطَهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: التمسكُ بالسنةِ إذا رَغِب عنها الناس، وترْكُ ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريدُ التوحيد وإن أنكر ذلك أكثرُ الناس، وترْكُ الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقًّا، وأكثرُ الناس - بل كلهم - لائم لهم، فلغربتهم بين هذا الخلق؛ يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم".
وقال ابن الأذرعي: "الوقيعة في أهل العلم - لا سيما أكابرهم - من كبائر الذنوب".
وقال ابن المبارك: "مَن استخفَّ بالعلماء ذهبتْ آخرته، ومن استخفَّ بالأمراء ذهبتْ دنياه، ومن استخفَّ بالإخوان ذهبتْ مروءته".
وقال أبو سنان الأسدي: "إذا كان طالب العلم قبل أن يتعلم مسألة في الدين، يتعلم الوقيعة في الناس، متى يفلح؟!".
وقال الحسن بن ذكوان لرجلٍ تكلَّم عنده على أحد الناس: "مَه؛ لا تذكر العلماء بشيء فيُمِيت الله قلبَك".
وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في"إعلام الموقعين": "ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور؛ بل مأجور؛ لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدد مكانته وإمامته ومنزلته في قلوب المسلمين".
وقال أيضًا: "من قواعد الشرع والحكمة أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل من غيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث؛ بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى الخبث، وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم أن من له ألوف الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها، والله سبحانه يوازن يوم القيامة بين حسنات العبد وسيئاته؛ فأيهما غلب كان التأثير له". [مفتاح دار السعادة: 1-176].
وقال أيضًا: "فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملةً، وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم والصناعات وتعطلت معالمهما". [مدارج السالكين ج2].
وقال عبد الله بن المبارك: "إذا غلبت محاسن الرجل على المساوئ لم تُذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ على المحاسن لم تُذكر المحاسن".[تذكرة الحفاظ 1/276].
وذكر الإمام الذهبي - رحمه الله - في ترجمة شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وقد انفرد بفتاوى نيل من عرضه لأجلها، وهي مغمورة في بحر علمه، فالله تعالى يسامحه ويرضى عنه، فما رأيت مثله، وكل أحد من الأمة فيؤخذ من قوله ويترك فكان ماذا؟ " انتهى. [تذكرة الحفاظ: 4/192].
وقال الذهبي أيضًا: "ثم إنَّ الكبير من أئمة العلم إذا كثُر صوابه، وعلم تحرِّيه للحق، واتَّسَع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحُه ووَرَعُه واتِّباعه، يغفر له، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك". [سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج5، ص325].
وقال الإمام ابن القيم – رحمه الله –:"وقد يكون معنى النص بيناً جلياً فلا تختلف الأمة في تأويله وإن وقع الخلاف في حكمه لخفائه على من لم يبلغه أو لقيام معارض عنده أو لنسيانه فهذا يعذر فيه المخالف إذا كان قصده إتباع الحق ويثيبه الله على قصده وأما من بلغه النص وذكره ولم يقم عنده ما يعارضه فإنه لا يسعه مخالفته ولا يعذر عند الله بتركه لقول أحد كائنا من كان". [الصواعق المرسلة: 1/207].
وهذا كلام نفيس لشيخ الإسلام -رحمه الله- "منهاج السنة النبوية" يبين فيه حال الطوائف من أهل العلم والاجتهاد:
"أنّ الرجل العظيم في العلم والدين، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يومالقيامة، أهل البيت وغيرهم قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونًا بالظنّ، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء اللهالمتقين،ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين:
- طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه.
-وطائفة تذمه فتجعلذلك قادحًا في ولايته وتقواه، بل في برّه، وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتىتخرجه عن الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد.
والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا، ومن سلك طريق الاعتدال عظّم من يستحقّ التعظيم، وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أنّ الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيُحمد ويذم، ويثابويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافًا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم". [منهاج السنة النبوية: 4/543].
وقال أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
"ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين، كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما فهذه طرق أهل البدع والأهواء، الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم، ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلاً بقدره في العلم والدين، وبقدر الآخرين، فيكون جاهلاً ظالماً، والله يأمربالعلم والعدل، وينهى عن الجهل والظلم".[مجموع الفتاوى: 2/252].
وقال أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
"كثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنة والجماعة؛ ويجعل من خالفها أهل البدع وهذا ضلال مبين.
فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فهو الذي يجبتصديقه في كل ما أخبر؛ وطاعته في كل ما أمر وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة بلكل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن جعل شخصا من الأشخاص غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة - كما يوجد ذلك في الطوائف من اتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك - كان من أهل البدع والضلال والتفرق".[مجموع الفتاوى: 3/346].
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله -:
"ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين، وكثر تفرقهم، كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظهر أنه يبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذورا، وقد لا يكون معذورا، بل يكون متبعا لهواه، مقصرا في البحث عن معرفة ما يبغض عليه، فإن كثيرا من البغض كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وهذا الظن خطأ قطعا، وإن أريد أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه، فهذا الظن قد يخطئ ويصيب، وقد يكون الحامل على الميل مجرد الهوى، والإلف، أو العادة، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغضلله، فالواجب على المؤمن أن ينصح نفسه، ويتحرز في هذاغاية التحرز، وما أشكل منه، فلا يدخل نفسهفيه خشية أن يقع فيما نهي عنه من البغض المحرم.
وهاهنا أمر خفي ينبغيالتفطن له، وهو أن كثيرا من أئمة الدين قد يقولقولا مرجوحا، ويكون مجتهدا فيه، مأجورا على اجتهادهفيه، موضوعا عنه خطؤه فيه، ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة، لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله، بحيث إنه لو قاله غيره من أئمة الدين، لما قبله، ولا انتصر له، ولا والى من وافقه، ولا عادى من خالفه، وهو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه، وليس كذلك، فإن متبوعه إنما كان قصده الانتصار للحق، وإن أخطأ في اجتهاده، وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظنه الحق إرادة علو متبوعه، وظهور كلمته، وأنه لا ينسب إلى الخطأ، وهذه دسيسة تقدح في قصد الانتصار للحق، فافهم هذا، فإنه فهم عظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم". [جامع العلوم والحكم].
هَدْي النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوجيه والتصحيح:
ثم اعلموا - يا شبابنا - أن معالجة أخطاء الناس إذا ثبتتْ يقينًا، لا تكون إلا بمنهج الإسلام وما كان عليه السلف الصالح، فهذا خطأ الرماة في غزوة أحد، لما تركوا مواقعهم التي أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزومها، نزل قوله - تعالى -:﴿ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ﴾ [آل عمران: 152]؛ فهل لما ذكر الله - تعالى - أمرهم هنا بثلاثة تعبيرات "فشلتم، وتنازعتم، وعصيتم" - وهم الصحابة - لم يبيِّن حسناتهم في موضع آخر؟ وهل كانوا خوارج على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم؟!
وهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتزل زوجاته تأديبًا لهن، فقال بعض الناس: إنه طلَّق نساءه، فنزل قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [النساء: 83]؛ فماذا نسمِّيهم؟
وبعض المسلمين لما تركوا الهجرة من مكة إلى المدينة لغير عذرٍ شرعي، فأنزل الله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا… ﴾ [النساء: 97] الآية؛ فماذا نقول عنهم؟!
قال ابن سعدي – رحمه الله – في تفسير هذه الآية: "هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات، فإن الملائكة الذين يقبضون روحه يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم، ويقولون لهم: { فِيمَ كُنْتُمْ } أي: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟ بل كثرتم سوادهم، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير، والجهاد مع رسوله، والكون مع المسلمين، ومعاونتهم على أعدائهم.
{ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْض } أي: ضعفاء مقهورين مظلومين، ليس لنا قدرة على الهجرة. وهم غير صادقين في ذلك لأن الله وبخهم [ ص 196 ] وتوعدهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، واستثنى المستضعفين حقيقة".
وتصحيح الخطأ يكون بحسب بمقتضى الحال، وليس بمنهج واحد مع الجميع، فهذه جملة أحاديث تبين التعامل المختلِف مع المواقف، في تصويبها وتصحيحها:
• فعن ابن عباس: أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما شاء الله وشئت، فقال: ((جعلتني لله عدلاً؟ بل ما شاء الله وحده))؛ رواه أحمد: المسند.
• وعن أبي شريح هانئ بن يزيد قال: وفد على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قومٌ، فسَمِعهم يسمُّون رجلاً عبدالحجر، فقال له: ((ما اسمك؟))، قال: عبدالحجر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا، أنت عبدالله))؛ رواه البخاري في الأدب المفرد، وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد: صحيح.
• عن يَعِيشَ بن طِهْفَة الغفاري عن أبيه، قال: "ضِفْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمَن تَضَيَّفه من المساكين، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الليل يتعاهد ضيفه، فرآني منبطحًا على بطني، فركضني برجله، وقال: ((لا تضطجع هذه الضجعة؛ فإنها ضجعة يُبغِضها الله - عز وجل))، وفي رواية: فركضه برجله فأيقظه، فقال: ((هذه ضجعة أهل النار))؛ رواه أحمد.
• وروتْ عائشة - رضي الله عنها - أن قريشًا أهمَّهم شأن المرأة التي سرقتْ في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح، فقالوا: مَن يكلِّم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومَن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ فأُتي بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلَّمه فيها أسامة بن زيد، فتلوَّن وجهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أتشفعُ في حدٍّ من حدود الله؟!))، فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العَشِيُّ قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: ((أما بعد، فإنما أَهْلَك الذين مِن قبلكم أنهم كانوا إذا سَرَق فيهم الشريفُ تَرَكوه، وإذا سَرَق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ، وإني - والذي نفسي بيده - لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سَرَقتْ، لقطعتُ يدَها))، ثم أمر بتلك المرأة التي سَرَقتْ فقُطِعتْ يدها؛ الحديث في الصحيحين، وهذا لفظ مسلم.
• وعن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه بُرْد نَجْرَاني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجَبَذه بردائه جبذةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أثَّرت بها حاشيةُ البُرْد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء".
• وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجَّاجًا حتى إذا كنا بالعَرْج نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزلنا، فجلستْ عائشة - رضي الله عنها - إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلستُ إلى جنب أبي، وكانت زِمَالة (دابة السفر) أبي بكر وزِمَالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدةً مع غلام لأبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع وليس معه بعيره، قال: أين بعيرك؟ قال: أضللتُه البارحة، قال: فقال أبو بكر: بعير واحد تضله؟! قال: فطَفِق يضربه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبسم ويقول: ((انظروا إلى هذا المُحْرِم، ما يصنع))، قال ابن أبي رزمة: فما يزيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يقول: ((انظروا إلى هذا المُحْرِم، ما يصنع)) ويتبسم؛ رواه أبو داود في سننه، كتاب المناسك، باب المحرم يؤدِّب غلامه، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود.
• وروى البخاري - رحمه الله تعالى - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الحسن بن علي أخذ تمرةً من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفارسية: ((كَخْ كَخْ، أمَا تعرِف أنَّا لا نأكل الصدقة؟)).
• وعن جَرْهَد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ به وهو كاشف عن فخذه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((غطِّ فَخِذَك؛ فإنها من العورة))؛ رواه الترمذي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
• وروى البخاري - رحمه الله تعالى - في صحيحه عن جابر - رضي الله عنه - قال: "غزونا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ثاب معه ناسٌ من المهاجرين حتى كَثُروا، وكان من المهاجرين رجلٌ لَعَّابٌ، فكسع أنصاريًّا؛ فغضب الأنصاري غضبًا شديدًا حتى تَدَاعَوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ما بال دعوى أهل الجاهلية؟))، ثم قال: ((ما شأنهم؟))، فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دَعُوها؛ فإنها خبيثة)).
وفي رواية مسلم: ((ولينصر الرجلُ أخاه ظالمًا أو مظلومًا، إن كان ظالمًا فليَنْهَه؛ فإنه له نصر، وإن كان مظلومًا فلينصره))؛ صحيح مسلم.
• وفي صحيح البخاري عن حُمَيد بن أبي حميد الطويل، أنه سَمِع أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عِبَادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أُخبِروا كأنهم تَقَالُّوها (أي رأى كل منهم أنها قليلة)، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ (أي: إنهم ظنوا بأن من لم يعلم مغفرة ذنوبه يحتاج إلى المبالغة في العبادة أكثر من النبي - صلى الله عليه وسلم - رجاء أن تحصل له المغفرة)، قال أحدهم: أمَّا أنا، فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أُفطِر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبدًا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أمَا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له؛ لكني أصوم وأُفطِر، وأصلي وأرقد، وأتزوج)).
• وعن أنس أن نفرًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراشٍ، فحمد الله وأثنى عليه، فقال: ((ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمَن رغب عن سنتي فليس مني))؛ ورواه مسلم.
• وعن ابن عباس: أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ظاهر من امرأته، فوقع عليها، فقال: يا رسول الله، إني قد ظاهرتُ من زوجتي فوقعتُ عليها قبل أن أكفِّر، فقال: ((وما حملك على ذلك - يرحمك الله؟!))، قال: رأيتُ خَلْخَالها في ضوء القمر، قال: ((فلا تقربْها حتى تفعل ما أمرك الله به))، قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن غريب"؛ صحيح سنن الترمذي.
• وهذا عمر - رضي الله عنه - يقول: "سمعتُ هشام بن حكيم بن حِزَام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستمعتُ لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يُقْرِئنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكِدتُ أُسَاوِره في الصلاة، فتصبَّرتُ حتى سلَّم، فلبَّبتُه بردائه، فقلتُ: مَن أقرأك هذه السورة، التي سمعتُك تقرأ؟ قال: أقرَأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: كذبتَ؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أقرأنيها على غير ما قرأتَ، فانطلقتُ به أقوده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: إني سمعتُ هذا يقرأ بسورةِ الفرقان على حروفٍ لم تُقْرِئنيها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أرسله، اقرأ يا هشام))، فقرأ عليه القراءة التي سمعتُه يقرأ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كذلك أنزلتْ))، ثم قال: ((اقرأ يا عمر))، فقرأتُ القراءة التي أقرأَنِي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كذلك أنزلتْ، إن هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه))؛ رواه البخاري.
• وعن أنس بن مالك قال: "بينما نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي، فقام يَبُول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَهْ مَهْ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُزْرِمُوه، دَعُوه))، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه، فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر؛ إنما هي لذكر الله - عز وجل - والصلاة، وقراءة القرآن))، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلوٍ من ماء فشنَّه عليه"؛ صحيح مسلم.
• وعن أنس بن مالك حدَّثهم قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم))، فاشتد قوله في ذلك حتى قال: ((لينتهنَّ عن ذلك أو لتُخْطَفنَّ أبصارُهم))؛ رواه البخاري.
ففي هذه الأحاديث عدة أساليب تربوية نبوية توجيهية في الإرشاد والتصحيح؛ منها الرحمة بالمخالف، وعدم التسرع في تخطئته، وبيان الحق له، وأحيانًا بالزجر المناسب، وصدق القائل:
وَعَيْنُالرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ وَلَكِنَّ عَيْنَالسُّخْطِ تُبْدِي المَسَاوِيَا
الخلاصة والتوجيه:
إذًا نخلص من ذلك التبيان السالف بعدة نقاط مهمة:
الأولى: أن البشر سوى الأنبياء والرسل غيرُ معصومين.
الثانية: أن تصحيح الخطأ وبيانَه يكون بالعلم الصواب، والأدب الجم، والخلق الجميل، والحكمة البالغة، وليس بالقذف والرمي بالبهتان.
الثالثة: أن منهج هؤلاء ليس منهج السلف في أمور كثيرة؛ منها ما يلي:
(أ) الاشتغال بالتبديع والتفسيق، تحت مسمى تصحيح الخطأ والحفاظ على المنهج السلفي.
(ب) الانشغال بالتقليد - لو صح القول - "الأعمى" للشيوخ وطلاب العلم.
(ج) رمي الغير بالجهل والابتداع والخروج، دون محجة بينة، ودليل قاطع لا خلاف عليه.
(د) فصلهم السياسة عن الدين عمليًّا.
(هـ) إسقاط الأحكام على الناس بالحق والباطل، وتجرِئة الشباب الصغار والأغمار من المبتدئين على فحش القول، ورمي الأكابر من أهل العلم بكل قول وفعل قبيح، وهذا يكفي لهدم العلم ومنزلة العلماء.
الرابعة: أن الواجب عليهم العودة للحق والهُدَى والسنة، والانشغال بما هو أولى لهم في معاشهم ومعادهم.
الخامسة: على أهل العلم الأخيار أن يحذِّروا الشباب وطلاب العلم من خطر هذه المدرسة الفكرية بالدليل الصحيح، وأن يرشدوهم لمنهج أهل السنة والجماعة الصحيح في تبيين الخطأ ونقد المخالف فيما يكون بالتصحيح لا بمنهج التبديع والتجريح.
إن هذا التوجه الفكري يمثِّل نوعًا من الانحراف عن جادة الطريق، ومعاملة الناس بالإحسان، وعذر المخالف في اجتهاده، وتقديم النصيحة بالتي هي أحسن؛ فالواجب دعوتهم للخير والسنة، وتوجيه الشباب لخطرهم على المنهج السلفي خاصة، وتفريق الصف المسلم عامة.
نشر بالألوكة
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع