ابن عامر الشامي
وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
- إنضم
- 20 ديسمبر 2010
- المشاركات
- 10,237
- النقاط
- 38
- الإقامة
- المملكة المغربية
- احفظ من كتاب الله
- بين الدفتين
- احب القراءة برواية
- رواية حفص عن عاصم
- القارئ المفضل
- سعود الشريم
- الجنس
- اخ
وعد الإقرار بالله مما اتفق عليه جميع المؤمنين، من الأولين والآخرين، بل وجميع الكتب الإلهية حيث يقول:. .. (ومنه ما هو متفق عليه بين جميع المؤمنين، من الأولين والآخرين، وجميع الكتب الإلهية: مثل الإقرار بالله) ......
ولم يكثر السلف – رحمهم الله – الخوض في إثبات وجود الله تعالى وحشد الأدلة لتقريره؛ لأنه من القضايا المسلمة المستقرة في الفطرة البشرية؛ ولذا لم ينقل عنهم من الأقوال في تقرير وجود الله عز وجل إلا شيئاً يسيرا ورد في شأن الفطرة وأخذ الميثاق والإشهاد على ذلك والآيات الكونية والنفسية.
ومن ذلك قول محمد بن كعب القرظي – في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172]-: (أقرت الأرواح قبل أن تخلق أجاسدها) .
وقال مجاهد بن جبر – في قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللّهِ} [البقرة: 138]-: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" .
وأما الكلبي والحسن فقد قالا – في قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعراف: 172]-: (أخذ ميثاقهم أنه ربهم، فأعطوه ذلك، ولا تسأل أحداً كافراً ولا غيره: من ربك؟، إلا قال: الله).
وقال السدي: (ليس في الأرض أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن ربه الله) .
وقال ابن جرير – في تفسير قول الله تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعراف: 172]-: (يقول تعالى ذكره؛ شهدنا عليكم أيها المقرون بأن الله ربكم) .
وبين الراغب الأصفهاني أن معرفة الله عز وجل مركوزة النفوس، حيث قال: (معرفة الله تعالى العامية – أي الإجمالية – مركوزة في النفس، وهي معرفة كل أحد أنه مفعول، وأن له فاعلا فعله ونقله من الأحوال المختلفة) .
المبحث الثاني:عدم كفاية الإقرار بالربوبية للبراءة من الشرك
إن توحيد الربوبية هو أحد أنواع التوحيد الثلاثة؛ ولذا فإنه لا يصح إيمان أحد, ولا يتحقق توحيده إلا إذا وحد الله في ربوبيته، لكن هذا النوع من التوحيد ليس هو الغاية من بعثة الرسل عليهم السلام، ولا ينجي وحده من عذاب الله ما لم يأت العبد بلازمه توحيد الألوهية.
ولذا يقول الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، والمعنى أي: ما يقر أكثرهم بالله رباً وخالقاً ورازقاً ومدبراً- وكل ذلك من توحيد الربوبية - إلا وهم مشركون معه في عبادته غيره من الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تعطي ولا تمنع.
وبهذا المعنى للآية قال المفسرون من الصحابة والتابعين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السماء؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله, وهم مشركون).
وقال عِكْرِمَة: (تسألهم من خلقهم, ومن خلق السماوات والأرض, فيقولون الله, فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره).
وقال مجاهد: (إيمانهم قولهم: الله خالقنا, ويرزقنا, ويميتنا, فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره).
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بن زيد: (ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله, ويعرف أن الله ربُّه، وأنَّ الله خالقُه ورازقُه، وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75- 77]) .
والنصوص عن السلف في هذا المعنى كثيرة، بل لقد كان المشركون زمن النبي صلى الله عليه وسلم مقرين بالله رباً خالقاً رازقاً مدبراً، وكان شركهم به من جهة العبادة حيث اتخذوا الأنداد والشركاء, يدعونهم, ويستغيثون بهم, وينزلون بهم حاجاتهم وطلباتهم.
وقد دل القرآن الكريم في مواطن عديدة منه على إقرار المشركين بربوبية الله مع إشراكهم به في العبادة، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61]، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 63]، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87]، وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84- 89].
فلم يكن المشركون يعتقدون أن الأصنام هي التي تنزل الغيث وترزق العالم وتدبر شؤونه، بل كانوا يعتقدون أن ذلك من خصائص الرب سبحانه، ويقرون أن أوثانهم التي يدعون من دون الله مخلوقة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضراً ولا نفعاً استقلالاً, ولا موتاً, ولا حياة, ولا نشوراً، ولا تسمع, ولا تبصر، ويقرون أن الله هو المتفرد بذلك لا شريك له، ليس إليهم ولا إلى أوثانهم شيء من ذلك، وأنه سبحانه الخالق وما عداه مخلوق, والرب وما عداه مربوب، غير أنهم جعلوا له من خلقه شركاء ووسائط، يشفعون لهم بزعمهم عند الله, ويقربونهم إليه زلفى؛ ولذا قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، أي ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا.
ومع هذا الإقرار العام من المشركين لله بالربوبية إلا أنه لم يدخلهم في الإسلام, بل حكم الله فيهم بأنهم مشركون كافرون, وتوعدهم بالنار والخلود فيها, واستباح رسوله صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم لكونهم لم يحققوا لازم توحيد الربوبية وهو توحيد الله في العبادة.
وبهذا يتبين أن الإقرار بتوحيد الربوبية وحده دون الإتيان بلازمه توحيد الألوهية لا يكفي ولا ينجي من عذاب الله، بل هو حجة بالغة على الإنسان تقتضي إخلاص الدين لله وحده لا شريك له، وتستلزم إفراد الله وحده بالعبادة. فإذا لم يأت بذلك فهو كافر حلال الدم والمال.
وهذا التوحيد - أي توحيد الربوبية - لا يكفي العبد في حصول الإسلام بل لا بد أن يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الألوهية لأن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد لله وحده قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [يونس:31] وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:63] وقال تعالى:{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} الآية [النمل:62] فهم كانوا يعلمون أن جميع ذلك لله وحده ولم يكونوا بذلك مسلمين بل قال تعالى {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف:106] قال مجاهد: في الآية: إيمانهم بالله قولهم: إن الله خلقنا ويرزقنا ويميتنا فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وعن ابن عباس وعطاء والضحاك نحو ذلك، فتبين أن الكفار يعرفون الله ويعرفون ربوبيته وملكه وقهره وكانوا مع ذلك يعبدونه ويخلصون له أنواعا من العبادات كالحج والصدقة والذبح والنذر والدعاء وقت الاضطرار ونحو ذلك ويدَّعون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام فأنزل الله تعالى {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] وبعضهم يؤمن بالبعث والحساب وبعضهم يؤمن بالقدر
كما قال زهير:
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
ليوم الحساب أو يعجل فينــــقم
وقال عنترة:
يا عبل أين من المنية مهـــرب
إن كان ربي في السماء قضاها
ومثل هذا يوجد في أشعارهم فوجب على كل من عقل عن الله تعالى أن ينظر ويبحث عن السبب الذي أوجب سفك دمائهم وسبي نسائهم وإباحة أموالهم مع هذا الإقرار والمعرفة وما ذاك إلا لإشراكهم في توحيد العبادة الذي هو معنى لا إله إلا الله
قال ابن القيم:
فما كان له سبحانه فهو متعلق بألوهيته وما كان به فهو متعلق بربوبيته وما تعلق بألوهيته أشرف مما تعلق بربوبيته ولذلك كان توحيد الألوهية هو المنجي من الشرك دون توحيد الربوبية بمجرده فإن عباد الأصنام كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه ولكن لما لم يأتوا بتوحيد الألوهية وهو عبادته وحده لا شريك له لم ينفعهم توحيد ربوبيته
ولم يكثر السلف – رحمهم الله – الخوض في إثبات وجود الله تعالى وحشد الأدلة لتقريره؛ لأنه من القضايا المسلمة المستقرة في الفطرة البشرية؛ ولذا لم ينقل عنهم من الأقوال في تقرير وجود الله عز وجل إلا شيئاً يسيرا ورد في شأن الفطرة وأخذ الميثاق والإشهاد على ذلك والآيات الكونية والنفسية.
ومن ذلك قول محمد بن كعب القرظي – في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172]-: (أقرت الأرواح قبل أن تخلق أجاسدها) .
وقال مجاهد بن جبر – في قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللّهِ} [البقرة: 138]-: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" .
وأما الكلبي والحسن فقد قالا – في قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعراف: 172]-: (أخذ ميثاقهم أنه ربهم، فأعطوه ذلك، ولا تسأل أحداً كافراً ولا غيره: من ربك؟، إلا قال: الله).
وقال السدي: (ليس في الأرض أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن ربه الله) .
وقال ابن جرير – في تفسير قول الله تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعراف: 172]-: (يقول تعالى ذكره؛ شهدنا عليكم أيها المقرون بأن الله ربكم) .
وبين الراغب الأصفهاني أن معرفة الله عز وجل مركوزة النفوس، حيث قال: (معرفة الله تعالى العامية – أي الإجمالية – مركوزة في النفس، وهي معرفة كل أحد أنه مفعول، وأن له فاعلا فعله ونقله من الأحوال المختلفة) .
المبحث الثاني:عدم كفاية الإقرار بالربوبية للبراءة من الشرك
إن توحيد الربوبية هو أحد أنواع التوحيد الثلاثة؛ ولذا فإنه لا يصح إيمان أحد, ولا يتحقق توحيده إلا إذا وحد الله في ربوبيته، لكن هذا النوع من التوحيد ليس هو الغاية من بعثة الرسل عليهم السلام، ولا ينجي وحده من عذاب الله ما لم يأت العبد بلازمه توحيد الألوهية.
ولذا يقول الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، والمعنى أي: ما يقر أكثرهم بالله رباً وخالقاً ورازقاً ومدبراً- وكل ذلك من توحيد الربوبية - إلا وهم مشركون معه في عبادته غيره من الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تعطي ولا تمنع.
وبهذا المعنى للآية قال المفسرون من الصحابة والتابعين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السماء؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله, وهم مشركون).
وقال عِكْرِمَة: (تسألهم من خلقهم, ومن خلق السماوات والأرض, فيقولون الله, فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره).
وقال مجاهد: (إيمانهم قولهم: الله خالقنا, ويرزقنا, ويميتنا, فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره).
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بن زيد: (ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله, ويعرف أن الله ربُّه، وأنَّ الله خالقُه ورازقُه، وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75- 77]) .
والنصوص عن السلف في هذا المعنى كثيرة، بل لقد كان المشركون زمن النبي صلى الله عليه وسلم مقرين بالله رباً خالقاً رازقاً مدبراً، وكان شركهم به من جهة العبادة حيث اتخذوا الأنداد والشركاء, يدعونهم, ويستغيثون بهم, وينزلون بهم حاجاتهم وطلباتهم.
وقد دل القرآن الكريم في مواطن عديدة منه على إقرار المشركين بربوبية الله مع إشراكهم به في العبادة، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61]، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 63]، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87]، وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84- 89].
فلم يكن المشركون يعتقدون أن الأصنام هي التي تنزل الغيث وترزق العالم وتدبر شؤونه، بل كانوا يعتقدون أن ذلك من خصائص الرب سبحانه، ويقرون أن أوثانهم التي يدعون من دون الله مخلوقة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضراً ولا نفعاً استقلالاً, ولا موتاً, ولا حياة, ولا نشوراً، ولا تسمع, ولا تبصر، ويقرون أن الله هو المتفرد بذلك لا شريك له، ليس إليهم ولا إلى أوثانهم شيء من ذلك، وأنه سبحانه الخالق وما عداه مخلوق, والرب وما عداه مربوب، غير أنهم جعلوا له من خلقه شركاء ووسائط، يشفعون لهم بزعمهم عند الله, ويقربونهم إليه زلفى؛ ولذا قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، أي ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا.
ومع هذا الإقرار العام من المشركين لله بالربوبية إلا أنه لم يدخلهم في الإسلام, بل حكم الله فيهم بأنهم مشركون كافرون, وتوعدهم بالنار والخلود فيها, واستباح رسوله صلى الله عليه وسلم دماءهم وأموالهم لكونهم لم يحققوا لازم توحيد الربوبية وهو توحيد الله في العبادة.
وبهذا يتبين أن الإقرار بتوحيد الربوبية وحده دون الإتيان بلازمه توحيد الألوهية لا يكفي ولا ينجي من عذاب الله، بل هو حجة بالغة على الإنسان تقتضي إخلاص الدين لله وحده لا شريك له، وتستلزم إفراد الله وحده بالعبادة. فإذا لم يأت بذلك فهو كافر حلال الدم والمال.
وهذا التوحيد - أي توحيد الربوبية - لا يكفي العبد في حصول الإسلام بل لا بد أن يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الألوهية لأن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد لله وحده قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [يونس:31] وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:63] وقال تعالى:{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} الآية [النمل:62] فهم كانوا يعلمون أن جميع ذلك لله وحده ولم يكونوا بذلك مسلمين بل قال تعالى {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف:106] قال مجاهد: في الآية: إيمانهم بالله قولهم: إن الله خلقنا ويرزقنا ويميتنا فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وعن ابن عباس وعطاء والضحاك نحو ذلك، فتبين أن الكفار يعرفون الله ويعرفون ربوبيته وملكه وقهره وكانوا مع ذلك يعبدونه ويخلصون له أنواعا من العبادات كالحج والصدقة والذبح والنذر والدعاء وقت الاضطرار ونحو ذلك ويدَّعون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام فأنزل الله تعالى {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] وبعضهم يؤمن بالبعث والحساب وبعضهم يؤمن بالقدر
كما قال زهير:
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
ليوم الحساب أو يعجل فينــــقم
وقال عنترة:
يا عبل أين من المنية مهـــرب
إن كان ربي في السماء قضاها
ومثل هذا يوجد في أشعارهم فوجب على كل من عقل عن الله تعالى أن ينظر ويبحث عن السبب الذي أوجب سفك دمائهم وسبي نسائهم وإباحة أموالهم مع هذا الإقرار والمعرفة وما ذاك إلا لإشراكهم في توحيد العبادة الذي هو معنى لا إله إلا الله
قال ابن القيم:
فما كان له سبحانه فهو متعلق بألوهيته وما كان به فهو متعلق بربوبيته وما تعلق بألوهيته أشرف مما تعلق بربوبيته ولذلك كان توحيد الألوهية هو المنجي من الشرك دون توحيد الربوبية بمجرده فإن عباد الأصنام كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه ولكن لما لم يأتوا بتوحيد الألوهية وهو عبادته وحده لا شريك له لم ينفعهم توحيد ربوبيته