ابن عامر الشامي
وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
- إنضم
- 20 ديسمبر 2010
- المشاركات
- 10,237
- النقاط
- 38
- الإقامة
- المملكة المغربية
- احفظ من كتاب الله
- بين الدفتين
- احب القراءة برواية
- رواية حفص عن عاصم
- القارئ المفضل
- سعود الشريم
- الجنس
- اخ
12- أبو بكر الآجري المتوفى سنة 360هـ
قال: (فالأعمال – رحمكم الله تعالى – بالجوارح تصديق للإيمان بالقلب واللسان.
فمن لم يصدق الإيمان بجوارحه: مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه، ورضي من نفسه بالمعرفة والقول: لم يكن مؤمنا، ولم تنفعـه المعرفة والقول، وكان تركه العمل تكذيبا منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرنا تصديقا منه لإيمانه، وبالله تعالى التوفيق) .
وقال: (هذا بيان لمن عقل، يعلم أنه لا يصحّ الدين إلا بالتصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وما أشبه ذلك) .
وقال: وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] فأخبر تعالى بأن الكلم الطيب حقيقته أن يُرفع إلى الله عز وجل بالعمل الصالح، فإن لم يكن عملٌ، بطل الكلام من قائله، ورد عليه. ولا كلام أطيب وأجل من التوحيد، ولا عمل من عمل الصالحات أجل من أداء الفرائض... ثم جعل على كل قول دليلا، من عملٍ يصدقه، ومن عملٍ يكذبه، فإذا قال قولا حسنا، وعمل عملا حسنا، رفع الله قوله بعمله، وإذا قال قولا حسنا، وعمل عملا سيئا، رد الله القول على العمل، وذلك في كتاب الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] .
13- ابن بطة العكبري، ت: 387 هـ
قال: (فقد تلوت عليكم من كتاب الله ما يدل العقلاء من المؤمنين أن الإيمان قول وعمل، وأن من صدق بالقول وترك العمل كان مكذبا وخارجا من الإيمان، وأن الله لا يقبل قولا إلا بعمل، ولا عملا إلا بقول) .
وقال: (فمن زعم أنّه يقر بالفرائض ولا يؤديها، ويعلمها، وبتحريم الفواحش والمنكـــرات ولا ينزجر عنها ولا يتركها، وأنه مع ذلك مؤمن، فقد كذّب بالكتاب وبما جاء به رسوله، ومثَله كمثل المنافقين الذين قالوا: {قَالُواْ آمَنا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] فأكذبهم الله وردّ عليهم قولهم، وسماهم منافقين مأواهم الدرك الأسفل من النار، على أن المنافقين أحسن حالا من المرجئة؛ لأن المنافقين جحدوا العمل، وعملوه، والمرجئة أقروا بالعمل بقولهم، وجحدوه بترك العمل به. فمن جحد شيئا وأقر به بلسانه وعمله ببدنه، أحسن حالا ممن أقر بلسانه وأبى أن يعمله ببدنه. فالمرجئة جاحدون لما هم به مقرون، ومكذبون لما هم به مصدقون، فهم أسوأ حالا من المنافقين) .
14- شيخ الإسلام ابن تيمية، ت: 728هـ
وقد قرر هذه المسألة من وجوهٍ عدة:
(1) تصريحه بأن من لم يأت بالعمل فهو كافر:
قال: (وأيضا فان الإيمان عند أهل السنة و الجماعة قول وعمل كما دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه السلف، وعلى ما هو مقرر في موضعه، فالقول تصديق الرسول، والعمل تصديق القول، فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمنا.
والقول الذي يصير به مؤمنا قول مخصوص وهو الشهادتان، فكذلك العمل هو الصلاة.
وأيضاً فإن حقيقة الدين هو الطاعة و الانقياد، وذلك إنما يتم بالفعل لا بالقول فقط، فمن لم يفعل لله شيئا فما دان لله دينا، و من لا دين له فهو كافر) .
(2) تصريحه بأن انتفاء أعمال الجوارح مع القدرة والعلم بها لا يكون إلا مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح:
قال: (وهذه المسألة لها طرفان: أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر. والثاني: في إثبات الكفر الباطن.
فأما الطرف الثاني فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولا وعملا كما تقدم، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح) .
(3) تصريحه بأن الرجل لا يكون مؤمنا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي اختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم:
قال رحمه الله: (وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه، أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجباً ظاهراً، لا صلاة ولا زكاة ولا صياما ولا غير ذلك من الواجبات، ولو قدّر أن يؤدي الواجبات لا لأجل أن الله أوجبها، مثل أن يؤدي الأمانة ويصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه، من غير إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر؛ فإن المشركين، وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم. ومن قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات، سواء جعل فعل تلك الواجبات لازما له أو جزءا منه- فهذا نزاع لفظي- كان مخطئا خطئا بينا، وهذه بدعة الإرجاء التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها، وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف. والصلاة هي أعظمها وأعمها وأولها وأجلها) .
(4) تصريحه بأنه إذا انتفت أعمال الجوارح لم يبق في القلب إيمان:
قال: (وللجهمية هنا سؤال ذكره أبو الحسن في كتاب (الموجز)، وهو أن القرآن نفى الإيمان عن غير هؤلاء كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، ولم يقل: إن هذه الأعمال من الإيمان. قالوا: فنحن نقول: من لم يعمل هذه الأعمال لم يكن مؤمنا لأن انتفاءها دليل على انتفاء العلم من قلبه.
والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان وهذا هو المطلوب، وبعد هذا فكونها لازمة أو جزءا نزاع لفظي) .
فتأمل قوله: (أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان وهذا هو المطلوب) لتعلم أن هذا هو مقتضى التلازم عند شيخ الإسلام.
(5) تصريحه بأن انتفاء اللازم الظاهر دليل على انتفاء الملزوم الباطن:
قال: (والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان؛ فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا وجعلها هي التصديق فهذا ضلال بين. ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم: العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه، وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن. فبقي النزاع في أن العمل الظاهر هل هو جزء من مسمى الإيمان يدل عليه بالتضمن، أو لازم لمسمى الإيمان) .
وقال: (وقيل لمن قال: دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز: نزاعك لفظي؛ فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته، كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم، فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن. فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا. وإن قلت ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه من أنه يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر وترك جميع الواجبات الظاهرة. قيل لك: فهذا يناقض قولك إن الظاهر لازم له وموجب له. بل قيل: حقيقة قولك أن الظاهر يقارن الباطن تارة ويفارقه أخرى، فليس بلازم له ولا موجب ومعلول له، ولكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن، وإذا عدم لم يدل عدمه على العدم وهذا حقيقة قولك) .
وقال أيضا: (وقوله: ليس الإيمان بالتمني يعني: الكلام. وقوله: بالتحلي يعني: أن يصير حلية ظاهرة له، فيظهره من غير حقيقة من قلبه. ومعناه: ليس هو ما يظهر من القول، ولا من الحلية الظاهرة، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال. فالعمل يصدق أن في القلب إيمانا، وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيمانا؛ لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم) .
وقال: (والعمل الظاهر هو موجب إيمان القلب ومقتضاه، فإذا حصل إيمان القلب حصل إيمان الجوارح ضرورة. وإيمان القلب لابد فيه من تصديق القلب وانقياده، وإلا فلو صدق قلبه بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبغضه ويحسده ويستكبر عن متابعته لم يكن قد آمن قلبه) .
(6) تصريحه بأن قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن ممتنع:
قال: (وأيضا فإخراجهم العمل يشعر أنهم أخرجوا أعمال القلوب أيضا، وهذا باطل قطعا؛ فإن من صدق الرسول وأبغضه وعاداه بقلبه وبدنه، فهو كافر قطعا بالضرورة.
وإن أدخلوا أعمال القلوب في الإيمان أخطأوا أيضا؛ لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن وليس المقصود هنا ذكر عمل معين، بل من كان مؤمناً بالله ورسوله بقلبه هل يتصور إذا رأى الرسول وأعداءه يقاتلونه وهو قادر على أن ينظر إليهم ويحض على نصر الرسول بما لا يضره، هل يمكن مثل هذا في العادة إلا أن يكون منه حركة ما إلى نصر الرسول، فمن المعلوم أن هذا ممتنع) .
(7) تصريحه بأن مذهب السلف وأهل السنة، أنه متى وجد الإيمان الباطن، وجدت الطاعات:
قال: (وقول القائل: (الطاعات ثمرات التصديق الباطن) يراد به شيئان:
يراد به أنها لوازم له، فمتى وجد الإيمان الباطن وجدت. وهذا مذهب السلف وأهل السنة) .
(8) تصريحه بأن وجود إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع:
قال: (فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل. ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان، وأن الأعمال ليست من الإيمان.
وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع، سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان، أو جزءاً من الإيمان،) .
تنبيه: قوله: (إيمان القلب التام) المراد به الصحيح المجزئ، لا الكامل، كما فهم البعض، ويدل على ذلك ما سبق من جزمه رحمه الله بأنه إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، وأنه لا يبق في القلب إيمان، وأن انتفاء الأعمال الظاهرة إنما يكون مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح، وغير ذلك مما هو صريح لا يحتمل التأويل، بل يدل على ذلك سياق كلامه في هذا الموضع، فإنه في معرض التقرير لكفر تارك الصلاة، والرد على من لا يكفره ولو أصرّ على الترك حتى يقتل. وذكر قبلها مثالين: الأول: من أخذ يلقي المصحف في الحش، ويقول: أشهدا أن ما فيه كلام الله. والثاني: من جعل يقتل نبيا من الأنبياء، ويقول: أشهد أنه رسول الله، (ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب، فإذا قال: أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال، كان كاذبا فيما أظهره من القول. فهذا الموضع ينبغي تدبره، فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن...) الخ.
فالكلام ليس في نقص الإيمان، بل في زواله، فتنبه.
وقد استعمل شيخ الإسلام مصطلح (إيمان القلب التام) بمعنى (الإيمان الصحيح أو المجزئ الذي يقابله الكفر) في مواضع، منها:
1- قوله: (وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام فإن الإيمان في القلب والإسلام ظاهر، كما في (المسند) عن النبي أنه قال: ((الإسلام علانية والإيمان في القلب والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره)) . ومتى حصل له هذا الإيمان وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج؛ لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله والانقياد له، وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والانقياد باطنا، ولا يحصل ذلك في الظاهر مع القدرة عليه، كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد. وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة. فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام. وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة، فإن هذا ممتنع؛ إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة، فان من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حبا جازما وهو قادر على مواصلته ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك) .
فانظر قوله: (فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام) وتأمل هل يصح أن يحمل ذلك على الإيمان الكامل؟!
إن ذلك يعني صحة إيمان من ترك الشهادتين مع القدرة! وقد مضى أن أهل السنة مجمعون على كفر من ترك الشهادتين مع القدرة.
2- وقريب من هذا قوله: (ثم إنه إذا تحقق القلب بالتصديق والمحبة التامة المتضمنة للإرادة، لزم وجود الأفعال الظاهرة؛ فإن الإرادة الجازمة إذا اقترنت بها القدرة التامة لزم وجود المراد قطعا، وإنما ينتفي وجود الفعل لعدم كمال القدرة أو لعدم كمال الإرادة، وإلا فمع كمالها يجب وجود الفعل الاختياري.
فإذا أقر القلب إقرارا تاما بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبه محبة تامة، امتنع مع ذلك أن لا يتكلم بالشهادتين مع قدرته على ذلك، لكن إن كان عاجزا لخرس ونحوه، أو الخوف ونحوه، لم يكن قادرا على النطق بهما) .
قلت: التام هنا بمعنى الصحيح قطعا، ولا يجوز حمله على (الكامل) وإلا للزم صحة إقرار القلب، وصحة المحبة، مع عدم التكلم بالشهادتين مع القدرة.
3- وقال رحمه الله في بيان أوجه تفاضل الإيمان: (أحدها: الأعمال الظاهرة فإن الناس يتفاضلون فيها وتزيد وتنقص، وهذا مما اتفق الناس على دخول الزيادة فيه والنقصان، لكن نزاعهم في دخول ذلك في مسمى الإيمان، فالنفاة يقولون هو من ثمرات الإيمان ومقتضاه، فأُدخل فيه مجازا بهذا الاعتبار، وهذا معنى زيادة الإيمان عندهم ونقصه، أي زيادة ثمراته ونقصانها، فيقال: قد تقدم أن هذا من لوازم الإيمان وموجباته، فإنه يمتنع أن يكون إيمان تام في القلب بلا قول ولا عمل ظاهر، وأما كونه لازما أو جزءا منه فهذا يختلف بحسب حال استعمال لفظ الإيمان مفردا أو مقرونا بلفظ الإسلام والعمل) .
و(الإيمان التام) هنا هو الصحيح ولا شك، ولو فسر بالكامل للزم أن يصح الإيمان مع تخلف القول، ولا قائل به من أهل السنة.
4- وقال أيضا: (وأما إبليس وفرعون واليهود ونحوهم، فما قام بأنفسهم من الكفر وإرادة العلو والحسد، منع من حب الله وعبادة القلب له الذي لا يتم الإيمان إلا به، وصار فى القلب من كراهية رضوان الله واتباع ما أسخطه ما كان كفرا لا ينفع معه العلم) . والتمام هنا بمعنى الصحة من غير شك.
5- وقال: (وهو مركب من أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصا يستحق صاحبه العقوبة...)
فالتمام هنا بمعنى الصحة، دون شك، وقد أكثر المخالف من الاستشهاد بهذا النص دون أن ينتبه لهذا المعنى!
وهذا-وغيره- يؤكد أن استعمال التام بمعنى الصحيح أو المجزئ أو أصل الإيمان، هو الغالب في كلام شيخ الإسلام، وقد قال: (فإنه يجب أن يُفسّر كلام المتكلم بعضُه ببعض، ويؤخذ كلامُه هاهنا وهاهنا، وتُعرف ما عادته (وما) يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به، وتُعرف المعاني التي عُرف أنه أرادها في موضع آخر، فإذا عُرف عُرْفه وعادتُه في معانيه وألفاظه، كان هذا مما يُستعان به على معرفة مراده. وأما إذا استُعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه، وتُرك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحُمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عُرف أنه يريده بذلك اللفظ، بجعلِ كلامه متناقضا، وتركِ حمله على ما يناسب سائر كلامه، كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه، وتبديلا لمقاصده، وكذبا عليه) .
(9) تصريحه بأنه لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح:
قال: (وذلك لأن أصل الإيمان هو ما في القلب، والأعمال الظاهرة لازمة لذلك، لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب، فصار الإيمان متناولا للملزوم واللازم وإن كان أصله ما في القلب) .
قلت: فإذا عدمت أعمال الجوارح بالكلية، لم يتصور وجود الإيمان الواجب في القلب.
وعلى فرض أن شيخ الإسلام يريد بالإيمان الواجب هنا ما زاد على أصل الإيمان الصحيح المجزئ، فإنه يسقط الاستشهاد به، لكنه لا ينافي عباراته الماضية التي يصرح فيها بأنه لم يبق في القلب إيمان، بل الكفر والزندقة، لأنا نقول: ترك العمل الظاهر بالكلية دليل على عدم وجود الإيمان القلبي الصحيح، وعلى عدم وجود ما زاد على الصحيح من باب أولى.
(10) تصريحه بأن ترك الواجبات الظاهرة دليل على انتفاء الإيمان الواجب من القلب:
قال: (فالسلف يقولون: ترك الواجبات الظاهرة، دليل على انتفاء الإيمان الواجب من القلب، لكن قد يكون ذلك بزوال عمل القلب، الذي هو حب الله ورسوله، وخشية الله، ونحو ذلك، لا يستلزم ألا يكون في القلب من التصديق شيء.
وعند هؤلاء كل من نفى الشرع إيمانه دلّ على أنه ليس في قلبه شيء من التصديق أصلا، وهذا سفسطة عند جماهير العقلاء) .
قلت: الإيمان الواجب هنا، هو الإيمان الصحيح المجزئ، بدليل قوله: (لكن قد يكون ذلك بزوال عمل القلب... لا يستلزم ألا يكون في القلب من التصديق شيء).
وسياق الكلام يفيد بأن شيخ الإسلام يسلم للمخالف بأن إيمان القلب يذهب وينتفي، لكن ليس لذهاب التصديق فقط، بل قد يكون بذهاب عمل القلب، وهذا يدل على أن المراد بانتفاء الإيمان الواجب من القلب: انتفاء الإيمان الصحيح المجزئ، المترتب على (زوال عمل القلب).
(11) تصريحه بأنه لابد في الإسلام من الإتيان بأصل الطاعة في الظاهر:
قال: (فإذا قال أحد هؤلاء العالمين الجاحدين الذين ليسوا بمؤمنين: محمد رسول الله، كقول أولئك اليهود وغيرهم، فهذا خبر محض مطابق لعلمهم الذي قال الله فيه: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]، لكن كما لا ينفعهم مجرد العلم، لا ينفعهم مجرد الخبر، بل لابد أن يقترن بالعلم في الباطن مقتضاه من العمل الذي هو المحبة والتعظيم والانقياد ونحو ذلك، كما أنه لابد أن يقترن بالخبر الظاهر مقتضاه من الاستسلام والانقياد وأصل الطاعة) .
وهذا كما ترى صريح في اشتراط أربعة أمور، هي أركان الحقيقة المركبة، قول القلب وعمله، وقول اللسان وأصل عمل الجوارح، وسماه هنا: أصل الطاعة، وبين أنه لا ينفع الكافر وجود التصديق مع قول اللسان، ما لم يقترن التصديق بالعمل الباطن، ويقترن قول اللسان بالعمل الظاهر، وفي هذا أبلغ رد على من زعم أن التلازم بين الظاهر والباطن إنما هو في الإيمان المطلق أو الكامل لا في أصل الإيمان.
15- الإمام ابن القيم رحمه الله، ت:751هـ
(1) تصريحه بأن تخلف العمل الظاهر دليل على فساد الباطن.
قال: (الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له وإن حقن به الدماء وعصم به المال والذرية.
ولا يجزئ باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك، فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان.
ونقصه دليل نقصه.
وقوته دليل قوته. فالإيمان قلب الإسلام ولبه، واليقين قلب الإيمان ولبه. وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوةً فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول) .
وقال: (فكل إسلام ظاهر لا ينفذ صاحبه منه إلى حقيقة الإيمان الباطنة، فليس بنافع، حتى يكون معه شيء من الإيمان الباطن.
وكل حقيقة باطنة لا يقوم صاحبها بشرائع الإسلام الظاهرة، لا تنفع ولو كانت ما كانت، فلو تمزق القلب بالمحبة والخوف، ولم يتعبد بالأمر وظاهر الشرع، لم ينجه ذلك من النار، كما أنه لو قام بظواهر الإسلام وليس في باطنه حقيقة الإيمان لم ينجه من النار) .
(2) تصريحه بأن من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية:
قال: (على أنا نقول: لا يصر على ترك الصلاة إصرارا مستمرا من يصدّق بأن الله أمر بها أصلا، فإنه يستحيل في العادة والطبيعة أن يكون الرجل مصدقا تصديقا جازما أن الله فرض عليه كل يوم وليلة خمس صلوات، وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب، وهو مع ذلك مصر على تركها، هذا من المستحيل قطعا، فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبدا، فإن الإيمان يأمر صاحبه بها، فحيث لم يكن في قلبه ما يأمر بها فليس في قلبه شيء من الإيمان، ولا تصغ إلى كلام من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها. وتأمل في الطبيعة بأن يقوم بقلب العبد إيمان بالوعد والوعيد، والجنة والنار، وأن الله فرض عليه الصلاة، وأن الله يعاقبه معاقبة على تركها، وهو محافظ على الترك، في صحته وعافيته، وعدم الموانع المانعة له من الفعل، وهذا القدر هو الذي خفي على من جعل الإيمان مجرد التصديق، وإن لم يقارنه فعل واجب ولا ترك محرم، وهذا من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية...) .
قال: (فالأعمال – رحمكم الله تعالى – بالجوارح تصديق للإيمان بالقلب واللسان.
فمن لم يصدق الإيمان بجوارحه: مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه، ورضي من نفسه بالمعرفة والقول: لم يكن مؤمنا، ولم تنفعـه المعرفة والقول، وكان تركه العمل تكذيبا منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرنا تصديقا منه لإيمانه، وبالله تعالى التوفيق) .
وقال: (هذا بيان لمن عقل، يعلم أنه لا يصحّ الدين إلا بالتصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وما أشبه ذلك) .
وقال: وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] فأخبر تعالى بأن الكلم الطيب حقيقته أن يُرفع إلى الله عز وجل بالعمل الصالح، فإن لم يكن عملٌ، بطل الكلام من قائله، ورد عليه. ولا كلام أطيب وأجل من التوحيد، ولا عمل من عمل الصالحات أجل من أداء الفرائض... ثم جعل على كل قول دليلا، من عملٍ يصدقه، ومن عملٍ يكذبه، فإذا قال قولا حسنا، وعمل عملا حسنا، رفع الله قوله بعمله، وإذا قال قولا حسنا، وعمل عملا سيئا، رد الله القول على العمل، وذلك في كتاب الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] .
13- ابن بطة العكبري، ت: 387 هـ
قال: (فقد تلوت عليكم من كتاب الله ما يدل العقلاء من المؤمنين أن الإيمان قول وعمل، وأن من صدق بالقول وترك العمل كان مكذبا وخارجا من الإيمان، وأن الله لا يقبل قولا إلا بعمل، ولا عملا إلا بقول) .
وقال: (فمن زعم أنّه يقر بالفرائض ولا يؤديها، ويعلمها، وبتحريم الفواحش والمنكـــرات ولا ينزجر عنها ولا يتركها، وأنه مع ذلك مؤمن، فقد كذّب بالكتاب وبما جاء به رسوله، ومثَله كمثل المنافقين الذين قالوا: {قَالُواْ آمَنا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] فأكذبهم الله وردّ عليهم قولهم، وسماهم منافقين مأواهم الدرك الأسفل من النار، على أن المنافقين أحسن حالا من المرجئة؛ لأن المنافقين جحدوا العمل، وعملوه، والمرجئة أقروا بالعمل بقولهم، وجحدوه بترك العمل به. فمن جحد شيئا وأقر به بلسانه وعمله ببدنه، أحسن حالا ممن أقر بلسانه وأبى أن يعمله ببدنه. فالمرجئة جاحدون لما هم به مقرون، ومكذبون لما هم به مصدقون، فهم أسوأ حالا من المنافقين) .
14- شيخ الإسلام ابن تيمية، ت: 728هـ
وقد قرر هذه المسألة من وجوهٍ عدة:
(1) تصريحه بأن من لم يأت بالعمل فهو كافر:
قال: (وأيضا فان الإيمان عند أهل السنة و الجماعة قول وعمل كما دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه السلف، وعلى ما هو مقرر في موضعه، فالقول تصديق الرسول، والعمل تصديق القول، فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمنا.
والقول الذي يصير به مؤمنا قول مخصوص وهو الشهادتان، فكذلك العمل هو الصلاة.
وأيضاً فإن حقيقة الدين هو الطاعة و الانقياد، وذلك إنما يتم بالفعل لا بالقول فقط، فمن لم يفعل لله شيئا فما دان لله دينا، و من لا دين له فهو كافر) .
(2) تصريحه بأن انتفاء أعمال الجوارح مع القدرة والعلم بها لا يكون إلا مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح:
قال: (وهذه المسألة لها طرفان: أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر. والثاني: في إثبات الكفر الباطن.
فأما الطرف الثاني فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولا وعملا كما تقدم، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح) .
(3) تصريحه بأن الرجل لا يكون مؤمنا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي اختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم:
قال رحمه الله: (وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه، أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجباً ظاهراً، لا صلاة ولا زكاة ولا صياما ولا غير ذلك من الواجبات، ولو قدّر أن يؤدي الواجبات لا لأجل أن الله أوجبها، مثل أن يؤدي الأمانة ويصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه، من غير إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر؛ فإن المشركين، وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم. ومن قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات، سواء جعل فعل تلك الواجبات لازما له أو جزءا منه- فهذا نزاع لفظي- كان مخطئا خطئا بينا، وهذه بدعة الإرجاء التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها، وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف. والصلاة هي أعظمها وأعمها وأولها وأجلها) .
(4) تصريحه بأنه إذا انتفت أعمال الجوارح لم يبق في القلب إيمان:
قال: (وللجهمية هنا سؤال ذكره أبو الحسن في كتاب (الموجز)، وهو أن القرآن نفى الإيمان عن غير هؤلاء كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، ولم يقل: إن هذه الأعمال من الإيمان. قالوا: فنحن نقول: من لم يعمل هذه الأعمال لم يكن مؤمنا لأن انتفاءها دليل على انتفاء العلم من قلبه.
والجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان وهذا هو المطلوب، وبعد هذا فكونها لازمة أو جزءا نزاع لفظي) .
فتأمل قوله: (أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان وهذا هو المطلوب) لتعلم أن هذا هو مقتضى التلازم عند شيخ الإسلام.
(5) تصريحه بأن انتفاء اللازم الظاهر دليل على انتفاء الملزوم الباطن:
قال: (والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان؛ فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا وجعلها هي التصديق فهذا ضلال بين. ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم: العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه، وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن. فبقي النزاع في أن العمل الظاهر هل هو جزء من مسمى الإيمان يدل عليه بالتضمن، أو لازم لمسمى الإيمان) .
وقال: (وقيل لمن قال: دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز: نزاعك لفظي؛ فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته، كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم، فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن. فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا. وإن قلت ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه من أنه يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر وترك جميع الواجبات الظاهرة. قيل لك: فهذا يناقض قولك إن الظاهر لازم له وموجب له. بل قيل: حقيقة قولك أن الظاهر يقارن الباطن تارة ويفارقه أخرى، فليس بلازم له ولا موجب ومعلول له، ولكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن، وإذا عدم لم يدل عدمه على العدم وهذا حقيقة قولك) .
وقال أيضا: (وقوله: ليس الإيمان بالتمني يعني: الكلام. وقوله: بالتحلي يعني: أن يصير حلية ظاهرة له، فيظهره من غير حقيقة من قلبه. ومعناه: ليس هو ما يظهر من القول، ولا من الحلية الظاهرة، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال. فالعمل يصدق أن في القلب إيمانا، وإذا لم يكن عمل كذب أن في قلبه إيمانا؛ لأن ما في القلب مستلزم للعمل الظاهر، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم) .
وقال: (والعمل الظاهر هو موجب إيمان القلب ومقتضاه، فإذا حصل إيمان القلب حصل إيمان الجوارح ضرورة. وإيمان القلب لابد فيه من تصديق القلب وانقياده، وإلا فلو صدق قلبه بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبغضه ويحسده ويستكبر عن متابعته لم يكن قد آمن قلبه) .
(6) تصريحه بأن قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن ممتنع:
قال: (وأيضا فإخراجهم العمل يشعر أنهم أخرجوا أعمال القلوب أيضا، وهذا باطل قطعا؛ فإن من صدق الرسول وأبغضه وعاداه بقلبه وبدنه، فهو كافر قطعا بالضرورة.
وإن أدخلوا أعمال القلوب في الإيمان أخطأوا أيضا؛ لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن وليس المقصود هنا ذكر عمل معين، بل من كان مؤمناً بالله ورسوله بقلبه هل يتصور إذا رأى الرسول وأعداءه يقاتلونه وهو قادر على أن ينظر إليهم ويحض على نصر الرسول بما لا يضره، هل يمكن مثل هذا في العادة إلا أن يكون منه حركة ما إلى نصر الرسول، فمن المعلوم أن هذا ممتنع) .
(7) تصريحه بأن مذهب السلف وأهل السنة، أنه متى وجد الإيمان الباطن، وجدت الطاعات:
قال: (وقول القائل: (الطاعات ثمرات التصديق الباطن) يراد به شيئان:
يراد به أنها لوازم له، فمتى وجد الإيمان الباطن وجدت. وهذا مذهب السلف وأهل السنة) .
(8) تصريحه بأن وجود إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع:
قال: (فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإرادة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل. ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في مسألة الإيمان، وأن الأعمال ليست من الإيمان.
وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب، وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع، سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان، أو جزءاً من الإيمان،) .
تنبيه: قوله: (إيمان القلب التام) المراد به الصحيح المجزئ، لا الكامل، كما فهم البعض، ويدل على ذلك ما سبق من جزمه رحمه الله بأنه إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، وأنه لا يبق في القلب إيمان، وأن انتفاء الأعمال الظاهرة إنما يكون مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح، وغير ذلك مما هو صريح لا يحتمل التأويل، بل يدل على ذلك سياق كلامه في هذا الموضع، فإنه في معرض التقرير لكفر تارك الصلاة، والرد على من لا يكفره ولو أصرّ على الترك حتى يقتل. وذكر قبلها مثالين: الأول: من أخذ يلقي المصحف في الحش، ويقول: أشهدا أن ما فيه كلام الله. والثاني: من جعل يقتل نبيا من الأنبياء، ويقول: أشهد أنه رسول الله، (ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب، فإذا قال: أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال، كان كاذبا فيما أظهره من القول. فهذا الموضع ينبغي تدبره، فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن...) الخ.
فالكلام ليس في نقص الإيمان، بل في زواله، فتنبه.
وقد استعمل شيخ الإسلام مصطلح (إيمان القلب التام) بمعنى (الإيمان الصحيح أو المجزئ الذي يقابله الكفر) في مواضع، منها:
1- قوله: (وأما إذا قرن الإيمان بالإسلام فإن الإيمان في القلب والإسلام ظاهر، كما في (المسند) عن النبي أنه قال: ((الإسلام علانية والإيمان في القلب والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره)) . ومتى حصل له هذا الإيمان وجب ضرورة أن يحصل له الإسلام الذي هو الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج؛ لأن إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله يقتضي الاستسلام لله والانقياد له، وإلا فمن الممتنع أن يكون قد حصل له الإقرار والحب والانقياد باطنا، ولا يحصل ذلك في الظاهر مع القدرة عليه، كما يمتنع وجود الإرادة الجازمة مع القدرة بدون وجود المراد. وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيمانا جازما امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة. فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام. وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه في زعمهم أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع في الآخرة، فإن هذا ممتنع؛ إذ لا يحصل الإيمان التام في القلب إلا ويحصل في الظاهر موجبه بحسب القدرة، فان من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حبا جازما وهو قادر على مواصلته ولا يحصل منه حركة ظاهرة إلى ذلك) .
فانظر قوله: (فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام) وتأمل هل يصح أن يحمل ذلك على الإيمان الكامل؟!
إن ذلك يعني صحة إيمان من ترك الشهادتين مع القدرة! وقد مضى أن أهل السنة مجمعون على كفر من ترك الشهادتين مع القدرة.
2- وقريب من هذا قوله: (ثم إنه إذا تحقق القلب بالتصديق والمحبة التامة المتضمنة للإرادة، لزم وجود الأفعال الظاهرة؛ فإن الإرادة الجازمة إذا اقترنت بها القدرة التامة لزم وجود المراد قطعا، وإنما ينتفي وجود الفعل لعدم كمال القدرة أو لعدم كمال الإرادة، وإلا فمع كمالها يجب وجود الفعل الاختياري.
فإذا أقر القلب إقرارا تاما بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبه محبة تامة، امتنع مع ذلك أن لا يتكلم بالشهادتين مع قدرته على ذلك، لكن إن كان عاجزا لخرس ونحوه، أو الخوف ونحوه، لم يكن قادرا على النطق بهما) .
قلت: التام هنا بمعنى الصحيح قطعا، ولا يجوز حمله على (الكامل) وإلا للزم صحة إقرار القلب، وصحة المحبة، مع عدم التكلم بالشهادتين مع القدرة.
3- وقال رحمه الله في بيان أوجه تفاضل الإيمان: (أحدها: الأعمال الظاهرة فإن الناس يتفاضلون فيها وتزيد وتنقص، وهذا مما اتفق الناس على دخول الزيادة فيه والنقصان، لكن نزاعهم في دخول ذلك في مسمى الإيمان، فالنفاة يقولون هو من ثمرات الإيمان ومقتضاه، فأُدخل فيه مجازا بهذا الاعتبار، وهذا معنى زيادة الإيمان عندهم ونقصه، أي زيادة ثمراته ونقصانها، فيقال: قد تقدم أن هذا من لوازم الإيمان وموجباته، فإنه يمتنع أن يكون إيمان تام في القلب بلا قول ولا عمل ظاهر، وأما كونه لازما أو جزءا منه فهذا يختلف بحسب حال استعمال لفظ الإيمان مفردا أو مقرونا بلفظ الإسلام والعمل) .
و(الإيمان التام) هنا هو الصحيح ولا شك، ولو فسر بالكامل للزم أن يصح الإيمان مع تخلف القول، ولا قائل به من أهل السنة.
4- وقال أيضا: (وأما إبليس وفرعون واليهود ونحوهم، فما قام بأنفسهم من الكفر وإرادة العلو والحسد، منع من حب الله وعبادة القلب له الذي لا يتم الإيمان إلا به، وصار فى القلب من كراهية رضوان الله واتباع ما أسخطه ما كان كفرا لا ينفع معه العلم) . والتمام هنا بمعنى الصحة من غير شك.
5- وقال: (وهو مركب من أصل لا يتم بدونه، ومن واجب ينقص بفواته نقصا يستحق صاحبه العقوبة...)
فالتمام هنا بمعنى الصحة، دون شك، وقد أكثر المخالف من الاستشهاد بهذا النص دون أن ينتبه لهذا المعنى!
وهذا-وغيره- يؤكد أن استعمال التام بمعنى الصحيح أو المجزئ أو أصل الإيمان، هو الغالب في كلام شيخ الإسلام، وقد قال: (فإنه يجب أن يُفسّر كلام المتكلم بعضُه ببعض، ويؤخذ كلامُه هاهنا وهاهنا، وتُعرف ما عادته (وما) يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به، وتُعرف المعاني التي عُرف أنه أرادها في موضع آخر، فإذا عُرف عُرْفه وعادتُه في معانيه وألفاظه، كان هذا مما يُستعان به على معرفة مراده. وأما إذا استُعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه، وتُرك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحُمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عُرف أنه يريده بذلك اللفظ، بجعلِ كلامه متناقضا، وتركِ حمله على ما يناسب سائر كلامه، كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه، وتبديلا لمقاصده، وكذبا عليه) .
(9) تصريحه بأنه لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح:
قال: (وذلك لأن أصل الإيمان هو ما في القلب، والأعمال الظاهرة لازمة لذلك، لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب، فصار الإيمان متناولا للملزوم واللازم وإن كان أصله ما في القلب) .
قلت: فإذا عدمت أعمال الجوارح بالكلية، لم يتصور وجود الإيمان الواجب في القلب.
وعلى فرض أن شيخ الإسلام يريد بالإيمان الواجب هنا ما زاد على أصل الإيمان الصحيح المجزئ، فإنه يسقط الاستشهاد به، لكنه لا ينافي عباراته الماضية التي يصرح فيها بأنه لم يبق في القلب إيمان، بل الكفر والزندقة، لأنا نقول: ترك العمل الظاهر بالكلية دليل على عدم وجود الإيمان القلبي الصحيح، وعلى عدم وجود ما زاد على الصحيح من باب أولى.
(10) تصريحه بأن ترك الواجبات الظاهرة دليل على انتفاء الإيمان الواجب من القلب:
قال: (فالسلف يقولون: ترك الواجبات الظاهرة، دليل على انتفاء الإيمان الواجب من القلب، لكن قد يكون ذلك بزوال عمل القلب، الذي هو حب الله ورسوله، وخشية الله، ونحو ذلك، لا يستلزم ألا يكون في القلب من التصديق شيء.
وعند هؤلاء كل من نفى الشرع إيمانه دلّ على أنه ليس في قلبه شيء من التصديق أصلا، وهذا سفسطة عند جماهير العقلاء) .
قلت: الإيمان الواجب هنا، هو الإيمان الصحيح المجزئ، بدليل قوله: (لكن قد يكون ذلك بزوال عمل القلب... لا يستلزم ألا يكون في القلب من التصديق شيء).
وسياق الكلام يفيد بأن شيخ الإسلام يسلم للمخالف بأن إيمان القلب يذهب وينتفي، لكن ليس لذهاب التصديق فقط، بل قد يكون بذهاب عمل القلب، وهذا يدل على أن المراد بانتفاء الإيمان الواجب من القلب: انتفاء الإيمان الصحيح المجزئ، المترتب على (زوال عمل القلب).
(11) تصريحه بأنه لابد في الإسلام من الإتيان بأصل الطاعة في الظاهر:
قال: (فإذا قال أحد هؤلاء العالمين الجاحدين الذين ليسوا بمؤمنين: محمد رسول الله، كقول أولئك اليهود وغيرهم، فهذا خبر محض مطابق لعلمهم الذي قال الله فيه: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]، لكن كما لا ينفعهم مجرد العلم، لا ينفعهم مجرد الخبر، بل لابد أن يقترن بالعلم في الباطن مقتضاه من العمل الذي هو المحبة والتعظيم والانقياد ونحو ذلك، كما أنه لابد أن يقترن بالخبر الظاهر مقتضاه من الاستسلام والانقياد وأصل الطاعة) .
وهذا كما ترى صريح في اشتراط أربعة أمور، هي أركان الحقيقة المركبة، قول القلب وعمله، وقول اللسان وأصل عمل الجوارح، وسماه هنا: أصل الطاعة، وبين أنه لا ينفع الكافر وجود التصديق مع قول اللسان، ما لم يقترن التصديق بالعمل الباطن، ويقترن قول اللسان بالعمل الظاهر، وفي هذا أبلغ رد على من زعم أن التلازم بين الظاهر والباطن إنما هو في الإيمان المطلق أو الكامل لا في أصل الإيمان.
15- الإمام ابن القيم رحمه الله، ت:751هـ
(1) تصريحه بأن تخلف العمل الظاهر دليل على فساد الباطن.
قال: (الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له وإن حقن به الدماء وعصم به المال والذرية.
ولا يجزئ باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك، فتخلف العمل ظاهرا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان.
ونقصه دليل نقصه.
وقوته دليل قوته. فالإيمان قلب الإسلام ولبه، واليقين قلب الإيمان ولبه. وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوةً فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول) .
وقال: (فكل إسلام ظاهر لا ينفذ صاحبه منه إلى حقيقة الإيمان الباطنة، فليس بنافع، حتى يكون معه شيء من الإيمان الباطن.
وكل حقيقة باطنة لا يقوم صاحبها بشرائع الإسلام الظاهرة، لا تنفع ولو كانت ما كانت، فلو تمزق القلب بالمحبة والخوف، ولم يتعبد بالأمر وظاهر الشرع، لم ينجه ذلك من النار، كما أنه لو قام بظواهر الإسلام وليس في باطنه حقيقة الإيمان لم ينجه من النار) .
(2) تصريحه بأن من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية:
قال: (على أنا نقول: لا يصر على ترك الصلاة إصرارا مستمرا من يصدّق بأن الله أمر بها أصلا، فإنه يستحيل في العادة والطبيعة أن يكون الرجل مصدقا تصديقا جازما أن الله فرض عليه كل يوم وليلة خمس صلوات، وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب، وهو مع ذلك مصر على تركها، هذا من المستحيل قطعا، فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبدا، فإن الإيمان يأمر صاحبه بها، فحيث لم يكن في قلبه ما يأمر بها فليس في قلبه شيء من الإيمان، ولا تصغ إلى كلام من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها. وتأمل في الطبيعة بأن يقوم بقلب العبد إيمان بالوعد والوعيد، والجنة والنار، وأن الله فرض عليه الصلاة، وأن الله يعاقبه معاقبة على تركها، وهو محافظ على الترك، في صحته وعافيته، وعدم الموانع المانعة له من الفعل، وهذا القدر هو الذي خفي على من جعل الإيمان مجرد التصديق، وإن لم يقارنه فعل واجب ولا ترك محرم، وهذا من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية...) .