ابن عامر الشامي
وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
- إنضم
- 20 ديسمبر 2010
- المشاركات
- 10,237
- النقاط
- 38
- الإقامة
- المملكة المغربية
- احفظ من كتاب الله
- بين الدفتين
- احب القراءة برواية
- رواية حفص عن عاصم
- القارئ المفضل
- سعود الشريم
- الجنس
- اخ
المبحث الخامس: الإنكار بالهجر
المطلب الأول: تعريف الهجر لغةً وشرعاً
المطلب الأول: تعريف الهجر لغةً وشرعاً
قال الجوهري: الهجر: ضد الوصل. والمهاجرة من أرض إلى أرض ترك الأولى للثانية.
والتهاجر: التقاطع. والهجرتان: هجرة إلى الحبشة وهجرة إلى المدينة .
والهجر الشرعي نوعان:
الأول: بمعنى الترك للمنكرات. ومنه قوله تعالى {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} [النساء: 140].
قال ابن كثير: أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ بها وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم فيه .
ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].
قال القرطبي -رحمه الله-: والخطاب مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه وهو الصحيح. فإن العلة سماع الخوض في آيات الله وذلك يشملهم وإياه..
ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكراً علم أنه لا يقبل منه فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه .
وورد في حديث جابر بن عبد الله -الطويل- وفيه ((.. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يشرب عليها الخمر)) الحديث.
ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.
ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم –عليه السلام- {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 26].
قال القرطبي: وهو أول من هاجر من أرض الكفر .
وقال القرطبي أيضاً حول قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال: 25].
قال علماؤنا: فالفتنة إذا عمت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها. وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم.. وبهذا قال السلف رضي الله عنهم .
الثاني: الهجر على وجه التأديب والعقوبة، وهو هجر أهل المعاصي والمنكرات والمخالفات وهو بمنزلة التعزير، ويفعله إذا رآه أقوى في نفسية الفاعل من التغيير باليد واللسان أو إذا عجز عن التغيير باليد واللسان.
فإذا أظهر الإنسان المكلف معصيته أو عرف بها وأصر عليها سواء أكانت هذه المعصية فعلية أم قولية أم اعتقادية فمن السنة هجره، فالهاجر يثاب عليه؛ لأنه من أجل الله تعالى.
وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعباً وصاحبيه وأمر الصحابة بهجرهم خمسين يوماً. وهجر نساءه شهراً. وهجرت عائشة –رضي الله عنها- ابن أختها عبد الله بن الزبير –رضي الله عنهما- مدة.
ورد عن كعب بن مالك –وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم- ((أنه لم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط غير غزوتين غزوة العسرة وغزوة بدر. قال: فأجمعت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، وكان قلما يقدم من سفر سافره إلا ضحى. وكان يبدأ بالمسجد فيركع ركعتين، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبي ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا. فاجتنب الناس كلامنا. فلبثت كذلك حتى طال علي الأمر وما من شيء أهم إلى من أن أموت فلا يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم أو يموت الرسول صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم، ولا يصلى علي فأنزل الله توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الآخر من الليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة..)) الحديث.
فهذا الحديث يثبت هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة والصحابة لهم. ومن ناحية أخرى يثبت كيف كان لهذا الهجر الأثر الكبير في تركهم للمعروف وفعلهم للمنكر في ترك الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الخروج معه.
وورد أن عائشة –رضي الله عنها- حدثت أن عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: ((والله لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها. فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم. قالت: هو لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبداً فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة. فقالت: والله لا أشفع فيه أبداً ولا أتحنث إلى نذري. فلما طال ذلك على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث –وهما من بني زهرة- وقال لهما: أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي. فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى اتسأذنا على عائشة فقالا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا قالوا: كلنا؟ قالت: نعم ادخلوا كلكم –ولا تعلم أن معهم ابن الزبير- فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا كلمته وقبلت منه. ويقولان إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمت من الهجرة فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال. فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفقت تذكرهما وتبكي وتقول: إني نذرت والنذر شديد. فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة. وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل دموعها خمارها)) .
وروي عن الإمام أحمد قال: إذا علم أنه مقيم على معصيته وهو يعلم بذلك لم يأثم إن هو جفاه حتى يرجع وإلا كيف يتبين للرجل ما هو عليه إذا لم ير منكراً ولا جفوة من صديق .
وورد عن سفيان الثوري أنه قال لعلي بن الحسن السليمي:
إياك وما يفسد عليك عملك وقلبك، فإنما يفسد عليك قلبك أهل الدنيا وأهل الحرص وإخوان الشياطين الذين ينفقون أموالهم في غير طاعة الله، وإياك وما يفسد عليك دينك فإنما يفسد عليك دينك مجالسة ذوي الألسن المكثرين للكلام، وإياك وما يفسد عليك معيشتك، فإنما يفسد عليك معيشتك أهل الحرص وأهل الشهوات، وإياك ومجالسة أهل الجفاء، ولا تصحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي، ولا تصحب الفاجر ولا تجالسه ولا تجالس من يجالسه، ولا تؤاكله ولا تؤاكل من يؤاكله ولا تحب من يحبه، ولا تفشي إليه سرك ولا تبتسم في وجهه ولا توسع له في مجلسك فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد قطعت عرى الإسلام. وإياك وأبواب السلطان وأبواب من يأتي أبوابهم وأبواب من يهوى هواهم، فإن فتنتهم مثل فتنة الدجال... .
فمن خلال النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والآثار يتبين لنا مشروعية الهجر، وأنه سنة يثاب عليها الإنسان إذا كان ذلك لله تعالى.
المطلب الثاني: أنواع الهجر
النوع الأول: الهجر كلية. ويكون ذلك للكفار فلا يجالسهم ولا يسلم عليهم ولا يؤاكلهم ولا يشاربهم فلا علاقة معهم مطلقاً.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} [الممتحنة: 1].
ويقول تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] الآية.
وغير ذلك من النصوص التي تفيد وجوب هجر الكفار وتركهم وعدم محبتهم مهما كانوا، حتى ولو كانوا من الأقربين.
النوع الثاني: هجر كلي لمدة مؤقتة كشهر أو شهرين أو أقل أو أكثر حسب ما تقتضيه مصلحة صلاحه. كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته مع الثلاثة الذين خلفوا.
ولما ورد في حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم على بعض ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 78-81] إلى قوله {فاسقون})) .
فهؤلاء ذمهم الله تعالى رغم أنهم أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر ولكن لما أصروا على فعلهم لم يهجروهم بل آكلوهم وشاربوهم ولذلك عاتبهم الله.
النوع الثالث: هجر جزئي كأن يهجره في بعض جوانب التعامل فقط.
مثل هجر الزوجة في المنام فقط لتأديبها.
يقول تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34].
والهجر: أن يوليها ظهره فلا ينام معها في فراش أو تحت لحاف واحد .
وفي المسند عن حكيم بن معاوية عن أبيه في حديثه الطويل قلت:
((ما حق زوجة أحدنا عليه قال: تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت)) . الحديث.
المطلب الثالث: أقسام الناس بالنسبة للهجر
تختلف منزلة الناس من حيث المعصية فبعضهم كافر أو يصل إلى درجة الكفر، وبعضهم مبتدع وبعضهم عاص أو مخالف، إلى غير ذلك من هذه الأنواع، فالمسلم يجب أن يكون موقفه منهم بحسب معصيتهم، وسوف نورد أقسام الناس من حيث المعصية على النحو التالي:
القسم الأول: الكافر: فهذا يقاطع بالكلية وقد تحدثنا عن ذلك وذكرنا الأدلة عليه.
القسم الثاني: مبتدع: والمبتدع ينقسم إلى قسمين:
أ- مبتدع يدعو إلى بدعته، فهذا يجب هجره ومقاطعته.
قال الإمام أحمد –رحمه الله-: ويجب هجر من كفر أو فسق ببدعة أو دعا إلى بدعة مضلة أو مفسقة على من عجز عن الرد عليه أو خاف الاغترار به دون غيره، وقيل: يجب هجره مطلقاً وهو ظاهر كلام الإمام أحمد -رضي الله عنه- السابق. وقطع ابن عقيل به في معتقده قال: ليكون ذلك كسراً له واستصلاحاً .
وقال الخلال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق الثقفي النيسابوري أن أبا عبد الله سئل عن رجل له جار رافضي يسلم عليه؟ قال: لا وإن سلم لا يرد عليه .
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار تفيد ذلك منهما:
ما رواه جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله. إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم، وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم)) .
وروى الإمام أحمد بسنده عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم)) .
وعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية)) .
وعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم وهم شيعة الدجال..)) الحديث.
وفي رواية لأبي داود أيضاً ((وإن ماتوا فلا تشهدوهم)) .
فهذه الأحاديث تفيد مقاطعة أهل البدع والضلالات والأهواء الذين يدعون إليها ويصرون عليها.
ب- المبتدع العامي: وهو الجاهل بالبدعة التي اعتنقها فمثل هذا لا يقاطع بل يتابع ويبين له الحق ويوضح له بالسبل المناسبة لتفكيره فربما كانت عودته سهلة؛ لأن ميول الجاهل في الغالب عاطفية. وإن أصر للمرة الأولى والثانية فتواصل معه المحاولة فلعله يرجع وإن أصر بعد ذلك فيتبع بهم الهجر.
قال الغزالي: المبتدع العامي الذي لا يقدر على الدعوة ولا يخاف الاقتداء به فأمره أهون فالأولى أن لا يقابح بالتغليظ والإهانة، بل يتلطف به في النصح فإن قلوب العوام سريعة التقلب. فإن لم ينفع النصح وكان الإعراض عنه تقبيحاً لبدعته، تأكد الاستحباب في الإعراض .
3- القسم الثالث: مرتكب الكبيرة: فهذا يهجر حتى يدع تلك الكبيرة، ويكون هجره كلياً من قبل الشخص أو الأشخاص الذين يعلمون بفعله.
4- القسم الرابع: مرتكب الصغيرة ويكون هجره جزئياً في بعض جوانب الحياة.
5- القسم الخامس: هجر المجتهد المخطئ في اجتهاده كأن يفعل أمراً يعلم أنه مخطئ فيه ولكن خوفه من السلطان جعله يتأول أو يعرض وينجو من السلطان وقد هجر الإمام أحمد -رضي الله عنه- جماعة ممن أجابوا في المحنة مثل يحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهما مع فخامة شأنهم .
المطلب الرابع: الهجر المحرم
الهجر من الأمور الكبيرة. لذلك لا يجوز لمسلم أن يهجر أخاه المسلم إلا إذا تبين بحق أنه يستحق الهجر. وأما إذا كان مسلماً عدلاً في اعتقاده وأقواله وأفعاله، فإنه لا يجوز هجره بحال.
وقد جاء النهي عن ذلك صريحاً في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم منها:
ما رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)) .
ورواه مسلم بنفس اللفظ وزاد في رواية ((فيصد هذا ويصد هذا)) وفي رواية أخرى ((ثلاثة أيام)) .
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا. أنظروا هذين حتى يصطلحا وفي رواية إلا المتهاجرين)) .
فهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في تحريم الهجر إذا لم يكن له مبرر شرعي.
فعلى المسلمين أن يأتمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر فيما يحل ويحرم.
فباب الهجر عظيم. فهو الذي يبين قوة الإيمان من ضعفه.
المبحث السادس: التغيير على الملوك والأمراء
تمهيد
مما لا شك فيه أن في صلاح الراعي صلاحاً للرعية، حيث إن للراعي سلطة وقوة ونفوذاً ليست بيد أحد من أفراد الرعية.
وإذا كان المسؤول عن معظم الطوائف والجماعات والفئات صالحاً انعكس صلاحه على من تحته فما بالك بالسلطان.
لذا فإنه ينبغي أن لا يتولى أمور المسلمين إلا من هو أهل لذلك ممن يتصف بالتقوى والخوف من الله تعالى ومراقبته والقوة في الرأي والسداد والحكمة في المنطق، ولكن قد يتولى على المسلمين من ليس أهلاً لذلك فيذعن المسلمون له وللأمر الواقع نظراً لما يترتب على ذلك من جلب المصالح ودفع المفاسد.
ولكن على أي الحالين فلابد أن يسعى العلماء والمصلحون إلى بذل جميع الأسباب إلى إصلاح الراعي وتذكيره ونصحه، والسعي لإصلاح من حوله. انطلاقاً من توجيهات الشرع. يقول صلى الله عليه وسلم ((الدين النصيحة –ثلاثاً- قلنا لمن يا رسول الله قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم)) .
المطلب الأول: أدلة الإنكار على السلطان
ورد عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: ((بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا ولا نخاف في الله لومة لائم)) .
وعن طارق بن شهاب أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز، أي الجهاد أفضل؟ قال: ((كلمة حق عند سلطان جائر)) .
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يحقرن أحدكم نفسه، أن يرى أمر الله عليه فيه مقال ثم لا يقوله فيقول الله: ما منعك أن تقول فيه فيقول: رب خشيت الناس فيقول: وأنا أحق أن يخشى)) .
فهذه النصوص وغيرها من الأحاديث تبين الوقوف أمام السلاطين، وقول كلمة الحق عندهم، وأنه إذا حصل لهم شيء يكرهونه بسبب هذا الأمر فهو في ذات الله وهم مأجورون عليه.
المطلب الثاني: كيفية الإنكار على السلطان
إذا كان المحتسب عليه من الولاة الذين يحكمون بشرع الله فإن لأهل السنة منهجاً في التعامل معهم.. فلا يرون التشهير بهم على المنابر والمجامع العامة لما يوقع ذلك من الفتنة.. وقد قيل لأسامة بن زيد –رضي الله عنه- (ألا تدخل على عثمان فتكلمه؟! فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم!! والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه) . وفي لفظ للبخاري: (إنكم لترون أني لا أكلمه! إلا أسمعكم؟! إني أكلمه في السر...) .
وقال ابن أبي عاصم (باب كيف نصيحة الرعية للولاة) ثم أخرج بسنده عن شريح بن عبيد قال: قال عياض بن غنم لهشام بن حكيم: ألم تسمع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه وإلا كان قد أدى ما عليه)) .
وأخرج أحمد بسنده عن سعيد بن جهمان قال: (أتيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر فسلمت عليه.. قلت: فإن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم. قال: فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة، ثم قال: ويحك يا ابن جهمان عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فائته في بيته فأخبره بما تعلم فإن قبل منك وإلا فدعه فإنك لست بأعلم منه) وقد كان الإمام أحمد –رحمه الله- لا يحدث بالأحاديث التي توهم بجواز الخروج على الأئمة.
وقال ابن القيم –رحمه الله-: (ومن دقيق الفطنة: أنك لا ترد على المطاع خطأه بين الملأ، فتحمله رتبته على نصرة الخطأ، وذلك خطأ ثان، ولكن تلطف في إعلامه به حيث لا يشعر به غيره) ا.هـ .
وقال النووي عند كلامه على حديث أسامة: (يعني المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ كما جرى لقتلة عثمان –رضي الله عنه- وفيه الأدب مع الأمراء واللطف بهم ووعظهم سراً وتبليغهم ما يقوله الناس فيهم لينكفوا عنه.
وهذا كله إذا أمكن ذلك، فإن لم يكن الوعظ سراً والإنكار، فليفعله علانية لئلا يضيع أصل الحق) ا.هـ.
ولا يفهم من هذا ترك إنكار المنكرات المتفشية.. رسمية كانت أو غير رسمية.. كما لا يعني هذا عدم فضح خطط الفساد والمفسدين.. وكشف أحابيلهم ومكائدهم.
أما الولاة الذين لا يحكمون بالشرع ويحاربون الإسلام وأهله فإن لكل حالة لبوسا.
... إليك بعض النماذج مما حفظه لنا التاريخ من إنكار أهل العلم ومن سلك سبيلهم على ذوي النفوذ من السلاطين وأعوانهم:
النموذج الأول: خبر أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- مع مروان حينما أراد مروان أن يخطب يوم العيد قبل الصلاة. والقصة مشهورة.
النموذج الثاني: نقل ابن كثير –رحمه الله- أن الحجاج خطب يوماً فقال: (إن ابن الزبير غير كتاب الله. فقال ابن عمر: ما سلطه الله على ذلك، ولا أنت معه، ولو شئت أقول: كذبت لفعلت) .
النموذج الثالث: قام ابن عمر إلى الحجاج وهو يخطب فقال: يا عدو الله! استحل حرم الله، وخرب بيت الله، فقال: يا شيخاً قد خرف فلما صدر الناس أمر الحجاج بعض مسودته فأخذ حربة مسمومة وضرب بها رجل ابن عمر فمرض ومات منها ودخل عليه الحجاج عائداً فسلم فلم يرد عليه وكلمه فلم يجبه .
النموذج الرابع: جاء في ((البداية والنهاية)): أن الحجاج أطال الخطبة، فجعل ابن عمر يقول: الصلاة الصلاة، مراراً. ثم قام فأقام الصلاة، فقام الناس، فصلى الحجاج بالناس، فلما انصرف قال لابن عمر: ما حملك على ذلك؟ فقال: إنما نجيء للصلاة، فصل الصلاة لوقتها ثم تفتق ما شئت بعد من تفتقه .
النموذج الخامس: ما أخرجه البخاري في صحيحه عن يوسف بن ماهك قال: (كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً، فقال: خذوه. فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي} [الأحقاف: 17]. فقالت عائشة من وراء حجاب: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن، إلا أن الله أنزل عذري) .
وقد جاءت مقالة عبد الرحمن مفسرة في بعض الروايات ففي بعضها: (ما هي إلا هرقلية) وفي رواية (سنة هرقل وقيصر) بعد أن قال مروان: (سنة أبي بكر وعمر) وفي رواية: (أجئتم بها هرقلية تبايعون لأبنائكم؟) وفي رواية (هرقلية؟ إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده، ولا في أهل بيته..) قال ذلك بعد أن قال مروان: (إن يستخلف فقد استخلف أبو بكر وعمر) .
المبحث السابع: تغيير الابن على والده
لقد جعل الله سبحانه وتعالى للوالدين حقوقاً كثيرة وكبيرة فمهما عمل الولد تجاه والديه فإنه لا يعتبر موفياً حقوقهما بل ولا جزءاً منها.
والدليل على ذلك أن الله –سبحانه وتعالى- قرن طاعته بطاعتهم قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23-24].
المطلب الأول: تعريف الهجر لغةً وشرعاً
المطلب الأول: تعريف الهجر لغةً وشرعاً
قال الجوهري: الهجر: ضد الوصل. والمهاجرة من أرض إلى أرض ترك الأولى للثانية.
والتهاجر: التقاطع. والهجرتان: هجرة إلى الحبشة وهجرة إلى المدينة .
والهجر الشرعي نوعان:
الأول: بمعنى الترك للمنكرات. ومنه قوله تعالى {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} [النساء: 140].
قال ابن كثير: أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ بها وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم فيه .
ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].
قال القرطبي -رحمه الله-: والخطاب مجرد للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل إن المؤمنين داخلون في الخطاب معه وهو الصحيح. فإن العلة سماع الخوض في آيات الله وذلك يشملهم وإياه..
ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكراً علم أنه لا يقبل منه فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه .
وورد في حديث جابر بن عبد الله -الطويل- وفيه ((.. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يشرب عليها الخمر)) الحديث.
ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.
ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم –عليه السلام- {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 26].
قال القرطبي: وهو أول من هاجر من أرض الكفر .
وقال القرطبي أيضاً حول قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال: 25].
قال علماؤنا: فالفتنة إذا عمت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها. وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم.. وبهذا قال السلف رضي الله عنهم .
الثاني: الهجر على وجه التأديب والعقوبة، وهو هجر أهل المعاصي والمنكرات والمخالفات وهو بمنزلة التعزير، ويفعله إذا رآه أقوى في نفسية الفاعل من التغيير باليد واللسان أو إذا عجز عن التغيير باليد واللسان.
فإذا أظهر الإنسان المكلف معصيته أو عرف بها وأصر عليها سواء أكانت هذه المعصية فعلية أم قولية أم اعتقادية فمن السنة هجره، فالهاجر يثاب عليه؛ لأنه من أجل الله تعالى.
وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعباً وصاحبيه وأمر الصحابة بهجرهم خمسين يوماً. وهجر نساءه شهراً. وهجرت عائشة –رضي الله عنها- ابن أختها عبد الله بن الزبير –رضي الله عنهما- مدة.
ورد عن كعب بن مالك –وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم- ((أنه لم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط غير غزوتين غزوة العسرة وغزوة بدر. قال: فأجمعت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، وكان قلما يقدم من سفر سافره إلا ضحى. وكان يبدأ بالمسجد فيركع ركعتين، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبي ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا. فاجتنب الناس كلامنا. فلبثت كذلك حتى طال علي الأمر وما من شيء أهم إلى من أن أموت فلا يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم أو يموت الرسول صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم، ولا يصلى علي فأنزل الله توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الآخر من الليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة..)) الحديث.
فهذا الحديث يثبت هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة والصحابة لهم. ومن ناحية أخرى يثبت كيف كان لهذا الهجر الأثر الكبير في تركهم للمعروف وفعلهم للمنكر في ترك الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الخروج معه.
وورد أن عائشة –رضي الله عنها- حدثت أن عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: ((والله لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها. فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم. قالت: هو لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبداً فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة. فقالت: والله لا أشفع فيه أبداً ولا أتحنث إلى نذري. فلما طال ذلك على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث –وهما من بني زهرة- وقال لهما: أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي. فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى اتسأذنا على عائشة فقالا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا قالوا: كلنا؟ قالت: نعم ادخلوا كلكم –ولا تعلم أن معهم ابن الزبير- فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا كلمته وقبلت منه. ويقولان إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمت من الهجرة فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال. فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفقت تذكرهما وتبكي وتقول: إني نذرت والنذر شديد. فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة. وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل دموعها خمارها)) .
وروي عن الإمام أحمد قال: إذا علم أنه مقيم على معصيته وهو يعلم بذلك لم يأثم إن هو جفاه حتى يرجع وإلا كيف يتبين للرجل ما هو عليه إذا لم ير منكراً ولا جفوة من صديق .
وورد عن سفيان الثوري أنه قال لعلي بن الحسن السليمي:
إياك وما يفسد عليك عملك وقلبك، فإنما يفسد عليك قلبك أهل الدنيا وأهل الحرص وإخوان الشياطين الذين ينفقون أموالهم في غير طاعة الله، وإياك وما يفسد عليك دينك فإنما يفسد عليك دينك مجالسة ذوي الألسن المكثرين للكلام، وإياك وما يفسد عليك معيشتك، فإنما يفسد عليك معيشتك أهل الحرص وأهل الشهوات، وإياك ومجالسة أهل الجفاء، ولا تصحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي، ولا تصحب الفاجر ولا تجالسه ولا تجالس من يجالسه، ولا تؤاكله ولا تؤاكل من يؤاكله ولا تحب من يحبه، ولا تفشي إليه سرك ولا تبتسم في وجهه ولا توسع له في مجلسك فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد قطعت عرى الإسلام. وإياك وأبواب السلطان وأبواب من يأتي أبوابهم وأبواب من يهوى هواهم، فإن فتنتهم مثل فتنة الدجال... .
فمن خلال النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والآثار يتبين لنا مشروعية الهجر، وأنه سنة يثاب عليها الإنسان إذا كان ذلك لله تعالى.
المطلب الثاني: أنواع الهجر
النوع الأول: الهجر كلية. ويكون ذلك للكفار فلا يجالسهم ولا يسلم عليهم ولا يؤاكلهم ولا يشاربهم فلا علاقة معهم مطلقاً.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} [الممتحنة: 1].
ويقول تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] الآية.
وغير ذلك من النصوص التي تفيد وجوب هجر الكفار وتركهم وعدم محبتهم مهما كانوا، حتى ولو كانوا من الأقربين.
النوع الثاني: هجر كلي لمدة مؤقتة كشهر أو شهرين أو أقل أو أكثر حسب ما تقتضيه مصلحة صلاحه. كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته مع الثلاثة الذين خلفوا.
ولما ورد في حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم على بعض ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 78-81] إلى قوله {فاسقون})) .
فهؤلاء ذمهم الله تعالى رغم أنهم أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر ولكن لما أصروا على فعلهم لم يهجروهم بل آكلوهم وشاربوهم ولذلك عاتبهم الله.
النوع الثالث: هجر جزئي كأن يهجره في بعض جوانب التعامل فقط.
مثل هجر الزوجة في المنام فقط لتأديبها.
يقول تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34].
والهجر: أن يوليها ظهره فلا ينام معها في فراش أو تحت لحاف واحد .
وفي المسند عن حكيم بن معاوية عن أبيه في حديثه الطويل قلت:
((ما حق زوجة أحدنا عليه قال: تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت)) . الحديث.
المطلب الثالث: أقسام الناس بالنسبة للهجر
تختلف منزلة الناس من حيث المعصية فبعضهم كافر أو يصل إلى درجة الكفر، وبعضهم مبتدع وبعضهم عاص أو مخالف، إلى غير ذلك من هذه الأنواع، فالمسلم يجب أن يكون موقفه منهم بحسب معصيتهم، وسوف نورد أقسام الناس من حيث المعصية على النحو التالي:
القسم الأول: الكافر: فهذا يقاطع بالكلية وقد تحدثنا عن ذلك وذكرنا الأدلة عليه.
القسم الثاني: مبتدع: والمبتدع ينقسم إلى قسمين:
أ- مبتدع يدعو إلى بدعته، فهذا يجب هجره ومقاطعته.
قال الإمام أحمد –رحمه الله-: ويجب هجر من كفر أو فسق ببدعة أو دعا إلى بدعة مضلة أو مفسقة على من عجز عن الرد عليه أو خاف الاغترار به دون غيره، وقيل: يجب هجره مطلقاً وهو ظاهر كلام الإمام أحمد -رضي الله عنه- السابق. وقطع ابن عقيل به في معتقده قال: ليكون ذلك كسراً له واستصلاحاً .
وقال الخلال: حدثنا إسماعيل بن إسحاق الثقفي النيسابوري أن أبا عبد الله سئل عن رجل له جار رافضي يسلم عليه؟ قال: لا وإن سلم لا يرد عليه .
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار تفيد ذلك منهما:
ما رواه جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله. إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم، وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم)) .
وروى الإمام أحمد بسنده عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم)) .
وعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية)) .
وعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم وهم شيعة الدجال..)) الحديث.
وفي رواية لأبي داود أيضاً ((وإن ماتوا فلا تشهدوهم)) .
فهذه الأحاديث تفيد مقاطعة أهل البدع والضلالات والأهواء الذين يدعون إليها ويصرون عليها.
ب- المبتدع العامي: وهو الجاهل بالبدعة التي اعتنقها فمثل هذا لا يقاطع بل يتابع ويبين له الحق ويوضح له بالسبل المناسبة لتفكيره فربما كانت عودته سهلة؛ لأن ميول الجاهل في الغالب عاطفية. وإن أصر للمرة الأولى والثانية فتواصل معه المحاولة فلعله يرجع وإن أصر بعد ذلك فيتبع بهم الهجر.
قال الغزالي: المبتدع العامي الذي لا يقدر على الدعوة ولا يخاف الاقتداء به فأمره أهون فالأولى أن لا يقابح بالتغليظ والإهانة، بل يتلطف به في النصح فإن قلوب العوام سريعة التقلب. فإن لم ينفع النصح وكان الإعراض عنه تقبيحاً لبدعته، تأكد الاستحباب في الإعراض .
3- القسم الثالث: مرتكب الكبيرة: فهذا يهجر حتى يدع تلك الكبيرة، ويكون هجره كلياً من قبل الشخص أو الأشخاص الذين يعلمون بفعله.
4- القسم الرابع: مرتكب الصغيرة ويكون هجره جزئياً في بعض جوانب الحياة.
5- القسم الخامس: هجر المجتهد المخطئ في اجتهاده كأن يفعل أمراً يعلم أنه مخطئ فيه ولكن خوفه من السلطان جعله يتأول أو يعرض وينجو من السلطان وقد هجر الإمام أحمد -رضي الله عنه- جماعة ممن أجابوا في المحنة مثل يحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهما مع فخامة شأنهم .
المطلب الرابع: الهجر المحرم
الهجر من الأمور الكبيرة. لذلك لا يجوز لمسلم أن يهجر أخاه المسلم إلا إذا تبين بحق أنه يستحق الهجر. وأما إذا كان مسلماً عدلاً في اعتقاده وأقواله وأفعاله، فإنه لا يجوز هجره بحال.
وقد جاء النهي عن ذلك صريحاً في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم منها:
ما رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)) .
ورواه مسلم بنفس اللفظ وزاد في رواية ((فيصد هذا ويصد هذا)) وفي رواية أخرى ((ثلاثة أيام)) .
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا. أنظروا هذين حتى يصطلحا وفي رواية إلا المتهاجرين)) .
فهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في تحريم الهجر إذا لم يكن له مبرر شرعي.
فعلى المسلمين أن يأتمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر فيما يحل ويحرم.
فباب الهجر عظيم. فهو الذي يبين قوة الإيمان من ضعفه.
المبحث السادس: التغيير على الملوك والأمراء
تمهيد
مما لا شك فيه أن في صلاح الراعي صلاحاً للرعية، حيث إن للراعي سلطة وقوة ونفوذاً ليست بيد أحد من أفراد الرعية.
وإذا كان المسؤول عن معظم الطوائف والجماعات والفئات صالحاً انعكس صلاحه على من تحته فما بالك بالسلطان.
لذا فإنه ينبغي أن لا يتولى أمور المسلمين إلا من هو أهل لذلك ممن يتصف بالتقوى والخوف من الله تعالى ومراقبته والقوة في الرأي والسداد والحكمة في المنطق، ولكن قد يتولى على المسلمين من ليس أهلاً لذلك فيذعن المسلمون له وللأمر الواقع نظراً لما يترتب على ذلك من جلب المصالح ودفع المفاسد.
ولكن على أي الحالين فلابد أن يسعى العلماء والمصلحون إلى بذل جميع الأسباب إلى إصلاح الراعي وتذكيره ونصحه، والسعي لإصلاح من حوله. انطلاقاً من توجيهات الشرع. يقول صلى الله عليه وسلم ((الدين النصيحة –ثلاثاً- قلنا لمن يا رسول الله قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم)) .
المطلب الأول: أدلة الإنكار على السلطان
ورد عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: ((بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا ولا نخاف في الله لومة لائم)) .
وعن طارق بن شهاب أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز، أي الجهاد أفضل؟ قال: ((كلمة حق عند سلطان جائر)) .
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا يحقرن أحدكم نفسه، أن يرى أمر الله عليه فيه مقال ثم لا يقوله فيقول الله: ما منعك أن تقول فيه فيقول: رب خشيت الناس فيقول: وأنا أحق أن يخشى)) .
فهذه النصوص وغيرها من الأحاديث تبين الوقوف أمام السلاطين، وقول كلمة الحق عندهم، وأنه إذا حصل لهم شيء يكرهونه بسبب هذا الأمر فهو في ذات الله وهم مأجورون عليه.
المطلب الثاني: كيفية الإنكار على السلطان
إذا كان المحتسب عليه من الولاة الذين يحكمون بشرع الله فإن لأهل السنة منهجاً في التعامل معهم.. فلا يرون التشهير بهم على المنابر والمجامع العامة لما يوقع ذلك من الفتنة.. وقد قيل لأسامة بن زيد –رضي الله عنه- (ألا تدخل على عثمان فتكلمه؟! فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم!! والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه) . وفي لفظ للبخاري: (إنكم لترون أني لا أكلمه! إلا أسمعكم؟! إني أكلمه في السر...) .
وقال ابن أبي عاصم (باب كيف نصيحة الرعية للولاة) ثم أخرج بسنده عن شريح بن عبيد قال: قال عياض بن غنم لهشام بن حكيم: ألم تسمع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه وإلا كان قد أدى ما عليه)) .
وأخرج أحمد بسنده عن سعيد بن جهمان قال: (أتيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر فسلمت عليه.. قلت: فإن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم. قال: فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة، ثم قال: ويحك يا ابن جهمان عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فائته في بيته فأخبره بما تعلم فإن قبل منك وإلا فدعه فإنك لست بأعلم منه) وقد كان الإمام أحمد –رحمه الله- لا يحدث بالأحاديث التي توهم بجواز الخروج على الأئمة.
وقال ابن القيم –رحمه الله-: (ومن دقيق الفطنة: أنك لا ترد على المطاع خطأه بين الملأ، فتحمله رتبته على نصرة الخطأ، وذلك خطأ ثان، ولكن تلطف في إعلامه به حيث لا يشعر به غيره) ا.هـ .
وقال النووي عند كلامه على حديث أسامة: (يعني المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ كما جرى لقتلة عثمان –رضي الله عنه- وفيه الأدب مع الأمراء واللطف بهم ووعظهم سراً وتبليغهم ما يقوله الناس فيهم لينكفوا عنه.
وهذا كله إذا أمكن ذلك، فإن لم يكن الوعظ سراً والإنكار، فليفعله علانية لئلا يضيع أصل الحق) ا.هـ.
ولا يفهم من هذا ترك إنكار المنكرات المتفشية.. رسمية كانت أو غير رسمية.. كما لا يعني هذا عدم فضح خطط الفساد والمفسدين.. وكشف أحابيلهم ومكائدهم.
أما الولاة الذين لا يحكمون بالشرع ويحاربون الإسلام وأهله فإن لكل حالة لبوسا.
... إليك بعض النماذج مما حفظه لنا التاريخ من إنكار أهل العلم ومن سلك سبيلهم على ذوي النفوذ من السلاطين وأعوانهم:
النموذج الأول: خبر أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- مع مروان حينما أراد مروان أن يخطب يوم العيد قبل الصلاة. والقصة مشهورة.
النموذج الثاني: نقل ابن كثير –رحمه الله- أن الحجاج خطب يوماً فقال: (إن ابن الزبير غير كتاب الله. فقال ابن عمر: ما سلطه الله على ذلك، ولا أنت معه، ولو شئت أقول: كذبت لفعلت) .
النموذج الثالث: قام ابن عمر إلى الحجاج وهو يخطب فقال: يا عدو الله! استحل حرم الله، وخرب بيت الله، فقال: يا شيخاً قد خرف فلما صدر الناس أمر الحجاج بعض مسودته فأخذ حربة مسمومة وضرب بها رجل ابن عمر فمرض ومات منها ودخل عليه الحجاج عائداً فسلم فلم يرد عليه وكلمه فلم يجبه .
النموذج الرابع: جاء في ((البداية والنهاية)): أن الحجاج أطال الخطبة، فجعل ابن عمر يقول: الصلاة الصلاة، مراراً. ثم قام فأقام الصلاة، فقام الناس، فصلى الحجاج بالناس، فلما انصرف قال لابن عمر: ما حملك على ذلك؟ فقال: إنما نجيء للصلاة، فصل الصلاة لوقتها ثم تفتق ما شئت بعد من تفتقه .
النموذج الخامس: ما أخرجه البخاري في صحيحه عن يوسف بن ماهك قال: (كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً، فقال: خذوه. فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي} [الأحقاف: 17]. فقالت عائشة من وراء حجاب: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن، إلا أن الله أنزل عذري) .
وقد جاءت مقالة عبد الرحمن مفسرة في بعض الروايات ففي بعضها: (ما هي إلا هرقلية) وفي رواية (سنة هرقل وقيصر) بعد أن قال مروان: (سنة أبي بكر وعمر) وفي رواية: (أجئتم بها هرقلية تبايعون لأبنائكم؟) وفي رواية (هرقلية؟ إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده، ولا في أهل بيته..) قال ذلك بعد أن قال مروان: (إن يستخلف فقد استخلف أبو بكر وعمر) .
المبحث السابع: تغيير الابن على والده
لقد جعل الله سبحانه وتعالى للوالدين حقوقاً كثيرة وكبيرة فمهما عمل الولد تجاه والديه فإنه لا يعتبر موفياً حقوقهما بل ولا جزءاً منها.
والدليل على ذلك أن الله –سبحانه وتعالى- قرن طاعته بطاعتهم قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23-24].