الموسوعة العقدية

طباعة الموضوع

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ومنه أيضاً أن يوصف أحد من الخلق بأي صفة من صفات الله عز وجل الذاتية أو الفعلية المختصة به كالخلق أو الرزق أو علم الغيب أو التصرف في الكون، حتى مع إثبات هذه الصفات لله عز وجل. وهذا الشرك يكثر لدى بعض الفرق المنحرفة كغلاة الصوفية والرافضة والباطنية عموماً، حيث يعتقد الرافضة- مثلاً- في أئمتهم أنهم يعلمون الغيب، وتخضع لهم ذرات الكون ونحو ذلك، وكذلك يعتقد الباطنية والصوفية في أوليائهم نحو ذلك، فعامة شرك الربوبية عند هؤلاء يقع في العلم والتصرف، أما في الخلق، والرزق فيقر به عامة الصوفية، وكذا المشركون الأوائل يعتقدون بأن الله عز وجل هو الخالق الرازق، لكنهم يدعون ويستغيثون بالأولياء من دون الله لزعمهم أنها تقربهم إلى الله زلفى، لذلك اقتصر مفهومهم للشرك باعتقاد أن الأولياء يخلقون أو يرزقون من دون الله، أو باعتقاد تصرفهم في الخلق استقلالاً. وبعد تقرير هذا الأصل ولكثرة أنواع الشرك في الربوبية، فقد رأيت أن أختار مثالين منهما وهما الشرك في العلم والشرك في التصرف ومن خلال نقل بعض أقوال الفرق يتضح انحرافها في هذا الأصل، ثم نرد عليهم و نبين المنهج الحق في ذلك:
أولاً: الشرك في العلم
أ- نُقول عن الفرق فيها نقض لتوحيد الربوبية
الأقوال كثيرة ومشتهرة وسأقتصر على الأقوال الصريحة منها:
فالباطنية زعموا أن أئمتهم وأولياءهم يعلمون ما كان وما يكون، ومن النقولات في ذلك ما ذكره صاحب (تأويل الدعائم) من أنه (جاء عن أولياء الله من الأخبار عما كان ويكون من أمر العباد) وجاء في كتاب (المجالس المؤيدية) (أن الأئمة يعلمون من أمر المبدأ والمعاد ما حجبه الله عن كافة العباد) ، وروى النعمان القاضي عن المعز لدين الله أنه قال: (... أفمن أودعه الله علم ما يكون يجهل فضله...فكيف بمن علمه الله علم ما يكون مما لم يكن بعد) ، وقال المعز: (إن عندنا علم ما يطلب، كقول جده علي: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي خلق الحبة وبرأ النسمة لا تسألوني عن علم ما كان وما يكون، ومن علم ما لا تعلمون إلا أخبرتكم به...) ، فهذه النصوص- كما نلاحظ- فيها دعوى أن الأئمة يعلمون ما كان وما يكون من أمر العباد وأمر الجن أو المعاد.
ومثل ذلك ما نقل عن الرافضة حيث ينسب الكليني إلى جعفر الصادق قوله: (ورب الكعبة ورب البنية لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما، لأن موسى والخضر عليهما السلام أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة، وقد ورثناه من رسول الله وراثة) . وينسبون إلى الحسن بن علي رضي الله عنه قوله: (إنا نعلم المكنون والمخزون والمكتوم الذي لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل غير محمد وذريته) .
ولا حاجة للإشارة إلى كذبهم على الحسن- رضي الله عنه- أو جعفر الصادق- رحمه الله- وإنما المقصود أن الرافضة يعتقدون فيهم هذا، ولهذا نقلوا هذه الأقوال عنهم ونسبوها إليهم.
وهذه الفكرة موجودة لدى المتصوفة فبينهم وبين الرافضة أوجه شبه كثيرة من أهمها تقديس الأئمة والأولياء.
فهذا عبد الكريم الجيلي صاحب كتاب (الإنسان الكامل) يزعم أنه كشف عن حقائق الأمور على ما هي عليه من الأزل إلى الأبد وأنه رأى جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة...إلخ .
وهذا الشعراني في كتابه (الطبقات الكبرى) ينقل عن شيخه الخواص أنه كان يعلم ما في اللوح المحفوظ ساعة بساعة ، ومما قاله المتصوفة: (...وينبغي على المريد أن يعتقد في شيخه أنه يرى أحواله كلها كما يرى الأشياء في الزجاجة) .
ويدخل في ذلك الكهانة والعرافة ونحوها، وكذلك إتيان الكهنة والعرافين وتصديقهم بما يقولون.
ب- اعتقاد أهل السنة في ذلك وحكم من ادعى علم الغيب
اعتقاد أهل السنة في ذلك:
يؤمن أهل السنة بأن الله وحده هو الذي يعلم الغيب، دون من سواه من ملك مقرب أو نبي مرسل، وأنه يطلع من يرتضيه من رسله على بعض الغيب متى شاء وإذا شاء وبذلك جاءت الآيات والأحاديث، قال سبحانه: {وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123]، وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} [يونس: 20]، وقال عز وجل: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف: 26]، وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: 179] وقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 50] يقول الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: (قل لهؤلاء المنكرين نبوتك: لست أقول لكم إني الرب الذي له خزائن السموات والأرض، فأعلم غيوب الأشياء الخفية التي لا يعلمها إلا الرب الذي لا يخفى عليه شيء، فتكذبوني فيما أقول من ذلك، لأنه لا ينبغي أن يكون رباً إلا من له ملك كل شيء، وبيده كل شيء، ومن لا يخفى عليه خافية، وذلك لا إله غيره) .
ومن الآيات في هذا المعنى قوله عز وجل: {قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65].
يقول الإمام القرطبي في تفسيرها: (فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه وتعالى شيئاً عن الخلق ويثبته لنفسه ثم يكون له في ذلك شريك، ألا ترى إلى قوله تعالى: {قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65]، وقوله: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187], فكان هذا كله مما استأثر الله بعلمه لا يشركه فيه غيره) .
ومن أصرح الآيات دلالة ما جاء في سورة الأنعام، قال تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 59]، وتفسيرها في سورة لقمان، قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره آية لقمان: (هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها، فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك ومن يشاء الله من خلقه، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه الله تعالى سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكراً أو أنثى أو شقيًّا أو سعيداً علم الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء الله من خلقه، وكذا لا تدري نفس ماذا تكسب غداً في دنياها وأخراها، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} في بلدها أو غيره من أي بلاد الله كان، لا علم لأحد بذلك، وهذه (أي الآية) شبيهة بقوله تعالى:{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [الأنعام:59], وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب) .
ثم ساق الحافظ عدة أحاديث في هذا المعنى، ومنها ما رواه البخاري عن ابن عمر- رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله)) . وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (...ومن حدثك أنه يعلم الغيب فقد كذب، وهو يقول: لا يعلم الغيب إلا الله) .
فالآيات والأحاديث المذكورة وغيرها مما لم نذكره قطعية الدلالة على اختصاصه عز وجل بعلم الغيب دون سواه من الأنبياء والرسل أو الملائكة أو الأولياء.
2- تفسير قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:29]
مرَّ معنا نصوص صريحة بأن الرسل وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم لا يعلمون الغيب مثل قوله تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام: 5] وسنزيد هذه المسألة إيضاحاً قبل أن نتكلم عن الاستثناء المذكور في الآية، قال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:188]. (أي لو كنت أعلم جنس الغيب، لتعرضت لما فيه الخير، فجلبته إلى نفسي، وتوقيت ما فيه السوء، حتى لا يمسني، ولكني عبد لا أدري ما عند ربي، ولا ما قضاه في، وقدره لي، فكيف أدري غير ذلك وأتكلف علمه؟) .
وقال- عز وجل-: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [هود:31]
وقال سبحانه: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} [المائدة:109].
ففي هذه الآية دليل على نفي علم الأنبياء بالغيب، وإذا لم يعلم الرسل والأنبياء ذلك فمن ادعاه لنفسه أو لغيره فهو مضاد ومكذب بما جاء في القرآن.
وقال سبحانه في حكاية المحاورة بين موسى عليه السلام وفرعون: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:51-52] فأضاف موسى عليه السلام هذا العلم إلى الله سبحانه، ونفاه عن نفسه فدل على أن الأنبياء لا يعلمون منه شيئاً إلا ما يخبرهم به سبحانه .
وقال سبحانه: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الأحقاف: 9]
لقد قص علينا- سبحانه وتعالى- من أحوال الأنبياء والرسل وأخبارهم ما يؤكد هذا المعنى ويرسخه، فها هو إبراهيم عليه السلام لم يعلم بأنه يولد له ولد من زوجته سارة إلا بعد أن جاءته الملائكة، وجاءته الملائكة في صورة بشر فلم يعرفهم فذبح لهم عجلاً وقربه إليهم، ولم يكن يعرف مقصدهم حتى أعلموه أنهم ذاهبون لتدمير قرى قوم لوط، وأما لوط فإنه ساءته رؤية الملائكة ولم يعلم حقيقة أمرهم إلا بعد أن أعلموه أنهم جاءوا لإنجائه وإنجاء أهله .
وها هو المصطفى صلى الله عليه وسلم أصابه همٌّ عظيم وقلق وانشغل باله فيما قذف المنافقون عائشة رضي الله عنها، ومكث أياماً يستشير أصحابه في الأمر، ولم يعلم حقيقة الأمر حتى أنزل الله عز وجل براءتها وكذب المنافقين ، فكل هذه الآيات والأخبار تدل دلالة قطعية على أن الأنبياء لا يعلمون الغيب فإذا كان الأنبياء الأصفياء المقربون لا يعلمون ذلك، فغيرهم من باب أولى.
أما الاستثناء الوارد في قوله تعالى: {إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} [الجن:29], فمعناه: (أي من اصطفاه من الرسل، أو من ارتضاه منهم لإظهاره على بعض غيبه، ليكون ذلك دالًّا على نبوته) .
وقال الإمام ابن العربي المالكي: (وعند الله تعالى علم الغيب وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو، فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه، ومن شاء حجبه عنها حجبه، فلا يكون ذلك من إفاضته إلا على رسله بدليل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179] وقال الطيبي: (..فلا يظهر إظهاراً تامًّا وكشافاً جليًّا إلا لرسول يوحى إليه مع ملك وحفظة، ولذلك قال: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدً} [الجن: 27], وتعليله بقوله: {لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} [الجن: 28], وأما الكرامات فهي من قبيل التلويح واللمحات، وليسوا في ذلك كالأنبياء) ، وقال الحافظ ابن حجر: (وفي الآية رد على المنجمين، وعلى من يدعي أنه مطلع على ما سيكون من حياة أو موت أو غير ذلك؛ لأنه مكذب للقرآن وهم (أي المنجمين ومن في حكمهم) أبعد شيء من الارتضاء مع سلب صفة الرسولية عنهم) .
إذاً الآية صريحة الدلالة في أن الغيب مختص به ولا سبيل إلى علمه إلا من إخبار الله تعالى لمن يشاء من رسله وأنبيائه. ومن أمثلة ذلك ما ذكره الله عز وجل عن يوسف عليه السلام، قال تعالى: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف: 37] وقوله عن عيسى عليه السلام: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49].
ومن ذلك أيضاً ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من فتوحات إسلامية، وفتن وملاحم وقعت كما أخبر بها صلى الله عليه وسلم، وإخباره عن علامات الساعة، والشهادة لبعض الصحابة بالجنة وأحوال أهل الجنة والنار...إلخ . والرسول يخبر أمته بما أعلمه الله تعالى، وقد أورد الشوكاني سؤالاً وأجاب عنه فقال: (إذا تقرر بهذا الدليل القرآني أن الله يظهر من ارتضى من رسله على ما شاء من غيبه، فهل للرسول الذي أظهره الله على ما شاء من غيبه أن يخبر به بعض أمته؟ قلت (أي الشوكاني): نعم ولا مانع من ذلك وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا ما لا يخفى على عارف بالسنة المطهرة، فمن ذلك ما صح أنه قام مقاماً أخبر فيه بما سيكون إلى يوم القيامة، وما ترك شيئاً مما يتعلق بالفتن ونحوها حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، كذلك ما ثبت من أن حذيفة بن اليمان كان قد أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حدث من الفتن بعده، ومنها تحدثه لعمر رضي الله عنه عن الفتن التي تموج كموج البحر، وكذلك ما ثبت من إخباره صلى الله عليه وسلم لأبي ذر بما يحدث له، وإخباره لعلي بن أبي طالب بخبر ذي الثدية، ونحو هذا الكلام مما يكثر تعداده ولو جمع جاء منه مصنف مستقل) .
ثانياً: الشرك في التصرف
أ- نماذج من انحراف الفرق في ذلك
من المعروف عن الباطنية تأليههم لبعض الأشخاص، فالنصيرية مثلاً يؤلهون علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والدروز يؤلهون الحاكم بأمره وهكذا، فالباطنية لديهم غلو ظاهر في هذا الجانب، ولعلنا نقتصر هنا على إبراز معتقد النصيرية في ذلك، وملخصه ما يلي: يعتقدون أن الله يحل في الأشخاص، وأن آخر حلول له كان في علي بن أبي طالب، بل ذهبوا إلى ما يشبه عقيدة التثليث عند النصارى، إذ إنهم ألفوا ثالوثاً يتكون من علي، ومحمد، وسلمان الفارسي، ويزعمون أن العلاقة بين أطراف هذا الثالوث علاقة إيجاد، فعلي خلق محمداً، ومحمد خلق سلمان، وسلمان خلق الأيتام الخمسة ويقصدون بهم: المقداد بن الأسود، وأبا ذر الغفاري، وعثمان بن مظعون، وعبد الله بن رواحة، وقنبر بن كادان مولى علي، وأكدوا لهؤلاء مسئوليات معينة في تصريف الكون، فالمقداد موكل إليه الرعد والصواعق والزلازل، وأبو ذر موكل بالرياح وقبض أرواح البشر، وقنبر موكل بنفخ الأرواح في الأجسام ، إذاً علي بن أبي طالب وسلمان والأيتام الخمسة يتفردون بتصريف أمور الكون من الخلق والموت والحياة وغيرها، وهذه من أخص صفات الربوبية، ولا غرابة في هذا الاعتقاد عند النصيرية ماداموا يؤلهون البشر، ويعتقدون بالحلول على طريقة النصارى.
أيضاً يعتقد الرافضة الإمامية في أئمتهم شيئاً من ذلك، فينسبون إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه من رواية جعفر بن محمد قوله: (انتقل النور إلى غرائزنا ولمع في أئمتنا، فنحن أنوار السماء وأنوار الأرض، فبنا النجاة ومنا مكنون العلم، وإلينا مصير الأمور، وبمهدينا تنقطع الحجج..) وينسبون إليه أيضاً قوله: (…ونحن الذين بنا تمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وبنا تمسك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزل الغيث، وتنشر الرحمة...) ، ويقول أحد أئمتهم المعاصرين وهو الخميني: (فإن للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية، وخلافه تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون...) . فالكون بذلك خاضع لولايتهم وسيطرتهم وتصرفهم.
أما المتصوفة فاعتقادهم بأوليائهم وتصرفهم في الكون وشئون الخلق مشهور معلوم، (فعامتهم يجعلون الولي مساوياً لله عز وجل في جميع صفاته فهو يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويتصرف في الكون، ولهم تقسيمات للولاية فهناك الغوث المتحكم في كل شيء في العالم والأقطاب الأربعة الذين يمسكون الأركان الأربعة في العالم بأمر الغوث، والأبدال السبعة الذين يتحكم كل واحد منهم في قارة من القارات السبع بأمر الغوث والنجباء وكل واحد منهم يتصرف في ناحية تتحكم في مصائر الخلق) .
بل يزعم بعض المتصوفة أن من كرامات أوليائهم أنهم يحيون الموتى، فهذا البدوي تستغيث به امرأة ليحيي ولدها الذي مات (فمد سيدي أحمد البدوي يده إليه ودعا له فأحياه الله تعالى) ، والبدوي يميت من يتعرض له من الأحياء كما فعل مع معارضيه في العراق، فقد قال لهم: موتوا. فوقعوا على الأرض قتلى، ثم قال: قوموا بإذن من يحيي ويميت الأحياء. فقاموا .
ومما يدخل تحت دعوى المخلوقات بشئون الكون من دون الله ما يدعيه أهل الجاهلية ومن تبعهم من الاعتقاد بأن الأنواء والنجوم والكواكب هي التي تنشئ السحاب وتنزل المطر من دون الله عز وجل.
ب- اعتقاد أهل السنة في ذلك، وحكم من أثبت لمخلوق تصرفاً في الكون من دون الله عز وجل
من أصول اعتقاد أهل السنة ومما تواترت به النصوص من الكتاب والسنة الاعتقاد الجازم بأن النفع والضر، والخير والشر، والخلق والرزق والموت والحياة والتصرف في الكون وفي شئون العالم لا يكون إلا لله عز وجل، وبقضائه وقدره وأمره لملائكته أو أحد من خلقه بفعل شيء من ذلك.
قال تعالى موجهاً نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188] وقال عز وجل: {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن: 21]، وقوله: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154]، وقوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الأنفال: 10] وقوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [يونس: 3]، بل إن الأمر معلوم حتى لمشركي العرب، قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [يونس: 31] وقال- عز وجل-:{قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ اللّهُ} [المؤمنون: 88] وقال- عز وجل- عن الكفار: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا} [النحل: 73]، وقال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106]، وقوله سبحانه: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107]، وقوله تعالى أيضاً: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2], وقال سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} [سبأ: 22]، أي: ليس لهم قدرة على خير ولا شر، ولا على جلب نفع، ولا دفع ضر في أمر من الأمور {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} أي: ليس للآلهة الباطلة في السموات والأرض مشاركة لا بالخلق ولا بالملك ولا بالتصرف) .
والأحاديث الشريفة في هذا المعنى كثيرة ومنها حديث وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس حيث جاء فيها: ((... واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك...)) الحديث .
وجاء في دعائه صلى الله عليه وسلم قوله: ((اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) فهذه كلها نصوص صريحة الدلالة في أن النفع والضر والرزق والخلق والتصرف والنصر كلها من الله عز وجل، فلذلك لا يجوز أن يدعى ويطلب من غيره النفع والضر أو الرزق كما لا يجوز أن يعتقد في غيره أن له تصرفاً في الكون من خلق وغيره، فكل ذلك شرك صريح مناقض لقول القلب.
قال الشيخ صنع الله الحنفي رحمه الله في الرد على من ادعى ذلك: (هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفاً بحياتهم وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات وبهممهم تكشف المهمات،....) قال: (وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومضادة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة)، ثم قال: فأما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات: فيرده قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} [النمل: 61]، وقوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54], {لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى: 49], ونحوها من الآيات الدالة على أنه المتفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير، ولا شيء لغيره في شيء ما بوجه من الوجوه فالكل تحت ملكه وقهره تصرفاً وملكاً وإماتة وخلقاً...) . وقال الشيخ صديق خان في تعليقه على قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} [النحل: 73] : (ومفهوم الآية أن قول العامة: إن الأنبياء والأولياء والشهداء والأئمة لهم تصرف في العالم، وقدرة عليه، ولكنهم شاكرون لتقدير الله تعالى، راضون بقضائه، ولا يقولون شيئاً ولا يفعلون أمراً، أدباً منهم، ولو شاءوا لغيروا الأمور في آن، وسكوتهم إنما هو تعظيماً للشرع الشريف غلط فاضح، وكذب واضح؛ لأنهم لا يستطيعون شيئاً لا حالاً ولا استقبالاً، ولا حول لهم على ذلك أصلاً، وهذه العقيدة فيها شرك بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه ليس في الدار غيره ديار .
ومن خلال هذه النقول يتبين حكم هذه المسألة، القطعية المجمع عليها. و... في ختام هذا المبحث ... أشير إلى مسألة الاستسقاء بالنجوم لأن البعض قد يغلط فيها... :
قال الشافعي في تعليقه على حديث زيد بن خالد: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) ، قال رحمه الله: (... ومن قال مطرنا بنوء كذا، وهو يريد أن النوء أنزل الماء، كما عني بعض أهل الشرك من الجاهلية فهو كافر، حلال دمه إن لم يتب)، وقال الإمام ابن عبد البر في معنى الحديث، قال: فمعناه على وجهين: أما أحدهما: فإن المعتقد بأن النوء هو الموجب لنزول الماء، وهو المنشئ للسحاب دون الله عز وجل، فذلك كافر كفراً صريحاً، يجب استتابته وقتله إن أبى، لنبذه الإسلام ورده القرآن، والوجه الثاني: أن يعتقد أن النوء ينزل الله به الماء، وأنه سبب الماء على ما قدره الله وسبق في علمه، وهذا وإن كان وجهاً مباحاً، فإن فيه أيضاً كفراً بنعمة الله عز وجل وجهلاً بلطيف حكمته...) .
المطلب الثاني: الشرك في الألوهية
توحيد الألوهية: هو إفراد الله تعالى بأفعال العباد، أي: إفراده – جل وعلا – بالعبادة والخضوع والطاعة المطلقة، وأن لا يشرك به أحد كائناً من كان، ولا يصرف شيء من العبادة لغيره تعالى.
أي: أن الله تعالى وحده هو المعبود بحق، وأن ما سواه من المعبودات كلها باطل لا تستحق أي شيء من العبادة.
فمن اعتقد غير هذا، أو قال قولاً، أو فعل فعلاً، ينافي هذا المعنى، أو أنكر حق الله تعالى في ألوهيته، أو انتقص شيئاً منه، أو صرف شيئاً منه لغيره؛ فقد كفر، وارتد عن الإسلام.
فأكثر الأمم السابقة، وأكثر الناس في الإسلام وقعوا في الشرك أو الكفر في توحيد الألوهية؛ لأنهم لم يكونوا ينكرون ربوبية الله تعالى؛ بل أقروا بأن الله تعالى هو الرب والخالق والرازق والمحي والمميت، ولكنهم صرفوا شيئاً من العبادة لغيره تعالى؛ فجعلهم الله في عداد الكافرين بإشراكهم غيره في العبادة.
وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له؛ هي غاية الخالق – جل جلاله – من خلق عباده، ولذلك هي موضوع الامتحان للعبادة في الدنيا، قال تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
فكل اعتقاد، أو قول، أو عمل؛ يتضمن أحد هذين الأمرين يخرج صاحبه من الإسلام.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} [البقرة: 165].
وقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].
وقال: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40].
الأمثلة من نواقض الإيمان في توحيد الألوهية والعبادة:
- عبادة أحد مع الله، أو دون الله، أو يُدعى مع الله تعالى، وأن يستغاث بغيره سبحانه؛ في جلب خير، أو دفع ضر، أو يتوكل عليه، أو يستعاذ به، أو يخاف منه، أو يرجى، أو يخضع له، أو يتقرب إليه بأي نوع من أنواع العبادة، أو يطاع الطاعة المطلقة، أو يحب كحب الله تبارك وتعالى، أو يعظم كتعظيم الله تعالى؛ سواء كان هذا المعظم أو المدعو ملكاً، أو نبيًّا، أو وليًّا، أو قبراً، أو حجراً، أو شجراً.
- الركوع، والسجود، والصوم، والطواف، والذبح، والنذر، والخشوع لغير الله تعالى.
- الطاعة والانقياد لغير الله تعالى، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
- الاعتقاد بأن لشخص حق تشريع ما لم يأذن به الله تعالى؛ من التحليل والتحريم وسن القوانين.
- الاعتقاد بأن شرع الله تعالى لا يصلح في هذا الزمان.
يكفر من أتى شيئاً من هذه النواقض، أو رضي بها، أو عمل بعضها، وإلى غير ذلك من النواقض التي تخص توحيد العبادة.
المطلب الثالث: إنكار اسم أو صفة لله تعالى
يقول الإمام أحمد:
(إذا قال الرجل: العلم مخلوق. فهو كافر؛ لأنه يزعم أنه لم يكن له علم حتى خلقه). وقال أيضاً: (من قال: القرآن مخلوق. فهو عندنا كافر؛ لأن القرآن من علم الله عز وجل، قال الله عز وجل: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]) .
ويقول رحمه الله:
(من قال إن الله عز وجل لا يرى في الآخرة فهو كافر) .
وقال هارون بن معروف :
(من زعم أن الله عز وجل لا يتكلم فهو يعبد الأصنام).
وقال محمد بن مصعب العابد :
(من زعم أنك لا تتكلم ولا تُرى في الآخرة فهو كافر بوجهك لا يعرفك، أشهد أنك فوق العرش، فوق سبع سماوات، وليس كما يقول أعداء الله الزنادقة) .
وقال نعيم بن حماد : (من شبَّه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف به نفسه ورسوله تشبيه)
وقال ابن خزيمة :
(من لم يقر بأن الله على عرشه، استوى فوق سبع سماواته، بائن من خلقه، فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على مزبلة؛ لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة وأهل الذمة) .
وقال الآجري:
(باب ذكر الإيمان بأن القرآن كلام الله عز وجل، وأن كلامه جل وعلا ليس بمخلوق، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر).
ثم قال: (اعلموا رحمنا الله وإياكم أن قول المسلمين الذين لم تزغ قلوبهم عن الحق ووفقوا للرشاد قديماً وحديثاً؛ أن القرآن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق، لأن القرآن من علم الله تعالى، وعلم الله لا يكون مخلوقاً تعالى الله عز وجل عن ذلك، دل على ذلك القرآن والسنة وقول الصحابة رضي الله عنهم، وقول أئمة المسلمين رحمة الله تعالى عليهم، لا ينكر هذا إلا جهمي خبيث، والجهمية عند العلماء كفار) .
وقال هارون الفروي :
(لم أسمع أحداً مـن أهل العلم بالمدينة وأهل السنـن إلا وهم ينكـرون على من قـال: القرآن مخلوق. ويكفرونه) .
وقال النووي:
(قال المتولي: لو نفى ما هو ثابت للقديم بالإجماع، ككونه عالماً قادراً... كان كافراً) .
ويقول ابن تيمية:
(والـذي عليه جمهور السلف أن من جحد رؤية الله في الدار الآخرة فهو كافر، فإن كان ممن لم يبلغه العلم في ذلك، عـرف ذلك، كما يعرف من لم تبلغه شرائـع الإسلام، فإن أصر على الجحود بعد بلوغ العلم له فهو كافر) .
ويقول أيضاً:
(القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة بعد تدبر ذلك. ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك، لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين) .
وجاء في (الفتاوى البزازية):
(يجـب إكفار القدرية في نفيهــم كون الشر من خلـق الله تعالى، وفي دعواهم أن كل فاعل خالق فعل نفسه) .
و قال المرداوي:
(من أشرك بالله، أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته، أو صفة من صفاته كفر بلا نزاع في الجملة)
المطلب الرابع: الإعراض عن دين الله
الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به ذكر الإمام ابن القيم- رحمه الله- والإمام محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة الإعراض كناقض من نواقض الإسلام، فما المقصود بالإعراض؟ وما هو الإعراض المناقض للإسلام؟
أ- مفهوم الإعراض:
ورد ذكر الإعراض في القرآن الكريم في أكثر من خمسين موضعاً ، سنستعرض بعضها، وننقل شيئاً من أقوال المفسرين حولها، وقبل ذلك نشير بإيجاز إلى كلام أهل اللغة في معنى الإعراض، ثم نذكر الخلاصة.
قال في اللسان: (...والمعرض: الذي يستدين ممن أمكنه من الناس،..وقال الأصمعي: قوله فادَّان معرضاً: أي أخذ الدين ولم يبال أن لا يؤديه، ولا ما يكون من التبعة،...وقيل: إن أراد أن يعرض إذا قيل له لا تستدن فلا يقبل، من أعرض عن الشيء إذا ولاه ظهره، وقيل: أراد معرضاً عن الأداء مولياً عنه) .
(والإعراض عن الشيء: الصد عنه، وأعرض عنه: صد) . (والإعراض الصدود، أعرض عنه: صد وولى) .
وقال في اللسان في معنى التولي (وتولى عنه: أعرض: وولى هارباً: أي أدبر...وقد ولى الشيء وتولى إذا ذهب هارباً ومدبراً، وتولى عنه إذا أعرض، والتولي يكون بمعنى الإعراض، ويكون بمعنى الاتباع، قال الله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] أي: إن تعرضوا عن الإسلام...) . وقال الراغب الأصفهاني:(وقولهم: تولى) إذا عدي بنفسه اقتضى معنى الولاية وحصوله في أقرب المواضع منه، يقال: وليت سمعي، ووليت عيني كذا، ووليت وجهي كذا أقبلت به عليه، قال الله عز وجل: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] وإذا عدي بمن لفظاً أو تقديراً اقتضى معنى الإعراض وترك قربة.. {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران: 144] {إِلا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ} [الغاشية: 23]والتولي قد يكون بالجسم، وقد يكون بترك الإصغاء والائتمار) .
وقال أبو البقاء الكفوي في (الكليات): (الإعراض: أن تولي الشيء عرضك: أي جانبك ولا تقبل عليه، والتولي: الإعراض مطلقاً، ولا يلزمه الإدبار... والإعراض: الانصراف عن الشيء بالقلب، قال بعضهم: المعرض والمتولي يشتركان في السلوك إلا أن المعرض أسوأ حالاً... وغاية الذم الجمع بينهما) .
وبعد هذه الإشارة السريعة للمعنى اللغوي نستعرض بعض الآيات المتعلقة بالموضوع مع ذكر أقوال بعض المفسرين.
1- قال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة: 22]. قال الإمام القرطبي:(ثم أعرض عنها بترك القبول) وقال الحافظ ابن كثير- رحمه الله- (…أي: تناساها، وأعرض عنها، ولم يصغ لها ولا ألقى إليها بالاً) .
وقال الإمام الشوكاني- رحمه الله-: (أي: لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بآيات ربه التنزيلية أو التكوينية أو مجموعهما فتهاون بها، وأعرض عن قبولها، ولم يتدبرها حق التدبر، ويتفكر فيها حق التفكر) ، وقال محمد الأمين الشنقيطي- رحمه الله-: (فأعرض عنها: أي تولى وصد عنها) .
2- قال سبحانه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1] قال أبو حيان- رحمه الله-: (…الغفلة عن الشيء، والإعراض عنه متنافيان، لكن يجمع بينهما باختلاف حالين، أخبر عنهم، أولاً: أنهم لا يتفكرون في عاقبة بل هم غافلون عما يئول إليه أمرهم، ثم أخبر ثانياً، أنهم إذا نبهوا من سنة الغفلة وذكروا بما يئول إليه أمر المحسن والمسيء أعرضوا عنه ولم يبالوا بذلك) .
3- قال عز وجل: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} [طه: 100] (أي: أعرض عنه فلم يؤمن به، ولا عمل بما فيه) .
4- وقال تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 34]، قال أبو حيان - رحمه الله -: (…والظاهر أن الإعراض متسبب عن انتفاء العلم لما فقدوا التمييز بين الحق والباطل أعرضوا عن الحق، وقال ابن عطية ثم حكم عليهم تعالى بأن أكثرهم لا يعلمون الحق لإعراضهم عنه، وليس المعنى فهم معرضون؛ لأنهم لا يعلمون، بل المعنى فهم معرضون ولذلك لا يعلمون الحق) .
5- وقال سبحانه: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 17].
قال الإمام القرطبي- رحمه الله-: (يعني القرآن، قاله ابن زيد، وفي إعراضه عنه وجهان: أحدهما: عن القبول، إن قيل في أهل الكفر، الثاني عن العمل، إن قيل إنها في المؤمنين) .
6- وقال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} [البقرة: 83] قال ابن عباس رضي الله عنه: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ}: أعرضتم عن طاعتي، {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ} قال: القليل الذين اخترتهم لطاعتي، وسيحل عقابي عمن تولي وأعرض عنها) .
وقال أيضاً: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ}، أي تركتم ذلك كله .
7- قال سبحانه: {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} [آل عمران: 23] قال الإمام الطبري- رحمه الله-: (ثم يستدبر عن كتاب الله الذي دعا إلى حكمه، معرضاً عنه منصرفاً، وهو بحقيقته وحجته عالم) .
وورد في القرآن الكريم ذكر التولي بمعنى الإعراض، وترك الطاعة مثل:
8- قوله سبحانه: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 64]، قال ابن جرير- رحمه الله-: ({ثُمَّ تَوَلَّيْتُم} ثم أعرضتم، وإنما هو (تفعلتم) من قولهم: ولاني فلان دبره. إذا استدبر عنه وخلفه خلف ظهره، ثم يستعمل ذلك في كل تارك طاعة أمر بها) .
9- وقال تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 43] قال الإمام الطبري: ({يَتَوَلَّوْنَ} يقول: يتركون الحكم به، بعد العلم بحكمي فيه، جرأة علي وعصياناً لي) .
وقال- رحمه الله-: (وأصل التولي عن الشيء الانصراف عنه...) .
10- وورد لفظ التولي بمعنى التولي عن الطاعة في مواضع من القرآن، كقوله تعالى: {فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذاباً أليماً} [الفتح: 16].
وقوله سبحانه: {لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 15-16] وقوله عز وجل: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة: 31-32] قال شيخ الإسلام: (فالتكذيب للخبر، والتولي عن الأمر، وإنما الإيمان تصديق الرسل فيما أخبروا، وطاعتهم فيما أمروا) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وقال في موضع آخر تعليقاً على هذه الآيات: (فعلم أن التولي ليس هو التكذيب، بل هو التولي عن الطاعة، فإن الناس عليهم أن يصدقوا الرسول فيما أخبر، ويطيعوه فيما أمر، وضد التصديق التكذيب، وضد الطاعة، التولي) .
وقال- رحمه الله-: (والمتولي هو العاصي الممتنع عن الطاعة) .
الخلاصة:
بعد هذا الإيجاز لكلام أهل اللغة والمفسرين، يمكن أن نستخلص من معاني الإعراض ما يلي:
1- يأتي بمعنى: عدم الاستماع لأوامر الله عز وجل، وعدم المبالاة بها أو التفكر فيها وهو الغالب.
2- ويأتي بمعنى: عدم القبول لها، وهذا يأتي بعد الاستماع لها والتذكير بها.
3- ويأتي بمعنى الامتناع والتولي عن الطاعة، وهذا يكون بعد الاستماع والقبول.
4- ويأتي بمعنى: ترك العمل.
5- ويأتي بمعنى: الصدود.
6- ويأتي بمعنى: ترك حكم الله، والانصراف عنه مع العلم بحقيقته.
وحاصل ذلك يرجع إلى ثلاثة أمور:
الأول: يتعلق بالعلم (قول القلب)، من عدم الاستماع، وعدم المبالاة.
الثاني: يتعلق بالعمل (عمل القلب والجوارح).
أ - عمل القلب: من عدم القبول والاستسلام.
ب- عمل الجوارح: من الامتناع وترك العمل، والتولي عن الطاعة.
الثالث: الإعراض عن حكم الله والتحاكم إليه.
فهذا هو مفهوم الإعراض، وهذه هي أنواعه وحالاته.
ب- الإعراض المكفر وغير المكفر
بعد ذكر مفهوم الإعراض وحالاته، يرد علينا هذا التساؤل، ما الإعراض الذي هو ناقض من نواقض الإسلام؟ ذكر الإمام ابن القيم- رحمه الله- من أنواع الكفر الأكبر: كفر الإعراض، وعرفه قائلاً: (وأما كفر الإعراض: فإن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول، لا يصدقه ولا يكذبه ولا يواليه ولا يعاديه، ولا يصغي إلى ما جاء به البتة…) ، وفصل ذلك في موضع آخر فقال: (..إن العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها، والثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها، فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل) .
فالإعراض المكفر على حسب ما ذكره هو نوع من اللامبالاة فلا يسمع الحجة، ولا يبحث عنها، ولا يفكر في ذلك، ولا يعني ذلك أن الإمام يحصر كفر الإعراض بما ينافي قول القلب فقط، لكنه لا يسمي في كلامه ترك العمل بعد العلم كفر إعراض، وإنما يطلق عليه كفر عناد وهو نفسه كفر الإعراض من جهة التولي وترك العمل والامتناع ....
كذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- كفر الإعراض المنافي لقول القلب حيث قال: (…والكفر أعم من التكذيب فكل من كذب الرسول كافر، وليس كل كافر مكذباً، بل من يعلم صدقه، ويقر به وهو مع ذلك يبغضه أو يعاديه كافر، أو من أعرض فلم يعتقد لا صدقه ولا كذبه كافر وليس بمكذب…) .
وكذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله- ذكر ضمن نواقض الإسلام (العاشر: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة: 22] ، فالإمام كما يبدو من كلامه يعتبر جهل أصول الدين والإعراض عن تعلمه مع القدرة كفر أكبر وكذلك ترك العمل بعد ما يعلم.
أما الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ- رحمه الله- فقد أجاب إجابة شاملة وموجزة حينما سئل عن الإعراض الناقض للإسلام، فقال: (إن أحوال الناس تتفاوت تفاوتاً عظيماً وتفاوتهم بحسب درجاتهم في الإيمان إذا كان أصل الإيمان موجوداً والتفريط والترك إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات والمستحبات،وأما إذا عدم الأصل الذي يدخل به الإسلام وأعرض عن هذا بالكليه، فهذا كفر إعراض، فيه قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]، ولكن عليك أن تعلم أن المدار على معرفة حقيقة الأصل وحقيقة القاعدة وإن اختلف التعبير واللفظ…) .
فالشيخ عبد اللطيف - رحمه الله - بين ووضح أنه إذا اختل الأصل (أي أصل الإيمان ...) بالإعراض التام عن قول القلب أو عمله، أو قول اللسان أو جنس عمل الجوارح فهذا هو الإعراض الناقض لأصل الإيمان، أما ترك الواجبات والمستحبات والإعراض عن فعلها فلا يعد ضمن الإعراض المكفر، ويلاحظ في كلام الشيخ أنه لم يذكر ترك الأركان ضمن الإعراض غير الناقض ولعل ذلك للخلاف المشهور حول حكم تارك الأركان، وخاصة الصلاة.
كذلك من صور الإعراض المكفر، الإعراض عن حكم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 47-51]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- في تعليقه على هذه الآيات: (فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين وليس بمؤمن، وإن المؤمن هو الذي يقول سمعنا وأطعنا، فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره مع أن هذا ترك محض، وقد يكون سببه قوة الشهوة فكيف بالنقض والسب ونحوه) ، فشيخ الإسلام يبين أن الإيمان يزول بمجرد الإعراض والترك المحض لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى لو لم يقترن بهذا الترك استحلال أو جحود والله أعلم.
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء: 61], قال الإمام ابن القيم في معنى هذه الآية: (فجعل الإعراض عما جاء به الرسول والالتفات إلى غيره هو حقيقة النفاق، كما أن حقيقة الإيمان هو تحكيمه وارتفاع الحرج عن الصدور بحكمه والتسليم لما حكم به رضى واختيار ومحبة فهذا حقيقة الإيمان، وذلك الإعراض حقيقة النفاق...) .
وإذاً نستخلص من كلام الأئمة في تفسيرهم للآيات وكلامهم عن كفر الإعراض أن الإعراض الناقض للإسلام هو إعراض عن أصل الإيمان، إما أن يعرض إعراضاً تاماً عن تعلم أصول الدين مع قدرته على ذلك أو عن قبولها والانقياد القلبي لها، أو يعرض إعراضاً تاماً عن العمل بالجوارح (أن يترك جنس العمل)، أو يعرض عن حكم الله ورسوله.
المطلب الخامس: الشك في حكم من أحكام الله أو خبر من أخباره
ذكر علماء السنة أن من شروط لا إله إلا الله (اليقين المنافي للشك)، واستدلوا لذلك بنصوص كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم ((... أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما غير شاك فيهما إلا دخل الجنة)) وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة ((اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة)) ، قال الشيخ حافظ حكمي – رحمه الله - موضحاً هذا الشرط: (بأن يكون قائلها مستيقناً بمدلول هذه الكلمة يقيناً جازماً، فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن، فكيف إذا دخله الشك، قال الله - عز وجل - : {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، فاشترط في الصدق إيمانهم بالله ورسوله كونهم لم يرتابوا، أي: لم يشكوا، فأما المرتاب فهو من المنافقين- والعياذ بالله- الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45]، ثم ذكر الحديثين السابقين وعلق عليهما قائلاً: (فاشترط في دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقناً بها قلبه غير شاك فيها، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط) .
قال الإمام ابن القيم – رحمه الله – موضحاً منزلة اليقين وأهميتها، ومعارضتها لكل شك وريب: (فاليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح، وهو حقيقة الصديقية، وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره … ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نوراً وإشراقاً، وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط) ثم ذكر من تعريفات اليقين (المكاشفة، وهو على ثلاثة أوجه: مكاشفة في الأخبار، ومكاشفة بإظهار القدرة، ومكاشفة القلوب بحقائق الإيمان، ومراد القوم بالمكاشفة: ظهور الشيء للقلب بحيث يصير نسبته إليه كنسبة المرئي إلى العين، فلا يبقى معه شك ولا ريب أصلاً، وهذا نهاية الإيمان، وهو مقام الإحسان) ، إذاً هناك ترابط بين اليقين والإحسان، فغاية اليقين، هي الإحسان، لكن الإحسان في عمل الجوارح، واليقين في عمل القلب، وكذلك هناك ترابط بين العلم واليقين، فالعلم أول اليقين ، وليس مقصودنا هنا الكلام عن اليقين وأنواعه ودرجاته، وإنما المقصود الإشارة إلى اليقين الذي هو شرط في الإيمان والنجاة في الآخرة، وكذلك الكلام عن الشك الذي هو ناقض من نواقض أصل الإيمان، فأما اليقين الذي هو شرط في صحة الإيمان فهو حقيقة العلم بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن ثم ذكر بعض العلماء (العلم) شرطا مستقلا من شروط الشهادتين مستدلين بقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 91]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)) فمن شك في الله أو في رسوله وما جاء به عن الله فهو كافر لا شهادة له ولا إيمان ، فالشك نقيض اليقين ، (وهو التردد بين شيئين، كالذي لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بكذبه، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه..) .
قال الإمام ابن القيم – رحمه الله – في معرض كلامه عن أنواع الكفر الأكبر: (أما كفر الشك: فإنه لا يجزم بصدقه ولا يكذبه، بل يشك في أمره، وهذا لا يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم جملة، فلا يسمعها ولا يلتفت إليها، وأما مع التفاته إليها ونظره فيها، فإنه لا يبقى معه شك...) .
فكفر الشك – كما يظهر من كلام الأئمة، يشبه كفر الإعراض، إلا أن كفر الإعراض يتعلق بعمل القلب فلا يلزم أن يكون صاحبه جاهلاً، أما كفر الشك فيتعلق بقول القلب بسبب اختلال شرط العلم والله أعلم.
بعض الأمثلة التي ذكرها العلماء حول كفر الشك:
منها الشك في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أو الشك في البعث، أو الشك في كفر الكافر، أو الشك في شيء من القرآن أو الشك في حكم من الأحكام، قال القاضي عياض - رحمه الله - عند كلامه عن بعض المكفرات: (وكذلك من أضاف إلى نبينا الكذب فيما بلغه وأخبر به، أو شك في صدقه، أو سبه... فهو كافر بإجماع . وقال أيضاً: (... ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده، واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهار ما أظهره من خلاف ذلك) ، وقال: (اعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف أو بشيء منه، أو سبهما، أو جحده، أو حرف منه آية، أو كذب به أو بشيء منه، أو كذب بشيء مما حرم به من حكم أو خبر، أو أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبته على علم بذلك، أو شك في شيء من ذلك فهو كافر عند أهل العلم بإجماع) .
وذكر شيخ الإسلام حكم من لم يكفر الكافر سواء كان كافراً أصليًّا كاليهود والنصارى، أو من ثبت كفره يقيناً كالباطنية فقال – رحمه الله – في رده على أهل الحلول والاتحاد: (وأقوال هؤلاء شر من أقوال النصارى، وفيها من التناقض من جنس ما في أقوال النصارى، ولهذا يقولون بالحلول تارة، وبالاتحاد أخرى، وبالوحدة تارة، فإنه مذهب متناقض في نفسه، ولهذا يلبسون على من لم يفهمه، فهذا كله كفر باطناً وظاهراً بإجماع كل مسلم، ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر، كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشركين) ، وقال في بيان حكم من زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفراً قليلاً أو أنهم فسقوا عامتهم، قال: (فهذا لا ريب – أيضا- في كفره لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفره مثل هذا فإن كفره متعين...) .
وذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – من نواقض الإسلام: (الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر إجماعاً) ، وقال الإمام سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – رحمهم الله -: (... فإن كان شاكاً في كفرهم أو جاهلاً بكفرهم بينت له الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على كفرهم، فإن شك بعد ذلك وتردد فإنه بإجماع العلماء على أن من شك في كفر الكفار فهو كافر) . وقال الشيخ ابن سحمان – رحمه الله -: (وقد دل القرآن على أن الشك في أصول الدين كفر، والشك هو التردد بين شيئين، كالذي لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كذبه، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه، ونحو ذلك كالذي لا يعتقد وجوب الصلاة ولا عدم وجوبها، أو لا يعتقد تحريم الزنا ولا عدم تحريمه، وهذا كفر بإجماع العلماء)(5).
وفي آخر هذا المبحث نشير إلى فائدتين هامتين ... وقد ذكرهما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
الأولى: التنبيه إلى الفرق بين الشك والوسوسة، (فالوسوسة هي مما يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان، فإذا كرهه العبد ونفاه كانت كراهته صريح الإيمان) ، أما الشاك فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو تارك للإيمان الذي لا نجاة ولا سعادة إلا به.
الثانية: مر معنا في أول هذا المبحث أن معنى الريب: الشك هذا من حيث الإجمال، ويذكر شيخ الإسلام فرقاً دقيقاً بين الريب والشك، فيقول: (والريب يكون في علم القلب وفي عمل القلب، بخلاف الشك، فإنه لا يكون إلا في العلم، ولهذا لا يوصف باليقين إلا من اطمأن قلبه علماً وعملاً) ، وبذلك يكون الشك أخص من الريب، ويكون الشاك كافراً بسبب الإخلال بشرط العلم الذي هو أصل قول القلب، والله أعلم.
المبحث الثاني: ما يناقض عمل القلب
المطلب الأول: كفر الإباء والاستكبار
ومن الكفر المناقض لعمل القلب كفر الإباء والاستكبار والامتناع ككفر إبليس، وفرعون، واليهود حيث إنهم عرفوا الحق فلم ينقادوا ويستسلموا له، قال تعالى في حكاية حال إبليس لما أمر بالسجود {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34]، فهل جحد إبليس ربه؟ وهو يقول: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39]، ويقول: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر: 36] إيماناً منه بالبعث، وإيماناً بنفاذ قدرته، في إنظاره إياه إلى يوم البعث، أو هل جحد أحداً من أنبيائه، وأنكر شيئاً من سلطانه، وهو يحلف بعزته؟! وهل كان كفره إلا بترك سجدة واحدة، أمره بها، فأباها!! .
قال شيخ الإسلام عن هذا الكفر: (وكفر إبليس وفرعون واليهود ونحوهم لم يكن أصله من جهة عدم التصديق والعلم، فإن إبليس لم يخبره أحد بخبر، بل أمره الله بالسجود لآدم فأبى واستكبر، وكان من الكافرين، فكفره بالإباء والاستكبار وما يتبع ذلك، لا لأجل تكذيب، وكذلك فرعون وقومه جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوًّا...) .
وقال الإمام ابن القيم – رحمه الله – عند كلامه عن أنواع الكفر الأكبر (...وأما كفر الإباء والاستكبار: فنحو كفر إبليس، فإنه لم يجحد أمر الله ولا قابله بالإنكار، وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار، ومن هذا كفر من عرف صدق الرسول، وأنه جاء بالحق من عند الله، ولم ينقد له إباء واستكباراً، وهو الغالب على كفر أعداء الرسل...) ، إذ وجه كون الإباء والاستكبار كفراً، مناقضته للانقياد والاستسلام الذي هو أساس عمل القلب وأصله، قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: (وكلام الله خبر وأمر، فالخبر يستوجب تصديق المخبر، والأمر يستوجب الانقياد له والاستسلام، وهو عمل في القلب جِمَاعُه الخضوع والانقياد للأمر وإن لم يفعل المأمور به، فإذا قوبل الخبر بالتصديق، والأمر بالانقياد فقد حصل أصل الإيمان في القلب وهو الطمأنينة والإقرار...) . وقال موضحاً إيمان القلب: (إن الإيمان قول وعمل – أعني في الأصل – قولاً في القلب، وعملاً في القلب، فإن الإيمان بحسب كلام الله ورسالته يتضمن أخباره وأوامره، فيصدق القلب أخباره تصديقاً يوجب حالاً في القلب بحسب المصدق به، والتصديق هو نوع من العلم والقول، وينقاد لأمره ويستسلم، وهذا الانقياد والاستسلام هو نوع من الإرادة والعمل، ولا يكون مؤمناً إلا بمجموع الأمرين، فمتى ترك الانقياد كان مستكبراً فصار من الكافرين وإن كان مصدقاً...) .
وقال الشيخ حافظ حكمي – رحمه الله – عن هذا النوع: (... وإن انتفى عمل القلب، وعمل الجوارح مع المعرفة بالقلب والاعتراف باللسان فكفر عناد واستكبار، ككفر إبليس، وكفر غالب اليهود الذين شهدوا أن الرسول حق ولم يتبعوه أمثال حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف وغيرهم، وكفر من ترك الصلاة عناداً واستكباراً، ومحال أن ينتفي انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب) ، فهذا النوع لا خلاف ولا إشكال في تكفير من وقع فيه – سواء كان فرداً أو طائفة – لأن الاستكبار ينافي حقيقة الإسلام وهو الاستسلام لله بالطاعة والانقياد له بالتوحيد والخلوص من الشرك.
المطلب الثاني: الشرك الأكبر بعمل القلب
قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي في بيان حد الشرك الأكبر: إنَّ حدَّ الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده: (أن يصرِفَ العبد نوعاً أو فرداً من أفراد العبادة لغير الله) فكلُّ اعتقادٍ أو قولٍ أو عملٍ ثبت أنَّه مأمورٌ به من الشَّارع فصرفُه لله وحده توحيدٌ وإيمانٌ وإخلاصٌ، وصرفُه لغيره شركٌ وكفرٌ. فعليك بهذا الضَّابط للشِّرك الأكبر الَّذي لا يشذُّ عنه شيءٌ
وهذه صور لما يلحق أعمال القلب من الشرك الأكبر:
فالإخلاص يضاده الإشراك فمن ليس مخلصاً، فهو مشرك، إلا أن الشرك درجات، وقد جرى العرف على تخصيص اسم الإخلاص بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب، فإذا امتزج قصد التقرب بباعث آخر من رياء أو غيره من حظوظ النفس فقد خرج عن الإخلاص .
إذ ينافي إخلاص النية والقصد لله عز وجل الشرك في النيات والإرادات، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله -: (وأما الشرك في الإرادات والنيات، فذلك البحر الذي لا ساحل له وقل من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله ونوى شيئاً غير التقرب إليه، وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته، والإخلاص: أن يخلص لله في أفعاله وأقواله وإرادته ونيته، وهذه هي الحنيفية ملة إبراهيم التي أمر الله تعالى بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحد غيرها، وهي حقيقة الإسلام، كما قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (85) [آل عمران: 85]) .
لكن الشرك في النية والإرادة درجات، قد يكون شركاً أكبر وقد يكون دون ذلك، يقول الإمام ابن رجب – رحمه الله – موضحاً ذلك: (واعلم أن العمل لغير الله أقسام: فتارة يكون رياء محضاً بحيث لا يراد سوى مراءاة المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم، قال الله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 142] وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة، وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه أيضاً وحبوطه، وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تبارك وتعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) ، وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأت عليه نية الرياء فلا يضره، فإن كان خاطراً ودفعه فلا يضره بلا خلاف، فإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك ويجازي على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري، وأرجو أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيته الأولى ، وهو مروي عن الحسن البصري وغيره، …فأما إذا عمل العمل لله خالصاً ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك بفضل الله ورحمته، واستبشر بذلك لم يضره ذلك، وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير يحمده الناس عليه فقال: ((تلك عاجل بشرى المؤمن)) ) .
ولخص ذلك الشيخ حافظ حكمي بعبارة أسهل ... ، قال – رحمه الله -: (ثم اعلم أن الرياء قد أطلق في كتاب الله كثيراً، ويراد به النفاق الذي هو أعظم الكفر، وصاحبه في الدرك الأسفل من النار كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا} [النساء: 38] والفرق بين هذا الرياء الذي هو النفاق الأكبر وبين الرياء الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم شركاً أصغر خفيًّا هو حديث ((الأعمال بالنيات...)) فإن كان الباعث على العمل هو إرادة الله والدار الآخرة وسلم من الرياء في فعله، وكان موافقاً للشرع فذلك العمل الصالح المقبول، وإن كان الباعث على العمل هو إرادة غير الله عز وجل فذلك النفاق الأكبر، سواء في ذلك من يريد به جاهاً ورئاسة وطلب دنيا، ومن يريد حقن دمه وعصمة ماله وغير ذلك، فهذان ضدان ينافي أحدهما الآخر لا محالة … وإن كان الباعث على العمل هو إرادة الله عز وجل والدار الآخرة، ولكن دخل عليه الرياء في تزيينه وتحسينه فذلك هو الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر، وهذا لا يخرج من الملة، ولكنه ينقص من العمل بقدره، وقد يغلب على العمل فيحبطه كله والعياذ بالله) ، خلاصة ما سبق في شرك النية والإرادة والقصد: أن من أراد بعمله غير الله عز وجل فذلك شرك أكبر، وإن أراد بالعمل وجه الله عز وجل ولكن دخل عليه الرياء في أصله فقد حبط العمل وهذا هو الشرك الأصغر، أما إن طرأت عليه نية الرياء فقد نقص أجر عمله بحسب ذلك، ولنضرب لذلك مثالاً واحداً يتضح من خلاله المقصود. عبادة النسك والذبح يجب أن تكون خالصة لله سبحانه، فمن قصد بذبحه غير الله فقد أشرك الشرك الكبر، ومن قصد الله عز وجل، ولكن دخل الرياء في أصل نيته فقد بطل أجر هذا العمل، وإن طرأ الرياء عليه، فقد نقص من أجره بحسب ذلك، وهذا يرد على جميع العبادات من الأقوال والأفعال فالشرك فيها بحسب النية والقصد، وبذلك ندرك خطورة الشرك في ذلك، وضرورة توقيه.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
شرك المحبة:
لما كانت المحبة أصل كل عمل من أعمال القلب والجوارح، كان الإشراك في المحبة، أصل كل إشراك عملي ، فأصل الشرك في المشركين هو اتخاذهم أنداداً يحبونهم كحب الله .
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165].
يقول الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: (يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا، وما لهم في الدار الآخرة حيث جعلوا له أنداداً أي أمثالاً ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه وهو الله لا إله إلا هو ولا ضد له ولا ند له ولا شريك معه، وفي (الصحيحين) عن عبدالله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك)) ، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165] ولحبهم لله وتمام معرفتهم به، وتوقيرهم وتوحيدهم له لا يشركون به شيئاً بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه ويلجأون في جميع أمورهم إليه) . قال الإمام ابن القيم – رحمه الله – في تعريف هذا الشرك: (الشرك بالله في المحبة والتعظيم بأن يحب مخلوقاً كما يحب الله، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165] وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم، وقد جمعتهم الجحيم: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97-98] ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء، والملك، والقدرة، وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل...) .
وقال الإمام محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله -: (ومن الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: آية البقرة في الكفار الذين قال الله تعالى فيهم {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167] وذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حبًّا عظيماً، فلم يدخلوا في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟) .
ولو طبقنا ما سبق على الشرك العملي المتعلق بعمل الجوارح من مثل دعاء الأموات والاستغاثة بهم، أو إيجاب طاعة غير الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به أو ينهى عنه، لوجدنا أن ذلك يرجع في الحقيقة إلى الإشراك في المحبة، يقول شيخ الإسلام – رحمه الله – في ذلك: (فمن رغب إلى غير الله في قضاء حاجة أو تفريج كربة، لزم أن يكون محبًّا له، ومحبته هي الأصل في ذلك) .
ويقول أيضاً: (فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه، وإن خالف أمر الله ورسوله فقد جعله ندًّا، وربما صنع به كما تصنع النصارى بالمسيح، يدعوه ويستغيث به، ويوالي أولياءه، ويعادي أعداءه مع إيجابه طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه ويحلله ويحرمه، ويقيمه مقام الله ورسوله فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165]) .
وقال الشيخ عبدالرحمن بن حسن في بيان ذلك: (فكل من اتخذ ندًّا لله يدعوه من دون الله ويرغب إليه ويرجوه لما يؤمله منه من قضاء حاجاته وتفريج كرباته كحال عباد القبور والطواغيت والأصنام فلابد أن يعظموهم ويحبوهم لذلك، فإنهم أحبوهم مع الله وإن كانوا يحبون الله تعالى، ويقولون لا إله إلا الله ويصلون ويصومون، فقد أشركوا في المحبة بمحبة غيره وعبادة غيره، فاتخاذهم الأنداد يحبونهم كحب الله يبطل كل قول يقولونه وكل عمل يعملونه، لأن المشرك لا يقبل منه عمل، ولا يصح منه، وهؤلاء وإن قالوا لا إله إلا الله فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة) ، إذاً يمكن أن نستخلص مما سبق ما يلي: أن الشرك بعمل الجوارح يرجع في الحقيقة إلى عمل القلب، فكما ذكرنا في شرك النية والقصد دخول ذلك في جميع العبادات إذا قصد بها غير الله، يمكن أن نقول هنا، إن صرف أي نوع من العبادات لغير الله (كالدعاء والطاعة)، هو في الأصل بسبب المحبة لذلك الغير فلابد، من إخلاص القصد والمحبة لله وحده، ومحبة غيره تبع لمحبته.
المبحث الثالث: أمثلة أخرى لنواقض الإيمان بالاعتقاد
ومن نواقض الإيمان الاعتقادية أيضا والتي تكون بمجرد اعتقاد القلب، وإن لم يتكلم بها، وإن لم يفعل شيئاً منها:
1- الجحد، أو الشك في وجود الله سبحانه وتعالى، أو الاعتقاد بأن لله تعالى شريكاً في ربوبيته جل وعلا.
2- التكذيب أو الشك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وجحد عموم رسالته، وختمه للنبوة، أو إنكار بعض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم أو الطعن فيه بعد ثبوته.
3- الاعتقاد بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أوحى الله تعالى إليه وهو مأمور بتبليغه، أو بلغه لبعض المسلمين دون بعض.
4- التكذيب أو الشك في شيء من أركان الإسلام الخمسة، أو أركان الإيمان الستة، أو الجنة أو النار، أو الثواب والعقاب، أو الجن أو الملائكة، أو شيء مما هو مجمع عليه؛ كالإسراء والمعراج، وغيرها.
5- إنكار شيء من القرآن، أو اعتقاد زيادة فيه، أو الاعتقاد أن للقرآن ظاهراً وباطناً، وأن باطنه يخالف ظاهره، وأن هذا الباطن مخصوص للبعض دون بعض.
6- الإيمان بشريعة غير الإسلام، واعتقاد صلاحيتها للبشر، والعمل بها، وتطبيقها.
7- اعتقاد عدم كفر الكفار من الملحدين والمشركين والمرتدين، أو الشك في كفرهم، أو موالاتهم على حساب الدين.
8- الاعتقاد بأن الكنائس بيوت الله – جل وعلا – وأن الله تعالى يعبد فيها، وأن ما يفعله اليهود والنصارى عبادة لله، وطاعة له - سبحانه – ولأنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام.
9 – جحد وجوب شيء معلوم من الدين بالضرورة؛ كالصلوات الخمس، والزكاة، والصوم، والحج وغيرها.
10- اعتقاد تحريم مباح معلوم من الدين بالضرورة؛ كالبيع والنكاح، أو اعتقاد إباحة محرم معلوم من الدين بالضرورة؛ كالقتل، والزنا، والربا، أو إعطاء غير الله تعالى حق الأمر والنهي، وحق التحليل والتحريم، وحق التشريع، أو اعتقاد جواز الاحتكام إلى غيره تعالى.
11- تكذيب واحد من رسل الله تعالى، في أي أمر من الأمور الثابتة عنهم.
12- ادعاء النبوة، أو تصديق من يدعيها.
13- الاعتقاد بأن البعض يسعه الخروج عن شريعة الإسلام، وأنه يجوز للشخص أن يلتزم بدين آخر غير الإسلام.
14- الاعتقاد بأن جمهور الصحابة – رضي الله عنهم – ارتدوا، أو فسقوا؛ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
15- الرضا بالكفر، والعزم على الكفر، أو تعليق الكفر بأمر مستقبل.
16- من ضحك لمن تكلم بالكفر مع الرضا به.
17- من شك في كفر من عمل الأعمال المكفرة الظاهرة التي استبان دليلها واتفق أئمة أهل السنة والجماعة عليها.
الفصل الثاني: النواقض القولية في باب التوحيد
المبحث الأول: سب الله تعالى والاستهزاء به
المطلب الأول: حكم سب الله تعالى أو الاستهزاء به:
حكى غيرُ واحدٍ الإجماع على أنَّ سبَّ اللهِ ورسولِه كفرٌ مخرج من الملة، ومن هؤلاء: الإمام إسحاق بن راهويه ومحمد بن سحنون وغيرهما. فظنَّ بعض الناس أنَّ الكفرَ العمليَّ لا يخرج صاحبه من الإسلام وأنَّ سبَّ الله ورسوله مستثنى من ذلك... ومن فرَّق بين سبِّ الله أو رسوله وبين أي قولٍ أو عملٍ أجمع المسلمون أنه كفر كالذبح لغير الله أو السجود لصنمٍ أو نحو ذلك فعليه الدليل. فلا يظنُّ ظانٌّ أَنَّ في المسألة خلافاً يجعل المسألة من مسائل الخلاف والاجتهاد، إذ لا يستطيع أحدٌ أَنْ يحكي عن واحدٍ من علماء أهل السنة والجماعة خلاف ذلك البتَّةَ. .
قال الإمام إسحاق بن راهويه أحد الأئمة الأعلام: أجمع المسلمون على أن من سبَّ الله، أو سبَّ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - أو دفع شيئاً مما أنزل الله عزَّ وجلَّ، أو قتل نبيًّا من أنبياء الله، أَنَّه كافر بذلك وإِنْ كان مُقِرًّا بكلِّ ما أنزل الله.
وقال ابن قدامة: ومن سبَّ الله تعالى كفر، سواءً كان مازحاً أو جادًّا وكذلك من استهزأ بالله تعالى، أو بآياته أو برسله، أو كتبه، قال الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65- 66]. وينبغي أَنْ لا يُكْتَفى من الهازئ بذلك بمجرَّد الإسلام، حتى يؤدَّب أدباً يزجره عن ذلك، فإنَّه إذا لم يُكتف مِمَّن سبَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالتوبة، فمِمَّن سبَّ الله تعالى أولى. .
وقال ابن تيمية: فإنَّا نعلم أَنَّ من سبَّ الله ورسولَه طوعاً بغير كَرْه، بل من تكلَّم بكلمات الكفر طائعاً غير مُكْرَهٍ، ومن استهزأ بالله وآياته ورسوله فهو كافرٌ باطناً وظاهراً، وأنَّ من قال: إِنَّ مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمناً بالله وإِنَّما هو كافرٌ في الظَّاهر، فإنَّه قال قولاً معلوم الفساد بالضَّرورة من الدِّين، وقد ذكر الله كلماتِ الكفَّار في القرآن وحكم بكفرهم واستحقاقهم الوعيد بها ولو كانت أقوالهم الكفريَّة بمنزلة شهادةِ الشُّهود عليهم، أو بمنزلة الإقرار الذي يغلط فيه المقِرُّ لم يجعلهم الله من أهل الوعيد بالشهادة التي قد تكون صِدْقاً وقد تكون كَذِباً، بل كان ينبغي أَنْ لا يعذِّبهم إلاَّ بشرط صِدْق الشَّهادة وهذا كقوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73] {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: 17] وأمثال ذلك.
وقال أيضاً: (إنَّ من سبَّ الله أو سبَّ رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواءً كان السابُّ يعتقد أَنَّ ذلك محرَّم، أو كان مستحلًّا له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنَّة القائلين بأنَّ الإيمانَ قولٌ وعملٌ …)
المطلب الثاني: هل من سب الله تقبل توبته وهل يستتاب كالمرتد؟
اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن سب الله أو رسوله أو كتابه: هل تقبل توبته؟ على قولين:
القول الأول: أنها لا تقبل، وهو المشهور عن الحنابلة، بل يقتل كافراً، ولا يصلَّى عليه، ولا يدعى له بالرحمة، ويدفن في محل بعيد عن قبور المسلمين، ولو قال: إنه تاب أو إنه أخطأ، لأنهم يقولون: إن هذه الردة أمرها عظيم وكبير لا تنفع فيها التوبة.
وقال بعض أهل العلم: إنها تقبل إذا علمنا صدق توبته إلى الله، وأقر على نفسه بالخطأ، ووصف الله تعالى بما يستحق من صفات التعظيم، وذلك لعموم الأدلة الدالة على قبول التوبة، كقوله تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] ومن الكفار من يسبون الله، ومع ذلك تقبل توبتهم
وهذا هو الصحيح، إلا أن ساب الرسول صلى الله عليه وسلم تقبل توبته ويجب قتله، بخلاف من سب الله، فإنها تقبل توبته ولا يقتل، لا لأن حق الله دون حق الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لأن الله أخبرنا بعفوه عن حقه إذا تاب العبد إليه بأنه يغفر الذنوب جميعاً، أما ساب الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يتعلق به أمران:
الأول: أمر شرعي لكونه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذا الوجه تقبل توبته إذا تاب.
الثاني: أمر شخصي لكونه من المرسلين، ومن هذا الوجه يجب قتله لحقه صلى الله عليه وسلم ويقتل بعد توبته على أنه مسلم، فإذا قتل، غسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه مع المسلمين.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ألف كتاباً في ذلك اسمه: (الصارم المسلول في حكم قتل ساب الرسول) أو: (الصارم المسلول على شاتم الرسول)، وذلك لأنه استهان بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا لو قذفه، فإنه يقتل ولا يجلد.
فإن قيل: أليس قد ثبت أن من الناس من سب الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل منه وأطلقه؟
أجيب: بلى، هذا صحيح لكن هذا في حياته صلى الله عليه وسلم، وقد أسقط حقه، أما بعد موته، فلا ندري، فننفذ ما نراه واجباً في حق من سبه صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: احتمال كونه يعفو عنه أو لا يعفو موجب للتوقف؟
أجيب: إنه لا يوجب التوقف، لأن المفسدة حصلت بالسب، وارتفاع أثر هذا السب غير معلوم، والأصل بقاؤه.
فإن قيل: أليس الغالب أن الرسول صلى الله عليه وسلم عفا عمن سبه ؟
أجيب: بلى، وربما كان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا عفا قد تحصل المصلحة ويكون في ذلك تأليف، كما أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أعيان المنافقين ولم يقتلهم، لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، لكن الآن لو علمنا أحداً بعينه من المنافقين لقتلناه، قال ابن القيم: إن عدم قتل المنافق المعلوم إنما هو في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط.
وقال شيخ الإسلام:
ثم اختلف أصحابنا وغيرهم في قبول توبته يعني من سب الله تعالى، بمعنى أنه هل يستتاب كالمرتد ويَسقط عنه القتل إذا أظهر التوبةَ من ذلكَ بعد رفعه إلى السلطانِ وثبوت الحد عليه؟ على قولين:
أحدهما: أنه بمنزلةِ سابِّ الرسول، فيه الروايتان كالروايتين في سابِّ الرسولِ، هذه طريقةُ أبي الخطاب وأكثر من احْتَذَى حَذْوَهُ من المتأخرين، وهو الذي يدلُّ عليه كلام الإمام أحمد حيث قال: (كل من ذكر شيئاً يُعَرِّض بذكر الربِّ ـ تبارك وتعالى ـ فعليه القتل، مسلماً كان أو كافراً، وهذا مذهب أهل المدينة)، فأطلق وجوب القتل عَلَيْهِ، ولم يذكر استتابته، وذكر أنه قول أهل المدينة، ومن وجب عليه القتلُ لم يسقط بالتوبةِ، وقول أهل المدينة المشهورُ أنه لا يَسقط القتلُ بتوبته، ولو لم يرد هذا لم يخصه بأهل المدينة، فإن الناس مجمعون على أن من سب الله تعالى من المسلمين يُقتل، وإنما اختلفوا في توبته، فلما أخَذ بقول أهل المدينة في المسلم كما أخذ بقولهم في الذمي عُلم أنه قَصَد محل الخلافِ بين المدنيين والكوفيين في المسألتين، وعلى هذه الطريقة فظاهر المذهب أنه لا يسقط القتلُ بإظهارِ التوبةِ بعد القدرةِ عليهِ، كما ذكرناه في ساب الرسول.
وأما الرواية الثانية فإن عبدالله قال: سئل أبي عن رجلٍ قال (يا ابن كذا وكذا أنت ومَن خَلَقَك" قال أبي: هذا مرتدٌّ عن الإسلام، قلت لأبي: تُضربُ عنقهُ؟ قال: نعم، نضربُ عنقه، فجعله من المرتدين).
والرواية الأولى قول الليث بن سعد وقولُ مالك، روى ابنُ القاسم عنه قال: (مَنْ سَبَّ الله تعالى من المسلمين قُتل ولم يُستتب، إلا أن يكون افترى على اللهِ بارتداده إلى دينٍ دان به وأظهره فيُستتابُ، وإن لم يُظهِره لم يُستتب، وهذا قول ابن القاسم، و مطرف، و عبدالملك، وجماهير المالكية).
والثاني: أنه يستتاب وتقبلُ توبتهُ بمنزلة المرتد المَحْضِ، وهذا قولُ القاضي أبي يعلى، والشريف أبي جعفر، وأبي علي بن البناءِ، وابن عقيلٍ، مع قولهم: إن من سب الرسولَ لا يستتابُ، وهذا قول طائفةٍ من المدنيين: منهم محمد بن مسلمة، و المخزومي، وابن أبي حازمٍ، قالوا: (لا يقتل المسلم بالسب حتى يُستتاب، وكذلك اليهودي والنصراني، فإن تابوا قُبِل منهم، وإن لم يتوبوا قُتلوا، ولا بد من الاستتابة، وذلك كلهُ كالردةِ)، وهو الذي ذكرهُ العراقيون من المالكية.
وكذلك ذكر أصحابُ الشافعي رضي الله عنه، قالوا: سب الله ردةٌ، فإذا تاب قُبلت توبته، وفَرَّقوا بينه وبين سبِّ الرسول على أحد الوجهين: وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة أيضاً.
وأما من استتاب السابَّ للهِ و لرسولهِ فمأخذهُ أن ذلك من أنواعِ الردة، ومن فَرَّق بين سب الله والرسولِ قال: سب الله تعالى كفرٌ محضٌ، وهو حقٌّ لله، وتوبةُ من لم يصدر منه إلا مجردُ الكفرِ الأصلي أو الطارئ مقبولةٌ مُسقِطةٌ للقتل بالإجماع، ويدلُّ على ذلك أن النصارى يسبون الله بقولهم: هو ثالث ثلاثةٍ، وبقولهم: إن له ولداً، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله ـ عز وجل ـ أنه قال: ((شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، وكذَّبَنِي ابنُ آدَمَ، ومَا ينبغي لهُ ذلكَ، فأمَّا شَتْمُهُ إيَّاي فقولُهُ: إنَّ لِيْ وَلَداً، وَأنا الأَحَدُ الصَّمَدُ)) وقال سبحانه: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إلى قوله: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 74-73]، وهو سبحانه قد عُلِم منه أنه يُسقط حقه عن التائب، فإن الرجل لو أَتَى من الكفر والمعاصي بملء الأرض ثم تاب تَاب الله عليه، وهو سبحانه لا تلحقه بالسب غضاضةٌ ولا مَعَرَّةٌ، وإنما يعودُ ضرر السب على قائله، وحرمته في قلوبِ العباد أعظم من أن يهتكها جرأةُ السابِّ، وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الرسول، فإن السبَّ هناك قد تعلق به حقُّ آدمي، والعقوبة الواجبة لآدمي لا تسقط بالتوبة، والرسول تلحقه المعرَّة والغَضَاضة بالسب، فلا تقومُ حرمته وتثبتُ في القلوب مكانته إلا باصطلام سابه، لما أن هَجوه وشتمه ينقص من حرمته عند كثير من الناس، ويقدح في مكانه في قلوب كثيرةٍ، فإن لم يُحفظ هذا الحمى بعقوبة المنتهك وإلا أفضى الأمر إلى فسادٍ.
وهذا الفرق يتوجه بالنظر إلى أن حدَّ سب الرسولِ حقٌّ لآدمي، كما يذكره كثيرٌ من الأصحاب، وبالنظر إلى أنه حقٌّ لله أيضاً، فإن ما انتهكه من حرمة الله لا ينجبر إلا بإقامة الحد، فأشبه الزاني والسارق والشارب إذا تابوا بعد القدرة عليهم.
وأيضاً، فإن سب الله ليس له داعٍ عقلي في الغالب، وأكثر ما هو سبٌّ في نفس الأمر إنما يصدرُ عن اعتقادٍ وتدينٍ يُراد به التعظيم لا السب، ولا يَقْصد الساب حقيقة الإهانة لعلمه أن ذلك لا يؤثر، بخلاف سب الرسول، فإنه في الغالب إنما يُقصد به الإهانة والاستخفاف، والدواعي إلى ذلك متوفرةٌ من كلِّ كافرٍ ومنافقٍ، فصار من جنس الجرائم التي تدعو إليها الطباعُ، فإن حدودها لا تسقطُ بالتوبةِ، بخلاف الجرائم التي لا داعي إليها.
ونكتة هذا الفرق أن خصوص سب الله تعالى ليس إليه داعٍ غالب الأَوْقَاتِ، فيندرج في عموم الكفر، بخلاف سب الرسول، فإن لخصوصه دواعي متوفرةً، فناسب أن يشرع لخصوصه حدٌّ، والحدُّ المشروع لخصوصه لا يَسقط بالتوبة كسائر الحدود، فلما اشتمل سبُّ الرسول على خصائص من جهة توفر الدواعي إليه، وحرص أعداء الله عليه، وأن الحرمةَ تنتهك به انتهاك الحرماتِ بانتهاكها، وأن فيه حقًّا لمخلوق تحتمت عقوبته، لا لأنه أغلظ إثماً من سب الله، بل لأن مفسدته لا تنحسم إلا بتحتم القتل.
ألا ترى أنه لا ريب أن الكفر والردة أعظم إثماً من الزنى والسرقة وقطع الطريق وشرب الخمر، ثم الكافر والمرتد إذا تابا بعد القدرة عليهما سقطت عقوبتهما، ولو تاب أولئك الفساق بعد القدرة لم تسقط عقوبتهم، مع أن الكفر أعظم من الفسق، ولم يدل ذلك على أن الفاسق أعظم إثماً من الكافر؟ فمن أخذ تحتم العقوبة وسقوطها من كِبَرِ الذنب وصغره فقد نَأَى عن مسالك الفقه والحكمة.
ويوضح ذلك أنا نقرُّ الكفار بالذمة على أعظم الذنوب، ولا نقرُّ واحداً منهم ولا من غيرهم على زنىً ولا سرقةٍ ولا كبير من المعاصي الموجبة للحدود، وقد عاقب الله قوم لوطٍ من العقوبات بما لم يعاقبه بشراً في زمنهم لأجل الفاحشة، والأرض مملوءةٌ من المشركين وهم في عافيةٍ، وقد دُفن رجلٌ قَتَلَ رَجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مراتٍ والأرض تَلفِظُهُ في كلِّ ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَلكِنَّ اللهَ أَرَاكُمْ هذَا لِتَعْتَبِرُوا)) ولهذا يعاقب الفاسق المِلِّي من الهجر والإعراض والجلد وغير ذلك بما لا يُعاقب به الكافرُ الذميُّ، مع أن ذلك أحسن حالاً عند الله وعندنا من الكافر.
فقد رأيتَ العقوبات المقدرة المشروعة تتحتم حيث تؤخر عقوبةُ ما هو أشد منها، وسبب ذلك أن الدنيا في الأصل ليست دار الجزاء، وإنما الجزاءُ يوم الدين، يوم يدينُ الله العباد بأعمالهم: إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشر، لكن ينزل الله سبحانه من العقاب ويشرع من الحدود بمقدار ما يزجر النفوس عما فيه فسادٌ عامٌّ لا يختصُّ فاعله، أو ما يطهر الفاعل من خطيئته، أو لتغلظ الجرم، أو لما يشاء سبحانه، فالخطيئة إذا خِيف أن يتعدى ضررها فاعلها لم تنحسم مادتها إلا بعقوبةِ فاعلها، فلما كان الكفر والردةُ إذا قُبلت التوبة منه بعد القدرةِ لم تترتب على ذلك مفسدةٌ تتعدى التائب وجب قبولُ التوبةِ، لأن أحداً لا يريدُ أن يكفر أو يرتد ثم إذا (أُخِذَ) أظهر التوبة لعلمه أن ذلك لا يُحَصِّل مقصوده، بخلاف أهل الفسوق فإنه إذا أُسقطت العقوبة عنهم بالتوبة كان ذلك فتحاً لباب الفسوق، فإن الرجل يعمل ما اشتهى، ثم إذا أُخذ قال: إني تائبٌ، وقد حصل مقصوده من الشهوة التي اقتضاها، فكذلك سبُّ الله هو أعظم من سب الرسول، لكن لا يخاف أن النفوس تتسرعُ إلى ذلك إذا استُتيب فاعله وعُرِضَ على السيف، فإنه لا يصدر غالباً إلا عن اعتقادٍ، وليس للخَلْق اعتقادٌ يبعثهم على إظهار السبِّ لله تعالى، وأكثر ما يكون ضجراً وتبرُّماً وسفهاً، ورَوْعه بالسيف والاستتابةُ تكفُّ عن ذلك، بخلاف إظهار سب الرسول، فإن هناك دواعي متعددة تبعث عليه، متى عُلم صاحبها أنه إذا أظهر التوبة كُفَّ عنه لم يَزَعْه ذلك عن مقصوده.
ومما يدلُّ على الفرق من جهة السنة أن المشركين كانوا يسبون الله بأنواع السب، ثم لم يتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في قبول إسلام أحدٍ منهم، ولا عَهِد بقتل واحدٍ منهم بعينه، وقد توقّف في قبول توبةِ من سَبَّهُ مثل أبي سفيان وابن أبي أمية، وعَهِد بقتل من كان يسبه من الرجال والنساء ـ مثل الحويرث بن نُقَيد، و القينتين، وجاريةٍ لبني عبدالمطلب، ومثل الرجال والنساءِ الذين أمر بقتلهم بعد الهجرة ...
وأما من قال: لا تقبل توبة من سب اللهَ - سبحانه وتعالى - كما لا تقبل توبة من سب الرسول. فوجهه ما تقدم عن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ من التسوية بين سب الله وسب الأنبياء في إيجابِ القتل، ولم يأمر بالاستتابة، مع شهرة مذهبه في استتابة المرتد، لكن قد ذكرنا عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه يستتاب، لأنه كَذَّب النبي صلى الله عليه وسلم، فيحمل ذلك على السبِّ الذي يتدين به.
وأيضاً، فإن السب ذنبٌ منفردٌ عن الكفر الذي يطابق الاعتقاد، فإن الكافر يتدين بكفره، ويقول: إنه حقٌّ، ويدعو إليه وله عليه موافقون، وليس من الكفار من يتدين بما يعتقده استخفافاً واستهزاءً وسبًّا لله، وإن كان في الحقيقة سبًّا، كما أنهم لا يقولون: إنهم ضُلالٌ جهالٌ معذَّبونَ أعداءُ الله، وإن كانوا كذلك، وأما السابُّ فإنهُ مظهِرٌ للتنقصِ والاستخفافِ والاستهانةِ باللهِ منتهكٌ لحرمته انتهاكاً يعلم من نفسه أنه منتهكٌ مستخف مستهزئٌ، ويعلم من نفسه أنه قد قال عظيماً، وأن السمواتِ والأرضَ تكادُ تنفطرُ من مقالته وتخرُّ الجبالُ، وأن ذلك أعظمُ من كل كفرٍ، وهو يعلم أن ذلك كذلك، ولو قال بلسانه: إني كنت لا أعتقد وجود الصانع ولا عظمته، والآن فقد رجعت عن ذلك. علمنا أنه كاذبٌ، فإن فِطَر الخلائق كلها مجبولةٌ على الاعتراف بوجود الصانع وتعظيمه، فلا شبهة تدعوه إلى هذا السبِّ ولا شهوة له في ذلك، بل هو مجردُ سخريةٍ واستهزاءٍ واستهانةٍ وتمردٍ على ربِّ العالمين، تنبعثُ عن نفسٍ شيطانيةٍ ممتلئةٍ من الغضب أو من سفيه لا وقارَ للهِ عنده، كصدور قطع الطريق والزنى عن الغضب والشهوة، وإذا كان كذلك وجب أن يكون للسب عقوبةٌ تخصهُ حدًّا من الحدود، وحينئذٍ فلا تسقط تلك العقوبةُ بإظهار التوبة كسائر الحدود.
ومما يبين أن السبَّ قَدْرٌ زائدٌ على الكفر قوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108].
ومن المعلوم أنهم كانوا مشركين مكذبين معادين لرسوله، ثم نُهِي المسلمون أن يفعلوا ما يكون ذريعةً إلى سبهم لله، فعلم أن سب الله أعظم عنده من أن يُشْرَك به ويُكَذَّب رسوله ويُعادى، فلابد له من عقوبةٍ تختصه لما انتهكه من حُرمةِ اللهِ كسائرِ الحُرماتِ التي تنتهكها بالفعل وأولى، ولا يجوز أن يُعَاقَب على ذلك بدون القتل، لأن ذلك أعظم الجرائم، فلا يقابل إلا بأبلغ العقوباتِ.
ويدل على (ذلِكَ) قولهُ سبحانه وتعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب: 57] فإنها تدلُّ على قتل من يُؤذي الله كما تدلُّ على قتل من يؤذي رسوله، والأذى المطلق إنما هو باللسان...
وأيضاً، فإن إسقاط القتل عنه بإظهار التوبة لا يرفع مفسدة السب لله سبحانه فإنه لا يشاءُ أن يفعل ذلك ثم إذا أُخذ أَظهر التوبة إلا فَعَلَ كما في سائر الجرائم الفِعليَّة.
وأيضاً، فإنه لم ينتقل إلى دينٍ يريد المقام عليه حتى يكون الانتقال عنه تركاً له، وإنما فَعل جريمةً لا تستدام، بل هي مثل الأفعال الموجبةِ للعقوبات، فتكون العقوبةُ على نفس تلك الجريمة الماضية، ومثل هذا لا يستتاب، وَإِنَّمَا يُسْتَتَابُ من يعاقَبُ على ذنبٍ مستمر من كفرٍ أو رِدَّةٍ.
وأيضاً، فإن استتابةَ مِثْلِ هذا توجب أن لا يقام حدٌّ على ساب لله، فإنا نعلمُ أن ليس أحدٌ من الناس مصرًّا على السب لله الذي يرى أنه سبٌّ، فإن ذلك لا يدعو إليه عقلٌ ولا طبعٌ، وكلُّ ما أفضى إلى تعطيل الحدود بالكلية كان باطلاً، ولما كان استتابةُ الفساق بالأفعال يفضي إلى تعطيل الحدود لم يشرع، مع أن أحدهم قد لا يتوب من ذلك لما يدعوه إليه طبعه، وكذلك المستتاب من سب الرسول فلا يتوب لما يستحله من سبه، فاستتابةُ الساب لله الذي يسارع إلى إظهار التوبة منه كلُّ أحدٍ أولى أن لا يُشرع إذا تضمن تعطيل الحدِّ، وأوجب أن تمضمض الأفواه بهتك حرمة اسم الله والاستهزاء به.
وهذا كلام فقيهٍ، لكن يعارضه أن ما كان بهذه المثابة لا يحتاج إلى تحقيق إقامة الحد، ويكفي تعريض قائله للقتل حتى يتوب.
ولمن ينصُر الأول أن يقول: تحقيقُ إقامة الحد على السابِّ للهِ ليس لمجرَّدِ زَجْرِ الطباع عما تهواه، بل تعظيماً للهِ، وإجلالاً لذكره، وإعلاءً لكلمتهِ، وضبطاً للنفوس أن تتسرع إلى الاستهانة بجنابهِ، وتقييداً للألسنِ أن تتفوه بالانتقاص لحقه.
وأيضاً، فإن حدَّ سبِّ المخلوق وقذفه لا يسقط بإظهار التوبة، فحد سب الخالق أولى.
وأيضاً، فحدُّ الأفعال الموجبة للعقوبة لا تسقط بإظهار التوبة، فكذلك حَدُّ الأقوال، بل شأن الأقوال وتأثيرها أعظم.
وجماع الأمر أن كلَّ عقوبةٍ وجبت جزاء ونكالاً على فعلٍ أو قولٍ ماض فإنها لا تسقط التوبة بعد الرفع إلى السلطان، فسب الله أولى بذلك، ولا ينتقض هذا بتوبة الكافر والمرتد، لأن العقوبة هناك إنما هي على الاعتقاد الحاضر في الحال المستصحب من الماضي، فلا يصلح نقضاً لوجهين:
أحدهما: أن عقوبة الساب لله ليست لذنب استصحبه واستدامه، فإنه بعد انقضاء السب لم يستصحبه ولم يستدمه، وعقوبة الكافر والمرتد إنما هي الكفر الذي هو مُصِرٌّ عليه مقيم على اعتقاده.
الثاني: أن الكافر إنما يُعاقَب على اعتقاد هو الآن في قلبه، وقوله وعمله دليلٌ على ذلك الاعتقاد، حتى لو فرض أن علمنا أن كلمة الكفر التي قالها خرجت من غير اعتقادٍ لموجبها لم نكفِّره ـ بأن يكون جاهلاً بمعناها، أو مخطئاً قد غلط وسبق لسانه إليها مع قصد خلافها، ونحو ذلك ـ والسابُّ إنما يُعاقَب على انتهاكه لحرمة الله واستخفافه بحقه فيُقتل، وإن علمنا أنه لا يَسْتحسن السب لله ولا يَعتقده ديناً، إذ ليس أحدٌ من البشر يدينُ بذلك، ولا ينتقض هذا أيضاً بترك الصلاة والزكاة ونحوهما، فإنهم إنما يُعاقَبون على دوام الترك لهذه الفرائض، فإذا فعلوها زال الترك، وإن شئت أن تقول الكافر والمرتد وتاركوا الفرائض يعاقبون على عدم فعل الإيمان والفرائض، أعني على دوام هذا العدم، فإذا وُجد الإيمانُ والفرائضُ امتنعت العقوبة لانقطاع العدم، وهؤلاء يعاقَبون على وجود الأقوال والأفعال الكبيرة، لا على دوام وجودها، فإذا وُجدت مرةً لم يرتفع ذلك بالترك بعد ذلك.
وبالجملة فهذا القول له تَوَجُّهٌ وقوةٌ ... ولا خلاف في قبول التوبة فيما بينه وبين الله سبحانه وسقوط الإثم بالتوبة النصوح.
ومن الناس من سلك في ساب الله تعالى مسلكاً آخر، وهو أنه جعله من باب الزنديق ... لأن وجود السب منه - مع إظهاره للإسلام- دليلٌ على خُبث سَرِيرته، لكن هذا ضعيفٌ، فإن الكلام هنا إنما هو في سبٍّ لا يتدين به، فأما السب الذي يُتَدَيّن به ـ كالتثليث، ودعوى الصاحبة والولد ـ فحكمه حكم أنواعِ الكفر، وكذلك المقالاتُ المكفِّرةُ ـ مثل مقالةِ الجهمية، والقدرية، وغيرهم من صنوف البدع .
وإذا قبلنا توبة من سب الله سبحانه فإنه يُؤّدَّبُ أَدباً وَجِيعاً حتى يَرْدَعه عن العود إلى مثل ذلك، هكذا ذكره بعض أصحابنا، وهو قولُ أصحاب مالك في كلِّ مرتدٍّ.
المبحث الثاني: أمثلة لنواقض الإيمان بالقول
- دعاء الأولياء والصالحين، والاستغاثة بهم عند الكرب والشدة، وسؤالهم ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وكذلك الاستعاذة بهم.
- الاستهزاء بالله تعالى، أو بكلامه وكتابه (القرآن العظيم)، أو سائر كتبه، أو بآية من آياته، أو بالرسول صلى الله عليه وسلم مثل: الطعن في صدقه، أو في أمانته، أو عفته، أو الاستهزاء والاستخفاف به، أو بسنته صلى الله عليه وسلم.
وكذلك السخرية من أسماء الله تعالى، أو تنقصه، أو بوعده بالجنة أو وعيده بالنار؛ كقول بعضهم: لو أعطاني الله الجنة ما دخلتها، لو شهد عندي الأنبياء والرسل بكذا ما قبلت شهادتهم، أو ما لحقني منذ صليت، أو ما نفعتك صلاتك، وغير ذلك.
- القول: أنا لا أخاف الله. أو أنا لا أحب الله تعالى.
- القول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوجب علينا الصلاة، أو الزكاة، أو الصوم، أو الحج... إلخ.
- القول: إن الدين لا صلة له بالدولة، وسائر شؤون الحياة، أو إن تعاليم الإسلام لا تتناسب مع هذا الزمن.
- القول لمن عمل بدين الإسلام: أنت رجعي.
- القول: إن دين الإسلام وتعاليمه؛ هو سبب تأخر المسلمين، أو بلاد المسلمين.
- قول شخص عن عدوه: لو كان ربي ما عبدته، أو لو كان نبياً ما آمنت به.
- قول شخص عن ولده أو زوجته: هو أحب إلي من الله، أو من رسوله صلى الله عليه وسلم.
- ادعاء الوحي، وإن لم يدع معها النبوة.
- قول الشخص: إن الله نقص من مالي، وأنا أنقص من حقه ولا أصلي.
- قول من صلى في رمضان فقط، ثم قال: هذا أيضا كثير، أو هذا يكفي وزيادة.
- قول الفاسق إذا قيل له صل حتى تجد حلاوة الصلاة: لا أصلي حتى أجد حلاوة الترك.
- من طعن في عدالة الصحابة، أو جمهورهم، كأن يقول عنهم: فساق، أو ضلال.
- من قال بألوهية علي - رضي الله عنه- أو نبوته .
- ادعاء أن جبريل- عليه السلام - خان الأمانة؛ فأنزل الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم بدلاً من أن ينزله على علي .
- قذف أم المؤمنين عائشة بنت الصديق – رضي الله عنهما- بما برأها الله تعالى منه من فوق سبع سموات.
إلى غير ذلك من الأقوال القبيحة المناقضة للإيمان والإسلام.
الفصل الثالث: النواقض العملية في باب التوحيد
المبحث الأول: شرك العبادة
المطلب الأول: الذبح والنذر الركوع والسجود والطواف
العبادة حق لله وحده لا شريك له سواء كانت ذبحاً أو نذراً أو سجوداً أو ركوعاً أو طوافاً ونحوها، فإن من جعل شيئاً منها لمخلوق كائناً من كان فقد أشرك بالله تعالى في عبادته، واتخذ مع الله أنداداً.
وبيان ذلك أن الذبح أو النذر لغير الله تعالى شرك بالله تعالى، لأنهما عبادتان يجب صرفهما لله تعالى وحده، فمن صرفهما لغيره فقد أشرك، كما أن هؤلاء الذين ينحرون أو ينذرون لغير الله تعالى سواء كان للأموات، أو للجن، أو للملائكة عليهم السلام، أو لطلعة سلطان ونحوها، إنما يفعلون ذلك عن اعتقاد باطل، فيعتقدون أنها تجلب النفع أو تدفع الضر، ومنهم من يقدم تلك النحائر والنذور إلى هذه المعبودات من أجل أن تقربهم عند الله زلفى...
يقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3].
يقول ابن عطية في تفسير قوله تعالى: - {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ}: (يعني ما ذبح لغير الله تعالى، وقصد به صنم أو بشر من الناس كما كانت العرب تفعل، وكذلك النصارى، وعادة الذابح أن يسمي مقصوده ويصيح به، فذلك إهلاله) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ويقول ابن تيمية: - (قوله تعالى: - {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ} [المائدة:3], ظاهره أنه ما ذبح لغير الله تعالى، مثل أن يقال هذا ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود، فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم وقال فيه: باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه نحن، متقربين به إلى الله سبحانه، كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله، فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له والنسك له، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة، فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح والزهرة أو قصد به ذلك أولى، وهذا يبين لك ضعف قول من حرم ما ذبح باسم غير الله، ولم يحرم ما ذبح لغير الله، كما قاله طائفة من أصحابنا وغيرهم، بل لو قيل بالعكس لكان أوجه، فإن العبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقرباً به إليه لحرم، وإن قال فيه باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين قد يتقربون إلى الكواكب، بالذبح والبخور ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان) .
ويقول ابن كثير: (وقوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}قال مجاهد وابن جريج: كانت النصب حجارة حول الكعبة، قال ابن جريج: - وهي ثلاثمائة وستون نصباً... فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب، فهو من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، وينبغي أن يحمل هذا على هذا) .
ويقول الشوكاني: (قوله تعالى: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} إشارة إلى الاستقسام بالأزلام، أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا، والفسق الخروج عن الحد، وفي هذا وعيد شديد؛ لأن الفسق هو أشد الكفر، لا ما وقع عليه اصطلاح قوم من أنه منزلة متوسطة بين الإيمان والكفر) .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ((ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلي شيئاً يكتمه الناس، غير أنه قد حدثني بكلمات أربع، فقيل: ما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثاُ، ولعن الله من غير منار الأرض)) .
ومما يبين لك أن هؤلاء الذين ينذرون أو يذبحون لغير الله تعالى، إنما هو عن اعتقاد بأنها تجلب النفع أو تدفع الضر، ما يرى من أحوالهم وأوضاعهم، وقد بين العلماء ذلك في كتبهم، فهذا الصنعاني يوضح هذا الأمر فيقول – مناقشاً شبهات من يذبح لغير الله -: (فإن قال إنما نحرت لله، وذكرت اسم الله عليه، فقل: إن كان النحر لله فلأي شيء قربت ما تنحره من باب مشهد من تفضله وتعتقد فيه؟ هل أردت بذلك تعظيمه؟ إن قال: نعم، فقل له: هذا النحر لغير الله تعالى، بل أشركت مع الله تعالى غيره، وإن لم ترد تعظيمه، فهل أردت توسيخ باب المشهد وتنجيس الداخلين؟ إليه أنت تعلم يقيناً أنك ما أردت ذلك أصلاً، ولا أردت إلا الأول، ولا خرجت من بيتك إلا قصداً له) .
ويقول أيضاً – مبيناً حكم هذه النذور والنحائر -: (فإن قلت هذه النذور والنحائر ما حكمها؟ قلت: قد علم كل عاقل أن الأموال عزيزة عند أهلها، يسعون في جمعها، ولو بارتكاب كل معصية، ويقطعون الفيافي من أدنى الأرض والأقاصي، فلا يبذل أحد من ماله شيئاً إلا معتقداً لجلب نفع أكثر منه، أو دفع ضرر، فالناذر للقبر ما أخرج ماله إلا لذلك، وهذا اعتقاد باطل، ولو عرف الناذر بطلان ما أراده، ما أخرج درهماً) .
وكذلك الشوكاني يقرر أن هذه الأعمال الشركية صادرة عن الباطن، وأن أصحابها يعتقدون فيها النفع والضر، فيقول: (وكذلك النحر للأموات عبادة لهم، والنذر لهم بجزء من المال عبادة لهم، والتعظيم عبادة لهم، كما أن النحر للنسك وإخراج صدقة المال، والخضوع والاستكانة عبادة لله عز وجل بلا خلاف، ومن زعم أن ثم فرقاً بين الأمرين فليهده إلينا، ومن قال إنه لم يقصد بدعاء الأموات والنحر لهم والنذر لهم عبادتهم، فقل له: فلأي مقتضى صنعت هذا الصنع؟ فإن دعاءك للميت عند نزول أمر ربك لا يكون إلا لشيء في قلبك عبر عنه لسانك، فإن كنت تهذي بذكر الأموات عند عرض الحاجات من دون اعتقاد منك لهم، فأنت مصاب بعقلك، وهكذا إن كنت تنحر لله، وتنذر لله، فلأي معنى جعلت ذلك للميت وحملته إلى قبره، فإن الفقراء على ظهر البسيطة في كل بقعة من بقاع الأرض وفعلك وأنت عاقل لا يكون إلا لمقصد قد قصدته، أو أمر قد أردته..) . ويعلل صاحب كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق) كون النذر لغير الله تعالى من الشرك الاعتقادي قائلاً: (لأن الناذر لم ينذر هذا النذر الذي لغير الله إلا لاعتقاده في المنذور له أنه يضر وينفع، ويعطي ويمنع، إما بطبعه، وإما بقوة سببية فيه، ويجلب الخير والبركة ويدفع الشر والعسرة، والدليل على اعتقاد هؤلاء الناذرين وشركهم حكيهم وقولهم أنهم قد وقعوا في شدائد عظيمة،فنذروا نذراً لفلان، وفلان، … فانكشفت شدائدهم واستراحت خواطرهم، فقد قام في نفوسهم أن هذه النذور هي سبب في حصول مطلوبهم ودفع مرهوبهم، ومن تأمل القرآن وسنة المبعوث به صلى الله عليه وسلم، ونظر أحوال السلف الصالح، علم أن هذا النذر نظير ما جعلته المشركون لآلهتهم في قوله تعالى: {هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا} [الأنعام: 136]) .
ويتحدث مبارك الميلي عن واقع أولئك الناس الذين يذبحون لغير الله تعالى، ويبين أنهم إنما يفعلون ذلك عن اعتقاد وطلب للقربى من تلك المعبودات... فكان مما قاله: (إن كل من خالط العامة، يجزم بأن قصدهم بذبائح الزردة التقرب من صاحب المزار، ويكشف عن ذلك أشياء: أحدها: أنهم يضيفون الزردة إلى صاحب المزار، فيقولون: زردة سيدي فلان، أو طعام سيدي عبد القادر مثلاً.
ثانيها: إنهم يفعلونها عند قبره، وفي جواره، لا يرضون لها مكاناً آخر.
ثالثها: إنهم إن نزل المطر إثرها، نسبوه إلى سر المذبوح له، وقوي اعتقادهم فيه، وتعويلهم عليه.
رابعها: - أنهم لو تركوها فأصيبوا بمصيبة، نكسوا على رؤوسهم، وقالوا: إن وليهم غضب عليهم، لتقصيرهم في جانبه) .
وفي ختام مسألة الذبح أو النذر لغير الله تعالى، ننبه إلى عدم الخلط بين ما يذبح لغير الله تعالى تقرباً أو تعظيماً فهذا من باب العبادات والقربات، وبين ما يذبح عادة بقصد الأكل أو إكرام ضيف ونحوهما.
ولما ساق النووي كلام بعض علماء الشافعية في هذا الشأن قائلاً:- (وذكر الشيخ إبراهيم المروزي من أصحابنا أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقرباً، أفتى أهل بخارى بتحريمه؛ لأنه مما أهل به لغير الله تعالى، قال الرافعي هذا إنما يذبحونه استبشاراً بقدومه كذبح العقيقة لولادة المولود، وقيل هذا لا يوجب التحريم، والله أعلم) .
فقد عقب الميلي على ما سبق إيراده فقال: (ونقله عن الرافعي غير مخالف لفتوى أهل بخارى إلا بالقصد، فهو خلاف في حال. فمن قصد التقرب إلى الأمير، صدقت عليه الفتوى، ومن قصد مجرد السرور أفتى بقول الرافعي) .
وقال سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب معلقاً على هذه المسألة:- (إن كانوا يذبحونه استبشاراً كما ذكر الرافعي فلا يدخل في ذلك، وإن كانوا يذبحونه تقرباً إليه، فهو داخل في الحديث يعني حديث ((لعن الله من ذبح لغير الله)) ) .
كما يجب التفريق بين النذر الشركي المخرج من الملة، وبين نذر المعصية فيما دون ذلك، ونبين ذلك من خلال نص في كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق) حيث جاء فيه ما يلي:- (والنذر غير الجائز قسمان:
أحدهما: نذر فعل معصية، كشرب الخمر، وقتل المعصوم، فيحرم الوفاء به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من نذر أن يعصي الله فلا يعصه)) ؛ ولأن معصية الله تبارك وتعالى لا تباح في حال من الأحوال...
الثاني: النذر لغير الله تعالى كالنذر لإبراهيم الخليل، أو محمد النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، أو ابن عباس، أو عبد القادر، أو الخضر، فلا خلاف بين من يعتد به من علماء المسلمين أنه من الشرك الاعتقادي) .
ومن جانب آخر، فقد لبس خصوم عقيدة التوحيد في هذه المسألة، فزعموا أن الذبح لغير الله، وكذا النذر لغيره، إنما هي من المحرمات التي دون الشرك..، وذلك بسبب سوء فهمهم للنصوص الشرعية، وكلام أهل العلم، بل ربما نسبوا هذا التلبيس لبعض أئمة السلف) .
وقد قام الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بكشف هذا التلبيس، وبيان الحق في هذه القضية فكتب جواباً في الرد على ابن سحيم، حين زعم الأخير أن النذر لغير الله حرام ليس بشرك، فقال الشيخ في الرد عليه:
(فدليلك قولهم أن النذر لغير الله حرام بالإجماع، فاستدللت بقولهم حرام على أنه ليس بشرك فإن كان هذا قدر عقلك، فكيف تدعي المعرفة؟ يا ويلك ما تصنع بقول الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151], فهذا يدل على أن الشرك حرام ليس بكفر يا هذا الجاهل الجهل المركب، ما تصنع بقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33], إلى قوله: {وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الأعراف: 33].هل يدل هذا التحريم على أنه لا يكفر صاحبه؟ يا ويلك في أي كتاب وجدته إذا قيل لك هذا حرام، أنه ليس بكفر، فقولك أن ظاهر كلامهم أنه ليس بكفر، كذب وافتراء على أهل العلم، بل يقال ذكر أنه حرام، وأما كونه كفر فيحتاج إلى دليل آخر، والدليل عليه أنه مصرح في (الإقناع) أن النذر عبادة، ومعلوم أن لا إله إلا الله معناها لا يعبد إلا الله، فإذا كان النذر عبادة وجعلتها لغيره، كيف لا يكون شركاً؟) .
ويورد الشيخ محمد بن عبد الوهاب قاعدة مهمة أثناء جوابه على من ادعى أن الذبح للجن منهي عنه فهو معصية وليس ردة.. حيث قال الشيخ:
(قوله: الذبح للجن منهي عنه، فاعرف قاعدة أهملها أهل زمانك، وهي أن لفظ التحريم والكراهة وقوله: لا ينبغي ألفاظ عامة تستعمل في المكفرات، والمحرمات التي هي دون الكفر، وفي كراهة التنزيه التي هي دون الحرام، مثل استعمالها في المكفرات قوله: لا إله إلا الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، وقوله: {وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92], ولفظ التحريم مثل قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151], وكلام العلماء لا ينحصر في قولهم: (يحرم كذا) لما صرحوا في مواضع أخر أنه كفر، وقولهم (يكره) كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} [الإسراء: 23] إلى قوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38], وأما كلام الإمام أحمد في قوله: (أكره كذا) فهو عند أصحابه على التحريم.
إذا فهمت هذا فهم صرحوا أن الذبح للجن ردة تخرج ، وقالوا الذبيحة حرام ولو سمي عليها، قالوا: لأنها يجتمع فيها مانعان، الأول: - أنها مما أهل به لغير الله، والثاني: أنها ذبيحة مرتد والمرتد لا تحل ذبيحته، وإن ذبحها للأكل وسمى عليها) .
(ب) وإذا انتقلنا إلى حكم السجود أو الركوع لغير الله تعالى، فهذا من الشرك الظاهر، فلا ريب أن السجود والركوع عبادتان لله وحده لا شريك له، فمن سجد أو ركع لغير الله تعالى فقد أشرك.
يقول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37], أي: لا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره، فإنه لا يغفر أن يشرك به) .
(قال بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية: إن من أراد أن يكون عبداً لله خالصاً، فلا يسجد إلا له سبحانه، ولا يسجد للشمس والقمر، نبه بهما على غيرهما من المخلوق العلوي، فالسفلي من الأحجار والأشجار والضرائح ونحوها بالأولى. وقد دلت هذه الآية على أن ديننا هو أن السجود حق الخالق، فلا يسجد لمخلوق أصلاً كائناً ما كان، فإن المخلوقية يتساوى فيها الشمس والقمر، والولي والنبي، والحجر والمدر، والشجر ونحوها) .
وأيضاً فإن الله تعالى قال بعد الآية السابقة: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38], فمن سجد لله وحده، فقد خضع وانقاد لله وحده، وحقق كمال الذل والمحبة لله تعالى، وضده من استكبر عن إفراد الله بالعبادة - ومنها السجود - وقد توعد الله تعالى هؤلاء المستكبرين بالعذاب المهين، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] .
ويقول القرطبي: (وهذا السجود المنهي عنه قد اتخذه جهال المتصوفة عادة في سماعهم، وعند دخولهم على مشايخهم، واستغفارهم، فيرى الواحد منهم إذا أخذه الحال بزعمه، يسجد للأقدام لجهله سواء كان للقبلة أم غيرها جهالة منه، ضل سعيهم وخاب عملهم) .
ويقول ابن القيم في بيان هذا الشرك: (ومن أنواع الشرك: سجود المريد للشيخ، فإنه شرك من الساجد والمسجود له، والعجب أنهم يقولون: ليس هذا سجود، وإنما هو وضع الرأس قدام الشيخ احتراماً وتواضعاً، فيقال لهؤلاء ولو سميتموه ما سميتموه، فحقيقة السجود: وضع الرأس لمن يسجد له، وكذلك السجود للصنم، وللشمس، وللنجم، وللحجر، كله وضع الرأس قدامه.
ومن أنواعه: ركوع المتعممين بعضهم لبعض عند الملاقاة، وهذا سجود في اللغة، وبه فسر قوله تعالى: {وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} [البقرة: 58], أي منحنين، وإلا فلا يمكن الدخول بالجبهة على الأرض، ومنه قول العرب: سجدت الأشجار إذا أمالتها الريح) .
ويقول أيضاً: (جاء شيوخ الضلال والمزاحمون للربوبية فزينوا لمريديهم حلق رؤوسهم لهم، كما زينوا لهم السجود لهم وسموه بغير اسمه، وقالوا: هو وضع الرأس بين يدي الشيخ. ولعمر الله إن السجود لله تعالى هو وضع الرأس بين يديه سبحانه، وزينوا لهم أن ينذروا لهم، ويتوبوا لهم، ويحلفوا بأسمائهم، وهذا هو اتخاذهم أرباباً وآلهة من دون الله، قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 79-80].
وأشرف العبودية عبودية الصلاة، وقد تقاسمها الشيوخ والمتشبهون بالعلماء والجبابرة، فأخذ الشيوخ منها أشرف ما فيها، وهو السجود، وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوع، فإذا لقي بعضهم بعضاً ركع له، كما يركع المصلي لربه سواء، وأخذ الجبابرة منهم القيام، فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبودية لهم، وهم جلوس، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمور الثلاثة على التفصيل، فتعاطيها مخالفة صريحة له، فنهى عن السجود لغير الله وقال: ((لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد)) . وتحريم هذا معلوم من دينه بالضرورة، وتجويز من جوزه لغير الله مراغمة لله ورسوله، وهو من أبلغ أنواع العبودية، فإذا جوز هذا المشرك هذا النوع للبشر، فقد جوز العبودية لغير الله، وأيضاً فالانحناء عند التحية سجود، ومنه قوله تعالى: {وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} [البقرة: 58]، أي منحنين، وإلا فلا يمكن الدخول على الجباه …
والمقصود أن النفوس الجاهلة الضالة أسقطت عبودية الله سبحانه، وأشركت فيها من تعظمه من الخلق، فسجدت لغير الله، وركعت له، وقامت بين يديه قيام الصلاة وحلفت لغيره، ونذرت لغيره، وحلقت لغيره، وذبحت لغيره، وطافت لغير بيته … وسوت من تعبده من المخلوقين برب العالمين، وهؤلاء هم المضادون لدعوة الرسل، وهم الذين بربهم يعدلون. قال تعالى {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97-98]) .
وإذا تقرر كون السجود لغير الله تعالى شركاً بالله تعالى، فينبغي أن نفرق بين سجود العبادة، وسجود التحية، فأما سجود العبادة فقد سبق الحديث عنه، وأما سجود التحية فقد كان سائغاً في الشرائع السابقة، ثم صار محرماً على هذه الأمة، فهو معصية لله تعالى، فمن المعلوم أن سجود العبادة القائم على الخضوع والذل والتسليم والإجلال لله وحده هو من التوحيد الذي اتفقت عليه دعوة الرسل، وإن صرف لغيره فهو شرك وتنديد، ولكن لو سجد أحدهم لأب أو عالم ونحوهما وقصده التحية والإكرام فهذه من المحرمات التي دون الشرك، أما إن قصد الخضوع والقربة والذل له فهذا من الشرك، ولكن لو سجد لشمس أو قمر أو قبر فمثل هذا السجود لا يتأتى إلا عن عبادة وخضوع وتقرب فهو سجود شركي، وإليك توضيح ذلك من خلال النصوص التالية:-
يقول الله تعالى:- {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100].
يقول ابن عطية – في معنى السجود: (واختلف في هذا السجود، فقيل: كان كالمعهود عندنا من وضع الوجه بالأرض، وقيل: بل دون ذلك كالركوع البالغ ونحوه، مما كان سيرة تحياتهم للملوك في ذلك الزمان، وأجمع المفسرون أن ذلك السجود – على أي هيئة كان – فإنما كان تحية لا عبادة، قال قتادة: - هذه كانت تحية الملوك عندهم) .
ويقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: (وقد كان سائغاً في شرائعهم، إذا سلموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزاً من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام، فحرم هذا في هذه الملة، وجعل السجود مختصًّا بجناب الرب سبحانه وتعالى، هذا مضمون قول قتادة وغيره – إلى أن قال: - والغرض أن هذا كان جائزاً في شريعتهم؛ ولهذا خروا له سجداً) .
ويقول محمد رشيد رضا- عند تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} [البقرة: 34]- : (وهو سجود لا نعرف صفته، ولكن أصول الدين تعلمنا أنه ليس سجود عبادة إذ لا يعبد إلا الله تعالى، والسجود في اللغة التطامن والخضوع والانقياد، وأعظم مظاهره الخرور نحو الأرض للأذقان، ووضع الجبهة على التراب، وكان عند القدماء من تحية الناس للملوك والعظماء، ومنه سجود يعقوب وأولاده ليوسف عليهم السلام) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها)) .
وعن قيس بن سعد رضي الله عنه قال: ((أتيت الحيرة، فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم فقلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يسجد له، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك. قال: أرأيت لو مررت على قبري أكنت تسجد له، قال: لا، قال: - فلا تفعلوا، لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن، لما جعل الله لهم عليهن من الحق)) .
قال الطيبي :
(أي: اسجدوا للحي الذي لا يموت، ولمن ملكه لا يزول، فإنك إنما تسجد لي الآن مهابة وإجلالاً، فإذا صرت رهين رمس، امتنعت عنه) .
ويبين ابن تيمية هذه المسألة فيقول:
(أما تقبيل الأرض، ووضع الرأس، ونحو ذلك مما فيه السجود، مما يفعل قدام بعض الشيوخ، وبعض الملوك، فلا يجوز، بل لا يجوز الانحناء كالركوع أيضاً، كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ((الرجل منا يلقى أخاه، أينحني له؟ قال لا...)) .
وأما فعل ذلك تديناً وتقرباً فهذا أعظم المنكرات، ومن اعتقد مثل هذا قربة وتديناً فهو ضال مفتر، بل يبين له أن هذا ليس بدين ولا قربة، فإن أصر على ذلك استتيب، فإن تاب وإلا قتل) .
ويقول أيضاً:
(وأما وضع الرأس عند الكبراء من الشيوخ وغيرهم، أو تقبيل الأرض ونحو ذلك، فإنه مما لا نزاع فيه بين الأئمة في النهي عنه، بل مجرد الانحناء بالظهر لغير الله عز وجل منهي عنه) .
ويقول في موضع ثالث: (وحجرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وحجرة الخليل، وغيرهما من المدافن التي فيها نبي ورجل صالح، لا يستحب تقبيلها ولا التمسح بها باتفاق الأئمة، بل منهي عن ذلك، وأما السجود لذلك فكفر) .
(ج) وإذا انتقلنا إلى الطواف، فإن المراد بالطواف الذي يكون شركاً هو الطواف بغير الكعبة مع قصد التقرب لغير الله تعالى، كالطواف بالقبور والمشاهد ونحوها، فالطواف عبادة؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29], وصرف العبادة أو شيء منها لغير الله شرك، وأما لو طاف بتلك القبور بقصد التقرب إلى الله تعالى فهذا محرم، وبدعة منكرة، ووسيلة لعبادة تلك القبور).
يقول ابن تيمية في هذه المسألة:
(وأما الرجل الذي طلب من والده الحج، فأمره أن يطوف بنفس الأب، فقال: طف ببيت ما فارقه الله طرفة عين قط، فهذا كفر بإجماع المسلمين، فإن الطواف بالبيت العتيق مما أمر الله به رسوله، وأما الطواف بالأنبياء والصالحين فحرام بإجماع المسلمين، ومن اعتقد ذلك دينا فهو كافر، سواء طاف ببدنه أو بقبره) .
ويقول أيضاً:
(ليس في الأرض مكان يطاف به كما يطاف بالكعبة، ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع فهو شر ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة … فمن اتخذ الصخرة اليوم قبلة يصلي إليها فهو كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مع أنها كانت قبلة لكن نسخ ذلك، فكيف بمن يتخذها مكاناً يطاف به كما يطاف بالكعبة؟ والطواف بغير الكعبة لم يشرعه الله بحال...) .
وإذا تقرر حكم هذه الأعمال... فيمكن إيجاز أوجه كون هذه الأعمال كفر بما يلي:-
(أ) أن هذه الأعمال شرك يناقض توحيد العبادة، فإذا كان الذبح والنذر، وكذا السجود والركوع والطواف عبادات لا يجوز صرفها إلا لله تعالى وحده، فمن أثبت لغير الله تعالى ما لا يكون إلا لله فهو كافر ؛ لأن الشرك الأكبر ... هو صرف نوع أو فرد من العبادة لغير الله تعالى، والعبادة الشرعية تتضمن غاية الذل لله تعالى، مع غاية المحبة له) .
وكما يقول ابن تيمية:
(فالإله هو الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم، والإجلال والإكرام، والخوف والرجاء ونحو ذلك) . ومن المعلوم أن الذبح والنذر والسجود والركوع والطواف ونحوها … عبادات تجمع بين الخضوع والخوف والإجلال، والرجاء والمحبة والقرب، فإذا صرفت هذه العبادات لله وحده فهذا إيمان وتوحيد، وإذا صرفت لغيره فهذا كفر وتنديد.
وقد غلط مرجئة المتكلمين ومن تبعهم عندما زعموا أن شرك التقرب والنسك ليس شركاً بإطلاق، ما لم يتضمن عندهم الشرك في التوحيد العلمي الخبري؛ لأنهم حصروا التوحيد في الربوبية والأسماء والصفات ومن ثم فالشرك عندهم هو الشرك في هذا التوحيد) .
ومثال ذلك ما توهمه بعضهم بأن السجود لغير الله تعالى لا يكون كفراً إلا إذا اعتقد الربوبية فيمن سجد له ، والصحيح أن السجود لغير الله تعالى شرك يناقض توحيد العبادة، وإذا انضم إلى ذلك اعتقاد الربوبية فيمن سجد له، فهذا شرك في توحيد الربوبية.
ومنهم من قال: إن السجود للصنم أو الشمس ونحوهما علامة الكفر وإن لم يكن في نفسه كفر، وهذا ليس بصحيح، بل السجود للصنم أو الشمس في حد ذاته كفر وشرك بالله تعالى في العبادة، فهو خضوع ورجاء وتذلل لغير الله تعالى، ولا تقوم عبودية الله تعالى إلا بتحقيق السجود له سبحانه، كما قال تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37].
(ب) أن من قصد بتلك العبادات غير الله تعالى، وصرفها لغيره سبحانه، فقد شبه المخلوق الضعيف العاجز بالخالق القوي القادر.
ولذا يقول ابن القيم: (ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونها: غاية الحب، مع غاية الذل، هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين، فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله، فقد شبهه به في خالص حقه، وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع … - إلى أن قال- فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به، ومنها التوكل فمن توكل على غيره فقد شبهه به، ومنها التوبة فمن تاب لغيره فقد شبهه به) .
ويقول- في كتاب آخر - : (ومن أسباب عبادة الأصنام: الغلو في المخلوق، وإعطاؤه فوق منزلته، حتى جعل فيه حظ من الإلهية، وشبهوه بالله سبحانه، وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم، والذي أبطله الله سبحانه، وبعث رسله وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله.
فأهل الشرك غلوا فيمن يعظمونه، ويحبونه، حتى شبهوه بالخالق، وأعطوه خصائص الإلهية، بل صرحوا أنه إله، وأنكروا جعل الآلهة إلهاً واحداً، وقالوا: {اصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص: 6], وصرحوا بأنه إله معبود يرجى ويخاف، ويعظم ويسجد له، وتقرب له القرابين، إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى، فكل مشرك فهو مشبه لإلهه ومعبوده بالله سبحانه، وإن لم يشبهه به من كل وجه) .
ويقول ابن القيم أيضاً: (وقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [فصلت: 11] إنما قصد به نفي أن يكون معه شريك، أو معبود يستحق العبادة والتعظيم، كما يفعله المشبهون والمشركون. وهذا التشبيه الذي أبطله الله سبحانه هو أصل شرك العالم، وعبادة الأصنام.. فإن المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة، والتعظيم، والخضوع، والنذر له والسجود له وحلق الرأس له، والاستغاثة به) .
ومما قاله المقريزي – في شأن هذا التشبيه : (إن المشرك شبه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية، وهي التفرد بملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق تعالى. وسوَّى بين التراب ورب الأرباب، فأي فجور وذنب أعظم من هذا.
واعلم أن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة له وحده عقلاً وشرعاً وفطرة، فمن جعل ذلك لغيره فقد شبه الغير بمن لا شبيه له، ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم، أخبر من كتب على نفسه الرحمة أنه لا يغفره أبداً …ومن خصائص الإلهية للسجود، فمن سجد لغيره فقد شبهه به، ومنها الذبح له فمن ذبح لغيره قد شبهه به، ومنها حلق الرأس إلى غير ذلك) .
ويتحدث أحمد الدهلوي عن هذا التشبيه قائلاً: (حقيقة الشرك أن يعتقد إنسان في بعض المعظمين من الناس أن الآثار العجيبة منه إنما صدرت لكونه متصفاً بصفة من صفات الكمال مما لم يعهد في جنس الإنسان بل يختص بالرب جل مجده، لا يوجد في غيره إلا أن يخلع هو خلعة الألوهية على غيره، فيتذلل عنده أقصى التذلل، ويعامل معه معاملة العباد مع الله تعالى) .
إضافة إلى ذلك فإن هذا التشبيه من أظلم الظلم وأشنعه، ولذا يقول إسماعيل الدهلوي:-
(قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وقد هَدَت لقمان الحكمة العميقة التي أكرمه الله وخصه بها، إلى أن أفحش الظلم أن يجود الإنسان على أحد بحق غيره، فمن أعطى حق الله لأحد خلقه فقد عمد إلى حق أكبر كبير، فأعطاه أذل ذليل، وكان كرجل وضع تاج الملك على مفرق إسكاف، وأي جور أكبر من هذا الجور، وأي ظلم أفحش من هذا الظلم) .
(ج) أجمع العلماء على أن من صرف عبادة لغير الله تعالى فهو كافر وكما يقول ابن تيمية: (فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين) .
ولذا علق الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب على هذا الإجماع قائلاً: (وهو إجماع صحيح، معلوم بالضرورة من الدين، وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم في باب حكم المرتد على أن من أشرك بالله فهو كافر، أي عبد مع الله غيره بنوع من أنواع العبادة) .
كما أن حرمة مثل هذا الشرك من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، كما وضحه ابن تيمية بقوله: (فإنا بعد معرفـة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحدًا من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين …، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نهى عن كل هذه الأمور، وإن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله) .
كما يقول أيضاً: (كان من أتباع هؤلاء (المشركين) من يسجد للشمس والقمر والكواكب، ويدعوها كما يدعو الله تعالى، ويصوم لها وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي، فإذا جعلتها سبـباً وواسطة لم أكن مشركاً، ومن المعلوم بالاضطـرار من دين الإسلام أن هذا شرك) .
4- وفي ختام هذا المبحث، نسرد مجموعة من أقوال العلماء في هذه المسألة:-
يقول ابن نجيم الحنفـي: (والسجود للجبابرة كفر إن أراد به العبادة، لا إن أراد به التحية علـى قـول الأكثر) .
وجاء في (الفتاوى البزازية): (والسجدة لهؤلاء الجبابرة كفر؛ لقوله تعالى مخاطباً للصحابة رضي الله عنهم: {أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 80], نزلت حين استأذنوا في السجود له عليه الصلاة والسلام ولا يخفى أن الاستئذان لسجود التحية بدلالة: {بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} ومع اعتقاد جواز سجدة العبادة لا يكون مسلماً، فكيف يطلق عليهم بعد إذ أنتم مسلمون)، وقيل لا يكفر لقصة إخوة يوسف عليه السلام، والقائل الأول يدعي نسخه بتلك الآية، وبقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18], وقيل: إن أراد العبادة كفر، وإن أراد التحية لا، وهذا موافق لما ذكر في فتاوى الأصل) .
وقال محمد علاء الدين الحصكفي فيمن نذر لغير الله:
(واعلم أن النذر الذي يقع للأموات من أكثر العوام وما يؤخذ من الدراهم والشموع والزيت ونحوها إلى ضرائح الأولياء الكرام تقرباً إليهم فهو بالإجماع باطل وحرام) .
وقال ابن عابدين شارحاً لما سبق:
(قوله باطل وحرام لوجوه: منها أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز؛ لأنه عبادة، والعبادة لا تكون لمخلوق، ومنها أن المنذور له ميت، والميت لا يملك، ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى، واعتقاده ذلك كفر) .
ويقول ابن عبد البر عند شرحه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) :
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله، الذين صلوا إلى قبور أنبيائهم، واتخذوها قبلة ومسجداً، كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه، وأنه مما لا يرضاه خشية عليهم امتثال طرقهم) .
ويقول القاضي عياض: (وكذلك نكفر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر... كالسجود للصنم، وللشمس، والقمر، والصليب، والنار) .
ويقول النووي: (اعلم أن الذبح للمعبود وباسمه، نازلة منزلة السجود له، وكل واحد منهما نوع من أنواع التعظيم والعبادة المخصوصة بالله تعالى الذي هو المستحق للعبادة، فمن ذبح لغيره من حيوان، أو جماد كالصنم على وجه التعظيم والعبادة، لم تحل ذبيحته، وكان فعله كفراً، كمن سجد لغيره سجدة عبادة) .
ويقول أيضاً: ( والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح كالسجود للصنم، أو الشمس...) .
ولما أورد الرملي أنواع الردة... كان مما قاله: (السجود لصنم أو شمس، أو مخلوق آخر؛ لأنه أثبت لله شريكاً، نعم إن دلت قرينة قوية على عدم دلالة الفعل على الاستخفاف كسجود أسير في دار الحرب بحضرة كافر خشية منه فلا كفر – إلى أن قال – وإن قصد تعظيم مخلوق بالركوع كما يعظم الله به فلا فرق بينهما في الكفر حينئذ) .
ويقول البربهاري: (ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يردَّ آية من كتاب الله عز وجل، أو يردَّ شيئاً من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يصلي لغير الله، أو يذبح لغير الله، وإذا فعل شيئاً من ذلك فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ويقول ابن تيمية في مسألة السجود لغير الله ووسائلها : (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وقال: ((فإنها تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار)) , ونهى عن تحري الصلاة في هذا الوقت، لما فيه من مشابهة الكفار في الصورة، وإن كان المصلي يقصد السجود لله لا للشمس، لكن نهي عن المشابهة في الصورة لئلا يفضي إلى المشاركة في القصد، فإذا قصد الإنسان السجود للشمس وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، كان أحق بالنهي والذم والعقاب، ولهذا يكون كافراً، كذلك من دعا غير الله، وحج إلى غير الله هو أيضاً شرك، والذي فعله كفر) .
ويبين ابن تيمية أن السجود الشركي من الأمور المتفق على تحريمها عند الرسل عليهم السلام، فيقول:
(أما السجود لغير الله وعبادته فهو محرم في الدين الذي اتفقت عليه رسل الله، كما قال سبحانه وتعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]) .
ومما سطره هذا الإمام في مسألة النذر الشركي قوله رحمه الله: (ولا يجوز أن ينذر أحد إلا طاعة، ولا يجوز أن ينذرها إلا لله، فمن نذر لغير الله فهو مشرك. كمن صام لغير الله، وسجد لغير الله، ومن حج إلى قبر من القبور فهو مشرك) .
ويقول أيضاً: (وأما النذر للموتى من الأنبياء والمشائخ وغيرهم، أو لقبورهم أو المقيمين عند قبورهم، فهو نذر شرك ومعصية لله تعالى، سواء كان النذر نفقة أو ذهباً أو غير ذلك، وهو شبيه بمن ينذر للكنائس والرهبان وبيوت الأصنام) .
ويؤكد ابن تيمية على إزالة مثل تلك النذور فيقول: وكل ما ينذر له، أو يعظمه من الأحجار أو الأشجار، ونحوها، يجب أن يزال؛ لأنه يحصل للناس به ضرر عظيم في دينهم، كما كسر الخليل عليه السلام الأصنام، وكما حرق موسى عليه السلام العجل، وكما كسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأصنام وحرقها لما فتح مكة). إلى أن قال:( ومن قال أنه يشفى بمثل نذره لهذه الأشياء فهو كاذب، بل يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، فإنه مكذب لله ورسوله...) .
وأورد الشاطبي مثال من ذبح لغير الله تعالى مع أمثلة أخرى على مسألة قررها بقوله: (كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل...؛ لأن الأخذ في خلاف مقاصد الشريعة مشاقة ظاهرة، والله تعالى يقول: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء: 115], كما أن القاصد لخلاف الشرع مستهزئ بآيات الله وأحكامه، والله تعالى يقول: {وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231]) .
وذكر مرعي بن يوسف الكرمي أن السجود للحكام بقصد العبادة كفر، وبقصد التحية كبيرة .
ومما قاله أحمد الفاروقي السرهندي في مكتوباته: (والتبري من الكفر شرط الإسلام، والاجتناب عن شائبة الشرك توحيد، والاستمداد من الأصنام والطاغوت في دفع الأمراض والأسقام، كما هو شائع فيما بين جهلة أهل الإسلام عين الشرك والضلالة، وطلب الحوائج من الأحجار المنحوته نفس الكفر – إلى أن قال – وما يفعلونه من ذبح الحيوانات المنذورة للمشائخ عند قبور المشائخ المنذورة لهم جعله الفقهاء داخلاً في الشرك، وألحقوه بجنس ذبائح الجن الممنوع عنها شرعاً) .
ويقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب في هذا الشأن: (والعبادة أنواع كثيرة، لكني أمثلها بأنواع ظاهرة لا تنكر، من ذلك السجود فلا يجوز لعبد أن يضع وجهه على الأرض ساجداً إلا لله وحده لا شريك له، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا لولي، ومن ذلك الذبح فلا يجوز لأحد أن يذبح إلا لله وحده، كما قرن الله بينهما في القرآن في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162], والنسك هو الذبح، وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] فتفطن لهذا، واعلم أن من ذبح لغير الله من جني أو قبر، فكما لو سجد له، وقد لعنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بقوله: ((لعن الله من ذبح لغير الله)) .
ومما كتبه الشوكاني عن مفاسد البناء على القبور قوله: (ومن المفاسد البالغة إلى حد يرمي بصاحبه إلى وراء حائط الإسلام: أن كثيراً منهم يأتي بأحسن ما يملكه من الأنعام، وأجود ما يحوزه من المواشي فينحره عند ذلك القبر، متقرباً به إليه، راجياً ما يضمر حصوله منه، فيهل به لغير الله، ويتعبد به لوثن من الأوثان، إذ إنه لا فرق بين نحر النحائر لأحجار منصوبة يسمونها وثناً، وبين قبر لميت يسمونه قبراً...)
إلى أن قال: (ولا شك أن النحر نوع من أنواع العبادة التي تعبد الله العباد بها، كالهدايا والفدية والضحايا، فالمتقرب بها إلى القبر والناحر لها عنده لم يكن له غرض بذلك إلا تعظيمه وكرامته، واستجلاب الخير منه، واستدفاع الشر به، وهذا عبادة لا شك فيها، وكفاك من شر سماعه) .
ومما قاله الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبا بطين في هذا الموضوع: (فالدين كله داخل في العبادة، فإذا علم الإنسان وتحقق معنى الإله، وأنه المعبود، وعرف حقيقة العبادة، تبين له أن من جعل شيئاً من العبادة لغير الله، فقد عبده واتخذه إلهاً، وإن فر من تسميته معبوداً أو إلهاً، فتغير الاسم لا يغير حقيقة المسمى، ولا يزيل حكمه ولما سمع عدي بن حاتم - وهو نصراني – قول الله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} [التوبة: 31], قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لسنا نعبدهم. قال: ((أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: بلى، قال: فذلك عبادتهم)) .
فعديٌّ ما كان يحسب أن موافقتهم فيما ذكر عبادة منهم لهم، فأخبره صلى الله عليه وسلم أن ذلك عبادة منهم لهم، مع أنهم لا يعتقدونه عبادة لهم. وكذلك ما يفعله عباد القبور من دعاء أصحابها، والتقرب إليهم بالذبائح والنذور، عبادة منهم للمقبورين، وإن كانوا لا يسمونه ولا يعتقدونه عبادة) .
ويقول الشيخ عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب – في توجيهه القول بأن النذر لغير الله شرك -: (وذلك لأن الناذر لله وحده قد علق رغبته به وحده، لعلمه بأنه تعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، فتوحيد القصد هو توحيد العبادة، ولهذا ترتب عليه وجوب الوفاء فيما نذره طاعة لله، والعبادة إذا صرفت لغير الله صار ذلك شركاً بالله لالتفاته إلى غيره تعالى فيما يرغب فيه أو يرهب، فقد جعله شريكاً لله في العبادة) .
المطلب الثاني: الاستغاثة بغير الله تعالى
لا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين ولا الميتين، مثل أن يقول: يا سيدي فلاناً أغثني وانصرني وادفع عني، أو أنا في حسبك. ونحو ذلك. بل كل هذا من الشرك الذي حرم الله ورسوله، وتحريمه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، وهؤلاء المستغيثون بالغائبين والميتين عند قبورهم وغير قبورهم - لما كانوا من جنس عباد الأوثان - صار الشيطان يضلهم ويغويهم، كما يضل عباد الأصنام ويغويهم فتتصور الشياطين في صورة ذلك المستغاث به، وتخاطبهم بأشياء على سبيل المكاشفة، كما تخاطب الشياطين الكهان، وبعض ذلك صدق، لكن لابد أن يكون في ذلك ماهو كذب، بل الكذب أغلب عليه من الصدق.
- وقد تقضي الشياطين بعض حاجاتهم، وتدفع عنهم بعض ما يكرهونه، فيظن أحدهم أن الشيخ هو الذي جاء من الغيب حتى فعل ذلك، أو يظن أن الله تعالى صور ملكاً على صورته فعل ذلك، ويقول أحدهم: هذا سر الشيخ وحاله! وإنما هو الشيطان تمثل على صورته ليضل المشرك به المستغيث به.
- كما تدخل الشياطين في الأصنام وتكلم عابديها وتقضي بعض حوائجهم، كما كان ذلك في أصنام مشركي العرب، وهو اليوم موجود في المشركين من الترك والهند وغيرهم.
- وأعرفُ من ذلك وقائع كثيرة في أقوام استغاثوا بي وبغيري في حال غيبتنا عنهم، فرأوني أو ذاك الآخر الذي استغاثوا به قد جئنا في الهواء ورفعنا عنهم، ولما حدثوني بذلك بينتُ لهم أن ذلك إنما هو شيطان تصور بصورتي وصورة غيري من الشيوخ الذين استغاثوا بهم ليظنوا أن ذلك كرامات للشيخ فتقوى عزائمهم في الاستغاثة بالشيوخ الغائبين والميتين.
- وهذا من أكبر الأسباب التي بها أشرك المشركون وعبدةُ الأوثان، وكذلك المستغيثون من النصارى بشيوخهم الذين يسمونهم العلاّس يرون أيضاً من يأتي على صورة ذلك الشيخ النصراني الذي استغاثوا به فيقضي بعض حوائجهم.
- وهؤلاء الذين يستغيثون بالأموات من الأنبياء والصالحين والشيوخ وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم غاية أحدهم أن يجري له بعض هذه الأمور أو يحكي لهم بعض هذه الأمور فيظن أن ذلك كرامة وخرق عادة بسبب هذا العمل.
- ومن هؤلاء من يأتي إلى قبر الشيخ الذي يشرك به ويستغيث به فينزل عليه من الهواء طعام أو نفقة أو سلاح أو غير ذلك مما يطلبه فيظن ذلك كرامة لشيخه، وإنما ذلك كله من الشياطين.
- وهذا من أعظم الأسباب التي عبدت بها الأوثان. وقد قال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 35-36]. كما قال نوح عليه السلام، ومعلوم أن الحجر لا يضل كثيراً من الناس إلا بسبب اقتضى ضلالهم، ولم يكن أحد من عباد الأصنام يعتقد أنها خلقت السموات والأرض، بل إنما كانوا يتخذونها شفعاء ووسائط لأسباب:
- منهم من صورها على صور الأنبياء والصالحين، ومنهم من جعلها تماثيل وطلاسم للكواكب والشمس والقمر، ومنهم من جعلها لأجل الجن، ومنهم من جعلها لأجل الملائكة.
- فالمعبود لهم في قصدهم إنما هو للملائكة والأنبياء والصالحين أو الشمس أو القمر وهم في نفس الأمر يعبدون الشياطين، فهي التي تقصد من الإنس أن يعبدها وتظهر لهم ما يدعوهم إلى ذلك، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} [سبأ:40-41].
- وإذا كان العابد ممن لا يستحل عبادة الشياطين أوهموه أنه إنما يدعو الأنبياء والصالحين والملائكة وغيرهم ممن يحسن العابد ظنه به. وأما إن كان ممن لا يحرم عبادة الجن عرفوه أنهم الجن.
- وقد يطلب الشيطان الممثل له في صورة الإنسان أن يسجد له، أو أن يفعل به الفاحشة أو أن يأكل الميتة ويشرب الخمر، أو أن يقرِّب لهم الميتة، وأكثرهم لا يعرفون ذلك، بل يظنون أن من يخاطبهم إما ملائكة وإما رجال من الجن يسمونهم رجال الغيب، ويظنون أن رجال الغيب أولياء الله غائبون عن أبصار الناس.
- وأولئك جن تمثلت بصور الإنس أو رئيت في غير صور الإنس، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6].
- كان الإنس إذا نزل أحدهم بواد يخاف أهله قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، وكانت الإنس تستعيذ بالجن فصار ذلك سبباً لطغيان الجن، وقالت: الإنس تستعيذ بنا!.
- وكذلك الرقى والعزائم الأعجمية هي تتضمن أسماء رجال من الجن يُدعون ويُستغاث بهم ويُقسم عليهم بمن يعظمونه، فتطيعهم الشياطين بسبب ذلك في بعض الأمور.
- وهذا من جنس السحر والشرك قال تعالى: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102].
- وكثير من هؤلاء يطير في الهواء وتكون الشياطين قد حملته وتذهب به إلى مكة وغيرها، ويكون مع ذلك زنديقاً يجحد الصلاة وغيرها مما فرض الله ورسوله، ويستحل المحارم التي حرمها الله ورسوله.
- وإنما يقترن به أولئك الشياطين لما فيه من الكفر والفسوق والعصيان، حتى إذا آمن بالله ورسوله وتاب والتزم طاعة الله ورسوله، فارقته تلك الشياطين، وذهبت تلك الأحوال الشيطانية من الإخبارات والتأثيرات.
- وأنا أعرف من هؤلاء عدداً كثيراً بالشام ومصر والحجاز واليمن، وأما الجزيرة والعراق وخراسان والروم ففيها من هذا الجنس أكثر مما بالشام وغيرها، وبلاد الكفار من المشركين وأهل الكتاب أعظم.
- وإنما ظهرت هذه الأحوال الشيطانية التي أسبابها الكفر والفسوق والعصيان بحسب ظهور أسبابها، فحيث قوي الإيمان والتوحيد ونور الفرقان والإيمان وظهرت آثار النبوة والرسالة ضعفت هذه الأحوال الشيطانية.
- وحيث ظهر الكفر والفسوق والعصيان قويت هذه الأحوال الشيطانية، والشخص الواحد الذي يجتمع فيه هذا وهذا الذي تكون في مادة تمدُّه للإيمان ومادة تمدُّه للنفاق يكون فيه من هذا الحال وهذا الحال.
- والمشركون الذين لم يدخلوا في الإسلام مثل البخشية والطونية والبُدَّى ونحو ذلك من علماء المشركين وشيوخهم الذين يكونون للكفار من الترك والهند والخُطا وغيرهم تكون الأحوال الشيطانية فيهم أكثر، ويصعد أحدهم في الهواء ويحدثهم بأمور غائبة، ويبقى الدف الذي يغني لهم به يمشي في الهواء، ويضرب رأس أحدهم إذا خرج عن طريقهم، ولا يرون أحداً يضرب له، ويطوف الإناء الذي يشربون منه عليهم ولا يرون من يحمله، ويكون أحدهم في مكان فمن نزل منهم عنده ضَيَّفَه طعاماً يكفيهم، ويأتيهم بألوان مختلفة.
- وذلك من الشياطين تأتيه من تلك المدينة القريبة منه أو من غيرها تسرقه وتأتي به.
- وهذه الأمور كثيرة عند من يكون مشركاً أو ناقص الإيمان من الترك وغيرهم، وعند التتار من هذا أنواع كثيرة.
وأما الداخلون في الإسلام إذا لم يحققوا التوحيد واتباع الرسول، بل دعوا الشيوخ الغائبين واستغاثوا بهم، فلهم من الأحوال الشيطانية نصيب بحسب ما فيهم مما يرضي الشيطان.
- ومن هؤلاء قوم فيهم عبادة ودين مع نوع جهل. يُحمل أحدهم فيوقف بعرفات مع الحجاج من غير أن يحرم إذا حاذى المواقيت، ولا يبيت بمزدلفة، ولا يطوف طواف الإفاضة، ويظن أنه حصل له بذلك عمل صالح وكرامة عظيمة من كرامات الأولياء، ولا يعلم أن هذا من تلاعب الشيطان به، فإن مثل هذا الحج ليس مشروعاً ولا يجوز باتفاق علماء المسلمين. ومن ظن أن هذا عبادة وكرامة لأولياء الله فهو ضال جاهل.
- ولهذا لم يكن أحد من الأنبياء والصحابة يفعل بهم مثل هذا، فإنهم أجل قدراً من ذلك.
- وقد جرت هذه القضية لبعض من حُمل وطائفة معه من الإسكندرية إلى عرفة، فرأى ملائكة تنزل وتكتب أسماء الحجاج فقال: هل كتبتموني؟ قالوا: أنت لم تحج كما حج الناس، أنت لم تتعب ولم تحرم ولم يحصل لك من الحج الذي يثاب الناس عليه ما حصل للحجاج.
- وكان بعض الشيوخ قد طلب منه بعض هؤلاء أن يحج معهم في الهواء فقال لهم: هذا الحج لا يسقط به الفرض عنكم؛ لأنكم لم تحجوا كما أمر الله ورسوله.
ويقول الشيخ ابن عثيمين في شرح قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في (كتاب التوحيد) : من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره.
يقول: قوله: "من الشرك"، من: للتبعيض، فيدل على أن الشرك ليس مختصاً بهذا الأمر.
والاستغاثة: طلب الغوث، وهو إزالة الشدة.
وكلام المؤلف رحمه الله ليس على إطلاقه، بل يقيد بما لا يقدر عليه المستغاث به، إما لكونه ميتاً، أو غائباً، أو يكون الشيء مما لا يقدر على إزالته إلا الله تعالى، فلو استغاث بميت ليدافع عنه أو بغائب أو بحي حاضر لينزل المطر فهذا كله من الشرك، ولو استغاث بحي حاضر فيما يقدر عليه كان جائزاً، قال الله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} [القصص: 15].
وإذا طلبت من أحد الغوث وهو قادر عليه، فإنه يجب عليك تصحيحاً لتوحيدك أن تعتقد أنه مجرد سبب، وأنه لا تأثير له بذاته في إزالة الشدة، لأنك ربما تعتمد عليه وتنسى خالق السبب، وهذا قادح في كمال التوحيد.
المطلب الثالث: دعاء الموتى
إن الدعاء عبادة من أعظم العبادات، وأجل الطاعات، وإنه يجب صرفه لله تعالى وحده لا شريك له، فإن من دعا أو استغاث أو استعان أو استعاذ بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فقد كفر وخرج من الملة، سواء كان هذا الغير نبيًّا، أو وليًّا، أو ملكاً، أو جنيًّا، أو غير ذلك من المخلوقات.
كما قال الله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 106- 107].
وقوله تعالى: {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت: 17].
وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 213]، وقال عز وجل: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88].
وقال سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5-6].
وقال سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من مات وهو يدعو لله ندًّا دخل النار)). ولذا يقول ابن تيمية: (ومن أعظم الاعتداء والعدوان والذل والهوان، أن يدعى غير الله، فإن ذلك من الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، وإن الشرك لظلم عظيم، {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]) .
ويبين ابن القيم شناعة هذا الشرك فيقول:
(ومن أنواعه (الشرك الأكبر) طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعاً، فضلاً عمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده) .
ويجب أن يعلم أن من قصد غير الله بدعاء أو استعاذة أو استعانة فهو كافر، وإن لم يعتقد فيمن قصده تدبيراً، أو تأثيراً، أو خلقاً، فمشركو العرب الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يقولون عن معبوداتهم أنها تخلق، وترزق، وتدبر أمر من قصدها، بل كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده كما حكاه عنهم في غير موضع من كتابه بل كانوا يدعونها، ويستغيثون بها مع إقرارهم بأن الله هو المدبر الخالق الرزاق...
ولذا يقول ابن تيمية: (كان من أتباع هؤلاء (المشركين) من يسجد للشمس والقمر، والكواكب ويدعوها كما يدعو الله تعالى يصوم لها، وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي، فإذا جعلتها سبباً وواسطة لم أكن مشركاً. ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك) .
وقد تمادى دعاة الوثنية في تجويز الاستغاثه بغير الله تعالى بحجة أن هؤلاء المستغيثين لا يعتقدون التأثير لغير الله تعالى، حتى نفوا التأثير وأسقطوا الأسباب، فليس دعاء الأموات سبباً في حصول المطلوب، ولكنه مقترن (فقط) بحصول المطلوب!!
ويقول حسين بن مهدي النعمي: (لا يشترط في التنديد: أن ينتحل للسوى من الصفات والأسماء والفعال ما يختص به الحميد المجيد، بل هو أن تتكيف لذلك السوى بكيفية العابدية، وتتحقق أنت له بصفة المربوبية، وتقضي له بحالتك التي صنعتها، وصورة نعتك في عبادتك إياه فقط بأنه يربك ويربيك) .
ولذا فقد غلط مرجئة المتكلمين ومن تبعهم عندما زعموا أن الشرك في الدعاء لا يكون شركاً إلا مع اعتقاد شريك مع الله سواء في ذاته أو في صفاته أو في أفعاله
وأما وجه كون دعاء غير الله من نواقض الإيمان، وكذا الاستغاثة والاستعانة والاستعاذة بغيره تعالى من نواقض الإيمان، فمن وجوه عديدة، منها ما يلي:
(أ) من المعلوم أن الله تعالى هو الإله الحق، وأن معنى لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله تعالى وحده، فهو سبحانه وحده المستحق لجميع أنواع العبادة، والدعاء من أجل العبادات وأعظمها شأناً، وقد سماه الله تعالى عبادة، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِـبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
وقال سبحانه وتعالى في شأن إبراهيم عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [مريم: 48- 49].
وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5- 6].
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال:
((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60])) .
فدعاء الله وحده إيمان وتوحيد، ودعاء غيره كفر وتنديد، فمن استغاث بغير الله تعالى فقد اتخذ مع الله ندًّا، وقد قال تعالى في حال من أشرك وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّار} [الزمر: 8] فكفره تعالى باتخاذ الأنداد، وهم الشركاء في العبادة
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من مات وهو يدعو لله ندًّا دخل النار)) .
وإذا كان الدعاء عبادة لا يجوز صرفها إلا لله وحده، فمن أثبت لغير الله تعالى ما لا يكون إلا لله فهو كافر ، وقد تقدم أن حد الشرك الأكبر هو صرف نوع أو فرد من العبادة لغير الله تعالى.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
(ومن أنواع العبادة الدعاء، كما كان المؤمنون يدعون الله وحده ليلاً ونهاراً في الشدة والرخاء، ولا يشك أحد أن هذا من أنواع العبادة، فتفكر رحمك الله فيما حدث في الناس اليوم من دعاء غير الله. في الشدة والرخاء، فهذا تلحقه الشدة في البر أو البحر، فيستغيث بعبد القادر أو شمسان أو نبي من الأنبياء، أو ولي من الأولياء أن ينجيه من هذه الشدة، فيقال لهذا الجاهل: إن كنت تعرف أن الإله هو المعبود، وتعرف أن الدعاء من العبادة، فكيف تدعو مخلوقاً ميتاً، وتترك الحي القيوم الحاضر الرؤوف الرحيم القدير؟) .
وجاء في كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق):
(والداعي غير الله فيما لا يقدر عليه غيره سبحانه وتعالى جاعل لله ندًّا من خلقه فيما يستحقه تعالى من الألوهية المقتضية للرهبة والرغبة، والاستعاذة، وذلك كفر بإجماع الأمة، لأن الله سبحانه هو المستحق للعبادة لذاته، فإنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب بالرغبة لديه، والفزع عند الشدائد، وما سواه فهو مفتقر بالعبودية مقهور بها، فكيف يصلح أن يكون إلهاً مرغوباً مرهوباً مدعوًّا؟) .
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن موضحاً أن الطلب من الأموات شرك... (إن الاستمداد بالأموات والغائبين هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، فإن الاستمداد عبادة، والعبادة لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله، وذلك أن الاستمداد نتيجته الاعتماد، والاعتماد هو معنى التوكل الذي هو من خصائص الإلهية وأجمعها لأعمال القلوب.
كما أن مورد العبادة القلب واللسان والأركان، والمستمد لا يكون إلا داعياً وراغباً، وراهباً، وخاشعاً، ومتذللاً، ومستعيناً، فإن الاستمداد طلب المدد بالقلب، واللسان، والأركان ولابد، وهذه الأعمال هي أنواع العبادة، فإذا كانت لله وحده، فقد آلهه العبد، فإذا صرف لغير الله تعالى، صار مألوها له) .
ويقول الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين في هذا الشأن:
(فمـن صرف لغير الله شيئاً من أنواع العبادة، فقد عبد ذلك الغير واتخذه إلهاً، وأشركه مع الله في خالص حقه، وإن فر مـن تسمية فعله ذلك تألهاً وعبادة وشركاً، ومعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير بتغير أسمائها...
فالشرك إنما حرم لقبحه في نفسه، وكونه متضمناً مسبة للرب، وتنقصه وتشبيهه بالمخلوقين، فلا تزول هذه المفاسد بتغيير اسمه، كتسميته توسلاً، وتشفعاً، وتعظيـماً للصالحين، وتوقيراً لهم ونحو ذلك، فالمشـرك مشرك شاء أم أبى...) .
(ب) قد سمى الله تعالى دعاء غيره شركاً وكفراً، وقد جاء هذا في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40- 41]
وقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 63،- 64].
وقوله عز وجل: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأعراف: 37].
وقوله تبارك وتعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النمل: 53- 54].
وقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 65- 66].
وقوله سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم: آية 35].
وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13- 14].
وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8].
(جـ) إن دعاء المخلوق وقصده هو تشبيه للمخلوق الضعيف العاجز بالخالق القوي القادر، إذ الدعاء حق خالص لله وحده لا شريك له، فمن دعا غير الله فقد تنقص الرب جل وعلا، ووقع في أعظم الظلم وأشنعه كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
وأيضاً فمن سأل مخلوقاً ما لا يقدر عليه إلا الله فهو من جنس مشركي العرب الذين يدعون الملائكة والأنبياء والتماثيل، ومن جنس سؤال النصارى للمسيح وأمه.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وقد وضح ابن القيم حقيقة هذا التشبيه فقال: (حقيقة الشرك هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به هذا هو التشبيه في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعكس من نكس الله قلبه، وأعمى عين بصيرته وأركسه بلبسه الأمر، وجعل التوحيد تشبيهاً، والتشبيه تعظيماً وطاعة، فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية، فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق) .
إلى أن قـال: (ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجـب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والتوكل والاستعانة... كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون لله وحده ويمنع عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون لغيره، فمن جعل شيئاً من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له، ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله، ولشدة قبحه، وتضمنه غاية الظلم، أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة) .
ويذكر ابن القيم المشبهة بقوله: (المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة، والتعظيم والخضوع، والسجود له، والاستغاثة به...فهؤلاء هم المشبهة حقاً) .
ويقول ابن القيم أيضاً: (فأما القادر على كل شيء، الغني عن كل شيء، الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه نقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن سوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر، وقبحه مستقر في الفطر السليمة فوق كل قبيح، يوضح هذا أن العابد معظم لمعبوده، متأله خاضع، ذليل له والرب تعالى وحده هو الذي يستحق كمال التعظيم والجلال والتأله والخضوع، وهذا خالص حقه، فمن أقبح الظلم أن يعطى حقه لغيره، أو يشرك بينه وبينه فيه) .
وعندما تحدث ابن تيمية عن معنى الواسطة بين الله تعالى وخلقه... كان مما قاله:
(وإن أثبتم وسائط بين الله وبين خلقه، كالحجاب الذين بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، فالله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم، فالخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك، يسألون الملوك الحوائج للناس، لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه، فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء مشبهون لله، شبهوا المخلوق بالخالق، وجعلوا لله أنداداً...)
ويقول في موضع آخر:
(من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه، كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية، فهو مشرك، بل هذا دين المشركين عباد الأوثان، كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين وأنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى) .
ويقول أيضاً:
(والعجب من ذي عقل سليم يستوحي من هو ميت، ويستغيث به، ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت، فيقول أحدهم: إذا كانت لك حاجة إلى ملك توسلت إليه بأعوانه، فهكذا يتوسل إليه بالشيوخ. وهذا كلام أهل الشرك والضلال فإن الملك لا يعلم حوائج رعيته، ولا يقدر على قضائها وحده، ولا يريد ذلك إلا لغرض يحصل له بسبب ذلك، والله أعلم بكل شيء، يعلم السر وأخفى، وهو على كل شيء قدير، فالأسباب منه وإليه) .
ويذكر ابن تيمية أن دعاء غير الله هو من جنس أفعال الكفار فيقول:
(وأما من يأتي إلى قبر نبي أو صالح، أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك، ويسأله حاجته مثل أن يسأله أن يزيل مرضه، أو مرض دوابه، أو يقضي دينه، أو ينتقم له من عدوه، أو يعافي نفسه وأهله ودوابه، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فهذا شرك صريح، يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل.
وإن قال: أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله مني ليشفع لي في هذه الأمور، لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه. فهذا من أفعال المشركين والنصارى، فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء، يستشفعون بهم في مطالبهم، وكذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]) .
(د) أجمع أهل العلم على أن من دعا غير الله أو استغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فهو كافر خارج من الملة الإسلامية.
يقول ابن تيمية:
(فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين) .
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب معلقاً على هذا الإجماع: (وهو إجماع صحيح، معلوم بالضرورة من الدين، وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم في باب حكم المرتد على أن من أشرك بالله فهو كافر، أي عبد مع الله غيره بنوع من أنواع العبادة) .
ويقول ابن تيمية أيضاً:
(سؤال الميت والغائب نبيًّا كان أو غيره من المحرمات المنكرة باتفاق المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من أئمة المسلمـين، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين أن أحداً منهم كان يقول إذا نزلت به ترة (تبعة)، أو عرضت له حاجة لميت يا سيدي فلان، أنا في حسبك، أو اقض حاجتي كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها) .
ويقول في موضع ثالث: (وأما دعاء صفات الله وكلماته فكفر باتفاق المسلمين فهل يقول مسلم يا كلام الله اغفر لي وارحمني، وأغثني، أو أعني، أو يا علم الله، أو يا قدرة الله، أو يا عزة الله، أو يا عظمة الله ونحو ذلك) .
ويقول رحمه الله:
(إن دعاء غير الله كفر، ولهذا لم ينقل دعاء أحد من الموتى والغائبين لا الأنبياء ولا غيرهم عن أحد من السلف وأئمة العلم، وإنما ذكره بعض المتأخرين ممن ليس من أئمة العلم المجتهدين) .
ويقول ابن عبد الهادي : (ولو جاء إنسان إلى سرير الميت يدعوه من دون الله ويستغيث به، كان هذا شركاً محرماً بإجماع المسلمين) .
والآن نسوق جملة من كلام أهل العلم في هذا المبحث على النحو التالي:
(قال ابن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم كفار عندي بهذه الأوضاع، مثل: تعظيم القبور وإكرامها بما نهى الشرع عنه، ومن إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالألواح، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، و أخذ التراب تبركاً) .
ويقول ابن تيمية:
(فكل من غلا في حي، أو في رجل صالح... وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول يا سيدي فلان اغفر لي، أو ارحمني، أو انصرني، أو ارزقني، أو أغثني، أو أجرني، أو توكلت عليك، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال والأفعال، التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له، ولا نجعل مع الله إلهاً آخر) .
ويقول أيضاً:
(فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وإن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، ولم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن وقال: هذا أصل دين الإسلام) .
ويقول الأمير الصنعاني :
(من نادى الله ليلاً ونهاراً، سرًّا وجهاراً خوفاً وطمعاً، ثم نادى معه غيره، فقد أشرك في العبادة، فإن الدعاء من العبادة، وقد سماه الله تعالى عبادة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر، آية 60]، بعد قوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [ غافر: 60]) .
ويقول حسين بن مهدي النعمي:
(هذه العبادة بكيفيتها موضوعة للرب الأحد الصمد، السميع القريب المجيب، مالك الملك، والدعاء هذا مجراه، وهذه منزلته، فدعاء غير الله تعالى إخراج للدعاء عن محله وموضوعه، كقيامه بتلك الصلاة على تلك الكيفية للمقبور والحجر، سواء بسواء، والفصل بين الصلاة والدعاء فصل بين متآخيين، وإلا فليجعلوا للمقبور صلاة وصياماً ونحوهما، يفارق الذم والتشريك، ويكون صالحاً خالياً عن الفساد والمنكر، سبحانك ربنا، هذا بهتان عظيم.
فما بال الدعاء الذي هو العلم المشهور في العبادة، وآيات التنزيل، بل هو في الحقيقة بداية الأمر ومشرعه، وقطب رحاه، سل من مركزه، واستنزل من شوامخ صياصيه، وهو أظهر وأشهر معنى من العبادة، وأكثر تنصيصاً وتعييناً!) .
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
(فمن دعا غير الله طالباً منه ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب نفع، أو دفع ضر فقد أشرك في عبادة الله، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 6-7].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14- 15]. فأخبر تبارك وتعالى أن دعاء غير الله شرك، فمن قال يا رسول الله، أو يا عبد الله بن عباس، أو يا عبد القادر، أو يا محجوب زاعماً أنه يقضي حاجته إلى الله تعالى، أو أنه شفيعه عنده أو وسيلته إليه فهو الشرك الذي يهدر الدم، ويبيح المال إلا أن يتوب من ذلك) .
ويقول الشيخ حمد بن ناصر بن معمر:
(لا نعلم نوعاً من أنواع الكفر والردة، ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله بالنهي عنه والتحذير من فعله والوعيد عليه) .
وقال الشوكاني:
(وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله، والنداء والاستغاثة، والرجاء، واستجلاب الخير، واستدفاع الشر له ومنه، لا لغيره ولا من غيره {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} [الرعد: 14]) .
ويقول أيضاً: (فإن الشرك هو دعاء غير الله الأشياء التي تختص به، أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه، ومجرد تسمية المشركين لما جعلوه شريكاً بالصنم والوثن والإله لغير الله زيادة على التسمية بالولي والقبر والمشهد كما يفعله كثير من المسلمين، بل الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن، إذ ليس الشرك هو مجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسميات، بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئاً يختص به سبحانه، سواء أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه الجاهلية، أو أطلق عليه اسماً آخر، فلا اعتبار بالاسم قط) .
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في هذا المقام:
(من المستحيل شرعاً وفطرة وعقلاً أن تأتي هذه الشريعة المطهرة الكاملة بإباحة دعاء الموتى، والغائبين والاستغاثة بهم في المهمات والملمات) .
ويقول أيضاً:
(الأدلة والنصوص متواترة متظاهرة على أن طلب الحوائج من الموتى والتوجه إليهم شرك محرم، وأن فاعله من أسفه السفهاء، وأضل الخلق، وأنه ممن عدل بربه، وجعل له أنداداً وشركاء في العبادة التي لا تصلح لسواه، ولا تنبغي لغيره) .
ويقول محمد رشيد رضا:
(فمن دعا إلى عبادة نفسه، فقد دعا الناس إلى أن يكونوا عابدين له من دون الله، وإن لم ينههم عن عبادة الله... ومن جعل بينه وبين الله واسطة في العبادة كالدعاء فقد عبد هذه الواسطة من دون الله؛ لأن هذه الواسطة تنافي الإخلاص له وحده، ومتى انتفى الإخلاص انتفت العبادة، ولذلك قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 2- 3] فلم يمنع توسطهم بالأولياء إليه تعالى أن يقول إنهم اتخذوهم من دونه) .
ويقول أيضاً:
(ومن الناس من يسمون أنفسهم موحدين، وهم يفعلون مثل ما يفعل جميع المشركين، ولكنهم يفسدون في اللغة كما يفسدون في الدين، فلا يسمون أعمالهم هذه عبادة، وقد يسمونها توسلاً وشفاعة، ولا يسمون من يدعونهم من دون الله أو مع الله شركاء، ولكن لا يأبون أن يسموهم أولياء وشفعاء وإنما الحساب والجزاء على الحقائق لا على الأسماء.
إلى أن قال ومن تأمل تعبير الكتاب العزيز عن العبادة بالدعاء في أكثر الآيات الواردة في ذلك وهي كثيرة جداً، يعلم كما يعلم من اختبر أحوال البشر في عباداتهم أن الدعاء هو العبادة الحقيقية الفطرية التي يثيرها الاعتقاد الراسخ من أعماق النفس ولاسيما عند الشدة)
المبحث الثاني: شرك التشريع والحكم بغير ما أنزل الله
قال ابن أبي العز شارح (الطحاوية) : (وهنا أمر يجب أن يُتفطَّن له، وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرًا ينقل عن الملَّة، وقد يكون معصيةً كبيرةً أو صغيرةً، ويكون كفرًا: إما مجازيًّا، وإما كفرًا أصغر، على القولين المذكورين، وذلك بحسب حال الحكم: فإنه إن اعتقد أنَّ الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخيَّر فيه، أو استهان به، مع تيقنه أنه حكم الله؛ فهذا كفرٌ أكبر، وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة ، وعدل عنه، مع اعترافه بأنه مستحقٌّ للعقوبة؛ فهذا عاصٍ، ويسمى كافرًا كفرًا مجازيًّا أو كفرًا أصغر، وإن جهل حكم الله فيها، مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطائه؛ فهذا مخطئ، له أجرٌ على اجتهاده، وخطؤه مغفور) .اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الفتاوى): (ليس لأحد أن يحكم بين أحد من خلق الله؛ لا بين المسلمين، ولا الكفار، ولا الفتيان، ولا رماة البندق، ولا الجيش، ولا الفقراء، ولا غير ذلك؛ إلا بحكم الله ورسوله، ومن ابتغى غير ذلك؛ تناوله قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء:65]؛ فيجب على المسلمين أن يحكِّموا الله ورسوله في كل ما شجر بينهم...) .
وقال أيضًا: (وولي الأمر إن عرف ما جاء به الكتاب والسنة؛ حكم بين الناس به، وإن لم يعرفه وأمكنه أن يعلم ما يقول هذا وما يقول هذا، حتى يعرف الحق؛ حكم به، وإن لم يمكنه لا هذا ولا هذا؛ ترك المسلمين على ما هم عليه، كل يعبد الله على حسب اجتهاده، وليس له أن يلزم أحدًا بقبول قول غيره، وإن كان حاكمًا.
وإذا خرج ولاة الأمور عن هذا؛ فقد حكموا بغير ما أنزل الله، ووقع بأسهم بينهم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما حكم قوم بغير ما أنزل الله؛ إلا وقع بأسهم بينهم)) .
وهذا من أعظم أسباب تغيُّر الدول؛ كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا.
ومن أراد الله سعادته؛ جعله يعتبر بما أصاب غيره، فيسلك مسلك من أيَّده الله ونصره، ويجتنب مسلك من خذله الله وأهانه؛ فإن الله يقول في كتابه: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:40-41].
فقد وعد الله بنصر من ينصره، ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله، لا نصر من يحكم بغير ما أنزل الله ويتكلم بما لا يعلم؛ فإن الحاكم إذا كان ديِّنًا، لكنه حكم بغير علم؛ كان من أهل النار، وإن كان عالمًا؛ لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه؛ كان من أهل النار، وإذا حكم بلا عدل ولا علم؛ كان أولى أن يكون من أهل النار.
وهذا إذا حكم في قضية معينة لشخص، وأما إذا حكم حكماً عامًّا في دين المسلمين ، فجعل الحق باطلاً والباطل حقًّا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والمعروف منكرًا والمنكر معروفًا، ونهى عما أمر الله به ورسوله؛ فهذا لون آخر، يحكم فيه رب العالمين، وإله المرسلين، مـالك يوم الدين، الذي {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون} [القصص:70]، {الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفي بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
أقوال العلماء في التشريع العام:
1- قول العلامة ابن حزم الأندلسي:
(لا خلاف بين اثنين من المسلمين... أن من حكم بحكم الإنجيل مما لم يأتِ بالنص عليه وحي في شريعة الإسلام فإنه كافر مشرك خارج عن الإسلام) .
2- قول شيخ الإسلام ابن تيمية:
(نُسَخُ هذه التوراة مبدلة لا يجوز العمل بما فيها، ومن عمل اليوم بشرائعها المبدَّلة والمنسوخة فهو كافر) .
3- قول الحافظ ابن القيم:
(قالوا: وقد جاء القرآن وصحَّ الإجماع بأنَّ دين الإسلام نَسَخَ كل دين كان قبله، وأنَّ من التزم ما جاءت به التوراة والإنجيل ولم يتبع القرآن فإنَّه كافر، وقد أبطل الله كلَّ شريعة كانت في التوراة والإنجيل وسائر الملل، وافترض على الجن والإنس شرائع الإسلام؛ فلا حرام إلا ما حرمه الإسلام، ولا فرض إلا ما أوجبه الإسلام) .
4- قول الحافظ ابن كثير:
(من ترك الشرع المحكم المنزل على محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة؛ كفر. فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين) .
وقال في تفسير سورة المائدة (الآية -50): (ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خيرٍ، الناهي عن كل شرٍّ، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله... ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير.
لقد وصف الله الحاكمين بغير ما أنزل الله بثلاثة أوصاف:
قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45].
وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47].
واختلف أهل العلم مع ذلك:
فقيل: إن هذه الأوصاف لموصوف واحد، لأن الكافر ظالم، لقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]، وفاسق، لقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة:20]، أي: كفروا.
وقيل: إنها لموصوفين مُتعدِّدين، وإنها على حسب الحكم، وهذا هو الراجح.
فتكون كافراً في ثلاثة أحوال:
أ- إذا اعتقدت جواز الحكم بغير ما أنزل الله، بدليل قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50]، فكل ما خالف حكم الله، فهو من حكم الجاهلية، بدليل الإجماع القطعي على أنه لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله فالمُحلُّ والمُبيح للحكم بغير ما أنزل الله مخالف لإجماع المسلمين القطعي، وهذا كافر مرتد، وذلك كمن اعتقد حلَّ الزنا أو الخمر أو تحريم الخبز أو اللبن.
ب- إذا اعتقدت أن حكم غير الله مثل حكم الله.
جـ- إذا اعتقدت أن حكم غير الله أحسن من حكم الله.
بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائده:50]، فتضمنت الآية أن حكم الله أحسن الأحكام، بدليل قوله تعالى مقرراً ذلك: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8]، فإذا كان الله أحسن الحاكمين أحكاماً وهو أحكم الحاكمين؛ فمن ادَّعى أن حكم غير الله مثل حكم الله أو أحسن فهو كافر لأنه مُكذّب للقرآن.
ويكون ظالماً: إذا اعتقد أن الحكم بما أنزل الله أحسن الأحكام، وأنه أنفع للعباد والبلاد، وأنه الواجب تطبيقه، ولكن حمله البغض والحقد للمحكوم عليه حتى حكم بغير ما أنزل الله، فهو ظالم.
ويكون فاسقاً: إذا كان حكمه بغير ما أنزل الله لهوي في نفسه مع اعتقاده أن حكم الله هو الحق، لكن حكم بغيره لهوى في نفسه، أي محبة لما حكم به لا كراهية لحكم الله ولا ليضر أحداً به، مثل: أن يحكم لشخصٍ برشوةٍ رُشِيَ إياها، أو لكونه قريباً أو صديقاً، أو يطلب من ورائه حاجة، وما أشبه ذلك مع اعتقاده بأن حكم الله هو الأمثل والواجب اتباعه، فهذا فاسق، وإن كان أيضاً ظالماً، لكن وصف الفسق في حقه أولي من وصف الظلم.
أما بالنسبة لمن وضع قوانين تشريعية مع علمه بحكم الله وبمخالفة هذه القوانين لحكم الله، فهذا قد بدل الشريعة بهذه القوانين، فهو كافر لأنه لم يرغب بهذا القانون عن شريعة الله إلا وهو يعتقد أنه خير للعباد والبلاد من شريعة الله، وعندما نقول بأنه كافر، فنعني بذلك أن هذا الفعل يوصل إلى الكفر.
ولكن قد يكون الواضع له معذوراً، مثل أن يغرر به كأن يقال: إن هذا لا يخالف الإسلام، أو هذا من المصالح المرسلة، أو هذا مما رده الإسلام إلى الناس...
ومن سَنَّ قوانين تخالف الشريعة وادَّعى أنها من المصالح المرسلة، فهو كاذب في دعواه؛ لأن المصالح المرسلة والمقيدة إن اعتبرها الشرع ودل عليها فهي حق ومن الشرع، وإن لم يعتبرها، فليست مصالح، ولا يمكن أن تكون كذلك، ولهذا كان الصواب أنه ليس هناك دليل يسمى بالمصالح المرسلة، بل ما اعتبره الشرع، فهو مصلحة، وما نفاه، فليس بمصلحة، وما سكت عنه، فهو عفو...
المبحث الثالث: أمثلة أخرى لنواقض الإيمان بالفعل
1- السجود لغير الله تعالى، والنذر لغير الله سبحانه، والذبح لغيره تعالى.
2- السخرية باسم من أسماء الله تعالى، أو بأمره، أو وعيده، أو ذكر اسم الله تعالى عند تعاطي الخمر والزنا والدخان؛ استخفافاً.
2- الاستهانة بالمصحف الشريف، أو إلقاؤه في القاذورات، أو دوسه بالقدم متعمداً، أو الإشارة إليه باليد أو بالقدم أو بالشفة؛ إشارة استهانة، أو قراءته على ضرب الدف على سبيل الاستخفاف، وهكذا فعل أمثال هذه الأشياء بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- الطواف بالأضرحة وقبور الأولياء والصالحين؛ من أجل التقرب إليهم.
4- إظهار المقت والكراهية عند ذكر الله تعالى، أو عند ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم، أو عند ذكر الإسلام، أو عند الدعوة إليه.
5- لبس شيء من شعار الكفار؛ كالصليب، أو قلنسوة المجوس، ونحوه مما هو خاص بشعائرهم الدينية؛ عالماً، عامداً، راضياً بذلك.
6- مشاركة أهل الكفر في عباداتهم؛ كصلاتهم ونحوها.
7- هدم معالم الإسلام؛ كهدم المساجد لأجل ما يفعل فيها من العبادة.
8- بناء دور العبادة للكفار، أو إعانتهم على ذلك؛ كبناء الكنائس ونحوها.
9- أن يعمل فعلاً أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا من كافر.
10- تعلم السحر، وتعاطيه، وتعليمه.
11- الإعراض التام عن دين الإسلام لا يتعلمه ولا يعمل به.
12- عدم تكفير الكفار من الملحدين والمشركين والمرتدين، وموالاتهم، أو إظهار موافقتهم على دينهم، والتقرب إليهم بالأقوال والأفعال والنوايا.
13- عدم إفراد الله تعالى بالحكم والتشريع، كالحكم بغير ما أنزل الله، أو التشريع المخالف لشرع الله، وتطبيقه، والإلزام به: فمن شرع حكماً غير حكم الله تعالى، وحكمه في عباده، أو بدل شرع الله تعالى، أو عطله، ولم يحكم به، واستبدل به حكماً طاغوتيًّا وحكم به؛ فهذا كفر أكبر؛ لأنه ناقض من نواقض الإيمان وردة عن الإسلام.
ولا يشترط فيه الاستحلال؛ لأن فعله إباء وامتناع عن الالتزام بشرع الله تعالى، وتشريع من دون الله، وكره واحتقار لما جاء به الله، ودليل على تسويغه اتباع غير شرع الله، ولو لم يصرح بلسانه؛ لأن لسان الحال أقوى من لسان المقال.
وذلك لأن التشريع والتحليل والتحريم من خصائص الله تعالى، فهو حق خالص لله وحده لا شريك له؛ فالحلال ما أحله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحرام ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والدين ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فمن شرع من دون الله، أو ألزم الناس بغير شرع الله؛ فقد نازع الله فيما اختص به سبحانه وتعالى، وتعدى على حق من حقوقه، وأعاره لنفسه، ورفض شريعة الله؛ فهذا العمل شرك بالله تعالى، وصاحبه مشرك ضال ضلالاً بعيداً.
وأما من تحاكم إلى الطاغوت، أو حكمه في نفسه، أو في غيره؛ ثم ادعى الإيمان؛ فهذه دعوى كاذبة لا وزن لها عند رب العالمين؛ لأن الله تعالى جعل طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم من لوازم الإيمان ومقتضياته.
14- ترك الصلاة – وإن كان مقراً بوجوبها – من الكفر الأكبر المخرج من الملة؛ لأن باعث الإعراض عن الطاعة بالكلية فقدان عمل القلب الذي هو شرط لصحة الإيمان.
والصلاة هي آكد الأعمال التي لا يصح إيمان العبد بدون شيء منها، وهي أعظم الواجبات وأدلها وأجلها.
وهي كذلك أعظم قرينة دالة على إسلام المرء؛ تمنع من تكفيره، أو إساءة الظن فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم.
((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله؛ فلا تخفروا الله في ذمته)) .
الباب الثالث: نواقض الإيمان في باب النبوات
الفصل الأول: النواقض الاعتقادية في باب النبوات
المبحث الأول: اعتقاد أن بعض الناس لا يجب عليهم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم
تمهيد
اشتهر هذا المعتقد عند غلاة الصوفية والباطنية، ويعبرون عنه بتعبيرات مختلفة مؤداها واحد.
المطلب الأول: رأي من يعتقد هذا الاعتقاد باختصار
يقول داعيهم الباطني سنان بن راشد الدين: إن الإنسان متى عرف الصورة الدينية فقد عرف حكم الكتاب، ورفع عنه الحساب، وسقط عنه التكليف، وسائر الأسباب .
ويقول الداعي الإسماعيلي طاهر بن إبراهيم الحارثي اليماني: حجج الليل هم أهل الباطن المحض، المرفوع عنهم في أدوار الستر التكاليف لعلو درجاتهم ، وينسبون إلى جعفر بن محمد الباقر قوله: من عرف الباطن فقد سقط عنه عمل الظاهر... ورفعت عنه الأغلال والأصفاد وإقامة الظاهر ، ويقول أحد الدعاة الباطنيين: من عرف هذا الباطن فقد عمل الظاهر وإنما وضعت الأصفاد والأغلال على المقصرين، أما من بلغ وعرف هذه الدرجات التي قرأتها عليك فقد أعتقته من الرق ورفعت عنه الأغلال والأصفاد وإقامة الظاهر .
هذا عن الباطنية، أما المتصوفة فقد قال عنهم الإمام الأشعري رحمه الله: وفي النسّاك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى درجة تزول فيها عنهم العبادات، وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم من الزنا وغيره مباحات لهم .
وقالوا: إذا وصلت إلى مقام اليقين سقطت عنك العبادة، مؤولين قول الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ، وقال عنهم الإمام ابن حزم: (ادعت طائفة من الصوفية أن في أولياء الله تعالى من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل، وقالوا: من بلغ من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها من الصلاة والصيام والزكاة، وغير ذلك، وحلت له المحرمات كلها من الزنا والخمر وغير ذلك، واستباحوا بهذا نساء غيرهم، وقالوا: بأننا نرى الله، ونكلمه، وكل ما قذف في قلوبنا فهو حق...) ، وصور الإمام ابن الجوزي حال هؤلاء فقال: (إن قوماً منهم داموا على الرياضة مدة فرأوا أنهم قد تجوهروا فقالوا: لا نبالي الآن ما عملنا وإنما الأوامر والنواهي رسوم للعوام، ولو تجوهروا لسقطت عنهم، قالوا: وحاصل النبوة ترجع إلى الحكمة والمصلحة والمراد منها ضبط العوام، ولسنا من العوام، فندخل في حجر التكليف لأنا قد تجوهرنا وعرفنا الحكمة...) ، وأطال شيخ الإسلام في وصف حال هؤلاء فقال: (ومن هؤلاء من يستحل بعض الفواحش: كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب، والخلو بهن، زعماً منه أنه يحصل لهن البركة بما يفعله معهن، وإن كان محرماً في الشريعة، وكذلك يستحل ذلك مع المردان ويزعم أن التمتع بالنظر إليهم ومباشرتهم هو طريق لبعض السالكين حتى يترقى من محبة المخلوق إلى محبة الخالق، ويأمرون بمقدمات الفاحشة الكبرى، وقد يستحلون الفاحشة الكبرى...) ، وقال عنهم: (ومن هؤلاء من يحتج بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، ويقول معناه: اعبد ربك حتى يحصل لك العلم والمعرفة، فإذا حصل ذلك سقطت العبادة، وربما قال بعضهم: اعمل حتى يحصل لك حال، فإذا حصل لك حال تصوفي سقطت عنك العبادة، وهؤلاء فيهم من إذا ظن حصول مطلوبه من المعرفة والحال استحل ترك الفرائض، وارتكاب المحارم …) ، وربما احتج بعضهم: بقصة موسى والخضر فيحتجون بها على وجهين: أحدهما: أن يقولون: إن الخضر كان مشاهداً للإرادة الربانية الشاملة، والمشيئة الإلهية العامة، وهي (الحقيقة الكونية)؛ فلذلك سقط عنه الملام فيما خالف فيه الأمر والنهي الشرعي،...وأما الوجه الثاني: فإن من هؤلاء من يظن: أن من الأولياء من يسوغ له الخروج عن الشريعة النبوية، كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى، وأنه قد يكون للولي في المكاشفة والمخاطبة ما يستغني به عن متابعة الرسول في عموم أحواله أو في بعضها، وكثير منهم يفضل الولي في زعمه إما مطلقاً، وإما من بعض الوجوه على النبي، زاعمين أن قصة الخضر حجة لهم... .
وكثيراً ما يحكي الصوفية قصصاً وروايات عمن يسمونهم الأولياء، تتضمن هذه القصص سقوط الفرائض، أو بعضها عنهم، بل ويحكى عنهم فعل الفواحش والمنكرات واستحلالها، وفي (طبقات الشعراني)، و(جامع كرامات الأولياء) للنبهاني من ذلك الكثير، فمنه مثلاً: ما ذكره العطار عن ذي النون المصري أنه نصح أحد مريديه بترك الصلاة، فعلق العطار قائلاً: لو سأل سائل ما الحكمة في الأمر بترك الصلاة؟ فالجواب: إن الطريقة أحياناً تخالف ظاهر الشريعة كقتل الخضر الولد بدون سبب ظاهري، فإذاً لا إنكار في الطريقة على مثل هذه الأمور. وحكي عن العطار نفسه أنه كان تاركاً للصلاة وكان يقول: إن الله رفع عني فريضة الصلاة .
وذكر الشعراني في آخر كتابه (الطبقات الكبرى) مشايخه الذين أدركهم في القرن العاشر، فقال: (وفيهم سيدي بركات الخياط رضي الله تعالى عنه: كان رضي الله عنه من الملامتية)
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
قال: (مدحته للشيخ جمال الدين الصائغ مفتي الجامع الأزهر وجماعة فقالوا: امضوا بنا نزوره وكان يوم جمعة فسلم المؤذن على المنارة، فقالوا: نصلي الجمعة، فقال: ما لي عادة بذلك، فأنكروا عليه، فقال: نصلي اليوم لأجلكم...) .
(ومنهم: سيدي الشريف المجذوب - رضي الله عنه ورحمه - وكان رضي الله عنه يأكل في نهار رمضان، ويقول: أنا معتوق، أعتقني ربي...) ، (ومنهم: الشيخ شعبان المجذوب، وذكر من أحواله أنه كان يقرأ سوراً غير السور التي في القرآن على كرسي المساجد يوم الجمعة وغيرها،...وكان يرى حلال زينة الدنيا كالحرام في الاجتناب، وكان الخلائق تعتقده اعتقاداً زائداً لم أسمع قط أحدا ينكر عليه شيئاً من حاله، بل يعدون رؤيته عيداً عندهم...) .
لعل فيما ذكرنا كفاية وغنية يتبين من خلالها إتيان الصوفية للمحظور وتركهم الواجب وادعائهم أن بعض الناس، يصل إلى درجة يسقط عنه التكليف، ويستغني عن الشريعة وعن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم .
المطلب الثاني: الرد على هذا الادعاء
الرد على هذه الفكرة بشكل مجمل:
1- التكاليف الشرعية مشروطة بالعلم والقدرة، فمتى ما تحققت وجب العمل، ولذلك يسقط التكليف عمن لا يمكنه العلم كالطفل والمجنون، كما يسقط عمن يعجز، كسقوط الجهاد عن الأمي والأعرج والمريض، وكما لا تجب الطهارة بالماء، والصلاة قائماً، والصوم على من يعجز عنه ...الخ، أما غير هؤلاء فلا يسقط عنهم شيء من التكاليف باتفاق المسلمين.
2- أعظم الناس درجة ومنزلة ومعرفة لله عز وجل هم الأنبياء والمرسلون ومع ذلك لم يستغنوا عن الشريعة، بل كانوا أشد الناس عبادة وإقامة للشعائر، واجتناباً للفواحش والمنكرات.
3- معلوم إجماع العلماء على كفر من استحلّ محرماً من المحرمات الظاهرة المتواترة، وكفرِ جاحدٍ أو منكرٍ واجباً من الواجبات الظاهرة والمتواترة، فكيف بمن يستحل جميع المحرمات، وجحد جميع الواجبات؟
4- من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لمن بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يتبع شريعة رسول غيره كموسى وعيسى - عليهم السلام -، فإذا لم يجز الخروج من شريعته إلى شريعة رسول، فكيف بالخروج عن شريعته، وعن الرسل جميعاً؟ .
5- حقيقة الولاية تُنال بتقوى الله عز وجل والتزام الأوامر والنواهي: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62-63]، وكلما ازداد المرء عبوديةً وعلماً ازدادت واجباته وصار مطالباً بأمور وزيادات لا يطالب بها من لم يصل إلى ذلك، لا أنه يخلع عن عنقه ربقة التكليف.
6- أما استدلالهم بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، فهي عليهم لا لهم، قال الحسن البصري: إن الله لم يجعل لعمل المؤمنين أجلاً دون الموت، وقرأ قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، وذلك أن اليقين هنا الموت وما بعده باتفاق علماء المسلمين، وذلك مثل قوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} إلى قوله: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:42-47] فهذا قالوه وهم في جهنم، وأخبروا أنهم كانوا على ما هم عليه من ترك الصلاة والزكاة والتكذيب بالآخرة، والخوض مع الخائضين حتى أتاهم اليقين، ومعلوم أنهم مع هذا الحال لم يكونوا مؤمنين بذلك في الدنيا، ولم يكونوا مع الذين قال الله فيهم:{وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4]، وإنما أراد بذلك أنه أتاهم ما يوعدون، وهو اليقين... . ويقول الإمام ابن كثير: ويستدل بها (أي هذه الآية) على تخطئة من ذهب من الملاحدة، إلى أن المراد باليقين المعرفة فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم، وهذا كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادةً ومواظبةً على فعل الخيرات إلى حين الوفاة، وإنما المراد باليقين ههنا الموت كما قدمنا .
7- وأخيراً نأتي إلى أشهر استدلالاتهم، وهو احتجاجهم بقصة الخضر مع موسى التي وردت في القرآن الكريم في سورة الكهف ووردت في (صحيح البخاري) وغيره، فقد جعلوا هذه القصة دليلاً على أن هناك ظاهراً شرعياً، وحقيقة صوفية تخالف الظاهر، وجعلوا إنكار علماء الشريعة على علماء الحقيقة أمراً مستغرباً، وجعلوا الخضر مصدراً للوحي والإلهام، ونسبوا طائفة كبيرة من علومهم التي ابتدعوها إلى الخضر، وليس منهم صغير أو كبير ممن دخل في طريقهم إلا وادعى لقيا الخضر والأخذ عنه، كما زعموا أن الخضر حي إلى أبد الدهر، وأن علمه علم لدني موهوب له من الله، بغير وحي الأنبياء، وأن هذه العلوم تنزل إلى جميع الأولياء في كل وقت قبل البعثة وبعدها ...إلخ، هذه الخيالات والخزعبلات، كل هذه الأشياء لا تعنينا هنا، فهي تحتاج إلى دراسات موسعة، وقد ألف في شأن الخضر عدة كتب ، وإنما الذي يهمنا في هذا المبحث دعوى: أن بعض الأولياء يسوغ له الخروج عن الشريعة، لأن الخضر وهو من أعظم الأولياء خرج عن شريعة موسى.
يجيب على هذه الدعوى الإمام ابن تيمية- رحمه الله- في عدة مواضع من كتبه ، - وستأتي إجابته في المطلب الثالث - قال ابن عباس رضي الله عنه: حدثني أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((موسى رسول الله عليه السلام قال: ذكر الناس يوماً، حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولَّى، فأدركه رجل فقال: أي رسول الله، هل في الأرض أحداً أعلم منك؟ قال: لا فعتب عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، قيل: بلى. قال: أي رب فأين؟ قال: بمجمع البحرين... إلى أن لقي الخضر، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: بأرض من سلام؟ من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: فما شأنك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشداً... يا موسى، إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه...)) ثم ذكر باقي القصة المذكورة في القرآن.
والآن نأتي إلى ردّ الإمام ابن تيمية على هذه الشبهة، قال رحمه الله تعالى: الأول: موسى عليه السلام لم يكن مبعوثاً إلى الخضر، ولا كان على الخضر اتباعه، فإن موسى كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فرسالته عامة لجميع الثقلين الجن والإنس ، ولو أدركه من هو أفضل من الخضر: كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم اتباعه، فكيف بالخضر سواء كان نبياً أو ولياً؟ ولهذا قال الخضر لموسى: أنا على علمٍ من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علمٍ من علم الله علمكه الله لا أعلمه. وليس لأحد من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول مثل هذا.
الثاني: أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفاً لشريعة موسى عليه السلام، وموسى لم يكن علم الأسباب التي تبيح ذلك فلما بينها له وافقه على ذلك، فإنَّ خرق السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفاً من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم وذلك جائز، وقتل الصائل جائز وإن كان صغيراً، ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتلٍ جاز قتله، قال ابن عباس رضي الله عنهما لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان، قال له: إن كنت علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم، وإلا فلا تقتلهم . وأما الإحسان إلى اليتيم بلا عوض، والصبر على الجوع، فهذا من صالح الأعمال فلم يكن في ذلك شيء مخالفاً شرع الله .
الثالث: يمكن أن يقال: إن ما فعله الخضر كان عن وحي من الله تعالى وليس مجرد خيال، وهذا لا يمكن أن يكون بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لأحد من الناس، إذ بموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي، ومن ادَّعى حصوله فقد كفر .
المطلب الثالث: حكم من اعتقد هذا الاعتقاد
هذا الاعتقاد يناقض الشريعة من وجوه كثيرة أشرنا إليها، ولذلك شدد الأئمة في كلامهم على من يعتقد مثل هذا الاعتقاد، وسأنقل بعض كلامهم فيمن يعتقد ذلك:
1- قال القاضي عياض رحمه الله: أجمع المسلمون على تكفير من قال من الخوارج: إن الصلاة طرفي النهار،...وقول بعض المتصوفة: إن العبادة وطول المجاهدة إذا صفت نفوسهم أفضت بهم إلى إسقاطها، وإباحة كل شيءٍ لهم، ورفع عهد الشرائع عنهم .
2- وقال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ومن اعتقد لأحدٍ طريقاً إلى الله غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، أو لا يجب عليه اتباعه، أو أن لغيره خروجاً عن اتباعه، أو قال: أنا محتاج إليه في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، أو قال: إن من العلماء من يسعه الخروج عن شريعته كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى كفر في هذا كله .
3- وتكلم شيخ الإسلام عن كفر هؤلاء في مواضع كثيرة نختار بعضاً منها:
أ- قال رحمه الله:...فمن لم يؤمن بأن هذا رسول الله إلى جميع العالمين، وأنه يجب على جميع الخلق متابعته، وأن الحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، فهو كافر مثل هؤلاء المنافقين ونحوهم ممن يجوز الخروج عن دينه وشريعته وطاعته، إما عموماً وإماً خصوصاً... ويعتقدون مع هذا أنهم من أولياء الله، وأن الخروج عن الشريعة المحمدية سائغ لهم، وكل هذا ضلال وباطل... .
ب- وقال أيضاً: (ومن فضّل أحداً من المشايخ على النبي صلى الله عليه وسلم، أو اعتقد أن أحداً يستغني عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، استتيب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه، وكذلك من اعتقد أن أحداً من أولياء الله يكون مع محمد صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى عليه السلام، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه .
جـ- وقال رحمه الله: (فمن كان من قوله هو أنه أو طائفة غيره قد خرجت عن كل أمر ونهي، بحيث لا يجب عليها شيء، ولا يحرم عليها شيء، فهؤلاء أكفر أهل الأرض، وهم من جنس فرعون وذويه) .
د- وأجاب حينما سُئل عمن يقول: إن غاية التحقيق، وكمال سلوك الطريق، ترك التكليف، وإن العبد يعمل حتى تحصل له المعرفة، فإذا حصلت زال عنه التكليف؟ قال: (ومن قال هذا فإنه كافر باتفاق أئمة الإسلام فإنهم متفقون على أن الأمر والنهي جارٍ على كل بالغ عاقل إلى أن يموت...) .
4- قال الإمام ملا قاري: ذهب بعض أهل الإباحة إلى أن العبد إذا بلغ غاية المحبة، وصفا قلبه من الغفلة، واختار الإيمان على الكفر سقط عنه الأمر والنهي، ولا يدخله الله النار بارتكاب الكبائر، وذهب بعضهم إلى أنه سقط عنه العبادات الظاهرة، وتكون عباداته التفكر وتحسين الأخلاق الباطنة،... وهذا كفر وزندقة وضلال وجهالة .
5- وعدّ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، هذا المعتقد من نواقض الإسلام، حيث قال: من اعتقد أن بعض الناس لا يجب عليه اتباعه صلى الله عليه وسلم، وأنه يسعه الخروج من شريعته كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى عليهما السلام فهو كافر)
المبحث الثاني: ادعاء النبوة
قوله: ((وإنه سيكون من أمتي كذابون ثلاثون)) ، حصرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعدد، وكلهم يزعم أنه نبي أوحي إليه، وهم كذابون، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبي بعده، فمن زعم أنه نبي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو كاذب كافر حلال الدم والمال، ومن صدقه في ذلك، فهو كافر حلال الدم والمال، وليس من المسلمين ولا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن زعم أنه أفضل من محمد، وأنه يتلقى من الله مباشرةً ومحمد صلى الله عليه وسلم يتلقى منه بواسطة الملك، فهو كاذب كافر حلال الدم والمال.
قال السفارييني :

ولا تنال رتبة النبـــوة
بالكسب والتهذيب والفتوة

لكنها فضل من المولى الأجل
لما يشاء من خلقه إلى الأجل

- وإذا كان الأمر كذلك، فإن ادعاء النبوة - كذباً وزوراً - من أشنع الكذب وأقبحه، كما يقول ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: إن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين، أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين، بل قرائن أحوالهما تعرب عنهما، وتعرف بهما، والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة؟ .
ويتحدث ابن تيمية عن هذه المسألة قائلاً: معلوم أن مدعي الرسالة إما أن يكون من أفضل الخلق وأكملهم، وإما أن يكون من أنقص الخلق وأرذلهم، ولهذا قال أحد أكابر ثقيف للنبي صلى الله عليه وسلم لما بلغهم الرسالة ودعاهم إلى الإسلام: والله لا أقول لك كلمة، إن كنت صادقاً فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك، وإن كنت كاذباً فأنت أحقر من أن أرد عليك . فكيف يشتبه أفضل الخلق وأكملهم بأنقص الخلق وأرذلهم، وما أحسن قول حسان :

لو لم تكن فيه آيات مبينة
كانت بديهته تأتيك بالخبر


وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين، إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور، واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز، وما من أحدٍ ادّعى النبوة من الصادقين إلا وقد ظهر عليه من العلم والصدق والبر وأنواع الخيرات ما ظهر لمن له أدنى تمييز .
ويقول أيضاً: والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لابد أن يتصف الرسول بها، وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب، ولا يتبين صدق الصادق، وكذب الكاذب، من وجوهٍ كثيرة، لاسيما والعالم لا يخلو من آثار نبي من لدن آدم إلى زماننا، وقد علم جنس ما جاءت به الأنبياء والمرسلون وما كانوا يدعون إليه، ويأمرون به، ولم تزل آثار المرسلين في الأرض، ولم يزل عند الناس من آثار الرسل ما يعرفون به جنس ما جاءت به الرسل، ويفرقون بين الرسل وغير الرسل .
ويذكر ابن كثير الفرق الشاسع بين النبي الصادق والمتنبئ الكذاب، عند تفسيره لقوله تعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 17].
فيقول: يقول تعالى لا أحد أظلم، ولا أعتى، ولا أشد إجراماً ممن افترى على الله كذباً وتقوّل على الله، وزعم أن الله أرسله، ولم يكن كذلك، فليس أحد أكبر جرماً، ولا أعظم ظلماً من هذا، ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء، فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء؟ فإن من قال هذه المقالة صادقاً، أو كاذباً فلا بد أن الله ينصب عليه من الأدلة على بره أو فجوره ما هو أظهر من الشمس، فإن الفرق بين محمد صلى الله عليه وسلم، وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى، وبين نصف الليل في حندس الظلام .
- وادعاء النبوة قد يكون بأن يدعي شخص النبوة لنفسه كذباً وافتراءً، إما استقلالاً، أو شركة مع نبيٍ آخر، وقد يكون بتصديق من ادعاها، أو القول بتجويزها بعد ختمها بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو زعم أنه يمكن اكتسابها، أو ادعى أنه يوحى إليه، أو ينكر ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم. فكل هذه الصور - وما يلحق بها من أمثالها - من نواقض الإيمان القولية في النبوات، وذلك لعدة اعتبارات منها ما يلي:
أ- أن ادعاء النبوة من أظلم الظلم، وأعظم الافتراء والكذب على الله تعالى، فلا أحد أعظم ظلماً، ولا أكبر جرماً ممن افترى على الله كذباً، فزعم أن الله أرسله، وهو ليس كذلك، ولقد قرر القرآن أن هذا الافتراء من صفات الكافرين المكذبين، الذين لا يؤمنون بآيات الله، ومن ثم فلا أحد أشد عقوبة منهم، فقد توعد الله تعالى من ادعى النبوة بالعذاب المهين. وكما قال ابن تيمية: ولم يجئ إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار... . وأيضاً: قد نُفي الفلاح عن هذا الصنف، وقد قال الشنقيطي: (الفلاح لا يُنفى بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه، وهو الكافر) .
وقد دل ... استقراء آيات القرآن الكريم، فنسوق بعضها مع كلام المفسرين في بيانها على النحو التالي:
1- يقول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: أي لا أظلم ممن تقوّل على الله، فادّعى أن الله أرسله، ولم يكن أرسله، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (أي لا يفلح هذا ولا هذا، ولا المفتري، ولا المكذب) .
2- ويقول تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93].
يقول ابن عطية: هذه ألفاظ عامة، فكل من واقع شيئاً مما يدخل تحت هذه الألفاظ فهو داخل في الظلم الذي قد عظمه الله بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم... إلى أن قال: وقد خصص المتأولون في هذه الآية ذكر قوم قد يمكن أن كانوا أسباب نزولها، ثم هي إلى يوم القيامة، تتناول من تعرض شيئاً من معانيها كطليحة الأسدي، والمختار بن أبي عبيد، وسواهما .
ويقول السعدي: لا أحد أعظم ظلماً، ولا أكبر جرماً، ممن كذب على الله، فإنه نسب إلى الله قولاً أو حكماً، وهو تعالى بريء منه، وإنما كان هذا أظلم الخلق؛ لأن فيه من الكذب، وتغيير الأديان أصولها وفروعها، ونسبة ذلك إلى الله وهو من أكبر المفاسد، ويدخل في ذلك ادعاء النبوة، وأن الله يوحي إليه وهو كاذب في ذلك، فإنه مع كذبه على الله، وجرأته على عظمته وسلطانه، يوجب على الخلق أن يتبعوه. ويجاهدهم على ذلك، ويستحل دماء من خالفه وأموالهم.
ويدخل في هذه الآية كل من ادعى النبوة كمسيلمة الكذاب، والأسود العنسي والمختار وغيرهم ممن اتصف بهذا الوصف .
3- وقال سبحانه: {وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} [الأنعام:124].
يقول ابن كثير: هذا وعيد شديد من الله، وتهديد أكيد لمن تكبر عن اتباع رسله، والانقياد له فيما جاؤوا به فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله صغار، وهو الذلة الدائمة .
4- ويقول الحق تبارك وتعالى:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:17].
يقول ابن كثير: يقول تعالى لا أحد أظلم، ولا أعتى ولا أشد إجراماً ممن افترى على الله كذباً، وتقوّل على الله، وزعم أن الله أرسله، ولم يكن كذلك، فليس أحد أكبر إجراماً ولا أعظم ظلماً من هذا .
ومن الآيات القرآنية في هذا الشأن قوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل:105].
وقوله سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} [العنكبوت:68].
وقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} [الزمر:32].
ولذا يقول ابن تيمية: ومن ادعى النبوة وهو كاذب، فهو من أكفر الكفار، وأظلم الظالمين، وشر خلق الله تعالى، قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:144].
وقال تعالى: {وَيَـوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّـمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60]
ب- أن ادعاء النبوة تكذيب لصريح القرآن الكريم، حيث نص القرآن نصاً قطعياً ظاهراً على أن محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فلا نبي بعده.
يقول تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40].
يقول ابن كثير: هذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده، فلا رسول بالطريق الأولى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس .
وقال القرطبي: قال ابن عطية: هذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة خلفاً وسلفاً متلقاة على العموم التام مقتضية نصاً أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم .
وقال الشربيني: أي آخرهم الذي ختم؛ لأن رسالته عامة، ومعها إعجاز القرآن، فلا حاجة إلى استنباء ولا إرسال، فلا يأتي بعده نبي مطلقاً بشرع جديد، ولا يتجدد بعده مطلقاً استنباء، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتماً على أبلغ وجه وأعظمه، وذلك أنها في سياق الإنكار بأن يكون بينه وبين أحد من رجالهم بنوة حقيقية أو مجازية، ولو كانت بعده لأحد لم يكن ذلك إلا لولده .
ويقول الألوسي: والمراد بكونه عليه الصلاة والسلام خاتمهم انقطاع حدوث وصف النبوة في أحد من الثقلين بعد تحلِّيه عليه الصلاة والسلام بها في هذه النشأة .
جـ- أن ادعاء النبوة تكذيب وإنكار لما تواتر عـن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبوة ختمت بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومنكـر هذا المتواتر كافر، فختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم أمر معلوم من الدين بالضرورة.
وإذا كان إسحاق بن راهويه يقول: من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته، ثم رده بغير تقية فهو كافر .
كما أن ابن الوزير يقول: إن التكذيب لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلم أنه حديث كفر صحيح ، فما بالك بمن أنكر أحاديث متواترة وصحيحة تقطع بأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فلا نبي بعده؟ عدا أن عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية من الأمور الواجبة المعلومة من الدين بالضرورة عند المسلمين.
يقول عبد القاهر البغدادي: كل من أقر بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أقر بأنه خاتم الأنبياء والرسل، وأقر بتأييد شريعته، ومنع من نسخها. وقد تواترت الأخبار عنه بقوله: ((لا نبي بعدي)) ومن رد حجة القرآن والسنة فهو الكافر .
ويقول ابن حزم: قد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقل الكواف التي نقلت نبوته وأعلامه وكتابه أنه أخبر أنه لا نبي بعده... فوجب الإقرار بهذه الجملة، وصحّ أن وجود النبوة بعده عليه السلام باطل لا يكون ألبتة .
ويقول ابن كثير: قد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل .
ونسوق طرفاً من هذه الأحاديث؛ فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((وإنه سيكون في أمتي كذابون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي)) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم الستار والناس صفوف خلف أبي بكر رضي الله عنه فقال: ((أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له)) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي)) .
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ومثلي ومثل الأنبياء كرجلٍ بنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون، ويقولون لولا موضع اللبنة))، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((فأنا موضع اللبنة جئـت فختمت الأنبياء)) .
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة .
د- أن ادعاء النبوة يتضمن أنواعاً كثيرة من المخالفات المناقضة لدين الله تعالى وآياته ورسوله.
فادعاء النبوة يناقض حقيقة كمال الدين وتمامه، وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة:3]
يقول ابن كثير: هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة، حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه .
يقول ابن حزم: اتفقوا أن دين الإسلام هو الذي لا دين لله في الأرض سواه، وأنه ناسخ لجميع الأديان قبله، وأنه لا ينسخه دين بعده أبداً، وأن من خالفه ممن بلغه كافر مخلد في النار أبداً .
وادعاء النبوة يناقض كون القرآن حجة على كل من بلغه، حيث قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغ} [الأنعام:19].
فالقرآن نذير لكل من بلغه من العالمين، فمن ادَّعى النبوة فقد طعن في كون القرآن نذيراً لكل من بلغه من الثقلين، كما أن ادعاء النبوة طعن في حفظ القرآن الكريم عن الزيادة والنقصان، يقول تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
إضافة إلى ذلك، فإن ادعاء النبوة طعن في عموم الرسالة المحمدية، وقد قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]
فهو صلى الله عليه وسلم رسول إلى جميع الناس، كما جاءت بذلك الكثير من النصوص والأحاديث الصحيحة، وهو أمر معلوم من دين الإسلام بالضرورة، فالثقلان مطالبون باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم مخالفته، فما بالك بمن افترى على الله كذباً، فزعم أنه نبي يوحي إليه؟
هـ- أن ادعاء النبوة تكذيب للإجماع، فقد أجمع العلماء على أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين، فلا نبي بعده، كما أجمعوا على تكفير من ادعى النبوة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونورد جملة من أقوال أهل العلم ممن حكى هذا الإجماع على النحو التالي:
يقول عبد القاهر البغدادي: أجمع المسلمون وأهل الكتاب على أن أول من أرسل من الناس آدم عليه السلام، وآخرهم عند المسلمين محمد صلى الله عليه وسلم .
ويقول ابن حزم: واتفقوا على أنه لا نبي مع محمد صلى الله عليه وسلم ولا بعده أبداً .
ويقول في موضع آخر: وأما من قال أن بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبياً غير عيسى ابن مريم، فإنه لا يختلف اثنان في تكفيره لصحة قيام الحجة بكل هذا على كل أحد .
ويقول في موضع ثالث: من ادعى نبوة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - حاشا عيسى ابن مريم - فهو كافر، ولا خلاف في ذلك من أحد من أهل الإسلام، وذلك لخلافه القرآن، والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويقول القاضي أبو يعلى: ونبينا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، ولا يبعث الله نبياً بعد نبينا، خلافاً لأهل التناسخ، والخرمية في قولهم: يجوز أن يبعث الله نبياً بعد نبينا، وإن الأنبياء لا ينقطعون عن الخلق أبداً، والدلالة عليه إجماع الأمة أن نبينا خاتم النبيين، وقد قال الله تعالى {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40].
وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأكمله إلا موضع لبنة من زاوية، فقال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين)) .
ويقول القاضي عياض: وكذلك من ادّعى نبوة أحد مع نبينا صلى الله عليه وسلم، أو بعده كالعيسوية من اليهود، القائلين بتخصيص رسالته إلى العرب، وكالخرمية القائلين بتواتر الرسل، وكأكثر الرافضة القائلين بمشاركة علي في الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم وبعده، وكذلك كل إمام عند هؤلاء يقوم مقامه في النبوة والرسالة... أو من ادعى النبوة لنفسه، أو جوز اكتسابها، والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها.
وكذلك من ادّعى منهم أنه يوحى إليه، وإن لم يدع النبوة.. فهؤلاء كلهم كفار مكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين لا نبي بعده، وأخبر عن الله تعالى أنه خاتم النبيين، وأنه أرسل كافة للناس.
وأجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره، وأن مفهومه المراد منه دون تأويل ولا تخصيص، فلا شك في كفر هؤلاء الطوائف كلها قطعاً إجماعاً وسمعاً .
ويقول ابن نجيم: إذا لم يعرف أن محمداً صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، فليس بمسلم؛ لأنه من الضروريات .
ويقول ملا علي قاري: ودعوى النبوة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم كفر بالإجماع .
ويقول الألوسي: وكونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين مما نطق به الكتاب، وصدعت به السنة، وأجمعت عليه الأمة، فيكفر مدعي خلافه، ويقتل إن أصر .
- إذا تقرر وجه كون ادعاء النبوة ناقضاً من نواقض الإيمان القولية في موضوع النبوات، فإننا نسوق طرفاً من كلام العلماء في تقرير هذا الأمر:
يقول أحمد الدردير المالكي: ويكفر إذا جوز اكتساب النبوة، أي تحصيلها بسبب رياضة؛ لأنه يستلزم جواز وقوعها بعد النبي .
ويقول محمد عليش المالكي: ويكفر بأن ادّعى شركاً أي: شخصاً مشاركاً مع نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لمخالفته قوله تعالى {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ويكفر إن جوّز اكتساب النبوة بتصفية القلب، وتهذيب النفس، والجدّ في العبادة، لاستلزامه جوازها بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتوهين ما جاء به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم .
وقال النووي: إذا ادّعى النبوة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، أو صدّق مدعياً لها... فكل هذا كفر .
وقال الشربيني: من نفى الرسل، بأن قال لهم: لم يرسلهم الله، أو نفى نبوة نبي، أو ادّعى النبوة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو صدّق مدعيها، أو قال: النبوة مكتسبة، أو تنال رتبتها بصفاء القلوب، أو أوحي إليه ولم يدع النبوة... فقد كفر .
ويقول ابن قدامة: من ادّعى النبوة، أو صدّق من ادّعاها فقد ارتد؛ لأن مسيلمة لما ادّعى النبوة، فصدقه قومه، صاروا بذلك مرتدين، وكذلك طليحة الأسدي ومصدقوه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذاباً كلهم يزعم أنه رسول الله)) .
ويقول ابن تيمية: ومعلوم أن من كذب على الله بأن زعم أنه رسول الله أو نبيه، أو أخبر عن الله خبراً كذب فيه كمسيلمة والعنسي ونحوهما من المتنبئين، فإنه كافر حلال الدم .
ويقول أيضاً: أما من اقترن بسبه - أي: للصحابة - دعوى أن علياً إله، أو أنه كان هو النبي، وإنما غلط جبرائيل عليه السلام في الرسالة، فهذا لا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ذكر مستند الإجماع على كفر من أقر بنبوة بعض الأنبياء دون بعض:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 150-151]، قال ابن كثير – رحمه الله -: (من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء، فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض، فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيماناً شرعياً، إنما هو عن غرض وهوى وعصبية، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ} فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله أي: {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ} في الإيمان {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} أي: طريقاً ومسلكاً، ثم أخبر تعالى عنهم، فقال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} أي: كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به، لأنه ليس شرعياً، إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلاً وأقوى برهاناً منه، أو نظروا حق النظر في نبوته) . فبين الله عز وجل أن الذين يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض أنهم هم الكافرون حقاً.
ثم ذكر وصف المؤمنين {وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 152] فالمؤمنون يؤمنون برسل الله ولا يفرقون بين أحد منهم وأنهم جميعاً يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بما يعبد من دونه، وأنهم بلغوا رسالات الله بصدق وأمانة، وأن خاتمهم محمد بن عبد الله، نسخت شريعته جميع الشرائع السابقة، فنؤمن بجميع الأنبياء والرسل إجمالاً وندين بدين وشرعة محمد بن عبد الله إجمالاً وتفصيلاً، لا يقبل الله بعد بعثته ديناً سوى دينه.
وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، فمن كذب وكفر بنبي واحد فقد كذب وكفر بسائر الأنبياء، قال تعالى عن قوم نوح: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]، وقال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان: 37] وهم إنما كذبوا وكفروا بنوح عليه السلام، لكن لما كان تكذيب نبي واحد والكفر به بمثابة من كذب وكفر بسائر الأنبياء، قال تعالى عنهم: {كَذَّبُوا الرُّسُلَ} [الفرقان: 37] و{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 123].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد)) . فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء دينهم واحد، متفقون في أصل دينهم ورسالتهم وهو التوحيد.. فمن كفر بواحد منهم كفر بالجميع
الفصل الثاني: النواقض القولية في باب النبوات
المبحث الأول: أذية وسب الرسول صلى الله عليه وسلم
المطلب الأول: كفر وقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين
خصائص النبي صلى الله عليه وسلم كفر وقتل من سبه.. ولهذا عندما أغلظ رجل على أبي بكر الصديق، فقال أبو برزة الأسلمي: (ألا أضرب عنقه؟ فانتهره أبو بكر، وقال: ما هي لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
نص كلام شيخ الإسلام في المسألة: قال شيخ الإسلام –رحمه الله-: (إن الساب إن كان مسلماً فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف) .
ذكر من نقل الإجماع من أهل العلم أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام:
قال الإمام إسحاق بن راهويه – رحمه الله -: (أجمع المسلمون على أن من سب الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم.. أنه كافر بذلك وإن كان مقراً بكل ما أنزل الله) .
وقال الإمام محمد بن سحنون – رحمه الله -: (أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المتنقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل ومن شك في كفره وعذابه كفر) .
وقال ابن المنذر – رحمه الله -: (وأجمعوا على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم أن له القتل) .
وقال ابن حزم – رحمه الله-: (كل من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مرتد يقتل ولابد) .
وقد نقل شيخ الإسلام في (الصارم المسلول) عن غير هؤلاء حكايتهم للإجماع على قتل وتكفير شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم .
ذكر مستند الإجماع على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين فإنه يكفر ويقتل:
قال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61] إلى قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63]. فإيذاء رسول الله بسبه وتنقصه محادة لله ورسوله، وحكم الله عز وجل لمن يحادد الله ورسوله بأن له نار جهنم خالداً فيها، والخلود للكافرين، قال ابن جرير الطبري في تأويل هذه الآية: (إنه من يحارب الله ورسوله، ويخالفهما فيناوئهما بالخلاف عليهما {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} في الآخرة {خَالِدًا فِيهَا}.. لابثاً فيها مقيماً إلى غير نهاية) ، وهذا الوصف الذي ذكره الإمام الطبري لا يتحقق إلا في الكافرين فهم الذين يقيمون في النار إلى غير نهاية.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذكره للآيات السابقة: (.. دل ذلك على أن الإيذاء والمحادة كفر، لأنه أخبر أن له نار جهنم خالداً فيها ولم يقل: وهي جزاؤه، وبين الكلامين فرق) .
وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65-66] الآية، فالاستهزاء برسول الله كفر وردة بنص القرآن، فسب رسول الله أعظم من الاستهزاء لما فيه من التنقص والإيذاء العظيم له عليه الصلاة والسلام، فهو كفر من باب أولى.
وقد ذكر ابن حزم في كتابه المحلى وبإسناده فقال: حدثنا صمام نا عباس... عن عروة بن محمد عن رجل بن بلقين قال: ((كان رجل يشتم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يكفيني عدواً لي؟ فقال خالد بن الوليد: أنا. فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم فقتله)).
وقد حكى أبو بكر الفارسي من أصحابِ الشافعي إجماعَ المسلمين على أنَّ حدَّ من يَسبّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم القتلُ كما أن حدَّ من سَبَّ غيرَه الجلدُ وهذا الإجماعُ الذي حكاه هذا محمولٌ على إجماعِ الصَّدْرِ الأول مِن الصحابة والتابعين، أو أنه أرادَ به إجماعَهم على أن سَابَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يجبُ قتلُه إذا كان مسلماً، وكذلك قَيَّدَه القاضي عِيَاضٌ، فقال: أجمعت الأمةُ على قَتْل متنقِّصِه من المسلمين وسابِّه، ...
تحرير القول في حكم الساب:
وتحرير القول فيها: أنَّ السابَّ إن كان مسلماً فإنه يَكفُرُ ويُقْتَلُ بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، ... وممن حكى الإجماع على ذلك من الأئمة ...: إسحاقُ بن رَاهُوْيَه وغيره، وإن كان ذمِّيّاً فإنه يقتل أيضاً في مذهب مالكٍ وأهْلِ المدينة، ... وهو مذهبُ أحمد وفقهاءِ الحديث...
نصوص الإمام أحمد:
وقد نَصَّ أحمدُ على ذلك في مواضعَ متعددة. قال حَنْبَل: سمعت أبا عبدالله يقول: كلُّ من شتم النبي صلى الله عليه وسلم أو تنقَّصه - مسلماً كان أو كافراً - فعليه القتلُ، وأرى أن يُقتل ولا يُستتاب.
قال: وسمعت أبا عبدالله يقول: كلُّ مَن نَقَضَ العهدَ وأحدث في الإسلام حَدَثاً مثل هذا رأيتُ عليه القتل، ليس على هذا أعْطُوا العهدَ والذِّمَّة. وكذلك قال أبو الصقر: سألت أبا عبدالله عن رجل من أهل الذمَّة شتم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ماذا عليه؟ قال: إذا قامت عليه البينة يقتل مَنْ شتم النبي صلى الله عليه وسلم، مسلماً كان أو كافراً. رواهما الخَلاَّل.
وقال في رواية عبدالله وأبي طالب وقد سُئل عمّن شتم النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: يُقتل، قيل له: فيه أحاديث؟ قال: نعم، أحاديث منها: حديثُ الأعمى الذي قَتَلَ المرأة، قال: سمعتها تَشتمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ... وذلك أنه من شتم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فهو مُرْتَدٌّ عن الإسلام، ولا يشتم مسلمٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم.
زاد عبدُالله: سألتُ أبي عمن شتم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، يُستتاب؟ قال: قد وجب عليه القتلُ، ولا يُستتاب؛ خالد بن الوليد قَتَلَ رجلاً شتم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يَسْتَتِبْه، (رواهما) أبو بكر في (الشافي)، وفي رواية أبي طالب: سئل أحمدُ عمن شتم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال: يُقْتَلُ، قد نَقَضَ العَهْدَ. وقال حرب: سألتُ أحمد عن رجلٍ من أهل الذمة شتم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال: يقتل، إذا شتم النبيَّ صلى الله عليه وسلم. رواهما الخَلاَّل، وقد نص على هذا في (غير) هذه الجوابات.
فأقوالُه كلُّها نصٌّ في وجوب قتله، وفي أنه قد نقض العهد، وليس عنه في هذا اختلافٌ.
وكذلك ذَكَرَ عامةُ أصحابه متقدمُهُمْ ومتأخرهم، لم يختلفوا في ذلك.
.... قولُه سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أنَّهُ مَنْ يُحَادِد اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلكَ الخِزْيُ العَظِيم} [التوبة:63]، فإنه يدلُّ على أنَّ أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحَادَّةٌ لله ولرسوله؛ لأنه قال هذهِ الآيةَ (عَقِبَ) قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:61]. ثم قال: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة:62-63]، فلو لم يكونوا بهذا الأذى مُحَادِّين لم يحسن أن يوعَدُوا بأنَّ للمحاد نار جهنَّم؛ لأنه يمكن حينئذٍ أن يقال: قد علموا أن للمحاد نارَ جهنَّم؛ لكنهم لم يحادّوا، وإنما آذَوْا، فلا يكون في الآية وعيدٌ لهم؛ فعُلِم أنَّ هذا الفعل لابُدَّ أن يندرج في عموم المحادَّة؛ ليكون وعيدُ المحادِّ وعيداً له ويلتئمُ الكلامُ.
ويدلُّ على ذلك أيضاً ما روى الحاكمُ (صحيحه) بإسناد صحيح عن ابن عباس أنَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ في ظِلِّ حُجْرَةٍ من حُجرِهِ، وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنَ المسْلِمينَ، فَقَالَ: ((إنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ إنْسَانٌ يَنْظُر إليكم بِعَيْنِ شَيْطَانٍ، فَإذَا أَتَاكُمْ فَلا تُكَلِّمُوهُ، فَجَاء رَجُلٌ أزْرَقُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: عَلامَ تَشْتُمُني أنْتَ وَفُلانٌ وَفُلانٌ، فانْطَلَقَ الرَّجُلُ، فَدَعَاهُمْ فَحَلَفُوا بِاللهِ وَاعْتَذَرُوا إلَيْهِ فأنزل اللهُ تعالى: {يوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18]، ثم قال بعدَ ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:5] فعُلم أنَّ هذا داخلٌ في المحادَّةِ)) ...
وإذا كان الأذى مُحَادَّةً للهِ ولرسولِهِ فقد قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:20-21] والأذلُّ: أبلغُ مِن الذليلِ، ولا يكون أذلَّ حتى يخاف على نفسه وماله إنْ أظهر المحادَّة؛ لأنه (إنْ) كان دمُه ومالُه معصوماً لا يُسْتَبَاح فليس بأذلَّ،...وأما الآيات الدَّالة على كفر الشاتم وقتله، أو على أحدهما، إذا لم يكن مُعَاهِداً - إن كان مظهراً للإسلام - فكثيرة، مع أن هذا مُجْمَعٌ عليه
أذى الرسول صلى الله عليه وسلم أو عيبه ولمزه:
وهذا داخل في سبّه صلى الله عليه وسلم لأن السب: هو الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف.... والعيب، واللمز فيه انتقاص.
قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58]
نزلت هذه الآية في ذي الخويصرة التميمي حينما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم غنائم حنين، فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ((ويلك، ومن يعدل إذ لم أعدل؟)) قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه، قال: ((دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية))... قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علياً قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى الله عليه وسلم قال: فنزلت فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} .
قال الإمام الشوكاني في تفسيرها: قوله: ومنهم من يلمزك، يقال: لمزه يلمزه: إذا عابه، قال الجوهري: اللمز العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوها، ومعنى الآية: ومن المنافقين من يعيبك في الصدقات: أي في تفريقها وقسمتها .
وقال في آيةٍ أخرى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:61] إلى قوله سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة:63]
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فعلم أن إيذاء رسول الله محادة لله ولرسوله لأن ذكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادة، فيجب أن يكون داخلاً فيه، ولولا ذلك لم يكن الكلام مؤتلفاً،... ودل ذلك على أن الإيذاء والمحادة كفر لأنه أخبر أن له نار جهنم خالداً فيها... وقال الشوكاني رحمه الله في تفسير هذه الآية: قوله: ومنهم؛ هذا نوع آخر مما حكاه الله من فضائح المنافقين وقبائحهم، وذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم على وجه الطعن والذم هو أذن، قال الجوهري: يقال رجل أذن: إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع ومرادهم، أقمأهم الله، أنهم إذا آذوا النبي صلى الله عليه وسلم وبسطوا فيه ألسنتهم، وبلغه ذلك اعتذروا له وقبل ذلك منهم، لأنه يسمع كل ما يقال له فيصدقه، وإنما أطلقت العرب على من يسمع ما يقال له فيصدقه أنه أذن مبالغة، لأنهم سموه بالجارحة التي هي آلة السماع، حتى كأن جملته أذن سامعة،... وإيذاؤهم له وهو قولهم {هُوَ أُذُنٌ} لأنهم نسبوه إلى أنه يصدق كل ما يقال له ولا يفرق بين الصحيح والباطل اغتراراً منهم بحلمه عنهم، وصفحه عن خباياهم كرماً وحلماً وتغاضياً... .
وهذه الآية والتي قبلها ذكرهما شيخ الإسلام ضمن الآيات الدالات على كفر شاتم الرسول وقتله.
وذكر أن إيذاء الرسول ولمزه من الصفات الدالة على نفاق صاحبها فقال رحمه الله: وذلك أن الإيمان والنفاق، أصله في القلب، وإنما الذي يظهر من القول والفعل فرع له ودليل عليه، فإذا ظهر من الرجل شيء من ذلك ترتب الحكم عليه، فلما أخبر سبحانه أن الذين يلمزون النبي صلى الله عليه وسلم، والذين يؤذونه من المنافقين، ثبت أن ذلك دليل على النفاق وفرع له، معلوم أنه إذا حصل فرع الشيء ودليله حصل أصل المدلول عليه، فثبت أنه حيث ما وجد ذلك كان صاحبه منافقاً سواء كان منافقاً قبل هذا القول أو حدث له النفاق بهذا القول وهذا السبّ من الإيذاء واللمز والاستخفاف منافٍ لعمل القلب من الانقياد والاستسلام ومحال أن يهين القلب من قد انقاد له وخضع واستسلم أو يستخف به، فإذا حصل في القلب استخفاف واستهانة امتنع أن يكون فيه انقياد واستسلام، فلا يكون فيه إيمان، وهذا هو بعينه كفر إبليس، فإنه سمع أمر الله فلم يكذب رسولاً ولكن لم ينقد للأمر ولم يخضع له واستكبر عن الطاعة فصار كافرا .
المطلب الثاني: الأدلة على كفر ساب الرسول
أولاً: الأدلة من القرآن على كفر ساب الرسول
الدليل الأول: من القرآن على كفر الساب:
منها قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبيَّ ويَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} إلى قوله: {والذينَ يُؤْذونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ} إلى قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنْهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة:61-63]، فعُلم أن إيذاء رسول الله محادَّة لله ولرسوله؛ لأن ذكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادّة، فيجب أن يكون داخلاً فيه، ولولا ذلك لم يكن الكلام مؤتلفاً إذا أمكن أن يقال: إنه ليس بمحاد، ودل ذلك على أن الإيذاء و المحادّ‌َة كفر؛ لأنه أخبر أن له نار جهنم خالداً فيها، ولم يقل: (هي جزاؤه)، وبين الكلامين فَرْق، بل المحادَّة هي المعاداة والمشاقَّة، وذلك كفر ومحاربة؛ فهو أغْلَظُ من مجرد الكفر، فيكون المؤذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كافراً، عدوّاً للهِ ورسوله، محارباً لله ورسوله، لأن المحادَّة اشتقاقها من المباينة بأن يصير كلُّ واحد منهما في حد كما قيل: المشاقَّة: أن يصير كل منهما في شق، والمعاداة: أن يصير كل منهما في عِدْوةٍ.
وفي الحديث أنَّ رجلاً كان يسبُّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: ((مَنْ يَكْفِيني عَدُوِّي؟)) ، وهذا ظاهر قد تقدم تقريره، وحينئذٍ فيكون كافراً حَلال الدم؛ لقوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ في الأَذَلِّين} [المجادلة:20]، ولو كان مؤمناً معصوماً لم يكن أذلّ؛ لقوله تعالى: {وَللهِ العزةُ ولرسُولهِ وللمؤمِنيْنَ} [المنافقون:8] وقوله: {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة:5]، والمؤمن لا يُكبت كما كُبت مكذبو الرسل قط، ولأنه قد قال تعالى: {لاَ تجدُ قوماً يُؤمنونَ بِاللهِ واليوْمِ الآخرِ يُوآدُّونَ منَ حآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22]، فإذا كان من يُوَادّ المحادَّ ليس بمؤمن فكيف بالمحاد نفسه؟ وقد قيل: إن من سبب نزولها أن أبا قُحَافَةَ شتم النبي صلى الله عليه وسلم فأراد الصديق قتله، وأن ابن أُبَيّ تنقَّصَ النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذن ابنُه النبيَّ صلى الله عليه وسلم في قتله لذلك، فثبت أن المحادَّ كافرٌ حلالُ الدم. وأيضاً فقد قطع الله الموالاة بين المؤمنين وبين المحادِّين لله ورسوله والمعادين لله ورسوله، فقال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ منَ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَه ولوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} [المجادلة:22]، وقال: {يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوّي وَعَدوَّكُمْ أَوْلَيَاءَ تُلْقُونَ إليهِمْ بالْموَدَّةِ} [الممتحنة:1]، فعُلم أنهم ليسوا من المؤمنين.
وأيضاً، فإنه قال سبحانه: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذبَهُمْ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذَابُ النَّار ذَلِكَ بأَنَّهُمْ شَآقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَآقِّ اللهَ فإنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [الحشر:3-4].
فجعل (سبب) استحقاقهم العذابَ في الدنيا ولعذاب النار في الآخرة هو مُشَاقَّةَ الله ورسوله، والمؤذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم مُشَاقٌ للهِ ورسوله ... والعذاب هنا هو الإهلاك بعذابٍ من عنده، أو بأيدينا، وإلا فقد أصابهم ما دون ذلك من ذَهَاب الأموال وفراق الأوطان.
وقال سبحانه: {إذْ يُوْحِي رَبُّكَ إلَى المَلاَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ} إلى قوله: {سَأُلْقِي في قُلُوبِ الذينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْربُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ واضْرِبُوا مِنْهُم كَلَّ بَنَانٍ ذلكَ بأنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ ورسولهُ} [الأنفال:11-13] فجعل إلقاء الرُّعب في قلوبهم والأَمر بقتلهم لأجل مشاقَّتهم لله ورسوله، فكل من شاقَّ الله ورسوله يستوجب ذلك.
والمؤذي للنبي مُشَّاقٌ للهِ ورسوله كما تقدم فيستحق ذلك. وقولهم: {هُوَ أُذُن} قال مجاهد: {هو أذُنٌ} يقولون: سنقول ما شئنَا ثم نحلف له فيصدقنا ...
قال بعض أهل التفسير: كان رجال من المنافقين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون ما لا ينبغي، فقال بعضهم: لا تفعلوا، فإنّا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا، فقال الجُلاَّسُ: بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا، فإنما محمدٌ أذنٌ سامعة، فأنزل الله هذه الآية .
وقال ابن إسحاق: كان نَبْتَل بن الحارث الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: ((مَن أَرَادَ أَنْ يَنْظُرْ إلَى الشَّيْطَانِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى نَبْتَل بنِ الحَارِثِ)) ينمُّ حديثَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين، فقيل له: لا تَفْعَلْ، فقال: إنما محمد أُذُن، مَن حدّثه شيئاً صدَّقه، نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدقنا عليه، فأنزل الله هذه الآية .
وقولهم: {أُذُن} قالوه ليبينوا أن كلامهم مقبول عنده، فأخبر الله أنه لا يصدِّق إلا المؤمنين، وإنما يسمع الخبر فإذا حلفوا له فعفا عنهم كان ذلك لأنه أُذن خير، لا لأنه صدَّقهم.
قال سفيان بن عُيَيْنَة: أُذن خير يقبل منكم ما أظهرتم من الخير ومن القول، ولا يؤاخذكم بما في قلوبكم، ويَدَعُ سرائركم إلى الله، وربما تَضَمَّنت هذه الكلمة نوع استهزاء واستخفاف.
فإن قيل: فقد روى نُعيم بن حماد ثنا محمد بن ثور عن يونُس عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ لا تجعَلْ لفاجرٍ ولا لفاسق عندي يداً ولا نعمةً فإني وجدت فيما أوحيتَه: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22])). قال سفيان: يرون أنها أُنزلت فيمن يخالط السلطان، رواه أبو أحمد العسكري .
وظاهرُ هذا أن كل فاسق لا تبتغي مَودَّته فهو محادّ لله ورسوله، مع أن هؤلاء ليسوا منافقين النفاق المبيح للدَّم.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الدليل الثاني:
قوله سبحانه: {يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُوْرَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا في قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزئُوا إنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُون ولَئِن سَألْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخوُضُ ونَلْعَبُ قُلْ أَبالله وآياتِهِ وَرَسُولهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرتُمْ بَعْدَ إيْمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرميْنَ} [التوبة:64-66] وهذا نصٌّ في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر، فالسبُّ المقصود بطريق الأَوْلى، وقد دلَّتْ هذه الآية على (أنَّ) كل مَنْ تنقَّصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم جادّاً أو هازلاً فقد كفر...
الدليل الثالث:
قال سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58] واللمز: العيبُ والطعن، قال مجاهد: يتهمك يسألك يزْراك، وقال عطاء: يَغْتَابُك.
العبرة بعموم اللفظ:
وقال تعالى: {وَمِنْهُمُ الذِينَ يُؤْذُونَ النّبي} [التوبة:61]، وذلك يدلُّ على أنَّ كلَّ من لمزه أو آذاه كان منهم؛ لأنّ {الَّذِينَ} و{مَنْ} اسمان موصولان، وهما من صيغ العموم، والآية وإن كانت نزلت بسبب لَمْزِ قَوْمٍ وأذى آخرين، فحكمها عامٌّ كسائر الآيات اللواتي نزلن على أسباب، وليس بين الناس خلافٌ نعلمه أنها تعمُّ الشخصَ الذي نزلت بسببه ومَن كان حاله كحاله، ولكن إذا كان اللفظ أعمَّ من ذلك السبب فقد قيل: إنه يُقْتَصَر على سببه، والذي عليه جماهيرُ الناس أنه يجب الأخْذُ بعموم القول، ما لم يقم دليل يوجب القصر على السبب كما هو مقرر في موضعه.
وأيضاً، فإن كَوْنَه منهم حكم معلق بلفظ مشتق من اللمز والأذى، وهو مناسبٌ لكونه منهم؛ فيكون ما منه الاشتقاقُ هو علَّة لذلك الحكمِ، فيجب اطِّرَادُه. وإذا ثبت أن كل مَن لمز النبي صلى الله عليه وسلم أو آذاه منهم فالضميرُ عائد على المنافقين والكافرين؛ لأنه سبحانه لما قال: {انِفرُوا خِفافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بأمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ في سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمون} [التوبة:41] قال: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلَكْن بَعُدَتْ عَليْهمُ الشُقّةُ وَسَيَحْلِفُونَ باللهِ} [التوبة:42] وهذا الضمير عائد إلى معلومٍ غير مذكورٍ، وهم الذين حلفوا: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [التوبة:42] وهؤلاء هم المنافقون بلا ريب ولا خلاف، ثم أعاد الضمير إليهم إلى قوله: {قُلْ أَنفقُوا طَوْعاً أَو كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكم إنَّكم كُنْتُم قَوْماً فَاسِقينَ ومَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُم إلاَّ أنَّهُمْ كَفَرُوا باللهِ وَبِرَسُولهِ} [التوبة:53] فثبت أن هؤلاء الذين أضمروا كفَرُوا بالله ورسوله، وقد جعل منهم مَن يلمز، و(منهم) من يؤذي. وكذلك قوله: {وَمَا هُمْ مَنْكُمْ} [التوبة:56] إخراجٌ لهم عن الإيمان...
الدليل الرابع:
قوله سبحانه وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [ النساء:65] أقْسَمَ سبحانه بنفسهِ أنهم لا يؤمنون حتى يحكِّموه في الخصومات التي بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقاً من حكمه، بل يُسلِّموا لحكمه ظاهراً وباطناً.
من دُعي إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله فلم يقبل كان منافقاً:
وقال قبل ذلك: {أَلَم تَرَ إلى الَّذِين يَزْعُمُونَ أَنَّهُم ءَامَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قبْلِكَ يُريدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيدُ الشَّيْطَانُ أنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإذَا قِيلَ لَهُمُ تَعَالَوْا إلى مَا أَنزلَ اللهُ وإلَى الرَسُولِ رَأَيتَ المنافقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} [النساء:60-61] فبيّن سبحانه أن مَن دُعي إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله فصدَّ عن رسوله كان منافقاً، وقال سبحانه: {وَيقُولُونَ آمنَّا باللهِ وَبالرَّسُولِ وأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ باِلمؤمِنَينَ وَإِذَا دُعُوا إلى اللهِ ورسُولهِ لِيحكُمَ بَينهُمْ إذا فَرِيقٌ مِّنْهمْ مُّعْرِضونَ وَإنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ يَأَتُوا إليهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَليهمْ ورسُولهُ بَلْ أُوْلَئكَ هُمُ الظَالِمُونَ إنّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤمِنينَ إذا دُعُوا إلى اللهِ وَرَسُولهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعنا وأطعْنَا} [النور:47-51] فبيّن سبحانه أنّ من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين، وليس بمؤمنٍ، وأن المؤمن هو الذي يقول: سمعنا وأطعنا؛ فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره، مع إن هذا تركٌ محض، وقد يكون سببه قوة الشهوة، فكيف بالتّنقّص والسبّ ونحوه؟
الدليل الخامس: ما استدل به العلماء على ذلك: قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ وأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنينَ والمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب:58] ودلالتها من وجوه:
أحدها: أنه قَرَن أذاه بأذاه كما قرن طاعته بطاعته، فمن آذاه فقد آذى الله تعالى، وقد جاء ذلك منصوصاً عنه، ومن آذى الله فهو كافر حَلالُ الدَّمِ، يبين ذلك أن الله تعالى جعل محبةَ اللهِ ورسوله وإرضاءَ اللهِ ورسوله وطاعة الله ورسوله شيئاً واحداً فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وأبْنَاؤكُمْ وإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيْرَتُكمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَونَ كسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أحَبَّ إلَيكم مِنَ اللهِ وَرَسُولهِ} [التوبة:24] وقال: {وَأَطِيعُوا الله والرَّسُول} في مواضع متعددة، وقال تعالى: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أنْ يُرْضُوهُ} [التوبة:62] فوحَّدَ الضميرَ، وقال أيضاً: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} وقال أيضاً: {يَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُل الأنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1].
وجعل شقاق الله ورسوله ومحادَّةَ الله ورسوله وأذى الله ورسوله ومعصيةَ الله ورسوله شيئاً واحداً، فقال: {ذَلِكَ بأنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرسُولَهُ} [الأنفال:13] وقال: {إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسولَه} [. وقال تعالى: {ألَمْ يَعْلمُوا أنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسولَهُ} ]المجادلة:5[ وقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسولَهُ} ]الجن:23[.]
حق الله وحق رسوله متلازمان:
وفي هذا وغيرِه بيانٌ لتلازم الحقّين، وأن جهةَ (حرمة) الله ورسوله جهة واحدة؛ فمن آذى الرسول فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله؛ لأن الأمة لا يَصِلون ما بينهم وبين ربهم إلا (بواسطة) الرسول، ليس لأحدٍ منهم طريقٌ غيرُه ولا سبب سواه، وقد أقامه الله مُقَام نفسِهِ في أمره ونَهْيه وإخباره وبيانه، فلا يجوز أن يُفَرَّقَ بين الله ورسوله في شيءٍ من هذه الأمور.
وثانيها: أنه فَرَّق بين أذى الله ورسوله وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعل هذا قد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً، وجعل على ذلك لعنته في الدنيا والآخرة، وأعَدَّ له العذابَ المُهين، ومعلومٌ أن أذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم وفيه الجَلْد، وليس فوق ذلك إلا الكفر والقتل.
الثالث: أنه ذكر أنه لعنهم في الدنيا والآخرة وأعَدَّ لهم عذاباً مهيناً، واللَّعْنُ: الإبعاد عن الرَّحمة، ومَن طَرَده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلاَّ كافراً، فإن المؤمن يقرب إليها بعضَ الأوقاتِ، ولا يكون مباحَ الدَّمِ؛ لأن حقْنَ الدم رحمةٌ عظيمة من الله؛ فلا يثبت في حقه.
ويؤيد ذلك قولُه: {لَّئِن لَمْ يَنْتَهِ المُنَافِقُونَ وَالذِينَ فِي قُلُوبِهمْ مَرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ في المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهمْ ثمَّ لا يُجَاورُونَكَ فِيْهَا إلاَّ قَلِيلاً[ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} ]الأحزاب:60-61[، فإنّ أخْذَهم وتقتيلَهم - والله أعلم - بيانٌ لصفةِ لعنهم، وذكرٌ لحُكْمه، فلا موضع له في الإعراب، وليس بحالٍ ثانية؛ لأنهم إذا جاوروه ملعونين ولم يَظْهر أثر لعنهم في الدنيا، لم يكن في ذلك وعيد لهم. ]
بل تلك اللعنة ثابتةٌ قبل هذا الوعيد وبعده؛ فلابد أن يكون هذا الأخْذُ والتقتيل من آثار اللعنة التي وُعِدُوهَا، فثبتت في حق مَن لعنه الله في الدنيا والآخرة.
ويؤيدُه قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَعْنُ المؤمِنِ (كَـ)ـقَتْلهِ)) متفق عليه ، فإذا كان الله لعن هذا في الدنيا والآخرة فهو كقتله، فعلم أن قتله مُبَاحٌ.
قيل: واللَّعْنُ إنما يستوجبه مَن هو كافر، لكن هذا ليس جيداً على الإطلاق.
ويؤَيده أيضاً قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيقُولُونَ للَّذَينَ كفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [النساء:51-52]، ولو كان معصوم الدم يجب على المسلمين نَصْرُه لكان له نصير.
الدليل السادس: أن الله سبحانه قال: {وَمَا كانَ لَكُمْ أنْ تُؤذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِه أبَداً إنَّ ذَلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً} [الأحزاب:53]، فحرَّم على الأمة أن تنكح أزواجه من بعده؛ لأن ذلك يؤذيه، وجعله عظيماً عند الله تعظيماً لحرمته، وقد ذكر أن هذه الآية نزلت لما قال بعض الناس: لو قد تُوُفيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة ، ثم إن مَن نكح أزواجه أو سَرَاريه (فإن) عقوبته القتلُ، جزاءً له بما انتهك من حرمته، فالشاتم له أولى.
والدليل على ذلك ما روى مسلم في (صحيحه) عن زُهَيْر عن عَفَّان عن حماد عن ثابت عن أنس ((أن رجلاً كان يُتَّهَمُ بأم ولد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَه"، فأتاه عليّ فإذا هو في رَكيٍّ يتبرد، فقال له علي: اخرج، فناوله يده، فأخرجه، فإذا هو مَجْبُوبٌ ليس له ذَكَر، فكفَّ علي، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه لمجبوبٌ ماله ذَكَر)) ، فهذا الرجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه لما قد استحلَّ من حرمته، ولم يأمر بإقامة حدِّ الزنا، لأن حد الزنا ليس هو ضرب الرقبة، بل إن كان مُحصناً رُجِمَ، وإن كان غير محصن جُلد، ولا يقام عليه الحد إلا بأربعة شهداء أو بالإقرار المعتبر، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه من غير تفصيلٍ بَيْنَ أن يكون محصناً أو غير محصن عُلم أن قتله لما انتهكه من حرمته، ولعله قد شهد عنده شاهدان أنهما رَأيَاه يباشر هذه المرأة، أو شهدا بنحو ذلك، فأمر بقتله، فلما تبين أنه كان مَجْبُوباً علم أن المفسدة مأمونة منه، أو أنه بَعثَ علياً ليَستبري القصة، فإن كان ما بلغه عنه حقاً قتله، ولهذا قال في هذه القصة أو غيرها: أكون كالسكة المحماة، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال: ((بَلِ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لاَ يَرَى الغَائِبُ)) .
ويدلُ على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوَّجَ قتيلة بنت قيس بن معدي كرب أخت الأشعث، ومات قبل أن يدخل بها، وقبل أن تقدم عليه، و قيل أنه خيَّرها بين أن يضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين وبين أن يطلقها فتنكح من شاءت، فاختارت النكاح، قالوا: فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت، فبلغ أبا بكر، فقال: لقد هممت أن أحرق عليهما بيتهما، فقال عمر: ما هي من أمهات المؤمنين، و لا دخل بها، ولا ضرب عليها الحجاب، وقيل: إنها ارتَدَّت، فاحتجَّ عمر على أبي بكر أنها ليس من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بارتدادها .
فوجه الدلالة: أن الصدِّيق رضي الله عنه عَزَم على تحريقها وتحريق مَن تزوجها، لما رأى أنها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حتى ناظره عمر أنها ليست من أزواجه، فكف (عنهما) لذلك، فعلم أنهم (كانوا) يَرَوْنَ قتلَ من استحل حُرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و لا يقال: إن ذلك حد الزنا لأنها كانت تكون محرمة عليه، ومَن (تَزَوَّجَ) ذات مَحْرمٍ حُدَّ حَدَّ الزنا أو قُتل؛ لوجهين:
أحدهما: أن حد الزنا الرجم.
الثاني: أن ذلك الحد يفتقر إلى ثبوت الوطْءِ ببينة أو إقرار، فلما أراد تحريق البيت مع جواز ألا يكون غَشِيها عُلم أن ذلك عقوبة لما انتهكه من حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: الأدلة من السنة على قتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم
الحديث الأول:
ما رواه الشَّعبيُّ عن علي: ((أن يهوديةً كانت تَشْتُم النبي صلى الله عليه وسلم وتَقَع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت فأَبْطَل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها))، هكذا رواه أبو داود في (سننه).. ...
وله شاهد حديث ابن عباس الذي يأتي؛ فإن القصة إما أن تكون واحدة أو يكون المعنى واحداً، وقد عمل به عوام أهل العلم، وجاء ما يوافقه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا المرسل لم يتردَّدِ الفقهاء في الاحتجاج به.
وهذا الحديث نَصٌّ في جواز قتلها لأجل شتم النبي صلى الله عليه وسلم، ودليل على قتل الرجل الذمي وقتل المسلم والمسلمة إذا سبَّا بطريق الأَولى؛ لأن هذه المرأة كانت مُوادعة مُهادِنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وَادَعَ جميع اليهود الذين كانوا بها مُوَادَعة مطلقة، ولم يضرب عليهم جِزْيَةً...
الحديث الثاني:
ما رَوَى إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل عن عثمان الشحَّام عن عِكْرِمَة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعْمَى كانت له أمُّ ولدٍ تَشْتُمُ النبي صلى الله عليه وسلم وتَقَعُ فيه؛ فَيَنْهَاها فلا تَنْتَهِي، و يزجرها فلا تنزجر فلما كان ذات ليلة جَعَلَت تقعُ في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه؛ فأخَذَ المِغْول فوضَعَه في بطنها واتَّكَأَ عليها فقتلها، فلما أصْبَحَ ذُكِرَ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فجمع الناسَ فقال: ((أنْشدُ الله رَجُلاً فَعَلَ مَا فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقٌ إِلاَّ قَامَ))، فقام الأعْمَى يتخطَّى الناسَ وهو يتدلدل، حتى قَعَدَ بين يَدَي النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أنا صَاحِبُهَا، كانت تشتمك وتَقَعُ فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجُرُها فلا تَنزَجر، ولي منها ابْنَانِ مِثْلُ اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقعُ فيك، فأخذت المِغْول فوضعته في بطنها واتَّكَأْتُ عليه حتى قتلتُهَا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا اشْهَدُوا أنَّ دَمَهَا هَدَرٌ)) رواه أبو داود والنسائي .
قال الخطابي: فيه بيان أن سابَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقتل، وذلك أن السبّ منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدَادٌ عن الدين، وهذا دليلٌ على أنه اعتقد أنها كانت مسلمة، وليس في الحديث دليل على ذلك، بل الظاهر أنها كانت كافرة، وكان العهد لها يملك المسلم إياها؛ فإن رقيق المسلمين ممن يجوز استرقاقه لهم حُكْمُ أهل الذمة، وهم أشَدُّ في ذلك من المعاهدين، أو بتزوج المسلم بها؛ فإن أزواج المسلمين من أهل الكتاب لهم حكم أهلِ الذمة في العصمة؛ لأن مثل هذا السبِّ الدائم لا يفعله مسلم إلا عن ردةٍ واختيار دين غير الإسلام...
وهذه المرأة إما أن تكون كانت زوجَةً لهذا الرجل أو مملوكة له، وعلى التقديرين فلو لم يكن قَتْلُهَا جائزاً لبيّن النبي صلى الله عليه وسلم له أن قتلها كان محرماً، وأن دمها كان معصوماً، ولأوْجَبَ عليه الكفَّارَةَ بقتل المعصوم والدِّيَةَ إن لم تكن مملوكة له، فلما قال: ((اشْهَدُوا أنَّ دَمَهَا هَدَر)) - والهدر الذي لا يضمن بقَوَد ولا ديّةٍ ولا كفَّارَة - عُلم أنه كان مباحاً مع كونها كانت ذمية، فعُلِم أن السبَّ أباح دَمَهَا، لاسيما والنبيُّ صلى الله عليه وسلم إنما أهْدَرَ دَمَهَا عقب إخباره بأنها قُتلت لأجل السبِّ، فعُلم أنه الموجِبُ لذلك، والقصة ظاهرة الدلالة في ذلك.
الحديث الثالث:
... ما رواه عمرو بن دِينَارٍ عن جابر بن عبدالله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ لِكَعْبِ بِنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى الله َوَرَسُولُهُ؟)) فقام محمد بن مَسْلمة فقال: أنا يا رسول الله، أتحبُ أنَّ أقتله؟ قال: ((نعم))، قال: ائْذَن لِي أن أقول شيئاً، قال: ((قل))، قال: فأتاه وذكَر ما بينهم، قال: إن هذا الرجل قد أراد الصَّدَقة وعنَّانا، فلما سَمِعه، قال: وأيضاً والله لَتَمَلُنَّهُ، قال: إنا قد اتبعْنَاهُ الآن، ونكره أن نَدَعَه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره، قال: وقد أردت أن تُسْلِفَنِي سَلفاً، قال: فما ترهنني؟ نساءكم، قال: أنت أجمل العرب، أنرهنك نساءنا؟! قال: ترْهَنُوني أولادَكم، قال: يُسَبّ ابن أحدنا فيقال: رُهِنت في وِسْقَيْن من تمَرٍ، ولكن نرهنك اللأْمَةَ - يعني السلاح - قال: نعم، ووَاعَدَه أن يأتَيهُ بالحارث، وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر، فجاؤوا فَدَعَوْهُ ليلاً، فنزل إليهم، قال سفيان: قال غير عمرو: قالت له امرأته: إني لأسمع صَوْتاً كأنَّه صوت دَمٍ، قال: إنما هذا محمد ورضيعُه أبو نائلة، إن الكريم لو دُعِيَ إلى طَعْنة ليلاً لأجاب، قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمُدُّ يدي إلى رأسه، فإذا استمكنت منه فَدُونكم، (قال): فلما نزل نزلَ وهو مُتَوَشِحْ، قالوا: نجد منك رِيحَ الطيب، قال: نعم، تحتي فلانة أعْطَرُ نساء العرب، قال: أفتأذن لي أن أشمَّ منه؟ قال: نعم، فشمَّ، ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستمكن منه، ثم قال: دونكم فقتلوه)) متفق عليه ...
والاستدلالُ بقتل كعب بن الأشرف من وجهين:
أحدهما: أنه كان مُعَاهداً مُهَادناً، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم بالمغازي والسير، وهو عندهم من العلم العام الذي يُستغنى فيه عن نقل الخاصة.
ومما لا رَيْبَ فيه عند أهل العلم ما قَدَّمناه من أن النبي صلى الله عليه وسلم عاهَد لما قدم المدينة جميعَ أصناف اليهود: بني قَيْنُقَاع والنضير و قرَيْظَة، ثم نقَضَت بنو قَيْنُقَاع عَهْدَه، فحاربهم؛ ثم نقضَ عهده كعبُ بن الأشرف، ثم نقض عهده بنو النَّضير، ثم بنو قُرَيْظَة. وكان ابن الأشرف من بني النَّضير، وأمرُهم ظاهرٌ في أنهم كانوا مصالحين للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما نَقَضُوا العهدَ لما خرج إليهم يستعينهم في دِيَةِ الرجلين اللذَينِ قَتلهما عمرو بن أمَيَّة الضَّمْرِيُّ، وكان ذلك بعد مقتل كَعب بن الأشرف، وقد ذكرنا الروايَةَ الخاصة أن كعب بن الأشرف كان معاهِداً للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم جعله ناقضاً للعهد بهجائه وأذاه بلسانه خاصة.
...وأيضاً، فإنه جعل مطلق أذى الله ورسوله مُوجِباً لقتل رجل معاهد، ومعلوم أن سَبَّ الله ورسوله أذَىً لله ولرسوله، وإذا رُتِّب الوَصْفُ على الحكم بحرف الفاء دل على أن الوصف علة لذلك الحكم، لاسيما إذا كان مُنَاسباً، وذلك يدل على أن أذَى الله ورسوله عِلة لنَدْب المسلمين إلى قتل مَن يفعل ذلك من المعاهَدِين، وهذا دليل ظاهر على انتقاض عهده بأذى الله ورسوله، والسبُّ من أذى الله ورسولهِ باتفاق المسلمين، بل هو أخص أنواع الأذى.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الحديث الرابع: قصة رجل أغلظ للصديق
ما روى عبدالله بن قُدَامة عن أبي بَرْزَة قال: أغلظ رجل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه فقلت: أقتله؟ فانتهرني وقال: ليس هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه النسائي من حديث شعبة عن توبة العنبري عنه .
ورواه أبو داود في (سننه) بإسنادٍ صحيح عن عبدالله بن مُطَرِّف (عن أبي برزة) قال: كنتُ عند أبي بكر رضي الله عنه، فتغيَّض على رجل فاشتد عليه، فقلت: تأذن لي يا خليفة رسول الله أضرب عنقه قال: فأذهَبتْ كلمتي غضبه، فقام فدخل، فأرسل إليَّ فقال: ما الذي قُلَتَ آنفاً؟ قلت: ائذن لي أضْرِبْ عنقه، قال: أكنت فاعلاً لو أمرتك؟ قلت: نعم، قال: لا، والله ما كانت لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد استدل به على جواز قتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم جماعات من العلماء، منهم أبو داود وإسماعيل بن إسحاق القاضي وأبو بكر عبدالعزيز والقاضي أبو يعلي وغيرهم من العلماء، وذلك لأن أبا برزة لما رأى الرجل قد شتم أبا بكر وأغلظ له حتى تغيظ أبو بكر استأذنه في أن يقتله لذلك، وأخبره أنه لو أمره لَقَتَله، فقال أبو بكر: ليس هذا لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
فعُلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يقتل من سبّه ومن أغلظ له، وأن له أن يأمر بقتل مَنْ لا يعلم الناس منه سبباً يبيح دمه، وعلى الناس أن يطيعوه في ذلك؛ لأنه لا يأمر إلا بما أمر الله به، و لا يأمر بمعصية الله قط، بل من أطاعه فقد أطاع الله.
فقد تضمن الحديث خَصِيصَتَيْنِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
إحداهما: أنه يطاع في كل من أمر بقتله.
والثانية: أنَّ له أن يَقْتُلَ من شتمه وأغلظ له.
و هذا المعنى الثاني الذي كان له باقٍ في حقّه بعد موته؛ فكل من شتمه أو أغلظ في حقه كان قتله جائزاً، بل ذلك بعد موته أَوْكَدُ و أَوْكَد؛ لأن حُرْمَته بعد موته أكمل، والتساهل في عِرْضِه بعد موته غير ممكن.
وهذا الحديث يفيد أن سبّه في الجملة يبيح القتل، ويستدل بعمومه على قتل الكافر والمسلم.
الحديث الخامس:
قصة ابن أبي سرح، وهي مما اتفق عليها أهل العلم، واستفاضت عندهم استفاضة يستغنى عن رواية الآحاد، وذلك أثبت وأقوى مما رواه الواحد العدل، فنذكرها مسندة مشروحة ليتبين وجه الدلالة منها:
عن مصعب بن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يومُ فتحِ مكة اختبأ عبدالله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، بَايْع عبدالله، فرفع رأسه، فنظر إليه، ثلاثاً، كلُّ ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على أصحابه فقال: ((أما كان فيكم رَجُلٌ رَشِيد يقومُ إلى هذا حيث رآني كَفَفَتُ يَدِي عن بيعته فيقتله)) فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أوْمَأْت إلينا بعينك، قال: ((إنه لا يَنْبَغِي لنبيٍّ أن تكون له خائنة الأُعْيُن)) رواه أبو داود بإسناد صحيح .
ورواه النسائي كذلك بأبسط من هذا ...
وجه الدلالة:
أن عبدالله بن سعد بن أبي سرح افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يُتَمِّم له الوحي ويكتب له ما يريد، فيوافقه عليه، و(أنه) يُصَرَّفه حيث شاء، وبغير ما أمره به من الوحي، فيُقرُّه على ذلك، و زعم أنه سينزل مثل ما أنزل الله؛ إذ كان قد أوحي إليه في زعمه كما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى كتابه، والافتراء عليه بما يوجب الريب في نبوته قدر زائد على مجرد الكفر (به) والردة في الدين، وهو من أنواع السبِّ.
وكذلك لما افترى عليه كاتب آخر مثل هذه الفرية، قَصَمَه الله وعاقبه عقوبة خارجة عن العادة ليتبين لكل أحد افتراؤه؛ إذ كان مثل هذا يوجب في القلوب المريضة رَيْباً بأن يقول القائل: كاتبه أعلم الناس بباطنه وبحقيقة أمره، وقد أخبر عنه بما أخبر، فمِنْ نَصْر الله لرسوله أن أظهر فيه آية يبين بها أنه مفترِ.
قصة كاتب آخر قصمه الله لافترائه على الرسول
فروى البخاري في (صحيحه) عن عبدالعزيز بن صهيب عن أنس قال: كان رجلاً نصرانياً، فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانياً، فكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبتُ له، فأماته الله، فدفنوه، فأصبح وقد لَفَظَتْه الأرض، فقالوا: هذا فِعْلُ محمدٍ وأصحابه، نَبَشُوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له و أعمقوا في الأرض ما استطاعوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس، فألقوه ...
فهذا الملعون الذي افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يدري إلا ما كتب له، قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دُفن مراراً، وهذا أمر خارج عن العادة، يدل كل أحد على أن هذا عقوبة لما قاله، وأنه كان كاذباً؛ إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد؛ إذ كان عامة المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا، وأن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه، ومظهر لدينه ولكذب الكاذب؛ إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد.
الحديث السادس:
ما استدل به بعضهم من قصة ابن خطل، ففي (الصحيحين) من حديث الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح، وعلى رأسه المِغْفَر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: ((اقتلوه))
وهذا مما استفاض نقله بين أهل العلم واتفقوا عليه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دم ابن خطل يوم الفتح فيمن أهدره، وأنه قتل.
فمن احتج بقصته يقول: لم يُقتل لقتل النفس؛ لأن أكثر ما يجب على من قتل ثم ارتد أن يقتل قوداً، والمقتول من خزاعة له أولياء، فكان حكمه لو قتل قوداً أن يُسَلّم إلى أولياء المقتول، فإما أن يقتلوا أو يعفوا أو يأخذوا الدية، ولم يقتل لمجرد الردة؛ لأن المرتد يستتاب، و إذا اسْتَنْظَرَ أُنْظِرَ، وهذا ابن خطل قد فرَّ إلى البيت، عائذاً به، طالباً للأمان، تاركاً للقتال، ملقياً للسلاح، حتى يُنْظَر في أمره، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد علمه بذلك كله أن يُقتل، وليس هذا سنة من يقتل لمجرد الردة، فثبت أن هذا التغليظ في قتله إنما كان لأجل السب والهجاء، وأن الساب وإن ارتد، فليس بمنزلة المرتد المحض يقتل قبل الاستتابة، ولا يؤخر قتله، وذلك دليل على جواز قتله بعد التوبة.
الفصل الثالث: النواقض العملية في باب النبوات (الاستهانة بالمصحف مثالاً)
أجمع أهل السنة والجماعة على كفر من استخف بالمصحف واستهان به، سواء كان ذلك بالقول أو الفعل.
ومن المعلوم بالضرورة لكل مسلم أنه يجب الإيمان بالقرآن الكريم، وتعظيمه وإجلاله، ولا شك أن الاستهانة بالمصحف تناقض هذا الإيمان بالكلية؛ لأن الإيمان خضوع وانقياد، والاستخفاف إهانة وإذلال، ومحال أن يجتمع هذان الضدان في قلب واحد.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (إن الانقياد إجلال وإكرام، والاستخفاف إهانة وإذلال، وهذان ضدان، فمتى حصل في القلب أحدهما انتفى الآخر، فعلم أن الاستخفاف والاستهانة به ينافي الإيمان منافاة الضد للضد) .
وأيضاً فإن الاستهانة بالقرآن استهانة بمن تكلم به، وهو رب العزة عز وجل، فمن فعل ذلك كان كافراً مباح الدم بإجماع المسلمين.
نص الإجماع الذي حكاه شيخ الإسلام: نقل رحمه الله إجماع المسلمين على كفر من استخف بالمصحف، بقوله: (وقد اتفق المسلمون على أن من استخف بالمصحف مثل أن يلقيه في الحش أو يركضه برجله إهانة له أنه كافر مباح الدم) .
ذكر من نقل الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: اجتمعت كلمة أهل العلم على أن ما في المصحف هو كلام الله، فيجب احترامه وإجلاله، لأن الإيمان مبني على إجلال الله وتعظيم كلامه، والاستهانة بالمصحف تناقض هذا الإيمان.
وممن نقل هذا الإجماع القاضي عياض رحمه الله حيث يقول: (واعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف، أو بشيء منه، أو سبهما، أو جحده أو حرفاً منه أو آية، أو كذب به، أو بشيء منه، أو كذب بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر، أو أثبت ما نفاه، أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك، أو شك في شيء من ذلك فهو كافر عند أهل العلم بإجماع، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41-42]) .
وقرر الإمام النووي رحمه الله أن الاستخفاف بالمصحف يعتبر من الأفعال الموجبة للكفر، والتي تصدر عن تعمد واستهزاء صريح بالدين حيث قال: (والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح، كالسجود للصنم أو للشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات) .
ومن المعلوم أن الاستخفاف والاستهانة ليست محصورة في السب والتنقص فقط، بل الأمر يتعدى ذلك إلى التحريف أو التصحيف أو الزيادة أو النقص، فكل ذلك من الاستهانة .
وقد ذكر ابن حزم رحمه الله اتفاق العلماء على: (أن كل ما في القرآن حق، وأن من زاد فيه حرفاً من غير القراءات المروية المحفوظة المنقولة نقل الكافة، أو نقص حرفاً، أو بدل منه حرفاً مكان حرف، وقد قامت عليه الحجة أنه من القرآن فتمادى متعمداً لكل ذلك عالماً بأنه بخلاف ما فعل فإنه كافر) .
ومثل هذه الأمور لا يمكن أن تصدر من المسلم المنقاد لأمر الله، المعظم لكلام الله وإنما هي من فعل من قد خبثت طويته، وفسدت عقيدته.
وقد نقل ابن قدامة رحمه الله اتفاق المسلمين على تعظيم المصحف وتبجيله ، ولا شك أن الاستخفاف ينافي هذا التعظيم ويناقضه.
مستند الإجماع في المسألة: لقد حكم الله تعالى بالكفر على من استهزأ بشيء من آياته فقال عز وجل في كتابه العزيز: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [التوبة: 64-66].
ولا ريب أن الاستهزاء بآيات الله استخفاف واستهانة.
وقد توعد الله من اتخذ آياته هزواً بالعذاب المهين، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية: 9]، ولم يجئ إعداد العذاب المهين إلا في حق الكفار.
وأيضاً فقد توعد الله عز وجل المستهزئين بآياته بالخلود في النار، ولا يخلد فيها إلا الكافر قال الله تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية: 34-35].
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو حتى لا يقع في أيديهم فيكون عرضة للاستخفاف والاستهانة.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو) . وفي رواية مسلم: (مخافة أن يناله العدو) .
قال ابن عبد البر رحمه الله: (ومعلوم أن من تنزيه القرآن وتعظيمه إبعاده عن الأقذار والنجاسات، وفي كونه عند أهل الكفر تعريض له بذلك وإهانة له، وكلهم أنجاس لا يغتسلون من الجنابة، ولا يعافون ميتة) .
والاستهانة بالمصحف تناقض هذا الإيمان، وتنافيه بالكلية، والمقصود بالاستهانة - هاهنا - الاستخفاف والاستهزاء والاحتقار .
والاستهانة بالمصحف قد تكون أقوالاً ، وقد تكون أعمالاً.
والاستهانة العملية بالقرآن الكريم أن يفعل عامداً ما يتضمن احتقاراً أو استخفافاً بهذا القرآن، أو إسقاطاً لحرمته، ولهذه الاستهانة عدة أمثلة منها: أن يضع المصحف تحت قدمه، أو يلقيه في القاذورات، أو يسعى إلى تغييره وتبديله بزيادةٍ أو نقصانٍ......
لقد تكفّل الله تعالى بحفظ كتابه عن كل ما لا يليق من زيادة، أو نقصان، أو تصحيف أو تحريف ونحوه، ومن ثم فإن هذا القرآن لا اختلاف فيه ولا اضطراب ولا تعارض.
ولذا فإن المناسب أن نورد بعض النصوص الشرعية التي تقرر حفظ الله تعالى لكتابه العزيز، ونسوق أقوالاً مختارة لبعض الأئمة في ذلك.
يقول الله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء:82]، يقول ابن جرير في تفسير هذه الآية: يعني جل ثناؤه بقوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}: أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم يا محمد كتاب الله فيعملوا حجة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم لاتِّساق معانيه، وائتلاف أحكامه وتأييد بعضه بعضاً بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق، فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض .
ويقول ابن عطية: قوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} هذا أمر بالنظر والاستدلال ثم عرف تعالى، بمواقع الحجة، أي: لو كان من كلام البشر لدخله ما في كلام البشر من القصور وظهر فيه تناقض والتنافي الذي لا يمكن جمعه، إذ ذلك موجود في كلام البشر والقرآن منّزه عنه إذ هو كلام المحيط بكل شيءٍ علماً.
فإن عرضـت لأحد شبهة وظن اختلافاً في شيءٍ من كتاب الله، فالواجب أن يتَّهم نظره ويسأل من هو أعلم منه .
ويقول محمد رشيد رضا: وإن تعجب فعجب أن تمر السنون والأحقاب، وتكر القرون والأجيال، وتتسع دوائر العلوم والمعارف، وتتغير أحوال العمران ولا تنقض كلمة من كلمات القرآن، لا في أحكام الشرع، ولا في أحوال الناس وشؤون الكون، ولا في غير ذلك من فنون القول .
ويقول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
يقول ابن جرير في تفسير هذه الآية: يقول تعالى ذكره: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} وهو القرآن {وإنا وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} من أن يزاد فيه باطل ما ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه .
ويقول أبو السعود: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} من كل ما لا يليق به فيدخل فيه تكذيبهم له واستهزاؤهم به دخولاً أولياً، فيكون وعيداً للمستهزئين، وأما الحفظ عن مجرد التحريف والزيادة والنقص وأمثالها فليس بمقتضى المقام، فالوجهُ الحملُ على الحفظ من جميع ما يقدح فيه من الطعن فيه، والمجادلة في حقّيته، ويجوز أن يراد حفظه بالإعجاز دليلاً على التنزيل من عنده تعالى، إذ لو كان من عند غير الله لتطرّق عليه الزيادة والنقص والاختلاف .
ويقول الألوسي: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، أي: من كل ما يقدح فيه كالتحريف والزيادة والنقصان وغير ذلك، حتى إن الشيخ المهيب لو غيّر نقطة يردّ عليه الصبيان ويقول له من كان: الصواب كذا.
ولم يحفظ سبحانه كتاباً من الكتب كذلك، بل استحفظها جلّ وعلا الربانيين والأحبار فوقع فيها ما وقع، وتولّى حفظ القرآن بنفسه سبحانه فلم يزل محفوظاً أولاً وآخراً .
وعقد الإمام البخاري في (صحيحه) باباً بعنوان: (باب من قال: لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما بين الدفتين) وساق بسنده إلى عبدالعزيز بن رفيع حيث قال: دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس رضي الله عنهما، فقال شداد بن معقل: أترك النبي صلى الله عليه وسلم من شيءٍ؟ قال: ما ترك إلا ما بين الدفتين؛ قال: ودخلنا على محمد بن الحنفية فسألناه، فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين .
يقول الحافظ ابن حجر: وهذه الترجمة للرد على من زعم أن كثيراً من القرآن ذهب لذهاب حملته، وهو شيء اختلقه الروافض لتصحيح دعواهم أن التنصيص على إمامة علي، واستحقاقه الخلافة عند موت النبي صلى الله عليه وسلم كان ثابتاً في القرآن وأن الصحابة كتموه، وهي دعوى باطلة؛ لأنهم لم يكتموا مثل: ((أنت عندي بمنزلة هارون من موسى)) ، وغيرها من الظواهر التي قد يمسك بها من يدعي إمامته .
ويقول الشاطبي: إن هذه الشريعة المباركة معصومة، كما أن صاحبها معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة.
ويتبين ذلك من وجهتين:
أحدهـما: الأدلة الدالة على ذلك تصريحاً وتلويحاً، كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وقوله: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1]
والثاني: الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن، وذلك أن الله عز وجل وفّر دواعي الأمة للذّبِّ عن الشريعة، والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل.
أما القرآن الكريم فقد قيض الله له حفظة بحيث لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر، فضلاً عن القراء الأكابر .
وتحدث ابن حزم عما يجب اعتقاده في مسألة حفظ الله تعالى لكتابه فقال: إن القرآن المقروء المكتوب في المصاحف حق نزل به جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه كلام الله عز وجل، حقاً لا مجازاً، وهو علم الله تعالى، وأنه محفوظ لم يُغيّر منه شيء ولا حرف، ولا زيد فيه حرف فما فوقه، ولا نقص منه حرف فما فوقه، قال الله عز وجل: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:193-194]، وقال تعالى:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49].
وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:77-79].
وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
فمن قال إن القرآن نقص منه بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم حرف، أو زيد فيه حرف، أو بُدّل منه حرف، أو أن هذا المسموع أو المحفوظ أو المكتوب أو المنزّل ليس هو القرآن، أو قال: إن القرآن لم ينزل به جبريل صلى الله عليه وسلم على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنه ليس هو كلام الله تعالى؛ فهو كافر، خارج عن دين الإسلام؛ لأنه خالف كلام الله عز وجل، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع أهل الإسلام .
إن الاستهانة بالقرآن ناقض من نواقض الإيمان لجملة من الاعتبارات نذكر منها ما يلي:
أ- أن الاستهانة بالمصحف تناقض الإيمان، فالإيمان مبني على إجلال الله تعالى وتعظيم كلامه، والاستهانة استخفاف واستهزاء، يقول الله تعالى: {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ} [التوبة: 65, 66]، والإيمان: انقياد وخضوع، والاستهانة بالمصحف لا تجتمع مع هذا الانقياد والخضوع، فمن استهان بالمصحف، امتنع أن يكون منقاداً لأمر الله تعالى.
يقول ابن تيمية: إن الانقياد إجلال وإكرام، والاستخفاف إهانة وإذلال، وهذان ضدّان، فمتى حصل في القلب أحدهما، انتفى الآخر فعلم أن الاستخفاف والاستهانة به ينافي الإيمان منافاة الضد للضد .
ب- أن الله تعالى توعد من اتخذ آياته هزواً بالعذاب المهين، ولم يجئ إعداد العذاب المهين إلا في حق الكفار .
كما توعد أولئك المستهينين بآياته بالخلود في النار. فقال تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية:9]
وقال سبحانه: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية:34, 35].
جـ- أن الاستهانة بالمصحف تكذيب لله تعالى في خبره، ومناقضة لما أمر الله تعالى به من تعظيم كلامه عز وجل، والاستهانة بالقرآن استهانة بمن تكلم به تعالى .
يقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]
ويقول سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
وقال تعالى: - {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88].
وقال سبحانه: - {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج:52] فأخبر تعالى أنه يحفظ آياته، ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها ولا يداخلها التغيير ولا التبديل .
فمن استهان بالمصحف سواء كان بتحريف، أو تصحيف أو زيادة، أو نقص فهو مكذّب بمثل الآيات الكريمة التي سبق ذكرها، ولقد حكم الله تعالى - ولا معقب لحكمه - بالكفر على من جحد آياته، وأخبر تعالى بأنه لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله تعالى، وأنهم لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة.
يقول الحليمي: إن الله حفظ القرآن، فقال عند ذكره {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
فمن أجاز أن يتمكن أحد من زيادة شيءٍ في القرآن أو نقصانه منه، أو تحريفه أو تبديله، فقد كذب الله في خبره، وأجاز الوقوع فيه، وذلك كفر .
ويقول القرطبي: لا خلاف بين الأمة ولا بين الأئمة أهل السنة أن القرآن اسم لكلام الله تعالى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم معجزة له، وأنه محفوظ في الصدور، مقروء بالألسنة، مكتوب في المصاحف، معلومة على الاضطرار سوره وآياته، مبرأ من الزيادة والنقصان حروفه وكلماته، فلا يحتاج في تعريفه بحد، ولا في حصره بعد، فمن ادعى زيادة عليه أو نقصاناً منه فقد أبطل الإجماع، وبهت الناس، ورد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن المنزل عليه، ورد قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، وأبطل آية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه إذا ذاك يصير القرآن مقدوراً عليه، حين شيب بالباطل، ولما قدر عليه لم يكن حجة ولا آية، وخرج عن أن يكون معجزاً. .
(د) أن الاستهانة بالمصحف - تحريفاً أو تبديلاً - استهانةً بالدين، وهدم لأصول هذه الشريعة وفروعها، وهو طعن في تمام دين الإسلام وكماله.
ولذا يقول ابن حزم: والدين قد تمّ فلا يُزاد فيه ولا يُنقص منه، ولا يبدّل.
قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]
وقال تعالى: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ} [يونس:64]، والنقص والزيادة تبديل .
ويقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب: ومن اعتقد عدم صحة حفظه (أي: المصحف) من الإسقاط، واعتقد ما ليس منه أنه منه، قد كفر، ويلزم من هذا رفع الوثوق بالقرآن كله، وهو يؤدي إلى هدم الدين، ويلزمهم عدم الاستدلال به، والتعبد بتلاوته، لاحتمال التبدل، ما أخبث قول قوم يهدم دينهم. .
وعندما تحدث محمود شكري الألوسي عن القرآن الكريم، وأنه محفوظ عن الزيادة والنقصان، ثم ذكر معتقد الاثني عشرية في القرآن... قال بعد ذلك: والحقّ ما ذهب إليه أهل السنة وجمهور الفرق الإسلامية أنه ليس في القرآن تحريف ولا نقصان، وذلك لأن الله تعالى قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
وإذا كان الله تعالى الحافظ له، فكيف يتمكن أحد من تحريفه؟! (ذلك) لأن تبليغ القرآن كان واجباً على الرسول عليه الصلاة والسلام إلى كافة الناس، أو بمن اتبعه...
ولم يزل المسلمون يتعبدون بتلاوته آناء الليل، وأطراف النهار، ويرون ذلك من أفضل الطاعات والأعمال من زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى زمننا هذا، وكل ما في هذا شأنه لا يمكن تغييره ولا إسقاط شيء منه، ولأنه لو كان فيه تحريف بتغيير أو نقصان لم يبق وثوق بالأحكام .
هـ- أجمع العلماء على كفر من استهان بالمصحف، وخروجه عن الملة، وقد نقل هذا الإجماع جماعة من أهل العلم ونورد هاهنا ما يلي:
ذكر ابن حزم أن العلماء اتفقوا على: أن كل ما في القرآن حق، وأن من زاد فيه حرفاً من غير القراءات المروية المحفوظة المنقولة نقل الكافة، أو نقص حرفاً، أو بدل منه حرفاً مكان حرف، وقد قامت عليه الحجة أنه من القرآن فتمادى متعمداً لكل ذلك عالماً بأنه بخلاف ما فعل فإنه كافر .
ويقول أيضاً: إن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحدٍ منهم وهو أنَّ كلَّ من بدّل آيةً من القرآن عامداً وهو يدري أنها في المصحف بخلاف ذلك، أو أسقط كلمة عامداً كذلك، أو زاد فيها كلمة عامداً فإنه كافر بإجماع الأمة كلها .
ويقول القاضي عياض: اعلم أن من استخف بالقرآن، أو المصحف، أو بشيءٍ منه، أو سبّهما، أو جحده، أو حرفاً منه، أو آيةً، أو كذّب به، أو بشيءٍ منه، أو كذّب بشيءٍ مما صرّح به فيه من حكم أو خبر، أو أثبت ما نفاه فهو كافر عند أهل العلم بإجماعٍ، قال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] .
... من كلام العلماء في هذه المسألة:-
يقول ابن حزم - في الرد على اعتراض النصارى بأن الروافض يزعمون أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بدلوا القرآن...: وأما قولهم في دعوى الروافض تبديل القرآن، فإن الروافض ليسوا من المسلمين .
وقال محمد بن إسماعيل الرشيد الحنفي: من استخف بالقرآن أو بالمسجد أو بنحوه مما يعظم في الشرع كفر، ومن وضع رجله على المصحف حالفاً استخفافاً كفر .
وذكر الدردير أن من موجبات الردة: إلقاء مصحف أو بعضه ولو كلمة، وكذا حرقه استخفافاً لا صوناً، ومثل إلقائه، وتركه بمكان قذر، ولو طاهراً كبصاق أو تلطيخه به... ومثل المصحف: الحديث، وأسماء الله تعالى، وكتب الحديث، وكذا كتب الفقه إن كان على وجه الاستخفاف بالشريعة .
وقال النووي: الأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمّد واستهزاء بالدين صريح، كإلقاء المصحف في القاذورات .
وقال قليوبي شارحاً قول النووي: قوله: (كإلقاء مصحف بقاذورة) بالفعل أو بالعزم والتردد فيه ومسه بها كإلقائه فيها، وألحق بعضهم به وضع رجله عليه ونُوزع فيه، والمراد بالمصحف: ما فيه قرآن ومثله الحديث، وكل علم شرعي وما عليه اسم معظم، قال شيخنا الرملي: ولا بُدّ في غير القرآن من قرينةٍ تدل على الإهانة وإلا فعلاً، وشملت القاذورة الطاهرة كبصاق ومخاط ومني .
وعدّ البهوتي من نواقض الإسلام ما يلي: أو وجد منه امتهان القرآن، أو طلب تناقضه، أو دعوى أنه مختلف، أو مقدور في مثله، أو إسقاط حرمته كفر؛ لقوله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًــا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21]، وقوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وقوله: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:
الباب الرابع: نواقض الإيمان في سائر الغيبيات
الفصل الأول: إنكار الملائكة والجن
ومن الإيمان بالغيب: الإيمان بالملائكة عليهم السلام، والإيمان بالجن، فأما الإيمان بالملائكة فهو الإقرار الجازم بوجودهم، وأنهم من خلق الله تعالى، وهم {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:26, 27]، وأنهم {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
والإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان، فلا يتحقق إيمان عبدٍ حتى يؤمن بوجودهم... وعليه أن يؤمن بمن ورد ذكرهم في القرآن والسنة على وجه التفصيل، كما يجب الإيمان بصفاتهم الخلقية والخلقية، والأعمال التي يقومون بها. يقول محمد رشيد رضا في ثنايا حديثه عن أهمية الإيمان بالملائكة: إن الإيمان بالملائكة أصل للإيمان بالوحي، ولذلك قدم ذكر الملائكة على ذكر الكتاب والنبيين، قال تعالى: {وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177]، فالملائكة هم الذين يؤتون النبيين الكتاب، قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} [القدر:4]، وقال سبحانه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 193- 195]، فليلزم من إنكار الملائكة إنكار الوحي والنبوة وإنكار الأرواح، وذلك يستلزم إنكار اليوم الآخر .
ويقول السعدي - في نفس المسألة السابقة -: الإيمان بالملائكة أحد أصول الإيمان، ولا يتم الإيمان بالله وكتبه ورسله إلا بالإيمان بالملائكة .
كما يجب الإيمان بوجود الجن في العالم، وأنهم خلق من خلق الله تعالى وأنهم أحياء عقلاء، ومأمورون ومنهيون، وأن ذلك أمرٌ متواتر معلوم بالاضطرار .
2- وإذا تقرر وجوب الإيمان بالملائكة عليهم السلام والجن، فإن لهذا الإيمان ما يناقضه من الأقوال كإنكار وجود الملائكة، أو الجن، أو سب الملائكة والاستهزاء بهم، ووجه كون تلك الأقوال مناقضة لهذا الإيمان ما يلي:
أ- أن إنكار وجود الملائكة أو الجن هو تكذيب وجحود للأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة، فقد تواترت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية في الحديث عن الملائكة والجن، ومن ثَمَّ فإن وجود الملائكة والجن أمر متواتر ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام.
فمثلاً في شأن الملائكة عليهم السلام يقول الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:286].
ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء:136].
يقول الألوسي في تفسيره لقول تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ..} الآية، أي: بشيءٍ من ذلك فإن الحكم المتعلق بالأمور المتعاطفة بالواو قد يرجع إلى كل واحدٍ، وقد يرجع إلى المجموع، والتعويل على القرائن، وهاهنا قد دلت القرينة على الأول؛ لأن الإيمان بالكل واجب، والكل ينتفي بانتفاء البعض... .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وأما الجن فقد أفاض القرآن الكريم والسنة النبوية في الحديث عن الجن وأحوالهم، وانفردت سورة كاملة في الحديث عن نفر من الجن استمعوا للقرآن مـن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء هذا مفصلاً في سورة (الجن)، قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1].
يقول ابن بطة: فمن أنكر الجن فهو كافر بالله، جاحد بآياته، مكذب بكتابه .
ويقول ابن حزم: لكن لما أخبرت الرسل الذين شهد الله عز وجل بصدقهم، مما أبدى على أيديهم من المعجزات... بنصّ الله عز وجل على وجود الجن في العالم، وجب ضرورة العلم بخلقهم ووجودهم، وقد جاء النص بذلك، وبأنهم أمة عاقلة مميزة متعبدة، موعودة متوعدة متناسلة يموتون... فمن أنكر الجن، أو تأوّل فيهم تأويلاً يخرجهم به عن هذا الظاهر، فهو كافر مشرك حلال الدم والمال .
ويقول القرطبي - في هذا الشأن-: وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن، اجتراءً على الله وافتراءً، والقرآن والسنة ترد عليهم .
ويقول ابن تيمية: وجود الجن ثابت بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتفاق سلف الأمة، وأئمتها، وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أهل السنة والجماعة .
ويقول في موضع آخر: إن وجود الجن قد تواترت به أخبار الأنبياء تواتراً معلوماً بالاضطرار، ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء، فاعلون بالإرادة، بل مأمورون منهيون، ليسوا صفاتاً، وأعراضاً قائمة بالإنسان أو غيره كما يزعمه بعض الملاحدة. فلما كان أمر الجن متواتراً عن الأنبياء تواتراً ظاهراً تعرفه العامة والخاصة لم يكن لطائفة كبيرة من طوائف المؤمنين بالرسل أن تنكرهم .
ويقول الألوسي: ونفي الجن كفر صريح كما لا يخفى .
كما أن إنكار الملائكة والجن مناقض للإيمان بالكتب المنزلة، فالإيمان بالكتب يتضمن الإقرار بها وتصديقها، وإنكار الملائكة والجن هو تكذيب وجحود لآيات الله تعالى، فهو يناقض هذا الإقرار والتصديق، ومن ثَمَّ فقد توعّد الله تعالى أولئك المنكرين لآياته، المكذبين بها بالعذاب المهين والخلود في نار جهنم.
قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:40].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الحج:57].
بل إن صفة الجحود لتلك الآيات لا تقوم إلا في الكفار، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ} [العنكبوت:47]
ب- أجمع العلماء على كفر من أنكر الملائكة أو الجن، أو استهزأ واستخفّ بالملائكة، أو سبّهم، فيقول القاضي عياض: وحكم من سبّ سائر أنبياء الله تعالى، وملائكته، واستخف بهم، أو كذبهم فيما أتوا به، أو أنكرهم وجحدهم، حكم نبينا صلى الله عليه وسلم... .
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَـئِكَ هُـمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء:150- 151] .
وإذا كان العلماء قد أجمعوا على كفر من أنكر آية من كتاب الله تعالى ، فما بالك بمن أنكر آيات كثيرة جداً تثبت وجود الملائكة والجن!
فوجود الملائكة عليهم السلام كما هو ثابت بالكتاب والسنة، فهو ثابت بالإجماع، وكذلك الجن.
يقول ابن حزم: واتفقوا أن الملائكة حق، وأن جبريل وميكائيل ملكان رسولان لله عز وجل مقربان عظيمان عند الله تعالى، وأن الملائكة كلهم مؤمنون فضلاً، وأن الجن حق .
ويذكر ابن حزم أن المسلمين والنصارى والمجوس والصابئين وأكثر اليهود كلهم مجمعون على وجود الجن .
ويقول ابن تيمية: والإقرار بالملائكة والجن عام في بني آدم، لم ينكر ذلك إلا شواذ من بعض الأمم، ولهذا قالت الأمة المكذبة: {وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً} [المؤمنون:24]
حتى قوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون، قال قوم نوح: {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً} [المؤمنون:24]، وقال: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت:13- 14]، وليس في الأمم أمة تنكر ذلك إنكاراً عاماً، وإنما يوجد إنكار ذلك في بعضهم، مثل من قد يتفلسف فينكرهم لعدم العلم لا للعلم بالعدم .
ويقول - في موضع آخر -: من المعلوم بالاضطرار أن الرسل أخبرت بالملائكة والجن، وأنها أحياء ناطقة قائمة بأنفسها، ليست أعراضاً قائمة بغيرها .
إلى أن قال: فمن أنكر وجود الجن والشياطين وتأثيرهم... كان مبطلاً باتفاق أهل الملل، واتفاق جمهور الفلاسفة، وكان كذبه معلوماً بالاضطرار عند من عرف هذه الأمور بالمشاهدة، أو الأخبار الصادقة .
جـ- إن الإيمان بالملائكة عليهم السلام يوجب إجلالهم وإكرامهم، فهم عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ويسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولذا فإن سبّهم والاستهزاء بهم لا يجتمع مع إجلالهم وإكرامهم، وإن كان مقراً بوجودهم، لما في هذا من عدم تقدير الله تعالى حق قدره، والاستهزاء بآيات الله تعالى، ويقول سبحانه: {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65-66].
يقول ابن حزم: صح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو نبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدين، فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر .
ويقول أيضاً: قد علمنا أن الملائكة كلهم رسل الله تعالى، قال تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} [فاطر:1]، وكذلك بضرورة المشاهدة أن كل ساب وشاتم فمستخف بالمشتوم مستهزئ به، فالاستخفاف والاستهزاء شيء واحد... فصحّ بما ذكرنا أن كل من سبّ الله تعالى، أو استهزأ به، أو سبّ ملكاً من الملائكة، أو استهزأ به، أو سبّ نبياً من الأنبياء، أو استهزأ به، أو سبّ آيةً من آيات الله تعالى، أو استهزأ بها، والشرائع كلها، والقرآن من آيات الله تعالى فهو بذلك كافر مرتد، له حكم المرتد، وبهذا نقول، وبالله تعالى التوفيق .
د- إن الإيمان بالملائكة عليهم السلام يقتضي محبتهم ومودتهم، وأما سبّهم وشتمهم فهو بسبب بغضهم وعداوتهم، وهو ما يناقض الإيمان بهم، كما قال تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:98].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: يقول تعالى من عاداني وملائكتي ورسلي؛ ورسله تشمل رسله من الملائكة، كما يقول تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75].
وقوله تعالى: {فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} فيه إيقاع المظهر مكان المضمر، حيث لم يقل فإنه عدو، بل قال: فإن الله عدو للكافرين... وإنما أظهر الله هذا الاسم لتقرير هذا المعنى، وإظهاره، وإعلامهم أن من عادى ولياً لله، فقد عادى الله، ومن عادى الله، فإن الله عدو له، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة... .
ومما قاله البيضاوي في (تفسيره) لهذه الآية: وأفرد الملكان بالذكر لفضلهما كأنهما من جنس آخر، والتنبيه على أن معاداة الواحد والكلّ سواء في الكفر، واستجلاب العداوة من الله تعالى، وأن من عادى أحدهم، فكأنه عادى الجميع، إذ الموجب لعداوتهم ومحبتهم على الحقيقة واحد، ولأن المحاجة كانت فيهما، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنه تعالى عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة والرسل كفر .
ومما كتبه النسفي في (تفسيره) لهذه الآية قوله: قوله تعالى: {فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} أي: لهم، جواب الشرط، والمعنى: من عاداهم عاداه الله، وعاقبه أشد العقاب، وإيثار الاسمية للدلالة على التحقق والثبات، ووضع الكافرين موضع المضمر للإيذان بأن عداوة المذكورين كفر، وأن ذلك بيّن لا يحتاج إلى الإخبار به، وأن مدار عداوته تعالى لهم وسخطه المستوجب لأشد العقوبة والعذاب هو كفرهم المذكور .
3- وإذا تقرر أن إنكار وجود الملائكة عليهم السلام أو الجن أو سبّ الملائكة والاستهزاء بهم من نواقض الإيمان فإننا نسوق أقوالاً مختارة لأهل العلم في هذا الشأن.
يقول ابن نجيم: ويكفر بقوله لغيره: رؤيتي إياك كرؤية ملك الموت عند البعض خلافاً للأكثر، وقيل به إن قاله لعداوته لا لكراهة الموت، وبقوله لا أسمع شهادة فلان وإن كان جبريل أو ميكائيل عليهما السلام، وبعيبه ملكاً من الملائكة أو الاستخفاف به .
يقول القاضي عياض: وقال القاضي بقرطبة سعيد بن سليمان في بعض أجوبته: من سبّ الله وملائكته قتل.
وقال سحنون: من شتم ملكاً من الملائكة فعليه القتل.
وقال أبو الحسن القابسي في الذي قال لآخر: كأنه وجه مالك الغضبان، لو عرف أنه قصد ذم الملك قتل.
ثم قال القاضي عياض: وهذا كله فيمن تكلم فيهم بما قلناه على جملة الملائكة والنبيين، أو على معين ممن حققنا كونه من الملائكة والنبيين، ممن نصّ الله عليه في كتابه، أو حققنا علمه بالخبر المتواتر، والمشتهر المتفق عليه بالإجماع القاطع كجبريل وميكائيل، ومالك، وخزنة جهنم والزبانية، وحملة العرش المذكورين في القرآن من الملائكة، ومن سمي فيه من الأنبياء، وكإسرافيل، والحفظة... فأما من لم تثبت الأخبار بتعيينه، ولا وقع الإجماع على كونه من الملائكة كهاروت وماروت... فليس الحكم في سابهم والكافر بهم كالحكم فيما قدمناه (ممن اتفق على أنه ملك)... .
وقال الدردير المالكي: ويكفر إن سبّ نبياً مجمعاً على نبوته، أو ملكاً مجمعاً على ملكيته، أو ألحق به نقصاً وإن ببدنه كعرج، وشلل... .
ويقول ابن غنيم المالكي: ومن سبّ ملكاً مجمعاً على ملكيته، أو لعنه، أو عابه، أو قذفه، أو استخفّ بحقّه، أو غيّر صفته، أو ألحق به نقصاً في دينه، أو بدنه، أو خصلته، أو غضّ من مرتبته، أو وفور علمه، أو زهده، أو أضاف له ما لا يجوز عليه، أو نسب إليه ما لا يليق به على طريق الذم... قتل حداً ويستعجل بقتله .
ويقول النووي: ولو قال: لو شهد عندي الأنبياء والملائكة بكذا ما صدقتهم كفر .
ويقول ابن حجر الهيتمي معلقاً على هذه العبارة: وهل لو قال الملائكة فقط أو الأنبياء فقط يكفر أيضاً؟ الذي يظهر: نعم؛ لأن ملحظ الكفر كما لا يخفى نسبة الأنبياء أو الملائكة إلى الكذب، فإن قلت: جرى خلاف في العصـمة؟ قلت: أجمعوا على العصمة عن الكذب ونحوه .
ويقول ابن قدامة: وإن ارتدّ بجحود فرض، لم يسلم حتى يقر بما جحده، ويعيد الشهادتين؛ لأنه كذّب الله ورسوله بما اعتقده، وكذلك إن جحد ملكاً من ملائكته الذين ثبت أنهم ملائكة الله، أو استباح محرّماً فلا بد في إسلامه من الإقرار بما جحده .
ويقول مرعي بن يوسف الكرمي: من أشرك بالله تعالى، أو سبّه، أو رسوله، أو ملكاً له... كفر .
ويذكر البهوتي أن من جحد الملائكة، أو أحداً ممن ثبت أنه ملك، كفر لتكذيبه القرآن .
هذا طرف من أقول العلماء فيما يتعلق بالملائكة عليهم السلام، وأما الجن فإن وجودهم ثابت بالإجماع والتواتر، فهو أمر معلوم من الدين بالضرورة، ومن ثَمَّ فإن إنكارهم هو إنكار لأمر معلوم من الدين بالضرورة.
الفصل الثاني: نواقض متعلقة باليوم الآخر
المبحث الأول: إنكار البعث
لا شك أن إنكار البعث مناقض للإيمان، مهما تنوعت صوره وأمثلته، فقد يكون إنكارا لبعث الأرواح والأجساد، وقد يكون إنكارا لمعاد الأجساد مع الاعتراف بمعاد الأرواح، وتارةً يكون إنكار البعث بالقول بتناسخ الأرواح، ونقلها إلى أجسام أخرى، وتارة أخرى يكون هذا الإنكار بإنكار معاد النفوس الجاهلة دون العالمة. ومن صور هذا الإنكار ما زعمه بعضهم أن البعث عبارة عن خلق أبدان جديدة مغايرة تماماً للأبدان الفانية .
وسنورد الآن بعضاً من أوجه كون إنكار البعث ناقضاً من نواقض الإيمان على النحو التالي:
أ- أخبر الله عز وجل أن إنكار البعث كفر برب العالمين، فقال تعالى: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} [الرعد:2-5].
وقال المؤمن للكافر الذي قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]، فقال له: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف:37] .
وقال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء:97-98].
وقال سبحانه: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة:10].
وقال تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [النحل:38-40].
فإنكار البعث يناقض الإيمان، وينافي تصديق القلب وإقرار اللسان.
ب- تضمن إنكار البعث تعطيلاً لأسماء الله وصفاته ومقتضاها، وإنكاراً لعلم الله تعالى وقدرته وحكمته.
قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115- 116].
يقول ابن القيم عن هذه الآيات: فجعل كمال ملكه، وكونه سبحانه الحق، وكونه لا إله إلا هو، وكونه رب العرش المستلزم لربوبيته لكل ما دونه، مبطلاً لذلك الظن الباطل، والحكم الكاذب.
- إلى أن قال: فإنّ ملكه الحق يستلزم أمره ونهيه، وثوابه وعقابه، وكذلك يستلزم إرسال رسله، وإنزال كتبه، وبعث المعاد ليوم يجزى فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فمن أنكر ذلك فقد أنكر حقيقة ملكه، ولم يثبت له الملك الحق، ولذلك كان منكراً لذلك كافراً بربه، وإن زعم أنه يُقرّ بصانع العالم، فلم يؤمن بالملك الحق الموصوف بصفات الجلال، والمستحق لنعوت الكمال .
ويقول في موضع آخر: وهو سبحانه يقرر المعاد بذكر كمال علمه، وكمال قدرته، وكمال حكمته، فإنّ شبه المنكرين له كلها تعود إلى ثلاثة أنواع:
أحدهما: اختلاط أجزائهم بأجزاء الأرض على وجه لا يتميز ولا يحصل معها تميز شخص عن شخص.
الثاني: أن القدرة لا تتعلق بذلك.
الثالث: أن ذلك أمر لا فائدة فيه، أو إنما الحكمة اقتضت دوام هذا النوع الإنساني شيئاً بعد شيء، هكذا أبداً كلما مات جيل، خلفه جيل آخر، فأما أن يميت النوع الإنساني كله، ثم يحييه بعد ذلك فلا حكمة في ذلك، فجاءت براهين المعاد في القرآن مبنية على ثلاثة أصول:
أحدهما: تقرير كمال علم الرب سبحانه، كما قال في جواب من قال: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78-79]، وقال: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق:4].
الثاني: تقرير كمال قدرته، لقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [يس:81] وقوله: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:4]، وقوله {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:6].
الثالث: كمال حكمته، كقوله:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِـينَ} [الدخان:38]، وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص:27]، وقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115].
ولهذا كان الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع، وأن كمال الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه، وأنه منزّه عما يقوله منكروه، كما ينزّه كماله عن سائر العيوب والنقائص .
إضافة إلى ذلك فإنكار البعث سوء ظن بالله عز وجل، كما قال ابن القيم: ومن ظنّ أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دارٍ يجازي المحسن فيها بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويبيّن لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ويظهر للعالمين كلهم صدقه، وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، فقد ظن به ظن السوء .
وسوء الظن بالله تعالى ذنب عظيم، وعقابه شديد، حتى قال ابن القيم أيضاً: ولم يجئ في القرآن وعيد أعظم من وعيد من ظن به ظن السوء.
قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6] إلخ .
جـ- أن إنكار البعث تكذيب ظاهر لآيات القرآن الصريحة في إثبات البعث، كما أن هذا الإنكار رد للأخبار الصحيحة في وقوع البعث، وتكذيب لما اتفقت عليه دعوة الرسل عليهم السلام. ونزلت به الكتب السماوية، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:56].
وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف40].
وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الحج:57]
يقول ابن أبي العز الحنفي: الإيمان بالمعاد مما دلّ عليه الكتاب والسنة، والعقل والفطرة السليمة، فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز، وأقام الدليل عليه، ورد على منكريه في غالب سور القرآن .
وجاء في حديث أبي هريرة مرفوعاً أن الله تعالى يقول: ((يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ويكذبني وما ينبغي له، أما شتمه فقوله إن لي ولداً، وأما تكذيبه فقوله لن يعيدني كما بدأني)) .
وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه عز وجـل على وقوع المعاد ووجوده في ثلاثة مواضع:
الأول: في سورة يونس في قوله تعالى: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:53].
الثاني: في سورة سبأ في قوله تعالى:- {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3]
الثالث: في سورة التغابن في قوله تعالى:- {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] .
وقد أقسم الله تعالى في مواضع كثيرة على وقوع البعث، كقوله تعالى: {اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [النساء:86].
وذم سبحانه المكذبين بالمعاد،؛ فقال سبحانه: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [يونس:45].
وتوعدهم بالعذاب والضلال البعيد؛ فقال تبارك وتعالى: {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} [سبأ:8].
وقد تنوعت الأدلة، وتعددت البراهين في إثبات المعاد، وصحة وقوعه كما جاء مفصلاً في موضعه .
د- انعقد الإجماع على إثبات البعث، كما أجمع علماء هذه الأمة على تكفير منكري البعث، وقد حكى هذا الإجماع غير واحد من أهل العلم نذكرهم فيما يلي:
يقول ابن حزم: وأما من زعم أن الأرواح تنتقل إلى أجساد أخر فهو قول أصحاب التناسخ، وهو كفر عند جميع أهل الإسلام .
ويقول أيضاً: واتفقوا أن البعث حق، وأن الناس كلهم يبعثون في وقت تنقطع فيه سكناهم في الدنيا... .
ويقول في كتاب ثالث: وأن البعث حق والحساب حق... يجمع الله تعالى يوم القيامة بين الأرواح والأجساد، كل هذا إجماع من جميع أهل الإسلام، من خرج عنه خرج عن الإسلام .
ثم يقول أيضاً: فمن قال إن الأرواح أعراض فانية، أو قال إنها تنتقل إلى أجسام أخر، فهو منسلخ من إجماع أهل الإسلام، لخلافه القرآن، والسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع، وهو قول أهل التناسخ، وهو كفر بلا خلاف، وكذلك من أنكر إحياء العظام والأجساد يوم القيامة، وأنكر البعث فخارج عن دين الإسلام بلا خلاف من أحد من الأئمة .
ويقول في (الفصل): اتفق جميع أهل القبلة على تنابذ فرقهم على القول بالبعث في القيامة، وعلى تكفير من أنكر ذلك .
ويقول ابن عبد البر: وقد أجمع المسلمون على أن من أنكر البعث، فلا إيمان له ولا شهادة، وفي ذلك ما ينبغي ويكفي، مع ما في القرآن من تأكيد الإقرار بالبعث بعد الموت، فلا وجه للإنكار في ذلك. .
ويقول القاضي عياض: وكذلك نقطع على كفر من قال بتناسخ الأرواح وانتقالها أبد الآباد في الأشخاص، وتعذيبها أو تنعيمها فيها، بحسب ذكائها وخبثها. وكذلك من أنكر البعث أو الحساب... فهو كافر بإجماعٍ للنص عليه، وإجماع الأمة على صحة نقله متواتراً .
ويقول ابن تيمية: وطوائف من الكفار والمشركين وغيرهم ينكرون المعاد بالكلية، فلا يقرّون لا بمعاد الأرواح، ولا الأجساد، وقد بيّن الله تعالى في كتابه على لسان رسوله أمر معاد الأرواح والأجساد، وردّ على الكافرين والمنكرين لشيءٍ من ذلك، بياناً في غاية التمام والكمال.
وأما المنافقون من هذه الأمة الذين لا يقرّون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة، فإنهم يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويقولون هذه أمثال ضربت لنفهم المعاد الروحاني، وهؤلاء مثل القرامطة الباطنية الذين قولهم مؤلَّف من قول المجوس والصابئة... وهؤلاء كفار يجب قتلهم باتفاق أهل الإيمان فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد بيّن ذلك بياناً شافياً قاطعاً للعذر... .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ويقول يحيى بن حمزة العلوي: اعلم أنه لا خلاف بين أهل القبلة وغيرهم - إلا شيئاً يحكى عن بعض الفلاسفة- في صحة المعاد .
ويقول الإيجي: أجمع أهل الملل عن آخرهم على جواز حشر الأجساد ووقوعه، وأنكرهما الفلاسفة .
ويقول الشوكاني: الحاصل أن هذا (أي: المعاد) أمر اتفقت عليه الشرائع، ونطقت به كتب الله عز وجل سابقها ولاحقها، وتطابقت عليه الرسل أولهم وآخرهم، ولم يخالف فيه أحد منهم، وهكذا اتفق على ذلك أتباع جميع الأنبياء من أهل الملل، ولم يسمع عن أحد منهم أنه أنكر ذلك قط، ولكنه ظهر رجل من اليهود زنديق، يقال له: موسى بن ميمون اليهودي الأندلسي؛ فوقع منه كلام في إنكار المعاد، واختلف كلامه في ذلك، فتارة يثبته، وتارة ينفيه، ثم هذا الزنديق لم ينكر مطلق المعاد، إنما أنكر بعد تسليمه للمعاد أن يكون فيه لذات حسية جسمانية، بل لذات عقلية روحانية، ثم تلقّى عنه من هو شبيه به من أهل الإسلام كابن سينا فقلّده، ونقل عنه ما يفيد أنه لم يأت في الشرائع السابقة على الشريعة الإسلامية إثبات المعاد، وتقليداً لذلك اليهودي الملعون الزنديق، مع أن اليهود قد أنكروا عليه هذه المقالة ولعنوه وسموه كافراً... .
3- وإذا تقرر ما سبق ذكره فإننا نشير لطرف من أقوال العلماء في حكم منكر البعث؛ فهذا ابن نجيم يقرر كفر من أنكر البعث ، وكذلك البدر الرشيد .
وقال الدردير المالكي: ويكفر إذا قال بتناسخ الأرواح، أي: إن من قال بأنّ من يموت تنتقل روحه إلى مثله، أو لأعلى منه إن كانت في مطيع، أو لأدنى منه، أو مثله إن كانت في عاصٍ فهو كافر؛ لأن فيه إنكار البعث .
وأورد الدسوقي نفس هذا الكلام في (حاشيته) ، وكذا عليش في (شرحه) .
ويقول الغزالي: فيجب تكفير من يغير الظاهر بغير برهان قاطع كالذي ينكر حشر الأجساد، وينكر العقوبات الحسّيّة في الآخرة بظنون وأوهام، واستبعادات من غير برهان قاطع، فيجب تكفيره قطعياً، إذ لا برهان على استحالة ردّ الأرواح إلى الأجساد، وذكر ذلك عظيم الضرر في الدين، فيجب تكفير كل من تعلق به... .
ويذكر الشربيني إنكار البعث ضمن أنواع الردة ، وكذا ذكر ذلك قليوبي ، وابن حجر الهيتمي .
ويقول البهوتي: وإذا جحد البعث كفر، لتكذيبه للكتاب والسنة وإجماع الأمة.
المبحث الثاني: إنكار الوعد أو الوعيد أو الاستهزاء به
الوعد في أصل لغة العرب يستعمل في الخير والشر، ويعدّى بنفسه وبالباء، يقال: وعدته خيراً. ووعدته شراً، فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخير: الوعد والعدة، وفي الشـر: الإيعـاد والوعيد، مع العلم أن الوعيد لا يكون إلا بالشر .
وقد حوى القرآن الكريم على وعد ووعيد، فالوعد يكون بالمغفرة والرضوان، والتكريم ودخول الجنان ونحو ذلك من أنواع الثواب، والوعيد يكون إما بلعنة أو غضب أو دخول نار... وغير ذلك من أنواع العقاب.
قال الله تعالى: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة:68].
وقال سبحانه: {وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التوبة:72].
وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [التوبة:111].
وقال سبحانه: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45].
ومما أنعم الله تعالى به على عباده، أنه سبحانه قد أخبر أن من وعده على عملٍ صالحٍ فهو منجز له، فلا يخلف الله وعده تكرماً وتفضلاً، قال الله تعالى: {لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم:6].
وقال سبحانه وتعالى: {وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
وأما الوعيد في حقّ عصاة المؤمنين فهو تحت مشيئة الله تعالى، فقد يقع هذا الوعيد جزاءً وعدلاً، وقد يختلف هذا الوعيد في حقّ بعض العصاة لانتفاء شرط أو وجود مانع...
كما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من وعده الله على عمل ثواباً، فهو منجز له، ومن وعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار)) .
وقد جاء عمرو بن عبيد المعتزلي إلى أبي عمرو بن العلاء فقال: يا أبا عمرو. ويخلف الله ما وعده؟ قال: لا، قال: أفرأيت من أوعده الله على عملٍ عقاباً، أيخلف الله وعده فيه؟ فقال أبو عمرو بن العلاء: من العجمة أتيت يا أبا عثمان، إن الوعد غير الوعيد، إن العرب لا تعد عاراً ولا خلفاً أن تعد شراً، ثم لا تفعله، ترى ذلك كرماً وفضلاً، وإنما الخلف أن تعد خيراً ثم لا تفعله. قال: فأوجدني هذا في كلام العرب؟ قال: نعم، أما سمعت إلى قول الأول :

وإني وإن أوعدته أو وعدته
لمخلفُ إيعادي ومنجزُ موعدي

وقال يحيى بن معاذ: الوعد والوعيد حقّ، فالوعد حقّ العباد على الله، ضمن لهم إذا فعلوا كذا أن يعطيهم كذا، ومن أولى بالوفاء من الله، والوعيد حقّه على العباد، قال: لا تفعلوا كذا فأعذبكم، ففعلوا، فإن شاء عفا، وإن شاء أخذ لأنه حقه، وأولاهما بربنا تبارك وتعالى العفو والكرم إنه غفور رحيم .
وعندما نتحدث عن الواجب تجاه نصوص الوعد والوعيد، فهو الإيمان بجميع تلك النصوص، والتسليم لها، وإجلالها وتعظيمها، فنؤمن بالله تعالى، وما جاء عن الله، على مراد الله تعالى، ونؤمن برسول الله، وما جاء عن الرسول، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن تيمية: لا ريب أن الكتاب والسنة فيهما وعد ووعيد، وقد قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا} [النساء:29-30]، ومثل هذا كثير في الكتاب والسـنة، والعـبد علـيه أن يصـدق بهذا وهذا... .
ويقول أيضاً: ينبغي للمسلم أن يقدر كلام الله ورسوله، فجميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب، ونكفر ببعض، وليس الاعتناء بمراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النص الذي وافقه يعتقد أنه اتبع فيه مراد الرسول، فكذلك النص الآخر الذي تأوله، فيكون أصل مقصوده معرفة ما أراده الرسول بكلامه .
وقد التزم سلف الأمة بهذا التسليم والتعظيم لنصوص الوعد والوعيد؛ فهذا رجل يقول للزهري: يا أبا بكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لطم الخدود)) ، ((وليس منا من لم يوقر كبيرنا)) وما أشبه هذا الحديث؟
فأطرق الزهري ساعة، ثم رفع رأسه، فقال: من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم .
ولما ذكر عبدالله بن المبارك حديث: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) ؛ فقال فيه قائل: ما هذا؟ على معنى الإنكار، فغضب ابن المبارك وقال: يمنعنا هؤلاء الأنان - أي: كثــيرو التشكي والكلام - أن نحدّث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكلّما جهلنا معنى حديث تركناه! لا بل نرويه كما سمعــنا ونلزم الجهل أنفسنا .
يقول إسماعيل الأصبهاني: أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله، وفي مسائل القدر، والرؤية، وأصل الإيمان والشفاعة، والحوض، وإخراج الموحدين المذنبين من النار، وفي صفة الجنة والنار، وفي الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد... .
- ومما يتضمنه الإيمان بالوعد والوعيد: الإيمان بالجنة والنار، وهو التصديق بوجودهما، وأنهما مخلوقتان موجودتان، لا تفنيان ولا تبيدان، وقد تواترت الأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة في ذكرهما، وأوصافهما، وأحوالهما... كما أجمع علماء الإسلام على ذلك وحكى الإجماع عدد كبير منهم، فنذكر طرفاً من أقوالهم فيما يلي:
يقول أبو حنيفة النعمان: والجنة والنار مخلوقتان اليوم، لا تفنيان أبداً، ولا تموت الحور العين أبداً، ولا يفنى عقاب الله تعالى وثوابه سرمداً .
ويقول أبو الحسن الأشعري: والجنة والنار حقّ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور .
ويقول ابن أبي حاتم الرازي: والجنة حق، والنار حق، وهما مخلوقتان لا تفنيان أبداً، فالجنة ثواب لأوليائه، والنار عقاب لأهل معصيته إلا من رحم .
يقول ابن أبي زيد القيرواني: وأن الله سبحانه قد خلق الجنة فأعدها دار خلود لأوليائه، وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم... وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به، وألحد في آياته وكتبه ورسله، وجعلهم محجوبين عن رؤيته .
ويقول ابن بطة: ثم الإيمان بأن الله عز وجل خلق الجنة والنار قبل خلق الخلق، ونعيم الجنة لا يزول، دائم أبداً في النضرة والنعيم، والأزواج من الحور العين، ولا يمتن ولا ينقصن ولا يهرمن، ولا ينقطع ثمارها ونعيمها، كما قال عز وجل: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} [الرعد:35]، وأما عذاب النار فدائم أبداً، وأهلها فيها مخلدون خالدون من خرج من الدنيا غير معتقد للتوحيد ولا متمسك بالسنة .
ويقول ابن حزم: وأن كل ما في القرآن من خبرٍ عن نبيٍ، أو عن المعاد، أو عن أمةٍ من الأمم، أو عن المسخ فعلى ظاهره، لا رمز في شيء من ذلك، ولا باطن ولا سرّ، وكذلك كلّ ما فيه من أمور الجنة من أكلٍ وشربٍ، وجماعٍ، والحور العين، والولدان المخلدين، ولباسٍ، وعذابٍ في النار بالزقوم، والحميم، والأغلال. وغير ذلك، فكله حقّ .
ويقول ابن تيمية: الأكل والشراب في الجنة ثابت بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، وهو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وكذلك الطيور والقصور في الجنة بلا ريب، كما وصف ذلك في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أن أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يبصقون، لم يخالف من المؤمنين بالله ورسوله أحد، وإنما المخالف في ذلك أحد رجلين: إما كافر، وإما منافق .
ويقول ابن القيم - في تقرير وجود الجنة الآن -: لم يزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون وتابعوهم وأهل السنة والحديث قاطبة وفقهاء الإسلام وأهل التصوف والزهد على اعتقاد ذلك وإثباته، مستندين في ذلك إلى نصوص الكتاب والسنة، وما علم بالضرورة من أخبار الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، فإنهم دعوا الأمم إليها، وأخبروا بها .
- وإذا تقرر وجوب الإيمان بالوعد والوعيد، ومنه الإيمان بالجنة والنار... فإن ما يناقض هذا الإيمان له عدة صور وأمثلة؛ فمنها: إنكار الوعد والوعيد – ومنه: إنكار الجنة والنار -، والقول بأن الوعد والوعيد تخييل للحقائق لكي ينتفع به الجمهور... كما يقول به ملاحدة الفلاسفة. ومن صور هذا الإنكار والاستهزاء، ما يدعيه ملاحدة المتصوفة أن الجنة أو النار معانٍ باطنةٍ يقصد بها نعيم الأرواح أو تألمها فقط... أو ما يزعمه بعضهم أن أهل النار يتنعمون في النار، كما يتنعم أهل الجنة في الجنة...، ومن صور هذا الكفر: السخرية بالوعد والوعيد والاستهزاء بهما... إلى غير ذلك من الأمثلة .
فمن أمثلة هذه النواقض: إنكار الوعد والوعيد والاستهزاء بهما، ووجه كونه ناقضاً عدة أمور منها ما يلي:
أ- أن الإيمان بنصوص الوعد والوعيد يتضمن الإقرار بها وتصديقها، وإجلالها وإكرامها، وهذا الإنكار يناقض هذا الإيمان، فإنكار الجنة والنار - مثلاً - يناقض تصديق القلب، كما يناقض قول اللسان، والاستهزاء بنصوص الوعد الوعيد - ومنها: نصوص الجنة والنار - يناقض هذا الإجلال والتعظيم؛ لأنه يناقض عمل القلب الذي يوجب توقير وتعظيم نصوص الوعد والوعيد.
ب- أن هذا الإنكار أو الاستهزاء بنصوص الوعد والوعيد تكذيب للقرآن الكريم، حيث فرض الله تعالى الإقرار بآياته، وتصديقها، وعدم اتخاذها هزواً، وأيضاً فإن الله تعالى قد حكم بالكفر على من جحد آياته، كما توعده بالعذاب المهين، وأخبر تعالى بأنه لا أحد أظلم ممن كذّب بآيات الله تعالى، وأنهم لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة...
قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام:157].
وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:40].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الحج:57].
وقال عز وجل: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية:9]
وقد سمى الله تعالى الاستهزاء بآياته كفراً فقال: {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة 65-66].
جـ- أن إنكار نصوص الوعد والوعيد وصرفها عن ظاهرها، أو الاستهزاء بها يتضمن طعناً في الأنبياء عليهم السلام، وتنقّصاً لهم، وأنهم ربما كذبوا لمصلحة الجمهور كما يزعم ملاحدة الفلاسفة، مع أن الأنبياء عليهم السلام صادقون مصدقون، قد بلغوا البلاغ المبين، وأقاموا الحجة على الناس، فهم أفضل الخلق عند الله تعالى، وأكمل الخلق علماً وعملاً، حيث اختصهم الله تعالى بوحيه واصطفاهم من بين سائر الناس.
وإن الطعن في الأنبياء كفر وردة عن الإسلام بل إن الطعن فيهم ينبوع جميع أنواع الكفر، وجماع الضلالات كما قرره ابن تيمية.
يقول ابن تيمية عن هؤلاء الفلاسفة - في هذا الشأن -: فأهل التخييل هم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من متكلم ومتصوف ومتفقه، فإنهم يقولون إن ما ذكره الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق لينتفع بها الجمهور، لا أنه بيّن به الحق، ولا هدى به الخلق، ولا أوضح به الحقائق.
ثم هم على قسمين، منهم من يقول: إن الرسول لم يعلم الحقائق على ما هي عليه، ويقولون إن من الفلاسفة من علمها، وكذلك من الأشخاص الذين يسمونهم الأولياء من علمها، ويزعمون أن من الفلاسفة والأولياء من هو أعلم بالله واليوم الآخر من المرسلين، وهذه مقالة غلاة الملحدين من الفلاسفة والباطنية: باطنية الشيعة وباطنية الصوفية، ومنهم من يقول بل الرسول علمها، لكن لم يبينها، وإنما تكلم بما يناقضها، وأراد من الخلق فهم ما يناقضها؛ لأن مصلحة الخلق في هذه الاعتقادات التي لا تطابق الحق.
ويقول هؤلاء يجب على الرسول أن يخبر بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون، مع أن ذلك باطل؛ لأنه لا يمكن دعوة الخلق إلا بهذه الطريقة التي تتضمن الكذب لمصلحة العباد... .
كما يـذكر ابن تيمية أن في هذا الإنكار نسبة للرسـول إلى التلبيس وعدم البيان، بل إلى كتمان الحق وإضلال الخلق، بـل إلى التكلم بكلام لا يعرف حقه من باطله، ولهذا كان حقيقة أمرهم الإعراض عن الكتاب والرسول...
إضافة إلى ذلك، فإن هذا الإنكار أو الاستهزاء بنصوص الوعد والوعيد، هو تعطيل للشرائع وإبطال للأوامر والنواهي، وتلاعب بالنصوص الشرعية، وتشكيك فيها.
د- أن هذا الإنكار أو الاستهزاء مخالف للإجماع، وتكذيب له، فقد أجمعوا على إثبات الوعد والوعيد والتصديق به، وأجمعوا أيضاً على تكفير منكره أو المستهزئ به، كما سنذكره الآن.
يقول ابن عبد البر: وأما الإقرار بالجنة والنار فواجب مجتمع عليه، ألا ترى أن ذلك مما يكتب في صدور الوصايا مع الشهادة بالتوحيد، وبالنبي صلى الله عليه وسلم .
ويقول القاضي عياض: وكذلك من دان بالوحدانية وصحة النبوة، ونبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن جوز على الأنبياء الكذب فيما أتوا به، ادّعى في ذلك مصلحة بزعمه أو لم يدَّعها فهو كافر بإجماعٍ، كالمتفلسفين وبعض الباطنية، وغلاة المتصوفة، وأصحاب الإباحة؛ فإن هؤلاء زعموا أن ظواهر الشرع وأكثر ما جاءت به الرسل من الإخبار عما كان ويكون من أمور الآخرة والحشر والقيامة، والجنة والنار، وليس منها شيء على مقتضى التصريح لقصور أفهامهم، فمضمن مقالاتهم إبطال الشرائع، وتعطيل الأوامر والنواهي، وتكذيب الرسل والارتياب فيما أتوا به .
ويقول أيضاً:- وكذلك من أنكر الجنة، أو النار، أو البعث، أو الحساب، أو القيامة فهو كافر بإجماعٍ للنص عليه، وإجماع الأمة على صحة نقله متواتراً، وكذلك من اعترف بذلك، ولكنه قال: إن المراد بالجنة، والنار، والحشر، والنشر، والثواب، والعقاب معنى غير ظاهره، وأنها لذَّات روحانية، ومعانٍ باطنة .
ويقول ابن حزم: وأن البعث حقّ، والحساب حقّ، والجنة حقّ، والنار حقّ، داران مخلوقتان مخلدتان، هما ومن فيهما بلا نهاية، يجمع الله تعالى يوم القيامة بين الأرواح والأجساد، كل هذا إجماع أهل الإسلام، من خرج عنه خرج عن الإسلام .
ويقول أيضاً: وأن كل ما في القرآن من أمور الجنة من أكلٍ وشربٍ وجماعٍ، والحور العين، والولدان المخلدين، ولباسٍ وعذابٍ في النار بالزقوم والحميم، والأغلال وغير ذلك فكله حق... فمن خالف شيئاً من هذا فقد خرج عن الإسلام، لخلافه القرآن والسنن والإجماع .
ويحكي ابن حزم الإجماع قائلاً: وأن الجنة حق، وأنها دار نعيم أبداً لا تفنى، ولا يفنى أهلها بلا نهاية، وأنها أعدت للمسلمين والنبيين المتقدمين، وأتباعهم على حقيقة، كما أتوا به قبل أن ينسخ الله أديانهم بدين الإسلام.
وأن النار حق، وأنها دار عذاب أبداً لا تفنى ولا يفنى أهلها أبداً بلا نهاية وأنها أُعدّت لكل كافر مخالف لدين الإسلام... .
ويقول البقاعي: اعلم أنه ثبت بالدلائل العقلية والسمعية وإجماع المسلمين أن قول الله حق، وخبره صدق، ذلك واجب له لذاته سبحانه وتعالى، ومن أنكر أن خبر الله حق، أو أن وعده ووعيده صدق فهو كافر بإجماع المسلمين .
ومما قاله الشوكاني في هذه المسألة: علماء الملّة الإسلامية مجمعون على ذلك (يعني على إثبات المعاد الجسماني، وإثبات اللذات الجسمانية والنفسانية في الجنة...)، لا يخالف منهم فيه مخالف، ونصوص القرآن من فاتحته إلى خاتمته مصرحة بإثبات المعاد الجسماني، وإثبات تنعم الأجسام فيه بالمطعم والمشرب والمنكح وغير ذلك، أو تعذيبها بما اشتمل عليه القرآن من تلك الأنواع المذكورة فيه، وهكذا النصوص النبوية المحمدية مصرحة بذلك تصريحاً يفهمه كل عاقل، بحيث لو جمع ما ورد في ذلك منها لجاء مؤلفاً بسيطاً .
- والآن نسوق جملة من أقوال أهل العلم في تكفير منكر الوعد أو الوعيد، أو المستهزئ بهما...
فذكر ابن نجيم كفر من أنكر الجنة أو النار أو الحساب، كما يكفر من أنكر الوعد والوعيد .
وجاء في (الفتاوى البزازية): أو أنكر وعداً أو وعيداً يكفر، إذا كان الجزاء ثابتاً بالقطع .
ويقول محمد بن إسماعيل الرشيد: واعلم أن من أنكر القيامة، أو الجنة، أو النار، أو الصراط، أو الحساب، أو الصحائف المكتوبة فيها أعمال العباد كفر... .
وكفّر أبو حامد الغزالي من زعم أن الجنة لذة روحية، وأن النار شقاء نفسي... ثم قال: والذي نختاره ونقطع به أنه لا يجوز التوقف في تكفير من يعتقد شيئاً من ذلك؛ لأنه تكذيب صريح لصاحب الشرع، والجميع كلمات القرآن من أولها إلى آخرها، فوصف الجنة والنار لم يتفق ذكره مرة واحدة أو مرتين، ولا جرى بطريق كناية أو توسع وتجوّز، بل بألفاظ صريحة لا يتمارى فيها ولا يُستراب .
وقال الشربيني: ويكفر إن أنكر الجنة، أو النار، أو الحساب، أو الثواب، أو العقاب، أو أقر بها لكن قال: المراد بها غير معانيها .
ويقول ابن تيمية: وقد يقول حذّاق هؤلاء من الإسماعيلية والقرامطة، وقوم يتصوفون، أو يتكلمون وهم غالية المرجئة: إن الوعيد الذي جاءت به الكتب الإلهية إنما هو تخويف للناس لتنزجر عما نهيت عنه من غير أن يكون له حقيقة... وهؤلاء هم الكفار برسل الله وكتبه واليوم الآخر، المنكرون لأمره، ونهيه، ووعده ووعيده .
وذكر البهوتي أن ما مما يوجب الردة: السخرية بالوعد، أو الوعيد .
الباب الخامس: نواقض الإيمان الأخرى
الفصل الأول: النواقض المتفق عليها
المبحث الأول: ما يناقض قول القلب: إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة
تمهيد
إن المعلوم من الدين بالضرورة منه ما هو مشترك بين جميع أفراد الأمة، علماء وعامة، ومنه ما هو مختص بالعلماء فقط، بحيث يكون معلوماً لهم بالضرورة، ولا يكون كذلك لمن هم دونهم في العلم كالعامة مثلاً. إلا أن ما درج عليه الاستعمال الاصطلاحي هو النوع الأول، وهو ما لا يسع أحداً جهله، بحيث يعلمه العالم والعامي على حد سواء.
ولهذا وجب التفصيل في هذه المسألة عندما نريد أن نحدد مدى العذر بالجهل بهذا المعلوم من الدين بالضرورة، كما يجب تحديد الأحوال التي تكون فيها الشريعة معلومة لدى الناس بالاضطرار من دين الإسلام، والأحوال التي لا تكون فيها كذلك، وهذا يرتبط بمسألة قيام الحجة من عدمه.
وعليه فإن إطلاق القول بأن المعلوم من الدين بالضرورة أمر قد قامت به الحجة على جميع الناس، فلا يسعهم جهله ومن ثمة مخالفته، فهذا قول غير دقيق ويحتاج إلى مراجعة وتأمل.
كما أن مساواة المسائل المعلومة من الدين بالضرورة بغيرها من المسائل الخفية في إثبات العذر بجهلها، رغم ظهور الأولى وانتشارها وبغير النظر إلى حال الجاهل ومكانه وزمانه، فهذا أيضاً غير مستقيم
المطلب الأول: تنوع المعلوم من الدين بالضرورة
إن المعلوم من الدين بالضرورة يتنوع بتنوع متعلقه من المسائل والأشخاص والأزمنة والأمكنة، ولذلك يختلف حكم جاحده أو جاهله باختلاف ذلك وتنوعه.
فالمسائل الظاهرة المتواترة تكون في الجملة معلومة للناس من الدين بالضرورة، سواء كانت مسائل الوجوب أو مسائل التحريم، فلابد أن تكون ظاهرة ومتواترة حتى يمكن اعتبارها من المعلوم من الدين بالضرورة.
ومما يندرج تحت هذا النوع جميع الواجبات الظاهرة المتواترة، وجميع المحرمات تحريماً ظاهراً متواتراً.
وهذا الذي عبر عنه الإمام الشافعي بقوله (علم العامة)، ثم عرفه بأنه: (مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر. وما كان في معنى هذا مما كلف العباد أن يعقلوه ويعملوه، ويعطوه من أنفسهم وأموالهم، وأن يكفوا عنه ما حرم عليهم منه. وهذا الصنف كله من العلم موجود نصاً في كتاب الله، موجود عامّ عند أهل الإسلام، ينقله عوامّهم عمن مضى من عوامّهم، يحكونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يتنازعون في حكايته، ولا وجوبه عليهم.
وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر والتأويل، ولا يجوز فيه التنازع) .
وقال شيخ الإسلام – حاكياً اتفاق الصحابة على قتل من استحل الخمر -: (وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام لا يتنازعون في ذلك، ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة كالصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت العتيق، أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة كالفواحش والظلم والخمر والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة كالخبر واللحم والنكاح، فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب، وإلا قتل) .
وقد بنى أهل العلم على كون المعلوم من الدين بالضرورة – عند الإطلاق – ظاهراً ومشتهراً، والناس من العلم به سواء بنوا على هذا قولهم في تكفير جاحده، وفي منع التقليد فيه .
قال الإمام النووي رحمه الله: (وإن جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة، حكم بردته وكفره، وكذا من استحل الزنا أو الخمر أو القتل أو غير ذلك من المحرمات التي يعلم تحريمها ضرورة) .
وقال الإمام الخطابي رحمه الله: (وكذلك الأمر – يعني في التكفير وعدم العذر – في كل من أنكر شيئاً مما أجمعت عليه الأئمة من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً، كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريم الزنا والخمر، ونكاح ذوات المحارم ونحوها من الأحكام) .
وقال الإمام الزركشي رحمه الله عند حديثه عما يجوز فيه التقليد وما لا يجوز: (العلوم نوعان: نوع يشترك في معرفته الخاصة والعامة، ويعلم من الدين بالضرورة كالمتواتر، فلا يجوز التقليد فيه لأحد، كعدد الركعات، وتعيين الصلاة، وتحريم الأمهات والبنات، والزنا واللواط، فإن هذا مما لا يشق على العامي معرفته ولا يشغله عن أعماله) .
كما أن المعلوم من الدين بالضرورة هو من الأمور النسبية الإضافية، حيث إنه يختلف كونه علماً ضرورياً باختلاف الأشخاص من حيث العلم أو العامية، أو حداثة العهد بالإسلام، أو النشوء ببادية بعيدة. قال الإمام ابن الوزير رحمه الله: ("النوع الثاني" ما لا يعرف تواتره إلا الخاصة، فلا يكفر مستحله من العامة، لأنه لم يبلغه، وإنما يكفر من استحله وهو يعلم حرمته بالضرورة، مثل تحريم الصلاة على الحائض إلى أمثال لذلك كثيرة...) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (كون الشيء معلوماً من الدين ضرورة أمر إضافي، فحديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة قد لا يعلم هذا بالكلية، فضلاً عن كونه يعلمه بالضرورة. وكثير من العلماء يعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد للسهو، وقضى بالدية على العاقلة، وقضى أن الولد للفراش، وغير ذلك مما يعلمه الخاصة بالضرورة، وأكثر الناس لا يعلمه البتة) .
كما أن المعلوم من الدين بالضرورة يختلف كونه كذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة من حيث ظهور آثار الرسالة أو دروسها. (فالمعلوم من الدين بالضرورة في الأزمنة (والأمكنة) التي تشرق فيها شمس الشريعة، ويكثر فيها العلماء العاملون الذين يبلغون دين الله ويقيمون الحجة على عباد الله، غير المعلوم من الدين بالضرورة إذا غابت شمس الشريعة، وكان العلماء علماء سوء يلبسون على الناس دينهم، وأهل الحق قليلون، وصوتهم لا يصل إلى الناس كلهم) .
فما يجب اعتباره في هذا المقام اختلاف الديار بين دار الإسلام التي هي مظنة لظهور أحكام الإسلام، ودار الكفر التي ليست مظنة لذلك. واختلاف الأمكنة بين مكان يشيع فيه العلم، وبادية بعيدة على العلم، وأمكنة يشيع فيها العلم الصحيح، وأخرى تخيم عليها الضلالة والانحراف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة التي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما بعث الله به رسوله، ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر...) .
المطلب الثاني: حكم الجهل بالمعلوم من الدين بالضرورة
إنَّ لاختلاف العلم بمسائل الدين ضرورة أثرا قويًّا في اختلاف الحكم على من خالف هذا المعلوم من الدين بالضرورة، إما بجحده، أو بمخالفته.
وفيما يلي سأذكر أهم هذه الأحكام مدعما إياها بأقوال أهل العلم:
1- أن الأحكام الظاهرة والمتواترة، سواء كانت واجبات أو محرمات، إذا كانت كذلك في دار الإسلام، والعلم بها منتشر بين جميع الناس، لا فرق في ذلك بين عالم أو عامي، فإنها تكون من قبيل المعلوم من الدين بالضرورة الذي لا يسع أحداً من المسلمين جهله. وجاحده كافر بلا نزاع بين أهل العلم، والمخالف له بالترك إن كان واجبا، فيعاقب بقدر مخالفته وإن كان حراماً فعله، فكذلك يعاقب على ذلك الفعل.
وعلى هذا المعنى يحمل أقوال العلماء في تكفير جاحد المعلوم من الدين بالضرورة، كقول الإمام النووي، وقول الإمام الخطابي، وقول شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد تقدمت جميعاً. ومن الأقوال في هذا المعنى ما ذكره الإمام ابن قدامة رحمه الله بقوله: (وأما الجاحد لها ناشئاً في الأمصار بين أهل العلم، فإنه يكفر بمجرد جحدها. وكذلك الحكم في. مباني الإسلام كلها، وهي الزكاة والصيام والحج؛ لأنها مبادئ الإسلام وأدلة وجوبها لا تكاد تخفى؛ إذ كان الكتاب والسنة مشحونين بأدلتها، والإجماع منعقد عليها، فلا يجحدها إلا معاند للإسلام يمتنع من التزام الأحكام، غير قابل لكتاب الله تعالى ولا سنة رسوله ولا إجماع أمته...) .
2- أن المعلوم للخاصة من الدين بالضرورة، يعذر جاهله من العامة إذا خالفه باستحلال أو جحود؛ لأنه من أخبار الخاصة التي ليست تبلغها العامة، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله، ولهذا تكون مسائل هذا النوع من العلم غير معلومة بالكلية للعوام، فضلاً عن أن تكون معلومة لهم بالضرورة.
فجاهل هذا النوع من العلم وإن كان معلوماً من الدين بالضرورة عند الإطلاق، معذور حتى يعلمه؛ لأنه خاص بالعلماء، لذلك لم يكن موسعاً لمن كان عالماً في جهله ومخالفته إذا كان مثله لا يجهله، وقد تقدم كلام الإمام ابن الوزير على هذه المسألة. وقال الإمام الخطابي رحمه الله: (أما ما كان الإجماع فيه معلوماً من طريق علم الخاصة، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وأن القاتل عمداً لا يرث، وأن للجدة السدس وما أشبه ذلك من الأحكام، فإن من أنكرها لا يكفر، بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة) .
3- أن من نشأ في بادية بعيدة عن حاضرة العلم والعلماء، أو كان حديث عهد بالإسلام، فإنه يعذر بجهل المعلوم من الدين بالضرورة عند غيره ممن ليسوا حديثي عهد بالإسلام، ويعيشون بين أهل العلم والدعوة؛ لأن في عدم عذره بجهله هذا النوع من العلم تكليفاً له بما لا يطيق في هذه الحالة، وهذا فيه من المشقة ما فيه. وقد علم أن القاعدة في مثل هذه الأحوال أن المشقة تجلب التيسير، ومن التيسير عليه في هذه الحالة عذره بالجهل حتى يتعلم وتقام عليه الحجة القاطعة للعذر.
وهذا الحكم قد نقل الاتفاق عليه بين العلماء، وهذه جملة من أقوالهم:
قال الإمام الخطابي رحمه الله: (هل إذا أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرض الزكاة وامتنعوا عن أدائها، يكون حكمهم حكم أهل البغي؟ قلنا: لا، فإن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان، كان كافراً بإجماع المسلمين. والفرق بين هؤلاء وأولئك أنهم إنما عذروا لأسباب وأمور لا يحدث مثلها في هذا الزمان، منها قرب العهد بزمان الشريعة التي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ، ومنها أن القوم كانوا جهالاً بأمور الدين وكان عهدهم بالإسلام قريباً، فدخلتهم الشبهة فعذروا. فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام، واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها. وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئاً مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً، كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريم الزنا والخمر، ونكاح ذوات المحارم، ونحوها من الأحكام، إلا أن يكون رجلاً حديث عهد بالإسلام ولا يعرف حدوده، فإنه إذا أنكر شيئاً منه جهلاً به، لم يكفر، وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليه) .
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله عند كلامه عمن جحد وجوب الصلاة: (لا خلاف بين أهل العلم في كفر من تركها جاحداً لوجوبها، إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك. فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام والناشئ بغير دار الإسلام، أو بداية بعيدة عن الأمصار وأهل العلم، لم يحكم بكفره، وعرف ذلك وتثبت له أدلة وجوبها، فإن جحدها بعد ذلك كفر... وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله لا يحكم بكفره حتى يعرف ذلك، وتزول الشبهة ويستحله بعد ذلك) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة، فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول) .
وقال أيضاً رحمه الله: (ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر محرم، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية) .
والخلاصة: أن الحكم في مسألة المعلوم من الدين بالضرورة ومدى العذر بجهله ليس مطرداً، بل مجاله التفصيل على النحو الذي مر معنا؛ نظراً لاختلاف مناط الحكم بحسب الأحوال المعلقة بالمسائل العلمية، أو بالأشخاص ما بين علماء وعامة وحديث عهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة، أو بالأمكنة والأزمنة من حيث ظهور العلم وانتشاره أو دروسه وقلة حملته على الوجه الصحيح – والله تعالى أعلم.
المطلب الثالث: إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة
فالإنكار بمعنى الجحود، وعدم الاعتراف وانتفاء الإقرار، والمقصود بحكم معلوم من الدين بالضرورة: ما كان ظاهراً متواتراً من أحكام الدين معلوماً عند الخاص والعام، مما أجمع عليه العلماء إجماعاً قطعياً مثل وجوب أحد مباني الإسلام كالصلاة والزكاة ونحوهما، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة مثل: الربا والخمر وغيرهما .
ومن المعلوم أن الإيمان قائم على تصديق حكم الله تعالى، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أهم هذه الأحكام وآكدها: الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة... ولذا يقول ابن تيمية: إن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة هو من أعظم أصول الإيمان، وقواعد الدين، والجاحد لها كافر بالاتفاق .
ويقول - في موضع آخر -: الحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وليس لأحد أن يخرج عن شيء مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الشرع الذي يجب على ولاة الأمر إلزام الناس به، ويجب على المجاهدين الجهاد عليه، ويجب على كل واحد اتباعه ونصره .
وهكذا الحكم المعلوم من الدين بالضرورة، والذي يعتبر منكره كافراً، له قيود يمكن معرفتها وتحديدها من خلال ما سنورده من كلام أهل العلم فيما يلي:
فهذا الشافعي يبيّن أن من الأحكام ما هو معلوم عند العامة فضلاً عن الخاصة فلا يسعهم جهله فيقول: العلم علمان: علم عامةٍ لا يسع بالغاً غير مغلوبٍ على عقله جهله، مثل: الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر، وما كان في معنى هذا، مما كلّف العباد أن يعقلوه ويعملوه ويعطوه من أنفسهم وأموالهم، وأن يكفوا عما حرم عليهم منه.
وهذا الصنف كله من العلم موجوداً نصاً في كتاب الله، وموجوداً عاماً عند أهل الإسلام، ينقله عوامهم عن من مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله، ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم.
وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر، ولا التأويل، لا يجوز فيه التنازع .
ويقول - في موضع آخر -: أما ما كان نص كتاب بيّن، أو سنة مُجتمع عليها فالعذر مقطوع، ولا يسع الشك في واحدٍ منهما، ومن امتنع من قبوله استتيب .
ويقرر النووي أن هذه الأحكام ثابتة بالإجماع المعلوم عند العامة فيقول: فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام، واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئاً مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة وتحريم الزنا والخمر ونكاح ذوات المحارم...
فأما ما كان الإجماع فيه معلوماً عن طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وأن القاتل عمداً لا يرث، وأن للجدة السدس وما أشبه ذلك من الأحكام، فإن من أنكرها لا يكفر، بل يعذّر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة .
ويقول - في كتاب آخر -: أطلق الإمام الرافعي القول بتكفير جاحد المجمع عليه، وليس هو على إطلاقه، بل من جحد مجمعاً عليه فيه نص، وهو من أمور الإسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخواص والعوام كالصلاة، أو الزكاة، أو الحج، أو تحريم الخمر أو الزنا ونحو ذلك فهو كافر، ومن جحد مجمعاً عليه لا يعرفه إلا الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب وتحريم نكاح المعتدة، وكما إذا أجمع أهل عصر على حكم حادثة فليس بكافر... .
ويؤكد ابن دقيق العيد على ما قرره النووي، وأن الإجماع الذي يكفر منكره، إنما يكفر لتعلقه بمخالفة النص الظاهر المتواتر، فيقول: فالمسائل الإجماعية تارة يصحبها التواتر عن صاحب الشرع كوجوب الصلاة مثلاً، وتارة لا يصحبها التواتر، فالقسم الأول يكفر جاحده لمخالفته التواتر، لا لمخالفته الإجماع، والقسم الثاني لا يكفر به .
كما أننا نجد القرافي قد جعل منكر الإجماع كافراً، لكن بشرط أن يكون المجمع عليه مشتهراً في الدين فقال: ولا يعتقد أن جاحد ما أُجمع عليه يكفر على الإطلاق، بل لابد أن يكون المجمع عليه مشتهراً في الدين حتى صار ضرورياً، فكم من المسائل المجمع عليها إجماعاً لا يعلمه إلا خواص الفقهاء، فجحْدُ مثل هذه المسائل التي يخفى الإجماع فيها ليس كفراً... .
ولابن تيمية كلام قريب مما سبق إيراده عندما قال: وقد تنازع الناس في مخالف الإجماع: هل يكفر؟ على قولين. والتحقيق: أن الإجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص بتركه، لكن هذا لا يكون إلا فيما علم ثبوت النص به، وأما العلم بثبوت الإجماع في مسألةٍ لا نص فيها فهذا لا يقع، وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره .
وهكذا نلحظ في عبارة ابن تيمية أنه ينفي ثبوت إجماع معلوم في مسألة لا نص فيها... ولذا يقول في موضع آخر: فلا يوجد قَطّ مسألة مجمع عليها، إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به .
ويقيد العراقي - موافقة لمن مضى ذكرهم - كفر منكر الإجماع بقوله: والصحيح في تكفير منكر الإجماع تقييده بإنكار ما علـم وجوبه من الدين بالضرورة كالصلوات الخمس، ومنهم من عبر بإنكار ما علم وجوبه بالتواتر .
ويوضح ابن الوزير المقصود بالإجماع الذي يعتبر مخالفه كافراً فيقول: اعلم أن الإجماعات نوعان: أحدهما: صحته بالضرورة من الدين بحيث يكفر مخالفه، فهذا إجماع صحيح ولكنه مستغنى عنه بالعلم الضروري من الدين، وثانيها: ما نزل عن هذه المرتبة، ولا يكون إلا ظناً، لأنه ليس بعد التواتر إلا الظن، وليس بينهما في النقل مرتبة قطعية بالإجماع .
- وإذا اتضح مفهوم إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة، فإننا نشير إلى أن هذا الإنكار له عدة صور وأمثلة، فربما كان إنكاراً صريحاً ظاهراً كأن يقول - مثلاً - بإنكار وجوب الصلاة أو الزكاة... أو يقول بحل الربا، أو الخمر... أو يقول بتحريم ما كان حلالاً بالإجماع كالخبز والماء ونحوهما...، وقد يكون الإنكار عن طريق تأويلٍ فاسدٍ غير سائغٍ تأباه اللغة العربية، كتأويل الباطنية القائلين: أن الفرائض: أسماء رجال أُمروا بولايتهم، والمحرمات: أسماء رجال أمروا بالبراءة منهم، فقد أجمع العلماء على كفر أصحاب تلك المقالة ، وكذلك ما يزعمه ملاحدة الصوفية أن من وصل إلى درجة اليقين فقد سقطت عنه التكاليف .
ومما يلحق بهذا الإنكار - في الحكم بالكفر - أن يعترف شخص ما بهذا الحكم المعلوم من الدين بالضرورة... لكنه يعلن عدم قبوله لهذا الحكم، ويأبى أن يذعن لله تعالى، ويرفض الانقياد لهذا الحكم عناداً واستكباراً، وقد فصّل ابن تيمية هذه المسألة تفصيلاً شافياً فقال: إن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه، واعتقاد انقياده لله فيما حرمه وأوجبه، فهذا ليس بكافرٍ، فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه، أو أنه حرمه، لكن امتنع من قبول هذا التحريم، وأبى أن يذعن لله وينقاد فهو إما جاحد أو معاند، ولهذا قالوا: من عصى الله مستكبراً كإبليس كفر بالاتفاق، ومن عصى مشتهياً لم يكفر عند أهل السنة والجماعة، وإنما يكفّره الخوارج، فإن العاصي المستكبر وإن كان مصدّقاً بأن الله ربه، فإن معاندته له ومحادّته تنافي هذا التصديق. وبيان هذا أن من فعل المحارم مُسْتَحلاً فهو كافر بالاتفاق، فإنه ما آمن بالقرآن من استحلّ محارمه، وكذلك لو استحلها من غير فعل، والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارةً بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهو يكون لخللٍ في الإيمان بالربوبية، ولخللٍ في الإيمان بالرسالة، ويكون جحداً محضاً غير مبنيٍ على مقدمةٍ، وتارةٍ يعلم أن الله حرمها، ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله، ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم، ويعاند المحرم، فهذا أشد كفراً ممن قبله، وقد يكون هذا مع علمه أن من يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه، ثم إن هذا الامتناع والإباء، إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته، فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمرداً أو اتباعاً لغرض النفس؛ وحقيقته كفر هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به، ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك، ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول: أنا لا أقرّ بذلك، ولا ألتزمه، وأبغض هذا الحق وأنفر عنه، فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلـوم بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع... .
وبهذا يعلم أن مما يعد كفراً ويلحق بإنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة، أن لا يقبل حكم الله تعالى، مع علمه بأنه حكم الله تعالى واعترافه به، فهو يأبى ويمتنع من قبول هذا الحكم، ولذا قال إسحاق بن راهويه: وقد أجمع العلماء أن من دفع شيئاً أنزله الله... وهو مع ذلك مُقرّ بما أنزل الله أنه كافر . فمناط الكفر - هاهنا - هو الترك والرد والإباء، لا عدم التصديق، ولهذا قرن الله تعالى في كتابه كفر التولي بكفر التكذيب؛ لأنه غيره كما قال سبحانه: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31-32]. وقال تعالى: {لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:15-16].
-والآن نورد بعض الاعتبارات التي جعلت إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة كفراً وناقضاً من نواقض الإيمان:
أ- إن هذا الإنكار افتراءً على الله سبحانه، ولا أحد أعظم ظلماً، ولا أكبر جرماً ممن افترى على الله تعالى كذباً،كما قال سبحانه:- {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21].
ويقول عز وجل: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:17].
وقال عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} [يونس:59-60].
ويقول سبحانه: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل:115-117]
يقول ابن كثير في تفسير تلك الآيات الأخيرة: ثم نهى الله تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغير ذلك مما كان شرعاً لهم ابتدعوه في جاهليتهم؛ فقال: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ} ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي، أو حلل شيئاً مما حرم الله، أو حرم شيئاً مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهيه... ثم توعّد على ذلك فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} أي: في الدنيا ولا في الآخرة ، وأما في الدنيا فمتاع قليل وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم... .
كما أن إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة اعتراض على شرع الله تعالى، ومشابهة للمشركين القائلين إنما البيع مثل الربا، ولذا يقول ابن تيمية: معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال، وتقديم ذلك عليها هو من فعل المكذبين للرسل، بل هو جماع كل كفر كما قال الشهرستاني في أول كتابه المعروف بـ (الملل والنحل) ما معناه: أصل كل شر هو من معارضة النص بالرأي، وتقديم الهوى على الشرع ، وهو كما قال... .
إضافة إلى ذلك فهذا الإنكار طعن في ربوبية الله تعالى وأسمائه وصفاته، فتصديق أحكام الله تعالى والإقرار بها من مقتضيات إثبات الربوبية لله تعالى وحده، فحقيقة الرضا بالله تعالى رباً يتضمن الإقرار بأمره تعالى الشرعي والكوني، كما قال سبحانه {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54].
وهذا الإنكار مناقض لأصل الرضا بربوبية الله عز وجل.
كما أنه طعن في أسماء الله تعالى وصفاته، فهذا الإنكار يناقض إثبات كمال العلم لله تعالى، وينافي كمال حكمته عز وجل، ولذا قال ابن تيمية: وتارةً يعلم أن الله حرّمها، ويعلم أن الرسول إنما حرّم ما حرمه الله ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم، ويعاند المحرم فهذا أشد كفراً ممن قبله، وقد يكون هذا مع علمه أنّ من لم يلتزم التحريم عاقبه الله وعذبه، ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته، فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته... .
ويقـول ابن كثير عند تفسيره لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]: وهذا اعتراض منهم على الشرع، أي هذا مثل هذا، وقد أحل هذا وحرم هذا، ويحتمل أن يكون من تمام الكلام رداً عليهم، أي: على ما قالوه من الاعتراض مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكماً، وهو العليم الحكيم الذي لا معقّب لحكمه، ولا يُسئل عما يفعل وهم يُسئلون، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها، وما ينفع عباده فيبيحه لهم، وما يضرهم فينهاهم عنه، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل .
ب- أن الإيمان يتضمن الإقرار والتصديق، وهذا الإنكار تكذيب وجحود، فهو يناقض الإيمان ولا يجامعه، فإن إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة تكذيب لآيات كتاب الله عز وجل، وقد أمر الله تعالى بتصديق آياته، والإقرار بها، كما حكم الله تعالى بالكفر على من جحد آياته وأنكرها، وتوعدهم بالعذاب المهين ، وأنهم لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة.
فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:40].
وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الحج:57].
وقال تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ} [العنكبوت: 47].
وقال تبارك وتعالى: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:27-28]
جـ- إن هذا الإنكار تكذيب ظاهر للأحاديث الصريحة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو طعنٌ في مقام الرسالة، وكما قال ابن تيمية: والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارةً بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية ولخلل في الإيمان بالرسالة... .
وقد قرر العلماء أن من ردّ حديثاً صحيحاً، أو كذّبه فهو كافر.
حتى قال إسحاق بن راهويه: من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقرّ بصحته، ثم رده بغير تقية فهو كافر .
ويقول ابن بطة: لو أن رجلاً آمن بجميع ما جاءت به الرسل إلا شيئاً واحداً كان برد ذلك الشيء كافراً عند جميع العلماء .
وقـال ابن الوزيـر: إن التكذيب لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلم أنه حديثه كفر صريح .
فإذا كان هؤلاء العلماء الأجلاء قد كفّروا من كذّب بحديثٍ واحدٍ، فكيف بحال مُنْكِر الأحاديث المتواترة؟
ويدل على ما سبق حديث البراء بن عازب رضي الله عنه حيث قال: مر بي عمي (وفي رواية: خالي) الحارث بن عمرو ومعه لواء قد عقده له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فسألته، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب عنق رجل تزوج امرأة أبيه .
فمن المعلوم قطعاً تحريم نكاح زوجات الآباء إجماعاً، ولذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل من تزوج امرأة أبيه؛ لأنه مرتد عن الإسلام، قال تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً} [النساء:22].
يقول ابن كثير - عن هذا النكاح -: فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه، فيقتل ويصير ماله فيئاً لبيت المال .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ويقول ابن جرير في شرح حديث البراء: وكان الذي عرّس بزوجة أبيه متخطياً بفعله حرمتين، وجامعاً بين كبيرتين من معاصي الله، إحداهما: عقد نكاح على من حرم الله عقد النكاح عليه بنص تنزيله بقوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء} [النساء:22]. والثانية: إتيانه فرجاً محرماً عليه إتيانه، وأعظم من ذلك تقدمه على ذلك بمشهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلانه عقد النكاح على من حرم الله عليه عقده عليه بنص كتابه الذي لا شبهة في تحريمها عليه وهو حاضره، فكان فعله ذلك من أدل الدليل على تكذيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما آتاه به عن الله تعالى، وجحوده آية محكمة في تنزيله... فكان بذلك من فعله حكم القتل وضرب العنق، فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله وضرب عنقه؛ لأن ذلك كان سنته في المرتد عن الإسلام .
وقال الشوكاني: والحديث فيه دليل على أنه يجوز للإمام أن يأمر بقتل من خالف قطعياً من قطعيات الشريعة كهذه المسألة، فإن الله تعالى يقول: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء} [النساء:22]، ولكنه لا بد من حمل الحديث على أنّ ذلك الرجل الذي أمر صلى الله عليه وسلم بقتله عالم بالتحريم وفعله مستحلاً، وذلك من موجبات الكفر .
- أجمع العلماء على تكفير من أنكر حكماً معلوماً من الدين بالضرورة، وقد حكى هذا الإجماع عدد كثير من أهل العلم، نذكر منهم ما يلي:
يقول ابن عبد البر: وقد أجمعوا على أن مُستحل خمر العنب المسكر كافر رادٌّ على الله عز وجل خبره في كتابه، مرتد يستتاب، فإن تاب ورجع عن قوله، وإلا استبيح دمه كسائر الكفار .
ويقول أيضاً: قال إسحاق بن راهويه: قد أجمع العلماء أن من سبّ الله عز وجل، أو سبّ رسوله صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئاً أنزله الله، أو قتل نبياً من أنبياء الله، وهو مع ذلك مقرٌّ بما أنزل الله، أنه كافر .
ويقول القاضي عياض: وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل، أو شرب الخمر، أو الزنا مما حرم الله، بعد علمه بتحريمه، كأصحاب الإباحة من القرامطة وبعض غلاة الصوفية.
وكذلك نقطع بتكفير كل من كذّب، وأنكر قاعدة من قواعد الشرع، وما عُرف يقيناً بالنقل المتواتر من فعل الرسول، ووقع الإجماع المتَّصل عليه، كمن أنكر وجوب الخمس الصلوات... وكذلك أجمع المسلمون على تكفير من قال من الخوارج: إن الصلاة طرفي النهار .
ويقول ابن حزم: واتفقوا أن من آمن بالله تعالى، وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وبكل ما أتى به عليه السلام، مما نقل عنه نقل الكافة، وشك في التوحيد، أو في النبوة، أو في محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أو في حرفٍ مما أتى به عليه السلام، أو في الشريعة التي أتى بها عليه السلام، مما نقل عنه نقل الكافة، فإن من جحد شيئاً مما ذكرناه، أو شك في شيءٍ منه، ومات على ذلك، فإنه كافر مشرك مخلد في النار أبداً .
ويقول أيضاً: ولا خلاف بين اثنين من الأمة كلها أن من كفر بالصلاة، أو بالزكاة، أو بالحج، أو بالعمرة، أو بشيءٍ مما أجمع المسلمون عليه على أن الله تعالى بيّنه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ونصّ عليه من أعمال الشريعة فإنه كافر، حابط العمل .
ويورد أبو يعلى هذا الإجماع بقوله: ومن اعتقد تحليل ما حرم الله بالنص الصريح من الله، أو من رسوله، أو أجمع المسلمون على تحريمه فهو كافر، كمن أباح شرب الخمر، ومنع الصلاة والصيام والزكاة، وكذلك من اعتقد تحريم شيء حلله الله وأباحه بالنص الصريح، أو أباحه رسوله، أو المسلمون مع العلم بذلك فهو كافر كمن حرم النكاح والبيع والشراء على الوجه الذي أباحه الله عز وجل، والوجه فيه أن في ذلك تكذيباً لله تعالى، ولرسوله في خبره، وتكذيباً للمسلمين في خبرهم، ومن فعل ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين .
ويحكي ابن قدامة الإجماع في هذه المسألة فيقول: ومن اعتقد حلّ شيء أُجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة كلحم الخنزير، والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر... وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك (يعني يكون كافراً) .
ويورد ابن تيمية إجماع الصحابة والأئمة من بعدهم على هذه المسألة فيقول: اتفق الصحابة على أنّ من استحل الخمر قتلوه... وهذا الذي اتفق عليه الصحابة، وهو متفق عليه بين أئمة الإسلام لا يتنازعون في ذلك، ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة: كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة كالفواحش، والظلم، والخمر، والميسر، والزنا وغير ذلك، أو جحد حلّ بعض المباحات الظاهرة المتواترة كالخبز، واللحم، والنكاح، فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل .
ويقول أيضاً: والإنسان متى حلل الحرام - المجمع عليه - أو حرم الحلال - المجمع عليه - أو بدّل الشرع - المجمع عليه - كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء .
وذكر ابن الوزير: إجماع الأمة على تكفير من خالف الدين المعلوم بالضرورة والحكم بردته .
ويقول: واعلم أن أصل الكفر هو التكذيب المتعمد لشيءٍ من كتب الله تعالى المعلومة، أو لأحدٍ من رسله عليهم السلام، أو لشيءٍ مما جاؤا به، إذا كان ذلك الأمر المكذَّب به معلوماً بالضرورة من الدين، ولا خلاف أن هذا القدر كفر، ومن صدر عنه فهو كافر إذا كان مكلفاً مختاراً غير مختلّ العقل، ولا مكره، وكذلك لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع، وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى، بل جميع القرآن والشرائع والمعاد...
ويقول ملا علي قاري: لا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، فإنه يستتاب فإن تاب منها، وإلا قتل كافراً مرتداً .
- ونختم هذا المبحث بإيراد طرف من أقوال العلماء في هذه المسألة:
يقول الإمام أحمد: ولا يخرج الرجل من الإسلام شيء إلا الشرك بالله العظيم أو بردّ فريضة من فرائض الله عز وجل جاحداً بها .
ويقول البربهاري: ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يردّ آيةً من كتاب الله عز وجل، أو يردّ شيئاً من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم.. فإذا فعـل شيئاً من ذلك فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام .
... ويقول ابن حزم: فمن أحلّ ما حرّم الله تعالى وهو عالمٌ بأن الله تعالى حرّمه فهو كافر بذلك الفعل نفسه، وكل من حرّم ما أحلّ الله تعالى فقد أحلّ ما حرّم الله عز وجل؛ لأن الله تعالى حرّم على الناس أن يحرّموا ما أحل الله .
ويقول ابن نجيم الحنفي: والأصل أن من اعتقد الحرام حلالاً، فإن كان حراماً لغيره كمالِ الغيْرِ لا يكفر، وإن كان لعينه فإن كان دليله قطعياً كفر، وإلا فلا، وقيل التفصيل في العالم، أما الجاهل فلا يُفرّق بين الحلال والحرام لعينه ولغيره، وإنما الفرق في حقه إنما كان قطعياً كفر به، وإلا فلا، فيكفر إذا قال: الخمر ليس بحرام، وقيده بعضهم بما إذا كان يعلم حرمتها، لا بقوله: الخمر حرام، ولكن ليست هذه التي تزعمون أنها حرام، ويكفر من قال: إن حرمة الخمر لم تثبت بالقرآن، ومن زعم أن الصغائر والكبائر حلال، وباستحلاله الجماع للحائض .
وجاء في (الفتاوى البزازية): من اعتقد الحلال حراماً، أو على العكس يكفر .
وقد ساق محمد بن إسماعيل الرشيد الحنفي ألفاظاً كثيرة من كتب الأحناف تتضمن هذا الإنكار، فمن ذلك قوله: وفي الظهيرية: ومن قيل له: كُلْ من الحلال، فقال: الحرام أحبّ إليَّ كفر، أو قال: يجوز لي الحرام كفر.
وفي الجواهر: من قال: ليت الخمر أو الزنا، أو الظلم، أو قتل الناس كان حلالاً كفر، ومن أنكر حرمة الحرام المجمع على حرمته، أو شك فيهما كالخمر والزنا واللواطة والربا، أو زعم أن الصغائر والكبائر حلال كفر.
وفي اليتيمية: من قال بعد استيقانه بحرمـة شيء أو بحرمـة أمر: هـذا حلال كفر، ومن أجاز بيع الخمر كفر .
وذكر الدردير أنه يكفر إذا أنكر مجمعاً عليه كوجوب الصلاة أو تحريم الزنا، أو حلّ مجمع على عدم إباحته، مما علم من الدين ضرورة بكتاب الله تعالى، أو سنة متواترة، فلا يكفر بإنكار إعطاء السدس لبنت الابن مع البنت وإن كان مجمعاً عليه لعدم علمه بالضرورة، ولا بإنكار خلافة علي رضي الله عنه ونحوه، أو وجود بغداد؛ لأنه ليس من الدين، ولا يتضمن تكذيب قرآن .
وقيد النووي الكلام السابق - كما مضى ذكره مفصلاً - فذكر أن من جحد مجمعاً عليه معلوم من دين الإسلام ضرورة فهو يكفر إن كان فيه نص.
وذكر الشربيني أن من حلل محرماً بالإجماع كفر، كمن استحل الزنا واللواط والظلم وشرب الخمر، ومن هذا لو اعتقد حقّيّة المكس، مع حرمة تسميته حقاً. ويكفر - كما قرر الشربيني - فيما لو حرم حلالاً بالإجماع كالبيع والنكاح، أو نفى وجوب مجمع عليه كوجوب ركعة من الصلوات الخمس، كما يكفر إذا اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع كزيادة ركعة من الصلاة المفروضة، أو وجوب صوم يوم من شوال .
ثم قال الشربيني: لو قال أو نفى مشروعية مُجْمَعٍ عليه، لشمل إنكار المجمع على ندبـه، فقد صرح البغوي في تعليقه: بتكفير من أنكر مجمعاً على مشروعيته من السـنن كالرواتب وصلاة العيدين، وهـو لأجل تكذيب التواتر... .
وقال عميرة: ويكفر إذا حلل محرماً بالإجماع لحديث معاوية بن قرة عن أبيه: ((أنه صلى الله عليه وسلم بعث أباه إلى رجل عرس بامرأة أبيه فضرب عنقه، وأصفي ماله)) ، وحمل هذا على أنه استحلّ ذلك، ويكفر إذا نفى وجوب مجمع عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((والتارك لدينه المفارق للجماعة)) ، .
وقال قليوبي: ويكفر إذا حلل محرماً بإجماع الأئمة الأربعة - وكذا العكس -، ولابد من كونه معلوماً بالضرورة فخرج إنكار أنّ لبنت الابن السدس مع بنت الصلب، فلا يكفر به ولو من عالم به خلافاً لبعضهم... .
ويقول ابن رجب: قد يترك الرجل دينه، ويفارق الجماعة، وهو مقرّ بالشهادتين، ويدعي الإسلام، كما إذا جحد شيئاً من أركان الإسلام... .
وقرر مرعي بن يوسف الكرمي كفر من جحد وجوب عبادة من الخمس، ومنها الطهارة، أو حكماً ظاهراً مجمعاً عليه إجماعاً قطعياً، بلا تأويل كتحريم زنى أو لحم - لا شحم - خنزير أو حشيشة أو حِلَّ خبزٍ ونحوه، أو شك فيه، ومثله لا يجهله، أو يجهله، وعرف وأصر .
وقال البهوتي: من استحلّ الحشيشة المسكرة كفر بلا نزاع، وإن جحد وجوب العبادات الخمس المذكورة في حديث: ((بني الإسلام على خمس...)) ، أو جحد شيئاً منها، ومنها الطهارة من الحدثين كفر، أو جحد حِلَّ الخبز واللحم والماء، أو أحل الزنا ونحوه كشهادة الزور واللواط، أو أحل ترك الصلاة، أو جحد شيئاً من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها كلحم الخنزير والخمر وأشباه ذلك، أو شك فيه ومثله لا يجهله، كفر؛ لأنه مكذب لله ولرسوله وسائر الأمة .
ويعلل البهوتي - في كتاب آخر - السبب في كفر منكر حكم معلوم من الدين بالضرورة، فيقول: لمعاندته للإسلام، وامتناعه من قبول الأحكام، غير قابل لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة
وقال إبراهيم اللقاني في (جوهرة التوحيد) :

ومن لمعلوم ضرورة جحد
من ديننا يقتل كفراً ليس حد

ومثل هذا من نفى لمجمـع
أو استباح كالزنا فلتسـمع

وقال البيجوري شارحاً لهذين البيتين: من جحد أمراً معلوماً من أدلة ديننا يشبه الضرورة، بحيث يعرفه خواص المسلمين وعوامهم، كوجوب الصلاة والصوم وحرمة الزنا والخمر ونحوها، يقتل لأجل كفره؛ لأن جحده لذلك مستلزم لتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، من نفى حكماً مجمعاً عليه إجماعاً قطعياً، وهو ما اتفق المعتبرون على كونه إجماعاً، بخلاف الإجماع السكوتي، فإنه ظني لا قطعي، وظاهر كلام الناظم أن من نفى مجمعاً عليه يكفر، وإن لم يكن معلوماً من الدين بالضرورة، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، وهو ضعيف وإن جزم به الناظم، والراجح أنه لا يكفر من نفى المجمع عليه إلا إذا كان معلوماً من الدين بالضرورة .
وقال الشوكاني: قد تقرر في القواعد الإسلامية: أن منكر (الإجماع) القطعي وجاحده، والعامل على خلافه تمرداً، أو عناداً، أو استحلالاً، أو استخفافاً كافر بالله، وبالشريعة المطهرة التي اختارها الله لعباده .
وقال السعدي: ومن جحد وجوب الصلاة، أو وجوب الزكاة، أو الصيام، أو الحج، فهو مكذّب لله ورسوله، ولكتاب الله وسنة نبيه وإجماع المسلمين، وهو خارج من الدين بإجماع المسلمين، ومن أنكر حكماً من أحكام الكتاب والسنة ظاهراً مجمعاً عليه إجماعاً قطعياً كمن ينكر حِلّ الخبز والإبل والبقر والغنم ونحوها مما هو ظاهر، أو ينكر تحريم الزنا أو القذف أو شرب الخمر، فضلاً عن الأمور الكفرية والخصال الشركية، فهو كافر مكذّب لكتاب الله وسنة نبيه متّبع غير سبيل المؤمنين .
ويقول محمد بن إبراهيم آل الشيخ: إن من الأصول المتقررة المتفق عليها بين أهل العلم أن من جحد أصلاً من أصول الدين، أو فرعاً مجمعاً عليه، أو أنكر حرفاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعياً، فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة .
ويقول محمد سلطان المعصومي: إن تحريم الحلال وتحليل الحرام القطعي كفر، وكذا الحكم في الحل والحرمة والمنع والجواز جزافاً بلا دليل، فمن حرم ما حلله الشرع أو عكسه فقد كفر، لقول الله تعالى في سورة النحل:- {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل:116]
وأخرج الطبراني في (الكبير)والسيوطي في (الصغير) عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أطيعوني ما كنت بين أظهركم، وعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله، وحرموا حرامه)) .
الفصل الثاني: النواقض المختلف عليها
المبحث الأول: النواقض القولية
المطلب الأول: سب الصحابة رضي الله عنهم
سب الصحابة ليس على مرتبة واحدة، بل له مراتب متفاوتة، فإن سب الصحابة أنواع ودركات، فمنها سب يطعن في عدالتهم، ومنها سب لا يوجب الطعن في عدالتهم، وقد يكون السب لجميعهم، وأكثرهم وقد يكون لبعضهم، وهناك سب لمن تواترت النصوص بفضله، ومنهم دون ذلك.
وسنورد جملة من أنواع سب الصحابة رضي الله عنهم مما يعد ناقضاً من نواقض الإيمان على النحو التالي:-
أ - إن كان مستحلاً لسب الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر ، فمن المعلوم أن جميع الصحابة رضي الله عنهم عدول، وقد أجمع العلماء على عدالتهم، لما جاء في الكتاب والسنة من الثناء الحسن عليهم، المدح لهم ونقل هذا الإجماع جمع كثير من العلماء، منهم النووي حيث يقول:-
(وكلهـم عدول رضي الله عنهم، ومتأولون في حروبهم وغيرها، ولم يخرج شيء من ذلك أحداً منهم عن العدالة …
-إلى أن قال – ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم، وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين) .
ويقول ابن الصلاح في مقدمته: (للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمـر مفروغ منه، لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة.
- إلى أن قال – ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتن منهم فكذلك، بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحساناً للظن بهم، نظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر وكأن الله سبحانه أتاح الإجماع على ذلك، لكونهم نقلة الشريعة والله أعلم) .
ويقول ابن كثير: (والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة لما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز، وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم، وما بذلوه من الأموال والأرواح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغبة فيما عند الله من الثواب الجزيل، والجزاء الجميل) .
وقد تقرر أن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام بالكتاب والسنة، قال تعالى:- {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12].
قال ابن تيمية: (وأدنى أحوال الساب لهم أن يكون مغتاباً) .
وقال عز وجل: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران: 119].
قال ابن تيمية: (ومحبة الشيء كراهته لضده، فيكون الله يكره السب لهم الذي هو ضد الاستغفار، والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) ) .
فسب الصحابة كبيرة من كبائر الذنوب، لما ترتب عليه من الوعيد باللعنة ، واستحلال سبهم إنكار لما علم تحريمه من الدين بالضرورة، ومن ثم فهو خروج عن الملة).
ولذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب:-
(فإذا عرفت أن آيات القرآن تكاثرت في فضلهم والأحاديث المتواترة بمجموعها ناصة على كمالهم … فإن اعتقد حلية سبهم أو إباحته فقد كفر، لتكذيبه ما ثبت قطعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكذبه كافر) .
(ب) ومما يناقض الإيمان: أن يسب جميع الصحابة، أو جمهورهم سباً يقدح في دينهم وعدالتهم، كأن يرميهم بالكفر، أو الفسق، أو الضلال، وبيان ذلك من خلال النقول الآتية:-
يقول القاضي عياض: ( وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة وتكفير جميع الصحابة، كقول الكميلية من الرافضة بتكفير جميع الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم... لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها إذ قد انقطع نقلها ونقل القرآن، إذ ناقلوه كفرة على زعمهم، وإلى هذا – والله أعلم – أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة) .
ويقول ابن تيمية: (وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب في كفره؛ لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع: من الرضى والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتـاب والسنة كفار أو فساق، وأن هذه الآية التي هي {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وخيرها هو القرن الأول، كان عامتهم كفاراً أو فساقاً، ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ويقول السبكي: (إن سب الجميع لا شك أنه كفر... وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول الطحاوي: وبغضهم كفر، فإن بغض الصحابة بجملتهم لا شك أنه كفر) .
ويقول ابن كثير: (ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم ذلك - أي كتمان الوصية لعلي بالخلافة …- فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطؤ على معاندة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضادته في حكمه ونصه، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام، وكفر بإجماع الأئمة الأعلام، وكان إراقة دمه أحل من إراقة المدام...) .
ويقول ابن حجر الهيتمي: (إن تكفير جميع الصحابة كفر؛ لأنه صريح في إنكار جميع فروع الشريعة الضرورية فضلاً عن غيرها...) .
ويذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن القول بارتداد الصحابة عدا خمسة أو ستة نفر هو: (هدم لأساس الدين؛ لأن أساسه القرآن والحديث، فإذا فرض ارتداد من أخذ من النبي صلى الله عليه وسلم إلا النفر الذين لا يبلغ خبرهم التواتر، وقع الشك في القرآن والأحاديث) .
ويقول أيضاً: (ومن نسب جمهور أصحابه صلى الله عليه وسلم إلى الفسق والظلم، وجعل اجتماعهم على الباطل فقد أزدرى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وازدراؤه كفر) .
ويقول محمد العربي بن التباني المغربي :-
(كيف يؤمن بنصوص القرآن من يكذب بوعده تعالى لهم بالحسنى، وبإعداده لهم المنازل الرفيعة في الجنة، وبرضاه عنهم بزعمه أنهم قد كفروا وارتدوا عن الإسلام، فعقيدة هذه الطائفة (يعني الرافضة) في جل سادات هذه الأمة لا تخرج عن أمرين: - إما نسبة الجهل إليه تعالى، أو العبث في هذه النصوص التي أثنى بها على الصحابة رضوان الله عليهم، تقدس ربنا وتعالى عن ذلك علواً كبيراً... ولا خلاف بين كل من يؤمن بالقرآن وله عقل سليم أن نسبة الجهل أو العبث إليه تعالى كفر بواح) .
ويمكن أن نلحق بهذا النوع من السب – وإن كان أشنع مما سبق – فيما لو سب الصحابة رضي الله عنهم من أجل صحبتهم ونصرتهم لدين الله تعالى، ولو كان واحداً..، وإليك ما يبين ذلك من كلام أهل العلم.
يقول ابن حزم: (ومن أبغض الأنصار لأجل نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر؛ لأنه وجد الحرج في نفسه مما قضى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من إظهار الإيمان بأيديهم، ومن عادى علياً لمثل ذلك فهو أيضاً كافر) .
ويقـول السبكي: (إن سب الجميع بلا شك أنه كفر، وهكذا إذا سب واحداً من الصحابة حيث هو صحابي؛ لأن ذلك استخفاف بحق الصحبة، ففيه تعرض إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلا شك في كفر الساب.
-إلى أن قال – ولا شك أنه لو أبغض واحداً منهما (أي الشيخين أبي بكر وعمر) لأجل صحبته فهو كفر، بل من دونهما في الصحبة، إذا أبغضه لصحبته كان كافراً قطعاً) .
ومما أورده الحافظ ابن حجر عند شرحه لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً: - ((آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار)) حيث قال رحمه الله: (فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة – وهي كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم - أثر ذلك في تصديقه، فيصح أنه منافق، ويقرب هذا زيادة أبي نعيم في المستخرج في حديـث البراء بن عازب : - ((من أحب الأنصار فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم)) ) ، وقد أخرج مسلـم من حديث أبي سعيد رفعه: - ((لا يبغـض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر)) .
ويوضح العيني هذا المعنى فيقول: (المقصود من الحديث الحث على حب الأنصار وبيان فضلهم لما كان منهم من إعزاز الدين، وبذل الأموال والأنفس والإيثار على أنفسهم والإيواء والنصرة، وغير ذلك، وهذا جار في أعيان الصحابة كالخلفاء وبقية العشرة، والمهاجرين، بل في كل الصحابة، إذ كل منهم له سابقة وسالفة وغناء في الدين وأثر حسن فيه، فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان، وبغضهم محض النفاق) .
ويقول الصاوي: (وأما من كفَّر جميع الصحابة فإنه يكفر باتفاق، كما في الشامل؛ لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، وكذب الله ورسوله) .
(ج) من أنواع سب الصحابة الذي يناقض الإيمان: أن يسب صحابياً تواترت النصوص بفضله، فيطعن في دينه وعدالته، وذلك لما فيه من تكذيب لهذه النصوص المتواترة، والإنكار والمخالفة لحكم معلوم من الدين بالضرورة.
وإليك جملة من كلام أهل العلم في تقرير ذلك: -
قال مالك رحمه الله: (من شتم أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص، فإن قال كانوا على ضلال وكفر قتل) .
(وسئل الإمام أحمد عمن يشتم أبا بكر وعمر وعائشة، فقال: ما أراه على الإسلام، وسئل عمن يشتم عثمان، فقال رحمه الله: هذه زندقة) .
(وقال محمد بن يوسف الفريابي وسئل عمن شتم أبا بكر، فقال: كافر، قيل: فيصلى عليه؟ قال: لا، وسأله: كيف يصـنع به وهـو يقول لا إله إلا الله؟ قال: لا تمسوه بأيديكم، ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته) .
وجاء في (الفتاوى البزازية): (ومن أنكر خلافة أبي بكر فهو كافر في الصحيح، ومنكر خلافة عمر رضي الله عنه فهو كافر في الأصح، ويجب إكفار الخوارج بإكفار عثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم.
وفي الخلاصة: الرافضي إذا كان يسب الشيخين ويلعنهما فهو كافر) .
وقال الخرشي: (إن رمى عائشة بما برأها الله منه بأن قال زنت، أو أنكر صحبة أبي بكر أو إسلام العشرة أو إسلام جميع الصحابة، أو كفر الأربعة، أو واحداً منهم كفر) .
ويقول السبكي: (احتج المكفرون للشيعة والخوارج بتكفيرهم لأعلام الصحابة رضي الله عنهم، وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في قطعه لهم بالجنة، وهذا عندي احتجاج صحيح فيمن ثبت عليه تكفير أولئك، وأجاب الآمدي بأنـه إنما يلزم أن لو كان المكفر يعلم بتزكية من كفره قطعاً على الإطلاق إلى مماته بقوله صلى الله عليه وسلم: - ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة)) إلى آخرهم، وإن كان هذا الخبر ليس متواتراً لكنه مشهور مستفيض، وعضده إجماع الأمة على إمامتهم وعلو قدرهم وتواتر مناقبهم أعظم التواتر الذي يفيد تزكيتهم فبذلك نقطع بتزكيتهم على الإطلاق إلى مماتهم لا يختلجنا شك في ذلك) .
ويقول أيضاً: (وأما الرافضي فإنه يبغض أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لما استقر في ذهنه بجهله وما نشأ عليه من الفساد عن اعتقاد ظلمهما لعلي، وليس كذلك ولا علي يعتقد ذلك، فاعتقاد الرافضي ذلك يعود على الدين بنقض؛ لأن أبا بكر وعمر هما أصل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا مأخذ التكفير ببغض الرافضة لهما، وسبهم لهما) .
ويقول في موضع ثالث: (وتحريم سب الصديق رضي عنه معلوم من الدين بالضرورة بالنقل المتواتر على حسن إسلامه، وأفعاله الدالة على إيمانه وأنه دام على ذلك إلى أن قبضه الله تعالى هذا لا شك فيه) .
وهذه المسألة فيها خلاف، فهناك من لا يعد هذا السب كفراً، بل يجعله فسقاً، يوجب التأديب والتعزير.
ولا شك أن هذا السب فسق بالاتفاق، بل إن القائلين بعدم تكفير من سب الصحابة مجمعون على ذلك، كما قال السبكي:-
(وأجمع القائلون بعدم تكفير من سب الصحابة أنهم فساق) .
ويذكر ابن تيمية أن أقل ما يفعل بشاتم الصحابة: التعزير ويعلل ذلك بقوله: (لأنه - أي التعزير- مشروع في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة، وقال صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) . وهذا مما لا يعلم فيه خلافاً بين أهل الفقه والعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، وسائر أهل السنة والجماعة، فإنهم مجمعون على أن الواجب الثناء عليهم، والاستغفار لهم، والترحم عليهم والترضي عنهم، واعتقاد محبتهم، وموالاتهم، وعقوبة من أساء فيهم القول) .
وإليك طرفاً من أقوال العلماء القائلين بعدم التكفير في هذا السب.
سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عمن شتم رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أرى أن يضرب... . وقال: (ما أراه إلا على الإسلام) .
ويقول القاضي عياض: (قد اختلف العلماء في هذا، فمشهور مذهب مالك في ذلك الاجتهاد والأدب الموجع، قال مالك رحمه الله: - من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل، ومن شتم أصحابه أدب).
وقال ابن حبيب: (من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أُدِّبَ أدباً شديداً، ومن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد، ويكرر ضربه، ويطال سجنه حتى يموت، ولا يبلغ به القتل إلا في سب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال سحنون: - من كفر أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: علياً أو عثمان أو غيرهما، يوجع ضرباً) .
وقال السبكي: (وأما أصحابنا (الشافعية) فقد قال القاضي حسين في تعليقه في باب اختلاف نية الإمام والمأموم: - من سب النبي صلى الله عليه وسلم يكفر بذلك، ومن سب صحابياً فسق، وأما من سب الشيخين أو الختنين ففيه وجهان، أحدهما يكفر؛ لأن الأمة اجتمعت على إمامتهم، والثاني يفسق ولا يكفر) .
ويقول الرملي: (ولا يكفر بسب الشيخين أو الحسن والحسين إلا في وجه حكاه القاضي حسين) .
ويقول ابن عابدين: (نقل في البزازية عن الخلاصة أن الرافضي إذا كان يسب الشيخين ويلعنهما فهو كافر، وإن كان يفضل علياً عليهما فهو مبتدع. أهـ
على أن الحكم عليه بالكفر مشكل، لما في الاختيار: اتفق الأئمة على تضليل أهل البدع أجمع وتخطئتهم، وسب أحد من الصحابة وبغضه لا يكون كفراً، ولكن يضلل... الخ.
وذكر في (فتح القدير) أن الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويكفرون الصحابة حكمهم عند جمهور الفقهاء وأهل الحديث حكم البغاة.
-إلى أن قال – فعلم أن ما ذكره في الخلاصة من أنه كافر قول ضعيف مخالف للمتون والشروح...) .
ومما يستدل به القائلون بعدم كفر ساب الصحابة رضي الله عنهم بأن مطلق السب لغير الأنبياء لا يستلزم الكفر؛ لأن بعض من كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما سب بعضهم بعضاً، ولم يكفر أحد بذلك
والجواب عن استدلالهم أن يقال: إن سب الصحابة نوعان، أحدهما سب يقدح في دين الصحابة وعدالتهم، كأن يرمي صحابياً بالكفر مثلاً ممن تواترت النصوص بفضله، فهذا من الكفر، لما يتضمنه من تكذيب للآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة الدالة على تزكيتهم وفضلهم، ولأن هذا السب إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة، ومن ظن أن مثل هذا السب لا يعد كفراً، فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع. والآخر أن يسب صحابياً – وإن كان ممن تواترت النصوص بفضله – سباً لا يقدح في إسلامه ودينه، مثل وصفه بالبخل، أو الجبن، أو قلة معرفة بالسياسة ونحو ذلك، فهذا لا يعتبر كفراً، ولكن يستحق فاعله التأديب والتعزير .
وكذا لو سب صحابياً لم يتواتر النقل بفضله سباً يطعن في دينه، فلا يكفر بهذا السب، لعدم إنكاره معلوماً من الدين بالضرورة .
ولا شك أن ما قد وقع بين بعض الصحابة من سب ليس من النوع الأول، ويشهد لذلك أن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث قال: - كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)) .
فقد جاءت رواية توضح وتبين حقيقة هذا السب، فقد روى الإمام أحمد بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: - كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بهـا، فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده...)) الحديث .
وبهذا التفصيل والتفريق بين نوعي السب يمكن اجتماع القولين، كما يحصل التوفيق بين الأقوال المختلفة، فمثلاً الرواية السابقة عن الإمام أحمد: ما أراه إلا على الإسلام يمكن أن نضمها إلى الرواية الأخرى عن الإمام أحمد حيث قال: (ما أراه على الإسلام) .
وقد قال القاضي أبو يعلى في الجمع بين تلك الروايتين المتعارضتين عن الإمام أحمد (يحتمل أن قوله (ما أراه على الإسلام) إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف، ويحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك، بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي، قال: ويحتمل قوله (ما أراه على الإسلام) على سب يطعن في عدالتهم نحو قوله: ظلموا، وفسقوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا الأمر بغير حق، ويحمل قوله في إسقاط القتل على سبٍ لا يطعن في دينهم، نحو قوله (كان فيهم قلة علم، وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة...) .
ويقول ابن تيمية – في هذا الصدد -: (وأما من سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم، مثل وصف بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد، ونحو ذلك، فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم) .
وكذا يمكن التوفيق بين الروايات المختلفة عن الإمام مالك، فالرواية السابقة عن مالك: من شتم الصحابة أدب، لا تعارض مع ما جاء في الرواية الأخرى عنه حيث قال: (من شتم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص، فإن قال: كانوا على ضلال وكفر قتل، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالاً شديداً) .
فهذه الرواية تبين ما أجمل في الرواية الأولى، فمن شتم الصحابة – ممن تواترت النصوص بفضلهم – شتماً يقدح في دينهم فهو كافر يجب قتله، ومن شتمهم بغير هذا فليس بكافر، ويتعين تعزيره وتأديبه.
وأيضاً فرواية مالك: (من سب أبا بكر جلد، ومن سب عائشة قتل، قيل له: لم؟ قال: - من رماها فقد خالف القرآن) .
فمراده – والله أعلم – أن يسب الصديق رضي الله عنه سباً لا يقدح في دينه، وذلك لما ورد عنه رحمه الله من القول بالقتل فيمن شتم من هو دون الصديق.
يوضح ذلك ما قاله السبكي: (فيتلخص أن سب أبي بكر رضي الله عنه على مذهب أبي حنيفة وأحد الوجهين عند الشافعية كفر، وأما مالك فالمشهور أنه أوجب الجلد، فيقتضي أنه ليس كفراً، ولم أر عنده خلاف ذلك، إلا في الخوارج فتخرج عنه أنه كفر، فتكون المسألة عنده على حالتين: إن اقتصر على السب من غير تكفير لم يكفر، وإن كفر كفر) .
ويقول أيضاً: (القائل بأن الساب لا يكفر لم نتحقق منه أن يطرده فيمن يكفر أعلام الصحابة رضوان الله عليهم، فأحد الوجهين عندنا إنما اقتصرنا على مجرد السب دون التكفير، وكذلك أحمد إنما جبن عن قتل من لم يصدر منه إلا السب) .
وإذا تقرر نوعا السب والطعن في حق الصحابة رضي الله عنهم، فإن من أنواع السب ما لا يمكن القطع بإلحاقه في أحد النوعين السابقين، بل يكون محل تردد، وهذا النوع هو ما قال عنه ابن تيمية:-
(وأما من لعن وقبح مطلقاً، فهذا محل الخلاف فيهم، لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد) .
من قذف إحدى أمهات المؤمنين، فإن كانت عائشة رضي الله عنها فهو كافر بالإجماع ومن قذف غيرها من أمهات المؤمنين فهو أيضاً كافر على أصح الأقوال.
وبيان ذلك أن قذف عائشة رضي الله عنها تكذيب ومعاندة للقرآن، فإن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله، فكل من سبها بما برأها الله منه فهو مكذب لله تعالى.
قال تعالى: - {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [ النور: 17].
كما قال الإمام مالك: (من سب عائشة قتل، قيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن) .
قال ابن حزم معلقاً على مقالة مالك: (قول مالك هاهنا صحيح، وهي ردة تامة، وتكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها) .
وذكر ابن بطة عائشة رضي الله عنها، وأنها: (مبرأة طاهرة خيرة فاضلة وصاحبته في الجنة، وهي أم المؤمنين في الدنيا والآخرة، فمن شك في ذلك، أو طعن فيه، أو توقف عنه، فقد كذب بكتاب الله، وشك فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه من عند غير الله عز وجل، قال الله تعالى: - {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [ النور: 17]، فمن أنكر هذا فقد برئ من الإيمان) .
إضافة إلى ذلك، فإن قذف عائشة رضي الله عنها يعد تنقصاً للرسول صلى الله عليه وسلم وإيذاء له، ولذا قال السبكي: (وأما الوقيعة في عائشة رضي الله عنها والعياذ بالله فموجبة للقتل لأمرين:-
أحدهما: أن القرآن الكريم يشهد ببراءتها، فتكذيبه كفر، والوقيعة فيها تكذيب له.
الثاني: أنها فراش النبي صلى الله عليه وسلم، والوقيعة فيها تنقيص له، وتنقيصه كفر) .
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (من قذف عائشة بالفاحشة... فقد جاء بكذب ظاهر واكتسب الإثم، واستحق العذاب، وظن بالمؤمنين سوءاً وهو كاذب، وأتى بأمر ظنه هيناً وهو عند الله عظيم، واتهم أهل بيت النبوة بالسوء، ومن هذا الاتهام يلزم نقص النبي صلى الله عليه وسلم) .
إضافة إلى ذلك، فقد أجمع العلماء على أن من قذفها بما برأها الله تعالى منه فهو كافر.
يقول ابن تيمية رحمه الله: (ذكر غير واحد من العلماء اتفاق الناس على أن من قذفها بما برأها الله تعالى منه فقد كفر؛ لأنه مكذب للقرآن) .
ويقول ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: - {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور: 23]: -
(وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن) .
وأما من قذف سائر أمهات المؤمنين، فهل يكفر من قذفهن أم لا؟ على قولين أصحهما أنه يكفر.
والقول الآخر أنه لا يكفر، وقالوا: إن القرآن قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها، فمن خالف ذلك وأنكره، فهو مكذب للقرآن، ومن ثم فهو كافر بالله تعالى، ولم يرد مثل هذا في بقية أمهات المؤمنين.
والجواب عن ذلك أن يقال: (المقذوفة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى إنما غضب لها؛ لأنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي وغيرها منهن سواء) .
كما أن جميع أمهات المؤمنين فراش للنبي صلى الله عليه وسلم، والوقيعة في أعراضهن تنقص ومسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن سب المصطفى صلى الله عليه وسلم كفر وخروج عن الملة بالإجماع .
وقد اختار القول الأول جمع من المحققين، كابن حزم ، والقاضي عياض ، وابن تيمية ، والسبكي وغيرهم.
ويقول ابن تيمية: (والأصح أن من قذف واحدة من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله عنها؛ لأن هذا منه عار وغضاضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن) .
ويدل على هذا قوله تعالى: - {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور: 23].
فهذه الآية الكريمة في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة، في قول كثير من أهل العلم كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين.
وكذا روي عن أبي الجوزاء، والضحاك، والكلبي وغيرهم) .
يقول ابن تيمية عن هذه الآية: (لما كان رمي أمهات المؤمنين أذى للنبي صلى الله عليه وسلم، فلعن صاحبه في الدنيا والآخرة، ولهذا قال ابن عباس: - ليس له توبة؛ لأن مؤذي النبي صلى الله عليه وسلم لا تقبل توبته إذا تاب من القذف حتى يسلم إسلاماً جديداً، وعلى هذا فرميهن نفاق مبيح للدم إذا قصد به أذى النبي صلى الله عليه وسلم، أو أذاهن بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة) .
ومما قاله أبو السعود في تفسير هذه الآية:
(والمراد بها عائشة الصديقة رضي الله عنها، والجمع باعتبار أن رميها رمي لسائر أمهات المؤمنين، لاشتراك الكل في العصمة والنزاهة والانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: - {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]، ونظائره، وقيل أمهات المؤمنين فيدخل فيهن الصديقة دخولاً أولياً.
وأما ما قيل من أن المراد هي الصديقة، والجمع باعتبار استتباعها للمتصفات بالصفات المذكورة من نساء الأمة، فيأباه، أن العقوبات المترتبة على رمي هؤلاء عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين، ولا ريب في أن رمي غير أمهات المؤمنين ليس بكفر، فيجب أن يكون المراد إياهن على أحد الوجهين، فإنهن قد خصصن من بين سائر المؤمنات، فجعل رميهن كفراً إبرازاً لكرامتهن على الله عز وجل، وحماية في صاحب الرسالة من أن يحوم حوله أحد بسوء) .
3- ومن خلال عرض أنواع سب الصحابة التي تخرج عن الملة، فإنه يمكن أن نسوق جملة من الأوجه في كون هذا السب ناقضاً من نواقض الإيمان، على النحو التالي:-
أ- أن في سب الصحابة رضي الله عنهم تكذيباً للقرآن الكريم، وإنكاراً لما تضمنته الآيات القرآنية من تزكيتهم والثناء الحسن عليهم.
ولذا يقول ابن تيمية: (إن الله سبحانه رضي عنهم رضاً مطلقاً بقوله تعالى:- {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [التوبة: 100] فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان، ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان، وقال تعالى: - {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]، والرضى من الله صفة قديمة ، فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضى، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً
إلى أن قال: (فكل من أخبر الله عنه أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة، وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح، فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له، فلو علم أن يتعقب ذلك بما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك) .
ويقول ابن حجر الهيتمي: (ومنها قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]، فصرح تعالى برضاه عن أولئك وهم ألف ونحو أربعمائة، ومن رضي عنه تعالى لا يمكن موته على الكفر، لأن العبرة بالوفاة على الإسلام، فلا يقع الرضا منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام، وأما من علم موته على الكفر، فلا يمكن أن يخبر الله تعالى بأنه رضي عنه، فعلم أن كلا من هذه الآية وما قبلها صريح في رد ما زعمه وافتراه أولئك الملحدون الجاحدون حتى للقرآن العزيز، إذ يلزم من الإيمان به الإيمان بما فيه، وقد علمت أن الذي فيه أنهم خير الأمم، وأنهم عدول خيار، وأن الله لا يخزيهم وأنه رضي عنهم، فمن لم يصدق بذلك منهم فهو مكذب لما في القرآن، ومن كذب بما فيه مما لا يحتمل التأويل كان كافراً جاحداً ملحداً مارقاً) .
وقد استنبط بعض الأئمة من نصوص قرآنية كفر من سب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. فقال الإمام مالك بن أنس: (من تنقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه غل، فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا قوله تعالى: {مَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} حتى أتى قوله: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} الآية [الحشر:7- 10]، فمن تنقصهم أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له في الفيء حق) .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: (لا حظ للرافضي في الفيء والغنيمة لقول الله حين ذكر آية الفيء في سورة الحشر، فقال {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ..} الآية) .
(وقال أبو عروة – رجل من ولد الزبير: - كنا عند مالك، فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله عليه وسلـم، فقرأ مالك هذه الآية: - {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء} حتى بلغ: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ} [الفتح:29] فقال مالك: من أصبح في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته الآية) .
قال القرطبي – معلقاً على قول مالك -: -
(لقد أحسن مالك في مقالته، وأصاب في تأويله، فمن تنقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته، فقد رد على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين) .
ولما ذكر أبو المعالي الألوسي هذه الآية {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ …} قال: (قال العلماء هذه الآية ناصة على أن الرافضة كفرة؛ لأنهم يكرهونهم، بل يكفرونهم والعياذ بالله تعالى) .
وننبه هاهنا إلى أن قول مالك رحمه الله: من أصبح في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته الآية، إنما يحمل على غيظ سببه ما كان عليه الصحابة من الإيمان والقوة والكثرة، قال تعالى: - {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29].
فكثرهم الله تعالى وقواهم ليكونوا غيظاً للكافرين، فمن غاظه حال الصحابة رضي الله عنهم لإيمانهم فهو كافر، كمن سبهم طعناً في دينهم وعدالتهم، وأما إن وقع الغيظ من غير هذه الجهة، فليس بكفر، فقد جرت حروب بين الصحابة، ووقع من بعضهم غيظ وبغض لبعض، ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بكفر أو نفاق.
وتوضيحاً لذلك نورد ما قاله العيني، ونقله عن القرطبي صاحب (المفهم).. عند شرحه لحديث: ((آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)) حيث يقول العيني: (المقصود من الحديث الحث على حب الأنصار، وبيان فضلهم لما كان منهم من إعزاز الدين وبذل الأموال والأنفس والإيثار على أنفسهم والإيواء والنصر وغير ذلك … فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان وبغضهم محض النفاق.
وقال القرطبي: - وأما من أبغض والعياذ بالله أحداً منهم من غير تلك الجهة لأمر طارئ من حدث وقع لمخالفة غرض، أو لضرر ونحوه، لم يصر بذلك منافقاً ولا كافراً، فقد وقع بينهم حروب ومخالفات، ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام) .
وبهذا ندرك خطأ ما قاله ابن حزم عند خطأ من حمل الآية: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ..} على ما استنبطه الإمام مالك ، فابن حزم لم يفرق بين الغيظ الذي يوجب خروجاً عن الملة، وبين الغيظ فيما دون ذلك.
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (فمن سبهم فقد خالف ما أمر الله من إكرامهم، ومن اعتقد السوء فيهم كلهم أو جمهورهم فقد كذب الله تعالى فيما أخبر من كمالهم وفضلهم ومكذبه كافر) .
وإذا تقرر أن سب الصحابة رضي الله عنهم تكذيب للقرآن الكريم، فإن القول بكفر جمهور الصحابة رضي الله عنهم، أو فسقهم يؤول إلى الشك في القرآن الكريم، والطعن في ثبوته وحفظه؛ لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول، ولذا فإن الرافضة لما كفروا جمهور الصحابة، اتبعوا ذلك بدعوى تحريف القرآن الكريم وتبديله.
(ب) أن سب الصحابة رضي الله عنهم يستلزم نسبة الجهل إلى الله تعالى، أو العبث في تلك النصوص الكثيرة التي تقرر الثناء الحسن على الصحابة، وتزكيهم.
ويبين ذلك الشيخ محمد العربي بن التباني المغربي حيث يقول:-
(كيف يؤمن بنصوص القرآن من يكذب بوعده تعالى لهم بالحسنى، وبإعداده لهم المنازل الرفيعة في الجنة، وبرضاه عنهم، ورضاهم عنه بزعمه أنهم قد كفروا وارتدوا عن الإسلام، فعقيدة هذه الطائفة (أي الرافضة) في جل سادات هذه الأمة لا تخرج عن أمرين: - إما نسبة الجهل إليه تعالى، أو العبث في هذه النصوص التي أثنى بها على الصحابة رضوان الله عليهم وتقدس ربنا وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وكلاهما مصيبة كبرى، وذلك لأنه تعالى إن كان عالماً بأنهم سيكفرون فيكون وعده لهم بالحسنى ورضاه عنهم عبثاً، والعبث في حقه تعالى محال، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان:38]، وإن كان تعالى غير عالم بأنهم سيكفرون ومع ذلك أثنى عليهم ووعدهم بالحسنى فهو جهل، والجهل عليه تعالى محال، ولا خلاف بين كل من يؤمن بالقرآن وله عقل سليم أن نسبة الجهل أو العبث إليه تعالى كفر بواح) .
(ج) من سب الصحابة رضي الله عنهم، ورماهم بالكفر أو الفسق، فقد تنقص الرسول صلى الله عليه وسلم وآذاه؛ لأنهم أصحابه الذين رباهم وزكاهم، ومن المعلوم أن تنقص الرسول صلى الله عليه وسلم كفر وخروج عن الملة .
أخرج الخطيب البغدادي – بسنده – عن أبي زرعة قال: - (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة) .
ومن أشنع أنواع السب: أن يقذف إحدى أمهات المؤمنين، لما في الوقيعة في أعراضهن من التنقص والمسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ساق اللالكائي بسنده (أن الحسن بن زيد لما ذكر رجل بحضرته عائشة بذكر قبيح من الفاحشة، فأمر بضرب عنقه، فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا، فقال: معاذ الله هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26].
فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث، فهو كافر فاضربوا عنقه. فضربوا عنقه) .
وأخرج اللالكائي – بسنده – عن محمد بن زيد أنه قدم عليه من العراق رجل ينوح بين يديه فذكر عائشة بسوء، فقام إليه بعمود، وضرب به دماغه فقتله، فقيل له: هذا من شيعتنا وممن يتولانا، فقال: هذا سمى جدي قرنان استحق عليه القتل فقتلته
إضافة إلى ذلك فإن هذا السب يستلزم اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم ينجح في دعوته، ولم يحقق البلاغ المبين، وقد زعم من لا خلاق له من الدين والعلم، أن جمهور الصحابة رضي الله عنهم قد ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت على الإيمان إلا القليل، وقد يؤول هذا الأمر إلى اليأس من إصلاح البشر، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن المعلوم قطعاً أنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
(د) أن سب الصحابة رضي الله عنهم، والطعن في دينهم، هو طعن في الدين، وإبطال للشريعة، وهدم لأصله، لعدم توافر النقل المأمون له.
وإليك هذه القصة التي تبين ذلك: -
قال عمر بن حبيب: (حضرت مجلس هارون الرشيد، فجرت مسألة تنازعها الحضور، وعلت أصواتهم، فاحتج أحدهم بحديث رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفع بعضهم الحديث، وزادت المدافعة والخصومة، حين قال قائلون منهم: - لا يقبل هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه، وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم، ونصر قولهم، فقلت أنا: هذا الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة صحيح النقل، صدوق فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، فنظر إلي الرشيد نظر مغضب، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل صاحب البريد بالباب، فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول وتحنط وتكفن، فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه فسلمني منه، فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب، حاسر عن ذراعيه بيده والسيف، وبين يديه النطع، فلما بصر بي قال لي: يا عمر بن حبيب، ما تلقاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما جاء به، إذا كان أصحابه كذابين، فالشريعة باطلة والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول، فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله، وأمر لي بعشرة آلاف درهم) .
وقال ابن عقيل الحنبلي في هذا المقال: (الظاهر أن من وضع مذهب الرافضة قصد الطعن في أصل الدين والنبوة، وذلك أن الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر غائب عنا، وإنما نثق في ذلك بنقل السلف، وجودة نظر الناظرين إلى ذلك منهم... فإذا قال قائل: - إنهم أول ما بدؤوا بعد موته بظلم أهل بيته في الخلافة، وابنته في إرثها، وما هذا إلا لسوء اعتقاد في المتوفي.
فإن الاعتقادات الصحيحة سيما في الأنبياء توجب حفظ قوانينهم بعدهم لا سيما في أهليهم وذريتهم.
فإذا قالت الرافضة: إن القوم استحلوا هذا بعده، خابت آمالنا في الشرع؛ لأنه ليس بيننا وبينه إلا النقل عنهم والثقة بهم. فإذا كان هذا محصول ما حصل لهم بعد موته خبنا في المنقول، وزالت ثقتنا فيما عولنا عليه من اتباع ذوي العقول، ولم نأمن أن يكون القوم لم يروا ما يوجب اتباعه، فراعوه مدة الحياة، وانقلبوا عن شريعته بعد الوفاة، ولم يبقى على دينه إلا الأقل من أهله، فطاحت الاعتقادات، وضعفت النفوس عن قبول الروايات في الأصل، فهذا من أعظم المحن على الشريعة) .
وقال الذهبي: (فمن طعن فيهم أو سبهم، فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين؛ لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم، وإضمار الحقد فيهم، وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم، وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنائه عليهم وبيان فضائلهم ومناقبهم وحبهم...
إلى أن قال – والطعن في الوسائط طعن الأصل، والازدراء بالناقل ازدراء بالمنقول، هذا ظاهر لمن تدبره، وسلم من النفاق، ومن الزندقة والإلحاد في عقيدته...) .
وذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن القول بارتداد الصحابة عدا خمسة أو ستة نفر: - (هدم لأساس الدين؛ لأن أساسه القرآن والحديث، فإذا فرض ارتداد من أخذ من النبي صلى الله عليه وسلم إلا النفر الذين لا يبلغ خبرهم التواتر، وقع الشك في القرآن والأحاديث... فهؤلاء أشد ضرراً على الدين من اليهود والنصارى، وفي هذه الهفوة الفسـاد من وجوه، فإنها توجب إبطال الدين والشـك فيـه، وتجوز كتمان ما عورض به القرآن، وتجوز تغيير القرآن...) .
ويقول محمد صديق حسن خان: (والعجب كل العجب من علماء الإسلام وسلاطين هذا الدين كيف تركوهم (أي الرافضة) على هذا المنكر البالغ في القبح إلى غايته ونهايته، فإن هؤلاء المخذولين لما أرادوا رد هذه الشريعة المطهرة ومخالفتها، طعنوا في أعراض الحاملين لها، الذين لا طريق لنا إليها إلا من طريقهم، واستذلوا أهل العقول الضعيفة والإدراكات الركيكة بهذه الذريعة الملعونة والوسيلة الشيطانية، فهم يظهرون السب واللعن لخير الخليقة، ويضمرون العناد للشريعة ورفع أحكامها عن العباد) .
(هـ) إن سب الصحابة رضي الله عنهم يستلزم تضليل الأمة المحمدية، ويتضمن أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام .
كما أن سبهم إنكار لما قام الإجماع عليه، قبل ظهور المخالف من فضلهم وشرفهم ومصادمة للنصوص المتواترة من الكتاب والسنة في بيان علو مقامهم وعظيم شأنهم
المطلب الثاني: الاستهزاء بالعلماء والصالحين
إن الواجب تجاه العلماء والصالحين هو محبتهم ومودتهم، وتوقيرهم وإجلالهم، كما جاءت به الشريعة، دون غلو وإفراط.
2- ولا شك أن الاستهزاء بالعلماء أو الصالحين يضاد محبتهم وإجلالهم، فالاستهزاء بهم يعني السخرية بهم والاستخفاف بهم .
قال الألوسي: (الاستهزاء: الاستخفاف والسخرية، وذكر الغزالي أن الاستهزاء الاستحقار والاستهانة والتنبيه علـى العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وبالإشارة والإيماء... وأصل هذه المادة الخفة، يقال: ناقة تهزأ به أي: تسرع وتخف) .
إن الاستهزاء بأهل العلم والصلاح صفة من صفات الكافرين، وخصلة من خصال المنافقين، كما قرر ذلك القرآن في آيات كثيرة.
يقول الله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212].
وقال سبحانه: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:103، 111].
وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:29- 33].
وقال تعالى في شأن المنافقين: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14- 15].
وقال تعالى {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79].
ولقد حرص أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وأذنابهم من منافقي هذا الزمان على تشويه سمعة العلماء، وزعزعة مكانتهم في نفوس الأمة المسلمة.
فمما جاء في البروتوكول السابع عشر من بروتوكولات اليهود:
(وقد عنينا عناية عظيمة بالحط من كرامة رجال الدين من الأمميين (غير اليهود) في أعين الناس، وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كؤوداً في طريقنا، وإن نفوذ رجال الدين على الناس ليتضاءل يوماً فيوماً) .
وسعى هؤلاء في سبيل ذلك سعياً حثيثاً، فشنوا الحملات المسعورة، وأعدوا المخططات الرهيبة من أجل الكيد لهذا الدين والصد عنه، عن طريق الطعن في حملة الإسلام ودعاته وعلمائه، وقد آتت هذه المؤامرات ثمارها النكدة كما هو مشاهد في واقع الأمة، وتولت وسائل الإعلام في بلاد المسلمين وغيرها كبر هذه الهجمة الشرسة على علماء الأمة ، فظهر الاستهزاء بالعلماء والصالحين على وسائل الإعلام المختلفة، وتطاول الأقزام من أهل الشبهات والشهوات على مقامات أهل العلم والصلاح باسم حرية الرأي والفكر!، واستهزئ بأهل الصلاح والديانة تحت مظلة محاربة التطرف والتشدد!
وساعد على استفحال هذا المنكر أسباب كثيرة، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره، نذكر أيضاً من تلك الأسباب:-
غلبة الجهل بدين الله تعالى بين المسلمين، سواء كان الجهل بحرمة المسلم وعظيم حقه ومنزلته، أو الجهل بحكم الاستهزاء بأهل العلم والصلاح. وسبب آخر وهو تنحية شرع الله تعالى في بلاد المسلمين... فلو أن حد الردة– مثلاً– أقيم على من يستحقه... فلن يتطاول سفيه على فتاوى أهل العلم، كما هو واقعنا الآن، ولن يسخر مريض قلب من استقامة أهل الديانة وطهرهم، والله حسبنا ونعم الوكيل.
إن الاستهزاء بالعلماء والصالحين على ضربين:-
أحدهما:- الاستهزاء بأشخاصهم، كمن يستهزئ بأوصافهم الخَلْقِّية أو الخُلُقِّية، وهذا محرم لقوله تعالى: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (ينهى تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال ((الكبر بطر الحق وغمص الناس)) ويروى وغمط الناس.
والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدراً عند الله تعالى، وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له...) .
والضرب الآخر: الاستهزاء بالعلماء لكونهم علماء، ومن أجل ما هم عليه من العلم الشرعي، فهذا كفر؛ لأنه استهزاء بدين الله تعالى، وكذا الاستهزاء بأهل الصلاح من أجل استقامتهم على الديانة، واتباعهم للسنة، فالاستهزاء – هاهنا – متوجه إلى الدين والسنة.
ومن المناسب هاهنا أن نورد تعقيباً لابن حجر الهيتمي على ما قاله أحد علماء الأحناف عند ذكره لنواقض الإيمان: (فقال هذا الحنفي : أو قال: إيش مجلس الوعظ، أو العلم لا يثرد ، أو وعظ على سبيل الاستهزاء، أو ضحك على وعظ العلم، أو قال: إيش هذا القبيح الذي خففت شاربك، أو قال: بئسما أخرجت السنة) اهـ كلامه.
فعقب ابن حجر قائلاً: (ما ذكره في إيش مجلس الوعظ.. الخ، إنما يتجه إن أراد الاستهزاء، وكذا إن أطلق على احتمال قوي فيه لظهور هذا اللفظ في الاستخفاف بمجلس الوعظ والعلم.
وما ذكره في الوعظ استهزاء إنما يتجه إن أراد الاستهزاء بالواعظ وكذا بالوعظ من حيث هو وعظ، أما لو أراد الاستهزاء بالواعظ، أو بكلماته، لا من حيث كونه واعظاً فلا يتجه الكفر حينئذ، وكذا يقال في الضحك على الوعظ) .
ولما كان الاستهزاء بالعلماء والصالحين محتملاً للضربين المذكورين آنفاً، صار محلاً للخلاف ، وبهذا التفريق بينهما يزول الإشكال، ويرتفع الخلاف.
3- وأما وجه كون هذا الاستهزاء يناقض الإيمان، فلما يلي:-
(أ) أن الله عز وجل جعل الاستهزاء بالمؤمنين استهزاء بالله تعالى وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال تبارك وتعالى:-
{قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم} [التوبة:65، 66].
فقد جاء في سبب نزول هذه الآيات عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنكبه الحجارة، وهو يقول: - يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم} )).
ونورد جملة من كلام أهل العلم في بيان ذلك: -
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله – في هذا الشأن (وفيه بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، أو بعمل يعمل به... ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله وعدم احترامهم لأجله) .
وسئل الشيخ حمد بن عتيق- رحمه الله - عن معنى قول الفقهاء: من قال يا فقيه بالتصغير يكفر.. فكان من جوابه: (اعلم أن العلماء قد أجمعوا على أن من استهزأ بالله، أو رسوله، أو كتابه فهو كافر، وكذا إذا أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء، واستدلوا بقوله تعالى: - {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65- 66].
وسبب النزول مشهور، وأما قول القائل: فقيه، أو عويلم، أو مطيويع ونحو ذلك، فإذا كان قصد القائل الهزل، أو الاستهزاء بالفقه أو العلم أو الطاعة، فهذا كفر أيضاً ينقل عن الملة فيستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتداً) .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: (قوله تعالى: - {أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ...} الآيات أي فليس لكم عذر؛ لأن هذا لا يدخله الخوض واللعب، وإنما تحترم هذه الأشياء وتعظم ويخشع عندها إيماناً بالله ورسوله، وتعظيماً لآياته، وتصديقاً وتوقيراً، والخائض واللاعب منتقص لها، ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله، وعدم احترامهم، أو الوقيعة فيهم لأجله) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وجاء في فتوى اللجنة الدائمة ما يلي:-
(سب الدين والاستهزاء بشيء من القرآن والسنة، والاستهزاء بالمتمسك بها نظراً لما تمسك به كإعفاء اللحية وتحجب المسلمة، هذا كفر إذا صدر من مكلف، وينبغي أن يبين له أن هذا كفر، فإن أصر بعد العلم فهو كافر، قال الله تعالى: - {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65- 66]) .
(ب) ذكر الله عز وجل أن الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين سبب في دخول نار جهنم، وعدم الخروج منها.
فعندما ينادي أهل النار قائلين: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107].
يقول الله تعالى جواباً عنهم: {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:108– 110].
وتوضيحاً لذلك نسوق أقوال بعض المفسرين لهذه الآيات
فمما قاله أبو السعود رحمه الله: (وقوله تعالى: (إنه) تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء أي أن الشأن {كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي} وهم المؤمنون.. {يقولون} في الدنيا {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} أي اسكتوا عن الدعاء بقولكم ربنا الخ؛ لأنكم كنتم تستهزئون بالداعين بقولهم ربنا آمنا الخ، وتتشاغلون باستهزائهم {حَتَّى أَنسَوْكُمْ} أي الاستهزاء بهم {ذِكْرِي} من فرط اشتغالكم باستهزائهم {وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} وذلك غاية الاستهزاء).
ويقول الألوسي: (قيل: التعليل على معنى إنما خسأناكم كالكلب ولم نحتفلكم إذ دعوتكم؛ لأنكم استهزأتم غاية الاستهزاء بأوليائي حين دعوا واستمر ذلك منكم حتى نسيتم ذكري بالكلية ولم تخافوا عقابي فهذا جزاؤكم.
وقيل: - خلاصة معنى الآية إنه كان فريق من عبادي يدعون، فتشاغلتم بهم ساخرين، واستمر تشاغلكم باستـهزائهم إلى أن جركم إلى ترك ذكري في أوليائي فلم تخافوني في الاستهزاء بهم.
وفيه تسخط عظيم لفعلهم ذلك ودلالة على اختصاص بالغ لأولئك العباد المسخور منهم، كما نبه عليه أولاً في قوله تعالى {مِّنْ عِبَادِي} وختمه بقوله تعالى {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ} إلى قوله تعالى: - {هُمُ الْفَائِزُونَ}) .
ومما سطـره الشنقيطي عند تفسيره لهذه الآيات: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ..} إلى قوله تعالى {وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} حيث قال رحمه الله:-
(قد تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، أن (إن) المكسورة المشددة من حروف التعليل كقولك: عاقبه إنه مسيء: أي لأجل إساءته، وقوله في هذه الآية {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي} الآيتين. يدل فيه لفظ إن المكسورة المشددة على أن من الأسباب التي أدخلتهم النار هو استهزاؤهم، وسخريتهم من هذا الفريق المؤمن الذي يقول: - {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} فالكفار يسخرون من ضعفاء المؤمنين في الدنيا حتى ينسيهم ذلك ذكر الله، والإيمان به فيدخلون بذلك النار.
وحتى في قوله: {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي..} حروف غاية، لاتخاذهم إياهم سخرياً أي لم يزالوا كذلك، حتى أنساهم ذلك ذكر الله والإيمان به، فكان مأواهم النار والعياذ بالله) .
(ج) أن الاستهزاء بالعلماء والصالحين لأجل ما هم عليه من العلم الشرعي، واتباعهم للقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، هو في حقيقته استهزاء بآيات الله تعالى، وسخرية بشرائع دين الله عز وجل، ولا شك أن هذا الاستهزاء كفـر يناقض الإيمان، يقول الله تعالى: - {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية:9]، ولم يجئ إعداد العذاب المهين إلا في حق الكفار .
يقول ابن حزم: (صح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآيـة من القـرآن، أو بفريضة من فرائض الدين، فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر) .
4- ونختم هذا المبحث بجملة من أقوال العلماء في تلك المسألة.
يقول القرطبي عند تفسيره لقوله تعالى: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا..} الآية {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} أي اشتغلتم بالاستهزاء عند ذكري {وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} استهزاء بهم، وأضاف الإنساء إلى المؤمنين؛ لأنهم كانوا سبباً لاشتغالهم عن ذكره، وتعدى شؤم استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكفر على قلوبهم.
ويستفيد من هذا: التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء، والمساكين، والاحتقار لهم، والإزراء عليهم والاشتغال بهم فيما لا يعني، وأن ذلك مبعد من الله عز وجل. "
وجاء في (الفتاوى البزازية): (والاستخفاف بالعلماء لكونهم علماء استخفاف بالعلم، والعلم صفة الله تعالى منحه فضلاً على خيار عباده ليدلوا خلقه على شريعته نيابة عن رسله، فاستخفافه بهذا يعلم أنه إلى من يعود) .
وجاء أيضاً: (رجل يجلس على مكان مرتفع أو لا يجلس عليه، لكن يسألونه عن مسائل بطريق الاستهزاء، ويضربونه بما شاؤا وهم يضحكون كفروا) .
ويقول ابن نجيم: (ويكفر بجلوسه على مكان مرتفع والتشبه بالمذكورين ومعه جماعة يسألون من المسائل ويضحكون منه، ثم يضربونه بالمخراق ، وكذا يكفر الجميع لاستخفافهم بالشرع، وكذا لو لم يجلس على مكان مرتفع، ولكن يستهزئ بالمذكورين ويتمشى والقوم يضحكون، وبقوله لا تذهب وإن ذهبت تطلق امرأتك استهزاء بالعلم والعلماء جواباً لمن قال إلى مجلس العلم، جواباً أين تذهب) .
ويقول أيضاً:- (ولو صغر الفقيه أو العلوي قاصداً الاستخفاف بالدين كفر، لا إن لم يقصده) .
ويقول – في كتاب آخر -: (الاستهزاء بالعلم والعلماء كفر) .
ويقول ملا علي قاري: (وفي الظهيرية من قال لفقيه أخذ شاربه: ما أشد قبحاً قص الشارب ولف طرف العمامة تحت الذقن يكفر؛ لأنه استخفاف بالعلماء يعني وهو مستلزم لاستخفاف الأنبياء عليهم السلام؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء عليهم السلام، وقص الشارب من سنن الأنبياء عليهم السلام فتقبيحه كفر بلا اختلاف بين العلماء.
وفي (الخلاصة): من قال: قصصت شاربك وألقيت العمامة على العاتق استخفافاً يعني بالعالم أو بعلمه فذلك كفر.
ونقل عن الأستاذ نجم الدين الكندي بسمرقند أن من تشبه بالمعلم على وجه السخرية، وأخذ الخشبة، وضرب الصبيان كفر، يعني لأن معلم القرآن من جملة علماء الشريعة فالاستهزاء به وبمعلمه يكون كفراً.
وفي (المحيط) ذكر أن فقيهاً وضع كتابه في دكان وذهب، ثم مر على ذلك الدكان، فقال صاحب الدكان: ههنا نسيت المنشار، فقال الفقيه عندك كتاب لا منشار، فقال صاحب الدكان: النجار بالمنشار يقطع الخشب، وأنتم تقطعون به حلق الناس، أو قال حق الناس، فشكى الفقيه إلى الإمام الفضلي يعني الشيخ محمد بن الفضل، فأمر بقتل ذلك الرجل؛ لأنه كفر باستخفاف كتب الفقه.
وفي (التتمة): من أهان الشريعة أو المسائل التي لا بد منها كفر، ومن ضحك من المتيمم كفر) .
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن بعض الناس يسخرون بالملتزمين بدين الله ويستهزئون بهم فما حكم هؤلاء؟
فأجاب: (هؤلاء الذين يسخرون بالملتزمين بدين الله المنفذين لأوامر الله فيهم نوع نفاق، فإن الله قال عن المنافقين: - {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [ التوبة:79].
ثم إن كانوا يستهزئون بهم من أجل ما هم عليه من الشرع، فإن استهزاءهم بهم استهزاء بالشريعة، والاستهزاء بالشريعة كفر، أما إذا كانوا يستهزئون بهم يعنون أشخاصهم، وزيهم بقطع النظر عما هم عليه من اتباع السنة فإنهم لا يكفـرون بذلك؛ لأن الإنسان قد يستهزئ بالشخص نفسه بقطع النظر عن عمله وفعله لكنهم على خطر عظيم) .
المطلب الثاني: الاستهزاء بالعلماء والصالحين
إن الواجب تجاه العلماء والصالحين هو محبتهم ومودتهم، وتوقيرهم وإجلالهم، كما جاءت به الشريعة، دون غلو وإفراط.
2- ولا شك أن الاستهزاء بالعلماء أو الصالحين يضاد محبتهم وإجلالهم، فالاستهزاء بهم يعني السخرية بهم والاستخفاف بهم .
قال الألوسي: (الاستهزاء: الاستخفاف والسخرية، وذكر الغزالي أن الاستهزاء الاستحقار والاستهانة والتنبيه علـى العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وبالإشارة والإيماء... وأصل هذه المادة الخفة، يقال: ناقة تهزأ به أي: تسرع وتخف) .
إن الاستهزاء بأهل العلم والصلاح صفة من صفات الكافرين، وخصلة من خصال المنافقين، كما قرر ذلك القرآن في آيات كثيرة.
يقول الله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212].
وقال سبحانه: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:103، 111].
وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:29- 33].
وقال تعالى في شأن المنافقين: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14- 15].
وقال تعالى {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79].
ولقد حرص أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وأذنابهم من منافقي هذا الزمان على تشويه سمعة العلماء، وزعزعة مكانتهم في نفوس الأمة المسلمة.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
فمما جاء في البروتوكول السابع عشر من بروتوكولات اليهود:
(وقد عنينا عناية عظيمة بالحط من كرامة رجال الدين من الأمميين (غير اليهود) في أعين الناس، وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كؤوداً في طريقنا، وإن نفوذ رجال الدين على الناس ليتضاءل يوماً فيوماً) .
وسعى هؤلاء في سبيل ذلك سعياً حثيثاً، فشنوا الحملات المسعورة، وأعدوا المخططات الرهيبة من أجل الكيد لهذا الدين والصد عنه، عن طريق الطعن في حملة الإسلام ودعاته وعلمائه، وقد آتت هذه المؤامرات ثمارها النكدة كما هو مشاهد في واقع الأمة، وتولت وسائل الإعلام في بلاد المسلمين وغيرها كبر هذه الهجمة الشرسة على علماء الأمة ، فظهر الاستهزاء بالعلماء والصالحين على وسائل الإعلام المختلفة، وتطاول الأقزام من أهل الشبهات والشهوات على مقامات أهل العلم والصلاح باسم حرية الرأي والفكر!، واستهزئ بأهل الصلاح والديانة تحت مظلة محاربة التطرف والتشدد!
وساعد على استفحال هذا المنكر أسباب كثيرة، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره، نذكر أيضاً من تلك الأسباب:-
غلبة الجهل بدين الله تعالى بين المسلمين، سواء كان الجهل بحرمة المسلم وعظيم حقه ومنزلته، أو الجهل بحكم الاستهزاء بأهل العلم والصلاح. وسبب آخر وهو تنحية شرع الله تعالى في بلاد المسلمين... فلو أن حد الردة– مثلاً– أقيم على من يستحقه... فلن يتطاول سفيه على فتاوى أهل العلم، كما هو واقعنا الآن، ولن يسخر مريض قلب من استقامة أهل الديانة وطهرهم، والله حسبنا ونعم الوكيل.
إن الاستهزاء بالعلماء والصالحين على ضربين:-
أحدهما:- الاستهزاء بأشخاصهم، كمن يستهزئ بأوصافهم الخَلْقِّية أو الخُلُقِّية، وهذا محرم لقوله تعالى: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (ينهى تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال ((الكبر بطر الحق وغمص الناس)) ويروى وغمط الناس.
والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدراً عند الله تعالى، وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له...) .
والضرب الآخر: الاستهزاء بالعلماء لكونهم علماء، ومن أجل ما هم عليه من العلم الشرعي، فهذا كفر؛ لأنه استهزاء بدين الله تعالى، وكذا الاستهزاء بأهل الصلاح من أجل استقامتهم على الديانة، واتباعهم للسنة، فالاستهزاء – هاهنا – متوجه إلى الدين والسنة.
ومن المناسب هاهنا أن نورد تعقيباً لابن حجر الهيتمي على ما قاله أحد علماء الأحناف عند ذكره لنواقض الإيمان: (فقال هذا الحنفي : أو قال: إيش مجلس الوعظ، أو العلم لا يثرد ، أو وعظ على سبيل الاستهزاء، أو ضحك على وعظ العلم، أو قال: إيش هذا القبيح الذي خففت شاربك، أو قال: بئسما أخرجت السنة) اهـ كلامه.
فعقب ابن حجر قائلاً: (ما ذكره في إيش مجلس الوعظ.. الخ، إنما يتجه إن أراد الاستهزاء، وكذا إن أطلق على احتمال قوي فيه لظهور هذا اللفظ في الاستخفاف بمجلس الوعظ والعلم.
وما ذكره في الوعظ استهزاء إنما يتجه إن أراد الاستهزاء بالواعظ وكذا بالوعظ من حيث هو وعظ، أما لو أراد الاستهزاء بالواعظ، أو بكلماته، لا من حيث كونه واعظاً فلا يتجه الكفر حينئذ، وكذا يقال في الضحك على الوعظ) .
ولما كان الاستهزاء بالعلماء والصالحين محتملاً للضربين المذكورين آنفاً، صار محلاً للخلاف ، وبهذا التفريق بينهما يزول الإشكال، ويرتفع الخلاف.
3- وأما وجه كون هذا الاستهزاء يناقض الإيمان، فلما يلي:-
(أ) أن الله عز وجل جعل الاستهزاء بالمؤمنين استهزاء بالله تعالى وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال تبارك وتعالى:-
{قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم} [التوبة:65، 66].
فقد جاء في سبب نزول هذه الآيات عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنكبه الحجارة، وهو يقول: - يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم} )).
ونورد جملة من كلام أهل العلم في بيان ذلك: -
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله – في هذا الشأن (وفيه بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، أو بعمل يعمل به... ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله وعدم احترامهم لأجله) .
وسئل الشيخ حمد بن عتيق- رحمه الله - عن معنى قول الفقهاء: من قال يا فقيه بالتصغير يكفر.. فكان من جوابه: (اعلم أن العلماء قد أجمعوا على أن من استهزأ بالله، أو رسوله، أو كتابه فهو كافر، وكذا إذا أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء، واستدلوا بقوله تعالى: - {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65- 66].
وسبب النزول مشهور، وأما قول القائل: فقيه، أو عويلم، أو مطيويع ونحو ذلك، فإذا كان قصد القائل الهزل، أو الاستهزاء بالفقه أو العلم أو الطاعة، فهذا كفر أيضاً ينقل عن الملة فيستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتداً) .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: (قوله تعالى: - {أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ...} الآيات أي فليس لكم عذر؛ لأن هذا لا يدخله الخوض واللعب، وإنما تحترم هذه الأشياء وتعظم ويخشع عندها إيماناً بالله ورسوله، وتعظيماً لآياته، وتصديقاً وتوقيراً، والخائض واللاعب منتقص لها، ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله، وعدم احترامهم، أو الوقيعة فيهم لأجله) .
وجاء في فتوى اللجنة الدائمة ما يلي:-
(سب الدين والاستهزاء بشيء من القرآن والسنة، والاستهزاء بالمتمسك بها نظراً لما تمسك به كإعفاء اللحية وتحجب المسلمة، هذا كفر إذا صدر من مكلف، وينبغي أن يبين له أن هذا كفر، فإن أصر بعد العلم فهو كافر، قال الله تعالى: - {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65- 66]) .
(ب) ذكر الله عز وجل أن الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين سبب في دخول نار جهنم، وعدم الخروج منها.
فعندما ينادي أهل النار قائلين: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107].
يقول الله تعالى جواباً عنهم: {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:108– 110].
وتوضيحاً لذلك نسوق أقوال بعض المفسرين لهذه الآيات
فمما قاله أبو السعود رحمه الله: (وقوله تعالى: (إنه) تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء أي أن الشأن {كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي} وهم المؤمنون.. {يقولون} في الدنيا {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} أي اسكتوا عن الدعاء بقولكم ربنا الخ؛ لأنكم كنتم تستهزئون بالداعين بقولهم ربنا آمنا الخ، وتتشاغلون باستهزائهم {حَتَّى أَنسَوْكُمْ} أي الاستهزاء بهم {ذِكْرِي} من فرط اشتغالكم باستهزائهم {وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} وذلك غاية الاستهزاء).
ويقول الألوسي: (قيل: التعليل على معنى إنما خسأناكم كالكلب ولم نحتفلكم إذ دعوتكم؛ لأنكم استهزأتم غاية الاستهزاء بأوليائي حين دعوا واستمر ذلك منكم حتى نسيتم ذكري بالكلية ولم تخافوا عقابي فهذا جزاؤكم.
وقيل: - خلاصة معنى الآية إنه كان فريق من عبادي يدعون، فتشاغلتم بهم ساخرين، واستمر تشاغلكم باستـهزائهم إلى أن جركم إلى ترك ذكري في أوليائي فلم تخافوني في الاستهزاء بهم.
وفيه تسخط عظيم لفعلهم ذلك ودلالة على اختصاص بالغ لأولئك العباد المسخور منهم، كما نبه عليه أولاً في قوله تعالى {مِّنْ عِبَادِي} وختمه بقوله تعالى {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ} إلى قوله تعالى: - {هُمُ الْفَائِزُونَ}) .
ومما سطـره الشنقيطي عند تفسيره لهذه الآيات: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ..} إلى قوله تعالى {وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} حيث قال رحمه الله:-
(قد تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، أن (إن) المكسورة المشددة من حروف التعليل كقولك: عاقبه إنه مسيء: أي لأجل إساءته، وقوله في هذه الآية {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي} الآيتين. يدل فيه لفظ إن المكسورة المشددة على أن من الأسباب التي أدخلتهم النار هو استهزاؤهم، وسخريتهم من هذا الفريق المؤمن الذي يقول: - {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} فالكفار يسخرون من ضعفاء المؤمنين في الدنيا حتى ينسيهم ذلك ذكر الله، والإيمان به فيدخلون بذلك النار.
وحتى في قوله: {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي..} حروف غاية، لاتخاذهم إياهم سخرياً أي لم يزالوا كذلك، حتى أنساهم ذلك ذكر الله والإيمان به، فكان مأواهم النار والعياذ بالله) .
(ج) أن الاستهزاء بالعلماء والصالحين لأجل ما هم عليه من العلم الشرعي، واتباعهم للقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، هو في حقيقته استهزاء بآيات الله تعالى، وسخرية بشرائع دين الله عز وجل، ولا شك أن هذا الاستهزاء كفـر يناقض الإيمان، يقول الله تعالى: - {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية:9]، ولم يجئ إعداد العذاب المهين إلا في حق الكفار .
يقول ابن حزم: (صح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآيـة من القـرآن، أو بفريضة من فرائض الدين، فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر) .
4- ونختم هذا المبحث بجملة من أقوال العلماء في تلك المسألة.
يقول القرطبي عند تفسيره لقوله تعالى: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا..} الآية {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} أي اشتغلتم بالاستهزاء عند ذكري {وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} استهزاء بهم، وأضاف الإنساء إلى المؤمنين؛ لأنهم كانوا سبباً لاشتغالهم عن ذكره، وتعدى شؤم استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكفر على قلوبهم.
ويستفيد من هذا: التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء، والمساكين، والاحتقار لهم، والإزراء عليهم والاشتغال بهم فيما لا يعني، وأن ذلك مبعد من الله عز وجل. "
وجاء في (الفتاوى البزازية): (والاستخفاف بالعلماء لكونهم علماء استخفاف بالعلم، والعلم صفة الله تعالى منحه فضلاً على خيار عباده ليدلوا خلقه على شريعته نيابة عن رسله، فاستخفافه بهذا يعلم أنه إلى من يعود) .
وجاء أيضاً: (رجل يجلس على مكان مرتفع أو لا يجلس عليه، لكن يسألونه عن مسائل بطريق الاستهزاء، ويضربونه بما شاؤا وهم يضحكون كفروا) .
ويقول ابن نجيم: (ويكفر بجلوسه على مكان مرتفع والتشبه بالمذكورين ومعه جماعة يسألون من المسائل ويضحكون منه، ثم يضربونه بالمخراق ، وكذا يكفر الجميع لاستخفافهم بالشرع، وكذا لو لم يجلس على مكان مرتفع، ولكن يستهزئ بالمذكورين ويتمشى والقوم يضحكون، وبقوله لا تذهب وإن ذهبت تطلق امرأتك استهزاء بالعلم والعلماء جواباً لمن قال إلى مجلس العلم، جواباً أين تذهب) .
ويقول أيضاً:- (ولو صغر الفقيه أو العلوي قاصداً الاستخفاف بالدين كفر، لا إن لم يقصده) .
ويقول – في كتاب آخر -: (الاستهزاء بالعلم والعلماء كفر) .
ويقول ملا علي قاري: (وفي الظهيرية من قال لفقيه أخذ شاربه: ما أشد قبحاً قص الشارب ولف طرف العمامة تحت الذقن يكفر؛ لأنه استخفاف بالعلماء يعني وهو مستلزم لاستخفاف الأنبياء عليهم السلام؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء عليهم السلام، وقص الشارب من سنن الأنبياء عليهم السلام فتقبيحه كفر بلا اختلاف بين العلماء.
وفي (الخلاصة): من قال: قصصت شاربك وألقيت العمامة على العاتق استخفافاً يعني بالعالم أو بعلمه فذلك كفر.
ونقل عن الأستاذ نجم الدين الكندي بسمرقند أن من تشبه بالمعلم على وجه السخرية، وأخذ الخشبة، وضرب الصبيان كفر، يعني لأن معلم القرآن من جملة علماء الشريعة فالاستهزاء به وبمعلمه يكون كفراً.
وفي (المحيط) ذكر أن فقيهاً وضع كتابه في دكان وذهب، ثم مر على ذلك الدكان، فقال صاحب الدكان: ههنا نسيت المنشار، فقال الفقيه عندك كتاب لا منشار، فقال صاحب الدكان: النجار بالمنشار يقطع الخشب، وأنتم تقطعون به حلق الناس، أو قال حق الناس، فشكى الفقيه إلى الإمام الفضلي يعني الشيخ محمد بن الفضل، فأمر بقتل ذلك الرجل؛ لأنه كفر باستخفاف كتب الفقه.
وفي (التتمة): من أهان الشريعة أو المسائل التي لا بد منها كفر، ومن ضحك من المتيمم كفر) .
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن بعض الناس يسخرون بالملتزمين بدين الله ويستهزئون بهم فما حكم هؤلاء؟
فأجاب: (هؤلاء الذين يسخرون بالملتزمين بدين الله المنفذين لأوامر الله فيهم نوع نفاق، فإن الله قال عن المنافقين: - {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [ التوبة:79].
ثم إن كانوا يستهزئون بهم من أجل ما هم عليه من الشرع، فإن استهزاءهم بهم استهزاء بالشريعة، والاستهزاء بالشريعة كفر، أما إذا كانوا يستهزئون بهم يعنون أشخاصهم، وزيهم بقطع النظر عما هم عليه من اتباع السنة فإنهم لا يكفـرون بذلك؛ لأن الإنسان قد يستهزئ بالشخص نفسه بقطع النظر عن عمله وفعله لكنهم على خطر عظيم) .
الباب السادس: ترك العمل بالكلية ناقض من نواقض الإيمان
الفصل الأول: الأدلة على أن ترك العمل الظاهر بالكلية ناقض للإيمان
تمهيد:
لقد استدل أهل السنة على أن عمل الجوارح من الإيمان بعشرات الأدلة من الكتاب والسنة،........ ولا أرى حاجة لذكرها هنا؛ إذ المخالف يسلّم بأن الإيمان قول وعمل، لكن ينازع في ركنية العمل الظاهر، وفي كفر تاركه بالكلية، ولهذا سيقتصر الحديث على ذكر الأدلة الخاصة بهذه الجزئية.
المبحث الأول: التلازم بين الظاهر والباطن
المطلب الأول: مفهوم التلازم
المراد بالتلازم هنا: ارتباط الظاهر بالباطن وتأثير كل منهما في الآخر، بحيث يستحيل وجود إيمان صحيح في الباطن من غير أن يظهر موجَبه ومقتضاه على أعمال الجوارح قولا وعملا، بل حيث وُجد الإيمان في الباطن لزم أن ينفعل البدن بالممكن من أعمال الجوارح. فالعمل الظاهر لازم للإيمان الباطن لا ينفك عنه، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم، فيُستدل بانتفاء العمل الظاهر بالكلية على فساد الباطن.
قال شيخ الإسلام في بيان هذا التلازم: (وإذا قام بالقلب التصديق به والمحبة له، لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجَب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة. فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجَب ما في القلب ولازمُه ودليلُه ومعلولُه، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضا تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل، والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه) .
وقال: (ثم إنه إذا تحقق القلب بالتصديق والمحبة التامة المتضمنة للإرادة لزم وجود الأفعال الظاهرة؛ فإن الإرادة الجازمة إذا اقترنت بها القدرة التامة، لزم وجود المراد قطعا، وإنما ينتفي وجود الفعل لعدم كمال القدرة، أو لعدم كمال الإرادة وإلا فمع كمالها يجب وجود الفعل الاختياري) .
وقال: (وقد بسطنا الكلام على هذه في مسألة الإيمان، وبيَّنا أن ما يقوم بالقلب من تصديق وحب لله ورسوله وتعظيم، لابد أن يظهر على الجوارح، وكذلك بالعكس، ولهذا يُستدل بانتفاء اللازم الظاهر على انتفاء الملزوم الباطن، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب))
ومن هذا الباب قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، وقوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81]، وقوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لاعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] فإن الإرادة التي في القلب مع القدرة توجب فعل المراد، والسفر في غزوة بعيدة لا يكون إلا بعدة) .
المطلب الثاني: أدلة التلازم بين الظاهر والباطن
وقد دل على هذا التلازم أدلة كثيرة من الكتاب والسنة والأثر، منها:
1- قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81]
فالإيمان في الباطن يستلزم عداوة الكافرين وترك موالاتهم في الظاهر.
2- قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَناتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]
قال شيخ الإسلام: (ولما كانت الأقوال والأعمال الظاهرة لازمة ومستلزمة للأقوال والأعمال الباطنة، كان يستدل بها عليها، كما في قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22] فأخبر أن من كان مؤمنا بالله واليوم الآخر لا يوجدون موادين لأعداء الله ورسوله، بل نفس الإيمان ينافي مودتهم، فإذا حصلت الموادة دل ذلك على خلل الإيمان وكذلك قوله: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:80-81] .
وقال: (والله سبحانه في غير موضع يبين أن تحقيق الإيمان وتصديقه بما هو من الأعمال الظاهرة والباطنة، كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِما رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:2-4]، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصادِقُونَ} [الحجرات:15]، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور:62]، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِما قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
فإذا قال القائل: هذا يدل على أن الإيمان ينتفي عند انتفاء هذه الأمور، لا يدل على أنها من الإيمان.
قيل: هذا اعتراف بأنه ينتفي الإيمان الباطن مع عدم مثل هذه الأمور الظاهرة، فلا يجوز أن يدعي أنه يكون في القلب إيمان ينافي الكفر بدون أمور ظاهرة، لا قول ولا عمل وهو المطلوب. -وذلك تصديق- وذلك لأن القلب إذا تحقق ما فيه أثر في الظاهر ضرورة، لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر. فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور. فإذا كان في القلب حب الله ورسوله ثابتا استلزم موالاة أوليائه ومعاداة أعدائه {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:81] فهذا التلازم أمر ضروري. ومن جهة ظن انتفاء التلازم غلط غالطون، كما غلط آخرون في جواز وجود إرادة جازمة مع القدرة التامة بدون الفعل، حتى تنازعوا: هل يعاقب على الإرادة بلا عمل؟ وقد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع، وبينا أن الهمة التي لم يقترن بها فعل ما يقدر عليه الهامُّ ليست إرادة جازمة، وأن الإرادة الجازمة لا بد أن يوجد معها ما يقدر عليه العبد. والعفو وقع عمن همّ بسيئة ولما يفعلها، لا عمن أراد وفعل المقدور عليه وعجز عن حصول مراده، كالذي أراد قتل صاحبه فقاتله حتى قتل أحدهما؛ فإن هذا يعاقب؛ لأنه أراد وفعل المقدور من المراد.
ومن عرف الملازمات التي بين الأمور الباطنة والظاهرة زالت عنه شبهات كثيرة في مثل هذه المواضع التي كثر اختلاف الناس فيها) .
وقال أيضا: (وإذا أفرد الإيمان أدخل فيه الأعمال الظاهرة؛ لأنها لوازم ما في القلب، لأنه متى ثبت الإيمان في القلب والتصديق بما أخبر به الرسول، وجب حصول مقتضي ذلك ضرورة؛ فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه. فإذا ثبت التصديق في القلب لم يتخلف العمل بمقتضاه البتة. فلا تستقر معرفة تامة ومحبة صحيحة ولا يكون لها أثر في الظاهر. ولهذا ينفي الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه؛ فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، كقوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:81]، وقوله: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] الآية ونحوها، فالظاهر والباطن متلازمان، لا يكون الظاهر مستقيما إلا مع استقامة الباطن، وإذا استقام الباطن فلا بد أن يستقيم الظاهر؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب)) . وفي الحديث: ((لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ لِسَانُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ)) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ولهذا كان الظاهر لازما للباطن من وجه، وملزوما له من وجه، وهو دليل عليه من جهة كونه ملزوما لا من جهة كونه لازما؛ فإن الدليل ملزوم المدلول، يلزم من وجود الدليل وجود المدلول، ولا يلزم من وجود الشيء وجود ما يدل عليه. والدليل يطرد ولا ينعكس، بخلاف الحد فإنه يطرد وينعكس. .
3- قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].
فإذا وجدت الإرادة الجازمة مع القدرة، لزم أن يوجد المراد، وتخلف المراد هنا، وهو إعداد العدة للسفر، يدل على انتفاء إرادة الخروج.
قال القرطبي: قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] أي لو أرادوا الجهاد لتأهبوا أهبة السفر. فتركهم الاستعداد دليل على إرادتهم التخلف. .
4- قوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} [آل عمران:152].
فلما اختلفت نياتهم الباطنة، تباينت أعمالهم الظاهرة.
قال ابن كثير: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:152] وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة) .
وقال البغوي: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا}:[آل عمران:152] يعني الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} [آل عمران:152]: يعني الذين ثبتوا مع عبدالله بن جبير حتى قتلوا. قال ابن مسعود: ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد، ونزلت هذه الآية. .
5- قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوني} [آل عمران:31].
فمتى قامت المحبة بالقلب مع التصديق، لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة، كما سبق تقريره نقلا عن شيخ الإسلام رحمه الله.
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي: يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن علامة المحبة الصادقة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم هي اتباعه صلى الله عليه وسلم، فالذي يخالفه ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفتر؛ إذ لو كان محبا له لأطاعه، ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة، ومنه قول الشاعر:

لو كان حبُّكَ صادقا لأطعته
إنّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيع

وقول ابن أبي ربيعة المخزومي:

ومن لو نهاني من حبه عن
الماء عطشان لم أشرب

وقال ابن كثير: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، كما ثبت في (الصحيح) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)) ، ولهذا قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوني يُحببكم الله} [آل عمران:31] .
وقال ابن القيم: فأصل العبادة: محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه. فمحبتنا لهم من تمام محبته، وليست محبة معه، كمحبة من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحبه.
وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع أمره، واجتناب نهيه. فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة. ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله علما عليها، وشاهدا لمن ادعاها، فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوني يُحببكم الله} [آل عمران:31] فجعل اتباع رسوله مشروطا بمحبتهم لله، وشرطا لمحبة الله لهم. ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه، وتحققه بتحققه. فعُلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة. فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم. فيستحيل إذاً ثبوت محبتهم لله، وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله.
ودل على أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم: هي حب الله ورسوله، وطاعة أمره. .
فتأمل قوله: (فعُلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة...) الخ، وقارن هذا بما يتخيله دعاة الإرجاء من وجود التصديق والانقياد والخوف والرجاء والمحبة في قلبِ من يعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يؤدي لله طاعة، مع قدرته وتمكنه من ذلك، ثم يقولون: نحن مع أهل السنة في إثبات التلازم بين الظاهر والباطن!!
ولجهل المرجئة بهذا التلازم صاروا يفرضون مسائل يمتنع وقوعها، مثل قولهم: رجل يشهد أن لا إله إلا الله وفي قلبه التصديق والانقياد والمحبة، لكنه لا يعمل خيرا قط من أعمال الجوارح، مع العلم والتمكن والقدرة، ثم اجترؤوا فقالوا: هذا مسلم عند جمهور أهل السنة، وزاد بعضهم: ولا يكفره إلا الخوارج!! فيبقى المؤمنون العارفون ينكرون ذلك غاية الإنكار.
6- ومن الأدلة الصريحة في إثبات التلازم بين الظاهر والباطن: ما رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ الناسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ)) .
قال شيخ الإسلام بعد ذكر الحديث: (... فمن صلح قلبه صلح جسده قطعا بخلاف العكس) .
وقال: فالظاهر والباطن متلازمان، لا يكون الظاهر مستقيما إلا مع استقامة الباطن، وإذا استقام الباطن فلا بد أن يستقيم الظاهر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب)) ، وقال عمر لمن رآه يعبث في صلاته: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه. وفي الحديث: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم لسانه، ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه)) .
وقال أيضا: ثم القلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب)) . وقال أبو هريرة: ((القلب ملك والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده)) . وقول أبي هريرة تقريب. وقول النبي صلى الله عليه وسلم أحسن بيانا؛ فإن الملك وإن كان صالحا فالجند لهم اختيار قد يعصون به ملكهم وبالعكس، فيكون فيهم صلاح مع فساده أو فساد مع صلاحه، بخلاف القلب فإن الجسد تابع له لا يخرج عن إرادته قط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد)) .
فإذا كان القلب صالحا بما فيه من الإيمان علما وعملا قلبيا، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أئمة أهل الحديث: قول وعمل: قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر. والظاهر تابع للباطن لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد، ولهذا قال من قال من الصحابة عن المصلي العابث: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه) .
وقال: (وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ)) فبين أن صلاح القلب مستلزِمٌ لصلاح الجسد، فإذا كان الجسد غير صالح دلّ على أن القلب غير صالح، و القلبُ المؤمن صالح، فعُلم أنّ من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به، لا يكون قلبه مؤمنا، حتى إن المكره إذا كان في إظهار الإيمان فلابد أن يتكلم مع نفسه، وفي السر مع من يأمن إليه، ولابد أن يظهر على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، كما قال عثمان، وأما إذا لم يظهر أثر ذلك، لا بقوله ولا بفعله قط، فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان، وذلك أن الجسد تابع للقلب، فلا يستقر شيء في القلب إلا ظهر موجَبه و مقتضاه على البدن، و لو بوجه من الوجوه) .
وقال ابن مفلح: قال الشيخ تقي الدين: فأخبر أن صلاح القلب مستلزم لصلاح سائر الجسد، وفساده مستلزم لفساد سائر الجسد. فإذا رُأي ظاهر الجسد فاسدا غير صالح، عُلم أن القلب ليس بصالح بل فاسد. ويمتنع فساد الظاهر مع صلاح الباطن، كما يمتنع صلاح الظاهر مع فساد الباطن؛ إذ كان صلاح الظاهر وفساده ملازما لصلاح الباطن وفساده.
قال عثمان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه. .
وقال الشيخ حافظ الحكمي: (ومحال أن ينتفي انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ)) . ومن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السنة في الإيمان هو التصديق على ظاهر اللغة، أنهم إنما عنوا التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد ظاهرا وباطنا بلا شك، لم يعنوا مجرد التصديق) .
7- وروى ابن أبي شيبة عن الحسن قال: إن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، إنما الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل. .
وجملة القول: أن التلازم بين الظاهر والباطن فرقان بين أهل السنة والمرجئة في باب الإيمان، وأن من عرف هذا التلازم زالت عنه شبهات كثيرة في مثل هذه المواضع التي كثر اختلاف الناس فيها
المبحث الثاني: إجماع أهل السنة على أن العمل جزء لا يصح الإيمان إلا به
وقد حكى هذا الإجماع ونقله غير واحد من أهل السنة، بألفاظ متقاربة، يدل مجموعها على أن الإيمان لا يجزئ من دون عمل الجوارح.
ومن هؤلاء:
1- الإمام الشافعي، ت: 204هـ، حيث قال: (وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر) .
2- الإمام الحميدي، ت: 219هـ، حيث قال: (وأخبرت أن قوما يقولون: إن من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموت، أو يصلي مسند ظهره مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن ما لم يكن جاحدا، إذا علم أن تركه ذلك في إيمانه، إذا كان يقر الفروض واستقبال القبلة. فقلت: هذا الكفر بالله الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفعل المسلمين، قال الله عز وجل: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] قال حنبل: قال أبو عبدالله أو سمعته يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على الله أمره وعلى الرسول ما جاء به) .
3- الإمام الآجري، ت: 360هـ، حيث قال: (بل نقول– والحمد لله– قولا يوافق الكتاب والسنة وعلماء المسلمين الذين لا يستوحش من ذكرهم، وقد تقدم ذكرنا لهم: إن الإيمان معرفة بالقلب تصديقا يقينا، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، لا يكون مؤمنا إلا بهذه الثلاثة، لا يجزئ بعضها عن بعض، والحمد لله على ذلك) .
وقال أيضا: (اعلموا رحمنا الله تعالى وإياكم: أن الذي عليه علماء المسلمين أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح.
ثم اعلموا أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقا، ولا تجزئ معرفة بالقلب ونطق باللسان حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال كان مؤمنا. دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين) .
وقال أيضا: (اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الذي عليه علماء المسلمين واجب على جميع الخلق: وهو تصديق القلب، وإقرار اللسان، وعمل الجوارح.
ثم إنه لا تجزئ معرفة بالقلب ونطق باللسان حتى يكون معه عمل بالجوارح. فإذا اكتملت فيه هذه الخصال الثلاثة كان مؤمنا، دل على ذلك الكتاب والسنة وقول علماء المسلمين.
ولا ينفع القول إذا لم يكن القلب مصدقا بما ينطق به اللسان مع القلب. وإنما الإيمان بما فرض الله على الجوارح تصديقا لما أمر الله به القلب، ونطق به اللسان، لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، وفي غير موضع من القرآن، ومثله فرض الحج وفرض الجهاد على البدن بجميع الجوارح.
والأعمال بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان.
فمن لم يصدق بجوارحه مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه هذه، ومن رضي لنفسه بالمعرفة دون القول والعمل لم يكن مؤمنا. ومن لم يعتقد المعرفة والقول كان تركه للعمل تكذيبا منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرنا تصديقا منه لإيمانه، فاعلم ذلك. هذا مذهب علماء المسلمين قديما وحديثا، فمن قال غير هذا فهو مرجئ خبيث، فاحذره على دينك.
والدليل عليه قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] .
4- أبو طالب المكي، ت: 386هـ، حيث قال: وأيضا: فإن الأمة مجمعة أن العبد لو آمن بجميع ما ذكرناه من عقود القلب في حديث جبريل عليه السلام من وصف الإيمان، ولم يعمل بما ذكرناه من وصف الإسلام بأعمال الجوارح، لا يسمى مؤمنا، وأنه إن عمل بجميع ما وصف به الإسلام ثم لم يعتقد ما وصفه من الإيمان، أنه لا يكون مسلما. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة) .
وقال كلاما نفيسا قبل هذا، يوضح مراده- وسيأتي نقل أكثره- ومن ذلك قوله: (ومن كان ظاهره أعمال الإسلام، (و)لا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب، فهو منافق نفاقا ينقل عن الملة. ومن كان عقده الإيمان بالغيب، (و)لا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام، فهو كافر كفرا لا يثبت معه توحيد) .
5- الإمام ابن بطة العكبري، ت: 387هـ، حيث قال: (باب بيان الإيمان وفرضه وأنه: تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح والحركات، لا يكون العبد مؤمنا إلا بهذه الثلاث.
قال الشيخ: اعلموا رحمكم الله أن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه فرض على القلب المعرفة به والتصديق له ولرسله ولكتبه وبكل ما جاءت به السنة، وعلى الألسن النطق بذلك والإقرار به قولا، وعلى الأبدان والجوارح العمل بكل ما أمر به وفرضه من الأعمال، لا تجزئ واحدة من هذه إلا بصاحبتها.
ولا يكون العبد مؤمنا إلا بأن يجمعها كلها حتى يكون مؤمنا بقلبه، مقرا بلسانه، عاملا مجتهدا بجوارحه.
ثم لا يكون أيضا مع ذلك مؤمنا حتى يكون موافقا للسنة في كل ما يقوله ويعمله، متبعا للكتاب والعلم في جميع أقواله وأعماله.
وبكل ما شرحته لكم نزل به القرآن ومضت به السنة، وأجمع عليه علماء الأمة) .
وتأمل قوله: (لا تجزئ واحدة من هذه إلا بصاحبتها) فإنه موافق لما حكاه الشافعي: كما سبق.
6- شيخ الإسلام ابن تيمية، ت: 728هـ، حيث قال في معرض الاستدلال على تكفير تارك الصلاة، والمناقشة لأدلة المخالفين: (وأيضا فإن الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، كما دل عليه الكتاب والسنة و أجمع عليه السلف، وعلى ما هو مقرر في موضعه، فالقول تصديق الرسول، والعمل تصديق القول، فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمنا.
والقول الذي يصير به مؤمنا قول مخصوص، وهو الشهادتان، فكذلك العمل هو الصلاة. وأيضا فإن حقيقة الدين هو الطاعة والانقياد، وذلك إنما يتم بالفعل، لا بالقول فقط، فمن لم يفعل لله شيئا فما دان لله دينا، و من لا دين له فهو كافر) .
7- الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، ت: 1206هـ، حيث قال: (لا خلاف بين الأمة أن التوحيد: لابد أن يكون بالقلب، الذي هو العلم؛ واللسان الذي هو القول، والعمل الذي هو تنفيذ الأوامر والنواهي، فإن أخل بشيء من هذا، لم يكن الرجل مسلما.
فإن أقر بالتوحيد، ولم يعمل به، فهو كافر معاند، كفرعون وإبليس. وإن عمل بالتوحيد ظاهراً، وهو لا يعتقده باطناً، فهو منافق خالصاً، أشر من الكافر والله أعلم) .
وقال أيضا: اعلم رحمك الله أن دين الله يكون على القلب بالاعتقاد وبالحب وبالبغض، ويكون على اللسان بالنطق وترك النطق بالكفر، ويكون على الجوارح بفعل أركان الإسلام، وترك الأفعال التي تكفر، فإذا اختل واحدة من هذه الثلاث كفر وارتد .
وقال في آخر (كشف الشبهات): (ولنختم الكلام إن شاء الله بمسألة عظيمة مهمة جدا تفهم مما تقدم، ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها، ولكثرة الغلط فيها، فنقول: لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلما. فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما. وهذا يغلط فيه كثير من الناس، يقولون: هذا حق، ونحن نفهم هذا، ونشهد أنه الحق، ولكننا لا نقدر أن نفعله، ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، أو غير ذلك من الأعذار، ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق، ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار، كما قال تعالى: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} [التوبة:9]، وغير ذلك من الآيات، كقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً، وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه، فهو منافق، وهو شر من الكافر الخالص {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النارِ} [النساء:145]. وهذه المسألة مسألة طويلة تبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس، ترى من يعرف الحق ويترك العمل به، لخوف نقص دنياه أو جاهه أو مداراة، وترى من يعمل به ظاهراً لا باطناً، فإذا سألته عما يعتقده بقلبه فإذا هو لا يعرفه) .
قلت: وقد نقل عنه المخالف غير مرة أنه لا يكفر بترك المباني الأربعة، واعتمد على قول الشيخ: وقد سئل عما يقاتل عليه، وعما يكفر الرجل به: (أركان الإسلام الخمسة، أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة؛ فالأربعة إذا أقر بها، وتركها تهاوناً، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفّره بتركها؛ والعلماء: اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود؛ ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان) .
وجوابه من وجهين:
الأول: أنه لم يتحرر لي مذهب الشيخ: في تكفير تارك الصلاة، فما ذكر هنا يعارضه قوله: (هل يشترط في الواجب ، النطق بالشهادتين؟ أو يصير مسلماً بالمعرفة؟ فذكر أنه لا يصير مسلماً إلا ّ بالنطق للقادر عليه، والمخالف في ذلك جهم، ومن تبعه؛ وقد أفتى الإمام أحمد، وغيره من السلف، بكفر من قال: إنه يصير مسلماً بالمعرفة، وتفرّع على هذه مسائل؛ منها: من دُعي إلى الصلاة فأبى، مع الإقرار بوجوبها، هل يقتل كفراً؟ أو حداً؟ ومن قال: يقتل حداً، من رأى أن هذا أصل المسألة) .
وظاهر هذا أنه يرى كفر تارك الصلاة إذا دعي إليها وأبى، كما هو المعروف من مذهب الحنابلة.
وما ذكره: من أن الخلاف هنا متفرع على الخلاف في مسألة الإيمان، هو ما قرره شيخ الإسلام بقوله: (وعُلم أن من قال من الفقهاء: إنه إذا أقر بالوجوب، وامتنع عن الفعل، لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه؛ فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان، وأن الأعمال ليست من الإيمان) .
الوجه الثاني: أنه على فرض أن الشيخ: لا يكفر بترك الصلاة والزكاة والصوم والحج، فهذا من أبلغ الرد على المخالف في زعمه أن مسألة ترك العمل راجعة إلى مسألة ترك الصلاة، خلافا ومأخذا، والحق أن الأُولى مجمع عليها بين أهل السنة، بخلاف الثانية، والشيخ هنا: مع عدم تكفيره لتارك المباني الأربعة، يجزم بكفر تارك عمل الجوارح بالكلية، ويحكي الإجماع على هذا، فلله الحمد والمنة.
8- أحد أئمة الدعوة، حيث قال في (التوضيح عن توحيد الخلاق): (فأهل السنة مجمعون على أنه متى زال عمل القلب فقط، أو هو مع عمل الجوارح: زال الإيمان بكليته. وإن وُجد مجرد التصديق، فلا ينفع مجردا عن عمل القلب والجوارح معا، أو أحدهما ، كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول صلى الله عليه وسلم سرا وجهرا) .
9- الشيخ عبدالرحمن بن حسن، ت: 1285هـ، حيث قال: (قوله: ((مَنْ شَهِدَ أَن لا إِلَهَ إِلا الله)) أي تكلم بها عارفا لمعناها، عاملا بمقتضاها باطنا وظاهرا ، كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد:19]، وقوله: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] أما النطق بها من غير معرفة معناها، ولا يقين ولا عمل بمقتضاها، من نفي الشرك وإخلاص القول والعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، فغير نافع بالإجماع) .
وقال: وفي الآية رد على المرجئة والكرامية، ووجهه أنه لم ينفع هؤلاء قولهم: آمنا بالله، مع عدم صبرهم على أذى من عاداهم في الله، فلا ينفع القول والتصديق بدون العمل. فلا يصدق الإيمان الشرعي على الإنسان إلا باجتماع الثلاثة: التصديق بالقلب وعمله، والقول باللسان، والعمل بالأركان، وهذا قول أهل السنة والجماعة، سلفا وخلفا، والله سبحانه أعلم) .
10- الشيخ عبد اللطيف بن عبدالرحمن بن حسن، ت: 1292هـ، حيث قال في رده على من شنع على شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب لأجل كلامه السابق، ونسبه إلى الخوارج: (قد تقدم مرارا أن المعترض له حظ وافر من صناعة التبديل والتحريف، كما وصف الله اليهود بذلك في غير آية والذبح والنذر لغير الله، وإخلاص الدين في ذلك كله لله. هذا ما دل عليه كلام شيخنا في (كشف الشبهات) وهذا مجمع عليه بين أهل العلم. فإذا اختل أحد هذه الثلاثة اختل الإسلام وبطل، كما دل عليه حديث جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان، فبدأ بتعريف الإسلام بالشهادتين، ولا شك أن العلم والقول والعمل مشترط في صحة الإتيان بهما، وهذا لا يخفى على أحد شم رائحة العلم، وإنما خالف الخوارج فيما دون ذلك من ظلم العبد لنفسه، وظلمه لغيره من الناس) .
11- الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ت: 1377هـ، حيث قال: (بل إجماع بين أهل العلم (أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل)، فلا بد من الثلاثة، لابد أن يكون هو المعتقَد في قلبه، ولابد أن يكون هو الذي ينطق به لسانه، ولابد أن يكون هو الذي تعمل به جوارحه، (فإن اختل شيء من هذا): لو وحّد بلسانه دون قلبه ما نفعه توحيده، ولو وحد بقلبه وأركانه دون لسانه ما نفعه ذلك، ولو وحَّــد بأركانـه دون الباقي (لم يكن الرجل مسلماً)، هذا إجماع أن الإنسان لابد أن يكون موحداً باعتقاده ولسانه وعمله) .
... ومن عرف التوحيد الذي دعت إليه الرسل، زال عنه الإشكال في هذه المسألة، فإن التوحيد هو إفراد الله تعالى بالعبادة، و(لا إله إلا الله) تعني أنه لا معبود بحق إلا الله، فالتوحيد يقوم على عبادة الله وحده بالقلب واللسان والجوارح، بل حقيقة الدين هو الطاعة والانقياد،..... ولا يتم هذا إلا بالعمل، فكيف يتصور بقاء التوحيد في قلب من عاش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يؤدي له فرضا ولا نفلا.
وقد بان من خلال النقولات السابقة أن أهل السنة مجمعون على أن الإيمان قول وعمل، أو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، وأن هذه الثلاثة لا يجزئ بعضها عن بعض، ولا ينفع بعضها دون بعض، وأن العمل تصديق للقول، فمن لم يصدق القول بعمله كان مكذبا.
المبحث الثالث: إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة
ووجه الاستدلال بهذا الإجماع في مسألتنا: أن تارك أعمال الجوارح بالكلية تارك للصلاة ضمنا، فإذا ثبت إجماعهم على كفر تارك الصلاة وحدها، كان كفر تارك العمل الظاهر كله أحق وأولى بالإجماع.
وقد حكى هذا الإجماع جماعة من الصحابة والأئمة الذين لم يُعرفوا بالتساهل في نقل الإجماع، ومنهم:
1- جابر بن عبدالله رضي الله عنه: وقد سأله مجاهد بن جبر: ما كان يفرق بين الكفر والإيمان عندكم من الأعمال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: الصلاة .
2- أبو هريرة رضي الله عنه: عن عبدالله بن شقيق عن أبي هريرة قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفرا غير الصلاة .
3- الحسن البصري: قال: بلغني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: بين العبد وبين أن يشرك فيكفر أن يدع الصلاة من غير عذر .
4- عبدالله بن شقيق: قال: لم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة .
5- أيوب السختياني: قال: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه .
6- إسحاق بن راهويه: قال الإمام محمد بن نصر: سمعت إسحاق يقول: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر. .
وقال ابن رجب: (وكثير من علماء أهل الحديث يرى تكفير تارك الصلاة، وحكاه إسحاق بن راهويه إجماعا منهم حتى إنه جعل قول من قال: لا يكفر بترك هذه الأركان مع الإقرار بها من أقوال المرجئة، وكذلك قال سفيان بن عيينة...) .
7- محمد بن نصر المروزي: قال: (قد ذكرنا في كتابنا هذا ما دل عليه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من تعظيم قدر الصلاة وإيجاب الوعد بالثواب لمن قام بها، والتغليظ بالوعيد على من ضيعها، والفرق بينها وبين سائر الأعمال في الفضل، وعظم القدر. ثم ذكرنا الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في إكفار تاركها، وإخراجه إياه من الملة، وإباحة قتال من امتنع من إقامتها، ثم جاءنا عن الصحابة مثل ذلك، ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك) .
8- ابن تيمية: قال في بيان أدلة تكفير تارك الصلاة، بعد ذكر أدلة من الكتاب والسنة، وبيان أنه القول المنقول عن جمهور السلف: (ولأنّ هذا إجماع الصحابة. قال عمر لما قيل له وقد خرج إلى الصلاة: نعم ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة وقصته في الصحيح، وفي رواية عنه قال: لا إسلام لمن لم يصل رواه النجاد، وهذا قاله بمحضر من الصحابة) .
9- ابن القيم: وقد ذكر أن من كفر تارك الصلاة استدل بالكتاب والسنة وبإجماع الصحابة، ثم قال: (وأما إجماع الصحابة، فقال ابن زنجويه: حدثنا عمر بن الربيع حدثنا يحيى بن أيوب عن يونس عن ابن شهاب قال: حدثني عبيد الله بن عبدالله بن عتبة أن عبدالله بن عباس أخبره أنه جاء عمر بن الخطاب حين طعن في المسجد، قال: فاحتملته أنا ورهط كانوا معي في المسجد حتى أدخلناه بيته. قال: فأمر عبدالرحمن بن عوف أن يصلي بالناس. قال: فلما دخلنا على عمر بيته غشي عليه من الموت، فلم يزل في غشيته حتى أسفر، ثم أفاق فقال: هل صلى الناس؟ قال: فقلنا: نعم، فقال: لا إسلام لمن ترك الصلاة، وفي سياق آخر:لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ثم دعا بوضوء فتوضأ وصلى، وذكر القصة. فقال هذا بمحضر من الصحابة ولم ينكروه عليه. وقد تقدم مثل ذلك عن معاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، ولا يعلم عن صحابي خلافهم) .
ثم قال ابن القيم في خاتمة الفصل الذي جعله في الحكم بين الفريقين: (ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها ودعي إلى فعلها على رؤوس الملأ وهو يرى بارقة السيف على رأسه، ويُشد للقتل، وعصبت عيناه، وقيل له: تصلي وإلا قتلناك، فيقول: اقتلوني ولا أصلي أبدا. ومن لا يكفر تارك الصلاة يقول: هذا مؤمن مسلم، يغسّل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين وبعضهم يقول: إنه مؤمن كامل الإيمان إيمانه كإيمانه جبريل وميكائيل! فلا يستحي من هذا قوله، من إنكاره تكفير من شهد بكفره الكتاب والسنة واتفاق الصحابة. والله الموفق) .
10- الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، قال: (فهذه الأحاديث كما ترى، صريحة في كفر تارك الصلاة، مع ما تقدم من إجماع الصحابة، كما حكاه إسحاق بن راهويه، وابن حزم، وعبد الله بن شقيق، وهو مذهب جمهور العلماء من التابعين ومن بعدهم) .
11- الشيخ محمد بن إبراهيم، قال: (فقد وصلني كتابك الذي تستفتي به عن الرجل الذي وعظ في أَحد المساجد وقال: من ترك الصلاة تهاونًا وكسلا يقتل. وتسأَل عن كلام العلماء في ذلك؟
فالجواب: الحمد لله. ذهب إِمامنا أَحمد بن حنبل والشافعي في أَحد قوليه وإِسحاق بن راهويه، وعبدالله بن المبارك والنخعي والحكم وأَيوب السختياني وأَبو داود الطيالسي وغيرهم من كبار الأَئمة والتابعين إِلى أَن تاركها كافر. وحكاه إِسحق بن راهويه إِجماعًا، ذكره عنه الشيخ أَحمد بن حجر الهيثمي في شرح الأَربعين، وذكره في كتاب (الزواجر عن اقتراف الكبائر) عن جمهور الصحابة. وقال الإِمام أَبو محمد بن حزم: سائر الصحابة ومن بعدهم من التابعين يكفرون تارك الصلاة مطلقًا، ويحكمون عليه بالارتداد منهم أَبو بكر وعمر وابنه عبدالله وعبدالله بن مسعود وابن عباس ومعاذ وجابر وعبد الرحمن بن عوف وأَبو الدرداء وأَبو هريرة وغيرهم من الصحابة ولا نعلم لهم مخالفًا من الصحابة، واحتجوا على كفر تاركها بما رواه مسلم في (صحيحه) عن جابر بن عبدالله، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بَيْن الرَّجل وَبَيْن الشِّرْكِ وَالكُفر ترْكُ الصَّلاةِ)) ، وعن بريدة بن الحصيب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الْعَهدُ الَّذِيْ بَيْننا وَبَيْنهُمْ الصَّلاةُ فمَن ترَكها فقدْ كفرَ)) رواه الإِمام أَحمد وأَهل السنن. ... وعن معاذ مرفوعًا ((مَن تَرَكَ صَلاَةً مَكتُوْبَةً مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرئَت مِنهُ ذِمَّةُ اللهِ)) ، وعن عبدالله بن شقيق العقيلي قال: كان أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأَعمال تركه كفر غير الصلاة. رواه الترمذي. فهذه الأَحاديث كما ترى صريحة في كفر تارك الصلاة مع ما تقدم من إِجماع الصحابة، كما حكاه إِسحق بن راهويه وابن حزم وعبدالله بن شقيق، وهو مذهب جمهور العلماء والتابعين ومن بعدهم) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
12- الشيخ عبدالعزيز بن باز، قال: (... ولهذا ذكر عبدالله بن شقيق العقيلي التابعي الجليل، عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم كانوا لا يرون شيئا تركه كفر غير الصلاة، فهذا يدل على أن تركها كفر أكبر بإجماع الصحابة؛ لأن هناك أشياء يعرفون عنها أنها كفر، لكنه كفر دون كفر، مثل البراءة من النسب، ومثل القتال بين المؤمنين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((سِبَابُ المُسْلِمُ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)) فهذا كفر دون كفر إذا لم يستحله، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ كُفْراً بِكُمْ التَّبَرُّؤُ مِنْ آبَائِكُمْ)) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((اثْنَتَانِ فِي الناسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ النِّيَاحَةُ وَالطَّعْنُ فِي النَّسَبِ)) فهذا كله كفر دون كفر عند أهل العلم؛ لأنه جاء منكرا غير معرف بـ (أل)، ودلت الأدلة الأخرى دالة على أن المراد به غير الكفر الأكبر، بخلاف الصلاة فإن أمرها عظيم، وهي أعظم شيء بعد الشهادتين، وعمود الإسلام) .
وبعد: (فهذا الإجماع أقوى دليل في هذه المسألة، وأصرح دليل فيها؛ إذ لا يعتريه احتمال ولا تأويل. وهو ما يؤكد ما دلت عليه ظواهر النصوص بأن المراد بالكفر فيها الكفر المخرج من الملة. وهو يردُّ على كل من أراد صرف تلك النصوص عن ظواهرها، بأن المراد كفر دون كفر. بل هذا الإجماع يوجب على كل منصف الرجوع عن كل قول مخالف له، فإن الأئمة الأربعة وعامة العلماء على أن الإجماع حجة قطعية، لا يجوز العدول عنها. فمن قال من العلماء بخلاف ما دل عليه هذا الإجماع، لعل له عذره أو اجتهاده الذي يؤجر عليه، لكن هذا العذر قد زال عمن اطلع على هذا الإجماع ووقف عليه) .
تنبيهان:
الأول: ما ذهب إليه بعض أهل العلم من حمل أحاديث كفر تارك الصلاة على الكفر الأصغر، قد ردّه شيخ الإسلام من تسعة أوجه، قال في (شرح العمدة): وأما حمله على كفر دون كفر، فهذا حمل صحيح ومحمل مستقيم في الجملة في مثل هذا الكلام، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين في كثير من المواضع مفسراً، لكن الكفر الوارد في الصلاة هو الكفر الأعظم لوجوه:
أحدها: أن الكفر المطلق هو الكفر الأعظم المخرج عن الملة فينصرف الإطلاق إليه، وإنما صرف في تلك المواضع إلى غير ذلك لقرائن انضمت إلى الكلام، ومن تأمل سياق كل حديث وجده معه، وليس هنا شيء يوجب صرفه عن ظاهره، بل هنا ما تقرره على الظاهر.
الثاني: أن ذلك الكفر منكر مبهم مثل قوله: ((وقتاله كفر))، ((هما بهم كفر)) وقوله: ((كفر بالله)) وشبه ذلك، وهنا عرف باللام بقوله: ((ليس بين العبد وبين الكفر أو قال الشرك)) والكفر المعرف ينصرف إلى الكفر المعروف وهو المخرج عن الملة.
الثالث: أن في بعض الأحاديث: ((فقد خرج من الملة)) وفي بعضها: ((بينه وبين الإيمان)) وفي بعضها: ((بينه وبين الكفر)) وهذا كله يقتضي أن الصلاة حدٌّ تُدخله إلى الإيمان إن فعله، وتخرجه عنه إن تركه.
الرابع: أن قوله: (ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة)، وقوله: (كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة) لا يجوز أن يراد به إلا الكفر الأعظم؛ لأن بينه وبين غير ذلك مما يسمى كفرا أشياء كثيرة، ولا يقال: فقد يخرج من الملة بأشياء غير الصلاة، لأنا نقول: هذا ذكر في سياق ما كان من الأعمال المفروضة، وعلى العموم يوجب تركه الكفر، وما سوى ذلك من الاعتقادات فإنه ليس من الأعمال الظاهرة.
الخامس: أنه خرج هذا الكلام مخرج تخصيص الصلاة وبيان مرتبتها على غيرها في الجملة، ولو كان ذلك الكفر فسقاً لشاركها في ذلك عامة الفرائض.
السادس: أنه بين أنها آخر الدين، فإذا ذهب آخره ذهب كله.
السابع: أنه بين أن الصلاة هي العهد الذي بيننا وبين الكفار، وهم خارجون عن الملة ليسوا داخلين فيها، واقتضى ذلك أن من ترك هذا العهد فقد كفر، كما أن من أتى به فقد دخل في الدين، ولا يكون هذا إلا في الكفر المخرج من الملة.
الثامن: أن قول عمر: (لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة) أصرح شيء في خروجه عن الملة، وكذلك قول ابن مسعود وغيره، مع أنه بيّن أن إخراجها عن الوقت ليس هو الكفر وإنما هو الترك بالكلية، وهذا لا يكون إلا فيما يخرج من الملة.
التاسع: ما تقدم من حديث معاذ ؛ فإن فسطاطا على غير عمود لا يقوم، كذلك الدين لا يقوم إلا بالصلاة.
وفي هذه الوجوه يبطل قول من حملها على من تركها جاحدا.
وأيضا قوله: (كانوا لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر" وقوله: ليس بين العبد وبين الكفر وغير ذلك مما يوجب اختصاص الصلاة بذلك، وترك الجحود لا فرق فيه بين الصلاة وغيرها؛ ولأن الجحود نفسه هو الكفر من غير ترك حتى لو فعلها مع ذلك لم ينفعه، فكيف يعلق الحكم على ما لم يذكر؟!
ولأن المذكور هو الترك، وهو عام في من تركها جحودا أو تكاسلا، ولأن هذا عدول عن حقيقة الكلام من غير موجب فلا يلتفت إليه) .
التنبيه الثاني: ما يردده بعض المخالفين من قولهم: كيف خفي هذا الإجماع على الأئمة الذين ذهبوا إلى عدم تكفير تارك الصلاة؟
جوابه أن يقال: إذا ثبت إجماع الصحابة، فهو حجة على من بعدهم، وأقوال العلماء يحتج لها، ولا يحتج بها، وباب العذر واسع، فالمخالف ربما لم يبلغه الإجماع، أو تأوله بنوع تأويل، والمسألة لها نظائر، فمن ذلك:
1- أنه قد نقل غير واحد إجماع الصحابة على منع بيع أمهات الأولاد، وخالف في ذلك من خالف .
قال ابن قدامة: (ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم بدليل قول علي كرم الله وجهه: كان رأيي ورأي عمر أن لا تباع أمهات الأولاد، وقوله: فقضى به عمر حياته وعثمان حياته، وقول عبيدة: رأي علي ... وعمر في الجماعة أحب إلينا من رأيه وحده. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: قال عمر رضي الله عنهم: ما من رجلٍ كان يقر بأنه يطأ جاريته ثم يموت إلا أعتقها ولدها إذا ولدت وإن كان سقطا.
فإن قيل: فكيف تصح دعوى الإجماع مع مخالفة علي وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم؟ قلنا: قد روي عنهم الرجوع عن المخالفة، فقد روى عبيدة قال: بعث إليَّ علي ... وإلى شريح أن اقضوا كما كنتم تقضون فإني أبغض الاختلاف. وابن عباس قال: ولد أم ولد بمنزلتها، وهو الراوي لحديث عتقهن عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر، فيدل على موافقته لهم، ثم قد ثبت الإجماع باتفاقهم قبل المخالفة، واتفاقهم معصوم عن الخطأ؛ فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يجوز أن يخلو زمن عن قائم لله بحجته، ولو جاز ذلك في بعض العصر لجاز في جميعه، ورأي الموافق في زمن الاتفاق خير من رأيه في الخلاف بعده، فيكون الاتفاق حجة على المخالف له منهم كما هو حجة على غيره.
فإن قيل: فلو كان الاتفاق في بعض العصر إجماعا حرمت مخالفته، فكيف خالفه هؤلاء الأئمة الذين لا تجوز نسبتهم إلى ارتكاب الحرام؟ قلنا: الإجماع ينقسم إلى مقطوع به ومظنون، وهذا من المظنون، فيمكن وقوع المخالفة منهم له مع كونه حجة، كما وقع منهم مخالفة النصوص الظنية، ولا تخرج بمخالفتهم عن كونها حجة، كذا ههنا) .
ويقال هنا أيضا: لا يجوز أن يخلو زمن عن قائم لله بحجته، فأين النقل عن صحابي واحد بما يخالف هذا الإجماع؟!
2- ومن ذلك أيضا: إجماع الصحابة على انتقاض عهد الذمي بسب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم مخالفة بعض الفقهاء في ذلك ، قال شيخ الإسلام: (والدلالة على انتقاض عهد الذمي بسب الله أو كتابه أو دينه أو رسوله ووجوب قتله وقتل المسلم إذا أتى ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين والاعتبار) .
إلى أن قال: (وأما إجماع الصحابة فلأن ذلك نُقل عنهم في قضايا متعددة ينتشر مثلها ويستفيض، ولم ينكرها أحد منهم، فصارت إجماعا. واعلم أنه لا يمكن ادعاء إجماع الصحابة على مسألة فرعية بأبلغ من هذا الطريق) .
3- ومن ذلك: مسألة اشتراط المرأة على الرجل ألا يتزوج عليها ولا يتسرى، ولا يخرجها من دارها أو بلدها، فقد حكى فيها ابن القيم إجماع الصحابة على أن الشرط لازم، مع مخالفة من خالف من الأئمة.
قال رحمه الله: (إذا تزوجها على أن لا يخرجها من دارها أو بلدها، أو لا يتزوج عليها، ولا يتسرى عليها فالنكاح صحيح، والشرط لازم. هذا إجماع الصحابة، فإنه صح عن عمر، وسعد، ومعاوية، ولا مخالف لهم من الصحابة، وإليه ذهب عامة التابعين، وقال به أحمد. وخالف في ذلك الثلاثة، فأبطلوا الشرط، ولم يوجبوا الوفاء به) .
4- ومن ذلك: الإجماع القديم على طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه، وقد خالف فيه أبو حنيفة والشافعي . قال شيخ الإسلام: (وكذلك مذهب مالك وأهل المدينة في أعيان النجاسات الظاهرة في العبادات أشبه شيء بالأحاديث الصحيحة، وسيرة الصحابة، ثم إنهم لا يقولون بنجاسة البول والروث مما يؤكل لحمه، وعلى ذلك بضع عشرة حجة، من النص، والإجماع القديم، والاعتبار، ذكرناها في غير هذا الموضع، وليس مع المنجّس إلا لفظ يظن عمومه، وليس بعام، أو قياس يظن مساواة الفرع فيه للأصل، وليس كذلك) .
وقال: (وبول ما أُكل لحمه وروثه طاهر، لم يذهب أحدٌ من الصحابة إلى تنجسه، بل القول بنجاسته قول محدثٌ لا سلف له من الصحابة) .
5، 6، 7- ومن ذلك: الإجماع القديم على حل ذبائح أهل الكتاب، وحل نسائهم، وجواز أخذ الجزية منهم، سواء كانوا أو أحد آبائهم ممن دخلوا في الدين قبل نزول القرآن، أو بعده، وخالف في ذلك الشافعي .
قال الإمام محمد بن الحسين التميمي الجوهري (ت: 350هـ): (وأجمعوا أن ذبيحة الكتابي حلال للمسلم، وسواء دان بدينه ذلك واحد من آبائه قبل نزول القرآن، أو بعده، إلا الشافعي، فإنه لم يجز من ذبائحهم إلا ذبائح من دان منهم أو أحد من آبائهم قبل نزول القرآن، وأما من دان منهم أو أحد من آبائهم بعد نزول القرآن، فإنه لا يبيح للمسلم ذبيحته) .
وقال: (وأجمعوا أن الجزية على كل كتابي، وإن كان إنما دان بدينه بعد نزول الفرقان، إلا الشافعي فإنه قال: لا جزية إلا أن يكون قد دان، أو واحدة من آبائه بذلك الدين قبل نزول الفرقان) .
وقال أبو بكر الجصاص: (وقد روي عن جماعة من السلف القول في أهل الكتاب من العرب، لم يفرق أحدٌ منهم فيه بين من دان بذلك قبل نزول القرآن أو بعده، ولا نعلم أحدا من السلف والخلف اعتبر فيهم ما اعتبره الشافعي في ذلك، فهو منفرد بهذه المقالة خارج بها عن أقاويل أهل العلم) .
وقال شيخ الإسلام: (وهذا مبني على أصل، وهو أن قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5] هل المراد به من هو بعد نزول القرآن متدين بدين أهل الكتاب؟ أو المراد به من كان آباؤه قد دخلوا في دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل؟ على قولين للعلماء. فالقول الأول هو قول جمهور المسلمين من السلف والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحد القولين في مذهب أحمد، بل هو المنصوص عنه صريحا. والثاني: قول الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد).
إلى أن قال: (وأحمد إنما اختلف اجتهاده في بني تغلب، وهم الذين تنازع فيهم الصحابة. فأما سائر اليهود والنصارى من العرب مثل: تنوخ وبهراء وغيرهما من اليهود، فلا أعرف عن أحمد في حل ذبائحهم نزاعا، ولا عن الصحابة ولا عن التابعين وغيرهم من السلف، وإنما كان النزاع بينهم في بني تغلب خاصة).
ثم قال: (بل الصواب المقطوع به أن كون الرجل كتابيا أو غير كتابي هو حكم مستقل بنفسه، لا بنسبه. وكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم، سواء كان أبوه أو جده دخل في دينهم، أو لم يدخل، وسواء كان دخوله قبل النسخ والتبديل، أو بعد ذلك. وهذا مذهب جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك والمنصوص الصريح عن أحمد، وإن كان بين أصحابه في ذلك نزاع معروف. وهذا القول هو الثابت عن الصحابة، ولا أعلم بين الصحابة في ذلك نزاعا، وقد ذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم) .
8- ومن ذلك: إجماع الصحابة على أن سجود التلاوة غير واجب، مع مخالفة الحنفية فيه. قال ابن قدامة: (وجملة ذلك أن سجود التلاوة سنة مؤكدة وليس بواجب عند إمامنا ومالك والأوزاعي والليث والشافعي وهو مذهب عمر وابنه عبد الله، وأوجبه أبو حنيفة وأصحابه؛ لقول الله عز وجل: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق:20-21]، ولا يذم إلا على ترك واجب، ولأنه سجود يفعل في الصلاة فكان واجبا كسجود الصلاة.
ولنا ما روى زيد بن ثابت قال: ((قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد منا أحد)). متفق عليه . ولأنه إجماع الصحابة، وروى البخاري والأثرم عن عمر أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاءت السجدة قال: يا أيها الناس إنما نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه. ولم يسجد عمر. وفي لفظ: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. وفي رواية الأثرم: فقال: على رسلكم إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء. فقرأها ولم يسجد ومنعهم أن يسجدوا، وهذا بحضرة الجمع الكثير، فلم ينكره أحد ولا نُقل خلافه. فأما الآية فإنه ذمهم لترك السجود غير معتقدين فضله ولا مشروعيته. وقياسهم ينتقض بسجود السهو فإنه عندهم غير واجب) .
9- ومن ذلك: الإجماع على منع الرجوع في الوقف، مع مخالفة أبي حنيفة. قال ابن قدامة: (وذهب أبو حنيفة إلى أن الوقف لا يلزم بمجرده وللواقف الرجوع فيه إلا أن يوصي به بعد موته فيلزم أو يحكم بلزومه حاكم. وحكاه بعضهم عن علي وابن مسعود وابن عباس. وخالفه صاحباه فقالا كقول سائر أهل العلم. وهذا القول يخالف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة رضي الله عنهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر في وقفه: ((لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث)) قال الترمذي: العمل على هذا الحديث عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم لا نعلم بين أحد من المتقدمين منهم في ذلك اختلافا) .
ونظائر هذا كثيرة، تركت ذكرها خشية الإطالة.
الفصل الثاني: نقول عن أهل العلم في بيان منزلة عمل الجوارح وحكم تاركه
ليس الغرض هنا نقل كلام السلف والأئمة في أن العمل من الإيمان، فهذا أمر معلوم بيّن، لكن المراد حكاية أقوالهم في ارتباط القول بالعمل، وأنه لا يصح القول ولا ينفع ولا يستقيم ولا يقبل إلا بالعمل، وحكاية أقوالهم في ارتباط عمل القلب بعمل الجوارح، وأنه لا يتصور وجود الإيمان الباطن مع تخلف العمل الظاهر، وحكاية ما هو أصرح من ذلك، من تكفير تارك العمل بالكلية، والجزم بردته، وخلو قلبه من الإيمان الصحيح.
والمراد أيضا: إظهار أن القول بعدم صحة الإيمان عند تخلف عمل الجوارح بالكلية، أمرٌ مستقر عند أهل السنة، بيّنه الأئمة سلفا وخلفا، لم يكن بينهم نزاع في ذلك، حتى جاء من دخلت عليه شبهة المرجئة، فزعم أن العمل كمالي في الإيمان، وأن تاركه بالكلية مسلم تحت المشيئة، وهذا ما تلقفوه عن أهل الكلام المذموم من الأشعرية وغيرهم، ثم نسبوه إلى السلف وأهل السنة جهلا وافتراء، وغلا بعضهم حتى زعم أن القول بكفر تارك العمل- كلِّه- هو قول الخوارج والمعتزلة، لا قول أهل السنة، ولهذا رأيت من اللازم نقل كلام الأئمة، من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، إلى زمننا هذا، نصحا للأمة، ودرءا للفتنة عن ناشئة أهل السنة، تبصيراً للجاهل، وتثبيتاً للعالم، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
1- علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
قال رضي الله عنه: لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بقول، ولا قول وعمل إلا بنية، ولا نية إلا بموافقة السنة .
2- عبدالله بن مسعود رضي الله عنه
وقد قال بنفس ما قاله علي رضي الله عنه .
3- سعيد بن جبير، ت: 95هـ
قال: (لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يقبل عمل إلا بقول، ولا يقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بنية موافقة للسنة) .
4- الحسن البصري، ت: 110هـ
قال: (الإيمان قول، ولا قول إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا بسنة) .
5- الأوزاعي، ت: 157هـ
قال: (أدركت من أدركت من صدر هذه الأمة، ولا يفرقون بين الإيمان والعمل، ولا يعدون الذنوب كفرا ولا شركا.
وقال: الإيمان والعمل كهاتين، وقال بإصبعيه، لا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بإيمان) .
وقال: (لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة. وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، والعمل من الإيمان، والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع هذه الأديان اسمها، ويصدقه العمل، فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق بعمله فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها. ومن قال بلسانه ولم يعرف بقلبه ولم يصدقه بعمله لم يقبل منه وكان في الآخرة من الخاسرين) .
وقال الوليد بن مسلم: (سمعت الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد بن عبد العزيز ينكرون قول من يقول: إن الإيمان قول بلا عمل، ويقولون: لا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بإيمان) .
6- سفيان الثوري، ت: 161هـ
قال رحمه الله: (أهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل مخافة أن يزكوا أنفسهم، لا يجوز عمل إلا بإيمان، ولا إيمان إلا بعمل، فإن قال من إمامك في هذا؟ فقل: سفيان الثوري) .
وقال أيضا: (كان الفقهاء يقولون: لا يستقيم قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة) .
وقال أيضا: (لا يصلح قول إلا بعمل) .
7- الفضيل بن عياض، ت: 187هـ
قال: (لا يصلح قول إلا بعمل) .
8- سفيان بن عيينة، ت: 198هـ
قال:: (الإيمان قول وعمل). (وأخذناه ممن قبلنا، وأنه لا يكون قول إلا بعمل. قيل له: يزيد وينقص؟ قال: فإيش إذا؟!) .
وقال وقد سئل عن الإرجاء: (يقولون: الإيمان قول، ونحن نقول: الإيمان قول وعمل.
والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصرا بقلبه على ترك الفرائض، وسموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم، وليسوا سواء؛ لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية. وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر هو كفر.
وبيان ذلك في أمر آدم صلوات الله عليه وإبليس وعلماء اليهود.
أما آدم فنهاه الله عن أكل الشجرة وحرمها عليه فأكل منها متعمدا ليكون ملكا أو يكون من الخالدين فسمي عاصيا من غير كفر.
وأما إبليس لعنه الله فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها متعمدا فسمي كافرا.
وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي رسول كما يعرفون أبناءهم، وأقروا به باللسان، ولم يتبعوا شريعته، فسماهم الله عز وجل كفارا.
فركوب المحارم مثل ذنب آدم وغيره من الأنبياء. وأما ترك الفرائض جحودا فهو كفر، مثل كفر إبليس لعنه الله. وتركها على معرفة من غير جحود فهو كفر، مثل كفر علماء اليهود. والله أعلم) .
9- إسحاق بن راهويه، ت: 238هـ
قال: (غلت المرجئة حتى صار من قولهم: إن قوما يقولون: من ترك المكتوبات، وصوم رمضان، والزكاة، والحج، وعامة الفرائض من غير جحود بها أنا لا نكفّره، يرجى أمره إلى الله بعد؛ إذ هو مقر. فهؤلاء المرجئة الذين لاشك فيهم) .
وكلامه يؤخذ منه أمران:
الأول: تكفير من ترك عامة الفرائض، وهذا مطابق لما سبق نقله عن سفيان بن عيينة، وهو عين ما يقرره شيخ الإسلام، كما سيأتي، لكنه يعبّر بلفظ: الواجبات، ولا فرق.
الثاني: الحكم على المخالف في هذه المسألة بأنه من المرجئة.
10- أبو ثور: إبراهيم بن خالد الكلبي الفقيه، ت: 240هـ
قال: (فأما الطائفة التي زعمت أن العمل ليس من الإيمان؛ فيقال لهم: ما أراد الله من العباد إذ قال لهم: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الراكِعِينَ} [البقرة:43]، الإقرار بذلك أو الإقرار والعمل؟ فإن قالت: إن الله أراد الإقرار ولم يرد العمل؛ فقد كفرت عند أهل العلم، من قال إن الله لم يرد من العباد أن يصلوا ولا يؤتوا الزكاة!
فإن قالت: أراد منهم الإقرار والعمل!
قيل: فإذا أراد منهم الأمرين جميعا لم زعمتم أنه يكون مؤمنا بأحدهما دون الآخر وقد أرادهما جميعا؟!
أرأيتم لو أن رجلا قال: أعمل جميع ما أمر الله ولا أقر به أيكون مؤمنا؟ فإن قالوا: لا!
قيل لهم: فإن قال: أقر بجميع ما أمر الله به ولا أعمل منه شيئا أيكون مؤمنا؟
فإن قالوا: نعم!
قيل لهم: ما الفرق وقد زعمتم أن الله أراد الأمرين جميعا فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمنا إذا ترك الآخر جاز أن يكون بالآخر إذا عمل ولم يقر مؤمنا، لا فرق بين ذلك!
فإن احتج فقال: لو أن رجلا أسلم فأقر بجميع ما جاء به النبي أيكون مؤمنا بهذا الإقرار قبل أن يجيء وقت عمل؟ قيل له: إنما نطلق له الاسم بتصديقه أن العمل عليه بقوله أن يعمله في وقته إذا جاء، وليس عليه في هذا الوقت الإقرار بجميع ما يكون به مؤمنا، ولو قال: أقر ولا أعمل؛ لم نطلق له اسم الإيمان. وفيما بينا من هذا ما يكتفى به ونسأل الله التوفيق) .
11- أحمد بن حنبل، ت:241هـ
قال في رواية محمد بن موسى البغدادي: (الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وإذا عملت الحسن زاد، وإذا ضيعت نقص، والإيمان لا يكون إلا بعمل) .
 
أعلى