ابن عامر الشامي
وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
- إنضم
- 20 ديسمبر 2010
- المشاركات
- 10,237
- النقاط
- 38
- الإقامة
- المملكة المغربية
- احفظ من كتاب الله
- بين الدفتين
- احب القراءة برواية
- رواية حفص عن عاصم
- القارئ المفضل
- سعود الشريم
- الجنس
- اخ
وقال أيضاً رحمه الله: (وليس لأحد أن يتبع زلات العلماء، كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم والإيمان إلا بما هم له أهل، فإن الله تعالى عفا للمؤمنين عما أخطأوا، كما قال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [ البقرة: 286]. قال الله: ((قد فعلت)) .
وأمرنا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نتبع من دونه أولياء، وأمرنا أن لا نطيع مخلوقاً في معصية الخالق، ونستغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، فنقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [ الحشر: 10].
وهذا أمر واجب على المسلمين في كل ما كان يشبه هذا من الأمور، ونعظم أمره تعالى بالطاعة لله ورسوله، ونرعى حقوق المسلمين، لاسيما أهل العلم منهم، كما أمر الله ورسوله، ومن عدل عن هذه الطريق فقد عدل عن اتباع الحجة إلى اتباع الهوى في التقليد، وآذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فهو من الظالمين، ومن عظم حرمات الله، وأحسن إلى عباد الله، كان من أولياء الله المتقين، والله سبحانه أعلم) .
لا يُشْتَرَطُ في العالم أنْ لا يُخْطِئ، فعلماء الحديث والأثر وأهل الفقه والنظر ربما حصل منهم أغلاط لأنَّهُم غير معصومين، وهذه الأغلاط التي قد تحصل منهم، حُصُولها من نِعَمِ الله - عز وجل -.
ولمَّا سُئِلَ بعض الأئمة عن غلط العالم؛ كيف يغلط العالم، كيف يخالف السنة، كيف يكون في سلوكه مُقَصِّرْ، كيف يغيب عن ذهنه في مسألة التدقيق ويتساهل؟
فقال (لئلا يُشَابِهْ العلماء الأنبياء)، لأنَّ النبي هو الذي لا ينطق عن الهوى، هو الذي يصيب في كل شيء وهو الذي يُتَّبَعْ في كل شيء، فإذا كان العالم على صوابٍ كثير وربما وقع في اجتهاد هو عليه مأجور ولكنه أخطأ في ذلك، لم يكن عند الناس رَفْعْ لعالم في منزلة النبي فَيُتَّبَعْ على كل شيء، فيحصل في النفوس التوحيد والبحث عن الحق من الكتاب والسنة والنظر فيما يُبَرِّئْ الذمة في ذلك.
وهذه عبوديات في القلب يسلكها الناس مع وجود هذا الخلاف بين أهل العلم.
ولهذا إذا نظرت في هؤلاء الذين عَنَاهُمْ الطحاوي (أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل) هو عَنَى بهم أوَّلِيًّا الأئمة الأربعة:
- أبو حنيفة: وهو من أهل الفقه والنظر ليس هو من أهل الحديث والأثر.
- والإمام مالك والشافعي وأحمد: وهؤلاء هم أئمة أهل الحديث كما أنهم أئمة أهل الفقه في المذاهب المتبوعة المعروفة.
هؤلاء بينهم خلاف في مذاهبهم، أبو حنيفة يذهب إلى قول، مالك يذهب إلى قول، الشافعي يذهب إلى قول، الإمام أحمد يذهب إلى قول.
هؤلاء منهم من يكون قوله هو الصواب، ومنهم من يكون قوله خلاف الأولى، أو يكون قوله مرجوحاً وهكذا.
فالعالم يُدَقِّقْ ويَتَحَرَّى من الأقوال ولا يُقَلِّدُ عالماً في كل ما قال؛ لأنَّ المسائل كثيرة جداً وهو بشر فقد يتهيأ له في المسألة أَنْ يُدَقِّقْ وفي مسألة أخرى لا يدقق وهكذا.
لهذا وجب على أهل الإيمان أنْ يَتَوَلَّوا جميع العلماء وأن يذكروهم بخير وأن لا يذكروا أحداً منهم بسوء
ثانيا: أن نثبت له الأجر ولا نقلده على خطئه
لقوله عليه الصلاة والسلام: ((الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر)) .
هذا الحديث يدل على أن العالم – إذا كان مستوفياً لشروط الاجتهاد – إذا اجتهد في مسألة ما واستفرغ جهده للوصول إلى الحق أجر على ذلك أجران إن أصاب الحق، أجر على اجتهاده وأجر على إصابته الحق.
وإذا لم يصب الحق أجر أجراً واحداً وذلك على اجتهاده ورفع عنه الإثم والحرج على عدم إصابته للحق لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] لكن الأمر الذي يجب أن يتنبه له هو أن هذا الخطأ الذي أخطأ فيه العالم لا يجوز متابعته عليه بل يجب أن يحذر العامة كي لا يغتروا به، إلا أن المتتبعين للرخص يحتجون بتقليد العالم في هذه الزلة فيقال لهم: طالما وأنتم مقلدون فما هو الحامل لكم على تقليد هذا العالم ومخالفة الكثيرين من العلماء من أفتى بخلافه.
ثم يقال لهم أيضاً إن كنت حسب ما تقولون إنكم مقلدون لهذا العالم في هذه الزلة (والتي تسمونها رخصة)، فلم لا تقلدونه في الأمور الأخرى مما لم يرخص فيه؟
بل نراكم تبحثون عن عالم آخر تأخذون عنه زلاته التي خالف فيها العالم الأول وهكذا دواليك. والحقيقة أنهم اتخذوا التقليد ستاراً لتحقيق رغبات أنفسهم.
هذا ولقد حذر سلفنا الصالح من زلات العلماء وذلك لأن العالم إذا زل تابعه على ذلك كثير من الناس ولذلك قيل: (زلة العالِم – بكسر اللام – زلة العالَم – بفتح اللام-).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما روى ذلك عنه الدارمي في (السنن)، وابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) بإسناد صحيح قال: (ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون) .
وقال ابن عباس كما في (المدخل) للبيهقي والخطيب في (الفقيه والمتفقه) وابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) بإسناد حسن: قال: ويل للأتباع من زلة العالم، قيل: وكيف ذلك؟ قال: يقول العالم الشيء برأيه فيلقى من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه فيخبره ويرجع ويقضي الأتباع بما حكم .
وقال الإمام الشاطبي كما في كتابه (الموافقات): (وقد روي عن ابن المبارك أنه قال: كنا في الكوفة فناظروني في ذلك –يعني في النبيذ المختلف فيه- فقلت لهم: تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة. فإن لم نبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه. فاحتجوا، فما جاؤوا عن واحد برخصة إلا جئناهم بشدة فما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود وليس احتجاجهم عنه في رخصة النبيذ بشيء يصح عنه. قال ابن المبارك: فقلت للمحتج عنه في الرخصة: يا أحمق: عدَّ أن ابن مسعود لو كان ههنا جالساً فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر أو تحير أو تخشى فقال قائلهم: يا أبا عبد الرحمن: فالنخعي والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام؟
فقلت لهم: دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال، فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا، وعسى أن يكون منه زلة أفلأحد أن يحتج بها؟ فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاووس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة؟ قالوا: كانوا خياراً. قال فقلت: فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يداً بيد؟ فقالوا: حرام. فقال ابن المبارك: إن هؤلاء رأوه حلالاً فماتوا وهم يأكلون الحرام، فبقوا وانقطعت حجتهم هذا ما حكى) اهـ المراد.
وقال الغزالي في (المستصفى): فمن اعتقد أن الشافعي رحمه الله أعلم والصواب على مذهبه أغلب فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي وليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده) اهـ المراد.
وقال الفتوحي في (شرح الكوكب المنير):
(... ويحرم عليه -أي على العامي- تتبع الرخص وهو أنه كلما وجد رخصة في مذهب عمل بها ولا يعمل بغيرها في ذلك المذهب.
ويفسق به -أي تتبع الرخص- لأنه لا يقول بإباحة جميع الرخص أحد من علماء المسلمين، فإن القائل بالرخصة في هذا المذهب لا يقول بالرخصة الأخرى التي في غيره.
قال ابن عبد البر: لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً.
ومما يحكى أن بعض الناس تتبع رخص المذاهب من أقوال العلماء وجمعها في كتاب وذهب به إلى بعض الخلفاء فعرضه على بعض العلماء الأعيان فلما رآها قال: (يا أمير المؤمنين هذه زندقة في الدين ولا يقول بمجموع ذلك أحد من المسلمين) .
قلت: هذه الحكاية نقلها الإمام الشوكاني في كتابه (إرشاد الفحول ص: 272) فقال: (وحكى البيهقي عن إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد فرفع إلي كتاباً لأنظر فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم. فقلت: مصنف هذا زنديق. فقال: لم تصح هذه الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر.
وما من عالم إلا وله زلة ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه.
فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب).
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: (أما لو اختار المقلد من كل مذهب ما هو الأهون عليه والأخف له فقال أبو إسحاق المروزي: يفسق، وقال ابن أبي هريرة: لا يفسق. قال الإمام أحمد بن حنبل: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة بالسماع وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً) .
قلت: وانظر (روضة الطالبين) للنووي .
ثالثا: عدم الاعتماد عليها وترك العمل بها
أن يعلم أن زلة العالم ليست من الشرع في شيء، فلا تنسب إليه، ولا هي من الخلاف السائغ، ولا يجوز اقتداء به فيها، بل يتعين تبرئة الشريعة منها.
قال الإمام الشاطبي في (الموافقات):
(إن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بها تقليداً له؛ وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع، ولذلك عدت زلة، وإلا فلو كانت معتداً بها؛ لم يجعل لها هذه الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها.
كما أنه لا ينبغي أن يشنع عليه بها، ولا ينتقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً؛ فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين)اهـ .
وقال الإمام الشاطبي أيضاً: (إنه لا يصح اعتمادها – أي زلة العالم – خلافاً في المسائل الشرعية؛ لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد، ولا هي من مسائل الاجتهاد، وإن حصل من صاحبها اجتهاد؛ فهو لم يصادف فيها محلاً، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد، وإنما يعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة، كانت مما يقوى أو يضعف، وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا؛ فلذلك قيل: (إنه لا يصح أن يعتد بها في الخلاف، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل، والمتعة، ومحاشي النساء, وأشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها)اهـ .
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (ومن أنواع النصح لله تعالى وكتابه ورسوله – وهو مما يختص به العلماء رد الأهواء المضلة بالكتاب والسنة، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلات العلماء، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردها) اهـ .
ومع أهمية التنبيه إلى زلة العالم، فإن هذا لا يستلزم هجره وإطراح ما عدا ذلك من علومه النافعة، كما يفعل الغلاة من المنتسبين إلى طلب العلم، وفي هذا يقول العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله تعالى:
(فهذه الآراء المغلوطة لم تكن سبباً في الحرمان من علوم هؤلاء الأجلة، بل مازالت منارات يهتدي بها في أيدي أهل الإسلام، وما زال العلماء على هذا المشرع ينبهون على خطإ الأئمة مع الاستفادة من علمهم وفضلهم، ولو سلكوا مسلك الهجر لهدمت أصول وأركان، ولتقلص ظل العلم في الإسلام، وأصبح الاختلال واضحاً للعيان، والله المستعان) اهـ.
رابعا: أن يلتمس العذر للعالم، ويحسن الظن به، ويقيله عثرته
قال الإمام السبكي – رحمه الله -: (فإذا كان الرجل ثقة مشهوداً له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تعود منه ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله) .
وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى:
(والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما: أعظم الباطل، ويريد بها الآخر: محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه، ويناظر عنه) .
وأسند البخاري في كتاب الشروط من (صحيحه) قصة الحديبية ومسير النبي صلى الله عليه وسلم إليها، وفيها:
((وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل)) إلخ الحديث.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فقه الحديث: (جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها، لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله؛ لأن خلأ القصواء لولا خارق العادة لكان ما ظنه الصحابة صحيحاً، ولم يعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لعذرهم في ظنهم) اهـ.
قال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله: (فقد أعذر النبي صلى الله عليه وسلم غير المكلف من الدواب باستصحاب الأصل، ومن قياس الأولى إذا رأينا عالماً عاملاً، ثم وقعت منه هنة أو هفوة، فهو أولى بالإعذار، وعدم نسبته إليها والتشنيع عليه بها – استصحاباً للأصل – وغمر ما بدر منه في بحر علمه وفضله، وإلا كان المعنف قاطعاً للطريق ردءاً للنفس اللوامة، وسبباً في حرمان العالم من علمه، وقد نهينا أن يكون أحدنا عونا للشيطان على أخيه) اهـ.
ثم نقل قول الصنعاني رحمه الله تعالى: (وليس أحد من أفراد العلماء إلا وله نادرة ينبغي أن تغمر في جنب فضله وتجتنب) اهـ.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: ((من أقال مسلما أقال الله عثرته)) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)) .
قال الإمام الشافعي – رحمه الله – (ذوو الهيئات الذين يقالون عثراتهم الذين ليسوا يعرفون بالشر، فيزل أحدهم الزلة) .
وقال الإمام العز بن عبد السلام – رحمه الله: (لو رفعت صغائر الأولياء إلى الأئمة والحكام لم يجز تعزيرهم عليها، بل يقيل عثرتهم، ويستر زلتهم، فهم أولى من أقيلت عثرته، وسترت زلته) .
وقال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله: (الظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد، فإن الله تعالى خصهم بنوع تكريم وتفضيل على بني جنسهم، فمن كان مستوراً مشهوراً بالخير حتى كبا به جواده، ونبا عضب صبره، وأديل عليه شيطانه، فلا تسارع إلى تأنيبه وعقوبته، بل تقال عثرته مالم يكن حداً من حدود الله فإنه يتعين استيفاؤه من الشريف كما يتعين أخذه من الوضيع) اهـ.
يجب على كل مسلم بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين، كما نطق به القرآن، خصوصا الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم، يهدى بهم في ظلمات البر والبحر. وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم علماؤها شرارها، إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول من أمته، والمحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وكلهم متفقون اتفاقا يقينا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه - فلا بد له في تركه من عذر.
وجماع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
والثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ، فلهم الفضل علينا والمنة بالسبق، وتبليغ ما أرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
خامسا: أن يحفظ للعالم قدره، ولا يجحد محاسنه
قال الذهبي في ترجمة القفال الشاشي: (قال أبو الحسن الصفار: سمعت أبا سهل الصعلوكي، وسئل عن تفسير أبي بكر القفال، فقال: (قدسه من وجه، ودنسه من وجه)، أي دنسه من جهة نصر الاعتزال، قلت: قد مر موته، والكمال عزيز – وإنما يمدح العالم بكثرة ماله من الفضائل، فلا تدفن المحاسن لورطة، ولعله رجع عنها، وقد يغفر له في استفراغه الوسع في طلب الحق، ولا حول ولا قوة إلا بالله) .
واستدرك الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله بعض ألفاظ الشيخ أبي إسماعيل الهروي، وقال: (في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير، يجبره حسن حال صاحبه وصدقه، وتعظيمه لله ورسوله، ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له) .
وقال أيضاً: (شيخ الإسلام حبيبنا، ولكن الحق أحب إلينا منه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: (عمله خير من علمه)، وصدق رحمه الله، فسيرته بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد أهل البدع، لا يشق له فيها غبار، وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله، وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وقد أخطأ في هذا الباب لفظاً ومعنى..) ..
بحيث لا نسقط مكانته من نفوس الناس ولا نشنع عليه من أجلها ونلغي ما عنده من العلم وموافقة الحق مع التحذير من الزلة التي وقعت منه وتحذير الأمة من الاغترار بها ومتابعتها.
أقوال أهل العلم في ذلك:
قال الإمام الشاطبي رحمه الله:
(لا ينبغي أن ينسب صاحبها – أي الزلة – إلى التقصير ولا أن يشنع عليه بها ولا ينتقص من أجلها أو يعتقد فيه المخالفة بحتاً فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين) اهـ
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله:
(من له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد يكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لاجتهاده فلا يجوز أن يتبع فيها ولا يجوز أن تهدر مكانته ومنزلته في قلوب المسلمين) اهـ
ثم اعلم أن الزلات تتفاوت فمنها ما يكون ذا أثر على الناس فيجب في هذه الحالة تحذيرهم من الاغترار بها وليكن هذا التحذير بأسلوب حسن بحيث لا يشعر الناس بالتنقص من هذا العالم ولا يطعن في العالم ولا في رتبته.
وأما إن كانت غير مؤثرة على الناس فيجب سترها وإقالة عثرة هذا العالم.
كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)) ، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((من أقال مسلماً أقال الله عثرته)) .
فالعلماء ولا شك من ذوي الهيئات الذين تقال عثراتهم.
سادسا: إسداء النصح له
إن العالم كغيره من الناس له حق النصح إذا أخطأ وهو مندرج تحت قوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث تميم بن أوس الداري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) رواه مسلم . وأبو داود . والترمذي ، وعنده أنه قال الدين النصيحة ثلاث مرات، فالعلماء يعتبرون من أئمة المسلمين.
ولكن من الذي ينصحهم؟ أهم أصحاب الألسن الحادة والكلمات الجارحة من المتحمسين والمتشنجين...؟
أم ذلك الذي لا يرى الحق إلا ما كان على مثل ما هو عليه؟
أقول: إن الذين ينصحون هم أولئك الذين عرفوا الحق ورحموا الخلق، فكلماتهم بلسم على الجراح، يأتون بالعبارة التي يفوح منها الحنان والشفقة بالمنصوح لا يشعرونه بأنهم مترفعون عليه ولا شامتين به، إنهم العلماء الربانيون الذين لا يشهرون بالمنصوح بحجة النصح ولا يحرجونه بحجة التقويم ويضعون نصب أعينهم ما يلي:
الإخلاص لله تعالى في هذه النصيحة فإنها من جملة العبادات التي كلفنا بها ولا تقبل إلا إذا كانت خالصة لوجه الله تعالى قال عز وجل {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} [ البينة:5].
أن يكون القصد منها الإصلاح {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [ هود:88].
أن يكون القصد إظهار الحق حتى قال الإمام الشافعي (قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب) وقوله (ما ناظرت أحدا إلا سألت الله أن يظهر الحق على لساني أو على لسانه).
أن يكون مبتعدا عن كل ما يجعل المنصوح معاندا متماديا على الباطل متأسيا بذلك بسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام حيث كان إذا أراد النصح قال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا) (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله) .
أن يكون التركيز على الرأي أو المسألة لا على قائلها لقوله عليه الصلاة والسلام: ((ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله..)) الحديث، . مع معرفته عليه الصلاة والسلام بالذين اشترطوا تلك الشروط في قضية عتق بريرة، وفي الثلاثة النفر الذين سألوا عن أعماله فكأنهم تقالّوها، والسنة مليئة بمثل هذا.
وأمرنا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نتبع من دونه أولياء، وأمرنا أن لا نطيع مخلوقاً في معصية الخالق، ونستغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، فنقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [ الحشر: 10].
وهذا أمر واجب على المسلمين في كل ما كان يشبه هذا من الأمور، ونعظم أمره تعالى بالطاعة لله ورسوله، ونرعى حقوق المسلمين، لاسيما أهل العلم منهم، كما أمر الله ورسوله، ومن عدل عن هذه الطريق فقد عدل عن اتباع الحجة إلى اتباع الهوى في التقليد، وآذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فهو من الظالمين، ومن عظم حرمات الله، وأحسن إلى عباد الله، كان من أولياء الله المتقين، والله سبحانه أعلم) .
لا يُشْتَرَطُ في العالم أنْ لا يُخْطِئ، فعلماء الحديث والأثر وأهل الفقه والنظر ربما حصل منهم أغلاط لأنَّهُم غير معصومين، وهذه الأغلاط التي قد تحصل منهم، حُصُولها من نِعَمِ الله - عز وجل -.
ولمَّا سُئِلَ بعض الأئمة عن غلط العالم؛ كيف يغلط العالم، كيف يخالف السنة، كيف يكون في سلوكه مُقَصِّرْ، كيف يغيب عن ذهنه في مسألة التدقيق ويتساهل؟
فقال (لئلا يُشَابِهْ العلماء الأنبياء)، لأنَّ النبي هو الذي لا ينطق عن الهوى، هو الذي يصيب في كل شيء وهو الذي يُتَّبَعْ في كل شيء، فإذا كان العالم على صوابٍ كثير وربما وقع في اجتهاد هو عليه مأجور ولكنه أخطأ في ذلك، لم يكن عند الناس رَفْعْ لعالم في منزلة النبي فَيُتَّبَعْ على كل شيء، فيحصل في النفوس التوحيد والبحث عن الحق من الكتاب والسنة والنظر فيما يُبَرِّئْ الذمة في ذلك.
وهذه عبوديات في القلب يسلكها الناس مع وجود هذا الخلاف بين أهل العلم.
ولهذا إذا نظرت في هؤلاء الذين عَنَاهُمْ الطحاوي (أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل) هو عَنَى بهم أوَّلِيًّا الأئمة الأربعة:
- أبو حنيفة: وهو من أهل الفقه والنظر ليس هو من أهل الحديث والأثر.
- والإمام مالك والشافعي وأحمد: وهؤلاء هم أئمة أهل الحديث كما أنهم أئمة أهل الفقه في المذاهب المتبوعة المعروفة.
هؤلاء بينهم خلاف في مذاهبهم، أبو حنيفة يذهب إلى قول، مالك يذهب إلى قول، الشافعي يذهب إلى قول، الإمام أحمد يذهب إلى قول.
هؤلاء منهم من يكون قوله هو الصواب، ومنهم من يكون قوله خلاف الأولى، أو يكون قوله مرجوحاً وهكذا.
فالعالم يُدَقِّقْ ويَتَحَرَّى من الأقوال ولا يُقَلِّدُ عالماً في كل ما قال؛ لأنَّ المسائل كثيرة جداً وهو بشر فقد يتهيأ له في المسألة أَنْ يُدَقِّقْ وفي مسألة أخرى لا يدقق وهكذا.
لهذا وجب على أهل الإيمان أنْ يَتَوَلَّوا جميع العلماء وأن يذكروهم بخير وأن لا يذكروا أحداً منهم بسوء
ثانيا: أن نثبت له الأجر ولا نقلده على خطئه
لقوله عليه الصلاة والسلام: ((الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر)) .
هذا الحديث يدل على أن العالم – إذا كان مستوفياً لشروط الاجتهاد – إذا اجتهد في مسألة ما واستفرغ جهده للوصول إلى الحق أجر على ذلك أجران إن أصاب الحق، أجر على اجتهاده وأجر على إصابته الحق.
وإذا لم يصب الحق أجر أجراً واحداً وذلك على اجتهاده ورفع عنه الإثم والحرج على عدم إصابته للحق لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] لكن الأمر الذي يجب أن يتنبه له هو أن هذا الخطأ الذي أخطأ فيه العالم لا يجوز متابعته عليه بل يجب أن يحذر العامة كي لا يغتروا به، إلا أن المتتبعين للرخص يحتجون بتقليد العالم في هذه الزلة فيقال لهم: طالما وأنتم مقلدون فما هو الحامل لكم على تقليد هذا العالم ومخالفة الكثيرين من العلماء من أفتى بخلافه.
ثم يقال لهم أيضاً إن كنت حسب ما تقولون إنكم مقلدون لهذا العالم في هذه الزلة (والتي تسمونها رخصة)، فلم لا تقلدونه في الأمور الأخرى مما لم يرخص فيه؟
بل نراكم تبحثون عن عالم آخر تأخذون عنه زلاته التي خالف فيها العالم الأول وهكذا دواليك. والحقيقة أنهم اتخذوا التقليد ستاراً لتحقيق رغبات أنفسهم.
هذا ولقد حذر سلفنا الصالح من زلات العلماء وذلك لأن العالم إذا زل تابعه على ذلك كثير من الناس ولذلك قيل: (زلة العالِم – بكسر اللام – زلة العالَم – بفتح اللام-).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما روى ذلك عنه الدارمي في (السنن)، وابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) بإسناد صحيح قال: (ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون) .
وقال ابن عباس كما في (المدخل) للبيهقي والخطيب في (الفقيه والمتفقه) وابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) بإسناد حسن: قال: ويل للأتباع من زلة العالم، قيل: وكيف ذلك؟ قال: يقول العالم الشيء برأيه فيلقى من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه فيخبره ويرجع ويقضي الأتباع بما حكم .
وقال الإمام الشاطبي كما في كتابه (الموافقات): (وقد روي عن ابن المبارك أنه قال: كنا في الكوفة فناظروني في ذلك –يعني في النبيذ المختلف فيه- فقلت لهم: تعالوا فليحتج المحتج منكم عمن شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالرخصة. فإن لم نبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه. فاحتجوا، فما جاؤوا عن واحد برخصة إلا جئناهم بشدة فما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود وليس احتجاجهم عنه في رخصة النبيذ بشيء يصح عنه. قال ابن المبارك: فقلت للمحتج عنه في الرخصة: يا أحمق: عدَّ أن ابن مسعود لو كان ههنا جالساً فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر أو تحير أو تخشى فقال قائلهم: يا أبا عبد الرحمن: فالنخعي والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام؟
فقلت لهم: دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال، فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا، وعسى أن يكون منه زلة أفلأحد أن يحتج بها؟ فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاووس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة؟ قالوا: كانوا خياراً. قال فقلت: فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يداً بيد؟ فقالوا: حرام. فقال ابن المبارك: إن هؤلاء رأوه حلالاً فماتوا وهم يأكلون الحرام، فبقوا وانقطعت حجتهم هذا ما حكى) اهـ المراد.
وقال الغزالي في (المستصفى): فمن اعتقد أن الشافعي رحمه الله أعلم والصواب على مذهبه أغلب فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي وليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده) اهـ المراد.
وقال الفتوحي في (شرح الكوكب المنير):
(... ويحرم عليه -أي على العامي- تتبع الرخص وهو أنه كلما وجد رخصة في مذهب عمل بها ولا يعمل بغيرها في ذلك المذهب.
ويفسق به -أي تتبع الرخص- لأنه لا يقول بإباحة جميع الرخص أحد من علماء المسلمين، فإن القائل بالرخصة في هذا المذهب لا يقول بالرخصة الأخرى التي في غيره.
قال ابن عبد البر: لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً.
ومما يحكى أن بعض الناس تتبع رخص المذاهب من أقوال العلماء وجمعها في كتاب وذهب به إلى بعض الخلفاء فعرضه على بعض العلماء الأعيان فلما رآها قال: (يا أمير المؤمنين هذه زندقة في الدين ولا يقول بمجموع ذلك أحد من المسلمين) .
قلت: هذه الحكاية نقلها الإمام الشوكاني في كتابه (إرشاد الفحول ص: 272) فقال: (وحكى البيهقي عن إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد فرفع إلي كتاباً لأنظر فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم. فقلت: مصنف هذا زنديق. فقال: لم تصح هذه الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر.
وما من عالم إلا وله زلة ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه.
فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب).
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: (أما لو اختار المقلد من كل مذهب ما هو الأهون عليه والأخف له فقال أبو إسحاق المروزي: يفسق، وقال ابن أبي هريرة: لا يفسق. قال الإمام أحمد بن حنبل: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة بالسماع وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً) .
قلت: وانظر (روضة الطالبين) للنووي .
ثالثا: عدم الاعتماد عليها وترك العمل بها
أن يعلم أن زلة العالم ليست من الشرع في شيء، فلا تنسب إليه، ولا هي من الخلاف السائغ، ولا يجوز اقتداء به فيها، بل يتعين تبرئة الشريعة منها.
قال الإمام الشاطبي في (الموافقات):
(إن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بها تقليداً له؛ وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع، ولذلك عدت زلة، وإلا فلو كانت معتداً بها؛ لم يجعل لها هذه الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها.
كما أنه لا ينبغي أن يشنع عليه بها، ولا ينتقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً؛ فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين)اهـ .
وقال الإمام الشاطبي أيضاً: (إنه لا يصح اعتمادها – أي زلة العالم – خلافاً في المسائل الشرعية؛ لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد، ولا هي من مسائل الاجتهاد، وإن حصل من صاحبها اجتهاد؛ فهو لم يصادف فيها محلاً، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد، وإنما يعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة، كانت مما يقوى أو يضعف، وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا؛ فلذلك قيل: (إنه لا يصح أن يعتد بها في الخلاف، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل، والمتعة، ومحاشي النساء, وأشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها)اهـ .
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: (ومن أنواع النصح لله تعالى وكتابه ورسوله – وهو مما يختص به العلماء رد الأهواء المضلة بالكتاب والسنة، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلات العلماء، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردها) اهـ .
ومع أهمية التنبيه إلى زلة العالم، فإن هذا لا يستلزم هجره وإطراح ما عدا ذلك من علومه النافعة، كما يفعل الغلاة من المنتسبين إلى طلب العلم، وفي هذا يقول العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله تعالى:
(فهذه الآراء المغلوطة لم تكن سبباً في الحرمان من علوم هؤلاء الأجلة، بل مازالت منارات يهتدي بها في أيدي أهل الإسلام، وما زال العلماء على هذا المشرع ينبهون على خطإ الأئمة مع الاستفادة من علمهم وفضلهم، ولو سلكوا مسلك الهجر لهدمت أصول وأركان، ولتقلص ظل العلم في الإسلام، وأصبح الاختلال واضحاً للعيان، والله المستعان) اهـ.
رابعا: أن يلتمس العذر للعالم، ويحسن الظن به، ويقيله عثرته
قال الإمام السبكي – رحمه الله -: (فإذا كان الرجل ثقة مشهوداً له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تعود منه ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله) .
وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى:
(والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما: أعظم الباطل، ويريد بها الآخر: محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه، ويناظر عنه) .
وأسند البخاري في كتاب الشروط من (صحيحه) قصة الحديبية ومسير النبي صلى الله عليه وسلم إليها، وفيها:
((وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل)) إلخ الحديث.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فقه الحديث: (جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها، لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله؛ لأن خلأ القصواء لولا خارق العادة لكان ما ظنه الصحابة صحيحاً، ولم يعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لعذرهم في ظنهم) اهـ.
قال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله: (فقد أعذر النبي صلى الله عليه وسلم غير المكلف من الدواب باستصحاب الأصل، ومن قياس الأولى إذا رأينا عالماً عاملاً، ثم وقعت منه هنة أو هفوة، فهو أولى بالإعذار، وعدم نسبته إليها والتشنيع عليه بها – استصحاباً للأصل – وغمر ما بدر منه في بحر علمه وفضله، وإلا كان المعنف قاطعاً للطريق ردءاً للنفس اللوامة، وسبباً في حرمان العالم من علمه، وقد نهينا أن يكون أحدنا عونا للشيطان على أخيه) اهـ.
ثم نقل قول الصنعاني رحمه الله تعالى: (وليس أحد من أفراد العلماء إلا وله نادرة ينبغي أن تغمر في جنب فضله وتجتنب) اهـ.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: ((من أقال مسلما أقال الله عثرته)) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)) .
قال الإمام الشافعي – رحمه الله – (ذوو الهيئات الذين يقالون عثراتهم الذين ليسوا يعرفون بالشر، فيزل أحدهم الزلة) .
وقال الإمام العز بن عبد السلام – رحمه الله: (لو رفعت صغائر الأولياء إلى الأئمة والحكام لم يجز تعزيرهم عليها، بل يقيل عثرتهم، ويستر زلتهم، فهم أولى من أقيلت عثرته، وسترت زلته) .
وقال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله: (الظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد، فإن الله تعالى خصهم بنوع تكريم وتفضيل على بني جنسهم، فمن كان مستوراً مشهوراً بالخير حتى كبا به جواده، ونبا عضب صبره، وأديل عليه شيطانه، فلا تسارع إلى تأنيبه وعقوبته، بل تقال عثرته مالم يكن حداً من حدود الله فإنه يتعين استيفاؤه من الشريف كما يتعين أخذه من الوضيع) اهـ.
يجب على كل مسلم بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين، كما نطق به القرآن، خصوصا الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم، يهدى بهم في ظلمات البر والبحر. وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم علماؤها شرارها، إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول من أمته، والمحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وكلهم متفقون اتفاقا يقينا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه - فلا بد له في تركه من عذر.
وجماع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
والثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ، فلهم الفضل علينا والمنة بالسبق، وتبليغ ما أرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
خامسا: أن يحفظ للعالم قدره، ولا يجحد محاسنه
قال الذهبي في ترجمة القفال الشاشي: (قال أبو الحسن الصفار: سمعت أبا سهل الصعلوكي، وسئل عن تفسير أبي بكر القفال، فقال: (قدسه من وجه، ودنسه من وجه)، أي دنسه من جهة نصر الاعتزال، قلت: قد مر موته، والكمال عزيز – وإنما يمدح العالم بكثرة ماله من الفضائل، فلا تدفن المحاسن لورطة، ولعله رجع عنها، وقد يغفر له في استفراغه الوسع في طلب الحق، ولا حول ولا قوة إلا بالله) .
واستدرك الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله بعض ألفاظ الشيخ أبي إسماعيل الهروي، وقال: (في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير، يجبره حسن حال صاحبه وصدقه، وتعظيمه لله ورسوله، ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له) .
وقال أيضاً: (شيخ الإسلام حبيبنا، ولكن الحق أحب إلينا منه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: (عمله خير من علمه)، وصدق رحمه الله، فسيرته بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد أهل البدع، لا يشق له فيها غبار، وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله، وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وقد أخطأ في هذا الباب لفظاً ومعنى..) ..
بحيث لا نسقط مكانته من نفوس الناس ولا نشنع عليه من أجلها ونلغي ما عنده من العلم وموافقة الحق مع التحذير من الزلة التي وقعت منه وتحذير الأمة من الاغترار بها ومتابعتها.
أقوال أهل العلم في ذلك:
قال الإمام الشاطبي رحمه الله:
(لا ينبغي أن ينسب صاحبها – أي الزلة – إلى التقصير ولا أن يشنع عليه بها ولا ينتقص من أجلها أو يعتقد فيه المخالفة بحتاً فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين) اهـ
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله:
(من له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد يكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لاجتهاده فلا يجوز أن يتبع فيها ولا يجوز أن تهدر مكانته ومنزلته في قلوب المسلمين) اهـ
ثم اعلم أن الزلات تتفاوت فمنها ما يكون ذا أثر على الناس فيجب في هذه الحالة تحذيرهم من الاغترار بها وليكن هذا التحذير بأسلوب حسن بحيث لا يشعر الناس بالتنقص من هذا العالم ولا يطعن في العالم ولا في رتبته.
وأما إن كانت غير مؤثرة على الناس فيجب سترها وإقالة عثرة هذا العالم.
كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)) ، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((من أقال مسلماً أقال الله عثرته)) .
فالعلماء ولا شك من ذوي الهيئات الذين تقال عثراتهم.
سادسا: إسداء النصح له
إن العالم كغيره من الناس له حق النصح إذا أخطأ وهو مندرج تحت قوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث تميم بن أوس الداري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) رواه مسلم . وأبو داود . والترمذي ، وعنده أنه قال الدين النصيحة ثلاث مرات، فالعلماء يعتبرون من أئمة المسلمين.
ولكن من الذي ينصحهم؟ أهم أصحاب الألسن الحادة والكلمات الجارحة من المتحمسين والمتشنجين...؟
أم ذلك الذي لا يرى الحق إلا ما كان على مثل ما هو عليه؟
أقول: إن الذين ينصحون هم أولئك الذين عرفوا الحق ورحموا الخلق، فكلماتهم بلسم على الجراح، يأتون بالعبارة التي يفوح منها الحنان والشفقة بالمنصوح لا يشعرونه بأنهم مترفعون عليه ولا شامتين به، إنهم العلماء الربانيون الذين لا يشهرون بالمنصوح بحجة النصح ولا يحرجونه بحجة التقويم ويضعون نصب أعينهم ما يلي:
الإخلاص لله تعالى في هذه النصيحة فإنها من جملة العبادات التي كلفنا بها ولا تقبل إلا إذا كانت خالصة لوجه الله تعالى قال عز وجل {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} [ البينة:5].
أن يكون القصد منها الإصلاح {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [ هود:88].
أن يكون القصد إظهار الحق حتى قال الإمام الشافعي (قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب) وقوله (ما ناظرت أحدا إلا سألت الله أن يظهر الحق على لساني أو على لسانه).
أن يكون مبتعدا عن كل ما يجعل المنصوح معاندا متماديا على الباطل متأسيا بذلك بسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام حيث كان إذا أراد النصح قال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا) (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله) .
أن يكون التركيز على الرأي أو المسألة لا على قائلها لقوله عليه الصلاة والسلام: ((ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله..)) الحديث، . مع معرفته عليه الصلاة والسلام بالذين اشترطوا تلك الشروط في قضية عتق بريرة، وفي الثلاثة النفر الذين سألوا عن أعماله فكأنهم تقالّوها، والسنة مليئة بمثل هذا.