الموسوعة العقدية

طباعة الموضوع

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المثال الأول: الحلف بغير الله
الحلف في اللغة: مصدر حلف، يحلف، وهو الملازمة؛ لأن الإنسان يلزمه الثبات على ما حلف عليه، ويسمى (اليمين)؛ لأن المتحالفين كان أحدهما يصفق بيمينه على يمين صاحبه ، ويسمى أيضاً (القسم).
والحلف في الأصل: توكيد لشيء بذكر معظم مصدراً بحرف من حروف القسم.
وفي الاصطلاح: توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة لله تعالى مصدراً بحرف من حروف القسم.
وقد أجمع أهل العلم على أن اليمين المشروعة هي قول الرجل: والله، أو بالله، أو تالله، واختلفوا فيما عدا ذلك.
واليمين عبادة من العبادات التي لا يجوز صرفها لغيره الله ، فيحرم الحلف بغيره تعالى، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله، وإلا فليصمت)) متفق عليه، فمن حلف بغير الله سواء أكان نبياً أم ولياً أم الكعبة أم غيرها فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، ووقع في الشرك، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) ، ولأن الحلف فيه تعظيم للمحلوف به، فمن حلف بغير الله كائناً من كان، فقد جعله شريكاً لله – عز وجل – في هذا التعظيم الذي لا يليق إلا به سبحانه وتعالى، وهذا من الشرك الأصغر إن كان الحالف إنما أشرك في لفظ القسم لا غير ، أما إن كان الحالف قصد بحلفه تعظيم المخلوق الذي حلف به كتعظيم الله تعالى، كما يفعله كثير من المتصوفة الذين يحلفون بالأولياء والمشايخ أحياء وأمواتاً، حتى ربما بلغ تعظيمهم في قلوبهم أنهم لا يحلفون بهم كاذبين مع أنهم يحلفون بالله وهم كاذبون، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة؛ لأن المحلوف به عندهم أجل وأعظم وأخوف من الله تعالى.

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال: ((ألا إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)) وفي رواية قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذاكراً ولا آثراً . متفق عليه. ولأبي داود والنّسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون)) . ولأحمد ومسلم والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله)) ... وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من حلف بالأمانة)) رواه أبو داود . وفي الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يحلف بالأمانة فقال: ((ألست الذي يحلف بالأمانة)) . وعن قتيلة بنت صفي أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تنددون وإنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ((ورب الكعبة))، ويقول أحدهم: ((ما شاء الله ثم شئت)) رواه النسائي وصححه وابن ماجه . وقد ثبت في كفارة الحلف بغير الله حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حلف فقال في حلفه باللات والعزَّى فليقل لا إله إلا الله .

المثال الثاني: التشريك بين الله تعالى وبين أحد من خلقه بـ (الواو)
ومن الشرك الأصغر قول ما شاء الله وشئت، كما روى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: ((أجعلتني لله نداً؟ ما شاء الله وحده)) . ولأبي داود بسند صحيح عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان)) . وتقدم في ذلك حديث قتيلة، والفرق بين الواو وثم أنه إذا عطف بالواو كان مضاهياً مشيئة الله بمشيئة العبد إذ قرن بينهما، وإذا عطف بثم فقد جعل مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله عز وجل كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ} [الإنسان: 30] ومثله قول: لولا الله وفلان هذا من الشرك الأصغر، ويجوز أن يقول: لولا الله ثم فلان، ذكره إبراهيم النخعي. ولابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] قال: الأندادُ هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل وهو أن يقول والله وحياتك يا فلان وحياتي ويقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت، وقول الرجل لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله به شرك (226).
عن قتيلة: ((أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنكم تشركون، تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت)). رواه النسائي وصححه
قوله: (أن يهودياً) اليهودي: هو المنتسب إلى شريعة موسى عليه السلام، وسموا بذلك من قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}، أي: رجعنا، أو لأن جدهم اسمه يهوذا بن يعقوب، فتكون التسمية من أجل النسب، وفي الأول تكون التسمية من أجل العمل، ولا يبعد أن تكون من الاثنين جميعاً.
قوله: (إنكم تشركون). أي: تقعون في الشرك أيها المسلمون.
قوله: (ما شاء الله وشئت). الشرك هنا أنه جعل المعطوف مساوياً للمعطوف عليه، وهو الله عز وجل حيث كان العطف بالواو المفيدة للتسوية.
قوله: " والكعبة ". الشرك هنا أنه حلف بغير الله، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ما قال اليهودي، بل أمر بتصحيح هذا الكلام، فأمرهم إذا حلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، فيكون القسم بالله.
وأمرهم أن يقولوا: ما شاء الله، ثم شئت، فيكون الترتيب بثم بين مشيئة الله ومشيئة المخلوق، وبذلك يكون الترتيب صحيحاً، أما الأول، فلأن الحلف صار بالله، وأما الثاني، فلأنه جعل بلفظ يتبين به تأخر مشيئة العبد عن مشيئة الله، وأنه لا مساواة بينهما.
ويُستفاد من الحديث:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على اليهودي مع أن ظاهر قصده الذم واللوم للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأن ما قاله حق.
2- مشروعية الرجوع إلى الحق وإن كان من نبه عليه ليس من أهل الحق.
3- أنه ينبغي عند تغيير الشيء أن يغير إلى شيء قريب منه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقولوا: ((ورب الكعبة))، ولم يقل: احلفوا بالله، وأمرهم أن يقولوا: ((ما شاء الله، ثم شئت)).
إشكال وجوابه:
وهو أن يقال: كيف لم ينبه على هذا العمل إلا هذا اليهودي ؟
وجوابه: أنه يمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمعه ولم يعلم به.
ولكن يقال: بأن الله يعلم، فكيف يقرهم؟
فيبقى الإشكال، لكن يجاب: إن هذا من الشرك الأصغر دون الأكبر، فتكون الحكمة هي ابتلاء هؤلاء اليهود الذين انتقدوا المسلمين بهذه اللفظة مع أنهم يشركون شركاً أكبر ولا يرون عيبهم.
وله أيضاً عن ابن عباس، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت فقال: ((أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)) .
قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم. ..)). الظاهر أنه قاله للنبي صلى الله عليه وسلم تعظيماً، وأنه جعل الأمر مُفوضاً لمشيئة الله ومشيئة رسوله.
قوله: ((أجعلتني لله نداً؟ !)). الاستفهام للإنكار، وقد ضمن معنى التعجب، ومن جعل للخالق نداً، فقد أتى شيئاً عجاباً.
والنِّد: هو النظير والمساوي، أي: أجعلتني لله مساوياً في هذا الأمر؟!
قوله ((بل ما شاء الله وحده)). أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يقطع عنه الشرك، ولم يرشده إلى أن يقول ما شاء الله ثم شئت حتى يقطع عنه كل ذريعة عن الشرك وإن بَعُدَت.
يستفاد من الحديث:
أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ يقتضي مساواته للخالق شرك، فإن كان يعتقد المساواة، فهو شرك أكبر، وإن كان يعتقد أنه دون ذلك، فهو أصغر، وإذا كان هذا شركاً، فكيف بمن يجعل حق الخالق للرسول صلى الله عليه وسلم؟!
هذا أعظم، لأنه صلى الله عليه وسلم ليس له شيء من خصائص الربوبية، بل يلبس الدرع، ويحمل السلاح، ويجوع، ويتألم، ويمرض، ويعطش كبقية الناس، ولكن الله فضله على البشر بما أوحى إليه من هذا الشرع العظيم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [الكهف: 110]، فهو بشر، وأكد هذه البشرية بقوله: {مِّثْلُكُمْ}، ثم جاء التمييز بينه وبين بقية البشر بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، ولا شك أن الله أعطاه من الأخلاق الفاضلة التي بها الكمالات من كل وجه أعطاه من الصبر العظيم، وأعطاه من الكرم ومن الجود، لكنها كلها في حدود البشرية، أما أن تصل إلى خصائص الربوبية، فهذا أمر لا يمكن، ومن ادعى ذلك، فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفر بمن أرسله.
فالمهم أننا لا نغلو في الرسول عليه الصلاة والسلام فننزله في منزلة هو ينكرها، ولا نهضم حقه الذي يجب علينا فنعطيه ما يجب له، ونسأل الله أن يعيننا على القيام بحقه، ولكننا لا ننزله منزلة الرب عز وجل.
2 - إنكار المنكر وإن كان في أمر يتعلق بالمنكر، لقوله صلى الله عليه وسلم((أجعلتني لله نداً))، مع أنه فعل ذلك تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا إذا انحنى لك شخص عند السلام، فالواجب عليك الإنكار.
3 - أن من حسن الدعوة إلى الله عز وجل أن تذكر ما يباح إذا ذكرت ما يحرم، لأنه صلى الله عليه وسلم لما منعه من قوله: ((ما شاء الله وشئت)) أرشده إلى الجائز وهو قوله: ((بل ما شاء الله وحده)).
ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: ((رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى، فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت، أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، قال: هل أخبرت بها أحداً ؟. قلت نعم قال: فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده))

المثال الثالث: الاستسقاء بالأنواء
الاستسقاء في اللغة: من سقى، يسقي، والمصدر: سقيا، بفتح السين وتسكين القاف، والاسم: السقيا، والمراد: إنزال الغيث ، والسين والتاء في ((الاستسقاء)) تدل على الطلب، أي السقيا، كالاستغفار، فهو طلب المغفرة، فمادة (استفعل) تدل على الطلب غالباً .
والأنواء: جمع نوء، وهو النجم، وفي السنة الشمسية ثمانية وعشرون نجماً، كنجم الثريا، ونجم الحوت.
فالاستسقاء بالأنواء: أن يطلب من النجم أن ينزل الغيث، ويدخل فيه أن يُنسب الغيث إلى النجم، كما كان أهل الجاهلية يزعمون، فكانوا إذا نزل مطر في وقت نجم معين نسبوا المطر إلى ذلك النجم، فيقولون: مطرنا بنوء كذا، أو هذا مطر الوسمي، أو هذا مطر الثريا، ويزعمون أن النجم هو الذي أنزل هذا الغيث .
والاستسقاء بالأنواء ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن ينسب المطر إلى النجم معتقداً أنه هو المنزل للغيث بدون مشيئة الله وفعله جل وعلا، فهذا شرك أكبر بالإجماع.
القسم الثاني: أن ينسب المطر إلى النوء معتقداً أن الله جعل هذا النجم سبباً في نزول هذا الغيث، فهذا من الشرك الأصغر؛ لأنه جعل ما ليس بسبب سبباً، فالله تعالى لم يجعل شيئاً من النجوم سبباً في نزول الأمطار، ولا صلة للنجوم بنزولها بأي وجه، وإنما أجرى الله العادة بنزول بعض الأمطار في وقت بعض النجوم.
وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الاستسقاء بالأنواء، ومنها:
1- ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا)) . قال: فنزلت هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75] حتى بلغ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}، ومعنى الآية الأخيرة: أنكم تجعلون شكر ما أنعم الله به عليكم من الغيث أنكم تكذبون بذلك، وذلك بنسبة إنزال الغيث إلى غير الله تعالى .
2- ما رواه البخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) . وهذا الحديث يشمل على الصحيح النوعين السابقين، فهذا القول كفر، لكن إن نسب الغيث إلى النجم من دون الله فهو كفر وشرك أكبر، وإن نسبه إليه نسبة تسبب فهو كفر نعمة وشرك أصغر.
3- ما رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري مرفوعاً: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)) .
هذا وإذا قال المسلم: (مطرنا بنوء كذا وكذا) ومقصده أن الله أنزل المطر في وقت هذا النجم، معتقداً أنه ليس للنجم أدنى تأثير لا استقلالاً ولا تسبباً فقد اختلف أهل العلم في حكم هذا اللفظ: فقيل: هو محرم .
وقيل: مكروه . وقيل: مباح ، ولا شك أن هذا اللفظ ينبغي تركه، واستبداله بالألفاظ الأخرى التي لا إيهام فيها، فإما أن يقول: (مطرنا بفضل الله ورحمته)، أو يقول: (هذه رحمة الله)، وهذا هو الذي ورد الثناء على من قاله، كما سبق في النصوص، فهو أولى من غيره، وإما أن يقول: (هذا مطر أنزله الله في وقت نجم كذا)، أو يقول: (مطرنا في نوء كذا)، ونحو ذلك من العبارات الصريحة التي لا لبس ولا إشكال فيها، فقول (مطرنا بنوء كذا) أقل أحواله الكراهة الشديدة، والقول بالتحريم قول قوي، لما يلي:
1- أنه قد جاء الحديث القدسي مطلقاً بعيب قائلي هذا اللفظ، وباعتبار قولهم كفراً بالله تعالى، وإيماناً بالكوكب.
2- أن هذا القول ذريعة إلى الوقوع في الاعتقاد الشركي، فاعتياد الناس عليه في عصر قد يؤدي بجهالهم أو بمن يأتي بعدهم إلى الوقوع في الاستسقاء الشركي بالأنواء.
3- أنه لفظ موهم لاعتقاد فاسد.
4- أن فيه استبدالاً للفظ المندوب إليه شرعاً في هذه الحال، وهو قول: (مطرنا بفضل الله ورحمته) بلفظ من ألفاظ المشركين، ففي هذا ترك للسنة وتشبه بالمشركين، وقد نهينا عن التشبه بهم.
قريب من لفظ (مطرنا بنوء كذا وكذا) ما يشبهه من الألفاظ الموهمة، كلفظ (هذا مطر الوسمي)، ونحو ذلك.
هذا وهناك أمثلة أخرى كثيرة للشرك الأصغر تركتها خشية الإطالة، ومن ذلك التسمي بالأسماء التي فيها تعظيم لا يليق إلا بالله تعالى، كملك الملوك، وقاضي القضاة ونحوهما، ومنها التسمي بأسماء الله تعالى، ومنها التسمي باسم فيه تعبيد لغير الله تعالى، كعبد الرسول، وعبد الحسين، ونحوهما، ومنها بعض صور التبرك البدعي، ومنها التصوير لذوات الأرواح إذا كان فيه نوع تعظيم، ومنها سب الدهر، ومنها الحكم بغير ما أنزل الله، وبالأخص إذا كان في قضية واحدة.

الاستسقاء: طلب السقيا، كالاستغفار: طلب المغفرة والاستعانة: طلب المعونة، والاستعاذة: طلب العوذ، والاستهداء: طلب الهداية، لأن مادة استفعل في الغالب تدل على الطلب، وقد لا تدل على الطلب، بل تدل على المبالغة في الفعل، مثل: استكبر، أي: بلغ في الكبر غايته، وليس المعنى طلب الكبر، والاستسقاء بالأنواء، أي: أن تطلب منها أن تسقيك.
والاستسقاء بالأنواء، أي: أن تطلب منها أن تسقيك.
والاستسقاء بالأنواء ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: شرك أكبر، وله صورتان:
الأولى: أن يدعو الأنواء بالسقيا، كأن يقول: يا نوء كذا ! اسقنا أو أغثنا، وما أشبه ذلك، فهذا شرك أكبر، لأنه دعا غير الله، ودعاء غير الله من الشرك الأكبر، قال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 17]، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، وقال تعالى {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106].
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على النهي عن دعاء غير الله، وأنه من الشرك الأكبر.
الثانية: أن ينسب حصول الأمطار إلى هذه الأنواء على أنها هي الفاعلة بنفسها دون الله ولو لم يدعها، فهذا شرك أكبر في الربوبية، والأول في العبادة، لأن الدعاء من العبادة، وهو متضمن للشرك في الربوبية، لأنه لم يدعها إلا وهو يعتقد أنها تفعل وتقضي الحاجة.
القسم الثاني
شرك أصغر، وهو أن يجعل هذه الأنواء سبباً مع اعتقاده أن الله هو الخالق الفاعل، لأن كل من جعل سبباً لم يجعله الله سبباً لا بوجه ولا بقدرة، فهو مشرك شركاً أصغر.
وقال الله تعالى {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82].
قوله تعالى: {وتجعلون}. أي: تصيرون، وهى تنصب مفعولين: الأول: {رزق}، والثاني {أن}، وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول ثان، والتقدير: وتجعلون رزقكم كونكم تكذبون أو تكذيبكم.
والمعنى: تكذبون أنه من عند الله، حيث تضيفون حصوله إلى غيره.
قوله: {رزقكم}. الرزق هو العطاء، والمراد به هنا: ما هو أعم من المطر، فيشمل معنيين:
الأول: أن المراد به رزق العلم، لأن الله قال: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 75-83]، أي: تخافونهم فتداهنونهم، وتجعلون شكر ما رزقكم الله به من العلم والوحي أنكم تكذبون به، وهذا هو ظاهر سياق الآية.
الثاني: أن المراد بالرزق المطر، وقد روي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه ضعيف، إلا أنه صح عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: أن المراد بالرزق المطر، وأن التكذيب به نسبته إلى الأنواء ، وعليه يكون ما ساق المؤلف الآية من أجله مناسباً للباب تماماً. والقاعدة في التفسير أن الآية إذا كانت تحتمل المعنيين جميعاً بدون منافاة تحمل عليهما جميعاً، وإن حصل بينهما منافاة طلب المرجح.
ومعنى الآية: أن الله يوبخ هؤلاء الذين يجعلون شكر الرزق التكذيب والاستكبار والبعد، لأن شكر الرزق يكون بالتصديق والقبول والعمل بطاعة المنعم، والفطرة كذلك لا تقبل أن تكفر بمن ينعم عليها، فالفطرة والعقل والشرع كل منها يوجب أن تشكر من ينعم عليك، سواء قلنا: المراد بالرزق المطر الذي به حياة الأرض، أو قلنا: إن به القرآن الذي به حياة القلوب، فإن هذا من أعظم الرزق، فكيف يليق بالإنسان أن يقابل هذه النعمة بالتكذيب؟!
واعلم أن التكذيب نوعان:
أحدهما: التكذيب بلسان المقال، بأن يقول هذا كذب، أو المطر من النوء ونحو ذلك.
والثاني: التكذيب بلسان الحال، بأن يعظم الأنواء والنجوم معتقداً أنها السبب، ولهذا وعظ عمر بن عبد العزيز الناس يوماً، فقال: (أيها الناس! إن كنتم مصدقين، فأنتم حمقى، وإن كنتم مكذبين، فأنتم هلكى) . وهذا صحيح، فالذي يصدق ولا يعمل أحمق، والمكذب هالك، فكل إنسان عاص نقول له الآن: أنت بين أمرين: إما أنك مصدق بما رتب على هذه المعصية، أو مكذب، فإن كنت مصدقاً، فأنت أحمق، كيف لا تخاف فتستقيم؟‍! وإن كنت غير مصدق، فالبلاء أكبر، فأنت هالك كافر.
وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)) .
قوله في حديث أبي مالك: (أربع في أمتي). الفائدة من قوله: (أربع) ليس الحصر، لأن هناك أشياء تشاركها في المعنى، وإنما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك باب حصر العلوم وجمعها بالتقسيم والعدد، لأنه يقرب الفهم، ويثبت الحفظ.
قوله: (من أمر الجاهلية). أمر هنا بمعنى شأن، أي: من شأن الجاهلية وهو واحد الأمور، وليس واحد الأوامر، وليس الأوامر، لأن واحد الأوامر طلب الفعل على وجه الاستعلاء.
وقوله: (من أمر الجاهلية). إضافتها إلى الجاهلية الغرض منها التقبيح والتنفير، لأن كل إنسان يقال: فعلك فعل الجاهلية لا شك أنه يغضب، إذ إنه لا أحد يرضى أن يوصف بالجهل، ولا بأن فعله من أفعال الجاهلية، فالغرض من الإضافة هنا أمران:
التنفير.
بيان أن هذه الأمور كلها جهل وحمق بالإنسان، إذ ليست أهلاً بأن يراعيها الإنسان أو يعتني بها، فالذي يعتني بها جاهل.
والمراد بالجاهلية هنا: ما قبل البعثة، لأنهم كانوا على جهل وضلال عظيم حتى إن العرب كانوا أجهل خلق الله، ولهذا يسمون بالأميين، والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، نسبة إلى الأم، كأن أمه ولدته الآن.
لكن لما بعث فيهم هذا النبي الكريم، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164]، فهذه منة عظيمة أن بعث فيهم النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأمور السامية:
يتلو عليهم آيات الله. ويزكيهم، فيطهر أخلاقهم وعبادتهم وينميها.
ويعلمهم الكتاب والحكمة.
هذه فوائد أربع عظيمة لو وزنت الدنيا بواحدة منها لوزنتها عند من يعرف قدرها، ثم بين الحال من قبل فقال {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [عمران: 164] و(إن هذه ليست نافية بل مؤكدة؛ فهي مخففة من الثقيلة، يعني: وإنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
إذا ًالمراد بالجاهلية ما قبل البعثة، لأن الناس كانوا فيها على جهل عظيم. فجهلهم شامل للجهل في حقوق الله وحقوق عباده، فمن جهلهم أنهم ينصبون النصب ويعبدونها من دون الله، ويقتل أحدهم ابنته لكي لا يعير بها، ويقتل أولاده من ذكور وإناث خشية الفقر.
قوله: ((لا يتركونهن)). المراد: لا يتركون كل واحد منها باعتبار المجموع بالمجموع، بأن يكون كل واحد منها عند جماعة، والثاني عند آخرين، والثالث عند آخرين، والرابع عند آخرين، وقد تجتمع هذه الأقسام في قبيلة، وقد تخلو بعض القبائل منها جميعاً، إنما الأمة كمجموع لابد أن يوجد فيها شيء من ذلك، لأن هذا خبر من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، والمراد بهذا الخبر التنفير، لأنه صلى الله عليه وسلم قد يخبر بأشياء تقع وليس غرضه أن يؤخذ بها، كما قال صلى الله عليه وسلم ((لتركبن سنن من كان قبلكم اليهود والنصارى)) أي: فاحذروا، وأخبر صلى الله عليه وسلم: ((أن الظعينة تخرج من صنعاء إلى حضرموت لا تخشى إلا الله)) ، أي: بلا محرم، وهذا خبر عن أمر واقع وليس إقراراً له شرعاً.
قوله (أمتي) أي: أمة الإجابة.
قوله: (الفخر بالأحساب). الفخر: التعالي والتعاظم، والباء للسببية، أي: يفخر بسبب الحسب الذي هو عليه.
والحسب: ما يحتسبه الإنسان من شرف وسؤدد، كأن يكون من بني هاشم فيفتخر بذلك، أو من آباء وأجداد مشهورين بالشجاعة، فيفتخر بذلك، وهذا من أمر الجاهلية، لأن الفخر في الحقيقة يكون بتقوى الله الذي يمنع الإنسان من التعالي والتعاظم، والمتقي حقيقة هو الذي كلما ازدادت نعم الله عليه ازداد تواضعاً للحق وللخلق.
وإذا كان الفخر بالحسب من فعل الجاهلية، فلا يجوز لنا أن نفعله، ولهذا قال تعالى لنساء نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الأحزاب: 33 ]، واعلم أن كل ما ينسب إلى الجاهلية، فهو مذموم ومنهي عنه.
قوله: ((الطعن في الأنساب)). الطعن العيب، لأنه وخز معنوي كوخز الطاعون في الجسد، ولهذا سمي العيب طعناً.
والأنساب: جمع نسب، وهو أصل الإنسان وقرابته، فيطعن في نسبه كأن يقول: أنت ابن الدباغ، أو أنت ابن مُقطَّعة البظور – وهو شيء في فرج المرأة يقطع عند ختان النساء -.
قوله: ((والاستسقاء بالنجوم)). أي: نسبة المطر إلى النجوم مع اعتقاد أن الفاعل هو الله – عز وجل، أما إن أعتقد أن النجوم هي التي تخلق المطر والسحاب أو دعاها من دون الله لتنزل المطر، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة.............
أن الشرك الأصغر لا يخرج من الملة، فمن أهل العلم من قال: إنه داخل تحت المشيئة: إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له.
ومن أهل العلم من قال: إنه ليس بداخل تحت المشيئة، وإنه لابد أن يعاقب، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيميه لإطلاق قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 116]، فقال: والشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، وبهذا نعرف عظم سيئة الشرك، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقاً)
لأن الحلف بغير الله من الشرك، والحلف بالله كاذباً من كبائر الذنوب وسيئة الشرك أعظم من سيئة الذنب.
ثبوت الجزاء والبعث.
أن الجزاء من جنس العمل.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ولهما عن زيد بن خالد رضي الله عنه، قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصراف، اقبل على الناس، فقال ((هل تدرون ماذا قال ربكم)) ؟.
قوله في حديث زيد بن خالد ( صلى لنا). أي إماماً، لأن الإمام يصلي لنفسه ولغيره، ولهذا يتبعه المأموم، وقيل: إن اللام بمعنى الباء، وهذا قريب وقيل: إن اللام للتعليل، أي: صلى لأجلنا.
قوله: (صلاة الصبح بالحديبية). أي صلاة الفجر، والحديبية فيها لغتان: التخفيف، وهو أكثر، والتشديد، وهى أسم بئر سمي بها المكان، وقيل أن أصلها شجرة حدبا تسمى حديبية، والأكثر على أنها بئر، وهذا المكان قريب من مكة بعضه في الحل وبعضه في الحرم، نزل به الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة السادسة من الهجرة لما قدم معتمراً، فصده المشركون عن البيت، وما كانوا أولياءه، إن أولياؤه إلا المتقون، ويسمى الآن الشميسي.
قوله: (على إثر سماء كانت من الليل). الإثر معناه العقب، والأثر معناه العقب، والأثر: ما ينتج عن السير.
قوله: (سماء). المراد به المطر.
قوله: (كانت من الليل). (من) لابتداء الغاية هذا هو الظاهر – والله أعلم -، ويحتمل أن تكون بمعنى في للظرفية.
قوله: (فلما انصرف) أي: من صلاته، وليس من مكانه بدليل قوله: (أقبل على الناس).
قوله: (هل تدرون ماذا قال ربكم ؟). الاستفهام يراد به التنبيه والتشويق لما سيلقي عليهم، وإلا، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنهم لا يعلمون ماذا قال الله، لأن الوحي لا ينزل عليهم.
ومعنى قوله: (هل تدرون). أي: هل تعلمون.
والمراد بالربوبية هنا الخاصة، لأن ربوبية الله للمؤمن خاصة كما أن عبودية المؤمن له خاصة، ولكن الخاصة لا تنافي العامة، لأن العامة تشمل هذا وهذا، والخاصة تختص بالمؤمن.
قوله: (قالوا: الله ورسوله). فيه إشكال نحوي، لأن: (أعلم) خبر عن اثنين، وهي مفرد، فيقال: أن اسم التفضيل: إن اسم التفضيل إذا نوي به معنى (من)، وكان مجرداً من أل والإضافة لزم فيه الإفراد والتذكير.
وفيه أيضاً إشكال معنوي، وهو أنه جمع بين الله ورسوله بالواو، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له الرجل: ((ما شاء الله وشئت. قال أجعلتني لله نداً !))
فيقال: أن هذا أمر شرعي، وقد نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما إنكاره على من قال: ما شاء وشئت، فلأنه أمر كوني، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس له شأن في الأمور الكونية.
والمراد بقولهم: (الله ورسوله أعلم) تفويض العلم إلى الله ورسوله، وأنهم لا يعلمون.
قالوا: الله ورسوله أعلم. قال ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال، مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) .
قوله: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر). (مؤمن) صفة لموصوف محذوف، أي: عبد مؤمن، وعبد كافر.
و(أصبح): من أخوات كان، واسمها: (مؤمن)، وخبرها: (من عبادي). ويجوز أن يكون (أصبح) فعلاً ماضياً ناقصاً، واسمها ضمير الشأن، أي: أصبح الشأن، فـ (من عبادي) خبر مقدم، و(مؤمن) مؤخر، أي: أصبح شأن الناس منهم مؤمن ومنهم كافر.
قوله: (فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته). أي: قال بلسانه وقلبه، والباء للسببية، وأفضل: العطاء والزيادة.
والرحمة: صفة من صفات الله، يكون بها الإنعام والإحسان إلى الخلق.
وقوله: (فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب). لأنه نسب المطر إلى الله ولم ينسبه إلى الكوكب، ولم ير له تأثيراً في نزوله، بل نزل بفضل الله.
قوله: (وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا). الباء للسببية، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب، وصار كافراً بالله، لأنه أنكر نعمة الله ونسبها إلى سبب لم يجعله الله سبباً، فتعلقت نفسه بهذا السبب، ونسي نعمة الله، وهذا الكفر لا يخرج من الملة، لأن المراد نسبة المطر إلى النوء على أنه سبب وليس إلى النوء على أنه فاعل.
لأنه قال: (مطرنا بنوء كذا)، ولم يقل: أنزل علينا المطر نوء كذا، لأنه لو قال ذلك، لكان نسبة المطر إلى النوء نسبة إيجاد، وبه نعرف خطأ من قال: إن المراد بقوله: (مطرنا بنوء كذا) نسبة المطر إلى النوء نسبة إيجاد، لأنه لو كان هذا هو المراد لقال: أنزل علينا المطر نوء كذا ولم يقل مطرنا به.
فعلم أن المراد أن من أقر بأن الذي خلق المطر وأنزله هو الله، لكن النوء هو السبب، فهو كافر، وعليه يكون من باب الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة.
والمراد بالكوكب النجم، وكانوا ينسبون المطر إليه، ويقولون: إذا سقط النجم الفلاني جاء المطر، وإذا طلع النجم الفلاني جاء المطر، وليسوا ينسبونه إلى هذا نسبة وقت، وإنما نسبة سبب، فنسبة المطر إلى النوء تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
نسبة إيجاد، وهذه شرك أكبر.
نسبة سبب، وهذه شرك أصغر.
نسبة وقت، وهذه جائزة بأن يريد بقوله: مطرنا بنوء كذا، أي: جاءنا المطر في هذا النوء أي في وقته.
ولهذا قال العلماء: يحرم أن يقول: مطرنا بنوء كذا، ويجوز مطرنا في نوء كذا، وفرقوا بنيهما أن الباء للسببية، و(في) للظرفية، ومن ثم قال أهل العلم: إنه إذا قال: مطرنا بنوء كذا وجعل الباء للظرفية فهذا جائز، وهذا وإن كان له وجه من حيث المعنى، لكن لا وجه له من حيث اللفظ، لأن لفظ الحديث: (من قال: مطرنا بنوء كذا)، والباء للسببية أظهر منها للظرفية، وهي وإن جاءت للظرفية كما في قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137، 138]، لكن كونها للسببية أظهر، والعكس بالعكس، (في) للظرفية أظهر منها للسببية وإن جاءت للسببية، كما في قوله صلى الله عليه وسلم ((دخلت امرأة النار في هرة))
والحاصل أن الأقرب المنع ولو قصد الظرفية، لكن إذا كان المتكلم لا يعرف من الباء إلا الظرفية مطلقاً، ولا يظن أنها تأتى سببية، فهذا جائز، ومع ذلك فالأولى أن يقال لهم: قولوا: في نوء كذا.
ولهما من حديث ابن عباس معناه وفيه قال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا. فأنزل الله هذه الآيات: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }[الواقعة: 75-82].
قوله: (ولهما). الظاهر أنه سبق قلم، وإلا، فالحديث في (مسلم) وليس في (الصحيحين).
ومعنى الحديث: أنه لما نزل المطر نسبه بعضهم إلى رحمة الله وبعضهم قال: لقد صدق نوء كذا وكذا، فكأنه جعل النوء هو الذي أنزل المطر أو نزل بسببه.
ومنه ما يذكر في بعض كتب التوقيت: (وقل أن يخلف نوؤه)، أو: (هذا نوؤه صادق)، وهذا لا يجوز، وهو الذي أنكره الله – عز وجل – على عباده، وهذا شرك أصغر، ولو قال بإذن الله، فإنه لا يجوز لأن كل الأسباب من الله، والنوء لم يجعله الله سبباً.
المطلب الخامس: الكلام على بعض الأعمال الشركية غير ما ذكر
تمهيد
لما كانت الأعمال الشركية كثيرة لا حصر لها، رأينا أنه من اللازم علينا الكلام على بعضها مما هو منتشر بين الناس خطره، وقد يخفى عليهم حكمه. وهي ما بين قضايا منافية للتوحيد، وأخرى منافية لكماله؛ أو قضايا لها جهتان: فهي من جهة تنافي التوحيد، ومن جهة تنافي كماله.
وعلة ذلك: أنها تارة تكون من الشرك, أو الكفر, أو النفاق الأكبر، وتارة تكون من الشرك, أو الكفر, أو النفاق الأصغر. وقد تقدم أن الأولى تنافي التوحيد، وأن الثانية تنافي كمال التوحيد. وهكذا الأمر نفسه بالنسبة للوسائل، فما أوصل للشرك الأكبر ونحوه أخذ حكمه، وما أوصل إلى الشرك الأصغر ونحوه أخذ حكمه.
وهذه الأعمال كما يلي:
الفرع الأول: السحر والشعوذة
وهو لغة: عبارة عما خفي ولطف سببه، ومنه سمي السحر سحراً لأنه يقع خفياً آخر الليل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن من البيان لسحراً)) لما في البيان من قدرة من يتصف به على إخفاء الحقائق.
وشرعاً: هو عزائم ورقى وعقد تؤثر في القلوب والأبدان، فتمرض وتقتل وتفرق بين المرء وزوجه، قال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ}، وقد أمر الله بالتعوذ من السحر وأهله، فقال جل شأنه: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ} وهن السواحر اللواتي ينفخن في عقد السحر، والسحر له حقيقة؛ ولذا أمرنا بالتعوذ منه، وظهرت آثاره على المسحورين، قال تعالى: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}. فوصفه بالعظم، ولو لم تكن له حقيقة لم يوصف بهذا الوصف، وهذا لا يمنع أن يكون من السحر ما هو خيال، كما قال سبحانه عن سحر سحرة فرعون: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} أي: يخيل لموسى أن الحبال تسعى كالحيات من قوة ما صنعوه من السحر. وعليه فالسحر قسمان:
أحدهما: سحر حقيقي.
والثاني: سحر خيالي.
وهذا لا يعني أن الساحر قادر على تغيير حقائق الأشياء، فهو لا يقدر على جعل الإنسان قرداً أو القرد بقرة مثلاً.
والساحر ليس هو ولا سحره مؤثرين بذاتهما ولكن يؤثر السحر إذا تعلق به إذن الله القدري الكوني, وأما إذن الله الشرعي فلا يتعلق به البتة؛ لأن السحر مما حرمه الله ولم يأذن به شرعاً، قال تعالى: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ}.
وحكم الساحر: كافر خارج عن ملة الإسلام، والسحر: كفر مخرج عن ملة الإسلام، فهو من الكفر الأكبر الذي إن مات عليه لم يغفر له، وأحبط له عمله.
وعليه، فالساحر يقتل مرتداً، وقد ثبت قتل الساحر عن عدد من أصحاب رسول الله عليه السلام، فقد صح عن أم المؤمنين حفصة (أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت)، وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: (أن اقتلوا كل ساحر وساحرة, فقتلنا ثلاث سواحر). وقد صح عن جندب بن عبد الله الأزدي مرفوعاً إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: ((حد الساحر ضربة بالسيف)) وهو قول مالك وأحمد وأبي حنيفة وقال الشافعي: (يقتل إذا قتل به إنساناً). وقال أبو حنيفة: (يقتل إن تكرر منه السحر). وقتله عند مالك وأحمد وأبي حنيفة حد للمرتد، وعند الشافعي لا يقتل إلا إذا قتل به قصاصاً عن قتله لمعصوم، وأما كفره، فإن لم يصف كفراً ولا فعله فليس بكافر، مع العلم بأن الكل متفقون على أنه محرم، ومن كبائر الذنوب، بل من الموبقات، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر...)) إلخ الحديث.
هذا وقد كان سحر النبي عليه الصلاة والسلام من قبيل المرض المؤثر في البدن دون العقل الذي هو مناط التكليف، ولذا لما أمره جبريل وميكائيل أن يقرأ المعوذات الثلاث (سورة الإخلاص والفلق والناس) فهم عنهما وقرأ فأزال الله بذلك ما كان يشعر به.
والصحيح الراجح من أقوال أهل العلم عندي: أن الساحر كافر بالله كما قال تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة: 102]، ولولا أن تعلمه واستعماله كفر لما وجها له هذا التحذير.
ويدخل في مسمى السحر ما يفعله بعض الناس مما يسمى خفة يد، والتنويم المغناطيسي، وما يسمى بتحضير الأرواح، وغيرها من أفعال الشعوذة والدجالين.
وإذا كان السحر محرماً والساحر على الراجح كافراً فإن إتيانهم، وطلب عمل السحر أيضاً محرم، ومن يقصد الساحر كافر كفراً أصغر هو أعظم من كبائر الذنوب، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: ((من تعلم شيئا من السحر قليلاً كان أو كثيراً كان آخر عهده من الله)) رواه عبد الرزاق، عن صفوان بن سليم، وهو مرسل .
والسحر من الشرك لأنه لا يحصل إلا بالاستعانة بالشياطين، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه)) رواه النسائي وحسنه ابن مفلح
الفرع الثاني: الكهانة
الكهانة هي طلب العلم بالمستقبل والإخبار عما في الضمير. فالكاهن مدع للعلم بالغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله، كما قال سبحانه وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}.
وأما ما يتكلم به الكاهن فيقع كما أخبر فذلك سببه مسترق السمع من الشياطين الذي يلقي للكاهن ما استرقه ومعه تسعا وتسعين كذبة، فصارت نسبة إصابته الحق في حقه واحد إلى مائة مما يدل على أن إصابة الحق عنده ضعيفة جدا، بل بعيدة للغاية، وعندئذ فلا تكون إصابته لأنه عالم، بل لأنها وافقت ما في علم الله، وإلا فإنه رماها مع عدم علمه بأنها ستقع قطعاً.
وعلى هذا، فالكاهن في إخباره عما يقع في المستقبل، أو في الضمير كاذب في ادعاء علمه، وهو يستغل البسطاء من الناس، ويسلب أموالهم بغير حق، وهو ينشر أنواع الشعوذات فيهم، ويجعلهم أكثر قابلية للدجل، والشعوذة والإيمان بالخرافة.
ومن هنا حرمت الكهانة وما في معناها من العرافة وهي: الاستدلال على المسروق ببعض المقدمات، كأثر السارق، ورؤية محل السرقة، أو منديل السارق، أو نحو ذلك؛ لأنها من جنس الكهانة، وفيها ما فيها من معنى.
والكاهن كافر بالله كفراً أكبر لادعائه علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ومن أتاه مصدقاً أنه يعلم الغيب كافراً كفراً أكبر، أما من لم يصدقه لكن حضر مكانه ليرى ما يفعله لا لقصد الشهادة عليه أو أمره بمعروف، أو نهيه عن منكر، أو حضر ليعمل بما أشار به لدعوى أنه لا ضرر فيه، فإن أفاد حصل المطلوب، وإن لم يحصل فلا ضرر؛ فإنه كافر كفراً أصغر، أكبر من كبائر الذنوب.
قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) رواه أبو داود. وفي رواية للأربعة والحاكم: ((من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)). . وقال عليه الصلاة والسلام: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)) رواه مسلم .
هذا، ولأحمد رضي الله عنه فيمن أتى الكاهن فصدقه روايتان:
إحداهما: أنه كفر أصغر ولعله الراجح.
الثانية: التوقف مع تسميته كافراً كما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم, فالتوقف في الحكم لا في التسمية، فلا يقال: ينقل عن الملة.
ويلتحق بالكاهن حكماً به الرمال، والضرب بالحصى، وقراءة الكف، والفنجان، وقراءة الحروف الأبجدية، وقراءة البروج، وقراءة الخطوط ونحو ذلك مما انتشر في هذا العصر من أنواع الكهانة
الفرع الثالث: النشرة
قال ابن الأثير: (النشرة بالضم ضرب من الرقية والعلاج يعالج به من كان يظن أن به مسًّا من الجن، سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء أي: يكشف ويزال)، والمراد بها هنا: هي حل السحر عن المسحور وهي نوعان:
الأول: حل السحر عن المسحور بسحر مثله، وهو محرم، وهو كفر أصغر، وهو الذي قال فيه الحسن: (لا يحل السحر إلا الساحر) ، حيث يتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب فيبطل عمله عن المسحور.
الثاني: حل السحر بالأدعية والرقى المباحة من القرآن والسنة، فهذا جائز.
وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة، فقال: (هي من عمل الشيطان) رواه أحمد بسند جيد . وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تداووا بحرام)) ، وقال: ((ما جعل الله شفاء أمتي فيما حرم عليها)) فحل السحر بالسحر من عمل الشيطان، وعمل الشيطان محرم، فلا يكون فيه شفاء وتوقع أن فيه شفاء عادة لم يجز؛ لأنه يحرم التداوي بالمحرمات، ولا يقال أن ذلك مما تمليه الضرورة؛ لأن محل الضرورة ما فيه نفع يدفعها، والسحر ليس كذلك كما دل عليه الحديث المتقدم. وإن قلنا: إن فيها نفعاً فإن محل الضرورة خوف الموت، والمسحور لا يموت بمجرد سحره حتى يقال إنه يحافظ على نفسه, كما أن تجويز إتيان السحر من أجل العلاج به يساعد على تعلمه وهو يحمل ضمناً تجويز تعلمه والعمل به, ويفتح الباب لكل شرير أن يسحر فيلجأ الناس إليه من أجل العلاج مما يزيد في شر السحرة وإفسادها, مع أن الشرع يحل دم الساحر ويدل على كفره – كما تقدم – وهذا الأمر مما ابتلي به كثير من الناس في عصرنا، فيكثر منهم من يذهب إلى السحر لحل ما أصابه من السحر عنه، مما جعل الناس يكثرون من لجوئهم إلى السحر سواء في العلاج، أو في طلب سحر الغير لحقد أو حسد أو بغضاء، مما زاد في الفساد وفتح باب الخرافة للناس.
الفرع الرابع: التنجيم
وهو في اللغة: طلب العلم بالنجوم فالتاء في لفظ التنجيم للطلب فهو تفعيل منه.
وشرعاً: هو الاستدلال بالنجوم.
والحكمة من خلق النجوم التي أخبرنا بها في كتابه الكريم هي:
1- علامات على الجهات التي تعرف بها الجهات الأصلية والفرعية.
2- يهتدي بها المسافر إلى جهات البلدان؛ لمعرفة طرقها, أو أماكن وجودها، قال تعالى: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}.
3- زينة للسماء الدنيا.
4- رجوماً للشياطين المسترقين للسمع بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} وعليه فمن ادعى لها فائدة غير هذه طولب بالدليل الشرعي على ذلك، ولا يقر على شيء مما يقول حتى يقيمه بلا شبهة إذ لا يترك ما دل عليه كتاب الله لقول قائل كائناً من كان.
والتنجيم على قسمين:
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الأول: علم تأثير:
وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية, بأن تجعل أسباباً مؤثرة أو مقارنة لها، فإن اعتقد أنها الفاعلة أو المؤثرة، سواء بنفسها أو ادعى أنها مؤثرة بإذنه تعالى فهو مشرك شركاً أكبر مخرجاً عن ملة الإسلام.
وإن اعتقد أنها مقارنة للحوادث الأرضية لا تفارقها فهو مشرك شركاً أصغر، ينافي كمال التوحيد، وذلك لأن اعتقاد أن الشيء سبب مؤثر أو مقارنة أمر شرعي فلابد من ثبوت السببية شرعاً أو عادة وهي منفية هنا فدعواها قول على الله بغير علم.
الثاني: علم تسيير:
وهو الاستدلال بها على الجهات، ومواقع البلدان، ونحو ذلك، فهو جائز لا محظور فيه ومنه: حساب التقاويم، ومعرفة بروج الشتاء والصيف، وأوقات التلقيح، والتأبير، والأمطار، وهبوب الرياح وصلاح الثمار، وتهيج العلل. والأمراض، ونحو ذلك.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد)) رواه أبو داود، وإسناده صحيح . فالمراد به القسم الأول؛ لأن المعروف من حال المنجم هو الاستعانة بالشياطين واعتقادهم ما يعتقده الصابئة من أن النجوم ذوات أرواح فاعلة، فيستعينون بالشياطين في قضاء أمورهم، وبناء عليه اعتبر نوعاً من السحر.
(ينظر الفصل الثاني، من الباب الخامس، في الكتاب التاسع من الموسوعة)
• الفصل الثالث: وسائل الشرك .
تمهيد
الوسائل: جمع وسيلة، وهي: ما أدى إلى غيره.
ولذا فقد تقرر شرعاً أن ما كان وسيلة لمحرم فهو محرم، وما كان وسيلة لواجب فهو واجب، وما كان وسيلة لسنة فهو سنة، وما كان وسيلة لمكروه فهو مكروه، وما كان وسيلة إلى مباح فهو مباح. فكذلك ما كان وسيلة لشرك فهو شرك. وبذا يتبين أن خطر الوسيلة تبعاً لخطر ما تؤدي إليه، وإن أخطر الوسائل ما أدت إلى الشرك بالله لأنه أعظم ذنب عصي الله به.
من هنا تأتي أهمية معرفة وسائل الشرك المؤدية إليه، وقيمة العلم بها وبأحكامها، ولما كانت وسائل الشرك كثيرة غير محصورة، كان التعرض لأكثرها انتشاراً وأعظمها خطراً أمراً متعيناً علماً بها، وتنبيهاً على غيرها
ولما كان الشرك الأكبر أعظم ذنب عصي الله به؛ حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كل قول أو فعل يؤدي إليه، أو يكون سبباً في وقوع المسلم فيه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هداية أمته، وسلامتها من كل ما يكون سبباً في هلاكها، كما قال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
وقال أبو ذر رضي الله عنه: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علماً. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا بين لكم)) .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل الرجل يحجزهن، ويغلبنه، فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار: هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني، تقحمون فيها)) رواه البخاري ومسلم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد من كل ما يهدمه أو ينقصه حماية محكمة، وسد كل طريق يؤدي إلى الشرك ولو من بعيد؛ لأن من سار على الدرب وصل؛ ولأن الشيطان يزين للإنسان أعمال السوء، ويتدرج به من السيء إلى الأسوأ شيئاً فشيئاً حتى يخرجه من دائرة الإسلام بالكلية – إن استطاع إلى ذلك سبيلاً – فمن انقاد له واتبع خطواته خسر الدنيا والآخرة.
ولذلك لما عصى كثير من المسلمين نبيهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بفعل بعض الأمور التي نهاهم عنها وحذرهم منها، واتبعوا خطوات الشيطان الذي زين لهم الباطل ودعاهم إليه حتى ظنوا أنهم على الحق مع مخالفتهم ومعصيتهم الصريحة للنبي صلى الله عليه وسلم أدى بهم ذلك إلى الوقوع في الشرك الأكبر المخرج من الملة
• المبحث الأول: التوسل .
المطلب الأول: تعريف التوسل
لفظة (التوسل) لفظة عربية أصيلة، وردت في القرآن والسنة وكلام العرب من شعر ونثر، وقد عني بها: التقرب إلى المطلوب، والتوصل إليه برغبة، قال ابن الأثير في (النهاية): (الواسل: الراغب، والوسيلة: القربة والواسطة، وما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به، وجمعها وسائل) وقال الفيروز أبادي في (القاموس): (وسل إلى الله تعالى توسيلاً: عمل عملاً تقرب به إليه كتوسل) وقال ابن فارس في (معجم المقاييس): (الوسيلة: الرغبة والطلب، يقال: وسل إذا رغب، والواسل: الراغب إلى الله عز وجل، وهو في قول لبيد:
أرى الناس لا يدرون ما قدْرُ أمرهم بلى، كل ذي دين إلى الله واسلُ).
وقال الراغب الأصفهاني في (المفردات): (الوسيلة: التوصل إلى الشيء برغبة، وهي أخص من الوصيلة، لتضمنها لمعنى الرغبة، قال تعالى: {وابتغوا إليه الوسيلة}، وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى: مراعاة سبيله بالعمل والعبادة، وتحري مكارم الشريعة، وهي كالقربة، والواسل: الراغب إلى الله تعالى).
وقد نقل العلامة ابن جرير هذا المعنى أيضاً وأنشد عليه قول الشاعر:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل
هذا وهناك معنى آخر للوسيلة هو المنزلة عند الملك، والدرجة والقربة، كما ورد في الحديث تسمية أعلى منزلة في الجنة بها، وذلك هو قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) .
وواضح أن هذين المعنيين الأخيرين للوسيلة وثيقا الصلة بمعناها الأصلي، ولكنهما غير مرادين في بحثنا هذا.
معنى الوسيلة في القرآن:
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
إن ما قدمته من بيان معنى التوسل هو المعروف في اللغة، ولم يخالف فيه أحد، وبه فسر السلف الصالح وأئمة التفسير الآيتين الكريمتين اللتين وردت فيهما لفظة (الوسيلة)، وهما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35].
وقوله سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57].
فأما الآية الأولى، فقد قال إمام المفسرين الحافظ ابن جرير رحمه الله في تفسيرها: (يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله فيما أخبرهم، ووعد من الثواب، وأوعد من العقاب. {اتقوا الله} يقول: أجيبوا الله فيما أمركم، ونهاكم بالطاعة له في ذلك.{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}: يقول: واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه).
ونقل الحافظ ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن: معنى الوسيلة فيها القربة، ونقل مثل ذلك عن مجاهد وأبي وائل والحسن وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد، ونقل عن قتادة قوله فيها: (أي تقربوا إليه بطاعته، والعمل بما يرضيه) ثم قال ابن كثير: (وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه.. والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود)
وأما الآية الثانية فقد بين الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مناسبة نزولها التي توضح معناها فقال: (نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن، فأسلم الجنيون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : (أي استمر الإنس الذين كانوا يعبدون الجن على عبادة الجن، والجن لا يرضون بذلك، لكونهم أسلموا، وهم الذين صاروا يبتغون إلى ربهم الوسيلة، وهذا هو المعتمد في تفسير الآية).
... وهي صريحة في أن المراد بالوسيلة ما يتقرب به إلى الله تعالى، ولذلك قال:
{يبتغون} أي يطلبون ما يتقربون به إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة، وهي كذلك تشير إلى هذه الظاهرة الغريبة المخالفة لكل تفكير سليم، ظاهره أن يتوجه بعض الناس بعبادتهم ودعائهم إلى بعض عباد الله، يخافونهم ويرجونهم، مع أن هؤلاء العباد المعبودين قد أعلنوا إسلامهم، وأقروا لله بعبوديتهم، وأخذوا يتسابقون في التقرب إليه سبحانه، بالأعمال الصالحة التي يحبها ويرضاها، ويطمعون في رحمته، ويخافون من عقابه، فهو سبحانه يُسَفه في هذه الآية أحلام أولئك الجاهلين الذين عبدوا الجن، واستمروا على عبادتهم مع أنهم مخلوقون عابدون له سبحانه، وضعفاء مثلهم، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، وينكر الله عليهم عدم توجيههم بالعبادة إليه وحده، تبارك وتعالى، وهو الذي يملك وحده الضر والنفع، وبيده وحده مقادير كل شيء وهو المهيمن على كل شيء.
الفرع الأول: التوسل المشروع
1- التوسل إلى الله تعالى باسم من أسمائه الحسنى، أو صفة من صفاته العليا: كأن يقول المسلم في دعائه: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم، اللطيف الخبير أن تعافيني.
2- أو يقول: أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي. ومثله قول القائل: اللهم إني أسألك بحبك لمحمد صلى الله عليه وسلم. فإن الحب من صفاته تعالى.
3- ودليل مشروعية هذا التوسل قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 18], والمعنى: ادعوا الله تعالى متوسلين إليه بأسمائه الحسنى. ولا شك أن صفاته العليا عز وجل داخلة في هذا الطلب، لأن أسماءه الحسنى سبحانه صفات له، خصت به تبارك وتعالى.
4- ومن ذلك ما ذكره الله تعالى من دعاء سليمان عليه السلام حيث قال: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19].
5- ومن الأدلة أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أدعيته الثابتة عنه قبل السلام من صلاته صلى الله عليه وسلم:
6- ((اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خير لي..)) .
7- ومنها أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول في تشهده: ((اللهم إني أسألك يا الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم فقال صلى الله عليه وسلم قد غفر له قد غفر له)) .
8- وسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً آخر يقول في تشهده: ((اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تدرون بما دعا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه العظيم - وفي رواية (الأعظم)- الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)) .
9- ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((من كثر همه فليقل: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحد من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجا)) .
10- ومنها ما ورد في استعاذته صلى الله عليه وسلم وهي قوله: ((اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني..)) .
11- ومنها ما رواه أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((كان إذا حزبه - أي أهمه وأحزنه- أمر قال: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)) .
12- فهذه الأحاديث وما شابهها تبين مشروعية التوسل إلى الله تعالى باسم من أسمائه أو صفه من صفاته، وأن ذلك مما يحبه الله سبحانه ويرضاه، ولذلك استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 8], فكان من المشروع لنا أن ندعوه سبحانه بما دعاه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فذلك خير ألف مرة من الدعاء بأدعية ننشئها، وصيغ نخترعها.
13- 2 ـ التوسل إلى الله تعالى بعمل صالح قام به الداعي:كأن يقول المسلم: اللهم بإيماني بك، ومحبتي لك، واتباعي لرسولك اغفر لي.. أو يقول: اللهم إني أسألك بحبي لمحمد صلى الله عليه وسلم وإيماني به أن تفرج عني.. ومنه أن يذكر الداعي عملاً صالحاً ذا بالٍ، فيه خوفه من الله سبحانه، وتقواه إياه، وإيثاره رضاه على كل شيء، وطاعته له جل شأنه، ثم يتوسل به إلى ربه في دعائه، ليكون أرجى لقبوله وإجابته.
14- وهذا توسل جيد وجميل قد شرعه الله تعالى وارتضاه، ويدل على مشروعيته قوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 16], وقوله: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53], وقوله: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 193-194],. وقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 109], وأمثال هذه الآيات الكريمات المباركات. وكذلك يدل على مشروعية هذا النوع من التوسل ما رواه بريدة بن الحٌصَيب رضي الله عنه حيث قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: ((اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فقال: قد سأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب)) .
15- ومن ذلك ما تضمنته قصة أصحاب الغار، كما يرويها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم))، وفي رواية لمسلم: فقال بعضهم لبعض: ((انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله، فادعوا الله بها، لعل الله يفرجها عنكم. فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبُقُ قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي طلب شيء (وفي رواية لمسلم: الشجر) يوماً، فلم أرحْ عليهما ، حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج. قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني حتى ألمت بها سَنَة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض -وفي رواية لمسلم-: يا عبد الله اتق الله، ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره، حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدِّ لي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله! لا تستهزئ بي. فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئاً. اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)) .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
16- ويتضح من هذا الحديث أن هؤلاء الرجال المؤمنين الثلاثة حينما اشتد بهم الكرب، وضاق بهم الأمر، ويئسوا من أن يأتيهم الفرج من كل طريق إلا طريق الله تبارك وتعالى وحده، فلجئوا إليه، ودعوه بإخلاص واستذكروا أعمالاً لهم صالحة، كانوا تعرفوا فيها إلى الله في أوقات الرخاء، راجين أن يتعرف إليهم ربهم مقابلها في أوقات الشدة، كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي فيه: ((.. تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) فتوسلوا إليه سبحانه بتلك الأعمال؛ توسل الأول ببره والديه، وعطفه عليهما، ورأفته الشديدة بهما حتى كان منه ذلك الموقف الرائع الفريد، وما أحسب إنساناً آخر، حاشا الأنبياء ـ يصل بره بوالديه إلى هذا الحد.
17- وتوسل الثاني بعفته من الزنى بابنة عمه التي أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء بعدما قدر عليها، واستسلمت له مكرهة بسبب الجوع والحاجة، ولكنها ذكرته بالله عز وجل، فتذكر قلبه، وخشعت جوارحه، وتركها والمال الذي أعطاها.
18- وتوسل الثالث بحفاظه على حق أجيره الذي ترك أجرته التي كانت فَرَقاَ من أرز كما ورد في رواية صحيحة للحديث وذهب، فنماها له صاحب العمل، وثمرها حتى كانت منها الشاه والبقر والإبل والرقيق، فلما احتاج الأجير إلى المال ذكر أجرته الزهيدة عند صاحبه، فجاءه وطالبه بحقه، فأعطاه تلك الأموال كلها، فدهش وظنه يستهزئ به، ولكنه لما تيقن منه الجد، وعرف أنه ثمرَّ له أجره حتى تجمعت منه تلك الأموال، استاقها فرحاً مذهولاً، ولم يترك منها شيئاً. وأيْم الله إن صنيع رب العمل هذا بالغ حد الروعة في الإحسان إلى العامل، ومحقق المثل الأعلى الممكن في رعايته وإكرامه، مما لا يصل إلى عشر معشاره موقف كل من يدعي نصرة العمال والكادحين، ويتاجر بدعوى حماية الفقراء والمحتاجين، وإنصافهم وإعطائهم حقوقهم، دعا هؤلاء الثلاثة ربهم سبحانه متوسلين إليه بهذه الأعمال الصالحة أي صلاح، والمواقف الكريمة أي كرم، معلنين أنهم إنما فعلوها ابتغاء رضوان الله تعالى وحده.
19- لم يريدوا بها دنيا قريبة أو مصلحة عاجلة أو مالاً، ورجوا الله جل شأنه أن يفرج عنهم ضائقتهم، ويخلصهم من محنتهم، فاستجاب سبحانه دعاءهم، وكشف كربهم، وكان عند حسن ظنهم به، فخرق لهم العادات وأكرمهم بتلك الكرامة الظاهرة، فأزاح الصخرة بالتدرج على مراحل ثلاث، كلما دعا واحد منهم تنفرج بعض الانفراج حتى انفرجت تماماً مع آخر دعوة الثالث بعد أن كانوا في موت محقق. ورسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه يروي لنا هذه القصة الرائعة التي كانت في بطون الغيب، لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ليذكرنا بأعمال فاضلة مثالية لأناس فاضلين مثاليين من أتباع الرسل السابقين، لنقتدي بهم، ونتأسى بأعمالهم، ونأخذ من أخبارهم الدروس الثمينة، والعظات البالغة. ولا يقولن قائل: إن هذه الأعمال جرت قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلا تنطبق علينا بناء على ما هو الراجح في علم الأصول أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا. لأننا نقول: إن حكاية النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الحادثة إنما جاءت في سياق المدح والثناء، والتعظيم والتبجيل، وهذا إقرار منه صلى الله عليه وسلم بذلك، بل هو أكثر من إقرار لما قاموا به من التوسل بأعمالهم الصالحة المذكورة، بل إن هذا ليس إلا شرحاً وتطبيقاً عملياً للآيات المتقدمة، وبذلك تتلاقى الشرائع السماوية في تعاليمها وتوجيهاتها، ومقاصدها وغاياتها، ولا غرابة في ذلك، فهي تنبع من معين واحد، وتخرج من مشكاة واحدة، وخاصة فيما يتعلق بحال الناس مع ربهم سبحانه، فهي لا تكاد تختلف إلا في القليل النادر الذي يقتضي حكمة الله سبحانه تغييره وتبديله.
20- 3 - التوسل إلى الله تعالى بدعاء الرجل الصالح:
21- كأن يقول المسلم في ضيق شديد، أو تحل به مصيبة كبيرة، ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تبارك وتعالى، فيجب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله، فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح والتقوى، أو الفضل والعلم بالكتاب والسنة، فيطلب منه أن يدعو له ربه، ليفرج عنه كربه، ويزيل عنه همه. فهذا نوع آخر من التوسل المشروع، دلت عليه الشريعة المطهرة، وأرشدت إليه، وقد وردت أمثلة منه في السنة الشريفة، كما وقعت نماذج منه من فعل الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم، فمن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه حيث قال: ((أصاب الناس سنَة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب (على المنبر) قائماً في يوم الجمعة، قام (وفي راوية: دخل) أعرابي (من أهل البدو) (من باب كان وجَاه المنبر) (نحو دار القضاء ورسول الله قائم، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً) فقال: يا رسول الله! هلك المال، وجاع (وفي رواية: هلك) العيال (ومن طريق أخرى: هلك الكُراع، وهلك الشاء) (وفي أخرى هلكت المواشي، وانقطعت السبل(فادعُ الله لنا)أن يَسْقِيَنا()وفي أخرى: يُغيثنا(فرفع يديه يدعو)حتى رأيت بياض إبطه (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا(، ورفع الناس أيديهم معه يدعون (ولم يذكر أنه حوَّل رداءه، ولا استقبل القبلة) ولا والله(ما نرى في السماء)من سحاب ولا) قزعة (ولا شيئاً، وما بيننا وبين سَلْع من بيت ولا دار) (وفي رواية: قال أنس: وإن السماء لمثل الزجاجة) (قال فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت) فو الذي نفسه بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطرَ يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم (وفي رواية: فهاجت ريح أنشأت سحاباً، ثم اجتمع، ثم أرسلت السماءُ عزاليها (ونزل عن المنبر فصلى) (فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا) (وفي رواية: حتى ما كاد الرجل يصل إلى منزله) فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى (ما تقلع) (حتى سالت مثاعب المدينة) (وفي رواية: فلا والله ما رأينا الشمس ستاً ) وقام ذلك الأعرابي أو غيره وفي رواية: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائماً(فقال: يا رسول الله تهدم البناء)وفي رواية: تهدمت البيوت، وتقطعت السبل، وهلكت المواشي )وفي طريق: بشَق المسافر، ومُنع الطريق(وغرق المال، فادع الله)يحبسه(لنا)فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم(فرفع يده، فقال: اللهم حوالينا ولا علينا،)اللهم على رؤوس الجبال والآكام)والظراب(وبطون الأودية ومنابت الشجر(فما)جعل) يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت مثل الجوْبَة، (وفي رواية: فنظرت إلى السحاب تصدع حول المدينة (يميناً وشمالاً) كأنه إكليل) (وفي أخرى: فانْجابَتْ) عن المدينة انجياب الثوب) (يمطر ما حولينا ولا يمطر فيها شيء (وفي طريق:قطرة) (وخرجنا نمشي في الشمس) يريهم الله كرامة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجابة دعوته)، وسال الوادي (وادي) قناة شهراً، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود)) .
22- ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أيضاً أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: ((اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيُسقَون)) .
23- ومعنى قول عمر: إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، أننا كنا نقصد نبينا صلى الله عليه وسلم ونطلب منه أن يدعو لنا، ونتقرب إلى الله بدعائه، والآن وقد انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ولم يعد من الممكن أن يدعو لنا، فإننا نتوجه إلى عم نبينا العباس، ونطلب منه أن يدعوَ لنا، وليس معناه أنهم كانوا يقولون في دعائهم: (اللهم بجاه نبيك اسقنا)، ثم أصبحوا يقولون بعد وفاته صلى الله عليه وسلم: (اللهم بجاه العباس اسقنا)، لأن مثل هذا دعاء مبتدع ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة، ولم يفعله أحد من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم...،
24- ومن ذلك أيضاً ما رواه الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في (تاريخه) (18/151/1) بسند صحيح عن التابعي الجليل سليم ابن عامر الخبَائري: (أن السماء قحطت، فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون، فلما قعد معاوية على المنبر، قال: أين يزيد بن الأسود الجُرَشي؟ فناداه الناس، فأقبل يتخطى الناس، فأمره معاوية فصعد على المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه، ورفع الناس أيديهم، فما كان أوشك أن ثارت سحابة في الغرب كأنها ترس، وهبت لها ريح، فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم) .
25- وروى ابن عساكر أيضاً بسند صحيح أن الضحاك بن قيس خرج يستسقي بالناس فقال ليزيد بن الأسود أيضاً: قم يا بكاء! زاد في رواية: (فما دعا إلا ثلاثاً حتى أمطروا مطراً كادوا يغرقون منه) .
26- فهذا معاوية رضي الله عنه أيضاً لا يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، لما سبق بيانه، وإنما يتوسل بهذا الرجل الصالح: يزيد بن الأسود رحمه الله تعالى، فيطلب منه أن يدعو الله تعالى، ليسقيهم ويغيثهم، ويستجيب الله تبارك وتعالى طلبه. وحدث مثل هذا في ولاية الضحاك بن قيس أيضاً.
27-
28- الوجه الأول: التوسل إليه تعالى بذات وشخص المتوسل به.
إن التوسل بذات وشخص المتوسل به إلى الله تعالى، عمل غير شرعي لأنه لم يأمر به الله، ولا بلغه رسوله صلى الله عليه وسلم. على أن التوسل بذات الشخص بدون متابعة للعمل الذي كان يعمله، فبلغ به المنزلة الطيبة عند الله، إنما هو عمل قد ذمه الله تعالى لما وصف توسل المشركين فقال حاكياً عنهم: {أَلَا للهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزُّمر: 3].
فالتوسل بالعبد الصالح من غير متابعة له في الأعمال الصالحة لا يجوز أن يكون وسيلة. فهذا التزلف بذوات الأشخاص رده الله سبحانه ولم يقبله. وإنه تعالى قد عاب عليهم في هذه الآية أمرين اثنين: عاب عليهم عبادة الأولياء من دونه، وعاب عليهم، محاولتهم القربى والزلفى إليه تعالى بالأشخاص والعباد المخلوقين. فكلا الأمرين في الآية، عيب وذنب. وكلاهما باطل وكذب وضلال وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آَمِنُونَ} [سبأ: 37].
أي إن الذين يقربون عند الله درجات، ومنازل عظيمة والذين تضاعف لهم حسناتهم إنما تضاعف بأعمالهم لا بالجاهات ولا الوساطات.
قول ابن تيمية رحمه الله:
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجلين تناظرا فقال أحدهما: لابد لنا من واسطة بيننا وبين الله فإنا لا نقدر أن نصل بغير ذلك: فأجاب رحمه الله:
(الحمد لله رب العالمين: إن أراد بذلك أنه لابد من واسطة يبلغنا أمر الله فهذا حق. فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به وما نهى عنه، وما أعده لأوليائه من كرامته، وما وعد به أعداءه من عذابه، ولا يعرفون ما يستحقه الله من أسمائه الحسنى، وصفاته العليا، التي تعجز العقول عن معرفتها وأمثال ذلك إلا بالرسل الذين أرسلهم الله تعالى إلى عباده. فالمؤمنون بالرسل المتبعون لهم هم المهتدون الذين يقربهم لديه زلفى، ويرفع درجاتهم، ويكرمهم في الدنيا والآخرة. وأما المخالفون للرسل، فإنهم ملعونون، وهم عن ربهم ضالون محجوبون).
ثم قال: (وإن أراد بالواسطة أنه لابد من واسطة في جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يكون واسطة في رزق العباد، ونصرهم وهداهم، ويسألونه ذلك، ويرجعون إليه فيه فهو من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء شفعاء، يجتلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المضار). اهـ.
قول أبي حنيفة رحمه الله:
قال في الدر المختار: (وفي التتارخانية معزياً للمنتقى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به. والدعاء المأذون فيه المأمور به: ما استفيد من قوله تعالى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180])...

الوجه الثاني: التوسل إلى الله تعالى بجاه فلان, أو حقه, أو حرمته وما أشبه
أما التوسل إلى الله تعالى: بجاه أو بحرمة المتوسل به.. فهذا عمل لم يشرعه الله ولم يبلغه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أمر به، ولا حض عليه، ولم يصل إلينا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم.
وإننا نوجه سؤالاً للذين يستحلون هذا النوع من التوسل فنقول:
إن هذا الذي تسألون الله بجاهه أو بحرمته عنده، كيف تكون له هذا الجاه والحرمة، وتلك المنزلة الطيبة عنده سبحانه؟ أليس هذا كله، من طاعته لربه وتنفيذه لأوامره، وتركه لنواهيه، وفعله الخيرات، وجهاده في سبيل الله, ونشره الدعوة بين الناس، وصبره على الأذى في سبيلها...؟ أليس كذلك...؟ ولولا أن يفعل هذا... ما كان له ذلك الجاه ولا الحرمة ولا تلك المنزلة العالية. فإذا كان الأمر كذلك... فهل لكم من أعماله تلك أي سهم أو نصيب...؟ ستقولون: لا... إن عمله له وليس لأحد أي نصيب منه، فأقول: هذا هو القول الحق بارك الله فيكم, فما دمتم تعلمون أن كل هذه المكانة والحرمة متأتية له من سعيه، ومتأكدون أن سعيه له، وليس لكم فيه من حق... فكيف إذاً تتوسلون إلى الله بجاه لا تملكونه، وحرمة ليس لكم فيها أية علاقة، ومكانة اختصه الله بها وليس لكم منها مثقال ذرة...؟ والله سبحانه وتعالى قرر في كتاب العزيز: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى} [النجم: 39-40].
إذاً فالذي ليس من سعيكم ليس لكم فيه من نصيب... فتوسلكم بجاهه, أو بحرمته, أو منزلته مخالف لما قال سبحانه من الآية المتقدمة، وليس لكم أن تفعلوا ذلك.
وبناء على ما تقدم، فإن كل توسل إلى الله بما لم يشرع... غير مقبول ومردود.. لأنه ليس مطابقاً لما أمر الله وشرع. هذا عدا عن أن مخالفة أمر الله يترتب عليها عقاب, لأن مخالفة أمر الله ذنب، ولكل ذنب عقاب.
فما رأيكم بعمل تعملونه... وتظنون أنه قربى إلى الله وفي الواقع ليس هو قربى... بل ذنب يستحق أن تتوبوا منه أو تعاقبوا عليه... فلا أنتم منه تتوبون أو تستغفرون، ولا أنتم عنه راجعون، فتكررون الذنب ولا تستغفرون, ويتراكم ولا تشعرون, وتحسبون أنكم بعملكم هذا تحسنون صنعاً...!!!
فأطعتم الشيطان...! وعصيتم الرحمن!!! ولكن بعد أن وضح الحق... هل أنتم منتهون؟
وإذا كان هناك رجال صالحون، قبضهم الله إليه، ومضوا إلى ما عملوا من خير وصلاح... فهم – إن شاء الله – في بحبوحة من رحمة الله ومغفرته، ورحاب فسيحة من رضاه وعفوه وكرمه، فليس لأحد أن يتوسل إلى الله بصلاحهم... لأن صلاحهم من سعيهم، لا من سعي المتوسلين بهم.
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله:
(ليس لأحد أن يدل على الله بصلاح سلفه، فإنه ليس صلاحهم من عمله الذي يستحق به الجزاء، كأهل الغار الثلاثة، فأنهم لم يتوسلوا إلى الله بصلاح سلفهم، وإنما توسلوا إلى الله بأعمالهم) اهـ.
ولماذا لا تعملون صالحاً كما عملوا.. وتتوسلون بأعمالكم الصالحة كما توسلوا.. فتكتب لكم في صحائفكم، وتتقربون بها إلى الله وتتوسلون، كما فعل السلف الصالح ممن سبقكم... أما سمعتم الشاعر يقول:


لسنا وإن أحسابنا كرمت

يوماً على الآباء نتكل


نبني كما كانت أوائلنا

تبني، ونفعل مثلما فعلوا

وقال شارح العقيدة الطحاوية رحمه الله:
(ولا مناسبة بين ذلك –أي صلاح المتوسل به- وبين استجابة الدعاء، فكأن المتوسل يقول: لكون فلان من عبادك الصالحين أجب دعاي! وأي مناسبة في هذا... وأي ملازمة؟ وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55].
وهذا... ونحوه من الأدعية المبتدعة. ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين، ولا عن الأئمة رضي الله عنهم أجمعين، وإنما يوجد مثل هذا.. في الحروز والهياكل – أي التمائم – التي يكتب بها الجهال والطرقية, والدعاء من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على السنة والإتباع، لا على الهوى والابتداع).

ثانيا: شبهات حول التوسل وردها
الشبهة الأولى: حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما:
يحتجون على جواز التوسل بجاه الأشخاص وحرمتهم وحقهم بحديث أنس رضي الله عنه قال: ((أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قَحَطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون)) .
فيفهمون من هذا الحديث أن توسل عمر رضي الله عنه إنما كان بجاه العباس رضي الله عنه، ومكانته عند الله سبحانه، وأن توسله كأنه مجرد ذكر منه للعباس في دعائه، وطلب منه لله أن يسقيهم من أجله، وقد أقره الصحابة على ذلك، فأفاد بزعمهم ما يدعون.
وأما سبب عدول عمر رضي الله عنه عن التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم - بزعمهم – وتوسله بدلاً منه بالعباس رضي الله عنه، فإنما كان لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل ليس غير.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وفهمهم هذا خاطئ، وتفسيرهم هذا مردود من وجوه كثيرة أهمها:
1 – إن القواعد المهمة في الشريعة الإسلامية أن النصوص الشرعية يفسر بعضها بعضاً، ولا يفهم شيء منها في موضوع ما بمعزل عن بقية النصوص الواردة فيه. وبناء على ذلك فحديث توسل عمر السابق إنما يفهم على ضوء ما ثبت من الروايات والأحاديث الواردة في التوسل بعد جمعها وتحقيقها، ونحن والمخالفون متفقون على أن في كلام عمر: ((كنا نتوسل إليك بنبينا.. وإنا نتوسل إليك بعم نبينا)) شيئاً محذوفاً، لا بد له من تقدير، وهذا التقدير إما أن يكون: (كنا نتوسل بـ (جاه) نبينا، وإنا نتوسل إليك بـ (جاه) عم نبينا) على رأيهم هم، أو يكون: (كنا نتوسل إليك بـ (دعاء) نبينا، وإنا نتوسل إليك بـ (دعاء) عم نبينا) على رأينا نحن.
ولا بد من الأخذ بواحد من هذين التقديرين ليفهم الكلام بوضوح وجلاء.
ولنعرف أي التقديرين صواب لا بد من اللجوء إلى السنة، لتبين لنا طريقة توسل الصحابة الكرام بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ترى هل كانوا إذا أجدبوا وقحَطوا قبع كل منهم في داره، أو مكان آخر، أو اجتمعوا دون أن يكون معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعوا ربهم قائلين: (اللهم بنبيك محمد، وحرمته عندك، ومكانته لديك اسقنا الغيث). مثلاً أم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ذاته فعلاً، ويطلبون منه أن يدعو الله تعالى لهم، فيحقق صلى الله عليه وسلم طلْبتهم، ويدعو ربه سبحانه، ويتضرع إليه حتى يسقوا؟
أما الأمر الأول فلا وجود له إطلاقاً في السنة النبوية الشريفة، وفي عمل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ولا يستطيع أحد من الخلفيين أو الطُّرُقيين أن يأتي بدليل يثبت أن طريقة توسلهم كانت بأن يذكروا في أدعيتهم اسم النبي صلى الله عليه وسلم، ويطلبوا من الله بحقه وقدره عنده ما يريدون. بل الذي نجده بكثرة، وتطفح به كتب السنة هو الأمر الثاني، إذ تبين أن طريقة توسل الأصحاب الكرام بالنبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت إذا رغبوا في قضاء حاجة، أو كشف نازلة أن يذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم، ويطلبوا منه مباشرة أن يدعو لهم ربه، أي أنهم كانوا يتوسلون إلى الله تعالى بدعاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ليس غير.
ويرشد إلى ذلك قوله تبارك وتعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} [النساء:64].
ومن أمثلة ذلك ما مر معنا في حديث أنس السابق الذي ذكر فيه مجيء الأعرابي إلى المسجد يوم الجمعة حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، وعرضه له ضنك حالهم، وجدب أرضهم، وهلاك ماشيتهم، وطلبه منه أن يدعو الله سبحانه لينقذهم مما هم فيه، فاستجاب له صلى الله عليه وسلم، وهو الذي وصفه ربه بقوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:128]، فدعا صلى الله عليه وسلم لهم ربه، واستجاب سبحانه دعاء نبيه، ورحم عباده ونشر رحمته، وأحيا بلدهم الميت.
ومن ذلك أيضاً مجيء الأعرابي السابق نفسه أو غيره إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الجمعة الثانية، وشكواه له انقطاع الطرقات وتهدم البنيان، وهلاك المواشي، وطلبه منه أن يدعو لهم ربه، ليمسك عنهم الأمطار، وفعل صلى الله عليه وسلم فاستجاب له ربه جل شأنه أيضاً.
ومن ذلك ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها حيث قالت: ((شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه. قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله، ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم...)) الحديث، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم دعا الله سبحانه، وصلى بالناس، فأغاثهم الله تعالى حتى سالت السيول، وانطلقوا إلى بيوتهم مسرعين، فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: ((أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله)) .
فهذه الأحاديث وأمثالها مما وقع زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن أصحابه الكرام رضوان الله عليهم تُبين بما لا يقبل الجدال أو المماراة أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بالصالحين الذي كان عليه السلف الصالح هو مجيء المتوسل إلى المتوسل به، وعرضه حاله له، وطلبه منه أن يدعو له الله سبحانه، ليحقق طلبه، فيستجيب هذا له، ويستجيب من ثم الله سبحانه وتعالى.
2 – وهذا الذي بيناه من معنى الوسيلة هو المعهود في حياة الناس واستعمالهم، فإنه إذا كانت لإنسان حاجة ما عند مدير أو رئيس أو موظف مثلاً، فإنه يبحث عمن يعرفه ثم يذهب إليه ويكلمه، ويعرض له حاجته فيفعل، وينقل هذا الوسيط رغبته إلى الشخص المسؤول، فيقضيها له غالباً. فهذا هو التوسل المعروف عند العرب منذ القديم، وما يزال، فإذا قال أحدهم: إني توسلت إلى فلان، فإنما يعني أنه ذهب إلى الثاني وكلمه في حاجته، ليحدث بها الأول، ويطلب منه قضاءها، ولا يفهم أحد من ذلك أنه ذهب إلى الأول وقال له: بحق فلان (الوسيط) عندك، ومنزلته لديك اقض لي حاجتي.
وهكذا فالتوسل إلى الله عز وجل بالرجل الصالح ليس معناه التوسل بذاته وبجاهه وبحقه، بل هو التوسل بدعائه وتضرعه واستغاثته به سبحانه وتعالى، وهذا هو بالتالي معنى قول عمر رضي الله عنه: ((اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا)) , أي: كنا إذا قل المطر مثلاً نذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونطلب منه أن يدعو لنا الله جل شأنه.
3 – ويؤكد هذا ويوضحه تمام قول عمر رضي الله عنه: ((وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا))، أي إننا بعد وفاة نبينا جئنا بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وطلبنا منه أن يدعو لنا ربنا سبحانه ليغيثنا.
تُرى لماذا عدل عمر رضي الله عنه عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس رضي الله عنه، مع العلم أن العباس مهما كان شأنه ومقامه فإنه لا يذكر أمام شأن النبي صلى الله عليه وسلم ومقامه؟
أما الجواب برأينا فهو: لأن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم غير ممكن بعد وفاته، فأنى لهم أن يذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم ويشرحوا له حالهم، ويطلبوا منه أن يدعو لهم، ويؤمنوا على دعائه، وهو قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، وأضحى في حال يختلف عن حال الدنيا وظروفها مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فأنى لهم أن يحظوا بدعائه صلى الله عليه وسلم وشفاعته فيهم، وبينهم وبينه كما قال الله عز شأنه:
{وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
ولذلك لجأ عمر رضي الله عنه، وهو العربي الأصيل الذي صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولازمه في أكثر أحواله، وعرفه حق المعرفة، وفهم دينه حق الفهم، ووافقه القرآن في مواضع عدة، لجأ إلى توسل ممكن فاختار العباس رضي الله عنه، لقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية، ولصلاحه ودينه وتقواه من ناحية أخرى، وطلب منه أن يدعو لهم بالغيث والسقيا. وما كان لعمر ولا لغير عمر أن يدع التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويلجأ إلى التوسل بالعباس أو غيره لو كان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ممكناً، وما كان من المعقول أن يقر الصحابة رضوان الله عليهم عمر على ذلك أبداً، لأن الانصراف عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بغيره ما هو إلا كالانصراف عن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة إلى الاقتداء بغيره، سواء بسواء، ذلك أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يعرفون قدر نبيهم صلى الله عليه وسلم ومكانته وفضله معرفة لا يدانيهم فيها أحد، كما نرى ذلك واضحاً في الحديث الذي رواه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر، فقال: أتصلي بالناس، فأقيم؟ قال: فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثر الناس التصفيق التفت، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه، فحمد الله عز وجل على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ثم انصرف، فقال: يا أبا بكر: ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ قال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم)). .
فأنت ترى أن الصحابة رضي الله عنهم لم يستسيغوا الاستمرار على الاقتداء بأبي بكر رضي الله عنه في صلاته عندما حضر الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن أبا بكر رضي الله عنه لم تطاوعه نفسه على الثبات في مكانه مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، لماذا؟ كل ذلك لتعظيمهم نبيهم صلى الله عليه وسلم، وتأدبهم معه، ومعرفتهم حقه وفضله، فإذا كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لم يرتضوا الاقتداء بغير النبي صلى الله عليه وسلم عندما أمكن ذلك، مع أنهم كانوا بدءوا الصلاة في غيابه صلى الله عليه وسلم عنهم، فكيف يتركون التوسل به صلى الله عليه وسلم أيضاً بعد وفاته، لو كان ذلك ممكناً، ويلجئون إلى التوسل بغيره؟ وكما لم يقبل أبو بكر أن يؤم المسلمين فمن البديهي أن لا يقبل العباس أيضاً أن يتوسل الناس به، ويدعوا التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لو كان ذلك ممكناً.
(تنبيه): وهذا يدل من ناحية أخرى على سخافة تفكير من يزعم أنه صلى الله عليه وسلم في قبره حي كحياتنا، لأنه لو كان ذلك كذلك لما كان ثمة وجه مقبول لانصرافهم عن الصلاة وراءه صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة وراء غيره ممن لا يدانيه أبداً في منزلته وفضله. ولا يعترض أحد على ما قررته بأنه قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا في قبري حي طري، من سلم علي سلمت عليه)) . وأنه يستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم حي مثل حياتنا، فإذا توسل به سمعنا واستجاب لنا، فيحصل مقصودنا، وتتحقق رغبتنا، وأنه لا فرق في ذلك بين حاله صلى الله عليه وسلم في حياته، وبين حاله بعد وفاته أقول:
لا يعترض أحد بما سبق لأنه مردود من وجهين:
الأول حديثي: وخلاصته أن الحديث المذكور لا أصل له بهذا اللفظ، كما أن لفظة (طري) لا وجود لها في شيء من كتب السنة إطلاقاً، ولكن معناه قد ورد في عدة أحاديث صحيحة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي)) قالوا: يا رسول الله ! وكيف تعرض صلاتنا عليك، وقد أرمتَ (قال: يقولون: بَليتَ)، قال: ((إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء)) ومنها قوله صلى الله عليه وسلم ((الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((مررت ليلة أسري بي على موسى قائماً يصلي في قبره)) وقوله: ((إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام)) .
الجواب الثاني فقهي: وفحواه أن حياته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مخالفة لحياته قبل الوفاة، ذلك أن الحياة البرزخية غيب من الغيوب، ولا يدري كنهها إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن من الثابت والمعلوم أنها تختلف عن الحياة الدنيوية، ولا تخضع لقوانينها، فالإنسان في الدنيا يأكل ويشرب، ويتنفس ويتزوج، ويتحرك ويتبرز، ويمرض ويتكلم، ولا أحد يستطيع أن يثبت أن أحداً بعد الموت حتى الأنبياء عليهم السلام، وفي مقدمتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تعرض له هذه الأمور بعد موته.
ومما يؤكد هذا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في مسائل كثيرة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ولم يخطر في بال أحد منهم الذهاب إليه صلى الله عليه وسلم في قبره، ومشاورته في ذلك، وسؤاله عن الصواب فيها، لماذا؟ إنّ الأمر واضح جداً، وهو أنهم كلهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم انقطع عن الحياة الدنيا، ولم تعد تنطبق عليه أحوالها ونواميسها.فرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حي، أكمل حياة يحياها إنسان في البرزخ، ولكنها حياة لا تشبه حياة الدنيا، ولعل مما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)) وعلى كل حال فإن حقيقتها لا يدريها إلا الله سبحانه وتعالى، ولذلك فلا يجوز قياس الحياة البرزخية أو الحياة الأخروية على الحياة الدنيوية، كما لا يجوز أن تعطى واحدة منهما أحكام الأخرى، بل لكل منها شكل خاص وحكم معين، ولا تتشابه إلا في الاسم، أما الحقيقة فلا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى.
ونعود بعد هذا التنبيه إلى ما كنا فيه من الرد على المخالفين في حديث توسل عمر بالعباس، فنقول: إن تعليلهم لعدول عمر رضي الله عنه عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس رضي الله عنه بأنه لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل هو تعليل مضحك وعجيب.إذ كيف يمكن أن يخطر في بال عمر رضي الله عنه، أو في بال غيره من الصحابة الكرام رضي الله عنهم تلك الحذلقة الفقهية المتأخرة، وهو يرى الناس في حالة شديدة من الضنك والكرب، والشقاء والبؤس، يكادون يموتون جوعاً وعطشاً لشح الماء وهلاك الماشية، وخلو الأرض من الزرع والخضرة حتى سمي ذاك العام بعام الرمادة، كيف يَرِد في خاطره تلك الفلسفة الفقهية في هذا الظرف العصيب، فيدع الأخذ بالوسيلة الكبرى في دعائه، وهي التوسل بالنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، لو كان ذلك جائزاً ويأخذ بالوسيلة الصغرى، التي لا تقارن بالأولى، وهي التوسل بالعباس، لماذا؟ لا لشيء إلا ليبين للناس أنه يجوز لهم التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل !!
إن الشاهد والمعلوم أن الإنسان إذ حلّت به شدة يلجأ إلى أقوى وسيلة عنده في دفعها، ويدَع الوسائل الأخرى لأوقات الرخاء، وهذا كان يفهمه الجاهليون المشركون أنفسهم، إذ كانوا يَدعون أصنامهم في أوقات اليسر، ويتركونها ويدْعون الله تعالى وحده في أوقات العسر، كما قال تبارك وتعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 265].
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
فنعلم من هذا أن الإنسان بفطرته يستنجد بالقوة العظمى، والوسيلة الكبرى حين الشدائد والفواق، وقد يلجأ إلى الوسائل الصغرى حين الأمن واليسر، وقد يخطر في باله حينذاك أن يبين ذلك الحكم الفقهي الذي افترضوه، وهو جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل. وأمر آخر نقوله جواباً على شبهة أولئك، وهو: هب أن عمر رضي الله عنه خطر في باله أن يبين ذلك الحكم الفقهي المزعوم، ترى فهل خطر ذلك في بال معاوية والضحاك بن قيس حين توسلا بالتابعي الجليل: يزيد بن الأسود الجُرَشي أيضاً؟ لا شك أن هذا ضرب من التمحل والتكلف لا يحسدون عليه.
4 – إننا نلاحظ في حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما أمراً جديراً بالانتباه، وهو قوله: (إن عمر بن الخطاب كان إذا قَحطوا، استسقى بالعباس بن عبدالمطلب، ففي هذا إشارة إلى تكرار استسقاء عمر بدعاء العباس رضي الله عنهما، ففيه حجة بالغة على الذين يتأولون فعل عمر ذلك أنه إنما ترك التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بعمه رضي الله عنه، لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل، فإننا نقول: لو كان الأمر كذلك لفعل عمر ذلك مرة واحدة، ولما استمر عليه كلما استسقى، وهذا بيّن لا يخفى إن شاء الله تعالى على أهل العلم والإنصاف.
5 – لقد فسرت بعض روايات الحديث الصحيحة كلام عمر المذكور وقصده، إذ نقلت دعاء العباس رضي الله عنه استجابة لطلب عمر رضي الله عنه، فمن ذلك ما نقله الحافظ العسقلاني رحمه الله في (الفتح) (3/150) حيث قال: (قد بين الزبير بن بكار في (الأنساب) صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجّه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، قال: فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض، وعاش الناس) .
وفي هذا الحديث: أولاً: التوسل بدعاء العباس رضي الله عنه لا بذاته كما بينه الزبير
بن بكار وغيره، وفي هذا رد واضح على الذين يزعمون أن توسل عمر كان بذات العباس لا بدعائه، إذ لو كان الأمر كذلك لما كان ثمة حاجة ليقوم العباس، فيدعو بعد عمر دعاءً جديداً.
ثانياً: أن عمر صرح بأنهم كانوا يتوسلون بنبينا صلى الله عليه وسلم في حياته، وأنه في هذه الحادثة توسل بعمه العباس، ومما لا شك فيه أن التوسليْن من نوع واحد: توسلهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وتوسلهم بالعباس، وإذا تبين للقارئ ... أن توسلهم به صلى الله عليه وسلم إنما كان توسلاً بدعائه صلى الله عليه وسلم فتكون النتيجة أن توسلهم بالعباس إنما هو توسل بدعائه أيضاً، بضرورة أن التوسليْن من نوع واحد.
أما أن توسلهم به صلى الله عليه وسلم إنما كان توسلاً بدعائه، فالدليل على ذلك صريح رواية الإسماعيلي في (مستخرجه على الصحيح) لهذا الحديث بلفظ: (كانوا إذ قحطوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم استسقوا به، فيستسقي لهم، فيسقون، فلما كان في إمارة عمر...) فذكر الحديث ، نقلته من (الفتح) (2/399)، فقوله: (فيستسقي لهم) صريح في أنه صلى الله عليه وسلم كان يطلب لهم السقيا من الله تعالى ففي (النهاية) لابن الأثير: (الاستسقاء، استفعال من طلب السقيا أي إنزال الغيث على البلاد والعباد، يقال: سقى الله عباده الغيث وأسقاهم، والاسم السقيا بالضم، واستقيت فلاناً إذا طلبت منه أن يسقيك).
إذا تبين هذا، فقوله في هذه الرواية (استسقوا به) أي بدعائه، وكذلك قوله في الرواية.
الأولى: (كنا نتوسل إليك بنبينا)، أي بدعائه، لا يمكن أن يفهم من مجموع رواية الحديث.
إلا هذا. ويؤيده:
ثالثاً: لو كان توسل عمر إنما هو بذات العباس أو جاهه عند الله تعالى، لما ترك التوسل.
به صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، لأن هذا ممكن لو كان مشروعاً، فعدول عمر عن هذه إلى التوسل بدعاء العباس رضي الله عنه أكبر دليل على أن عمر والصحابة الذين كانوا معه كانوا لا يرون التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا جرى عمل السلف من بعدهم، كما رأيت في توسل معاوية بن أبي سفيان والضحاك ابن قيس بيزيد بن الأسود الجرشي، وفيهما بيان دعائه بصراحة وجلاء.
فهل يجوز أن يجمع هؤلاء كلهم على ترك التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم لو كان جائزاً، سيّما والمخالفون يزعمون أنه أفضل من التوسل بدعاء العباس وغيره؟! اللهم إن ذلك غير جائز ولا معقول، بل إن هذا الإجماع منهم من أكبر الأدلة على أن التوسل المذكور غير مشروع عندهم، فإنهم أسمى من أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير!
اعتراض ورده:
وأما جواب صاحب (مصباح الزجاجة في فوائد قضاء الحاجة) (ص25) عن ترك عمر التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم بقوله:(إن عمر لم يبلغه حديث توسل الضرير، ولو بلغه لتوسل به).
فهو جواب باطل من وجوه:
الأول: أن حديث الضرير إنما يدل على ما دل عليه توسل عمر هذا من التوسل بالدعاء.
لا بالذات ...
الثاني: أن توسل عمر لم يكن سراً، بل كان جهراً على رؤوس الأشهاد، وفيهم كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فإذا جاز أن يخفى الحديث على عمر، فهل يجوز أن يخفى على جميع الموجودين مع عمر من الصحابة؟!
الثالث: أن عمر ... كان يكرر هذا التوسل كلما نزل بأهل المدينة خطر، أو كلما دعي للاستسقاء كما يدل على ذلك لفظ (كان) في حديث أنس السابق (أن عمر كان إذا قحَطوا استسقى بالعباس) وكذلك روى ابن عباس عن عمر كما ذكره ابن عبد البر في (الاستيعاب) (3/98)، فإذا جاز أن يخفى ذلك عليه أول مرة، أفيجوز أن يستمر على الجهل به كلما استسقى بالعباس، وعنده المهاجرون والأنصار، وهم سكوت لا يقدمون إليه ما عندهم من العلم بحديث الضرير ؟! اللهم إن هذا الجواب ليتضمن رمي الصحابة جميعهم بالجهل بحديث الضرير مطلقاً، أو على الأقل بدلالته على جواز التوسل بالذات، والأول باطل لا يخفى بطلانه، والثاني حق فإن الصحابة لو كانوا يعلمون أن حديث الضرير يدل على التوسل المزعوم لما عدلوا عن التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بدعاء العباس كما سبق.
رابعاً: أن عمر ليس هو وحده الذي عدل عن التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالدعاء، بل تابعه على ذلك معاوية بن أبي سفيان فإنه أيضاً عدل إلى التوسل بدعاء يزيد بن الأسود، ولم يتوسل به صلى الله عليه وسلم وعنده جماعة من الصحابة وأجلاء التابعين، فهل يقال أيضاً إن معاوية ومن معه لم يكونوا يعلمون بحديث الضرير؟ وقل نحو ذلك في توسل الضحاك بن قيس بيزيد هذا أيضاً.
ثم أجاب صاحب (المصباح) بجواب آخر، وتبعه من لم يوفق من المتعصبين المخالفين فقال:
(إن عمر أراد بالتوسل بالعباس الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في إكرام العباس وإجلاله، وقد جاء هذا صريحاً عن عمر، فروى الزبير بن بكار في (الأنساب) من طريق داود بن عطاء عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: (استسقى عمر ابن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب، فخطب عمر فقال: إن رسول صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد، فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، واتخذوه وسيلة إلى الله...) ورواه البلاذري من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه به .
والجواب من وجوه أيضاً:
الأول: عدم التسليم بصحة هذه الرواية، فإنها من طريق داود ابن عطاء وهو المدني، وهو ضعيف كما في (التقريب)، ومن طريق الزبير بن بكار عنه رواه الحاكم (3/334) وسكت عنه، وتعقبه الذهبي بقوله: (داود متروك) ... والراوي عنه ساعدة بن عبيدالله المزني لم أجد من ترجم له، ثم إن في السند اضطراباً، فقد رواه – كما رأيت – هشام بن سعد عن زيد بن أسلم فقال: (عن أبيه) بدل ابن عمر، لكن هشاماً أوثق من داود، إلا أننا لم نقف على سياقه، لننظر هل فيه مخالفة لسياق داود هذا أم لا؟ ولا تغتر بقولهم في (المصباح) عقب هذا الإسناد: (به) المفيد أن السياق واحد، فإن عمدته فيما نقله عن البلاذري إنما هو (فتح الباري) وهو لم يقل: (به). انظر (الفتح) (2/399).
الثاني: لو صحت هذه الرواية، فهي إنما تدل على السبب الذي من أجله توسل عمر بالعباس دون غيره من الصحابة الحاضرين حينذاك، وأما أن تدل على جواز الرغبة عن التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم - لو كان جائزاً عندهم – إلى التوسل بالعباس أي بذاته فكلا، ثم كلا، لأننا نعلم بالبداهة والضرورة – كما قال بعضهم – أنه لو أصاب جماعة من الناس قحط شديد، وأرادوا أن يتوسلوا بأحدهم لما أمكن أن يعدلوا عمن دعاؤه أقرب إلى الإجابة، وإلى رحمة الله سبحانه وتعالى، ولو أن إنساناً أصيب بمكروه فادح، وكان أمامه نبي، وآخر غير نبي، وأراد أن يطلب الدعاء من أحدهما لما طلبه إلا من النبي، ولو طلبه من غير النبي، وترك النبي لعد من الآثمين الجاهلين، فكيف يظن بعمر ومن معه من الصحابة أن يعدلوا عن التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بغيره، لو كان التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم جائزاً، فكيف وهو أفضل عند المخالفين من التوسل بدعاء العباس وغيره من الصالحين؟! لا سيما وقد تكرر ذلك منهم مراراً كما سبق، وهم لا يتوسلون به صلى الله عليه وسلم ولا مرة واحدة، واستمر الأمر كذلك، فلم ينقل عن أحد منهم خلاف ما صنع عمر، بل صح عن معاوية ومن معه ما يوافق صنيعه حيث توسلوا بدعاء يزيد بن الأسود، وهو تابعي جليل، فهل يصح أن يقال: إن التوسل به كان اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟!
الحق أقول: إن جريان عمل الصحابة على ترك التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم عند نزول الشدائد بهم.
– بعد أن كانوا لا يتوسلون بغيره صلى الله عليه وسلم في حياته – لهو أكبر الأدلة الواضحة على أن التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم غير مشروع، وإلا لنقل ذلك عنهم من طرق كثيرة في حوادث متعددة، ألا ترى إلى هؤلاء المخالفين كيف يلهجون بالتوسل بذاته صلى الله عليه وسلم لأدنى مناسبة لظنهم أنه مشروع، فلو كان الأمر كذلك لنُقِل مثله عن الصحابة، مع العلم أنهم أشد تعظيماً ومحبة له صلى الله عليه وسلم من هؤلاء، فكيف ولم يُنقل عنهم ذلك ولا مرة واحدة، بل صح عنهم الرغبة عنه إلى التوسل بدعاء الصالحين ؟!
الشبهة الثانية: حديث الضرير:
بعد أن فرغنا من تحقيق الكلام في حديث توسل عمر بالعباس رضي الله عنه، وبينا أنه ليس حجة للمخالفين بل هو عليهم، نشرع الآن في تحقيق القول في حديث الضرير، والنظر في معناه: هل هو حجة لهم أم عليهم أيضاً؟ فنقول:
أخرج أحمد وغيره بسند صحيح عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: ((إن شئت دعوت لك، وإن شئت أخّرتُ ذاك، فهو خير))، وفي رواية: - وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك -، فقال: ادعهُ. فأمره أن يتوضأ، فيحسن وضوءه، فيصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهتُ بك إلى ربي في حاجتي هذه، فتقضى لي، اللهم فشفِّعه فيَّ (وشفّعني فيه). قال: ففعل الرجل فبرأ .
يرى المخالفون: أن هذا الحديث يدل على جواز التوسل في الدعاء بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الصالحين، إذ فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الأعمى أن يتوسل به في دعائه، وقد فعل الأعمى ذلك فعاد بصيراً.
وأما نحن فنرى أن هذا الحديث لا حجة لهم فيه على التوسل المختلف فيه، وهو التوسل بالذات، بل هو دليل آخر على النوع الثالث من أنواع التوسل المشروع ...، لأن توسل الأعمى إنما كان بدعائه. والأدلة على ما نقول من الحديث نفسه كثيرة، وأهمها:
أولاً: أن الأعمى إنما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له، وذلك قوله: (ادعُ الله أن يعافيني) فهو توسل إلى الله تعالى بدعائه صلى الله عليه وسلم، لأنه يعلم أن دعاءه صلى الله عليه وسلم أرجى للقبول عند الله بخلاف دعاء غيره، ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه أو حقه لما كان ثمة حاجة به إلى أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ويطلب منه الدعاء له، بل كان يقعد في بيته، ويدعو ربه بأن يقول مثلاً:
(اللهم إني أسألك بجاه نبيك ومنزلته عندك أن يشفيني، وتجعلني بصيراً). ولكنه لم يفعل، لماذا؟ لأنه عربي يفهم معنى التوسل في لغة العرب حق الفهم، ويعرف أنه ليس كلمة يقولها صاحب الحاجة، يذكر فيها اسم الموسَّل به، بل لابد أن يشتمل على المجيء إلى من يعتقد فيه الصلاح والعلم بالكتاب والسنة، وطلب الدعاء منه له.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو الأفضل له، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
((إن شئت دعوتُ، وإن شئت صبرت فهو خير لك)). وهذا الأمر الثاني هو ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: ((إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه – أي عينيه – فصبر، عوضته منهما الجنة)) .
ثالثاً: إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله: (فادع) فهذا يقتضي أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له، لأنه صلى الله عليه وسلم خير من وفى بما وعد، وقد وعده بالدعاء له إن شاء كما سبق، فقد شاء الدعاء وأصر عليه، فإذن لا بد أنه صلى الله عليه وسلم دعا له، فثبت المراد، وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى بدافع من رحمته، وبحرص منه أن يستجيب الله تعالى دعاءه فيه، وجهه إلى النوع الثاني من التوسل المشروع، وهو التوسل بالعمل الصالح، ليجمع له الخير من أطرافه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو لنفسه وهذه الأعمال طاعة لله سبحانه وتعالى يقدمها بين يدي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، وهي تدخل في قوله تعالى:{وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [ المائدة: 35].
وهكذا فلم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بدعائه للأعمى الذي وعده به، بل شغله بأعمال فيها طاعة لله سبحانه وتعالى وقربة إليه، ليكون الأمر مكتملاً من جميع نواحيه، وأقرب إلى القبول والرضا من الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا، فالحادثة كلها تدور حول الدعاء – كما هو ظاهر – وليس فيها ذكر شيء مما يزعمون.
وقد غفل عن هذا الشيخ الغماري أو تغافل، فقال في (المصباح) (24): ((وإن شئتَ دعوتُ)). أي وإن شئت علمتك دعاء تدعو به، ولقنتك إياه، وهذا التأويل واجب ليتفق أول الحديث مع آخره).
... هذا التأويل باطل لوجوه كثيرة منها: أن الأعمى إنما طلب منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، لا أن يعلمه دعاء، فإذا كان قوله صلى الله عليه وسلم له: ((وإن شئت دعوت)) جواباً على طلبه تعين أنه الدعاء له، ولابد، وهذا المعنى هو الذي يتفق مع آخر الحديث، ولذلك رأينا الغماري لم يتعرض لتفسير قوله في آخره: ((اللهم فشفعه في، وشفعني فيه)) لأنه صريح في أن التوسل كان بدعائه صلى الله عليه وسلم ...
ثم قال: (ثم لو سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للضرير فذلك لا يمنع من تعميم الحديث في غيره).
... وهذه مغالطة مكشوفة، لأنه لا أحد ينكر تعميم الحديث في غير الأعمى في حالة دعائه صلى الله عليه وسلم لغيره، ولكن لما كان الدعاء منه صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى غير معلوم بالنسبة للمتوسلين في شتى الحوائج والرغبات، وكانوا هم أنفسهم لا يتوسلون بدعائه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، لذلك اختلف الحكم، وكان هذا التسليم من الغماري حجة عليه.
رابعاً: أن في الدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه أن يقول: ((اللهم فشفعه في)) وهذا يستحيل حمله على التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم، أو جاهه، أو حقه، إذ أن المعنى: اللهم اقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم في، أي اقبل دعائه في أن ترد عليَّ بصري، والشفاعة لغة الدعاء، وهو المراد بالشفاعة الثابتة له صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء والصالحين يوم القيامة، وهذا يبين أن الشفاعة أخص من الدعاء، إذ لا تكون إلا إذا كان هناك اثنان يطلبان أمراً، فيكون أحدهما شفيعاً للآخر، بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره، قال في (لسان العرب): (الشفاعة كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره، والشافع الطالب لغيره، يتشفع به إلى المطلوب، يقال: تشفعت بفلان إلى فلان، فشفعني فيه).
فثبت بهذا الوجه أيضاً أن توسل الأعمى إنما كان بدعائه صلى الله عليه وسلم لا بذاته.
خامساً: إن مما علم النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى أن يقوله: ((وشفعني فيه)) أي اقبل شفاعتي، أي دعائي في أن تقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم، أي دعاءه في أن ترد علي بصري. هذا الذي لا يمكن أن يفهم من هذه الجملة سواه.
ولهذا ترى المخالفين يتجاهلونها ولا يتعرضون لها من قريب أو من بعيد، لأنها تنسف بنيانهم من القواعد، وتجتثه من الجذور، وإذا سمعوها رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه. ذلك أن شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأعمى مفهومة، ولكن شفاعة الأعمى في الرسول صلى الله عليه وسلم كيف تكون؟ لا جواب لذلك عندهم البتة. ومما يدل على شعورهم بأن هذه الجملة تبطل تأويلاتهم أنك لا ترى واحداً منهم يستعملها، فيقول في دعائه مثلاً: اللهم شفع فيَّ نبيك، وشفعني فيه.
سادساً: إن هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب، وما أظهره الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه بدعائه صلى الله عليه وسلم لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره، ولذلك رواه المصنفون في (دلائل النبوة) كالبيهقي وغيره، فهذا يدل على أن السر في شفاء الأعمى إنما هو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. ويؤيده كل من دعا به من العميان مخلصاً إليه تعالى، منيباً إليه قد عوفي، بل على الأقل لعوفي واحد منهم، وهذا ما لم يكن ولعله لا يكون أبداً.
كما أنه لو كان السر في شفاء الأعمى أنه توسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم وقدره وحقه، كما يفهم عامة المتأخرين، لكان من المفروض أن يحصل هذا الشفاء لغيره من العميان الذين يتوسلون بجاهه صلى الله عليه وسلم، بل ويضمون إليه أحياناً جاه جميع الأنبياء المرسلين، وكل الأولياء والشهداء والصالحين، وجاه كل من له جاه عند الله من الملائكة، والإنس والجن أجمعين! ولم نعلم ولا نظن أحداً قد علم حصول مثل هذا خلال القرون الطويلة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم إلى اليوم.
إذا تبين للقارئ الكريم ما أوردناه من الوجوه الدالة على أن حديث الأعمى إنما يدور حول التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم، وأنه لا علاقة له بالتوسل بالذات، فحينئذ يتبين له أن قول الأعمى في دعائه: (اللهم إني أسألك، وأتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم) إنما المراد به: أتوسل إليك بدعاء نبيك، أي على حذف المضاف، وهذا أمر معروف في اللغة، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 82] أي أهل القرية وأصحاب العير. ونحن والمخالفون متفقون على ذلك، أي على تقدير مضاف محذوف، وهو مثل ما رأينا في دعاء عمر وتوسله بالعباس، فإما أن يكون التقدير: إني أتوجه إليك بـ (جاه) نبيك، ويا محمد إني توجهت بـ (ذات) ك أو (مكانت) ك إلى ربي كما يزعمون، وإما أن يكون التقدير: إني أتوجه إليك بـ (دعاء) نبيك، ويا محمد إني توجهت بـ (دعاء) ك إلى ربي كما هو قولنا. ولا بد لترجيح أحد التقديرين من دليل يدل عليه. فأما تقديرهم (بجاهه) فليس لهم عليه دليل لا من هذه الحديث ولا من غيره، إذ ليس في سياق الكلام ولا سباقه تصريح أو إشارة لذكر الجاه أو ما يدل عليه إطلاقاً، كما أنه ليس عندهم شيء من القرآن أو من السنة أو من فعل الصحابة يدل على التوسل بالجاه، فيبقى تقديرهم من غير مرجح، فسقط من الاعتبار، والحمد لله...
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وثمة أمر آخر جدير بالذكر، وهو أنه لو حمل حديث الضرير على ظاهره، وهو التوسل بالذات لكان معطلاً لقوله فيما بعد: (اللهم فشفعه في، وشفعني فيه) وهذا لا يجوز كما لا يخفى، فوجب التوفيق بين هذه الجملة والتي قبلها. وليس ذلك إلا على ما حملناه من أن التوسل كان بالدعاء، فثبت المراد، وبطل الاستدلال به على التوسل بالذات، والحمد لله.
على أنني أقول: لو صح أن الأعمى إنما توسل بذاته صلى الله عليه وسلم، فيكون حكماً خاصاً به صلى الله عليه وسلم، لا يشاركه فيه غيره من الأنبياء والصالحين، وإلحاقهم به مما لا يقبله النظر الصحيح، لأنه صلى الله عليه وسلم سيدهم وأفضلهم جميعاً، فيمكن أن يكون هذا مما خصه الله به عليهم كثير مما صح به الخبر، وباب الخصوصيات لا تدخل فيه القياسات، فمن رأى أن توسل الأعمى كان بذاته لله، فعليه أن يقف عنده، ولا يزيد عليه كما نقل عن الإمام أحمد والشيخ العز بن عبد السلام رحمهما الله تعالى. هذا هو الذي يقتضيه البحث العلمي مع الإنصاف، والله الموفق للصواب...
تنبيه:
واعلم أنه وقع في بعض الطرق الأخرى لحديث الضرير ... زيادتان لا بد من بيان شذوذهما وضعفهما، حتى يكون القارئ على بينة من أمرهما، فلا يغتر بقول من احتج بهما على خلاف الحق والصواب.
الزيادة الأولى:
زيادة حماد بن سلمة قال: حدثنا أبو جعفر الخطمي.. فساق إسناده مثل رواية شعبة، وكذلك المتن إلا أنه اختصره بعض الشيء، وزاد في آخره بعد قوله: ((وشفع نبيي في رد بصري: وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك)) رواه أبو بكر بن أبي خيثمة في (تاريخه)، فقال: حدثنا مسلم بن إبراهيم: حدثنا حماد بن سلمه به.
وقد أعلَّ هذه الزيادة شيخ الإسلام ابن تيمية في (القاعدة الجليلة) (ص102) بتفرد حماد بن سلمة بها، ومخالفته لرواية شعبة، وهو أجل من روى هذا الحديث وهذا إعلال يتفق مع القواعد الحديثية، ولا يخالفها البتة، وقول الغماري في (المصباح) (ص30) بأن حماداً ثقة من رجال الصحيح، وزيادة الثقة مقبولة، غفلة منه أو تغافل عما تقرر في المصطلح، أن القبول مشروط بما إذا لم يخالف الراوي من هو أوثق منه، قال الحافظ في (نخبة الفكر): (والزيادة مقبولة ما لم تقع منافية لمن هو أوثق، فإن خولف بأرجح، فالراجح المحفوظ، ومقابله الشاذ).
... وهذا الشرط مفقود هنا، فإن حماد بن سلمة، وإن كان من رجال مسلم، فهو
بلا شك دون شعبة في الحفظ، ويتبين لك ذلك بمراجعة ترجمة الرجلين في كتب القوم، فالأول أورده الذهبي في (الميزان) وهو إنما يورد فيه من تُكُلَّم فيه، ووصفه بأنه (ثقة له أوهام) بينما لم يورد فيه شعبة مطلقاً، ويظهر لك الفرق بينهما بالتأمل في ترجمة الحافظ لهما، فقد قال في (التقريب): (حماد بن سلمة ثقة عابد أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بآخره) ثم قال: (شعبة بن الحجاج ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال، وذب عن السنة، وكان عابداً).
... وإذا تبين لك هذا عرفت أن مخالفة حماد لشعبة في هذا الحديث وزيادته عليه تلك الزيادة غير مقبولة، لأنها منافية لمن هو أوثق منه فهي زيادة شاذة كما يشير إليه كلام الحافظ السابق في (النخبة) ولعل حماداً روى هذا الحديث حين تغير حفظه، فوقع في الخطأ، وكأن الإمام أحمد أشار إلى شذوذ هذه الزيادة، فإنه أخرج الحديث من طريق مؤمَّل (وهو ابن إسماعيل) عن حماد – عقب رواية شعبة المتقدمة – إلا أنه لم يسق لفظ الحديث، بل أحال به على لفظ حديث شعبة، فقال: (فذكر الحديث) ويحتمل أن الزيادة لم تقع في رواية مؤمل عن حماد، لذلك لم يشر إليها الإمام أحمد كما هي عادة الحفاظ إذا أحالوا في رواية على أخرى بينوا ما في الرواية المحالة من الزيادة على الأولى.
وخلاصة القول: إن الزيادة لا تصح لشذوذها، ولو صحت لم تكن دليلاً على جواز التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم، لاحتمال أن يكون معنى قوله: ((فافعل مثل ذلك)) يعني من إتيانه صلى الله عليه وسلم في حال حياته، وطلب الدعاء منه والتوسل به، والتوضؤ والصلاة، والدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو به. والله أعلم.
الزيادة الثانية:
قصة الرجل مع عثمان بن عفان، وتوسله به صلى الله عليه وسلم حتى قضى له حاجته، وأخرجها الطبراني في (المعجم الصغير) (ص103-104) وفي (الكبير) (3/2/1/1-2) من طريق عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته فلقي عثمان بن حنيف، فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان: ائت الميضأة، فتوضأ، ثم ائت المسجد، فصل فيه ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك عز وجل، فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك، ورح إليَّ حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال، ثم أتى باب عثمان رضي الله عنه فجاء البواب حتى أخذ بيده، فأدخله عليه، فأجلسه معه على الطنفسة، وقال: حاجتك؟ فذكر حاجته، فقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فأتنا، ثم إن الرجل خرج من عنده، فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي، ولا يلتفت إلي حتى كلمته في، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير، فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فتصبر، فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد، وقد شق علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ائت الميضأة، فتوضأ ثم صلِّ ركعتين، ثم ادعُ بهذه الدعوات)) قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا، وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط. قال الطبراني: (لم يروه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي وهو ثقة، وهو الذي يحدث عنه أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي، وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي – واسمه عمير بن يزيد – وهو ثقة تفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة، والحديث صحيح).
... لا شك في صحة الحديث، وإنما البحث الآن في هذه القصة التي تفرد بها شبيب بن سعيد كما قال الطبراني، وشبيب هذا متكلم فيه، وخاصة في رواية ابن وهب عنه، لكن تابعه عنه إسماعيل وأحمد ابنا شبيب بن سعيد هذا، أما إسماعيل فلا أعرفه، ولم أجد من ذكره، ولقد أغفلوه حتى لم يذكروه في الرواة عن أبيه، بخلاف أخيه أحمد فإنه صدوق، وأما أبوه شبيب فملخص كلامهم فيه: أنه ثقة في حفظه ضعف، إلا في رواية ابنه أحمد هذا عنه عن يونس خاصة فهو حجة، فقال الذهبي في (الميزان): (صدوق يغرب، ذكره ابن عدي في (كامله) فقال..له نسخة عن يونس بن يزيد مستقيمة، حدث عنه ابن وهب بمناكير، قال ابن المديني: كان يختلف في تجارة إلى مصر، وكتابه صحيح قد كتبته عن ابنه أحمد. قال ابن عدي: كان شبيب لعله يغلط ويهم إذا حدث من حفظه، وأرجو أنه لا يتعمد، فإذا حدث عنه ابنه أحمد بأحاديث يونس فكأنه يونس آخر. يعني يجوَّد).
فهذا الكلام يفيد أن شبيباً هذا لا بأس بحديثه بشرطين اثنين: الأول: أن يكون من رواية ابنه أحمد عنه، والثاني: أن يكون من رواية شبيب عن يونس، والسبب في ذلك أنه كان عنده كتب يونس بن يزيد، كما قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) عن أبيه، فهو إذا حدث من كتبه هذه أجاد، وإذا حدث من حفظه وهم كما قال ابن عدي، وعلى هذا فقول الحافظ في ترجمته من (التقريب): (لا بأس بحديثه من رواية ابنه أحمد عنه، لا من رواية ابن وهب) فيه نظر، لأنه أوهم أنه لا بأس بحديثه من رواية أحمد مطلقاً، وليس كذلك، بل هذا مقيد بأن يكون من روايته هو عن يونس لما سبق، ويؤيده أن الحافظ نفسه أشار لهذا القيد، فإنه أورد شبيباً هذا في (من طعن فيه من رجال البخاري) من (مقدمة فتح الباري) (ص133) ثم دفع الطعن عنه – بعد أن ذكر من وثقه وقول ابن عدي فيه – بقوله: (قلت: أخرج البخاري من رواية ابنه عنه عن يونس أحاديث، ولم يخرج من روايته عن غير يونس، ولا من رواية ابن وهب عنه شيئاً).
فقد أشار رحمه الله بهذا الكلام إلى أن الطعن قائم في شبيب إذا كانت روايته عن غير يونس، ولو من رواية ابنه أحمد عنه، وهذا هو الصواب كما بينته آنفاً، وعليه يجب أن يحمل كلامه في (التقريب) توفيقاً بين كلاميه، ودفعاً للتعارض بينهما.
إذا تبين هذا يظهر لك ضعف هذه القصة، وعدم صلاحية الاحتجاج بها. ثم ظهر لي فيها علة أخرى وهي الاختلاف على أحمد فيها، فقد أخرج الحديث ابن السني في (عمل اليوم والليلة) (ص202) والحاكم (1/526) من ثلاثة طرق عن أحمد بن شبيب بدون القصة، وكذلك رواه عون بن عمارة البصري ثنا روح ابن القاسم به، أخرجه الحاكم، وعون هذا وإن كان ضعيفاً، فروايته أولى من رواية شبيب، لموافقتها لرواية شعبة وحماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي.
وخلاصة القول: إن هذه القصة ضعيفة منكرة، لأمور ثلاثة:
ضعف حفظ المتفرد بها، والاختلاف عليه فيها، ومخالفته للثقات الذين لم يذكروها في الحديث، وأمر واحد من هذه الأمور كاف لإسقاط هذه القصة، فكيف بها مجتمعة؟ ومن عجائب التعصب واتباع الهوى أن الشيخ الغماري أورد روايات هذه القصة في (المصباح) (ص12و17) من طريق البيهقي في (الدلائل) والطبراني، ثم لم يتكلم عليها مطلقاً لا تصحيحاً ولا تضعيفاً، والسبب واضح، أما التصحيح فغير ممكن صناعة، وأما التضعيف فهو الحق ولكن, ونحو ذلك فعل من لم يوفق في (الإصابة)، فإنهم أوردوا (ص21-22) الحديث بهذه القصة، ثم قالوا: (وهذا الحديث صححه الطبراني في (الصغير) و (الكبير)!
وفي هذا القول على صغره جهالات:
أولاً: أن الطبراني لم يصحح الحديث في (الكبير) بل في (الصغير) فقط، وأنا نقلت الحديث عنه للقارئين مباشرة، لا بالواسطة كما يفعل أولئك، لقصر باعهم في هذا العلم الشريف (ومن ورد البحر استقل السواقيا).
ثانياً: أن الطبراني إنما صحح الحديث فقط دون القصة، بدليل قوله ... (قد روى الحديث شعبة...والحديث صحيح) فهذا نص على أنه أراد حديث شعبة، وشعبة لم يرو هذه القصة، فلم يصححها إذن الطبراني، فلا حجة لهم في كلامه.
ثالتاً: أن عثمان بن حنيف لو ثبتت عنه القصة لم يُعَلِّم ذلك الرجل فيها دعاء الضرير بتمامه، فإنه أسقط منه جملة ((اللهم شفعه في وشفعني فيه)) لأنه يفهم بسليقته العربية أن هذا القول يستلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داعياً لذلك الرجل، كما كان داعياً للأعمى، ولما كان هذا منفياً بالنسبة للرجل، لم يذكر هذه الجملة؟ قال شيخ الإسلام (ص104): (ومعلوم أن الواحد بعد موته صلى الله عليه وسلم إذا قال: اللهم فشفعه في وشفعني فيه – مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعُ له – كان هذا كلاماً باطلاً، مع أن عثمان بن حنيف لم يأمره أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا أن يقول: (فشفعه في)، ولم يأمره بالدعاء المأثور على وجهه، وإنما أمره ببعضه، وليس هناك من النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة، ولا ما يظن أنه شفاعة، فلو قال بعد موته: (فشفعه في) لكان كلاماً لا معنى له، ولهذا لم يأمر به عثمان، والدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به، والذي أمر به ليس مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا لا تثبت به شريعة، كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في حسن العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات، إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه، وكان ما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم يخالفه ولا يوافقه، لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها، بل غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، ومما تنازعت فيه الأمة، فيجب رده إلى الله والرسول).
ثم ذكر أمثلة كثيرة مما تفرد به بعض الصحابة، ولم يتبع عليه مثل إدخال ابن عمر الماء في عينيه في الوضوء، ونحو ذلك فراجعه.
ثم قال: وإذا كان في ذلك كذلك، فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داعياً له، ولا شافعاً فيه فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعاً بعد مماته كما كان يشرع في حياته، بل كانوا في الاستسقاء في حياته صلى الله عليه وسلم يتوسلون فلما مات لم يتوسلوا به، بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهور، لما اشتد بهم الجدب حتى حلف عمر: لا يأكل سميناً حتى يخصب الناس، ثم لما استسقى بالناس قال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. فيسقون. وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة، ولم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، ودعا بمثله معاوية بن أبي سفيان في خلافته، فلو كان توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته كتوسلهم في حياته لقالوا: كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما، ونعدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلائق، وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند الله؟ فلما لم يقل ذلك أحد منهم، وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته، وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره، وشفاعة غيره، علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به، لا بذاته).
هذا، وفي القصة جملة إذا تأمل فيها العاقل العارف بفضائل الصحابة وجدها من الأدلة الأخرى على نكارتها وضعفها، وهي أن الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه كان لا ينظر في حاجة ذلك الرجل، ولا يلتفت إليه! فكيف يتفق هذا مع ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تستحي من عثمان، ومع ما عرف به رضي الله عنه من رفقه بالناس، وبره بهم، ولينه معهم؟ هذا كله يجعلنا نستبعد وقوع ذلك منه، لأنه ظلم يتنافى مع كماله رضي الله عنه وأرضاه.
الشبهة الثالثة: قياس الخالق على المخلوقين:
يقول المخالفون، إن التوسل بذوات الصالحين وأقدارهم أمر مطلوب وجائز، لأنه مبني على منطق الواقع ومتطلباته، ذلك أن أحدنا إذا كانت له حاجة عند ملك أو وزير أو مسؤول كبير فهو لا يذهب إليه مباشرة، لأنه يشعر أنه ربما لا يلتفت إليه، هذا إذا لم يرده أصلاً، ولذلك كان من الطبيعي إذا أردنا حاجة من كبير فإننا نبحث عمن يعرفه، ويكون مقرباً إليه أثيراً عنده، ونجعله واسطة بيننا وبينه، فإذا فعلنا ذلك استجاب لنا، وقضيت حاجتنا، وهكذا الأمر نفسه في علاقتنا بالله سبحانه – بزعمهم – فالله عز وجل عظيم العظماء، وكبير الكبراء، ونحن مذنبون عصاة، وبعيدون لذلك عن جناب الله، ليس من اللائق بنا أن ندعوه مباشرة، لأننا إن فعلنا ذلك خفنا أن يردنا على أعقابنا خائبين، أو لا يلتفت إلينا فنرجع بخفي حنين، وهناك ناس صالحون كالأنبياء والرسل والشهداء قريبون إليه سبحانه، يستجيب لهم إذا دعوه، ويقبل شفاعتهم إذا شفعوا لديه، أفلا يكون الأولى بنا والأحرى أن نتوسل إليه بجاههم، ونقدم بين يدي دعائنا ذكرهم، عسى أن ينظر الله تعالى إلينا إكراماً لهم، ويجيب دعاءنا مراعاة لخاطرهم، فلماذا تمنعون هذا النوع من التوسل، والبشر يستعملونه فيما بينهم، فلم لا يستعملونه مع ربهم ومعبودهم؟
ونقول جواباً على هذه الشبهة: إنكم يا هؤلاء إذاً تقيسون الخالق على المخلوق، وتشبهون قيوم السماوات والأرض، أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، الرؤوف الرحيم بأولئك الحكام الظالمين، والمتسلطين المتجبرين الذين لا يأبهون لمصالح الرعية، ويجعلون بينهم وبين الرعية حجباً وأستاراً، فلا يمكنها أن تصل إليهم إلا بوسائط ووسائل، ترضي هذه الوسائط بالرشاوي والهبات، وتخضع لها وتتذلل، وتترضاها وتتقرب إليها، فهل خطر ببالكم أيها المساكين أنكم حين تفعلون ذلك تذمون ربكم، وتطعنون به، وتؤذونه، وتصفونه بما يمقته وما يكرهه؟ هل خطر ببالكم أنكم تصفون الله تعالى بأبشع الصفات حين تقيسونه على الحكام الظلمة، والمتسلطين الفجرة، فكيف يسوِّغ هذا لكم دينكم، وكيف يتفق هذا مع ما يجب عليكم من تعظيمكم لربكم، وتمجيدكم لخالقكم؟
ترى لو كان يمكن لأحد الناس أن يخاطب الحاكم وجهاً لوجه، ويكلمه دون واسطة أو حجاب أيكون ذلك أكمل وأمدح له، أم حين لا يتمكن من مخاطبته إلا من خلال وسائط قد تطول وقد تقصر؟
يا هؤلاء إنكم تفخرون في أحاديثكم بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وتمجدونه وتشيدون به وتبينون للناس أنه كان متواضعاً لا يتكبر ولا يتجبر، وكان قريباً من الناس، يتمكن أضعفهم من لقائه ومخاطبته، وأنه كان يأتيه الأعرابي الجاهل الفظ من البادية، فيكلمه دون واسطة أو حجاب، فينظر في حاجته ويقضيها له إن كانت حقاً. ترى هل هذا النوع من الحكام خير وأفضل، أم ذاك النوع الذي تضربون لربكم به الأمثال؟
فما لكم كيف تحكمون؟ وما لعقولكم أين ذهبت، وما لتفكيركم أين غاب، وكيف ساغ لكم تشبيه الله تعالى بالملك الظالم، أم كيف غطى عنكم الشيطان بشاعة قياس الله سبحانه على الأمير الغاشم؟
يا هؤلاء إنكم لو شبهتم الله تعالى بأعدل الناس وأتقى الناس، وأصلح الناس لكفرتم، فكيف وقد شبهتموه بأظلم الناس، وأفجر الناس، وأخبث الناس؟
يا هؤلاء إنكم لو قستم ربكم الجليل على عمر بن الخطاب التقي العادل لوقعتم في الشرك، فكيف تردى بكم الشيطان، فلم ترضوا بذلك حتى أوقعكم في قياس ربكم على أهل الجور والفساد من الملوك والأمراء والوزراء؟
إن تشبيه الله تعالى بخلقه كفر كله حذر منه سبحانه حيث قال:{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة النحل:73- 74] كما نفى سبحانه أي مشابهة بينه وبين أي خلق من مخلوقاته فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [سورة الشورى: 11]. ولكن شر تشبيه أن يشبهه المرء بالأشرار والفجار والفساق من الولاة، وهو يظن أنه يحسن صنعاً ! إن هذا هو الذي يحمل بعض العلماء والمحققين على المبالغة في إنكار التوسل بذوات الأنبياء، واعتباره شركاً، وإن كان هو نفسه ليس شركاً عندنا، بل يخشى أن يؤدي إلى الشرك، وقد أدى فعلاً بأولئك الذين يعتذرون لتوسلهم بذلك التشبيه السابق الذي هو الكفر بعينه لو كانوا يعلمون.
ومن هنا يتبين أن قول بعض الدعاة الإسلاميين اليوم في الأصل الخامس عشر من أصوله العشرين: (والدعاء إذا قُرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء، وليس من مسائل العقيدة) ليس صحيحاً على إطلاقه لما علمت أن في الواقع ما يشهد بأنه خلاف جوهري، إذ فيه شرك صريح ... ولعل مثل هذا القول الذي يهوِّن من أمر هذا الانحراف هو أحد الأسباب التي تدفع الكثيرين إلى عدم البحث فيه، وتحقيق الصواب في أمره، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى استمرار المبتدعين في بدعهم، واستفحال خطرها بينهم، ولذلك قال الإمام العز بن عبد السلام في رسالة (الواسطة) (ص5): (ومن أثبت الأنبياء وسواهم من مشايخ العلم والدين وسائط بين الله وبين خلقه كالحجَّاب الذين بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله تعالى حوائج خلقه، وأن الله تعالى إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملك حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، ولأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطلب، فمن أثبتهم وسائط على هذ الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء مشبَّهون لله، شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أنداداً...).
الشبهة الرابعة: هل هناك مانع من التوسل المبتدع على وجه الإباحة لا استحباب؟
قد يقول القائل: صحيح أنه لم يثبت في السنة ما يدل على استحباب التوسل بذوات الأنبياء والصالحين، ولكن ما المانع منه إذا فعلناه على طريق الإباحة، لأنه لم يأتِ نهي عنه؟
فأقول: هذه شبهة طالما سمعناها ممن يريد أن يتخذ موقفاً وسطاً بين الفريقين لكي يرضي كلاً منهما، وينجو من حملاتهما عليه! والجواب: يجب أن لا ننسى في هذا المقام معنى الوسيلة إذ هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود ...
ولا يخفى أن الذي يراد التوصل إليه إما أن يكون دينياً، أو دنيوياً، وعلى الأول لا يمكن معرفة الوسيلة التي توصل إلى الأمر الديني إلا من طريق شرعي، فلو ادعى رجل أن توسله إلى الله تعالى بآية من آياته الكونية العظيمة كالليل والنهار مثلاً سبب لاستجابة الدعاء لرد عليه ذلك إلا أن يأتي بدليل، ولا يمكن أن يقال حينئذ بإباحة هذا التوسل، لأنه كلام ينقض بعضه بعضاً، أنك تسميه توسلاً، وهذا لم يثبت شرعاً، وليس له طريق آخر في إثباته، وهذا بخلاف القسم الثاني من القسمين المذكورين وهو الدنيوي، فإن أسبابه يمكن أن تعرف بالعقل أو بالعلم أو بالتجربة ونحو ذلك، مثل الرجل يتاجر ببيع الخمر، فهذا سبب معروف للحصول على المال، فهو وسيلة لتحقيق المقصود وهو المال، ولكن هذه الوسيلة نهى الله عنها، فلا يجوز اتباعها بخلاف ما لو تاجر بسبب لم يحرمه الله عز وجل، فهو مباح، أما السبب المدعى أن يقرب إلى الله وأنه أرجى في قبوله الدعاء، فهذا سبب لا يعرف إلا بطريق الشرع، فحين يقال: بأن الشرع لم يرد بذلك، لم يجز تسميته وسيلة حتى يمكن أن يقال إنه مباح التوسل به،. ......
وشيء ثان: وهو أن التوسل الذي سلمنا بعدم وروده قد جاء في الشرع ما يغني عنه، وهو التوسلات الثلاثة التي سبق ذكرها في أول البحث، فما الذي يحمل المسلم على اختيار هذا التوسل الذي لم يرد، والإعراض عن التوسل الذي ورد؟ وقد اتفق العلماء على أن البدعة إذا صادمت سنة فهي بدعة ضلالة اتفاقاً، وهذا التوسل من هذا القبيل، فلم يجز التوسل به، ولو على طريق الإباحة دون الاستحباب!.
وأمر ثالث: وهو أن هذا التوسل بالذوات يشبه توسل الناس ببعض المقربين إلى الملوك
والحكام، والله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء باعتراف المتوسلين بذلك، فإذا توسل المسلم إليه تعالى بالأشخاص فقد شبهه عملاً بأولئك الملوك والحكام كما سبق بيانه، وهذا غير جائز.
الشبهة الخامسة: قياس التوسل بالذات على التوسل بالعمل الصالح
هذه شبهة أخرى يثيرها بعض أولئك المبتدعين زينها لهم الشيطان، ولقنهم إياها حيث يقولون: قد قدمتم أن من التوسل المشروع اتفاقاً التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح، فإذا كان التوسل بهذا جائزاً فالتوسل بالرجل الصالح الذي صدر منه هذا العمل أولى بالجواز، وأحرى بالمشروعية، فلا ينبغي إنكاره.
والجواب من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا قياس، والقياس في العبادات باطل كما تقدم (ص130)، وما مثل من يقول هذا القول إلا كمثل من يقول: إذا جاز توسل المتوسل بعمله الصالح – وهو بلا شك دون عمل الولي والنبي – جاز أن يتوسل بعمل النبي والولي، وهذا وما لزم منه باطل فهو باطل.
الوجه الثاني: أن هذه مغالطة مكشوفة، لأننا لم نقل – كما لم يقل أحد من السلف قبلنا – أنه يجوز للمسلم أن يتوسل بعمل غيره الصالح، وإنما التوسل المشار إليه إنما هو التوسل بعمل المتوسل الصالح نفسه، فإذا تبين هذا قلبنا عليهم كلامهم السابق فقلنا: إذا كان لا يجوز التوسل بالعمل الصالح الذي صدر من غير الداعي فأولى ثم أولى ألا يجوز التوسل بذاته، وهذا بين لا يخفى والحمد لله.
توجيه بعض ما استدل به المبتدعون من جواز التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم مع بيان خطئهم في الاستدلال:
- حديث الأعمى الذي صححه الترمذي ((أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يدعو الله أن يرد بصره عليه، فأمره أن يتوضأ فيصلي ركعتين ويقول: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، يا نبي الله، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضيها، اللهم فشفعه في فدعا الله، فرد الله عليه بصره)) .
والجواب عن هذا أن يقال:
أولاً: لا ريب أن الله جعل على نفسه حقاً لعباده المؤمنين، كما قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47], وكما قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [ الأنعام: 54] وفي (الصحيحين): ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل وهو رديفه: يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم)) فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق.
وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا: هل يوجب بنفسه على نفسه؟ على قولين. ومن جوز ذلك احتج بقوله سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [ الأنعام: 54], وبقوله في الحديث الصحيح: ((إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)) والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر.
- حديث أبي سعيد: ((أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا)) , فهذا الحديث رواه عطية العوفي، وفيه ضعف. لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب، فإن حق السائلين عليه سبحانه، أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له، والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته فهو من التوسل به، والتوجه به، والتسبب به، ولو قدر أنه قسم لكان قسما بما هو من صفاته لأن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله. فصار هذا كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)).
ومن هذا الباب: ما يروى عن عبد الله بن جعفر أنه قال: (كنت إذا سألت عليا رضي الله عنه شيئا فلم يعطنيه قلت له: بحق جعفر إلا ما أعطيتنيه فيعطينيه) أو كما قال. فإن بعض الناس ظن أن هذا من باب الإقسام عليه بجعفر، أو من باب قولهم: أسألك بحق أنبيائك، ونحو ذلك. وليس كذلك، بل جعفر هو أخو علي، وعبد الله هو ابنه، وله عليه حق الصلة، فصلة عبد الله صلة لأبيه جعفر، كما في الحديث: ((إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي)) , ولو كان هذا من الباب الذي ظنوه لكان سؤاله لعلي بحق النبي وإبراهيم الخليل ونحوهما، أولى من سؤاله بحق جعفر، فكان علي إلى تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته وإجابة السائل به أسرع منه إلى إجابة السائل بغيره، لكن بين المعنيين فرق. فإن السائل بالنبي، طالب به متسبب به، فإن لم يكن في ذلك السبب ما يقتضي حصول مطلوبه، ولا كان مما يقسم به لكان باطلا.
وإقسام الإنسان على غيره بشيء يكون من باب تعظيم المقسم للمقسم به، وهذا هو الذي جاء به الحديث من الأمر بإبرار القسم، وفي مثل هذا قيل: ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)) , وقد يكون من باب تعظيم المسؤول به. فالأول يشبه ما ذكره الفقهاء في الحلف الذي يقصد به الحض والمنع. والثاني: سؤال للمسؤول بما عنده من محبة المسؤول به وتعظيمه ورعاية حقه.
فإن كان ذلك مما يقتضي حصول مقصود السائل حسن السؤال، كسؤال الإنسان بالرحم. وفي هذا سؤال الله بالأعمال الصالحة، وبدعاء أنبيائه وشفاعتهم.
وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه، فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، وهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: ((اللهم شَفِّعْه فيَّ)) ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك مما يعد من آيات النبي صلى الله عليه وسلم. ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدْعُ لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله .
- ما روي عن مالك في هذا وجوابه
ثم ذكر حكاية بإسناد غريب منقطع رواها عن غير واحد إجازة، قالوا: حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر بن دلهات قال: حدثنا أبو الحسن علي بن فهر، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرح، ثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب، ثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل، ثنا ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله أدب قوماً فقال {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] الآية، ومدح قوماً فقال {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [الحجرات: 3] الآية، وذم قوماً فقال {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات: 4] الآية، وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً. فاستكان لها أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة وأدعو؟ أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله، قال الله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]: .
... وهذه الحكاية منقطعة؛ فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكاً لا سيما في زمن أبي جعفر المنصور، فإن أبا جعفر توفي بمكة سنة ثمان وخمسين ومائة، وتوفي مالك سنة تسع وسبعين ومائة، وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة ثمان وأربعين ومائتين ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه . وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث، كذَّبه أبو زرعة وابن وارة . وقال صالح بن محمد الأسدي : ما رأيت أحدًا أجرأ على الله منه وأحذق بالكذب منه . وقال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير . وقال النسائي: ليس بثقة . وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالمقلوبات .
وآخر من روى (الموطأ) عن مالك هو أبو مصعب وتوفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين. وآخر من روى عن مالك على الإطلاق هو أبو حذيفة أحمد ابن إسماعيل السهمي توفي سنة تسع وخمسين ومائتين.
وفي الإسناد أيضاً من لا يعرف حاله .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وهذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه، ومحمد بن حميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند، فكيف إذا أرسل حكاية لا تعرف إلا من جهته! .
هذا إن ثبتت عنه، وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له في مسألة في الفقه، بل إذا روى عنه الشاميون كالوليد بن مسلم ومروان بن محمد الطاطري ضعفوا رواية هؤلاء، وإنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين، فكيف بحكاية تناقض مذهبه المعروف عنه من وجوه رواها واحد من الخراسانيين لم يدركه وهو ضعيف عند أهل الحديث!.
مع أن قوله: (وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة). إنما يدل على توسل آدم وذريته به يوم القيامة ...
كما جاءت به الأحاديث الصحيحة حين يأتي الناس يوم القيامة آدم ليشفع لهم، فيردّهم آدم إلى نوح، ثم يردهم نوح إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى عيسى، ويردهم عيسى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كما قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر)) .
ولكنها مناقضة لمذهب مالك المعروف من وجوه:
أحدها، قوله: (أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله وأدعو!) فقال: (ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم)؛ فإن المعروف عن مالك وغيره من الأئمة وسائر السلف من الصحابة والتابعين أن الداعي إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة ويدعو في مسجده، ولا يستقبل القبر ويدعو لنفسه، بل إنما يستقبل القبر عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء له. هذا قول أكثر العلماء كمالك في إحدى الروايتين والشافعي وأحمد وغيرهم... ومما يوهن هذه الحكاية أنه قال فيها: "ولم تصرفُ وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة". إنما يدل على أنه يوم القيامة يتوسل الناس بشفاعته، وهذا حق كما تواترت به الأحاديث، لكن إذا كان الناس يتوسلون بدعائه وشفاعته يوم القيامة، كما كان أصحابه يتوسلون بدعائه وشفاعته في حياته، فإنما ذاك طلب لدعائه وشفاعته، فنظير هذا - لو كانت الحكاية صحيحة - أن يطلب منه الدعاء والشفاعة في الدنيا عند قبره.
ومعلوم أن هذا لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ولا سَنَّهُ لأمته، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين لا مالك ولا غيره من الأئمة، فكيف يجوز أن ينسب إلى مالك مثل هذا الكلام الذي لا يقوله إلا جاهل لا يعرف الأدلة الشرعية ولا الأحكام المعلومة بأدلتها الشرعية، مع علو قدر مالك وعظم فضيلته وإمامته، وتمام رغبته في اتباع السنة وذم البدع وأهلها؟ وهل يأمر بهذا أو يشرعه إلا مبتدع؟ فلو لم يكن عن مالك قول يناقض هذا لعلم أنه لا يقول مثل هذا.
ثم قال في الحكاية: "استقبله واستشفع به فيشفعك الله". والاستشفاع به معناه في اللغة؛ أن يطلب منه الشفاعة كما يستشفع الناس به يوم القيامة، وكما كان أصحابه يستشفعون به.
ومنه الحديث الذي في (السنن) ((أن أعرابياً قال: يا رسول الله! جهدت الأنفس وجاع العيال، وهلك المال، فادْعُ الله لنا فإنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله. فسبح رسول الله حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال: ويحك أتدري ما تقول؟ شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه)).
وذكر تمام الحديث فأنكر قوله: "نستشفع بالله عليك". ومعلوم أنه لا ينكر أن يُسأل المخلوق بالله أو يقسم عليه بالله، وإنما أن يكون الله شافعاً إلى المخلوق، ولهذا لم ينكر قوله: "نستشفع بك على الله"؛ فإنه هو الشافع المشفع.
وهم – لو كانت الحكاية صحيحة – إنما يجيئون إليه لأجل طلب شفاعته صلى الله عليه وسلم ولهذا قال في تمام الحكاية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} [النساء: 64] الآية، وهؤلاء إذا شرع لهم أن يطلبوا منه الشفاعة والاستغفار بعد موته فإذا أجابهم فإنه يستغفر لهم، واستغفاره لهم دعاء منه وشفاعة أن يغفر الله لهم.
وإذا كان الاستشفاع منه طلب شفاعته، فإنما يقال في ذلك: (استشفعْ به فيشفعه الله فيك) لا يقال: فيشفعك الله فيه وهذا معروف الكلام، ولغة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر العلماء، يقال: شفع فلان في فلان فشفع فيه. فالمشفع الذي يشفعه المشفوع إليه هو الشفيع المستشفع به، لا السائل الطالب من غيره أن يشفع له، فإن هذا ليس هو الذي يشفع، فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الشفيع المشفع، ليس المشفع الذي يستشفع به. ولهذا يقول في دعائه: يا رب شفعني، فيشفعه الله فيطلب من الله سبحانه أن يشفعه لا أن يشفع طالبي شفاعته، فكيف يقول: واستشفع به فيشفعك الله؟.
وأيضاً فإنَّ طلب شفاعته ودعائه واستغفاره بعد موته وعند قبره ليس مشروعاً عند أحد من أئمة المسلمين، ولا ذكر هذا أحد من الأئمة الأربعة وأصحابهم القدماء، وإنما ذكر هذا بعض المتأخرين

ثالثا: أحاديث وآثار ضعيفة في التوسل
يحتج مجيزو التوسل المبتدع بأحاديث كثيرة، إذا تأملناها نجدها تندرج تحت نوعين اثنين، الأول ثابت بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يدل على مرادهم، ولا يؤيد رأيهم كحديث الضرير، وقد تقدم الكلام على هذا النوع.
والنوع الثاني غير ثابت النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضه يدل على مرادهم، وبعضه لا يدل، وهذه الأحاديث التي لا تصح كثيرة، فأكتفي بذكر ما اشتهر منها، فأقول:
الحديث الأول:
عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً ((من خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً...أقبل الله عليه بوجهه)) .
رواه أحمد (3/21) واللفظ له، وابن ماجه، وانظر تخريجه مفصلاً في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) (رقم 24). وإسناده ضعيف لأنه من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري، وعطية ضعيف كما قال النووي في (الأذكار) وابن تيمية في (القاعدة الجليلة) والذهبي في (الميزان) بل قال في (الضعفاء) (88/1): (مجمع على ضعفه)، والحافظ الهيثمي في غير موضع من (مجمع الزوائد) منها (5/236) وأورده أبو بكر بن المحب البعلبكي في (الضعفاء والمتروكين)، والبوصيري كما يأتي، وكذا الحافظ ابن حجر بقوله فيه: (صدوق يخطئ كثيراً، كان شيعياً مدلساً، وقد أبان فيه عن سبب ضعفه وهو أمران:
الأول: ضعف حفظه بقوله: (يخطئ كثيراً، وهذا كقوله فيه (طبقات المدلسين): (ضعيف الحفظ) وأصرح منه قوله في (تلخيص الحبير) (ص241 طبع الهند) وقد ذكر حديثاً آخر: (وفيه عطية بن سعيد العوفي وهو ضعيف).
الثاني: تدليسه، لكن كان على الحافظ أن يبين نوع تدليسه، فإن التدليس عند المحدثين على أقسام كثيرة من أشهرها ما يلي:
الأول: أن يروي الراوي عمن لقيه ما لم يسمعه منه، أو عمن عاصره ولم يلقه، موهماً أنه سمعه منه، كأن يقول: عن فلان، أو قال فلان.
الثاني: أن يأتي الراوي باسم شيخه أو لقبه على خلاف المشهور به تعمية لأمره، وقد صرحوا بتحريم هذا النوع إذا كان شيخه غير ثقة، فدلسه لئلا يعرف حاله، أو أوهم أنه رجل آخر من الثقات على وفق اسمه أو كنيته، وهذا يعرف عندهم بتدليس الشيوخ.
... وتدليس عطية من هذا النوع المحرم، كما كنت بينته في كتابي (الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة).
وخلاصة ذلك أن عطية هذا كان يروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، فلما مات جالس أحد الكذابين المعروفين، بالكذب في الحديث وهو الكلبي، فكان عطية إذا روى عنه كناه أبا سعيد، فيتوهم السامعون منه أنه يريد أبا سعيد الخدري! وهذا وحده عندي يسقط عدالة عطية هذا، فكيف إذا انضم إلى ذلك سوء حفظه! ولهذا كنت أحب للحافظ رحمه الله أن ينبه على أن تدليس عطية من هذا النوع الفاحش، ولو بالإشارة كما فعل في (طبقات المدلسين) إذ قال: (مشهور بالتدليس القبيح) ...
ثم كأن الحافظ نسي أو وهم – أو غير ذلك من الأسباب التي تعرض للبشر – فقال في تخريجه لهذا الحديث: إن عطية قال في رواية: حدثني أبو سعيد. قال: (فأمن بذلك تدليس عطية) كما نقله ابن علان عنه، وقلده في ذلك بعض المعاصرين.
... والتصريح بالسماع إنما يفيد إذا كان التدليس من النوع الأول، وتدليس عطية من النوع الآخر القبيح، فلا يفيد فيه ذلك، لأنه في هذه الرواية أيضاً قال: (حدثني أبو سعيد) فهذا هو عين التدليس القبيح.
فتبين مما سبق أن عطية ضعيف لسوء حفظه وتدليسه الفاحش، فكان حديثه هذا ضعيفاً، وأما تحسين الحافظ له الذي اغتر به من لا علم عنده فهو بناء على سهوه السابق، فتنبه ولا تكن من الغافلين. وفي الحديث علل أخرى تكلمت عليها في الكتاب المشار إليه سابقاً، فلا حاجة للإعادة، فليرجع إليه من شاء الزيادة.
وأما فهم بعض المعاصرين من عبارة الحافظ ابن حجر السابقة في (التقريب) أنها تفيد توثيق عطية هذا ففهم لا يغبطون عليه، وقد سألت الشيخ أحمد بن الصديق حين التقيت به في ظاهرية دمشق عن هذا الفهم فتعجب منه، فإن من كثر خطؤه في الرواية سقطت الثقة به بخلاف من قال ذلك منه، فالأول ضعيف الحديث، والآخر حسن الحديث، ولذلك جعل الحافظ في (شرح النخبة) من كثر غلطه قرين من ساء حفظه، وجعل حديث كل منهما مردوداً فراجعه مع حاشية الشيخ علي القاري عليه (ص121، 130).
وإنما غرَّ هؤلاء ما نقلوه عن الحافظ أنه قال في (تخريج الأذكار): (ضعف عطية إنما جاء من قبل تشيعه، وقيل تدليسه، وإلا فهو صدوق).
وهم لقصر باعهم إن لم نقل لجهلهم في هذا العلم لا جرأة لهم على بيان رأيهم الصريح في أوهام العلماء، بل إنهم يسوقون كلماتهم كأنها في مأمن من الخطأ والزلل، لا سيما إذا كانت موافقة لغرضهم كهذه الجملة، وإلا فهي ظاهرة التعارض مع قول الحافظ المنقول عن (التقريب) إذ أنها تعلل ضعف عطية بسببين:
أحدهما: التشيع، وهذا ليس جرحاً مطلقاً على الراجح.
والثاني: التدليس، وهذا جرح قد يزول كما سيأتي، ومع ذلك فإنه أشار إلى تضعيفه لهذا السبب بقوله: (قيل). بينما جزم في (التقريب) بأنه كان مدلساً، كما جزم بأنه كان شيعياً، ولذلك أورده (أعني الحافظ نفسه) في رسالة (طبقات المدلسين) (ص18) فقال: (تابعي معروف، ضعيف الحفظ مشهور بالتدليس القبيح) ذكره في (المرتبة الرابعة) وهي التي يورد فيها (من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع، لكثرة تدليسهم عن الضعفاء والمجاهيل كبقية بن الوليد) كما ذكره في المقدمة، فهذان النصان من الحافظ نفسه دليل على وهمه في تضعيفه كون عطية مدلساً في الجملة المذكورة آنفاً. فهذا وجه من وجوه التعارض بينها وبين عبارة (التقريب). وثمة وجه آخر وهو أنه في هذه الجملة لم يصفه بما هو جرح عنده – كما سبق عن (شرح النخبة) – وهو قوله في (التقريب): (يخطئ كثيراً) فهذا كله يدلنا على أن الحافظ رحمه الله تعالى لم يكن قد ساعده حفظه حين تخريجه لهذا الحديث، فوقع في هذا القصور الذي يشهد به كلامه المسطور في كتبه الأخرى، وهي أولى بالاعتماد عليها من كتابه (التخريج)، لأنه في تلك ينقل عن الأصول مباشرة، ويلخص منها بخلاف صنيعه في (التخريج).
ولما ذكرنا من حال العوفي ضعف الحديث غير واحد من الحفاظ كالمنذري في (الترغيب) والنووي وشيخ الإسلام ابن تيمية في (القاعدة الجليلة) وكذا البوصيري، فقال في (مصباح الزجاجة) (2/52): (هذا إسناد مسلسل بالضعفاء: عطية وفضيل بن مرزوق والفضل بن الموفق كلهم ضعفاء). وقال صديق خان في (نزل الأبرار) (ص71) بعد أن أشار لهذا الحديث وحديث بلال الآتي بعده: (وإسنادهم ضعيف، صرح بذلك النووي في(الأذكار).
الحديث الثاني:
وحديث بلال الذي أشار إليه صديق خان هو ما روي عنه أنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى الصلاة قال: بسم الله، آمنت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله. اللهم بحق السائلين عليك، وبحق مخرجي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً..)) الحديث أخرجه ابن السني في (عمل اليوم والليلة – رقم82) من طريق الوازع بن نافع العقيلي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله عنه.
... وهذا سند ضعيف جداً، وآفته الوازع هذا، فإنه لم يكن عنده وازع يمنعه من الكذب، كما بينته في (السلسلة الضعيفة) ولذلك لما قال النووي في (الأذكار): (حديث ضعيف أحد رواته الوازع بن نافع العقيلي وهو متفق على ضعفه، وأنه منكر الحديث) قال الحافظ بعد تخريجه: (هذا حديث واه جداً، أخرجه الدارقطني في (الأفراد) من هذا الوجه وقال: تفرد به الوازع، وهو متفق على ضعفه وأنه منكر الحديث. والقول فيه أشد من ذلك، فقال ابن معين والنسائي: ليس بثقة، وقال أبو حاتم وجماعة، متروك الحديث، وقال الحاكم: يروي أحاديث موضوعة).
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
... فلا يجوز الاستشهاد به كما فعل الشيخ الكوثري، والشيخ الغماري في (مصباح الزجاجة) وغيرهما من المبتدعة.
ومع كون هذين الحديثين ضعيفين فهما لا يدلان على التوسل بالمخلوقين أبداً، وإنما يعودان إلى أحد أنواع التوسل المشروع الذي تقدم الكلام عنه، وهو التوسل إلى الله تعالى بصفة من صفاته عز وجل، لأن فيهما التوسل بحق السائلين على الله وبحق ممشى المصلين. فما هو حق السائلين على الله تعالى؟، لا شك أنه إجابة دعائهم، وإجابة الله دعاء عباده صفة من صفاته عز وجل، وكذلك حق ممشى المسلم إلى المسجد هو أن يغفر الله له، ويدخله الجنة ومغفرة الله تعالى ورحمته، وإدخاله بعض خلقه ممن يطيعه الجنة. كل ذلك صفات له تبارك وتعالى.
وبهذا تعلم أن هذا الحديث الذي يحتج به المبتدعون ينقلب عليهم، ويصبح بعد فهمه فهماً جيداً حجة لنا عليهم، والحمد لله على توفيقه.
الحديث الثالث:
عن أبي أمامة قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح، وإذا أمسى دعا بهذا الدعاء: اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد.. أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض، وبكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك...)) .
قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (10/117): (رواه الطبراني، وفيه فضال بن جبير، وهو ضعيف مجمع على ضعفه).
... بل هو ضعيف جداً، اتهمه ابن حبان فقال: (شيخ يزعم أنه سمع أبا أمامة، يروي عنه ما ليس منه حديثه). وقال أيضاً: (لا يجوز الاحتجاج به بحال، يروي أحاديث لا أصل لها).
وقال ابن عدي في (الكامل) (25/13): (أحاديثه كلها غير محفوظة).
... فالحديث شديد الضعف، فلا يجوز الاستشهاد به أيضاً، كما فعل صاحب (المصباح) (ص56).
الحديث الرابع:
عن أنس بن مالك قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي رضي الله عنهما دعا أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون...
فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضطجع فيه فقال: ((الله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها، ووسع مدخلها بحق نبيك، والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين...)) .
قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (9/257): (رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه روح بن صلاح، وثقة ابن حبان والحاكم وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح).
... ومن طريق الطبراني رواه أبو نعيم في (حلية الأولياء) (3/121) وإسناده عندهما ضعيف، لأن روح بن صلاح الذي في إسناده قد تفرد به، كما قال أبو نعيم نفسه، وروح ضعفه ابن عدي، وقال ابن يونس: رويت عنه مناكير، وقال الدارقطني (ضعيف في الحديث) وقال ابن ماكولا: (ضعفوه) وقال ابن عدي بعد أن أخرج له حديثين: (له أحاديث كثيرة، في بعضها نكرة) فقد اتفقوا على تضعيفه فكان حديثه منكراً لتفرده به.
وقد ذهب بعضهم إلى تقوية هذا الحديث لتوثيق ابن حبان والحاكم لروح هذا، ولكن ذلك لا ينفعهم، لما عرفا به من التساهل في التوثيق، فقولهما عند التعارض لا يقام له وزن حتى لو كان الجرح مبهماً، فكيف مع بيانه كما هي الحال هنا، وقد فصلت الكلام على ضعف هذا الحديث في (السلسلة الضعيفة) فلا نعيد الكلام عليه في هذه العجالة...
الحديث الخامس:
عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين)) .
فيرى المخالفون أن هذا الحديث يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلب من الله تعالى أن ينصره، ويفتح عليه بالضعفاء المساكين من المهاجرين، وهذا – بزعمهم – هو التوسل المختلف فيه نفسه.
والجواب من وجهين:
الأول: ضعف الحديث، فقد أخرجه الطبراني في (المعجم الكبير) (1/81/2): حدثنا محمد بن إسحاق بن راهويه حدثنا أبي حدثنا عيسى بن يونس حدثني أبي عن أبيه عن أمية به.
وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي بن عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي إسحاق عن أمية بن خالد به. ثم رواه من طريق قيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن المهلب بن أبي صفرة عن أمية بن خالد مرفوعاً بلفظ:
((... يستفتح ويستنصر بصعاليك المسلمين)).
... مداره على أمية هذا، ولم تثبت صحبته، فالحديث مرسل ضعيف، وقال ابن عبد البر في (الاستيعاب) (1/38): (لا تصح عندي صحبته، والحديث مرسل) وقال الحافظ في (الإصابة) (1/133): (ليست له صحبة ولا رواية).
... وفيه علة أخرى، وهي اختلاط أبي إسحاق وعنعنته، فإنه كان مدلساً، إلا أن سفيان سمع منه قبل الاختلاط، فبقيت العلة الأخرى وهي العنعنة.
فثبت بذلك ضعف الحديث وأنه لا تقوم به حجة. وهذا هو الجواب الأول.
الثاني: أن الحديث لو صح فلا يدل إلا على مثل ما دل عليه حديث عمر، وحديث الأعمى من التوسل بدعاء الصالحين.قال المناوي في (فيض القدير): ((كان يستفتح)) أي يفتتح القتال، من قوله تعالى: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال:19] ذكره الزمخشري.
((ويستنصر)) أي يطلب النصرة ((بصعاليك المسلمين)) أي بدعاء فقرائهم الذين لا مال لهم.
... وقد جاء هذا التفسير من حديثه، أخرجه النسائي (2/15) بلفظ: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم، وصلاتهم وإخلاصهم)) وسنده صحيح، وأصله في (صحيح البخاري)، فقد بين الحديث أن الاستنصار إنما يكون بدعاء الصالحين،
لا بذواتهم وجاههم.
ومما يؤكد ذلك أن الحديث ورد في رواية قيس بن الربيع المتقدمة بلفظ: ((كان يستفتح ويستنصر...)) فقد علمنا بهذا أن الاستنصار بالصالحين يكون بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم، وهكذا الاستفتاح، وبهذا يكون هذا الحديث – إن صح – دليلاً على التوسل المشروع، وحجة على التوسل المبتدع، والحمد لله.
الحديث السادس:
عن عمر بن الخطاب مرفوعاً: ((لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال: يا آدم ‍! وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضِف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال: غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتُك)) .
أخرجه الحاكم في (المستدرك) (2/615) من طريق أبي الحارث عبد الله بن مسلم الفهري: حدثنا إسماعيل بن مسلمة: أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر. وقال: صحيح الإسناد ...
فتعقبه الذهبي فقال: (قلت: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ، وعبد الله بن أسلم الفهري لا أدري من ذا) قلت: ومن تناقض الحاكم في (المستدرك) نفسه أنه أورد فيه (3/332) حديثاً آخر لعبد الرحمن هذا ولم يصححه، بل قال: (والشيخان لم يحتجا بعبد الرحمن بن زيد!).
... والفهري هذا أورده الذهبي في (الميزان) وساق له هذا الحديث وقال: (خبر باطل)، وكذا قال الحافظ ابن حجر في (اللسان) (3/360) وزاد عليه قوله في الفهري هذا: (لا أستبعد أن يكون هو الذي قبله فإنه من طبقته) قلت: والذي قبله هو عبد الله بن مسلم بن رُشيد، قال الحافظ: ذكره ابن حبان، متهم بوضع الحديث، يضع على ليث ومالك وابن لهيعة، لا يحل كتب حديثه، وهو الذي روى عن ابن هدية نسخة كأنها معمولة).
... والحديث رواه الطبراني في (المعجم الصغير) (ص207): ثنا محمد بن داود بن أسلم الصدفي المصري: ثنا أحمد بن سعيد المدني الفهري: ثنا عبد الله بن إسماعيل المدني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم به. وهذا سند مظلم فإن كل من دون عبد الرحمن لا يعرفون، وقد أشار إلى ذلك الحافظ الهيثمي حيث قال في (مجمع الزوائد) (8/253): (رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه من لم أعرفهم).
... وهذا إعلال قاصر، يوهم من لا علم عنده أن ليس فيهم من هو معروف بالطعن فيه، وليس كذلك فإن مداره على عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال البيهقي: (إنه تفرد به) وهو متهم بالوضع، رماه بذلك الحاكم نفسه، ولذلك أنكر العلماء عليه تصحيحه لحديثه، ونسبوه إلى الخطأ والتناقض، فقال (وارث علم الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين شيخ الإسلام ابن تيمية) رحمه الله في (القاعدة الجليلة) (ص89): (ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه، فإنه نفسه قد قال في كتاب (المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم): (عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة، لا تخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه), قلت: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيراً ، ضعفه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني، وغيرهم. وقال ابن حبان: (كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك من روايته من رفع المراسيل، وإسناد الموقوف، فاستحق الترك).
وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث، وقالوا: إن الحاكم يصحح أحاديث موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث. ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم).
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
... وقد أورد الحاكم نفسه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في كتابه (الضعفاء) كما سماه
العلامة ابن عبد الهادي، وقال في آخره: (فهؤلاء الذين قدمت ذكرهم قد ظهر عندي جرحهم، لأن الجرح لا يثبت إلا ببينة، فهم الذين أبين جرحهم لمن طالبني به، فإن الجرح لا أستحله تقليداً، والذي أختاره لطالب هذا الشأن أن لا يكتب حديث واحد من هؤلاء الذين سميتهم، فالراوي لحديثهم داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَيْن)) .
... فمن تأمل في كلام الحاكم هذا والذي قبله يتبين له بوضوح أن حديث عبد الرحمن بن زيد هذا موضوع عند الحاكم نفسه، وأن من يرويه بعد العلم بحاله فهو أحد الكاذبَيْن.
وقد اتفق عند التحقيق كلام الحفاظ ابن تيمية والذهبي والعسقلاني على بطلان هذا الحديث، وتبعهم على ذلك غير واحد من المحققين كالحافظ ابن عبد الهادي كما سيأتي، فلا يجوز لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصحح الحديث بعد اتفاق هؤلاء على وضعه تقليداً للحاكم في أحد قوليه، مع اختياره في قوله الآخر لطالب العلم أن لا يكتب حديث عبد الرحمن هذا، وأنه إن فعل كان أحد الكاذبين كما سبق.
... أن للحديث علتين:
الأولى: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأنه ضعيف جداً.
الثانية: جهالة الإسناد إلى عبد الرحمن.
وللحديث عندي علة أخرى. وهي اضطراب عبد الرحمن أو من دونه في إسناده، فتارة كان يرفعه كما مضى، وتارة كان يرويه موقوفاً على عمر، لا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه أبو بكر الآجري في كتاب (الشريعة) (ص427) من طريق عبد الله ابن إسماعيل بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن زيد به، وعبد الله هذا لم أعرفه أيضاً، فلا يصح عن عمر مرفوعاً ولا موقوفاً، ثم رواه الآجري من طريق آخر عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أنه قال: من الكلمات التي تاب الله بها على آدم قال: ((اللهم أسألك بحق محمد عليك..)) الحديث نحوه مختصراً، وهذا مع إرساله ووقفه، فإن إسناده إلى ابن أبي الزناد ضعيف جداً، وفيه عثمان بن خالد والد أبي مروان العثماني، قال النسائي: (ليس بثقة).
وعلى هذا فلا يبعد أن يكون أصل هذا الحديث من الإسرائيليات التي تسربت إلى المسلمين من بعض مسلمة أهل الكتاب أو غير مسلمتهم. أو عن كتبهم التي لا يوثق بها، لما طرأ عليها من التحريف والتبديل كما بينه شيخ الإسلام في كتبه، ثم رفعه بعض هؤلاء الضعفاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم خطأ أو عمداً.
مخالفة هذا الحديث للقرآن:
ومما يؤيد ما ذهب إليه العلماء من وضع هذا الحديث وبطلانه أنه يخالف القرآن الكريم في موضعين منه:
الأول: أنه تضمن أن الله تعالى غفر لآدم بسبب توسله به صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول:
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37] وقد جاء تفسير هذه الكلمات عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما مما يخالف هذا الحديث، فأخرج الحاكم (3/545) عنه: (({فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} قال: أي رب ! ألم تخلقني بيدك؟
قال: بلى. قال: ألم تنفخ فيَّ من روحك؟ قال:بلى. قال: أي رب ! ألم تسكنّي جنتك؟ قال: بلى. قال: ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى. قال: أرأيت إن تبتُ وأصلحت، أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: بلى. قال: فهو قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37])) وقال الحاكم: (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
... وقول ابن عباس هذا في حكم المرفوع من وجهين:
الأول: أنه أمر غيبي لا يقال من مجرد الرأي.
الثاني: أنه ورد في تفسير الآية، وما كان كذلك فهو في حكم المرفوع...
ولا سيما إذا كان من قول إمام المفسرين عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله ((اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)) .
وقد قيل في تفسير هذه الكلمات: إنها ما في الآية الأخرى {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].وبهذا جزم السيد رشيد رضا في (تفسيره).
(1/279). لكن أشار ابن كثير (1/81) إلى تضعيفه، ولا منافاة عندي بين القولين، بل أحدهم يتمم الآخر، فحديث ابن عباس لم يتعرض لبيان ما قاله آدم عليه السلام بعد أن تلقى من ربه تلك الكلمات وهذا القول يبين ذلك، فلا منافاة والحمد لله، وثبت مخالفة الحديث للقرآن، فكان باطلاً.
الموضع الثاني: قوله في آخره: ((ولولا محمد ما خلقتك)) فإن هذا أمر عظيم يتعلق بالعقائد التي لا تثبت إلا بنص متواتر اتفاقاً، أو صحيح عند آخرين، ولو كان ذلك صحيحاً لورد في الكتاب والسنة الصحيحة، وافتراض صحته في الواقع مع ضياع النص الذي تقوم به الحجة ينافي قوله تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. والذكر هنا يشمل الشريعة كلها قرآناً وسنة، كما قرره ابن حزم في (الإحكام) وأيضاً فإن الله تبارك وتعالى قد أخبرنا عن الحكمة التي من أجلها خلق آدم وذريته، فقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56], فكل ما خالف هذه الحكمة أو زاد عليها لا يقبل إلا بنص صحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم كمخالفة هذا الحديث الباطل. ومثله ما اشتهر على ألسنة الناس: ((لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك)) فإنه موضوع كما قاله الصنعاني ووافقه الشوكاني في (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة) . ومن الطرائف أن المتنبي ميرزا غلام أحمد القادياني سرق هذا الحديث الموضوع فادعى أن الله خاطبه بقوله: ((لولاك لما خلقت الأفلاك))!! وهذا شيء يعترف به أتباعه القاديانيون ... لوروده في كتاب متنبئهم (حقيقة الوحي) (ص99).
ثم على افتراض أن هذا الحديث ضعيف فقط كما يزعم بعض المخالفين خلافاً لمن سبق ذكرهم من العلماء والحفاظ، فلا يجوز الاستدلال به على مشروعية التوسل المختلف فيه، لأن – على قولهم – عبادة مشروعة، وأقل أحوال العبادة أن تكون مستحبة، والاستحباب حكم شرعي من الأحكام الخمسة التي لا تثبت إلا بنص صحيح تقوم به الحجة، فإذا الحديث عنده ضعيف، فلا حجة فيه البتة، وهذا بين لا يخفى إن شاء الله تعالى.
الحديث السابع ((توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم)):
وبعضهم يرويه بلفظ: ((إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم)) .
هذا باطل لا أصل له في شيء من كتب الحديث البتة، وإنما يرويه بعض الجهال بالسنة كما نبَّه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (القاعدة الجليلة) (ص132، 150) قال: (مع أن جاهه صلى الله عليه وسلم عند الله أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين، ولكن جاه المخلوق عند الخالق ليس كجاه المخلوق عند المخلوق فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه، فهو شريك له في حصول المطلوب، والله تعالى لا شريك له
كما قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ: 22-23].
فلا يلزم إذاً من كون جاهه صلى الله عليه وسلم عند ربه عظيماً، أن نتوسل به إلى الله تعالى لعدم ثبوت الأمر به عنه صلى الله عليه وسلم، ويوضح ذلك أن الركوع والسجود من مظاهر التعظيم فيما اصطلح عليه الناس، فقد كانوا وما يزال بعضهم يقومون ويركعون ويسجدون لمليكهم ورئيسهم والمعظم لديهم، ومن المتفق عليه بين المسلمين أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو أعظم الناس لديهم، وأرفعهم عندهم. ترى فهل يجوز لهم أن يقوموا ويركعوا ويسجدوا له في حياته وبعد مماته؟
الجواب: إنه لا بد لمن يجوز ذلك، من أن يثبت وروده في الشرع، وقد نظرنا فوجدنا أن السجود والركوع لا يجوزان إلا له سبحانه وتعالى، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد أو يركع أحد لأحد، كما أننا رأينا في السنة كراهية النبي صلى الله عليه وسلم للقيام، فدل ذلك على عدم مشروعيته.
ترى فهل يستطيع أحد أن يقول عنا حين نمنع السجود لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إننا ننكر جاهه صلى الله عليه وسلم وقدره؟ كلا ثم كلا.
فظهر من هذا بجلاء إن شاء الله تعالى أنه لا تلازم بين ثبوت جاه النبي صلى الله عليه وسلم وبين تعظيمه بالتوسل بجاهه ما دام أنه لم يرد في الشرع.
هذا، وإن من جاهه صلى الله عليه وسلم أنه يجب علينا اتباعه وإطاعته كما يجب إطاعة ربه، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا أمرتكم به)) فإذا لم يأمرنا بهذا التوسل ولو أمرَ استحباب فليس عبادة، فيجب علينا اتباعه في ذلك وأن ندع العواطف جانباً، ولا نفسح لها المجال حتى ندخل في دين الله ما ليس منه بدعوى حبه صلى الله عليه وسلم، فالحب الصادق إنما هو بالاتِّباع، وليس بالابتداع كما قال عز وجل: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [آل عمران: 31], ومنه قول الشاعر:


تعصي الإله وأنت تظهر حبه

هذا لعمرك في القياس بديع










لو كان حبك صادقاً لأطعته

إن المحب لمن يحب مطيع

أثران ضعيفان:
1 – أثر الاستسقاء بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته:
وبعد أن فرغنا من إيراد الأحاديث الضعيفة في التوسل، وتحقيق القول فيها يحسن بنا أن نورد أثراً، كثيراً ما يورده المجيزون لهذا التوسل المبتدع، لنبين حاله من صحة أو ضعف، وهل له علاقة بما نحن فيه أم لا؟
فأقول: قال الحافظ في (الفتح) (2/397) ما نصه: (وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار – وكان خازن عمر – قال: ((أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! استسق لأمتك، فإنهم قد هلكوا، فأتي الرجلُ في المنام، فقيل له: ائت عمر..)) الحديث. وقد روى سيف في (الفتح) أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة).
... والجواب من وجوه:
الأول: عدم التسليم بصحة هذه القصة، لأن مالك الدار غير معروف العدالة والضبط، وهذان شرطان أساسيان في كل سند صحيح كما تقرر في علم المصطلح، وقد أورده ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (4/213) ولم يذكر راوياً عنه غير أبي صالح هذا، ففيه إشعار بأنه مجهول، ويؤيده أن ابن أبي حاتم نفسه – مع سعة حفظه واطلاعه – لم يحك فيه توثيقاً فبقي على الجهالة، ولا ينافي هذا قول الحافظ: (...بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان...) لأننا نقول: إنه ليس نصاً في تصحيح جميع السند بل إلى أبي صالح فقط، ولولا ذلك لما ابتدأ هو الإسنادَ من عند أبي صالح، ولقال رأساً: (عن مالك الدار... وإسناده صحيح) ولكنه تعمد ذلك، ليلفت النظر إلى أن ها هنا شيئاً ينبغي النظر فيه، والعلماء إنما يفعلون ذلك لأسباب منها: أنهم قد لا يحضرهم ترجمة بعض الرواة، فلا يستجيزون لأنفسهم حذف السند كله، لما فيه من إيهام صحته لاسيما عند الاستدلال به، بل يوردون منه ما فيه موضع للنظر فيه، وهذا هو الذي صنعه الحافظ رحمه الله هنا، وكأنه يشير إلى تفرد أبي صالح السمان عن مالك الدار كما سبق نقله عن ابن أبي حاتم، وهو يحيل بذلك إلى وجوب التثبت من حال مالك هذا أو يشير إلى جهالته. والله أعلم.
وهذا علم دقيق لا يعرفه إلا من مارس هذه الصناعة، ويؤيد ما ذهبت إليه أن الحافظ المنذري أورد في (الترغيب) (2/41-42) قصة أخرى من رواية مالك الدار عن عمر ثم قال: (رواه الطبراني في (الكبير)، ورواته إلى مالك الدار ثقات مشهورون، ومالك الدار لا أعرفه). وكذا قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (3/125).
وقد غفل عن هذا التحقيق صاحب كتاب (التوصل) (ص241) فاغتر بظاهر كلام الحافظ، وصرح بأن الحديث صحيح، وتخلص منه بقوله: (فليس فيه سوى: جاء رجل..) واعتمد على أن الرواية التي فيها تسمية الرجل ببلال بن الحارث فيها سيف، وقد عرفت حاله.
وهذا لا فائدة كبرى فيه، بل الأثر ضعيف من أصله لجهالة مالك الدار كما بيناه.
الثاني: أنها مخالفة لما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء لاستنزال الغيث من السماء، كما ورد ذلك في أحاديث كثيرة، وأخذ به جماهير الأئمة، بل هي مخالفة لما أفادته الآية من الدعاء والاستغفار، وهي قوله تعالى في سورة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} [نوح: 10-11] وهذا ما فعله عمر بن الخطاب حين استسقى وتوسل بدعاء العباس كما سبق بيانه، وهكذا كانت عادة السلف الصالح كلما أصابهم القحط أن يصلوا ويدعوا، ولم ينقل عن أحد منهم مطلقاً أنه التجأ إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب منه الدعاء للسقيا، ولو كان ذلك مشروعاً لفعلوه ولو مرة واحدة، فإذا لم يفعلوه دل ذلك على عدم مشروعية ما جاء في القصة.
الثالث: هب أن القصة صحيحة، فلا حجة فيها، لأن مدارها على رجل لم يسم، فهو مجهول أيضاً، وتسميته بلالاً في رواية سيف لا يساوي شيئاً، لأن سيفاً هذا – وهو ابن عمر التميمي – متفق على ضعفه عند المحدثين، بل قال ابن حبان فيه: (يروي الموضوعات عن الأثبات، وقالوا: إنه كان يضع الحديث). فمن كان هذا شأنه لا تقبل روايته ولا كرامة،
لا سيما عند المخالفة...
الفرق بين التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم وبين طلب الدعاء منه:
الوجه الرابع: أن هذا الأثر ليس فيه التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل فيه طلب الدعاء منه بأن يسقي الله تعالى أمته، وهذه مسألة أخرى لا تشملها الأحاديث المتقدمة، ولم يقل بجوازها أحد من علماء السلف الصالح رضي الله عنهم، أعني الطلب منه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (القاعدة الجليلة) (ص19-20): (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا أحد من الأنبياء قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ويستشفعوا بهم، لا بعد مماتهم، ولا في مغيبهم، فلا يقول أحد: (يا ملائكة الله اشفعوا لي عند الله، سلوا الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا، وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين: يا نبي الله يا ولي الله (الأصل: رسول الله) ادع الله لي، سل الله لي، سل الله أن يغفر لي... ولا يقول: أشكو إليك ذنوبي أو نقص رزقي أو تسلط العدو علي، أو أشكو إليك فلاناً الذي ظلمني، ولا يقول: أنا نزيلك، أنا ضيفك، أنا جارك، أو أنت تجير من يستجيرك.
ولا يكتب أحد ورقة ويعلقها عند القبور، ولا يكتب أحد محضراً أنه استجار بفلان، ويذهب بالمحضر إلى من يعمل بذلك المحضر ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، كما يفعله النصارى في كنائسهم، وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين أو في مغيبهم، فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام، وبالنقل المتواتر وبإجماع المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع هذا لأمته، وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئاً من ذلك، ولا فعل هذا أحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا ذكر أحد من الأئمة لا في مناسك الحج ولا غيرها أنه يستحب لأحد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أن يشفع له أو يدعو لأمته، أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين، وكان أصحابه يبتلون بأنواع البلاء بعد موته، فتارة بالجدب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول ولا قبر الخليل ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول: نشكوا إليك جدب الزمان أو قوة العدو، أن كثرة الذنوب ولا يقول: سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم، بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين، وكل بدعة ليست واجبة ولا مستحبة فهي بدعة سيئة وضلالة باتفاق المسلمين .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ومن قال في بعض البدع: إنها بدعة حسنة فإنما ذلك إذا قام دليل شرعي على أنها مستحبة، فأما ما ليس بمستحب ولا واجب فلا يقول أحد من المسلمين: إنها من الحسنات التي يتقرب بها إلى الله، ومن تقرب إلى الله بما ليس من الحسنات المأمور بها أمر إيجاب ولا استحباب فهو ضال متبع للشيطان، وسبيله من سبيل الشيطان، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، وخط خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال ((هذا سبيل الله، وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)) ثم قرأ {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
قلت: إنما وقع بعض المتأخرين في هذا الخطأ المبين بسبب قياسهم حياة الأنبياء في البرزخ على حياتهم في الدنيا، وهذا قياس باطل مخالف للكتاب والسنة والواقع، وحسبنا الآن مثالاً على ذلك أن أحداً من المسلمين لا يجيز الصلاة وراء قبورهم، ولا يستطيع أحد مكالمتهم، ولا التحدث إليهم، وغير ذلك من الفوارق التي لا تخفى على عاقل.
الاستغاثة بغير الله تعالى:
ونتج من هذا القياس الفاسد والرأي الكاسد تلك الضلالة الكبرى، والمصيبة العظمى التي وقع فيها كثير من عامة المسلمين وبعض خاصتهم، ألا وهي الاستغاثة بالأنبياء الصالحين من دون الله تعالى في الشدائد والمصائب حتى إنك لتسمع جماعات متعددة عند بعض القبور يستغيثون بأصحابها في أمور مختلفة، كأن هؤلاء الأموات يسمعون ما يقال لهم، ويطلب منهم من الحاجات المختلفة بلغات متباينة، فهم عند المستغيثين بهم يعلمون مختلف لغات الدنيا، ويميزون كل لغة عن الأخرى، ولو كان الكلام بها في آن واحد! وهذا هو الشرك في صفات الله تعالى الذي جهله كثير من الناس، فوقعوا بسببه في هذه الضلالة الكبرى.
ويبطل هذا ويرد عليه آيات كثيرة. منها قوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} [الإسراء: 56]. والآيات في هذا
الصدد كثيرة، بل قد ألف في بيان ذلك كتب ورسائل عديدة . فمن كان في شك من ذلك فليرجع إليها يظهر له الحق إن شاء الله، ولكني وقفت على نقول لبعض علماء الحنفية رأيت من المفيد إيرادها هنا حتى لا يظن ظان أن ما قلناه لم يذهب إليه أحد من أصحاب المذاهب المعروفة.
قال الشيخ أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي في (التعليق المغني على سنن الدارقطني) (ص520-521): (ومن أقبح المنكرات وأكبر البدعات وأعظم المحدثات ما اعتاده أهل البدع من ذكر الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله بقولهم: يا شيخ عبد القادر الجيلاني شيئاً لله، والصلوات المنكوسة إلى بغداد، وغير ذلك مما لا يعد، هؤلاء عبدة غير الله ما قدروا الله حق قدره، ولم يعلم هؤلاء السفهاء أن الشيخ رحمه الله لا يقدر على جلب نفع لأحد ولا دفع ضر عنه مقدار ذرة، فلم يستغيثون به ولم يطلبون الحوائج منه ؟! أليس الله بكاف عبده ؟!! اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك أو نعظم أحداً من خلقك كعظمتك، قال في (البزازية) وغيرها من كتب الفتاوى: (من قال: إن أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر) وقال الشيخ فخر الدين أبو سعد عثمان الجياني بن سليمان الحنفي في رسالته: "ومن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله، واعتقد بذلك كفر. كذا في (البحر الرائق)، وقال القاضي حميد الدين ناكوري الهندي في (التوشيح): (منهم الذين يدعون الأنبياء والأولياء عند الحوائج والمصائب باعتقاد أن أرواحهم حاضرة تسمع النداء وتعلم الحوائج، وذلك شرك قبيح وجهل صريح، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [ الأحقاف: 5]، وفي (البحر) : لو تزوج بشهادة الله ورسوله لا ينعقد النكاح، ويكفر لاعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب ، وهكذا في (فتاوى قاضي خان) و(العيني) و(الدر المختار) و(العالمكيرية) وغيرها من كتب العلماء الحنفية، وأما في الآيات الكريمة والسنة المطهرة في إبطال أساس الشرك، والتوبيخ لفاعله فأكثر من أن تحصى، - ولشيخنا العلامة السيد محمد نذير حسين الدهلوي في رد تلك البدعة المنكرة رسالة شافية).
2 – أثر فتح الكوى فوق قبر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماء:
روى الدارمي في (سننه) (1/43): حدثنا أبو النعمان ثنا سعيد ابن زيد ثنا عمرو بن مالك النكري حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال: قحَط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة، فقالت: (انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا، فمطرنا مطراً حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق) .
... وهذا سند ضعيف لا تقوم به حجة لأمور ثلاثة:
أولها: أن سعيد بن زيد وهو أخو حماد بن زيد فيه ضعف. قال فيه الحافظ في (التقريب): صدوق له أوهام. وقال الذهبي في (الميزان): (قال يحيى بن سعيد: ضعيف، وقال السعدي: ليس بحجة، يضعفون حديثه، وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي، وقال أحمد: ليس به بأس، كان يحيى بن سعيد لا يستمرئه).
وثانيهما: أنه موقوف على عائشة وليس بمرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولو صح لم تكن فيه حجة، لأنه يحتمل أن يكون من قبيل الآراء الاجتهادية لبعض الصحابة، مما يخطئون فيه ويصيبون، ولسنا ملزمين بالعمل بها.
وثالثها: أن أبا النعمان هذا هو محمد بن الفضل، يعرف بعارم، وهو وإن كان ثقة فقد اختلط في آخر عمره. وقد أورده الحافظ برهان الدين الحلبي حيث أورده في "المختلطين" من كتابه (المقدمة) وقال (ص391): (والحكم فيهم أنه يقبل حديث من أخذ عنهم قبل الاختلاط ولا يقبل من أخذ عنهم بعد الاختلاط أو أشكل أمره فلم يدر هل أخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده).
... وهذا الأثر لا يدرى هل سمعه الدارمي منه قبل الاختلاط أو بعده، فهو إذن غير مقبول، فلا يحتج به، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في(الرد على البكري) (ص68-74): (وما روي عن عائشة رضي الله عنها من فتح الكوة من قبره إلى السماء، لينزل المطر فليس بصحيح، ولا يثبت إسناده، ومما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة، بل كان باقياً كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه، كما ثبت في (الصحيحين) عن عائشة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها، لم يظهر الفيء من حجرتها)) ، ولم تزل الحجرة النبوية كذلك في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.. ومن حينئذ دخلت الحجرة النبوية في المسجد، ثم إنه يُبنى حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدار عال، وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف.وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذب بين لو صح ذلك لكان حجة ودليلاً على أن القوم لم يكونوا يقسمون على الله بمخلوق ولا يتوسلون في دعائهم بميت، ولا يسألون الله به، وإنما فتحوا على القبر لتنزل الرحمة عليه، ولم يكن هناك دعاء يقسمون به عليه، فأين هذا من هذا، والمخلوق إنما ينفع المخلوق بدعائه أو بعمله، فإن الله تعالى يحب أن نتوسل إليه بالإيمان والعمل والصلاة والسلام على نبيه صلى الله عليه وسلم ومحبته وطاعته وموالاته، فهذه هي الأمور التي يحب الله أن نتوسل بها إليه، وإن أريد أن نتوسل إليه بما تُحِبُ ذاته، وإن لم يكن هناك ما يحب الله أن نتوسل به من الإيمان والعمل الصالح، فهذا باطل عقلاً وشرعاً، أما عقلاً فلأنه ليس في كون الشخص المعين محبوباً له ما يوجب كون حاجتي تقضى بالتوسل بذاته إذا لم يكن مني ولا منه سبب تقضى به حاجتي، فإن كان منه دعاء لي أو كان مني إيمان به وطاعة له فلا ريب أن هذه وسيلة، وأما نفس ذاته المحبوبة فأي وسيلة لي منها إذا لم يحصل لي السبب الذي أمرت به فيها.
وأما الشرع فيقال: العبادات كلها مبناها على الاتباع لا على الابتداع، فليس لأحد أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله، فليس لأحد أن يصلي إلى قبره ويقول هو أحق بالصلاة
إليه من الكعبة، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في (الصحيح) أنه قال ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)) مع أن طائفة من غلاة العباد يصلون إلى قبور شيوخهم، بل يستدبرون القبلة، ويصلون إلى قبر الشيخ ويقولون: هذه قبلة الخاصة، والكعبة قبلة العامة ! وطائفة أخرى يرون الصلاة عند قبور شيوخهم أفضل من الصلاة في المساجد حتى المسجد الحرام (والنبوي) والأقصى. وكثير من الناس يرى أن الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل منه في المساجد، وهذا كله مما قد علم جميع أهل العلم بديانة الإسلام أنه مناف لشريعة الإسلام. ومن لم يعتصم في هذا الباب وغيره بالكتاب والسنة فقد ضَل وأضل، ووقع في مهواة من التلف. فعلى العبد أن يسلم للشريعة المحمدية الكاملة البيضاء الواضحة، ويسلم أنها جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإذا رأى من العبادات والتقشفات وغيرها التي يظنها حسنة ونافعة ما ليس بمشروع علم أن ضررها راجح على نفعها، ومفسدتها راجحة على مصلحتها، إذ الشارع الحكيم لا يهمل المصالح) ثم قال: (والدعاء من أجل العبادات، فينبغي للإنسان أن يلزم الأدعية المشروعة فإنها معصومة كما يتحرى في سائر عبادته الصور المشروعة، فإن هذا هو الصراط المستقيم.والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين).
وإذا كان القرب من النبي صلى الله عليه وسلم لا يغني عن القريب شيئاً، دل ذلك على منع التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، لأن جاه النبي صلى الله عليه وسلم لا ينتفع به إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان أصح قولي أهل العلم تحريم التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم.
لقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أمر التوحيد وحذر عن الشرك غاية التحذير، فكل أمر بالتوحيد ونهي عن الشرك حماية لأمر التوحيد، ولكن المقصود بهذه المسألة هنا ما جاء عنه في التحذير وسده للطرق الموصلة للشرك، إذ به يتحقق الإنسان من معرفة الشرك فيحذره بالابتعاد عن وسائله، ولما خفي على كثير من الناس في الأزمنة المتأخرة هذا الأمر وقعوا في الشرك وإن زعموا أنه ليس بشرك.
فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغلو في تعظيم المخلوق، إذ الغلو في تعظيمه يؤدي إلى استشعار القلب بالخوف والرهبة منه والرجاء فيه، فيصرف إليه عندئذ شيئاً من حقوق الله تعالى. فمن هذه الوسائل المنهي عنها:
الأول : إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الغلو في مدحه بما قد يفضي إلى عبادته فقال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)) .
الثاني : نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور وعن اتخاذها عيداً، وعن اتخاذها مساجد، فقال لما ذكرت له أم سلمة رضي الله عنها: أنها رأت كنيسة بأرض الحبشة وما فيها من الصور قال: ((أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس ليال: ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك)) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) . كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور كما قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه) . وكذلك نهى عن الصلاة عند القبور سواء بني عليها مسجد أو لا لقوله: ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)) . فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلك الأمور كلها الدالة على تعظيم القبر لئلا يفضي ذلك إلى عبادتهم وطلب قضاء الحوائج من الموتى، ويدل على أن هذا هو المراد ما أشار به إلى صنيع الأمم السابقة، وكذلك لأن هذا هو أصل ابتداء الشرك في الناس كما تقدم . وقد قال ابن قدامة معللاً للنهي عن اتخاذ القبور مساجد ومصلى: (لأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام: تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها) اهـ.
الثالث: النهي عن الوفاء بالنذر بالذبح لله تعالى في مكان يذبح فيه لغير الله أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية. فعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: ((نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيه عيد من أعيادهم. قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم)) . فقوله في آخر الحديث ((فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله)) يفيد أن الوفاء بالنذر في المكان الذي فيه أمر من أمور الجاهلية معصية لله، ففي هذا سد لذريعة الشرك وإبعاد للمسلمين عن التشبه بالمشركين في تعظيم أوثانهم .
الرابع: النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها صيانة للصلاة وللمصلين المسلمين أن يشبهوا الكفار في سجودهم لها وعبادتهم لها وللشيطان.
وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد عمرو بن عبسة بقوله: ((صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار... (إلى أن قال): حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار)) .
وهذا كله حماية للتوحيد.
وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل ما يؤدي إلى إساءة الظن برب العالمين وعدم تقديره حق قدره. ومن ذلك الألفاظ التي فيها التسوية بين الله وبين المخلوق، فعن قتيلة: ((أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون وتقولون: ما شاء الله وشئت وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت)) اهـ.
فجعل المخلوق مساوياً للخالق باللفظ في المشيئة أو التعظيم فيه إساءة ظن برب العالمين واستنقاص له، إذ هو المتعالي العظيم الذي له الخلق والأمر سبحانه. وإن هذه التسوية نهي عنها وإن لم يعتقد قائلها ذلك بقلبه، وقد تكون مثل هذه الألفاظ شركاً أكبر إذا قصدها قائلها بقلبه
لقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أمر التوحيد وحذر عن الشرك غاية التحذير، فكل أمر بالتوحيد ونهي عن الشرك حماية لأمر التوحيد، ولكن المقصود بهذه المسألة هنا ما جاء عنه في التحذير وسده للطرق الموصلة للشرك، إذ به يتحقق الإنسان من معرفة الشرك فيحذره بالابتعاد عن وسائله، ولما خفي على كثير من الناس في الأزمنة المتأخرة هذا الأمر وقعوا في الشرك وإن زعموا أنه ليس بشرك.
فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغلو في تعظيم المخلوق، إذ الغلو في تعظيمه يؤدي إلى استشعار القلب بالخوف والرهبة منه والرجاء فيه، فيصرف إليه عندئذ شيئاً من حقوق الله تعالى. فمن هذه الوسائل المنهي عنها:
الأول : إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الغلو في مدحه بما قد يفضي إلى عبادته فقال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)) .
الثاني : نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور وعن اتخاذها عيداً، وعن اتخاذها مساجد، فقال لما ذكرت له أم سلمة رضي الله عنها: أنها رأت كنيسة بأرض الحبشة وما فيها من الصور قال: ((أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس ليال: ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك)) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) . كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور كما قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه) . وكذلك نهى عن الصلاة عند القبور سواء بني عليها مسجد أو لا لقوله: ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)) . فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلك الأمور كلها الدالة على تعظيم القبر لئلا يفضي ذلك إلى عبادتهم وطلب قضاء الحوائج من الموتى، ويدل على أن هذا هو المراد ما أشار به إلى صنيع الأمم السابقة، وكذلك لأن هذا هو أصل ابتداء الشرك في الناس كما تقدم . وقد قال ابن قدامة معللاً للنهي عن اتخاذ القبور مساجد ومصلى: (لأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام: تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها) اهـ.
الثالث: النهي عن الوفاء بالنذر بالذبح لله تعالى في مكان يذبح فيه لغير الله أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية. فعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: ((نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيه عيد من أعيادهم. قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم)) . فقوله في آخر الحديث ((فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله)) يفيد أن الوفاء بالنذر في المكان الذي فيه أمر من أمور الجاهلية معصية لله، ففي هذا سد لذريعة الشرك وإبعاد للمسلمين عن التشبه بالمشركين في تعظيم أوثانهم .
الرابع: النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها صيانة للصلاة وللمصلين المسلمين أن يشبهوا الكفار في سجودهم لها وعبادتهم لها وللشيطان.
وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد عمرو بن عبسة بقوله: ((صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار... (إلى أن قال): حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار)) .
وهذا كله حماية للتوحيد.
وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل ما يؤدي إلى إساءة الظن برب العالمين وعدم تقديره حق قدره. ومن ذلك الألفاظ التي فيها التسوية بين الله وبين المخلوق، فعن قتيلة: ((أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون وتقولون: ما شاء الله وشئت وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت)) اهـ.
فجعل المخلوق مساوياً للخالق باللفظ في المشيئة أو التعظيم فيه إساءة ظن برب العالمين واستنقاص له، إذ هو المتعالي العظيم الذي له الخلق والأمر سبحانه. وإن هذه التسوية نهي عنها وإن لم يعتقد قائلها ذلك بقلبه، وقد تكون مثل هذه الألفاظ شركاً أكبر إذا قصدها قائلها بقلبه
الكتاب الثالث: الإيمان بالملائكة
الباب الأول: تعريف الملائكة ومعنى الإيمان بالملائكة وثمراته.
• الفصل الأول: تعريف الملائكة.
تمهيد
الإيمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان، والذي لا يصح إيمان عبد حتى يقر به، فيؤمن بوجودهم، وبما ورد في الكتاب والسنة من صفاتهم وأفعالهم.
قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285]، وقال تعالى: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98].
وقد حكم الله عز وجل بالكفر على من أنكر وجود الملائكة؛ ولم يؤمن بهم، فقال تبارك وتعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 136]
المبحث الأول: معنى الملائكة لغةً
والملائكة لغة: جمع ملك، قال ابن فارس: (الميم واللام والكاف أصل صحيح يدل على قوة في الشيء وصحة) .
والملك أصله (ملاك) نقلت حركة الهمزة فيه إلى الساكن قبله، ثم حذفت الألف تخفيفاً فصارت ملكاً، وهو مشتق من الألوكة والملأكة وهي: الرسالة، والملأك: الملك؛ لأنه يبلغ عن الله تعالى، يقال: ألك؛ أي تحمل الرسالة .
قال الطبري رحمه الله: (فسميت الملائكة ملائكة بالرسالة؛ لأنها رسل الله بينه وبين أنبيائه ومن أرسلت إليه من عباده) .
وإنما سميت الرسالة ألوكة ومألكة لأنها تؤلك في الفم، من قولهم: يألك اللجام ويعلكه
المبحث الثاني: معنى الملائكة اصطلاحاً
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الملائكة اصطلاحاً: خلق من خلق الله تعالى، خلقهم الله عز وجل من نور، مربوبون مسخرون، عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لا يوصوفون بالذكورة ولا بالأنوثة، لا يأكلون ولا يشربون، ولا يملون ولا يتعبون ولا يتناكحون ولا يعلم عددهم إلا الله .
وقد عرفها بعضهم بأنها: (أجسام نورانية، أعطيت قدرة على التشكل والظهور بأشكال مختلفة بإذن الله تعالى)
الفصل الثاني: معنى الإيمان بالملائكة وثمرات الإيمان بهم
المبحث الأول: معنى الإيمان بالملائكة

الإيمان (بالملائكة) الذين هم عباد الله المكرمون والسفرة بينه تعالى: وبين رسله عليهم الصلاة والسلام (المرام) خَلقا وخُلقا والكرام على الله تعالى: (البررة) الطاهرين ذاتا وصفة وأفعالا المطيعين لله عز وجل خلقهم الله تعالى: من النور لعبادته ليسوا بناتا لله عز وجل ولا أولادا ولا شركاء معه ولا أندادا تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون والملحدون علوا كبيرا قال الله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدَا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُون لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُون وَمَنْ يِقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نُجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين} [الأنبياء:26-29]، وقال الله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُون وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون أصْطَفَى البَنَاتِ عَلَى البَنِين مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُون} - إلى قوله: - {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومْ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُون} [الصافات:151-166]، وقال الله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِين أَمْ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالبَنِين} - إلى قوله – {وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الذِّينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَنَكْتُبُ شَهَادَتَهُمْ وَيَسْأَلُون} [الزخرف:15-19]، الآيات. وقال الله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لله وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَيَحْشُرْهُمْ إليه جَمِيعا} [الأنبياء:172]، وقال الله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهَ لا يَسْتِكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُون يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتَرُون} [الأنبياء:19-20]، وقال الله تعالى: {الحَمْدُ لله فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلائِكَةَ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاع يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شيء قَدِير} [فاطر:1]، وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالغَمَامِ وَنَزَّلَ المَلائِكَةَ تَنْزِيلاً المُلْكُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ للرَّحْمَن} وقال الله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ المَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ للمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُورا} [الفرقان:22]، وقال الله تعالى: {إِنَّ الذِّينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُون} [الأعراف:206]، وقال الله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيَا} [مريم:64] وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُم جَمِيعاً ثُمَّ يقول للمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُون قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُون} [سبأ:40] وقال الله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُواً لله وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌ للكَافِرِين} [البقرة:98] والآيات في ذكر الملائكة في القرآن كثيرة.
والإيمان بالملائكة: هو الإيمان بوجودهم إيماناً جازماً لا يتطرق إليه شك، ولا ريب، قال الله تبارك وتعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إليه مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285]، لقوله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء:136]. فأهل السنة والجماعة: يؤمنون بهم إجمالاً، وأما تفصيلاً فبمن صح به الدليل ممن سماه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ كجبريل الموكل بالوحي، وميكائيل الموكل بالمطر، وإسرافيل الموكل بالنفخ في الصور، وملك الموت الموكل بقبض الأرواح، ومالك خازن النار. وأهل السنة والجماعة: يؤمنون بوجودهم، وأنهم عباد مخلوقون، خلقهم الله تعالى: من نور، وهم ذوات حقيقية، وليسوا قوى خفية، وهم خلق من خلق الله تعالى. والملائكة خلقتهم عظيمة، منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ومنهم من له أكثر من ذلك، وثبت أن جبريل - عليه السلام - له ستمائة جناح. وهم جند من جنود الله، قادرون على التمثل بأمثال الأشياء، والتشكل بأشكال جسمانية؛ حسبما تقتضيها الحالات التي يأذن بها الله سبحانه وتعالى وهم مقربون من الله ومكرمون.
المبحث الثاني: عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان بالملائكة
وأما الملائكة فهم الموكلون بالسماوات والأرض، فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة، كما قال تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات:5]، {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:4]. وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل، وأما المكذبون بالرسل المنكرون للصانع فيقولون: هي النجوم. ولفظ الملك يشعر بأنه رسول منفذ لأمر مرسله، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله للواحد القهار، وهم ينفذون أمره: لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون. يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم. ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون فهم عباد مكرمون، منهم الصافون، ومنهم المسبحون، ليس منهم إلا له مقام معلوم، ولا يتخطاه، وهو على عمل قد أمر به، لا يقصر عنه ولا يتعداه، وأعلاهم الذين عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ورؤساؤهم الأملاك الثلاثة: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، الموكلون بالحياة، فجبرائيل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم. فهم رسل الله في خلقه وأمره، وسفراؤه بينه وبين عباده، ينزلون الأمر من عنده في أقطار العالم، ويصعدون إليه بالأمر، قد أطت السماوات بهم، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد لله، ويدخل البيت المعمور منهم كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخر ما عليهم. والقرآن مملوء بذكر الملائكة وأصنافهم ومراتبهم، فتارة يقرن الله تعالى: اسمه باسمهم، وصلاته بصلاتهم، ويضيفهم إليه في مواضع التشريف، وتارة يذكر حفهم بالعرش وحملهم له، ومراتبهم من الدنو، وتارة يصفهم بالإكرام والكرم، والتقريب والعلو والطهارة والقوة والإخلاص. قال تعالى:{كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285]، {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْم} [آل عمران:17]، {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [سورة الأحزاب:43]، {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [سورة غافر:7]، {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [سورة الزمر:75]، {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء:26] {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206]، {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] {كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:11]، {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:16] {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:21]، {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات:8]، وكذلك الأحاديث النبوية طافحة بذكرهم. فلهذا كان الإيمان بالملائكة أحد الأصول الخمسة التي هي أركان الإيمان.
المبحث الثالث: الملائكة مخلوقات قائمة بنفسها حية ناطقة
من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الملائكة مخلوقات قائمة بنفسها، خلقها الله عز وجل من نور، وأنها حية ناطقة تنزل وتصعد، وتجيء وتذهب، وتتكلم بتبليغ الوحي، وبغيره.
فهي أعيان مخلوقة موجودة، وليست مجرد أعراض كما زعمت الفلاسفة.
نص الإجماع الذي حكاه شيخ الإسلام: قرر رحمه الله أن الملائكة من المخلوقات بقوله: (والملائكة من الأعيان لا من الأعراض، فهي من المخلوقات باتفاق المسلمين، وليس بين أهل الملل خلاف في أن الملائكة جميعهم مخلوقون، ولم يجعل أحد منهم المصنوعات نوعين: عالم خلق وعالم أمر، بل الجميع عندهم مخلوق، ومن قال: إن قوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54] أريد به هذا التقسيم الذي ذكره، فقد خالف إجماع المسلمين) .
وبين رحمه الله أن هذه المخلوقات موجودة في الحقيقة، وليسوا مجرد صفات أو أعراض، فقال: (فنقول إن المسلمين من أعظم الناس معرفة بوجود الملائكة والجن كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة) .
وقرر أيضاً رحمه الله أن الملائكة أعيان قائمة بنفسها، حية وناطقة، خلافاً للفلاسفة ومن سار على نهجهم ممن يجعل الملائكة أعراضاً تقوم بالنفس، حيث قال: (ومعلوم أن الملائكة الذين وصفهم الله تعالى في الكتاب والسنة لا ينطبقون على هذه العقول العشرة والنفوس التسعة التي يذكرونها، ولهذا يؤول بهم الأمر إلى أن يجعلوا الملائكة والشياطين أعراضاً تقوم بالنفس؛ ليست أعياناً قائمة بنفسها حية ناطقة، ومعلوم بالاضطرار أن هذا خلاف ما أخبرت به الرسل واتفق عليه المسلمون) .
ذكر من نقل الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: الملائكة خلق من خلق الله عز وجل؛ خلقهم الله من نور، وعلى هذا تواترت أقوال السلف رحمهم الله تعالى من الصحابة والتابعين.
فقد روى الإمام أبو سعيد الدارمي رحمه الله أن عمرو بن دينار رحمه الله قال: (أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن دونهم منذ سبعين سنة يقولون: الله الخالق وما سواه مخلوق...) .
وعقد الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه باباً بعنوان: (باب ما جاء في تخليق السموات والأرض وغيرها من الخلائق، وهو فعل الرب تبارك وتعالى وأمره، فالرب بصفاته وفعله وأمره وهو الخالق المكون غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه؛ فهو مفعول مخلوق مكون) .
وقال الواحدي رحمه الله في قوله تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54] قال: (يعني: أن جميع ما في العالم مخلوق له) .
فيدخل في ذلك الملائكة بلا شك، إذ ليس هناك نص من القرآن الكريم، ولا من السنة الشريفة يخرج الملائكة عن هذا العموم، بل إن النصوص جاءت مقررة لكون الملائكة عليهم السلام مخلوقون مربوبون ...
وقد ذكر الحليمي رحمه الله المعاني التي ينتظمها الإيمان بالملائكة، وذكر منها: (إنزالهم منازلهم، وإثبات أنهم عباد الله وخلقه كالإنس والجن) .
وهذا ما قرره ابن حزم رحمه الله بقوله: (وإن الملائكة حق، وهم خلق من خلق الله عز وجل، مكرمون، كلهم رسل الله، قال الله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23]، وقال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]، وقال تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر: 1]) .
وقال الطوفي رحمه الله: (وكذا الملائكة، فإن الشياطين خلقوا من نار، والملائكة من نور، كما صح في السنة النبوية) .
وتواترت أقوال السلف أيضاً على أن الملائكة أحياء عقلاء ناطقون.
قال القاضي عياض رحمه الله: (أجمع المسلمون على أن الملائكة مؤمنون فضلاء، واتفق أئمة المسلمين أن حكم المرسلين منهم حكم النبيين سواء في العصمة مما ذكرنا عصمتهم منه، وأنهم في حقوق الأنبياء، والتبليغ إليهم كالأنبياء مع الأمم) .
وقال ابن حزم رحمه الله: (وقال بعض السخفاء: إن الملائكة بمنزلة الهواء والرياح.
وهذا كذب وقحة وجنون؛ لأن الملائكة بنص القرآن والسنن وإجماع جميع من يقر بالملائكة من أهل الأديان المختلفة عقلاً متعبدون منهيون مأمورون، وليس كذلك الهواء والرياح، لكنها لا تعقل ولا هي متكلفة متعبدة؛ بل هي مسخرة مصرفة لا اختيار لها، قال تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} [البقرة: 164]) .
ومن المعلوم ضرورة أن الإيمان والعقل والفضل لا يوصف به غير الأحياء، فظهر من كلام العلماء رحمهم الله أنهم مقرون لكون الملائكة من الأحياء.
مستند الإجماع في المسألة: مما يستدل به على أن الملائكة مخلوقة عموم قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62]، وقوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [غافر: 62].
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: (فكل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك: فالله خلقه) .
ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا} [فصلت: 12].
قال القرطبي رحمه الله: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا} قال قتادة والسدي: خلق فيها شمسها وقمرها، ونجومها وأفلاكها، وخلق في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها) .
ومن الأدلة قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ} [الشورى: 29].
قال مجاهد رحمه الله في قوله: {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ} قال: (يدخل في هذا الملائكة والناس) .
وقال ابن كثير رحمه الله: (وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوانات؛ على اختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم، وقد فرقهم في أرجاء أقطار السماوات والأرض) .
ومن أدلة السنة ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)) .
فهذا نص صريح صحيح من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة مخلوقة، فلم يبق بعد ذلك لمخالف مقال.
أما الأدلة على أن الملائكة متصفون بالكلام فقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن المحاورة التي جرت بينه عز وجل وبين ملائكته عليهم السلام فقال تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 30-32].
فأثبت الله عز وجل في هذه الآيات أنه كلم الملائكة عليهم السلام وكلموه.
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أيضاً أن الملائكة عليهم السلام يكلم بعضهم بعضاً كما في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23].
وقد ذكر الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله أن هذه الآية فيها: (إثبات أن الملائكة يتكلمون ويفهمون ويعقلون لأنهم يسألون: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} ويجابون: قال {الْحَقَّ}، خلافاً لمن قال: إنهم لا يوصفون بذلك؛ فيلزم من قولهم هذا أننا تلقينا الشريعة ممن لا عقول لهم، وهذا قدح في الشريعة بلا ريب) .
وفي هذه الأدلة – التي تثبت صفة الكلام للملائكة عليهم السلام – دلالة أيضاً على أنهم أحياء.
ومما يدل على ذلك أيضاً ما أخبر الله عز وجل عنهم من أنهم يصعدون وينزلون، كما في قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]، وقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4]. وغير الحي لا يمكن وصفه بذلك.
أما من السنة فقد ثبت أن الملائكة عليهم السلام يتمثلون في صورة البشر، كما في حديث جبريل المشهور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينا نحن عند رسول الله ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟...).
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: ((يا عمر! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم)). .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)). .
وهذا إثبات قاطع على أن الملائكة عليهم السلام أحياء، وأنهم يتكلمون.
فظهر جلياً بما لا يدع مجالاً للشك – بجموع هذه الأدلة – أن الملائكة عليهم السلام خلق من خلق الله عز وجل، وهم أحياء ناطقون.
المبحث الرابع: سجود الملائكة لآدم عليه السلام
من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل لما أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام سجدوا له جميعاً بلا استثناء، ملائكة الأرض، وملائكة السماء، لقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [ص: 72].
(ومن قال إنه لم يسجد له جميع الملائكة بل ملائكة الأرض؛ فقد رد القرآن بالكذب والبهتان، وهذا القول ونحوه ليس من أقوال المسلمين واليهود والنصارى، وإنما هو من أقوال الملاحدة المتفلسفة الذين يجعلون الملائكة قوى النفس الصالحة، والشياطين قوى النفس الخبيثة، ويجعلون سجود الملائكة طاعة القوى للعقل، وامتناع الشياطين عصيان القوى الخبيثة للعقل) .
وكانت سجود الملائكة لآدم عليه السلام عبادة وطاعة لله، وقربة يتقربون بها إليه وهو لآدم تشريف وتكريم وتعظيم ... نقل شيخ الإسلام رحمه الله إجماع أهل الملل على سجود الملائكة لآدم عليه السلام وذلك في معرض رده على الفلاسفة الذين يزعمون أن الملائكة هي التي أبدعت جميع المصنوعات حيث قال:
(ولأن ما اتفق عليه أهل الملل من أن الملائكة سجدوا لآدم عليه السلام يبطل قول هؤلاء: إن أضعف العقول – التي هي الملائكة عندهم – هو مبدع جميع البشر، ورب كل ما تحت فلك القمر) .
وقد بين رحمه الله أن هذا السجود كان لآدم عليه السلام على الحقيقة فقال: (السجود كان لآدم بأمر الله وفرضه بإجماع من يسمع قوله) .
وذلك للرد على من زعم أن السجود كان لله، وإنما جعل آدم عليه السلام قبله للملائكة يسجدون إليه كما يسجد إلى الكعبة، وليس في هذا تفضيل له عليهم؛ كما أن السجود إلى الكعبة ليس فيه تفضيل للكعبة على المؤمن عند الله.
ثم ذكر رحمه الله الأدلة على صحة ما ذهب إليه، وفساد قول هؤلاء وذلك من عدة وجوه:
أحدها: أن الله سبحانه وتعالى قال: {اسْجُدُواْ لآدَمَ} [البقرة: 34]، ولم يقل: إلى آدم.
وكل حرف له معنى، ومن التمييز في اللسان أن يقال: سجدت له، وسجدت إليه، كما قال تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]، وقوله: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرعد: 15]، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى عنزة، ولا يقال لعنزة، وإلى عمود وشجرة، ولا يقال لعمود، ولا لشجرة.
والساجد للشيء يخضع له بقلبه، ويخشع له بفؤاده، وأما الساجد إليه فإنما يولي وجهه وبدنه إليه ظاهراً، كما يولي وجهه إلى بعض النواحي إذا أمه، كما قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144].
الثاني: أن آدم عليه السلام لو كان قبلة لم يمتنع إبليس من السجود، أو يزعم أنه خير منه، فإن القبلة قد تكون أحجاراً؛ وليس في ذلك تفضيل لها على المصلين إليها، وقد يصلي الرجل إلى عَنَزَة وبعير، وإلى رجل؛ ولا يتوهم أنه مفضل بذلك، فمن أي شيء فر الشيطان؟ هذا هو العجب العجيب.
الثالث: أنه لو جعل آدم قبلة في سجدة واحدة؛ لكانت القبلة وبيت المقدس أفضل منه بآلاف كثيرة، إذ جعلت قبلة دائمة في جميع أنواع الصلوات، فهذه القصة الطويلة التي هي من أفضل النعم عليه، والتي رفعه الله بها، وامتن بها عليه؛ ليس فيها أكثر من أنه جعله كالكعبة في بعض الأوقات، مع أن بعض ما أوتيه من الإيمان والعلم، والقرب من الرحمن أفضل بكثير من الكعبة؛ والكعبة إنما وضعت له ولذريته؛ أفيجعل من جسيم النعيم عليه أو يشبه به في شيء نزر قليل جداً؟. هذا مالا يقوله عاقل .
وهذا السجود كان من جميع الملائكة؛ ملائكة السماء، وملائكة الأرض، وهذا ما قرره رحمه الله عندما سئل: هل سجد ملائكة السماء والأرض، أم ملائكة الأرض خاصة؟.
فأجاب رحمه الله: (بل أسجد له جميع الملائكة كما نطق بذلك القرآن في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [ص: 73]، فهذه ثلاث صيغ مقررة للعموم وللاستغراق؛ فإن قوله: {الْمَلَائِكَةُ} يقتضي جميع الملائكة؛ فإن اسم الجمع المعرف بالألف واللام يقتضي العموم؛ فهو رب جميع الملائكة.
الثاني: (كلهم) وهذا من أبلغ العموم، الثالث: قوله: {أَجْمَعُونَ} وهذا توكيد للعموم.) .
ذكر من نقل الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: اتفقت كلمة العلماء رحمهم الله تعالى على أن الملائكة عليهم السلام سجدوا لآدم عليه السلام.
والذي يدل على ذلك ما نقوله من الإجماع على أن سجود الملائكة لآدم عليه السلام لم يكن سجود عبادة.
قال أبو بكر بن العربي رحمه الله: (اتفقت الأمة على أن السجود لآدم عليه السلام لم يكن سجود عبادة) .
وقال الفخر الرازي رحمه الله: (أجمع المسلمون على أن ذلك السجود ليس سجود عبادة) .
وقرر ذلك القرطبي رحمه الله بقوله: (واختلف الناس في كيفية سجود الملائكة لآدم بعد اتفاقهم على أنه لم يكن سجود عبادة) .
قلت: وفي إجماعهم على أن السجود لم يكن سجود عبادة، يؤخذ منه أنهم مجمعون على وقوع هذا السجود لآدم عليه السلام، وهو ما نقل عليه الإجماع شيخ الإسلام رحمه الله.
وقد بين الطبري رحمه الله أن السجود وقع من جميع الملائكة لا من بعضهم حيث قال: (... فلما سوى الله خلق ذلك البشر وهو آدم، ونفخ فيه من روحه، سجد له {الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [ص: 73]، يعني بذلك الملائكة الذين هم في السموات والأرض) .
وهذا السجود كان لآدم عليه السلام على الحقيقة، خلافاً لمن زعم أن السجود كان لله وإنما جعل آدم عليه السلام قبلة، فقد أخرج الطبري عن قتادة رحمهما الله في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} [البقرة: 34] أنه قال: (فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته) .
وقال البغوي رحمه الله: {اسْجُدُواْ} فيه قولان: الأصح أن السجود كان لآدم على الحقيقة، وتضمن معنى الطاعة لله عز وجل بامتثال أمره، وكان ذلك سجود تعظيم وتحية لا سجود عبادة) .
مستند الإجماع في المسألة: الأدلة على سجود الملائكة لآدم عليه السلام كثيرة، وقد ذكر المولى تبارك وتعالى ذلك في سبعة مواضع من الكتاب العزيز.
قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف: 11].
وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61].
وقال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50].
وقال الله عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [طه: 116].
وقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 28-30].
وقال المولى عز وجل: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [ص: 71-73].
فهذه الأدلة جميعاً دلت دلالة قاطعة على أن الملائكة سجدوا لآدم عليه السلام على الحقيقة؛ امتثالاً وطاعة لربهم عز وجل.
أما أدلة السنة على ذلك فما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احتج آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما، فحج آدم موسى. قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض؟. فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجيا، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاما. قال آدم: فهل وجدت فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]؟. قال: نعم قال: أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى)). .
والشاهد في قوله موسى عليه السلام: (وأسجد لك ملائكته). فهذا إثبات من موسى عليه السلام، وإقرار من محمد صلى الله عليه وسلم على سجود الملائكة لآدم عليه السلام.
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، يأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا...)) .
وفي هذا إثبات من النبي صلى الله عليه وسلم – الذي لا ينطق عن الهوى – على سجود الملائكة لآدم عليه السلام.
المبحث الخامس: ثمرات الإيمان بالملائكة
قال ابن عثيمين: والإيمان بالملائكة يثمر ثمرات جليلة منها:
الأولى: العلم بعظمة الله تعالى، وقوته، وسلطانه، فإن عظمة المخلوق من عظمة الخالق.
الثانية: شكر الله تعالى على عنايته ببني آدم، حيث وكل من هؤلاء الملائكة من يقوم بحفظهم، وكتابة أعمالهم، وغير ذلك من مصالحهم.
الثالثة: محبة الملائكة على ما قاموا به من عبادة الله تعالى
• الباب الثاني: صفات الملائكة الخَلْقية والخُلُقية وأقسامهم.
• الفصل الأول: الصفات الخَلْقية .
المبحث الأول: مادة خلقهم ووقته
إنّ المادة التي خلقوا منها هي النور؛ ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)) .
ولم يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي نور هذا الذي خلقوا منه، ولذلك فإننا لا نستطيع أن نخوض في هذا الأمر لمزيد من التحديد؛ لأنه غيب لم يرد فيه ما يوضحه أكثر من هذا الحديث...
ولا ندري متى خُلقوا، فالله - سبحانه - لم يخبرنا بذلك، ولكننا نعلم أنّ خلقهم سابق على خلق آدم أبي البشر، فقد أخبرنا الله أنه أعلم ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفة:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: 30]، والمراد بالخليفة آدم عليه السلام، وأمرهم بالسجود له حين خلقه:{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ [}الحجر: 29 ].
رؤية الملائكة:
ولما كانت الملائكة أجساماً نورانية لطيفة، فإن العباد لا يستطيعون رؤيتهم، خاصة أن الله لم يعط أبصارنا القدرة على هذه الرؤية.
ولم ير الملائكة في صورهم الحقيقية من هذه الأمة إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه رأى جبريل مرتين في صورته التي خلقه الله عليها، وقد دلت النصوص على أن البشر يستطيعون رؤية الملائكة، إذا تمثل الملائكة في صورة بشر.
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على صورته الملائكية التي خلقه الله عليها مرتين، هما المذكورتان في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ[ }التكوير: 23 ]، وفي قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } [النجم: 13-15]، عندما عرج به إلى السموات العلا.
وقد ورد في صحيح مسلم: ((أن عائشة رضي الله عنها سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن هاتين الآيتين فقال صلى الله عليه وسلم: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرتين.
رأيته منهبطاً من السماء، سادّاً عِظَمُ خَلْقه ما بين السماء إلى الأرض)) .
(وسئلت عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8]، فقالت: إنما ذلك جبريل عليه السلام، كان يأتيه في صورة الرجال، وإنه أتاه في هذه المرة في صورته، التي هي صورته، فسدّ أفق السماء) .
وورد في صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل له ستمائة جناح) .
وقال ابن مسعود أيضاً في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] (أي رفرفاً أخضر قد سدّ الأفق) . وهذا الرفرف الذي سدّ الأفق هو ما كان عليه جبريل، فقد ذكر ابن حجر أن النسائي والحاكم رويا من طريقهما عن ابن مسعود قال: (أبصر نبي الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض) .
وذكر ابن حجر أن ابن مسعود قال في رواية النسائي: (رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل له ستمائة جناح قد سدّ الأفق) .
وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: (رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته، وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سدّ الأفق. يسقط من جناحه التهاويل من الدرر واليواقيت) .
قال ابن كثير في هذا الحديث: (إسناده جيد) .
وقال في وصف جبريل:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ }[التكوير: 19-21]، والمراد بالرسول الكريم هنا: جبريل، وذي العرش: رب العزة سبحانه.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
2-عِظم خلقة حَمَلة العرش:
روى أبو داود عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أُذن لي أن أُحدِّث عن ملك من ملائكة الله، من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)) .
ورواه ابن أبي حاتم وقال: ((تخفق الطير)). قال محقق مشكاة المصابيح: (إسناده صحيح).
وروى الطبراني في معجمه الأوسط بإسناد صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش، رجلاه في الأرض السفلى، وعلى قرنه العرش، وبين شحمة أذنيه وعاتقه خفقان الطير سبعمائة عام، يقول ذلك الملك: سبحانك حيث كنت))
• المبحث الثاني: أهم الصفات الخَلقية.
المطلب الأول: أجنحة الملائكة
للملائكة أجنحة كما أخبرنا الله تعالى، فمنهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، أو أربعة، ومنهم من له أكثر من ذلك:{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر: 1].
والمعنى أن الله جعلهم أصحاب أجنحة، بعضهم له جناحان، وبعضهم له ثلاثة أو أربعة، أو أكثر من ذلك
المطلب الثاني: جمال الملائكة
خلقهم الله على صور جميلة كريمة قال تعالى في جبريل: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}[النجم: 5-6]. قال ابن عباس: (ذُو مِرَّةٍ: ذو منظر حسن) ، وقال قتادة: (ذو خَلْقٍ طويل حسن) . وقيل: (ذُو مِرَّةٍ: ذو قوة) . ولا منافاة بين القولين، فهو قوي وحسن المنظر.
وقد تقرر عند الناس وصف الملائكة بالجمال، كما تقرر عندهم وصف الشياطين بالقبح، ولذلك تراهم يشبهون الجميل من البشر بالملك، انظر إلى ما قالته النسوة في يوسف الصديق عندما رأينه: {فلما رأينه أكبرنه وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وقلن حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملكٌ كريمٌ}[ يوسف: 31]
المطلب الثالث: تفاوتهم في الخلق والمقدار
الملائكة ليسوا على درجة واحدة في الخلق والمقدار، فبعض الملائكة له جناحان، وبعضهم له ثلاثة، وجبريل له ستمائة جناح، ولهم عند ربهم مقامات متفاوتة معلومة:{وما منَّا إلاَّ له مقامٌ معلومٌ} [الصافات: 164].
وقال في جبريل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ }
[التكوير: 19-21]؛ أي له مكانة ومنزلة عالية رفيعة عند الله.
وأفضل الملائكة هم الذين شهدوا معركة بدر، ففي صحيح البخاري عن رفاعة بن رافع: ((أن جبريل جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدّون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين، أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة)) .
المطلب الرابع: لا يوصفون بالذكورة والأنوثة
من أسباب ضلال بني آدم في حديثهم عن عوالم الغيب أن بعضهم يحاول إخضاع هذه العوالم لمقاييسه البشرية الدنيوية، فنرى أحداً من هؤلاء يعجب في مقال له من أن جبريل كان يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ثوان من توجيه سؤال إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى جواب من الله، فكيف يأتي بهذه السرعة الخارقة، والضوء يحتاج إلى ملايين السنوات الضوئية؛ ليصل إلى بعض الكواكب القريبة من السماء.
وما درى هذا المسكين أن مثله كمثل بعوضة، تحاول أن تقيس سرعة الطائرة بمقياسها الخاص، لو تفكر في الأمر، لعلم أن عالم الملائكة له مقاييس تختلف تماماً عن مقاييسنا نحن البشر.
ولقد ضلّ في هذا المجال مشركو العرب الذين كانوا يزعمون أن الملائكة إناث، واختلطت هذه المقولة المجافية للحقيقة عندهم بخرافة أعظم وأكبر؛ إذ زعموا أن هؤلاء الإناث بنات الله.
وناقشهم القرآن في هاتين القضيتين، فبين أنهم - فيما ذهبوا إليه - لم يعتمدوا على دليل صحيح، وأن هذا القول قول متهافت، ومن عجب أنهم ينسبون لله البنات، وهم يكرهون البنات، وعندما يبشر أحدهم أنه رزق بنتاً يظل وجهه مسوداً وهو كظيم، وقد يتوارى من الناس خجلاً من سوء ما بُشر به، وقد يتعدى هذا المأفون طوره، فيدس هذه المولودة في التراب، ومع ذلك كله ينسبون لله الولد، ويزعمون أنهم إناث، وهكذا تنشأ الخرافة، وتتفرع في عقول الذين لا يتصلون بالنور الإلهي.
استمع إلى الآيات التالية تحكي هذه الخرافة وتناقش أصحابها:{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ} [الصافات: 149-156].
وقد جعل الله قولهم هذا شهادة سيحاسبهم عليها، فإن من أعظم الذنوب القول على الله بغير علم: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُون} [الزخرف: 19].
المطلب الخامس: لا يأكلون ولا يشربون
وأنهم لا يحتاجون إلى طعام البشر وشرابهم، فقد أخبرنا الله أن الملائكة جاؤوا إبراهيم في صورة بشر، فقدّم لهم الطعام، فلم تمتد أيديهم إليه، فأوجس منهم خيفة، فكشفوا له عن حقيقتهم، فزال خوفه واستغرابه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 24-28].
وفي آية أخرى قال: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ } [هود: 70 ].
ونقل السيوطي عن الفخر الرازي: (أن العلماء اتفقوا على أن الملائكة لا يأكلون, ولا يشربون, ولا يتناكحون
المطلب السادس: لا يملّون ولا يتعبون
والملائكة يقومون بعبادة الله وطاعته وتنفيذ أوامره، بلا كلل ولا ملل، ولا يدركهم ما يدرك البشر من ذلك، قال تعالى في وصف الملائكة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20].
ومعنى لا يفترون: لا يضعفون. وفي الآية الأخرى: {فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] تقول العرب: سئم الشيء، أي: ملّه.
وقد استدل السيوطي بقوله: {لا يَفْتُرُونَ} على أن الملائكة لا ينامون، ونقله عن الفخر الرازي
المطلب السابع: منازل الملائكة
منازل الملائكة ومساكنها السماء، كما قال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى: 5].
وقد وصفهم الله تعالى بأنهم عنده: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38].
وينزلون إلى الأرض بأمر الله لتنفيذ مهمات نيطت بهم، ووكلت إليهم: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64]. ويكثر نزولهم في مناسبات خاصة كليلة القدر: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 3-4].
المطلب الثامن: أعداد الملائكة
الملائكة خلق كثير لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31].
وإذا أردت أن تعلم كثرتهم، فاسمع ما قاله جبريل عن البيت المعمور، عندما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم عنه عندما بلغه في الإسراء: ((هذا البيت المعمور يصلي فيه في كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم)) .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)) . فعلى ذلك فإن الذين يأتون بجهنم يوم القيامة أربعة مليارات وتسعمائة مليون ملك.
وإذا تأملت النصوص الواردة في الملائكة التي تقوم على الإنسان علمت مدى كثرتهم، فهناك ملك موكل بالنطفة، وملكان لكتابة أعمال كل إنسان، وملائكة لحفظه، وقرين ملكي لهدايته وإرشاده.....
المطلب التاسع: موت الملائكة
من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل قد كتب على جميع المخلوقات الفناء، وتفرد عز جاهه بالبقاء، وعلى هذا فهم يؤمنون بأن الملائكة عليهم السلام يجوز عليهم الموت، وأن الله قادر على ذلك.
وإنما يخالف في ذلك طوائف من المتفلسفة، أتباع أرسطو وأمثالهم، ومن دخل معهم من المنتسبين إلى الإسلام ممن زعم أن الملائكة هي العقول والنفوس، وأنه لا يمكن موتها بحال ، وأنكر ذلك أيضاً ابن حزم رحمه الله ... سئل – شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: هل جميع الخلق حتى الملائكة يموتون؟.
فأجاب: (الذي عليه أكثر الناس أن جميع الخلق يموتون حتى الملائكة، والمسلمون واليهود والنصارى متفقون على إمكان ذلك، وقدرة الله عليه) ....
إن الله عز وجل قادر على أن يميت الملائكة، كما هو قادر على إماتة البشر، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].
فقد روى البيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه، والصور قرن، فلا يبقى لله خلق في السماوات ولا في الأرض إلا مات؛ إلا من شاء ربك) .
وأخرج الطبري رحمه الله بسنده عن قتادة أنه قال: (قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ} [الزمر: 68] قال الحسن: يستثني الله وما يدع أحداً من أهل السماوات ولا أهل الأرض إلا أذاقه الموت، قال قتادة: قد استثنى الله، والله أعلم إلى ما صارت ثنيته) .
وقد بين الطبري رحمه الله أن قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ} بمعنى: مات .
والملائكة عليهم السلام من سكان السماوات؛ وبناء على ذلك فالآية تشملهم، فيموتون كما يموت الإنس والجن.
وقال الطبري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 35] من سورة الأنبياء، قال: (يقول تعالى ذكره: كل نفس منفوسة من خلقه معالجة غصص الموت ومتجرعة كأسها) .
وقد قرر ذلك الحليمي رحمه الله في كتابه (المنهاج) بقوله: (والإيمان بالملائكة ينتظم معاني – وذكر منها -: إنزالهم منازلهم، وإثبات أنهم عباد الله وخلقه، كالإنس والجن، مأمورون مكلفون، لا يقدرون إلا على ما يقدرهم الله تعالى عليه، والموت جائز عليهم، ولكن الله تعالى جعل لهم أمداً بعيداً، فلا يتوفاهم حتى يبلغوه) .
ونقل عبد القاهر البغدادي رحمه الله الإجماع على جواز فناء العالم من طريق القدرة والإمكان فقال: (وأجمعوا أيضاً على جواز الفناء على العالم كله من طريق القدرة والإمكان، وإنما قالوا بتأبيد الجنة، وتأبيد جهنم وعذابها من طريق الشرع) .
والملائكة عليهم السلام إنما هم جزء من هذا العالم الكبير الذي خلقه الله سبحانه وتعالى وأوجده، وهو وحده القادر على فنائه وهلاكه؛ كما أخبرنا الله عز وجل في كتابه العزيز، فقال عز من قائل: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88]....
ومن الأدلة قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68].
قال ابن كثير رحمه الله: (هذه النفخة هي الثانية وهي نفخة الصعق، وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله؛ كما جاء مصرحاً به مفسراً في حديث الصور المشهور، ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم الذي كان أولاً وهو الباقي آخراً بالديمومة والبقاء، ويقول: ((لمن الملك اليوم)) ثلاث مرات، ثم يجيب نفسه بنفسه فيقول: ((لله الواحد القهار)) .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في المراد بالمستثنى في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68] إلى أقوال كثيرة، وقد ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه (فتح الباري) بقوله:
(وحاصل ما جاء في ذلك عشرة أقوال: الأول: أنهم الموتى كلهم لكونهم لا إحساس لهم فلا يصعقون، وإلى هذا جنح القرطبي في (المفهم) وفيه ما فيه، ومستنده أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح، وتعقبه صاحبه القرطبي في (التذكرة) فقال: قد صح فيه حديث أبي هريرة.
وفي الزهد لهناد بن السري عن سعيد بن جبير موقوفاً: (هم الشهداء)، وسنده إلى سعيد صحيح وهذا هو القول الثاني.
الثالث: الأنبياء، وإلى ذلك جنح البيهقي في تأويل الحديث في تجويزه أن يكون موسى ممن استثنى الله، قال: ووجهه عندي أنهم أحياء عند ربهم كالشهداء فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا ثم لا يكون ذلك موتاً في جميع معانيه إلا في ذهاب الاستشعار، وقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون موسى ممن استثنى الله، فإن كان منهم فإنه لا يذهب استشعاره في تلك الحالة بسبب ما وقع له في صعقة الطور.
ثم ذكر أثر سعيد بن جبير في الشهداء وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه سأل جبريل عن هذه الآية من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا؟ قال: هم شهداء الله عز وجل)) . صححه الحاكم ورواته ثقات ورجحه الطبري.
الرابع: قال يحيى بن سلام في تفسيره: (بلغني أن آخر من يبقى جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، ثم يموت الثلاثة ثم يقول الله لملك الموت مت فيموت. قلت: وجاء نحو هذا مسنداً في حديث أنس أخرجه البيهقي وابن مردويه بلفظ: (فكان ممن استثنى الله ثلاثة جبريل وميكائيل وملك الموت) الحديث، وسنده ضعيف.
وأخرج الطبري بسند صحيح عن إسماعيل ووصله إسماعيل بن أبي زياد الشامي في تفسيره عن ابن عباس مثل يحيى بن سلام ونحوه عن سعيد بن المسيب أخرجه الطبري وزاد (ليس فيهم حملة العرش لأنهم فوق السماوات).
الخامس: يمكن أن يؤخذ مما في الرابع.
السادس: الأربعة المذكورون وحملة العرش، وقع ذلك في حديث أبي هريرة الطويل المعروف بحديث الصور وقد تقدمت الإشارة إليه وأن سنده ضعيف مضطرب، وعن كعب الأحبار نحوه وقال: هم اثنا عشر، أخرجه ابن أبي حاتم وأخرجه البيهقي من طريق زيد بن أسلم مقطوعاً ورجاله ثقات.
وجمع في حديث الصور بين هذا القول وبين القول أنهم الشهداء، ففيه ((فقال أبو هريرة رضي الله عنه: يا رسول الله فمن استثنى حين الفزع؟ قال: الشهداء)) ثم ذكر نفخة الصعق على ما تقدم.
السابع: موسى عليه السلام وحده، أخرجه الطبري بسند ضعيف عن أنس وعن قتادة وذكره الثعلبي عن جابر.
الثامن: الولدان الذين في الجنة والحور العين.
التاسع: هم وخزان الجنة والنار وما فيها من الحيات والعقارب، حكاهما الثعلبي عن الضحاك بن مزاحم.
العاشر: الملائكة كلهم، جزم به أبو محمد بن حزم في الملل والنحل فقال: الملائكة أرواح لا أرواح فيها، فلا يموتون أصلاً.
وأما ما وقع عند الطبري بسند صحيح عن قتادة قال: قال الحسن: يستثني الله وما يدع أحدا إلا أذاقه الموت فيمكن أن يعد قولاً آخر.
قال البيهقي: استضعف بعض أهل النظر أكثر هذه الأقوال لأن الاستثناء وقع من سكان السماوات والأرض وهؤلاء ليسوا من سكانها؛ لأن العرش فوق السماوات فحملته ليسوا من سكانها، وجبريل وميكائيل من الصافين حول العرش، ولأن الجنة فوق السماوات والجنة و النار عالمان بانفرادهما خلقتا للبقاء.
ويدل على أن المستثنى غير الملائكة ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وصححه الحاكم من حديث لقيط بن عامر مطولاً وفيه: ((يلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصائحة، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من أحد إلا مات حتى الملائكة الذين مع ربك)) .
ولعل الذي تطمئن إليه النفس من هذه الأقوال هو ما ذكره الحسن رحمه الله: من أن الله سبحانه وتعالى يستثني، وهو أعلم بما استثناه.
فقد يتناول الاستثناء هذه الأقوال جميعاً، وقد يتناول غيرها، ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله جل جلاله، فإنه عز وجل قد ذكر ذلك على سبيل الإطلاق .
(ولا يصار إلى بيان المبهمات إلا بقاطع) ، فلا سبيل إلى العلم بذلك إلا عن طريق الخبر، إما من كتاب الله عز وجل، وإما عن طريق نبيه صلى الله عليه وسلم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وبكل حال: النبي صلى الله عليه وسلم قد توقف في موسى عليه السلام، وهل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه أم لا؟.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر بكل من استثنى الله؛ لم يمكنا نحن أن نجزم بذلك، وصار هذا مثل العلم بوقت الساعة وأعيان الأنبياء، وأمثال ذلك مما لم يخبر به، وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر، والله أعلم) .
وعلى هذا فالذي يظهر والله أعلم أن الملائكة عليهم السلام يموتون كما يموت غيرهم من الجن والإنس، أما المستثنى فعلمه عند الله.
المبحث الثالث: هل الجن من الملائكة
الجن ليسوا من الملائكة؛ لأن الملائكة خلقوا من نور, والجن خلقوا من نار قال الله - تعالى -: {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27]. وثبت عن النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن الملائكة خلقوا من نور؛ ولأن الملائكة كما وصفهم الله - تعالى - بقوله: {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [ الأنبياء: 26-27]. والجن فيهم المؤمن والكافر والمطيع والعاصي قال الله - تعالى -: {قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ} [الأعراف:38]. وقال عن الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 14-15]. وقال عنهم أيضًا: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن:11]. ولأن الملائكة - كما قال أهل العلم - صمد لا يأكلون ولا يشربون، والجن يأكلون ويشربون، فقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال للجن الذين وفدوا إليه: ((لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحمًا)) فتبين بهذه الأدلة أن الملائكة ليسوا من الجن فأما قوله - تعالى -: {فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ} [الحجر: 30-31].
فإنما استثناه لأنه كان معهم حينذاك وليس منهم, ويبين ذلك قوله - تعالى - في سورة الكهف: {فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50]. فعلل فسقه عن أمر ربه بكونه من الجن، ولو كان الملائكة من الجن لأمكن أن يفسقوا عن أمر ربهم كما فسق إبليس، وهذا الاستثناء يسمى استثناء منقطعًا كما يقول النحويون: (جاء القوم إلا حمارًا) وهو كلام عربي فصيح، فاستثنى الحمار من القوم وإن لم يكن منهم.
المبحث الرابع: هل إبليس من الملائكة
إبليس ليس من الملائكة لأن إبليس خلق من نار والملائكة خلقت من نور، ولأن طبيعة إبليس غير طبيعة الملائكة، فالملائكة وصفهم الله - تعالى - بأنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [الممتحنة: 6]. ووصفهم الله - تعالى - بقوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19-20].أما الشيطان فإنه على العكس من ذلك فإنه كان مستكبرًا كما قال - تعالى -: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}، [البقرة:34] ولكن لما وجه الخطاب إلى الملائكة بالسجود لآدم وكان إبليس من بينهم - أي معهم مشاركًا لهم في العبادة - وإن كان قلبه - والعياذ بالله - منطويًا على الكفر والاستكبار صار الخطاب متوجهًا إلى الجميع فلهذا صح استثناؤه منهم فقال - تعالى -: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} وإلا فأصله ليس منهم بلا شك كما قال - تعالى -: {فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50].. والله أعلم
الفصل الثاني: الصفات الخُلُقية.
المبحث الأول: الملائكة كرام بررة
وصف الله الملائكة بأنهم كرام بررة: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 15-16]؛ أي القرآن بأيدي سفرة، أي: الملائكة؛ لأنهم سفراء الله إلى رسله وأنبيائه، قال البخاري: (سفرة: الملائكة واحدهم سافر، سفرتُ: أصلحت بينهم، وجعلت الملائكة - إذا نزلت بوحي الله تعالى وتأديته - كالسفير الذي يصلح بين القوم) .
وقد وصف الله تعالى هؤلاء الملائكة بأنهم {كِرَامٍ بَرَرَةٍ}؛ أي: خلقهم كريم حسن شريف، وأخلاقهم وأفعالهم بارة ظاهرة كاملة، ومن هنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد.
روى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام، ومثل الذي يقرأ القرآن وهو يتعاهده، وهو عليه شديد، فله أجران)) .
استحياء الملائكة:
من أخلاق الملائكة التي أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بها: الحياء؛ ففي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن عائشة: ((أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مضطجعاً في بيتها، كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحال، فتحدث، ثمّ استأذن عمر، فأذن له وهو كذلك، فتحدث، ثم استأذن عثمان، فجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وسوّى ثيابه، فدخل، فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر، فلم تهتش له، ولم تُبَالهِ، ثم دخل عمر، فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان، فجلست، وسويت ثيابك، فقال: ألا استحيي من رجل تستحيي منه الملائكة)) .
وقولها: لم تهتش له: الهشاشة والبشاشة: طلاقة الوجه، وحسن اللقاء.
وقولها: لم تباله: لم تحتفل به
المبحث الثاني: قدراتهم
أعطى الله الملائكة القدرة على أن يتشكلوا بغير أشكالهم، فقد أرسل الله جبريل إلى مريم في صورة بشر: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم: 16-19].
وإبراهيم - عليه السلام - جاءَته الملائكة في صورة بشر، ولم يعرف أنهم ملائكة حتى كشفوا له عن حقيقة أمرهم، {وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 69-70].
وجاؤوا إلى لوط في صورة شباب حسان الوجوه، وضاق لوط بهم، وخشي عليهم قومه، فقد كانوا قوم سوء يفعلون السيئات، ويأتون الذكران من العالمين: {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77].
يقول ابن كثير) تبدى لهم الملائكة في صورة شباب حسان امتحاناً واختباراً, حتى قامت على قوم لوط الحجة، وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر( .
وقد كان جبريل يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم في صفات متعددة، فتارة يأتي في صورة دحية بن خليفة الكلبي (صحابي كان جميل الصورة)، وتارة في صورة أعرابي.
وقد شاهده كثير من الصحابة عندما كان يأتي كذلك.
في الصحيحين عن عمر بن الخطاب قال: ((بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام)) . وفي الحديث أنه سأله عن الإيمان, والإحسان, والساعة وأماراتها.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد أن السائل جبريل، جاء يعلم الصحابة دينهم.
((ورأت عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم واضعاً يده على معرفة فرس دحية الكلبي يكلمه، فلما سألته عن ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: ذلك جبريل، وهو يقرئك السلام)) .
وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وأنه لما هاجر تائباً جاءه الموت في منتصف الطريق إلى الأرض التي هاجر إليها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فحكّموا فيه ملكاً جاءَهم في صورة آدمي، يقول عليه السلام: ((فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له)) ، ولا بدّ أنهم حكموه بأمر الله، فأرسل الله لهم هذا الملك في صورة آدمي، والقصة في صحيح مسلم، في باب التوبة.
المبحث الثالث: علمهم
والملائكة عندهم علم وفير علّمهم الله إيّاه، ولكن ليس عندهم القدرة التي أعطيت للإنسان في التعرف على الأشياء: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 31-32].
فالإنسان يتميز بالقدرة على التعرف على الأشياء، واكتشاف سنن الكون، والملائكة يعلمون ذلك بالتلقي المباشر عن الله سبحانه وتعالى.
ولكنّ الذي علمهم الله إياه أكثر مما يعرفه الإنسان، ومن العلم الذي أعطوه علم الكتابة: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10-12 ]
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المبحث الرابع: اختصام الملأ الأعلى
والملائكة تتحاور فيما بينها فيما خفي عليها من وحي ربها، ففي سنن الترمذي، ومسند أحمد عن ابن عباس: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((أتاني الليلة ربي - تبارك وتعالى - في أحسن صورة - قال: أحسبه قال: في المنام - فقال: يا محمد، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: لا. قال: فوضع يده بين كتفيّ، حتى وجدت بردها بين ثدييّ، فعلمت ما في السموات، وما في الأرض.
فقال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، في الكفارات والدرجات، والكفارات: المكث في المساجد بعد الصلاة، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره، والدرجات: إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام.
قال: صدقت، ومن فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه.
وقال: يا محمد، إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحبّ المساكين، وأن تغفر لي، وترحمني، وتتوب عليّ، وإذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضني إليك غير مفتون)) .
قال ابن كثير في هذا الحديث بعد ذكره له: (هذا حديث المنام المشهور، ومن جعله يقظة فقد غلط، وهو في السنن من طرق، وهذا الحديث رواه الترمذي من حديث جهضم بن عبد الله اليمامي به.
وقال الحسن: صحيح، وليس هذا الاختصام هو الاختصام المذكور في القرآن في قوله: {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإٍ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [ص: 69-70].
فإن الاختصام المذكور في الحديث، قد فسره الرسول صلى الله عليه وسلم.
والاختصام المذكور في القرآن فسرته الآيات بعده: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} [ص: 71-74].
فالاختصام المذكور في القرآن كان في شأن آدم - عليه السلام - وامتناع إبليس من السجود له، ومحاجته ربّه في تفضيله عليه) .
منظمون في كل شؤونهم:
الملائكة منظمون في عبادتهم، وقد حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم على الاقتداء بهم في ذلك فقال: ((ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها؟. قالوا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف، ويتراصون في الصف)) .
وفي يوم القيامة يأتون صفوفاً منتظمة: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [ الفجر: 22 ]، ويقفون صفوفاً بين يدي الله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [ النبأ: 38 ]، والروح: جبريل.
وانظر إلى دقة تنفيذهم للأوامر، ففي صحيح مسلم، ومسند أحمد عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك))
المبحث الخامس: عبادة الملائكة
الملائكة مطبوعون على طاعة الله، ليس لديهم القدرة على العصيان: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [ التحريم: 6 ].
فتركهم للمعصية، وفعلهم للطاعة جبلّة، لا يكلفهم أدنى مجاهدة؛ لأنه لا شهوة لهم.
ولعلّ هذا هو السبب الذي دعا فريقاً من العلماء إلى القول: إن الملائكة ليسوا بمكلفين، وإنهم ليسوا بداخلين في الوعد والوعيد .
ويمكن أن نقول: إن الملائكة ليسوا بمكلفين بالتكاليف نفسها التي كلف بها أبناء آدم. أما القول بعدم تكليفهم مطلقاً، فهو قول مردود، فهم مأمورون بالعبادة والطاعة: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [ النحل: 50 ]. وفي الآية أنهم يخافون ربهم، والخوف نوع من التكاليف الشرعية، بل هو من أعلى أنواع العبودية، كما قال فيهم: {وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [ الأنبياء: 28 ].
مكانة الملائكة:
خير ما يوصف به الملائكة أنهم عباد الله، ولكنهم عباد مكرمون، وقد سبق أن أشرنا إلى أن دعوى المشركين في أنّ الملائكة - بنات الله - دعوى باطلة، لا نصيب لها من الصحة، وقد أكذب الله القائلين بهذا القول، وبين حقيقة الملائكة ومكانتهم في أكثر من موضع، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26-29 ].
الملائكة عباد يتصفون بكل صفات العبودية، قائمون بالخدمة، منفذون للتعاليم، وعلم الله بهم محيط، لا يستطيعون أن يتجاوزوا الأوامر، ولا أن يخالفوا التعليمات الملقاة إليهم، خائفون وجلون...
ومن تمام عبودية الملائكة أنهم لا يتقدمون بين يدي ربهم مقترحين، ولا يعترضون على ما أمر من أوامره، بل هم عاملون بأمره، مسارعون مجيبون {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]، وهم لا يفعلون إلا ما يؤمرون به، فالأمر يحركهم، والأمر يوقفهم، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: ألا تزورنا أكثر مما تزورنا؟ قال: فنزلت:{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [ مريم: 64 ])) .
نماذج من عبادتهم:
الملائكة عباد الله، مكلفون بطاعته، وهم يقومون بالعبادة والتكاليف بيسر وسهولة. وسنورد - هنا - بعض العبادات التي حدثنا الله، أو رسوله صلى الله عليه وسلم أنهم يقومون بها.
1- التسبيح: الملائكة يذكرون الله تعالى، وأعظم ذكره التسبيح، يسبحه تعالى حملة عرشه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [ غافر: 7 ]، كما يسبحه عموم ملائكته:{وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } [الشورى: 5 ].
وتسبيحهم لله دائم لا ينقطع، لا في الليل، ولا في النهار: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [ الأنبياء: 20 ].
ولكثرة تسبيحهم فإنهم هم المسبِّحون في الحقيقة، وحق لهم أن يفخروا بذلك: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 165-166 ].
وما كثرة تسبيحهم إلا لأن التسبيح أفضل الذكر، روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر، قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذكر أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده)) .
2- الاصطفاف: ... ذكر الحديث الذي يحث الرسول صلى الله عليه وسلم فيه أصحابه على الاقتداء بالملائكة في الاصطفاف للصلاة: ((ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟. وعندما سئل عن كيفية اصطفافهم قال: يتمون الصفوف، ويتراصون في الصف)). رواه مسلم .
وفي القرآن عن الملائكة: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ}[الصافات: 165]. وهم يقومون، ويركعون، ويسجدون، ففي مشكل الآثار للطحاوي، وفي المعجم الكبير للطبراني عن حكيم بن حزام قال:
((بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ قال لهم: أتسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء، قال: إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئط، ما فيها موضع شبر إلا عليه ملك ساجد أو قائم)) .
3- الحج: للملائكة كعبة في السماء السابعة يحجون إليها، هذه الكعبة هي التي أسماها الله تعالى: البيت المعمور، وأقسم به في سورة الطور: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور: 4].
قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية: (ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء، بعد مجاوزته السماء السابعة: ((ثم رفع بي إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفاً، لا يعودون إليه آخر ما عليهم)) ؛ يعني يتعبدون فيه، ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم، والبيت المعمور هو كعبة أهل السماء السابعة، ولهذا وَجَد إبراهيمَ الخليل - عليه الصلاة والسلام - مسنداً ظهره إلى البيت المعمور؛ لأنه باني الكعبة الأرضية، والجزاء من جنس العمل).
وذكر ابن كثير أن البيت المعمور بحيال الكعبة، أي فوقها، لو وقع لوقع عليها، وذكر أن في كل سماء بيتاً يتعبد فيه أهلها، ويصلون إليه، والذي في السماء الدنيا يقال له: بيت العزة .
وهذا الذي ذكره ابن كثير من أن البيت المعمور بحيال الكعبة مروي عن علي بن أبي طالب، أخرج ابن جرير من طريق خالد بن عرعرة: (أن رجلاً قال لعلي - رضي الله عنه-: ما البيت المعمور؟ قال: بيت في السماء بحيال البيت، حرمة هذا في السماء كحرمة هذا في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ولا يعودون إليه) .
قال فيه الشيخ ناصر الدين الألباني: (ورجاله ثقات غير خالد بن عرعرة, وهو مستور... ثم ذكر أن له شاهداً مرسلاً صحيحاً من رواية قتادة، قال: ذكر لنا ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: هل تدرون ما البيت المعمور؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه مسجد في السماء، تحته الكعبة، لو خرّ لخر عليها...)) ).
ثم قال المحقق - الألباني -: (وجملة القول أن هذه الزيادة ((حيال الكعبة)) ثابتة بمجموع طرقها) .
4- خوفهم من الله وخشيتهم له: ولما كانت معرفة الملائكة بربهم كبيرة، كان تعظيمهم له، وخشيتهم له عظيمة، قال الله فيهم: {وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28].
ويبين شدة خوفهم من ربهم ما رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسلة على صفوان)).
قال علي، وقال غيره: (صفوان ينفذهم ذلك. فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير) .
وفي معجم الطبراني الأوسط بإسناد حسن عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مررت ليلة أُسري بي بالملأ الأعلى، وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى))
الفصل الثالث: أقسام الملائكة .
تمهيد:
هم بالنسبة إلى ما هيأهم الله تعالى له ووكلهم به على أقسام
المبحث الأول: الموكل بالوحي
فمنهم الموكلُ بالوحي من الله تعالى: إلى رسله عليهم الصلاة والسلام، وهو الروح الأمين جبريل عليه السلام، قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:97]، وقال الله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193]، وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ} [النحل:102]، وقال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى. وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:4-9] وهذا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم له في الأبطح حين تجلى له على صورته التي خلق عليها، له ستمائة جناح قد سد عظم خلقه الأفق، ثم رآه ليلة المعراج أيضاً في السماء كما قال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:13-15]، ولم يره صلى الله عليه وسلم في صورته إلا هاتين المرتين، وبقية الأوقات في صورة رجل، وغالباً في صورة دحية الكلبي رضي الله عنه. وقال تعالى: فيه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:19 - 23] الآيات، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سـبأ:23]...
المبحث الثاني: الموكل بالصُّور
ومنهم الموكل بالصُّور وهو إسرافيل عليه السلام، ينفخ فيه ثلاث نفخات بأمر ربه عز وجل: الأولى: نفخة الفزع. والثانية: نفخة الصعق. والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين... ولأحمد والترمذي من حديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له. قالوا: كيف نقول يا رسول الله؟ قال قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا)) . وهؤلاء الثلاثة من الملائكة هم الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه من صلاة الليل: ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم))
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المبحث الثالث: الموكل بقبض الأرواح
ومنهم الموكل بقبض الأرواح (ملك الموت) قال الله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11]، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ. ثُمَّ رُدُّوا إلى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:61]، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50]، وقال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ - إلى قوله تعالى: }الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ{ [النحل: 28-32] وغيرها من الآيات. وقد جاء في الأحاديث أن أعوانه يأتون العبد بحسب عمله، إن كان محسناً ففي أحسن هيئة وأجمل صورة بأعظم بشارة، وإن كان مسيئاً ففي أشنع هيئة وأفظع منظر بأغلظ وعيد، ثم يسوقون الروح حتى إذا بلغت الحلقوم قبضها ملك الموت فلا يدعونها في يده بل يضعونها في أكفان وحنوط يليق بها كما قال تعالى: }فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ{ [الواقعة:83-96] }
المبحث الرابع: الموكل بحفظ العبد في حِلّه وارتحاله
ومنهم الموكل بحفظ العبد في حِلّه وارتحاله وفي نومه ويقظته وفي كل حالاته، وهم المعقبات قال الله تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:10-11]، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42]، وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام:61]. قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآية الأولى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11]: والمعقبات من الله هم الملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله تعالى: خلوا عنه . وقال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك موكّل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه إلاّ قال له الملك وراءك، إلا شيء أذن الله فيه فيصيبه . وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42] قال ابن كثير: أي بدل الرحمن، يمتنُّ سبحانه وتعالى بنعمته على عبيده وحفظه لهم بالليل والنهار وكلاءته وحراسته لهم بعينه التي لا تنام.اهـ
المبحث الخامس: الموكل بحفظ عمل العبد من خير وشر
ومنهم الموكل بحفظ عمل العبد من خير وشر، وهم الكرام الكاتبون وهؤلاء يشملهم مع ما قبلهم قوله عز وجل: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام:61]، وقال تعالى: فيهم: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُـمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80]، وقال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]؛ فالذي عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن الشمال يكتب السيئات. وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10]، عن علقمة عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الرجل ليتكلمُ بالكلمة مِنْ رضوانِ الله تعالى: ما يظنُّ أَنْ تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل له بها رضوانَهُ إلى يومِ يلقاه. وإِنَّ الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى: ما يظُنُّ أَنْ تبلغ ما بلغت، يكتب الله تعالى: عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه)) فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال من الحارث، ورواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه. وقال الترمذي: حسن صحيح . وفي (الصحيح) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الله تعالى: تجاوز لي عَنْ أُمَّتي ما حدَّثت به أَنْفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به)) وفي رواية ((ما لم تعمل أو تكلم به)) وفيه عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: إذا همَّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة, وإِذَا همَّ بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حَسنة، فإِن عملها فاكتبوها عشراً)) وفي روايةٍ: ((قال الله عز وجل: إذا همَّ عبدي بحسنةٍ فلم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف, وإذا هَمَّ بسيئةٍ ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإِن عملها كتبتها سيئة واحدة)) . وفي أخرى: ((قال الله عز وجل: إذا تحدَّث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنةً ما لم يعمل، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها. وإذا تحدث بأنْ يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها)) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قالت الملائكة رَبِّ ذاك عبدُك يريدُ أن يعمل سيئة - وهو تعالى: أبْصرُ به - فقال ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإِن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرّاي)) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أحسن أحدُكُم إسلامه فكُلُّ حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل)) ، وفيه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: ((إنَّ الله تبارك وتعالى كتب الحسنات والسيئات ثم بَيَّنَ ذلك، فمن هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هَمَّ بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. وإن همَّ بسيئةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة – زاد في رواية: - أو محاها الله. ولا يهلك على الله إلا هالك)) . وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: وتلا هذه الآية {عَنِ اليَمِينِ وعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد} [ق:17]: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فأمَّا الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقول الله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14]، ثم يقول: عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك.اهـ. ويناسب ذكر المعقبات والحفظة ما روى البخاري رحمه الله تعالى: في باب: قول الله عز وجل: {تعرجُ الملائكةُ والروحُ إليه} [المعارج:4] قال: حدَّثنا إسماعيلُ حدثني مالكٌ عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنَّهار، ويجتمعون في صلاةِ العصرِ وصلاة الفجر، ثم يعرُجُ الذين باتوا فيكُم فيسألُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بهم فيقول: كيفَ تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وَهُمْ يُصَلُّون وأتيناهم وهُمْ يُصَلُّون)) ورواه مسلم أيضاً . وفيهما عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ((قام فينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: إِنَّ الله لا ينامُ ولا ينبغي لهُ أْن ينام، يحفظُ القسط ويرفعه، يرفعُ إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النَّهار قبل عمل الليل)) ... والأحاديث في ذكر الحفظة كثيرة.
المبحث السادس: الموكل بفتنة القبر
وللناس في سؤال منكر ونكير: هل هو خاص بهذه الأمة أم لا ثلاثة أقوال: الثالث: التوقف، وهو قول جماعة، منهم: أبو عمر بن عبد البر، فقال: وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن هذه الأمة تبتلى في قبورها)) منهم من يرويه: تُسأل ، وعلى هذا اللفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة قد خصت بذلك، وهذا أمر لا يقطع به، ويظهر عدم الاختصاص، والله أعلم .

منكر ونكير هما ملكان جاء وصفهما في السنة بأنهما سود الوجوه وزرق العيون، يأتيان العبد في قبره فيقعدانه ويسألانه من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فينعم في قبره. وأما الكافر فلا يحار جوابا، فيضرب بمرزبة من حديد يصيح منها صيحة يسمعها كل من يليه إلا الثقلين. ومن الأحاديث الواردة في هذا: ما رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قبر الميت - أو قال: أحدكم - أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، والآخر: النكير. فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما كان يقول: هو عبدالله ورسوله. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا...))
المبحث السابع: خزنة الجنة
ومنهم خزنة الجنة ومقدمهم رضوان عليهم السلام قال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]، وقال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23].
المبحث الثامن: المبشرون للمؤمنين عند وفياتهم، وفي يوم القيامة
ومنهم المبشرون للمؤمنين عند وفياتهم، وفي يوم القيامة كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 – 32]، وقال تعالى: فيهم {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103]
المبحث التاسع: خزنة جهنم
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ومنهم خزنة جهنم عياذاً بالله منها، وهم الزبانية ورؤساؤهم تسعة عشر، ومقدمهم مالك عليهم السلام. قال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً حتَّى إِذَا جَاؤُها فُتِحَتْ أبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الزمر:71] الآيات، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} [غافر:49]، {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:17 - 18]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، وقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} [المدثر:27-31]، وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، وفي (صحيح مسلم): ((يُؤتى بجهنَّم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، كُل زمام في يد سبعين ألف مَلكٍ يَجرُونها))
المبحث العاشر: الموكلون بالنطفة في الرحم
ومنهم الموكلون بالنطفة في الرحم كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((حدثنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق أَنَّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أُمِّه أربعين يوماً نطفة، ثم يكونُ علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)) الحديث. وفي بابه من الأحاديث كثير، وفيها ((أن الملك يقول يا رب مخلَّقة أو غير مخلَّقة؟ أو توأم؟ ذكر أم أنثى؟ شقي أو سعيد؟ ما الرزق وما الأجل؟ فيقضي الله تعالى: ما يشاء. فيكتب الملك كما أمره الله عز وجل فلا يغير ولا يبدل))
المبحث الحاي عشر: حملة العرش
ومنهم حملة العرش والكروبيون وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] الآيات، وقال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]،... وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)) ، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي وعكرمة والضحاك وابن جريج: ثمانية صفوف من الملائكة . وقال الضحاك عن ابن عباس: الكروبيون ثمانية أجزاء ، كل جزء منهم بعدة الإنس والجن والشياطين والملائكة
المبحث الثاني عشر: ملائكة سياحون يتبعون مجالس الذكر
ومنهم ملائكة سياحون يتبعون مجالس الذكر فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله عز وجل تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم عز وجل وهو أعلم بهم منهم: ما يقول عبادي؟ قالوا: يسبِّحونك ويكبِّرونك ويحمدونك ويمجدونك)) ... وقال صلى الله عليه وسلم: ((وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلونَ كتابَ الله ويتدارسونه بينهم إلا نَزَلَتْ عليهم السَّكينة وغشيتهم الرَّحمة وحفَّتهم الملائكة وذكرهم الله في من عنده))
المبحث الثالث عشر: الموكل بالجبال
ومنهم الموكل بالجبال وقد ثبت ذكره في حديث خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني عبد ياليل وعوده منهم، وفيه قول جبريل له صلى الله عليه وسلم ((إِنَّ اللهَ قَدْ سمع قولَ قومِكَ لك وما ردُّوه عليك)) وفيه قول ملك الجبال: ((إِن شئت أَنْ أطبق عليهم الأخشبين، فقال صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله مِنْ أصلابِهِمْ مَنْ يعبد الله لا يشرك به شيئاً))
المبحث الرابع عشر: زوَّارُ البيت المعمور
ومنهم زوَّارُ البيت المعمور الذي أقسم الله تعالى به في كتابه ثبت ذلك في حديث المعراج، وهو بيت في السماء السابعة بحيال الكعبة في الأرض لو سقط لوقع عليها، حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض، ((يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم)) ، يعني: لا تحول نوبتهم لكثرتهم. والحديث بألفاظه في (الصحيحين).
المبحث الخامس عشر: ملائكة صفوف لا يفترون، وقيام لا يركعون
ومنهم ملائكة صفوف لا يفترون، وقيام لا يركعون، وركَّع وسجَّد لا يرفعون، ومنهم غير ذلك: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31].
روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنِّي أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون. أَطَّتِ السَّماءُ وحق لها أَنْ تَئطَّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد، لو علمتم ما أعلم لضحكتُم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولما تلذذتم بالنِّساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى)) فقال أبو ذر: والله لوددت أني شجرة تعضد .
وعن حكيم بن حزام قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إذ قال لهم: ((هل تسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسمع أطيطَ السَّماءِ وما تلام أَنْ تَئِطّ، ما فيها موضع شبرٍ إلاَّ وعليه ملكٌ راكعٌ أو ساجد)) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما في السماء الدنيا موضِعٌ إلاَّ عليه ملك ساجد أو قائم، وذلك قول الملائكة: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات:164-166])) .
وعن رجلٍ صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ لله تعالى: ملائكة ترعد فرائِصَهُمْ مِنْ خيفَتِهِ، ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه إلاَّ وقعت على ملك يصلي، وإِنَّ منهم ملائكة سجوداً منذ خلقَ اللهُ السَّمواتِ والأَرْضِ لم يرفعوا رؤوسهمْ ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وإِنَّ منهم ملائكةً ركوعاً لم يرفعوا رؤوسهم منذُ خلقَ الله السَّمواتِ والأرض ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، فإذا رفعوا رؤوسهم نظروا إلى وجه الله عز وجل فقالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك)) . وفي (الصحيح) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا تَصفُّونَ كما تصفُّ الملائكة عِنْدَ رَبِّها؟ فقلنا: يا رسولَ اللهِ وكيفَ تَصُفُّ الملائكة عِنْدَ ربِّها؟ قال: يتمون الصفوف الأول ويتراصُّونَ في الصف)) . وفيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خُلقَت الملائكةُ مِنْ نورِ العَرْش، وَخُلِقَ الجانُّ من مارجٍ مِنْ نار، وخلق آدمُ ممَّا وُصِفَ لكم))

منهم الموكلون بحمل العرش، ومنهم الموكلون بالوحي، ومنهم الموكل بالجبال، ومنهم خزنة الجنة وخزنة النار. ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد، ومنهم الموكلون بقبض أرواح المؤمنين، ومنهم الموكلون بقبض أرواح الكافرين، ومنهم الموكلون بسؤال العبد في القبر. ومنهم من يستغفرون للمؤمنين ويصلون عليهم ويحبونهم، ومنهم من يشهد مجالس العلم وحلقات الذكر؛ فيحفونهم بأجنحتهم، ومنهم من هو قرين للإنسان لا يفارقه، ومنهم من يدعو العباد إلى فعل الخير، ومنهم من يشهد جنائز الصالحين، ويقاتلون مع المؤمنين ويثبّتونهم في جهادهم مع أعداء الله, ومنهم الموكلون بحماية الصالحين، وتفريج كربهم، ومنهم الموكلون بالعذاب. والملائكة لا يدخلون بيتاً فيه تمثال، ولا صورة، ولا كلب، ولا جرس، ويتأذون مما تتأذى منه بنو آدم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة)) . وقال: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة)) . والملائكة كثيرون لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل. قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31]. وقد حجبهم الله تعالى: عنا؛ فلا نراهم في صورهم التي خلقوا عليها، ولكن كشفهم لبعض عباده، كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته التي خلقه الله عليها مرتين، قال الله تبارك وتعالى:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13-14]. وقال: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [النجم:22-23]

وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكل بالجبال ملائكة، ووكل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها، ثم وكل بالعبد ملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته، ووكل بالموت ملائكة، ووكل بالسؤال في القبر ملائكة، ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها، ووكل بالشمس والقمر ملائكة، ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة، ووكل بالجنة وعمارتها وغرسها وعمل آلاتها ملائكة. فالملائكة أعظم جنود الله ومنهم: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} [المرسلات:1-3]، {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} [المرسلات:4-5]، ومنهم: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًاً} [النازعات:1-4]، ومنهم: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات:1-3], ومعنى جمع التأنيث في ذلك كله: الفرق والطوائف والجماعات، التي مفردها: فرقة وطائفة وجماعة، ومنهم ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، وملائكة قد وكلوا بحمل العرش، وملائكة قد وكلوا بعمارة السماوات بالصلاة والتسبيح والتقديس، إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله.
الفصل الرابع: التفاضل بين الملائكة، وبين الملائكة والبشر.
المبحث الأول: التفاضل بين الملائكة
والملائكة متفاضلون بعضهم أفضل من بعض، وأفضلهم المقربون الذين قال الله فيهم: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [ النساء: 172].
قال الرازي: (قوله: {وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} يدل على أن طبقات الملائكة مختلفة في الدرجة والفضيلة, فالأكابر منهم مثل جبريل, وميكائيل, وإسرافيل, وعزرائيل, وحملة العرش) والملائكة المقربون هم المسمون بالكروبيين) .
قال ابن الأثير: (وفي حديث أبي العالية: ((الكروبيين سادة الملائكة)) هم المقربون) .
قال ابن كثير وقد ذكر أقسام الملائكة: (ومنهم الكروبيون الذين هم حول العرش, وهم أشرف الملائكة مع حملة العرش، وهم الملائكة المقربون كما قال تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}) .
وأفضل المقربين رؤساء الملائكة الثلاثة الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرهم في دعائه الذي يفتتح به صلاته إذا قام من الليل فيقول: ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض..)) . الحديث
قال ابن القيم في هذا الحديث: (فذكر هؤلاء الثلاثة من الملائكة لكمال اختصاصهم واصطفائهم وقربهم من الله, وكم من ملك غيرهم في السماوات فلم يسم إلا هؤلاء الثلاثة، فجبريل صاحب الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل صاحب القطر الذي به حياة الأرض والحيوان والنبات, وإسرافيل صاحب الصور الذي إذا نفخ فيه أحيت نفخته بإذن الله الأموات وأخرجتهم من قبورهم) . وقد خص الله جبريل وميكائيل في كتابه بالذكر وعطف ذكرهما على ذكر الملائكة فقال: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98]. قيل إنما خصهما بالذكر تشريفاً لهما .
وأفضل الملائكة ومقدمهم جبريل عليه السلام، قال الله عز وجل فيه: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97]. فشرفه الله عز وجل بذكره وذم معاديه، وذكر سبحانه دليل فضله وتشريفه وهو وظيفته الشريفة الكريمة: تبليغ الوحي للرسل من الله، فهو الواسطة بين الله ورسوله، وقد سماه الله في كتابه بأسماء شريفة ووصفه بأوصاف كريمة، قال سبحانه: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102]. فسماه روح القدس، وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193]. فسماه الروح الأمين، وقال سبحانه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 19-21]. أي أن القرآن نزل به جبريل ووصف سبحانه جبريل بصفات كريمة كلها تقتضي تفضيله على سائر الملائكة, فهو رسول كريم, وذو قوة، وهو مكين المنزلة عند ذي العرش, ومطاع في السموات تطيعه الملائكة، وأمين على وحي الله ورسالاته , ولقد خصه الله بالذكر في مواضع من كتابه، قال سبحانه: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4].
فذكره سبحانه بعد ذكر نفسه ولم يذكر سواه من الملائكة، وقال سبحانه: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4]. ففي هذه الآيات تخصيص من الله له في الذكر مع ذكر الملائكة، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل: إن الله قد أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل ثم ينادي جبريل في السماء أن الله قد أحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء)) . و في هذا الحديث ما لا يخفى من بيان فضل جبريل عليه السلام وأنه ليس فقط مبلغ كلام الله إلى الرسل بل وإلى الملائكة أيضاً.
ومن أفضل الملائكة أهل بدر منهم كما في الحديث أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين – أو كلمة نحوها – قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة))
المبحث الثاني: التفاضل بين الملائكة والبشر
هذه مسألة كثر الكلام فيها في كتب المتأخرين من أهل العلم أخذاً ورداً، وطال طولاً أخرجها عن فائدتها وحدها، وخلاصة ما قيل فيها أن الناس فيها على مذاهب ثلاثة :
الأول: تفضيل الملائكة على البشر مطلقاً، وإليه ذهبت المعتزلة, وبعض الأشعرية, وابن حزم, ومال إليه بعض أهل السنة, وبعض الصوفية, واستدلوا بأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لها وجهها في الدلالة على قولهم, كقوله سبحانه في بني آدم: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70]. فقال على كثير ولم يقل على كل, ومن عساه أن يكون الخارج من هذا الكثير إلا الملائكة، وبقوله سبحانه: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172]. ومثل هذا دال لغة على أن المعطوف أفضل من المعطوف عليه، وبقوله سبحانه: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [ الأنعام: 50]. والمعنى عندهم أني لا أدعي فوق منزلتي، وبقوله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)) . وهو نص في الأفضلية، وهي أدلة على ما ترى من الدلالة، إلا أن المخالفين ردوا على الاستدلال بها ورد هؤلاء على ردودهم.
الثاني: تفضيل الأنبياء وصالحي البشر على الملائكة: وهو مذهب جمهور أهل السنة والجماعة وكذا جمهور أصحاب الأشعري واستدلوا بأدلة ظاهرة الدلالة على قولهم، كقوله سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}، والفاضل لا يسجد للمفضول، وقوله سبحانه: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [ الدخان: 32]. وقوله: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]. هذه في الأنبياء، أما في صالح البشر فكقوله سبحانه:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [ البينة: 7]. وهي أدلة في القوة على ما ترى، إلا أن المخالفين ردوا على الاستدلال بها و على الرد رد، ورأى قوم أن الأدلة متكافئة فكان قول ثالث وهو التوقف والسكوت عن التفضيل. وإنا إن ذهبنا نتتبع الأدلة والردود ورد الردود لخرج بنا الموضوع عن حده وطال طولاً لا نستطيع الوقوف عند حد له. وهي مسألة – كما ذكرت – كثر فيها الاختلاف, وتشعبت فيها الاستدلالات, وتشابكت وعظم فيها الجدال حتى خرج بها بعضهم مخرج المنافرة والمفاخرة فأخذ يقول: منا الأنبياء ومنا الأولياء، فرد عليه بأن للملائكة أن تقول: أليس منكم فرعون وهامان؟ أليس منكم من ادعى الربوبية؟ وأساء بعضهم الأدب فقال: كان الملك خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم, أو أن بعض الملائكة خدموا بني آدم . وهذه المسألة قد قال فيها ابن تيمية رحمه الله: (المسألة على هذا الوجه لست أعلم فيها مقالة سابقة مفسرة، وربما ناظر بعض الناس على تفضيل الملك، وبعضهم على تفضيل البشر، وربما اشتبهت هذه المسألة بمسألة التفضيل بين الصالح وغيره) .
وقال ابن كثير: (أكثر ما توجد هذه المسألة في كتب المتكلمين والخلاف فيها مع المعتزلة ومن وافقهم) قال: (أقدم كلام رأيته في هذه المسألة ما ذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخه في ترجمة أمية بن سعيد بن العاص أنه حضر مجلساً لعمر بن عبد العزيز وعنده جماعة فقال عمر: ما أحد أكرم على الله من كريم بني آدم) وذكر بقية الواقعة وفيها معارضة أحدهم بتفضيل الملائكة واستدلال كل .
ولقد نزع جماعة من أهل العلم إلى أن هذه من فضول المسائل، قال البيهقي في التفاضل بين الملائكة والبشر: (والأمر فيه سهل، وليس فيه من الفائدة إلا معرفة الشيء على ما هو به) . وقال شارح الطحاوية: (وكنت ترددت في الكلام على هذه المسألة لقلة ثمرتها, وأنها قريب مما لا يعني, ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) .
وقال: (وحاصل الكلام أن هذه المسألة من فضول المسائل ولهذا لم يتعرض لها كثير من أهل الأصول) .
ونقل عن تاج الدين الفزاري من كتاب له في تفضيل البشر على الملك ما نصه: (اعلم أن هذه المسألة من بدع الكلام التي لم يتكلم فيها الصدر الأول من الأمة ولا من بعدهم من أعلام الأئمة، ولا يتوقف عليها أصل من أصول العقائد, ولا يتعلق بها من الأمور الدينية كبير المقاصد، ولهذا خلا عنها طائفة من مصنفات هذا الشأن، وامتنع عن الكلام فيها جماعة من الأعيان، وكل متكلم فيها من علماء الظاهر بعلمه لم يخل كلامه من ضعف واضطراب) .
ولم تكن المسألة عند السلف موضع نظر وأخذ ورد, ولم تكن لهم بها عناية فائقة بحيث ينصبونها موضوعاً للنظر والاستدلال, ولم يقع بينهم فيها كلام وخلاف، وقد رويت عن الصحابة أحاديث موقوفة ومرفوعة فيها ذكر لهذه المسألة في بعضها تفضيل المؤمن على الملائكة, وبعضها تفضيل المؤمن على بعض الملائكة, وبعضها تفضيل بني آدم على الملائكة, ولكنها أحاديث إما ضعيفة أو موضوعة مثل حديث: ((المؤمن أكرم على الله عز وجل من بعض الملائكة)) . وحديث: ((أن الملائكة قالت: يا ربنا أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نلهو, فكما جعلت لهم الدنيا فأجعل لنا الآخرة فقال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان)) . وحديث: ((ما من شيء أكرم على الله يوم القيامة من بني آدم، قيل: يا رسول الله, ولا الملائكة؟ قال: الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر)) . وكلها ضعيف وموضوع.
وقال ابن تيمية بعد ذكر بعض هذه الأحاديث: (وأقل ما في هذه الآثار أن السلف الأولين كانوا يتناقلون بينهم أن صالحي البشر أفضل من الملائكة من غير نكير منهم لذلك، ولم يخالف أحد منهم في ذلك، إنما ظهر الخلاف بعد تشتت الأهواء بأهلها, وتفرق الآراء, فقد كان ذلك المستقر عندهم) . وقال: (قد كان السلف يحدثون الأحاديث المتضمنة فضل صالح البشر على الملائكة, وتروى على رؤوس الناس ولو كان هذا منكراً لأنكروه فدل على اعتقادهم ذلك) .
وقد جاء عن الإمام أحمد أنه كان يفضل صالحي المؤمنين على الملائكة, ويخطئ من يفضل الملائكة على بني آدم .
وقد فصل ابن تيمية في هذه المسألة تفصيلاً طويلاً, قرر فيه مذهب أهل السنة تفضيل صالح البشر على الملائكة . ونقل عنه ابن القيم: (أنه سئل عن صالحي بني آدم والملائكة أيهما أفضل؟ فأجاب بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية, والملائكة أفضل باعتبار البداية، فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهين عما يلابسه بنو آدم, مستغرقون في عبادة الرب, ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر, وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة فيصير حال صالحي البشر أكمل من حال الملائكة) قال: (وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل, وتتفق أدلة الفريقين, ويصالح كل منهم على حقه)
الباب الثالث: دور الملائكة تجاه المؤمنين وواجب المؤمنين تجاه الملائكة
الفصل الأول: دور الملائكة تجاه المؤمنين
- محبتهم للمؤمنين:
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحببه، فيحبه جبريل. فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحبّ فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثمّ يوضع له القبول في الأرض)) .
- تسديد المؤمن:
روى البخاري في صحيحه ((عن حسّان بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له، فقال: اللهمّ أيده بروح القدس)) .
وفي الصحيح أيضاً عن أبي هريرة قال: (قال سليمان عليه السلام: لأطوفنّ الليلة بمائة امرأة، تلد كل امرأة غلاما يقاتل في سبيل الله. فقال له الملك: قل: إن شاء الله، فلم يقل، ونسي، فأطاف بهنّ، ولم تلد إلا امرأة منهنّ نصف إنسان)).
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان أرجى لحاجته)) .
فالملك سدد نبي الله سليمان وأرشده إلى الأصوب والأكمل.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
- صلاتهم على المؤمنين:
أخبرنا الله أن الملائكة تصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [ الأحزاب: 56 ]. وهم يصلون على المؤمنين أيضاً: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].
والصلاة من الله تعالى ثناؤه على العبد عند ملائكته، حكاه البخاري عن أبي العالية ، ...
وأمّا الصلاة من الملائكة فبمعنى الدعاء للناس، والاستغفار لهم، وهذا ما سنوضحه فيما يأتي:
نماذج من الأعمال التي تصلي الملائكة على صاحبها:
أ- معلّم الناس الخير:
روى الترمذي في سننه عن أبي أمامة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير)) .
ب- الذين ينتظرون صلاة الجماعة:
في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه، تقول: اللهمّ اغفر له، اللهم ارحمه. ما لم يحدث)) .
ج- الذين يصلون في الصف الأول:
في سنن أبي داود عن البراء بن عازب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول)) .
وفي سنن النسائي: ((على الصفوف المتقدمة)) .
وفي سنن ابن ماجة من حديث البراء، وحديث عبد الرحمن بن عوف: ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول)) .
د- الذين يسدّون الفرج بين الصفوف:
في سنن ابن ماجة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف، ومن سدّ فرجة رفعه الله بها درجة)) .
هـ- الذين يتسحرون:
في صحيح ابن حبان ومعجم الطبراني الأوسط بإسناد حسن، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى وملائكته يصلون على المتسحرين)) .
و- الذين يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم:
روى أحمد في مسنده، والضياء في المختارة عن عامر بن ربيعة بإسناد حسن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من عبد يصلي عليّ إلا صلتْ عليه الملائكة، ما دام يصلي عليّ، فليقلّ العبد من ذلك أو ليكثر)) .
ز- الذين يعودون المرضى:
روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من رجل يعود مريضاً ممسياً، إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح، وكان له خريف في الجنّة، ومن أتاه مصبحاً خرج معه سبعون ألف ملك، يستغفرون له حتى يمسي، وكان له خريف في الجنة)) .
هل لصلاة الملائكة علينا أثر:
يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [ الأحزاب: 43 ].
تفيد الآية أن ذكر الله لنا في الملأ الأعلى، ودعاء الملائكة للمؤمنين واستغفارهم لهم، له تأثير في هدايتنا وتخليصنا من ظلمات الكفر, والشرك, والذنوب, والمعاصي إلى النور الذي يعني وضوح المنهج والسبيل، بالتعرف على طريق الحق الذي هو الإسلام، وتعريفنا بمراد الله منا، وإعطائنا النور الذي يدلنا على الحق: في الأفعال, والأقوال, والأشخاص.
- التأمين على دعاء المؤمنين:
الملائكة يؤمنِّون على دعاء المؤمن: وبذلك يكون الدعاء أقرب إلى الإجابة، ففي صحيح مسلم وسنن ابن ماجة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك، كلما دعا له بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل)) .
ولما كان الدعاء المؤمّن عليه حريّاً بالإجابة، فإنه لا ينبغي للمؤمن أن يدعو على نفسه بشر، ففي صحيح مسلم عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون)) .
- استغفارهم للمؤمنين:
أخبرنا الله أن الملائكة يستغفرون لمن في الأرض: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [ الشورى: 5 ].
وأخبر في آية سورة غافر أن حملة العرش والملائكة الذين حول العرش ينزهون ربهم، ويخضعون له، ويخصون المؤمنين التائبين بالاستغفار، ويدعونه بأن ينجيهم من النار، ويدخلهم الجنة، ويحفظهم من فعل الذنوب والمعاصي: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [ غافر: 7-9]
- شهودهم مجالس العلم, وحلق الذكر, وحفهم أهلها بأجنحتهم:
في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:((إن لله ملائكة يطوفون في الطرق، يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم)). قال: ((فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا)) .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)) .
وفي سنن الترمذي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع)) ؛ أي تتواضع له.
فالأعمال الصالحة - كما ترى - تقرب الملائكة منا، وتقربنا منهم، ولو استمر العباد في حالة عالية من السمو الروحي، لوصلوا إلى درجة مشاهدة الملائكة ومصافحتهم كما في الحديث الذي يرويه مسلم، عن حنظلة الأسيدي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم)) .
وفي رواية الترمذي عن حنظلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أنكم تكونون كما تكونون عندي لأظلتكم الملائكة بأجنحتها)) .
- تسجيل الملائكة الذين يحضرون الجمعة:
وهؤلاء الملائكة يسجلون بعض أعمال العباد، فيسجلون الذين يؤمون الجُمَع الأول فالأول. فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول، فإذا خرج الإمام طووا صحفهم، وجلسوا يستمعون الذكر)). متفق عليه .
ويسجلون ما يصدر عن العباد من أقوال طيبة، ففي صحيح البخاري وغيره عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: ((كنا يوماً نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة، قال: سمع الله لمن حمده، قال رجل وراءَه: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. فلما انصرف، قال: من المتكلم؟ قال: أنا. قال: لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول)) . فهؤلاء الكتبة من الملائكة غير الملكين اللذين يسجلان صالح أعماله وطالحها بالتأكيد؛ لكونهم بضعة وثلاثين ملكاً.
- تعاقب الملائكة فينا:
وهؤلاء الملائكة الذين يطوفون في الطرق يلتمسون الذكر، ويشهدون الجمع والجماعات يتعاقبون فينا، فطائفة تأتي، وطائفة تذهب، وهم يجتمعون في صلاة الصبح، وصلاة العصر، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم، وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)) .
ولعل هؤلاء هم الذين يرفعون أعمال العباد إلى ربهم، ففي صحيح مسلم ((عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إنّ الله عزّ وجلّ لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل. ..)) الحديث.
وقد عظّم الله شأن صلاة الفجر؛ لأن الملائكة تشهدها، قال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]
- تنزلّهم عندما يقرأ المؤمن القرآن:
ومنهم من يتنزّل من السماء حين يقرأ القرآن؛ ففي صحيح مسلم عن البراء بن عازب قال: ((قرأ رجل سورة الكهف، وفي الدار دابة، فجعلت تنفر، فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته، قال فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال: اقرأ فلان، فإنها السكينة تنزلت عند القرآن، أو تنزلت للقرآن)) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((أن أسيد بن حضير بينما هو في ليلة يقرأ في مربده، إذ جالت فرسه، فقرأ، ثم جالت أخرى، فقرأ، ثم جالت أيضاً. قال أسيد: فخشيت أن تطأ يحيى، فقمت إليها، فإذا مثل الظلة فوق رأسي، فيها أمثال السرج، عرجت في الجوّ حتى ما أراها.
قال: فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، بينا أنا البارحة من جوف الليل أقرأ في مربدي، إذ جالت فرسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير، قال: فقرأت، ثمّ جالت أيضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير، قال: فقرأت، ثم جالت أيضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير، قال: فانصرفت، وكان يحيى قريباً منها، خشيت أن تطأه، فرأيت مثل الظلة فيها أمثال السرج، عرجت في الجوّ حتى ما أراها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الملائكة كانت تسمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم)) .
- يبلّغون الرسول صلى الله عليه وسلم عن أمته السلام:
روى النسائي والدارمي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام)) .
- تبشيرهم المؤمنين:
فقد حملوا البشرى إلى إبراهيم بأنه سيرزق بذرية صالحة: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 24-28 ].
وبشرت زكريا بيحيى: {فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى} [ آل عمران: 39 ].
وليس هذا مقصوراً على الأنبياء والمرسلين، بل قد تبشر المؤمنين، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنّ رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته -طريقه- ملكاً، فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عزّ وجلّ، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) .
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل، فقال: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إِدام, أو طعام, أو شراب، فإذا هي قد أتتك، فاقرأ عليها السلام من ربّها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)) .
- الملائكة والرؤيا في المنام:
روى البخاري في صحيحه في باب التهجد، ((عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصّها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت غلاماً شاباً، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطيّ البئر، وإذا لها قرنان كقرني البئر، وإذا فيها أناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، قال: فلقيهما ملك آخر، فقال لي: لم ترع)) ؛ أي لا تخف.
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أريتك في المنام يجيء بك الملك في سَرَقَةٍ من حرير، فقال لي: هذه امرأتك، فكشفتُ عن وجهك الثوب، فإذا أنت هي، فقلت: إن يك هذا من الله يمضه)) .
- يقاتلون مع المؤمنين ويثبتونهم في حروبهم:
وقد أمد الله المؤمنين بأعداد كثيرة من الملائكة في معركة بدر: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [ الأنفال: 9 ]، {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [ آل عمران: 123-125 ]
وفي صحيح البخاري ((عن ابن عباس: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في يوم بدر: هذا جبريل آخذ برأس فرسه، عليه أداة حرب)) .
وقد بين الله الحكمة والغاية من هذا الإمداد، وهو تثبيت المؤمنين، والمحاربة معهم، وقتال الأعداء، وقتلهم بضرب أعناقهم وأيديهم: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10]، {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12].
وقال في سورة آل عمران: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} [آل عمران: 126-127]. .........
وقد سمع أحد المقاتلين من المسلمين صوت ضربة ملك، ضرب بها أحد الكفار، وصوته وهو يزجر فرسه، ففي صحيح مسلم ((عن ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذٍ يشتدّ في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه، فخرّ مستلقياً، فنظر إليه، فإذا هو قد خُطم أنفه، وشقّ وجهه، كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري، فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة)) .
وقد حاربت الملائكة في مواقع أخر؛ ففي غزوة الخندق أرسل الله ملائكته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]، والمراد بالجنود التي لم يروها الملائكة، كما ثبت في الصحاح وفي غيرها: ((أن جبريل جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الخندق وقد وضع سلاحه واغتسل، فأتاه جبريل وهو ينفض رأسه من الغبار، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: وضعت السلاح؟ والله ما وضعناه، أخرج إليهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين؟ فأشار إلى بني قريظة)) .
وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: ((كأني أنظر إلى الغبار ساطعاً في زقاق بني غنم، موكب جبريل حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة)) .
- حمايتهم للرسول صلى الله عليه وسلم:
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته، أو لأعفرنّ وجهه في التراب. قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته. قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبه، ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار، وهولاً وأجنحة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً)) .
ورواه البخاري بأخصر من رواية مسلم هذه، في كتاب التفسير ....
- شهود الملائكة لجنازة الصالحين:
قال الرسول صلى الله عليه وسلم في سعد بن معاذ: ((هذا الذي تحرّك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضُمّ ضمة، ثمّ فرّج عنه)). رواه النسائي عن ابن عمر .
- إظلالها للشهيد بأجنحتها:
في البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: ((جيء بأبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد مثل به، ووضع بين يديه، فذهبت أكشف عن وجهه، فنهاني قومي، فسمع صوت نائحة، فقيل: ابنة عمرو - أو أخت عمرو-. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لمَ تبكي، أو لا تبكي، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها)) وقد عنون له البخاري بقوله: (باب ظل الملائكة على الشهيد) .
- الملائكة الذين جاؤوا بالتابوت:
قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ} [البقرة: 248].
والذي يعنينا من هذه الآية ما أخبرنا الله به، أن الملائكة جاءت بني إسرائيل، في تلك الفترة، بتابوت تطميناً لهم وتثبيتاً؛ كي يعلموا أن طالوت مختار من الله تعالى، فيتابعوهُ, ويطيعوهُ.
- حمايتهم للمدينة ومكة من الدجال:
يدخل الدجال عندما يخرج كل بلد إلا مكة والمدينة؛ لحماية الملائكة لهما، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث فاطمة بنت قيس من قصة تميم الداري: ((أن الدجال قال: إني أنا المسيح الدجال، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة، فهما محرمتان عليّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة، أو أحداً منهما، استقبلني ملك بيده السيف صلتاً، يصدني عنهما، وإن على كل نَقْب منها ملائكة يحرسونها
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعن بمخصرته في المنبر: هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة))، يعني: المدينة .
وروى البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، ولها يومئذٍ سبعة أبواب، على كل باب ملكان)) .
وفي صحيح البخاري أيضاً عن أبي هريرة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((على أنقاب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال)) ....
- نزول عيسى بصحبة ملكين:
في سنن الترمذي عن النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم: في ذكره حديث الدجال وفيه: ((فبينما هو كذلك إذ هبط عيسى ابن مريم عليه السلام بشرقي دمشق، عند المنارة البيضاء، بين مهرودتين، واضعاً يَدَيْهِ على أجنحة ملكين)) .
- الملائكة باسطة أجنحتها على الشام:
عن زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يا طوبى للشام، يا طوبى للشام. قالوا: يا رسول الله وبم ذلك؟ قال: تلك ملائكة الله باسطوا أجنحتها على الشام)) .
- ما في موافقة الملائكة من أجر وثواب:
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أمّن الإمام فأَمِّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) .
وفي صحيح البخاري: ((إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه)) .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهمّ ربنا لك الحمد، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) .
الفصل الثاني: واجب المؤمنين تجاه الملائكة
الملائكة عباد الله اختارهم واصطفاهم، ولهم مكانة عند ربهم، والمؤمن الذي يعبد الله، ويتبع رضوانه لا مناص له من أن يتولى الملائكة بالحب والتوقير، ويتجنب كل ما من شأنه أن يسيء إليهم ويؤذيهم، وفي المبحث التالي نتناول شيئاً من ذلك بالبيان والتوضيح.
- البعد عن الذنوب والمعاصي:
أعظم ما يؤذي الملائكة الذنوب, والمعاصي, والكفر, والشرك، ولذا فإن أعظم ما يُهْدَى للملائكة ويرضيهم أن يخلص المرء دينه لربه، ويتجنب كل ما يغضبه. ولذا فإنَّ الملائكة لا تدخل الأماكن والبيوت التي يعصى فيها الله تعالى، أو التي يوجد فها ما يكرهه الله يبغضه، كالأنصاب, والتماثيل, والصور، ولا تقرب من تلبس بمعصية كالسكران.
قال ابن كثير : (ثبت في الحديث المروي في الصحاح والمسانيد والسنن من حديث جماعة من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:((لا يدخل الملائكة بيتاً فيه صورة, ولا كلب, ولا جُنب)) .
وفي رواية عن عاصم بن ضمرة عن علي: ((ولا بول)) ، وفي رواية رافع عن أبي سعيد مرفوعاً: ((لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو تمثال)) ، وفي رواية ذكوان أبي صالح السماك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصحب الملائكة رفقة معهم كلب أو جرس)) ).
وروى البزار بإسناد صحيح عن بريدة رضي الله عنه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث لا تقربهم الملائكة: السكران، والمتضمخ بالزعفران، والجنب)) .
وفي سنن أبي داود بإسناد حسن، عن عمار بن ياسر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا تقربهم الملائكة: جيفة الكافر، والمتضمخ بالخلوق، والجنب إلا أن يتوضأ)) .
- الملائكة تتأذى مما يتأذى منه ابن آدم:
ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، فهم يتأذون من الرائحة الكريهة، والأقذار, والأوساخ.
روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ((من أكل الثوم, والبصل, والكراث، فلا يقربنّ مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)) .
وقد بلغ الأمر بالرسول صلى الله عليه وسلم أن أمر بالذي جاء إلى المسجد - ورائحة الثوم أو البصل تنبعث منه - أن يخرج إلى البقيع: - وهذا ثابت في صحيح مسلم .
- النهي عن البصاق عن اليمين في الصلاة:
نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن البصاق عن اليمين في أثناء الصلاة؛ لأن المصلي إذا قام يصلي يقف عن يمينه ملك، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فلا يبصق أمامه، فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكاً، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه فيدفنها)) .
- موالاة الملائكة كلهم:
وعلى المسلم أن يحب جميع الملائكة، فلا يفرق في ذلك بين ملك وملك؛ لأنهم جميعاً عباد الله عاملون بأمره، تاركون لنهيه، وهم في هذا وحدة واحدة، لا يختلفون ولا يفترقون. وقد زعم اليهود أن لهم أولياء وأعداء من الملائكة، وزعموا أن جبريل عدو لهم، وميكائيل ولي لهم، فأكذبهم الله تعالى- في مدعاهم - وأخبر أن الملائكة لا يختلفون فيما بينهم: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} [البقرة: 97-98].
فأخبر سبحانه أن الملائكة كلهم وحدة واحدة فمن عادى واحداً منهم، فقد عادى الله وجميع الملائكة، أمّا تولي بعض الملائكة ومعاداة بعض آخر، فهي خرافة لا يستسيغها إلا مثل هذا الفكر اليهودي المنحرف، وهذه المقولة التي حكاها القرآن عن اليهود عذر واهٍ عللوا به عدم إيمانهم، فزعموا أن جبريل عدوهم؛ لأنّه يأتي بالحرب والدمار، ولو كان الذي يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم ميكائيل لتابعوه.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الفصل الثالث: دور الملائكة تجاه الكفار والفساق
الملائكة لا يحبون الكفرة الظالمين المجرمين، بل يعادونهم ويحاربونهم، ويزلزلون قلوبهم، كما حدث في معركة بدر والأحزاب، ونزيد الأمر هنا تفصيلاً وإيضاحاً بذكر ما لم نذكره هناك
- إنزال العذاب بالكفار:
عندما كان يُكذَّب رسول من الرسل، ويصرّ قومه على التكذيب، كان الله ينزل في كثير من الأحيان بهم عذابه، وكان الذي يقوم بالتعذيب أحياناً الملائكة.
- إهلاكهم قوم لوط:
جاء الملائكة المأمورون بتعذيب قوم لوط في صورة شبان حسان الوجوه، واستضافهم لوط، ولم يعلم قومه بهم، فدلت زوجة لوط قومها عليهم، فجاءوا مسرعين، يريدون بهم الفاحشة، فدافعهم لوط، وحاورهم، فأبوا عليه، فضربهم جبريل بجناحه، فطمس أعينهم، وأذهب بصرها: {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيد قالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ} [هود: 77-81].
قال ابن كثير : وذكروا أن جبريل - عليه السلام - خرج عليهم، فضرب وجوههم خفقة بطرف جناحه، فطمست أعينهم، حتى قيل غارت بالكلية، ولم يبق لها محل ولا أثر... قال تعالى: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 37].
وفي الصباح أهلكهم الله تعالى: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 82-83] قال ابن كثير في تفسيره: (قال مجاهد: أخذ جبريل قوم لوط من سرحهم ودورهم، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم، ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم كفأها، وكان حملهم على خوافي جناحه الأيمن). وذكر أقوالاً مقاربة لهذا القول، ولم يورد حديثاً يشهد لهذا.
- لعن الكفرة:
قال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [آل عمران: 86-87 ]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161].
ولا تلعن الملائكة الكفرة فحسب، بل قد تلعن من فعلوا ذنوباً معينة ومن هؤلاء:
أ- لعن الملائكة المرأة التي لا تستجيب لزوجها:
ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء، لَعَنَتْها الملائكة حتى تصبح)) وفي رواية في الصحيح: ((حتى ترجع))
ب- لعنهم الذي يشير إلى أخيه بحديدة:
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال أبو القاسم: ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمّه)) .
ولعن الملائكة يدل على حرمة هذا الفعل، لما فيه من ترويعٍ لأخيه، ولأنّ الشيطان قد يطغيه فيقتل أخاه، خاصة إذا كان السلاح من هذه الأسلحة الحديثة، التي قد تنطلق لأقل خطأ، أو لمسة غير مقصودة، وكم حدث أمثال هذا.
ج- لعنهم من سبّ أصحاب الرسول:
في معجم الطبراني الكبير عن ابن عباس بإسناد حسن: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((من سبّ أصحابي، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) .
فيما عجباً لأقوام جعلوا سبّ أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ديناً لهم يتقربون به إلى الله، مع أن جزاءَهم ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم هنا، وهو جزاء رهيب.
د- لعنهم الذين يحولون دون تنفيذ شرع الله:
في سنن النسائي وسنن ابن ماجة، بإسناد صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قَتَلَ عمداً فَقَود يديه، فمن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين)) . فالذي يحول دون تنفيذ حكم الله في قتل القاتل عمداً بالجاه أو المال... فعليه هذه اللعنة، فكيف بالذي يحول دون تنفيذ الشريعة كلها؟!
هـ- لعنهم الذي يؤوي محدثاً:
من الذين تلعنهم الملائكة كما يلعنهم الله الذين يحدثون في دين الله، بالخروج على أحكامه، والاعتداء على تشريعه، أو يؤوون من يفعل ذلك، ويحمونه، كما في الحديث الصحيح: ((من أحدث حدثاً, أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين)) .
والحدث في المدينة فيه زيادة في الإجرام، ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المدينة حرم، ما بين عَيْر إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً، ولا عدلاً))
- رؤية الملائكة:
لا يستطيع بنو آدم أن يروا الملائكة، لأن الله لم يعط أبصارهم القدرة على رؤيتهم.
ولم ير الملائكة في صورهم الحقيقة من هذه الأمة إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه رأى جبريل مرتين في صورته التي خلقه الله عليها...
- طلب الكفار رؤية الملائكة؟
وقد طلب الكفار رؤية الملائكة للتدليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم الله أن اليوم الذي يرون فيه الملائكة يوم شؤم عليهم؛ إذ الكفار يرون الملائكة عندما يحلّ بهم العذاب، أو عندما ينزل بالإنسان الموت، ويكشف عنه الغطاء: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا} [الفرقان: 21-22]
الكتاب الرابع: الإيمان بالكتب المنزلة
الباب الأول: الإيمان بالكتب تعريفه وأهميته وحكمه وحقيقته وثمرته.
الفصل الأول: تعريف الإيمان بالكتب
الكتب في اللغة: جمع كتاب بمعنى مكتوب، مثل فراش بمعنى مفروش، وإله بمعنى مألوه، وغراس بمعنى مغروس.
ومادة (كتب) تدور حول الجمع والضم، وسمي الكاتب كاتباً؛ لأنه يجمع الحروف ويضم بعضها إلى بعض.
ومنه الكتيبة من الجيش سميت كتيبةً؛ لاجتماعها، وانضمام بعضها إلى بعض، ومنه تسمية الخياط كاتباً؛ لأنه يجمع أطراف الثوب إلى بعض، كما في مقامات الحريري، حيث قال ملغزاً:


وكاتبين وما خطت أناملهم

حرفاً ولا قرأوا ما خط في الكتب

ويَقْصدُ بهم الخياطين.
والكتاب في الأصل اسم للصحيفة مع المكتوب فيها كما في قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} [النساء: 153] يعني صحيفة مكتوبا فيها.
والمراد بالكتب هنا: الكتب والصحف التي حوت كلام الله تعالى الذي أوحاه إلى رسله عليهم السلام. سواء ما ألقاه مكتوباً كالتوراة، أو أنزله عن طريق الملك مشافهة فكتب بعد ذلك كسائر الكتب.
الفصل الثاني: معنى الإيمان بالكتب
ومعنى الإيمان بالكتب التصديق الجازم بأن كلها منزل من عند الله عز وجل على رسله إلى عباده بالحق المبين والهدى المستبين، وأنها كلام الله عز وجل لا كلام غيره، وأن الله تعالى: تكلم بها حقيقة كما شاء وعلى الوجه الذي أراد، فمنها المسموع منه من وراء حجاب بدون واسطة، ومنها ما يسمعه الرسول المَلَكي ويأمره بتبليغه منه إلى الرسول البشري كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51] وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164]، {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]، {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]، {فَأَوْحَى إلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10]، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52]، {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل:2]، {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء:106] ومنها ما خطه بيده عز وجل كما قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف:145]. والإيمان بكل ما فيها من الشرائع وأنه كان واجباً على الأمم الذين نزلت إليهم الصحف الأولى الانقياد لها والحكم بما فيها كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ - إلى قوله: - وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أهل الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إلى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:44 – 49]. وأن جميعها يصدق بعضها بعضاً لا يكذبه كما قال تعالى: في الإنجيل {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} [المائدة:46] وقال في القرآن {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة:48]. وإن كل من كذب بشيء منها أو أبى عن الانقياد لها مع تعلق خطابه يكفر بذلك كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]. وأَنَّ نسخ الكتب الأولى بعضها ببعض حق كما نسخ بعض شرائع التوراة بالإنجيل قال الله تعالى: في عيسى عليه السلام {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إلى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ – إلى قوله - وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [آل عمران:48-50] وكما نسخ كثير من شرائع التوراة والإنجيل والقرآن كما قال تعالى: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُون الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف: 156 – 158] الآية. وأَنَّ نسخ القرآن بعض آياته ببعض حَقٌّ كما قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106] وقال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:101] الآيات، وكما قال تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال:66] بعد قوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:65]. والناسخ والمنسوخ آيات مشهورات مذكورات في مواضعها من كتب التفسير وغيرها. وإنه لا يأتي كتاب بعده ولا مغير ولا مبدِّل لشيء من شرائعه بعده، وأنه ليس لأحد الخروج عن شيء من أحكامه، وأَنَّ من كذب بشيء منه من الأمم الأولى فقد كذب بكتابه، كما أَنَّ مَنْ كذب بما أخبر عنه القرآن من الكتب فقد كذب به، وأَنَّ من اتَّبَعَ غير سبيله ولم يقتفِ أثره ضل قال تعالى: {المص. كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ. اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:1 – 3]. ثم الإيمان بكتب الله عز وجل يجب إجمالاً فيما أجمل وتفصيلاً فيما فصل، فقد سمى الله تعالى: من كتبه التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود في قوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} [النساء:163] والقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر صحف إبراهيم وموسى، وقد أخبر تعالى: عن التنْزيل على رسله مجملاً في قوله {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136] وقال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا – إلى قوله - وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [البقرة:136] وقال {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى:15] فنقول كما أمرنا ربنا عز وجل: آمنا بما أنزل الله من كتاب وما أرسل من رسول. وقال تعالى: في القرآن والسنة {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]. فلا بد في الإيمان به من امتثال أوامره واجتناب مناهيه وتحليل حلاله وتحريم حرامه والاعتبار بأمثاله والاتعاظ بقصصه والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه والوقوف عند حدوده وتلاوته آناء الليل والنهار والذب عنه لتحريف الغالين وانتحال المبطلين والنصيحة له ظاهراً وباطناً بجميع معانيها، نسأل الله تعالى: أن يرزقنا كل ذلك ويوفقنا له ويعيننا عليه ويثبتنا به وجميع إخواننا المسلمين إنه وليّ التوفيق.
الفصل الثالث: أهمية الإيمان بالكتب
الإيمان بالكتب أصل من أصول العقيدة، وركن من أركان الإيمان، ولا يصح إيمان أحد إلا إذا آمن بالكتب التي أنزلها الله على رسله عليهم السلام
وقد أثنى الله عز وجل على الرسل الذين يبلغون عن الله رسالاته فقال عز وجل: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ} [الأحزاب: 39].
كما أخبر سبحانه أن الرسول والمؤمنون آمنوا بما أنزل من عند الله من كتب، قال تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285].
ومما يدل على أهميته أن الله أمر المؤمنين بأن يؤمنوا بما أنزله كما في قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].
ومما يدل على أهميته أن الله أهلك الأمم بسبب تكذيبهم برسالاته، كما أخبر الله عن صالح بقوله: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79].
كذلك من أنكر شيئاً مما أنزل الله فهو كافر كما قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:136]
الفصل الرابع: حكم الإيمان بالكتب
الإيمان بكتب الله التي أنزل على رسله كلها ركن عظيم من أركان الإيمان وأصل كبير من أصول الدين، لا يتحقق الإيمان إلا به. وقد دل على ذلك الكتاب والسنة.
فمن الكتاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136]. فأمر الله عباده المؤمنين في الآية بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه. فأمرهم بالإيمان بالله ورسوله وهو محمد صلى الله عليه وسلم والكتاب الذي أنزل على رسوله وهو القرآن، والكتاب الذي أنزل من قبل وهو جميع الكتب المتقدمة: كالتوراة، والإنجيل، والزبور، ثم بين في ختام الآية أن من كفر بشيء من أركان الإيمان فقد ضل ضلالا بعيدا وخرج عن قصد السبيل ومن أركان الإيمان المذكورة الإيمان بكتب الله.
وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177]. فأخبر عز وجل أن حقيقة البر: هو الإيمان بما ذكر من أركان الإيمان، والعمل بخصال البر الواردة في الآية بعد هذا. وذكر من أركان الإيمان: (الإيمان بالكتاب) قال ابن كثير: هو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء. حتى ختمت بأشرفها، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب .
ولتقرير الإيمان بالكتب كلها أمر الله عباده المؤمنين أن يخاطبوا أهل الكتاب بقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136]. فتضمنت الآية إيمان المؤمنين بما أنزل الله عليهم بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أنزل على أعيان الرسل المذكورين في الآية، وما أنزل على بقية الأنبياء في الجملة وأنهم لا يفرقون بين الرسل في الإيمان ببعضهم دون بعض فانتظم ذلك الإيمان بجميع الرسل وكل ما أنزل الله عليهم من الكتب.
والآيات في تقرير هذا من كتاب الله كثيرة.
وأما السنة فقد دلت كذلك على وجوب الإيمان بالكتب. وأن الإيمان بها ركن من أركان الإيمان، دل على ذلك حديث جبريل، وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم أركان الإيمان، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم في إجابته: الإيمان بالكتب مع بقية أركان الإيمان.
فتقرر بهذا وجوب الإيمان بالكتب والتصديق بها جميعها، واعتقاد أنها كلها من الله تعالى أنزلها على رسله بالحق والهدى والنور والضياء، وأن من كذب بها أو جحد شيئا منها فهو كافر بالله خارج من الدين.

وأن أهل السنة والجماعة يؤمنون ويعتقدون اعتقاداً جازماً أن الله - عز وجل - أنزل على رسله كتباً فيها أمره، ونهيه، ووعده ووعيده، وما أراده الله من خلقه، وفيها هدى ونور، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إليه مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285]. وأن الله أنزل كتبه على رسله لهداية البشرية، قال تعالى: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1]. ومن هذه الكتب: القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى، وأعظمها التوراة والإنجيل والقرآن، وأعظم الثلاثة وناسخها وأفضلها هو القرآن. ولم يتكفّل الله سبحانه بحفظ شيء من هذه الكتب - عدا القرآن - بل استحفظ عليها الأحبار والربانيون؛ لكنهم لم يحافظوا عليها، وما رعوها حق رعايتها؛ فحصل فيها تغيير وتبديل.

قال ابن أبي العز الحنفي-رحمه الله تعالى-: وأما الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين، فنؤمن بما سمى الله تعالى منها في كتابه، من التوراة والإنجيل والزبور، ونؤمن بأن لله تعالى سوى ذلك كتباً أنزلها على أنبيائه، لا يعرف أسماءها وعددها إلا الله تعالى وأما الإيمان بالقرآن، فالإقرار به، واتباع ما فيه، وذلك أمر زائد على الإيمان بغيره من الكتب. فعلينا الإيمان بأن الكتب المنزلة على رسل الله أتتهم من عند الله، وأنها حق وهدى ونور وبيان وشفاء. قال تعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ} [البقرة:136]. {الم اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ –إلى قوله- وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران:1-4]. {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إليه مِن رَّبِّهِ} [البقرة:285]. {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء:82]. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تكلم بها، وأنها نزلت من عنده. وفي ذلك إثبات صفة الكلام والعلو. وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [البقرة:213]. {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41-42]. {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ:6]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]. {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44]. {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} [التغابن:8]. وأمثال ذلك في القرآن كثيرة.
الفصل الخامس: حقيقة الإيمان بالكتب
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
الإيمان بكتب الله يشتمل على عدة جوانب دلت النصوص على وجوب اعتقادها وتقريرها لتحقيق هذا الركن العظيم من أركان الإيمان وهي:
1 - التصديق الجازم بأنها كلها منزلة من الله عز وجل، وأنها كلام الله تعالى لا كلام غيره، وأن الله تكلم بها حقيقة كما شاء وعلى الوجه الذي أراد سبحانه. قال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران: 2- 4].
فأخبر الله عز وجل أنه أنزل هذه الكتب المذكورة وهي: التوراة، والإنجيل، والقرآن من عنده وهذا يدل على أنه هو المتكلم بها وأنها منه بدأت لا من غيره، ولذا توعد في نهاية السياق من كفر بآيات الله بالعذاب الشديد.
وقال مخبرًا عن التوراة {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44] فبين أنه تعالى هو الذي أنزل التوراة وأن ما فيها من الهدى والنور منه سبحانه. وقال تعالى في سياق آخر مبينًا أن التوراة من كلامه وذلك في معرض إخباره عن اليهود {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة: 75] فكلام الله الذي سمعوه ثم حرفوه هو التوراة. قاله السُّدِّي وابن زيد وجمع من المفسرين.
وقال تعالى في الإنجيل {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} [المائدة: 47] أي من الأوامر والنواهي التي هي من كلام الله.
وقال في القرآن الكريم: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]. وقال تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6]. وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل: 102]. وقال تعالى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]. وإنما أمروا أن يسمعوا القرآن الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كلام الله على الحقيقة.
2 - الإيمان بأنها دعت كلها إلى عبادة الله وحده وقد جاءت بالخير والهدى والنور والضياء. قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 79]. فبين الله أنه ما ينبغي لأحد من البشر، آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة، أن يأمر الناس أن يتخذوه إلها من دون الله. وذلك أن كتب الله إنما جاءت بإخلاص العبادة لله وحده.
وقال تعالى مبينًا أن كتبه جاءت بالحق والهدى {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} {مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ} [آل عمران: 3-4]. وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 213]. وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائًدة: 44]. وقال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 46]. وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]. إلى غير ذلك من الآيات المتضمنة أن كتب الله تعالى قد جاءت بالهدى والنور من الله تعالى.
3 - الإيمان بأن كتب الله يصدق بعضها بعضًا فلا تناقض بينها ولا تعارض كما قال تعالى في القرآن {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. وقال في حق الإنجيل: {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} [المائدة: 46]. فيجب الإيمان بهذا واعتقاد سلامة كتب الله من كل تناقض أو تعارض، وهذا من أعظم خصائص كتب الله عن كتب الخلق وكلام الله عن كلام الخلق فإن كتب المخلوقين عرضة للنقص والخلل والتعارض كما قال تعالى في وصف القرآن {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
4 - الإيمان بما سمى الله عز وجل من كتبه على وجه الخصوص، والتصديق بها، وبإخبار الله ورسوله عنها. وهذه الكتب هي:
أ) التوراة: وهي كتاب الله الذي آتاه موسى عليه السلام. قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} [القصص: 43]. وفي حديث الشفاعة الطويل الذي أخرجه الشيخان من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا: ((... فيأتون إبراهيم فيقول: لست هُنَاكم ويذكر خطيئته التي أصابها ولكن ائتوا موسى عبدًا آتاه الله التوراة وكلمه تكليما)) ، وقد ألقى الله التوراة على موسى مكتوبة في الألواح وفي ذلك يقول سبحانه {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145]. قال ابن عباس (يريد ألواح التوراة) . وفي حديث احتجاج آدم وموسى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((... قال له آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده)) أخرجاه في الصحيحين من طرق كثيرة . والتوراة هي أعظم كتب بني إسرائيل وفيها تفصيل شريعتهم وأحكامهم التي أنزلها الله على موسى وقد كان على العمل بها أنبياء بني إسرائيل الذين جاءوا من بعد موسى كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44].
ب) الإنجيل: وهو كتاب الله الذي أنزله على عيسى ابن مريم عليهما السلام. قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [المائدة: 46].
وقد أنزل الله الإنجيل مصدقا للتوراة وموافقا لها كما تقدم في الآية السابقة.
قال بعض العلماء : لم يخالف الإنجيل التوراة إلا في قليل من الأحكام مما كانوا يختلفون فيه كما أخبر الله عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50].
وقد أخبر الله تعالى في كتابه الكريم أن التوراة والإنجيل نصا على البشارة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157].
وقد لحق الإنجيل من التحريف ما لحق التوراة...
ج) الزبور: وهو كتاب الله الذي أنزله على داود عليه السلام. قال تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [السماء: 163]. قال قتادة في تفسير الآية: (كنا نحدث أنه دعاء علمه الله داود وتحميد وتمجيد لله عز وجل ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود) .
د) صحف إبراهيم وموسى: وقد جاء ذكرها في موضعين من كتاب الله، الأول في سورة النجم في قول الله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 36-39]. والثاني في سورة الأعلى، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 14- 19]. فأخبر الله عز وجل عن بعض ما جاء في هذه الصحف من وحيه الذي أنزله على رسوليه إبراهيم وموسى عليهما السلام. والعلم عند الله.
هـ) القرآن العظيم: وهو كتاب الله الذي أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه، وهو آخر كتب الله نزولا وأشرفها وأكملها، والناسخ لما قبله من الكتب وقد كانت دعوته لعامة الثقلين من الإنس والجن. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] ومهيمنًا: أي شهيدًا على ما قبله من الكتب وحاكما عليها. وقال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]. وقال عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]. وللقرآن أسماء كثيرة أشهرها: القرآن، والفرقان، والكتاب، والتنزيل، والذكر.
فيجب الإيمان بهذه الكتب على ما جاءت به النصوص، من ذكر أسمائها، ومن أنزلت فيهم، وكل ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها، وما قُصَّ علينا من أخبار أهلها.
5 - الاعتقاد الجازم بنسخ جميع الكتب والصحف التي أنزلها الله على رسله، بالقرآن الكريم، وأنه لا يسع أحدًا من الإنس أو الجن، لا من أصحاب الكتب السابقة، ولا من غيرهم، أن يعبدوا الله بعد نزول القرآن بغير ما جاء فيه أو يتحاكموا إلى غيره. والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة. قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]. وقال عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16].
الفصل السادس: ثمرات الإيمان بالكتب
وللإيمان بالكتب آثاره العظيمة على المؤمن فمن ذلك:
- شكر الله تعالى على لطفه بخلقه وعنايته بهم حيث أنزل إليهم الكتب المتضمنة إرشادهم لما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة.
- ظهور حكمة الله تعالى حيث شرع في هذه الكتب لكل أمة ما يناسبها، وكان خاتم الكتب القرآن العظيم مناسبا لجميع الخلق في كل عصر ومصر إلى قيام الساعة.
- إثبات صفة الكلام لله تعالى وأن كلامه لا يشبه كلام المخلوقين، وعجز المخلوقين عن الإتيان بمثل كلامه.
- العلم بعناية الله؛ حيث أنزل لكل قوم كتاباً يهديهم به...
- التحرر من زبالات أفكار البشر بهدي السماء.
- السير على طريق مستقيمة واضحةٍ لا اضطراب فيها ولا اعوجاج.
- الفرح بذلك الخير العظيم {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]
- شكر الله على هذه النعمة العظيمة.
- التحرر من التخبط الفكري والعقدي
الباب الثاني: الإيمان بالقرآن.
الفصل الأول: تعريف القرآن وفضله.
المبحث الأول: معنى القرآن في اللغة
القرآن من مادة قرأ، ومنه قرأت الشيء، فهو قرآن: أي جمعته، وضممت بعضه إلى بعض، فمعناه: الجمع والضم. ومنه قولهم: ما قرأت هذه الناقة سلى قط، وما قرأت جنيناً، أي لم تضم رحمها على ولد . قال أبو عبيدة -رحمه الله-: (... وإنما سمي قرآناً لأنه يجمع السور فيضمها، وتفسير ذلك في آية من القرآن، قال الله -جل ثناؤه-: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ} [القيامة: 17] ... تأليف بعضه إلى بعض...) ثم قال: وفي آية أخرى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآَنَ} [النحل: 98] ... إذا تلوت بعضه في إثر بعض، حتى يجتمع، وينضم بعضه إلى بعض، ومعناه: يصير إلى معنى التأليف والجمع، ثم استشهد على هذا المعنى، بقول عمرو بن كلثوم:


ذراعي حرة أدماء بكر

هجان اللون لم تقرأ جنيناً


أي لم تضم في رحمها ولداً قط فسمي القرآن قرآناً، لأنه جمع القصص، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والآيات والسور: بعضها إلى بعض .
ويذكر أبو بكر الباقلاني: أن القرآن يكون مصدراً واسماً: مصدراً كما في قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ} [القيامة: 17]، واسماً كما في قوله (تعالى): {وَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] .
ويروى عن الشافعي رحمه الله: (أن القرآن اسم علم لكتاب الله، غير مشتق: كالتوراة، والإنجيل) . قال القرطبي رحمه الله: (والصحيح الاشتقاق في الجميع) أي في القرآن والتوراة والإنجيل.
المبحث الثاني: معنى القرآن في الاصطلاح
القرآن الكريم هو اسم لكلام الله تعالى، المنزل على عبده ورسوله: محمد صلى الله عليه وسلم، وهو اسم لكتاب الله خاصة ولا يسمى به شيء غيره من سائر الكتب . وإضافة الكلام إلى الله تعالى إضافة حقيقية، من باب إضافة الكلام إلى قائله.
وعرفه السيوطي (رحمه الله) بقوله: (وأما في العرف فهو الكلام المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه، فخرج بالمنزل على محمد صلى الله عليه وسلم: التوراة والإنجيل، وسائر الكتب، وبالإعجاز: الأحاديث الربانية القدسية كحديث الصحيحين: ((أنا عند ظن عبدي بي... إلى آخره)) وغيره... وقولنا: بسورة منه: هو بيان لأقل ما وقع به الإعجاز، وهو قدر أقل سورة، كالكوثر، أو ثلاث آيات من غيرها، بخلاف من دونها ... ثم قال: (وزاد بعض المتأخرين في الحد: المتعبد بتلاوته، ليخرج المنسوخ التلاوة) .
ولما ظهر الخوض في صفات الله تعالى، وفي كلام الله خاصة، من قبل الزنادقة، وفرق المبتدعة، أحتاج أهل السنة إلى تعريف القرآن تعريفاً يظهرون فيه معتقدهم في صفات الله تعالى عامة، وفي صفة الكلام خاصة، ومنه القرآن، مخالفين بذلك أهل البدع من الجهمية والمعتزلة وغيرهم، فقال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى:
(وإن القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه، فزعم أنه كلام البشر فقد كفر)
المبحث الثالث: فضل القرآن
ما تقولون في فضل كتاب أنقذ الله به أمة من جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، دأبهم السلب والنهب، ومعبودهم الأوثان والحجارة، وديدنهم توارث العداوات والأحقاد، لا تعرف من الحق رسماً. نحلتها ما وجدت عليه آباءها, وما استحسنته أسلافها, من آراء منحرفة، ونحل مخترعة، وملل مبتدعة، فأنزل الله عليهم هذا الكتاب فأنقذهم منها به، وانتشلهم به من أوحالها.
ما تقولون في فضل كتاب ختم الله به الكتب، وأنزل على نبي ختم به الأنبياء، وبدين ختمت به الأديان.
ما تقولون في فضل كتاب فتحت به أمصار، وجثت عنده الركب، ونهل من منهله العلماء، وشرب من مشربه الأدباء، وخشعت لهيمنته الأبصار، وذلت له القلوب، وقام بتلاوته العابدون, والراكعون, والساجدون.
ذلكم القرآن الكريم: (كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، فلا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه) .
ذلكم القرآن الكريم: كلام الله العظيم، وصراطه المستقيم، ودستوره القويم، ناط به كل سعادة، وحكمته البالغة، ونعمته السابغة.
ذلكم القرآن الكريم: حجة الرسول الدامغة، وآيته الكبرى شاهدة برسالته، وناطقة بنبوته.
ذلكم القرآن الكريم: كتاب الإسلام في عقائده وعباداته، وحكمه وأحكامه، وآدابه وأخلاقه، وقصصه ومواعظه، وعلومه وأخباره، وهدايته ودلالته.
ذلكم القرآن الكريم: أساس رسالة التوحيد، والمصدر القويم للتشريع، ومنهل الحكمة والهداية، والرحمة المسداة للناس، والنور المبين للأمة، والمحجة البيضاء التي لا يزغ عنها إلا هالك...
فضل القرآن ومكانته لا يدانيه فضل، ولا تسموا إليه مكانة، فضائل عامة، وفضائل خاصة لبعض سوره وآياته، أكتفي هنا بذكر ومضات من هذه ومن تلك عل فيها المراد.
فضائل القرآن الكريم العامة:
أما فضائله عامة، فقد وردت في آيات عديدة وأحاديث كثيرة الإشارة إلى ذلك، فمن القرآن ننهل أصدق الأوصاف لفضله، وأوفاها لحقه، فمن ذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وهي أول جملة بعد الفاتحة يقرأها المسلم في القرآن، ولك أن تسيح في استكناه المراد بذلك.
ومن فضل القرآن في القرآن: أن عد إنزاله في شهر مزية كبرى لهذا الشهر، فما ظنكم بالمنزل نفسه، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
وعلق الرحمة عند تلاوة القرآن بالاستماع إليه: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204].
ووصفه بالعظمة: {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ المَثَانِي وَالقُرْآَنَ العَظِيمَ} [الحجر: 87]، وبالهداية: {إِنَّ هَذَا القُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
وأقسم الله به: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}، وأمر بتلاوته: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل: 91-92]. وبتدبره: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ{ [محمد: 24]، وذم الذين لا يسجدون عند تلاوته: }وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ{ [الانشقاق: 21]، وشهد له بالسلامة من العوج: }قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ{ [الزُّمر: 28]، }الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا{ [الكهف: 1].}
بل إنه لكثرة فضائل القرآن تعددت أسماؤه وصفاته، وورد في القرآن كثير من ذلك، وسبق الحديث عن ذلك.
فهل رأيتم فضلاً أكبر من هذا، ومنزلة أعظم من هذه المنزلة، يتبوأ عليها القرآن مستحقاً.
هذا بعض فضل القرآن عند منزله سبحانه وتعالى، أما فضائله التي جاءت على لسان مبلغه عليه الصلاة والسلام فكثيرة، من أجمعها الحديث الذي رواه الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا إنها ستكون فتنة، فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن: 1-2]، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم)) ، وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله, وهو النور المبين، والشفاء النافع, عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد، فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما أني لا أقول: ألم حرف,....)) .
ومالنا والإطناب في فضل القرآن ليكفنا – وحسبنا ذلك قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) .
فكما فاض فضل القرآن فعم الشهر الذي أنزل فيه فصار أفضل الشهور، والليلة التي أنزل فيها فصارت أفضل الليالي، فقد عم فضله أيضاً على الناس فصار خيرهم من تعلمه وعلمه.
هذا غيض من فيض عن فضل القرآن الكريم عامة في الكتاب والسنة، وهناك فضائل خاصة لبعض سوره وآياته
الفصل الثاني: حفظ القرآن الكريم وسلامته من التحريف.
المبحث الأول: حفظ القرآن في عهد النبوة
أنزل الله تعالى كتابه ليكون الكتاب المهيمن، والرسالة الخاتمة، والشرعة الباقية، مما يتطلب رعايته عن عبث العابثين؛ وتحريف الغالين؛ وانتحال المبطلين؛ وقد اتفق له ذلك منذ اللحظة الأولى لنزوله، وحتى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تحقيقاً لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وللحفظ في عهد النبوة وجوه عدة، منها:
1- الطريقة التي كان ينزل بها الوحي:
وهي أن ينزل على هيئة تكون أدعى إلى حفظه، وضبطه: أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي, فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً، فيكلمني، فأعي ما يقول)) .
2- مدارسة الملك النبي صلى الله عليه وسلم القرآن:
وكان ذلك في رمضان من كل عام: أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة) . وفي رواية لأبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه...) .
3- كتابة الوحي، ومقابلته:
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: ((كنت أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته برحاء شديدة، وعرق عرقاً شديداً... فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف، أو كسرة، فأكتب وهو يملي علي... فإذا فرغت، قال: اقرأ، فأقرؤه، فإن كان فيه سقط أقامه، ثم أخرج به إلى الناس)) .
4- قصر الكتابة على القرآن:
وذلك في بادئ الأمر، لئلا يختلط القرآن بغيره، لحديث ((لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج...)) . ثم كان الإذن بالكتابة، بعد أن زال سبب المنع.
5- الحض على تعلم القرآن وتعليمه:
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على تعلم القرآن وتعليمه، وحفظه، وتحفيظه, وكان يقدم أكثرهم أخذاً للقرآن في إمامة الصلوات، وقيادة السرايا: أخرج البخاري في صحيحه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) . وأخرج الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً وهم ذو عدد، فاستقرأهم، فاستقرأ كل رجل منهم ما معه من القرآن؛ فأتى على رجل منهم من أحدثهم سناً، فقال: ما معك يا فلان؟ قال: معي كذا وكذا وسورة البقرة، فقال: أمعك سورة البقرة؟ قال: نعم. قال: فاذهب أنت أميرهم...)) .
6- قوة الحافظة عند العرب:
فالعرب كانوا أهل حافظة لا تكاد تخطئ، وذاكرة لا يكاد يعزب عنها شيء، وخاصة أن القرآن جاء في براعة من الأسلوب، ورفعة من البيان، ما يجعله أحرى لحفظه، والاهتمام به، حتى كثر آخذوه: صدراً وسطراً، قال الباقلاني رحمه الله: (... وتظاهر بينهم، حتى حفظه الرجال, وتنقلت به الرحال، وتعلمه الكبير والصغير؛ إذ كان عمدة دينهم، وعلماً عليه، والمفروض تلاوته في صلواتهم، والواجب استعماله في أحكامهم)
المبحث الثاني: حفظ القرآن في عهد الصحابة رضوان الله عليهم
أما حفظ القرآن في عهد الصحابة، فقد تجلى ذلك عبر حادثتين عظيمتين:
الأولى منها: في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وذلك لما كثر في حفظة كتاب الله تعالى، فخشي الصحابة ذهاب القرآن بذهاب حفظته؛ فأجمعوا أمرهم على جمعه في مكان واحد، وهو ما يسمى بالجمع الأول؛ أخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (أرسل إلي أبو بكر الصديق، مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى إن استحر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك؛ وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به في جمع القرآن، قلت كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فتتبعت القرآن، أجمعه من العسب, واللخاف, وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128]، حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر، حياته، ثم عند حفصة بنت عمر) .
أما الحادثة الثانية: ففي عهد الخليفة الثالث، عثمان بن عفان رضي الله عنه وذلك لما ظهر النزاع بين بعض المسلمين بسبب الاختلاف في الأحرف التي يقرأ بها القرآن، فأجمع الصحابة ومن معهم من المسلمين على جمع القرآن في مصحف واحد، وأحرقوا ما دونه من المصاحف، توحيداً لقراءتهم، وجمعاً لكلمتهم: أخرج البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: (إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القرآن، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى! فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت, وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام؛ فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم؛ ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق) .
وهكذا حفظ كتاب الله تعالى على يد الشيخين الجليلين، أبي بكر وعثمان، وهو مما يعد في مناقبهما
المبحث الثالث: سلامة القرآن من التحريف
إن القرآن الكريم، وهو ما بين الدفتين، مما في أيدي الناس اليوم، هو الذي أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو على ما كان عليه؛ لا زيادة فيه ولا نقصاً، وقد ورد إلينا متواتراً، بنقل الكافة – التي لا تقع تحت حصر ولا عد – عن مثلها حفظاً وكتابة، ولم يختلف في عصر من العصور عما في غيره، بل هو كتاب واحد، بلفظ واحد، يجتمع أهل الأرض جميعاً على قراءته دون اختلاف بينهم: لا في سورة، أو آية، أو كلمة، أو حركة.
وقد ضمن الله تعالى لكتابه السلامة من التحريف، كما في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وهذا يقتضي حفظ عينه وهيئته التي نزل عليها، وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [الأنعام: 115] قال البيضاوي رحمه الله في تفسيرها: (لا أحد يبدل شيئاً منها بما هو أصدق وأعدل، أولا أحد يقدر أن يحرفها شائعاً ذائعاً كما فعل بالتوراة... فيكون ضماناً لها من الله سبحانه وتعالى بالحفظ) .
ومن وسائل هذا الحفظ: النقل المتواتر، نقل الكافة المتكاثرة عن مثلها إلى غيرها، حفظاً وكتابة، جيلاً بعد جيل. قال الباقلاني رحمه الله: (... ثم تناقله خلف عن سلف، هم مثلهم في كثرتهم، وتوافر دواعيهم على نقله، حتى انتهى إلينا على ما وصفنا من حاله) .
لكن الرافضة الشيعة، أثاروا بعض الشبهات حول تواتر القرآن وسلامته من التحريف، أذكر أشدها، مع الجواب على كل شبهة:
الشبهة الأولى: زعموا أن التواتر لم يتوفر للقرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بدليل حديث قتادة عند البخاري، قال (سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال أربعة، كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد) . وفي رواية عن أنس قال: (مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة) وذكر ثلاثة من المتقدمين، وأبدل أبي بن كعب بأبي الدرداء.
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
الأول: أن هذه الأحاديث ليس فيها ما هو مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقع في تعيين الصحابة، وتعدادهم اضطراب، حتى أن بعضهم أوصلهم إلى ستة ، فيصير العدد لا مفهوم له .
الثاني: أن يكون المراد بالأحاديث أنه لم يجمع القرآن من فيِّ رسول الله إلا هؤلاء الأربعة، أو أنه لم يجمعه على جميع الوجوه والأحرف التي نزل بها إلا أولئك، أو أنه لم يجمع ما نسخ منه وأزيل رسمه بعد تلاوته مع ما ثبت رسمه وبقي فرض حفظه وتلاوته، إلا تلك الجماعة .
الثالث: الذين حفظوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أكثر من ذلك بكثير، ويدل عليه حديث بئر معونة، حيث قتل سبعون من القراء، وقتل مثلهم في صدر خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك في موقعة اليمامة .
الرابع: دواعي الحفظ لدى الصحابة، وتمام الاستعداد عندهم يحيل القول بقلة الحفظة منهم.
الشبهة الثانية: زعم الرافضة أن بعض القرآن لم يتفق له التواتر، ومثلوا لذلك بقول زيد بن ثابت: (حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128-129] . وبقوله – أيضا -: (فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف، قد كنت أسمع رسول الله يقرأ بها، فالتمسناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] فألحقناها في سورتها في المصحف) .
والجواب عن هذه الشبهة يكون في مقامين:
المقام الأول: الجواب على ما ادعوه في آية براءة: وهو من وجوه:
الأول: أن زيد بن ثابت رضي الله عنه كان يعرف هذه الآية قبل هذه الحادثة، بدليل رواية أخرى يقول فيها: (فقدت آية كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ...} الآية فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت ؛ فأثبتناها في سورتها) .
الثاني: قد شهد كل من عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وأبي بن كعب أنهم سمعوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الخطابي: (فقد اجتمع في هذه الآية: زيد، وأبو خزيمة، وعمر) .
الثالث: أما قول زيد في رواية البخاري: (لم أجدها مع أحد غيره) فقد قال الحافظ ابن حجر: (أي مكتوبة، كما تقدم من أنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، ولا يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ، أن لا تكون تواترت عند من لم يتلقها من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان زيد يطلب التثبت عمن تلقاها بغير واسطة...) .
المقام الثاني: الجواب على ما ادعوه في آية الأحزاب: وهو من وجوه:
الأول: هذه الآية شهد بسماعها من الرسول صلى الله عليه وسلم خزيمة الأنصاري، وشهادته تعدل شهادة رجلين بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني: قول زيد: (فقدت آية، كنت أسمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدل على معرفته إياها، وأنه سمعها وإنما كان يطلب التثبت).
الثالث: هذه الحادثة وقعت في عهد عثمان أثناء نسخ المصحف ولا يتصور أن تكون هذه الآية مفقودة من عهد نزول القرآن، مروراً بالجمع الأول في عهد أبي بكر، ولا تعرف إلا في عهد عثمان رضي الله عنه، مع حفظ الله تعالى لكتابه ودينه.
الشبهة الثالثة: زعم الرافضة أن القرآن تعرض لتحريف شديد من قبل الصحابة أثناء عملية الجمع، وأن عثمان رضي الله عنه قد أسقط منه خمسمائة حرف حتى قام أحد مشاهير الشيعة، وهو الحاج ميرزا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي بتأليف كتاب في ذلك، سماه: (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب)، جمع فيه مئات النصوص عن علماء الشيعة ومجتهديهم في مختلف العصور، بأن القرآن الكريم قد زيد فيه ونقص منه وذكر هاشم البحراني – وهو أحد علماء الشيعة – في كتابه: (البرهان). نصوصاً كثيرة يستدل بها على أن القرآن لم يجمعه إلا الأئمة، أي أئمة الشيعة الاثنا عشر ، وقد روى أحاديث في تحريف القرآن، منها: (لو قرئ القرآن كما أنزل لألفيتنا فيه مسمين) ومنها: (لولا أن زيد في كتاب الله ونقص منه ما خفي حقنا على ذي الحجى) .
والجواب على هذه الشبهة، من وجوه:
الأول: أن هذا الزعم مخالف لإجماع الصحابة والمسلمين في كل عصر، والعادة تمنع تواطؤ هذه الجموع المتكاثرة، على الكذب والافتراء.
الثاني: أن علي بن أبي طالب داخل في هذا الإجماع، ولو قدر أنه سكت عن إظهار الحق تقية، فلا يجوز له ذلك بعد أن أفضت إليه الخلافة، وصار الأمر بيده .
الثالث: هذا الزعم مخالف لحفظ الله تعالى للقرآن: نصاً وعقلاً وحساً، أما النص فقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وأما العقل: فإن الله تعالى قدر أن تكون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي الخاتمة، فمحال أن تتعرض للتحريف والتبديل؛ لأنه خلاف الحكمة والتقدير.
أما الحس: فهو يشهد بأن الذي في أيدي عامة المسلمين اليوم، هو القرآن الكريم، فكيف يكون القرآن الحق عند قلة من الناس، والمحرف عند الأكثرية منهم! وهو مع ذلك الكتاب المهيمن، والناسخ لجميع الشرائع المتقدمة
 
أعلى