ابن عامر الشامي
وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
- إنضم
- 20 ديسمبر 2010
- المشاركات
- 10,237
- النقاط
- 38
- الإقامة
- المملكة المغربية
- احفظ من كتاب الله
- بين الدفتين
- احب القراءة برواية
- رواية حفص عن عاصم
- القارئ المفضل
- سعود الشريم
- الجنس
- اخ
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((ذكر الدجال عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله لا يخفى عليكم, إن الله ليس بأعور, وأشار بيده إلى عينه وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى كأن عينه عنبة طافية))
- وقد آمن الصحابة رضوان الله عليهم، من خلال هذا العرض المفصل الواسع بأن آيات الصفات هي من المحكم وليست من المتشابه كما افترى المبتدعة فيما بعد، وهذا الإحكام جاء من خلال سهولة معانيها وإن السلف تعرضوا لتفسيرها التفسير الذي يثبت الصفة، ولا يتعرض لبيان الكيفية، يقول شيخ الإسلام بعد أن يعرض قول الرازي حول سورة الإخلاص يقول الرازي: (هذه السورة يجب أن تكون من المحكمات لا من المتشابهات, ولأنه تعالى جعلها جواباً عن سؤال السائل عند الحاجة وذلك يقتضي كونها من المحكمات لا من المتشابهات، وإذا ثبت هذا وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه السورة كان باطلاً قلت-شيخ الإسلام- كون هذه السورة من المحكمات، وكون كل مذهب يخالفها باطل هو حق لا ريب فيه، بل هذه السورة تعدل ثلث القرآن، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، وهي صفة الرحمن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، وعليها اعتمد الأئمة في تنزيه الله كما ذكره الفضيل بن عياض، والإمام أحمد، وغيرهم من أئمة الإسلام... لكن سائر الآيات المذكورة فيها أسماء الله وصفاته؛ مثل آية الكرسي، وأول الحديد, وآخر الحشر ونحو ذلك هي كذلك- كل ذلك من الآيات المحكمات لكن هذه السورة ذكر فيها ما لم يذكر في غيرها من اسمه الأحد الصمد، ومثل نفي الأصول والفروع، والنظراء جميعاً، وإلا فاسمه الرحمن أنزله الله لما أنكر المشركون هذا الاسم, فأثبته الله لنفسه رداً عليهم، وهذا أبلغ في كونه محكماً من هذه السورة إذ الرد على المنكر أبلغ في إثبات نقيض قوله من جواب السائل الذي لم يرد عليه بنفي ولا إثبات) (
ويقول شيخ الإسلام أيضاً إن آيات الصفات من المحكم وليست من المتشابه: (إن الصحابة رضي الله عنهم، فسروا للتابعين القرآن كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أُوقفُه عند كل آية منه وأسأله عنها؛ ولهذا قال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، وكان ابن مسعود يقول:
(لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته) وكل واحد من أصحاب ابن مسعود وابن عباس نقلوا عنه من التفسير ما لم يحصه إلا الله، والنقول بذلك عن الصحابة والتابعين ثابتة معروفة عند أهل العلم بها) .
أما آيات الصفات فقد تعرض السلف لتفسير معناها المفهوم لغة، ووقفوا عند المعنى اللغوي ولم يتعدوه إلى الخوض في الكنه، أو القول بالنفي والتعطيل, فآيات الصفات إذاً هي من المحكم الذي فهم الصحابة معناه.
ومن الملاحظ على بعض آيات الصفات أنها عرضت بصورة مميزة, وذلك من خلال وقائع وأحداث عاصرها الصحابة رضوان الله عليهم، فكانت تلك التعقيبات التي تربط الحديث بالصفات الإلهية مصدر إيمان، ويقين، وفهم كامل لمراد الله عز وجل.
وسوف نعرض لجملة من هذه الأحاديث التي عرضت فيها الصفات الإلهية وكان للصحابة منها مواقف وتعقيبات تنم عن تمام الفهم، واليقين الكامل بها، فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284], قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم بركوا على الركب. فقالوا: أي رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق. الصلاة, والصيام, والجهاد, والصدقة. وقد أنزلت عليك هذه الآية. ولا نطيقها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم. فأنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى. وأنزل الله عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، قال: نعم، {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}، قال: نعم، {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}، قال: نعم، {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] قال: نعم.))
لقد كان هذا الفهم منبعه التأثر بصفة من أعظم صفاته سبحانه وهي العلم، علمه بما يبدون، وما يكتمون, فخافوا من ذلك أشد الخوف, وهذا يبين عمق الفهم للمعاني وملاحظتها بما يخصهم في دينهم, وما يرضي ربهم, فلما علم سبحانه، منهم هذا الإيمان الصادق زادهم إيماناً ويقيناً به, فقد روى مسلم عن ابن عباس قال: ((لما نزلت هذه الآية: {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284]. قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا: سمعنا وسلمنا، قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم..)) .
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه – يشير إلى رباعيته -، اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله)) .
وروى البخاري ذلك الخبر أيضاً على لسان ابن عباس – رضي الله عنهما- أنه قال: ((اشتد غضب الله على من قتله النبي صلى الله عليه وسلم)) فأي فهم يكون من هؤلاء الصحابة – رضوان الله عليهم- في هذه الساعات العصيبة من المفهوم اللغوي للعبارة، ولكنه غضب يليق بجلاله وكماله، فلم يخطر على بالهم تشبيه ذلك بغضب المخلوقين، أو خطر على بالهم أن يؤولوه، أو يعطلوه، رضوان الله عليهم.
ويوجه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى معنى صفة السمع، وأن الله سبحانه سميع قريب، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر: فكنا إذا علونا كبرنا، فقال: أربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصمَّ، ولا غائباً، تدعون سميعاً قريباً)) وفي رواية مسلم قال: ((إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) .
ومن تمام فهم الصحابة للصفات الإلهية أن عائشة رضي الله عنها قالت: ((الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [ المجادلة:1]))
فكان هذا التعجب نابعاً من وصف الرب سبحانه بأعظم صفات الكمال، وهذا هو التفريق بين الصفات الإلهية وصفات المخلوقين على لسان هذه الصحابية الجليلة التي تمثل هذا الجمع الكبير الذي يؤمن بالصفات الإلهية هذا الإيمان الحق، وكانوا رضوان الله عليهم يحبون صفات ربهم، ويتقربون إليه بهذا الحب، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية، فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه لأي شيء يصنع هذا فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبروه أن الله – عز وجل- يحبه)) ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [ البينة:1] قال: وسماني؟ قال: نعم, فبكى)) .
وروى البخاري عن أنس قال: ((جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك, قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئًا لكتم هذه، فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات)) .
ومما يبين عمق الفهم، وسرعة التفاعل مع الصفات التي أثرت في إيمان وحياة الصحابة رضوان الله عليهم، ما رواه البخاري ومسلم في حديث الإفك عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه، والله لا أنفق على مسطح شيئاً بعد ما قاله لعائشة، فأنزل الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور:22] فقال أبو بكر الصديق: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه)) .
وهكذا لو بحثنا عن مواقف الصحابة لوجدناها قد ألمت إلماماً كبيراً في الصفات ومعانيها, وظهرت آثارها على حياتهم وجميع تصرفاتهم, ولعل الوقائع العظيمة من الغزوات التي غزاها الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والآيات التي نزلت بشأنها والتي تنتهي تعقيباتها بالصفات الإلهية, هي من هذا الجانب الذي نرى أنها هيمنت عليه, فكانوا بأعلى درجات الفهم والإيمان واليقين, وعندما تجلى هذا الجانب في تصوراتهم بهذه الضخامة والشمول استغنوا عن السؤال والبحث والتنقير عنه، ومع ضخامة هذا العرض وشموليته في القرآن والسنة فقد غشيت أبصار المبتدعة عنه تماماً, وقاموا بالبحث والتنقير على غير الهدى الرباني, وفتحوا أبواب الشرور على الأمة في أخص مسائل الألوهية, وهي مسائل الصفات التي حسمت مادة الاعتقاد بها على الصورة التي وقف عندها الصحابة, والتابعون, وتابعوهم الذين يمتدح طريقتهم الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله فيقول: (قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافد قد كفوا، وإنهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم حدث بعدهم فما أحدثه إلا من سلك غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، ولقد تكلموا منه بما يكفي, ووصفوا منه ما يشفي, فما دونه مقصر, وما فوقهم مجسر, لقد قصر عنهم قوم فجفوا, وطمح آخرون عنهم فغلوا, وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم) . وكانوا – رضوان الله عليهم- يكرهون التعمق والتكلف؛ فقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كنا عند عمر، فقال: نهينا عن التكلف)) فإذا كان عمر رضي الله عنه يروي النهي عن التكلف فمن باب أولى أن ينتهوا عن الخوض في الصفات بما لا يحل, وإنما وقفوا عند الحد الذي وقف عنده الكتاب والسنة بعيداً عن القول بالوصف والكيفية، أو النفي والتعطيل.
ويوضح ابن الوزير كيف أن الصحابة فهموا الصفات الإلهية من خلال تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لهم حيث يقول: (التسليم لقول الله تعالى ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، وتابعيهم الناقلين إلينا شريعته عليه السلام، وأن لا نتهم منهم أحداً لثبوت عدالتهم في سائر لوازم الشريعة، فإنهم نقلوها عن معدن النبوة، وعنصر الرسالة, ولنعلم أن البيان لا يجوز تأخيره عند الحاجة, وقد بين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ما أرسله الله تعالى به حتى قال فلان: (علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، فقال الصحابي: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين, أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار, أو أن نستنجي برجيع أو بعظم) . وحتى قال عليه السلام في خطبة الوداع: ((إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، ذو القعدة, وذو الحجة، ومحرم، ورجب - مضر- الذي بين جمادي وشعبان)) هذا فيما لا يضر جهله كيف في أمر التوحيد, فلو علم أن الحاجة داعية إلى تأويل صفات الله، وأنه يلزم الخلق كيفية معرفتها لما وسعه إلا البيان, وفي عدم ذلك دليل على كذب مدعيه, فلا يرفع أحد طرفه إلى كيفية معرفة صفات الله تعالى من قبل عقله إلا غضه الدهش والحيرة, فانقلب إليه البصر خاسئاً وهو حسير، فهذا ما يجب على المسلمين أن يؤمنوا به جملة, وأن يحيطوا به تفصيلاً)
- ومن خصائص إيمان الصحبة رضوان الله عليهم، بجانب فهمهم الواضح لها أنهم لم يتنازعوا بأي منها، وقد تنازعوا في آيات الأحكام, ولم يؤثر وجود أي نزاع بينهم في الصفات الإلهية, وهذا راجع إلى كمال فهمهم لها، يقول ابن القيم رحمه الله: (وقد تنازع الصحابة في تأويل قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [ البقرة:237], هل هو الأب, أو الزوج, وتنازعوا في تأويل قوله تعالى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء} [النساء:43] هل هو الجماع, أو اللمس باليد, والقبلة ونحوها، وتنازعوا في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} هل هو المسافر يصلي بالتيمم مع الجنابة, أوالمجتاز بمواضع الصلاة، كالمساجد وهو جنب, وتنازعوا في تأويل ذوي القربى المستحقين الخمس هل هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو قرابة الإمام, وتنازعوا في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204], هل يدخل فيه قراءة الصلاة الواجبة أم لا, وتنازعوا في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] هل يتناول اللفظ الحال, أو هل للحمل فقط, وتنازعوا في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] هل يدخل فيه ما مات في البحر أم لا, وتنازعوا في تأويل الكلالة, وفي تأويل قوله تعالى: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ} [النساء:11]، وأمثال ذلك, ولم يتنازعوا في تأويل آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد، بل اتفقت كلمتهم وكلمة التابعين بعدهم على إقرارها وإمرارها, مع فهم معانيها وإثبات حقائقها, وهذا يدل على أنها أعظم النوعين بياناً, وأن العناية ببيانها أهم لأنها من تمام تحقيق الشهادتين, وإثباتها من لوازم التوحيد, فبينها الله ورسوله بياناً شافياً لا يقع فيه لبس ولا إشكال يوقع الراسخين في العلم في منازعة ولا اشتباه, ومن شرح الله لها صدره, ونور لها قلبه يعلم أن دلالتها على معانيها أظهر من دلالة كثير من آيات الأحكام على معانيها, ولهذا فإن آيات الأحكام لا يكاد يفهم معانيها إلا الخاصة من الناس, وأما آيات الأسماء والصفات فيشترك في فهمها الخاص والعام، أعني فهم أصل المعنى لا فهم الكنه، والكيفية, ولهذا أشكل على بعض الصحابة قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] ولم يشكل عليه ولا على غيره قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، وأمثالها من آيات الصفات, وأشكل على عمر بن الخطاب آية الكلالة، ولم يشكل عليه أول الحديد، وآخر الحشر, وأول سورة طه، ونحوها من آيات الصفات، وأيضاً فإن بعض آيات الأحكام مجملة عرف بيانها بالسنة كقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196], فهذا مجمل في قدر الصيام والإطعام, فبينته السنة بأنه صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين, أو ذبح شاة، وكذلك، قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] مجمل في مقدار الطواف فبينته السنة بأنه سبع, ونظائره كثيرة كآية السرقة، وآية الزكاة, وآية الحج، وليس في آيات الصفات، وأحاديثها مجمل يحتاج إلى بيان من خارج بل بيانها فيها, وإن جاءت السنة بزيادة في البيان, والتفصيل؛ فلم تكن آيات الصفات مجملة محتملة لا يفهم المراد منها إلا بالسنة بخلاف آيات الأحكام) .
- وقد آمن الصحابة رضوان الله عليهم، من خلال هذا العرض المفصل الواسع بأن آيات الصفات هي من المحكم وليست من المتشابه كما افترى المبتدعة فيما بعد، وهذا الإحكام جاء من خلال سهولة معانيها وإن السلف تعرضوا لتفسيرها التفسير الذي يثبت الصفة، ولا يتعرض لبيان الكيفية، يقول شيخ الإسلام بعد أن يعرض قول الرازي حول سورة الإخلاص يقول الرازي: (هذه السورة يجب أن تكون من المحكمات لا من المتشابهات, ولأنه تعالى جعلها جواباً عن سؤال السائل عند الحاجة وذلك يقتضي كونها من المحكمات لا من المتشابهات، وإذا ثبت هذا وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه السورة كان باطلاً قلت-شيخ الإسلام- كون هذه السورة من المحكمات، وكون كل مذهب يخالفها باطل هو حق لا ريب فيه، بل هذه السورة تعدل ثلث القرآن، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، وهي صفة الرحمن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، وعليها اعتمد الأئمة في تنزيه الله كما ذكره الفضيل بن عياض، والإمام أحمد، وغيرهم من أئمة الإسلام... لكن سائر الآيات المذكورة فيها أسماء الله وصفاته؛ مثل آية الكرسي، وأول الحديد, وآخر الحشر ونحو ذلك هي كذلك- كل ذلك من الآيات المحكمات لكن هذه السورة ذكر فيها ما لم يذكر في غيرها من اسمه الأحد الصمد، ومثل نفي الأصول والفروع، والنظراء جميعاً، وإلا فاسمه الرحمن أنزله الله لما أنكر المشركون هذا الاسم, فأثبته الله لنفسه رداً عليهم، وهذا أبلغ في كونه محكماً من هذه السورة إذ الرد على المنكر أبلغ في إثبات نقيض قوله من جواب السائل الذي لم يرد عليه بنفي ولا إثبات) (
ويقول شيخ الإسلام أيضاً إن آيات الصفات من المحكم وليست من المتشابه: (إن الصحابة رضي الله عنهم، فسروا للتابعين القرآن كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أُوقفُه عند كل آية منه وأسأله عنها؛ ولهذا قال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، وكان ابن مسعود يقول:
(لو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته) وكل واحد من أصحاب ابن مسعود وابن عباس نقلوا عنه من التفسير ما لم يحصه إلا الله، والنقول بذلك عن الصحابة والتابعين ثابتة معروفة عند أهل العلم بها) .
أما آيات الصفات فقد تعرض السلف لتفسير معناها المفهوم لغة، ووقفوا عند المعنى اللغوي ولم يتعدوه إلى الخوض في الكنه، أو القول بالنفي والتعطيل, فآيات الصفات إذاً هي من المحكم الذي فهم الصحابة معناه.
ومن الملاحظ على بعض آيات الصفات أنها عرضت بصورة مميزة, وذلك من خلال وقائع وأحداث عاصرها الصحابة رضوان الله عليهم، فكانت تلك التعقيبات التي تربط الحديث بالصفات الإلهية مصدر إيمان، ويقين، وفهم كامل لمراد الله عز وجل.
وسوف نعرض لجملة من هذه الأحاديث التي عرضت فيها الصفات الإلهية وكان للصحابة منها مواقف وتعقيبات تنم عن تمام الفهم، واليقين الكامل بها، فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284], قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم بركوا على الركب. فقالوا: أي رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق. الصلاة, والصيام, والجهاد, والصدقة. وقد أنزلت عليك هذه الآية. ولا نطيقها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم. فأنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى. وأنزل الله عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، قال: نعم، {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}، قال: نعم، {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}، قال: نعم، {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] قال: نعم.))
لقد كان هذا الفهم منبعه التأثر بصفة من أعظم صفاته سبحانه وهي العلم، علمه بما يبدون، وما يكتمون, فخافوا من ذلك أشد الخوف, وهذا يبين عمق الفهم للمعاني وملاحظتها بما يخصهم في دينهم, وما يرضي ربهم, فلما علم سبحانه، منهم هذا الإيمان الصادق زادهم إيماناً ويقيناً به, فقد روى مسلم عن ابن عباس قال: ((لما نزلت هذه الآية: {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284]. قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا: سمعنا وسلمنا، قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم..)) .
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه – يشير إلى رباعيته -، اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله)) .
وروى البخاري ذلك الخبر أيضاً على لسان ابن عباس – رضي الله عنهما- أنه قال: ((اشتد غضب الله على من قتله النبي صلى الله عليه وسلم)) فأي فهم يكون من هؤلاء الصحابة – رضوان الله عليهم- في هذه الساعات العصيبة من المفهوم اللغوي للعبارة، ولكنه غضب يليق بجلاله وكماله، فلم يخطر على بالهم تشبيه ذلك بغضب المخلوقين، أو خطر على بالهم أن يؤولوه، أو يعطلوه، رضوان الله عليهم.
ويوجه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى معنى صفة السمع، وأن الله سبحانه سميع قريب، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر: فكنا إذا علونا كبرنا، فقال: أربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصمَّ، ولا غائباً، تدعون سميعاً قريباً)) وفي رواية مسلم قال: ((إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)) .
ومن تمام فهم الصحابة للصفات الإلهية أن عائشة رضي الله عنها قالت: ((الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [ المجادلة:1]))
فكان هذا التعجب نابعاً من وصف الرب سبحانه بأعظم صفات الكمال، وهذا هو التفريق بين الصفات الإلهية وصفات المخلوقين على لسان هذه الصحابية الجليلة التي تمثل هذا الجمع الكبير الذي يؤمن بالصفات الإلهية هذا الإيمان الحق، وكانوا رضوان الله عليهم يحبون صفات ربهم، ويتقربون إليه بهذا الحب، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية، فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه لأي شيء يصنع هذا فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبروه أن الله – عز وجل- يحبه)) ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [ البينة:1] قال: وسماني؟ قال: نعم, فبكى)) .
وروى البخاري عن أنس قال: ((جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك, قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئًا لكتم هذه، فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات)) .
ومما يبين عمق الفهم، وسرعة التفاعل مع الصفات التي أثرت في إيمان وحياة الصحابة رضوان الله عليهم، ما رواه البخاري ومسلم في حديث الإفك عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه، والله لا أنفق على مسطح شيئاً بعد ما قاله لعائشة، فأنزل الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور:22] فقال أبو بكر الصديق: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه)) .
وهكذا لو بحثنا عن مواقف الصحابة لوجدناها قد ألمت إلماماً كبيراً في الصفات ومعانيها, وظهرت آثارها على حياتهم وجميع تصرفاتهم, ولعل الوقائع العظيمة من الغزوات التي غزاها الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والآيات التي نزلت بشأنها والتي تنتهي تعقيباتها بالصفات الإلهية, هي من هذا الجانب الذي نرى أنها هيمنت عليه, فكانوا بأعلى درجات الفهم والإيمان واليقين, وعندما تجلى هذا الجانب في تصوراتهم بهذه الضخامة والشمول استغنوا عن السؤال والبحث والتنقير عنه، ومع ضخامة هذا العرض وشموليته في القرآن والسنة فقد غشيت أبصار المبتدعة عنه تماماً, وقاموا بالبحث والتنقير على غير الهدى الرباني, وفتحوا أبواب الشرور على الأمة في أخص مسائل الألوهية, وهي مسائل الصفات التي حسمت مادة الاعتقاد بها على الصورة التي وقف عندها الصحابة, والتابعون, وتابعوهم الذين يمتدح طريقتهم الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله فيقول: (قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافد قد كفوا، وإنهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم حدث بعدهم فما أحدثه إلا من سلك غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، ولقد تكلموا منه بما يكفي, ووصفوا منه ما يشفي, فما دونه مقصر, وما فوقهم مجسر, لقد قصر عنهم قوم فجفوا, وطمح آخرون عنهم فغلوا, وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم) . وكانوا – رضوان الله عليهم- يكرهون التعمق والتكلف؛ فقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كنا عند عمر، فقال: نهينا عن التكلف)) فإذا كان عمر رضي الله عنه يروي النهي عن التكلف فمن باب أولى أن ينتهوا عن الخوض في الصفات بما لا يحل, وإنما وقفوا عند الحد الذي وقف عنده الكتاب والسنة بعيداً عن القول بالوصف والكيفية، أو النفي والتعطيل.
ويوضح ابن الوزير كيف أن الصحابة فهموا الصفات الإلهية من خلال تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لهم حيث يقول: (التسليم لقول الله تعالى ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، وتابعيهم الناقلين إلينا شريعته عليه السلام، وأن لا نتهم منهم أحداً لثبوت عدالتهم في سائر لوازم الشريعة، فإنهم نقلوها عن معدن النبوة، وعنصر الرسالة, ولنعلم أن البيان لا يجوز تأخيره عند الحاجة, وقد بين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ما أرسله الله تعالى به حتى قال فلان: (علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، فقال الصحابي: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين, أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار, أو أن نستنجي برجيع أو بعظم) . وحتى قال عليه السلام في خطبة الوداع: ((إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، ذو القعدة, وذو الحجة، ومحرم، ورجب - مضر- الذي بين جمادي وشعبان)) هذا فيما لا يضر جهله كيف في أمر التوحيد, فلو علم أن الحاجة داعية إلى تأويل صفات الله، وأنه يلزم الخلق كيفية معرفتها لما وسعه إلا البيان, وفي عدم ذلك دليل على كذب مدعيه, فلا يرفع أحد طرفه إلى كيفية معرفة صفات الله تعالى من قبل عقله إلا غضه الدهش والحيرة, فانقلب إليه البصر خاسئاً وهو حسير، فهذا ما يجب على المسلمين أن يؤمنوا به جملة, وأن يحيطوا به تفصيلاً)
- ومن خصائص إيمان الصحبة رضوان الله عليهم، بجانب فهمهم الواضح لها أنهم لم يتنازعوا بأي منها، وقد تنازعوا في آيات الأحكام, ولم يؤثر وجود أي نزاع بينهم في الصفات الإلهية, وهذا راجع إلى كمال فهمهم لها، يقول ابن القيم رحمه الله: (وقد تنازع الصحابة في تأويل قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [ البقرة:237], هل هو الأب, أو الزوج, وتنازعوا في تأويل قوله تعالى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء} [النساء:43] هل هو الجماع, أو اللمس باليد, والقبلة ونحوها، وتنازعوا في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} هل هو المسافر يصلي بالتيمم مع الجنابة, أوالمجتاز بمواضع الصلاة، كالمساجد وهو جنب, وتنازعوا في تأويل ذوي القربى المستحقين الخمس هل هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو قرابة الإمام, وتنازعوا في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204], هل يدخل فيه قراءة الصلاة الواجبة أم لا, وتنازعوا في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] هل يتناول اللفظ الحال, أو هل للحمل فقط, وتنازعوا في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] هل يدخل فيه ما مات في البحر أم لا, وتنازعوا في تأويل الكلالة, وفي تأويل قوله تعالى: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ} [النساء:11]، وأمثال ذلك, ولم يتنازعوا في تأويل آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد، بل اتفقت كلمتهم وكلمة التابعين بعدهم على إقرارها وإمرارها, مع فهم معانيها وإثبات حقائقها, وهذا يدل على أنها أعظم النوعين بياناً, وأن العناية ببيانها أهم لأنها من تمام تحقيق الشهادتين, وإثباتها من لوازم التوحيد, فبينها الله ورسوله بياناً شافياً لا يقع فيه لبس ولا إشكال يوقع الراسخين في العلم في منازعة ولا اشتباه, ومن شرح الله لها صدره, ونور لها قلبه يعلم أن دلالتها على معانيها أظهر من دلالة كثير من آيات الأحكام على معانيها, ولهذا فإن آيات الأحكام لا يكاد يفهم معانيها إلا الخاصة من الناس, وأما آيات الأسماء والصفات فيشترك في فهمها الخاص والعام، أعني فهم أصل المعنى لا فهم الكنه، والكيفية, ولهذا أشكل على بعض الصحابة قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] ولم يشكل عليه ولا على غيره قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، وأمثالها من آيات الصفات, وأشكل على عمر بن الخطاب آية الكلالة، ولم يشكل عليه أول الحديد، وآخر الحشر, وأول سورة طه، ونحوها من آيات الصفات، وأيضاً فإن بعض آيات الأحكام مجملة عرف بيانها بالسنة كقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196], فهذا مجمل في قدر الصيام والإطعام, فبينته السنة بأنه صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين, أو ذبح شاة، وكذلك، قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] مجمل في مقدار الطواف فبينته السنة بأنه سبع, ونظائره كثيرة كآية السرقة، وآية الزكاة, وآية الحج، وليس في آيات الصفات، وأحاديثها مجمل يحتاج إلى بيان من خارج بل بيانها فيها, وإن جاءت السنة بزيادة في البيان, والتفصيل؛ فلم تكن آيات الصفات مجملة محتملة لا يفهم المراد منها إلا بالسنة بخلاف آيات الأحكام) .