ابن عامر الشامي
وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
- إنضم
- 20 ديسمبر 2010
- المشاركات
- 10,237
- النقاط
- 38
- الإقامة
- المملكة المغربية
- احفظ من كتاب الله
- بين الدفتين
- احب القراءة برواية
- رواية حفص عن عاصم
- القارئ المفضل
- سعود الشريم
- الجنس
- اخ
الفصل الثالث: منزلة القرآن من الكتب المتقدمة
القرآن آخر الكتب السماوية وهو خاتمها، وهو أطولها، وأشملها، وهو الحاكم عليها.
قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48].
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 37].
وقال: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
قال أهل التفسير في قوله تعالى {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ}: مهيمناً وشاهداً على ما قبله من الكتب، ومصدقاً لها؛ يعني يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف، وتبديل، وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير.
ولهذا يخضع له كل متمسك بالكتب المتقدمة ممن لم ينقلب على عقبيه كما قال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:52 - 53 ].
فالقرآن هو رسالة الله لجميع الخلق، وقد تكفل سبحانه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
ولا يقبل الله من أحد ديناً إلا ما جاء في هذا القرآن العظيم.
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله في قوله تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ}:أي مشتملاً على ما اشتملت عليه الكتب السابقة وزيادة في المطالب الإلهية، والأخلاق النفسية؛ فهو الكتاب الذي يتبع كل حق جاءت به الكتب، فأمر به، وحث عليه، وأكثر من الطرق الموصلة إليه.
وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين، وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة، والأحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة، فما شهد له بالصدق فهو المقبول، وما شهد له بالرد فهو مردود قد دخله التحريف والتبديل، وإلا لو كان من عند الله لم يخالفه.
القرآن هو المهيمن المؤتمن الشاهد على ما بين يديه من الكتب
أصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب؛ يقال – إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده – قد هيمن فلان عليه.
وتقول: هيمن فلان على فلان، إذا صار قريباً عليه؛ فهو مهيمن .
ويسمى الحاكم على الناس والقائم بأمورهم: المهيمن .
ولفظ مهيمن كان أصله (مؤيمن) بالهمزة، ثم قلبت الهمزة هاء لقرب مخرجها، كما تقلب في أرقت الماء؛ فيقال: هرقت الماء. ويقال: ماء مهراق، والأصل: ماء مراق .
وأهل السنة والجماعة يؤمنون أن القرآن الكريم هو المهيمن على كل الكتب قبله؛ بمعنى: أنه أمين عليها، حافظ لها، وشاهد على أنها حق من عند الله تعالى، يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما فيها من التحريف والتبديل، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل، فصارت له الهيمنة عليها من كل وجه.
نص الإجماع الذي حكاه شيخ الإسلام: قال شيخ الإسلام رحمه الله: (السلف كلهم متفقون على أن القرآن هو المهيمن المؤتمن الشاهد على ما بين يديه من الكتب) .
فهو الأمين والشاهد على ما بين يديه من الكتب، وهو أيضاً الحاكم على كل كتاب قبله بإجماع المسلمين.
قال رحمه الله: (... إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لمسلم أن يحكم بين أحد إلا بما أنزل الله في القرآن، وإذا تحاكم اليهود والنصارى إلى المسلمين لم يجز لهم أن يحكموا بينهم إلا بما أنزل الله في القرآن) .
وقد بين رحمه الله السبب في احتلال القرآن هذه المنزلة العالية، والمرتبة الرفيعة بقوله: (فإنه قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن الله وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك بياناً وتفصيلاً، وبين الأدلة والبراهين على ذلك، وقرر نبوة الأنبياء كلهم، ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع الكلية التي بعث بها الرسل كلهم، وجادل المكذبين بالكتب والرسل بأنواع الحجج والبراهين، وبين عقوبات الله لهم، ونصره لأهل الكتب المتبعين لها، وبين ما حرف منها وبدل، وما فعله أهل الكتاب في الكتب المتقدمة، وبين أيضاً ما كتموه مما أمر الله ببيانه، وكل ما جاءت به النبوات بأحسن الشرائع والمناهج التي نزل بها القرآن، فصارت له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة: فهو شاهد بصدقها، وشاهد بكذب ما حرف منها، وهو حاكم بإقرار ما أقره الله، ونسخ ما نسخه، فهو شاهد في الخبريات، حاكم في الأمريات) .
ذكر من نقل الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: تواترت النصوص عن سلف هذه الأمة وخلفها على أن القرآن الكريم هو المؤتمن والشاهد والحاكم على ما بين يديه من الكتب.
فقد روى الطبري رحمه الله بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في تفسير قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 4]. قال: (المهيمن: الأمين، القرآن أمين على كل كتاب قبله) .
وروي عنه أيضاً أنه قال: ({وَمُهَيْمِنًا} أي: حاكماً على ما قبله من الكتب) .
وقال قتادة رحمه الله: {وَمُهَيْمِنًا} أي: (أميناً وشاهداً على الكتب التي خلت قبله) .
وعن سعيد بن جبير رحمه الله أنه قال: (القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتب) .
وروى الطبري عن ابن زيد في قوله: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} قال: (مصدقاً عليه، كل شيء أنزله الله من توراة أو إنجيل أو زبور فالقرآن مصدق على ذلك، وكل شيء ذكر الله في القرآن فهو مصدق عليها وعلى ما حدث عنها أنه حق) .
وجميع هذه الأقوال كما قال ابن كثير رحمه الله: (كلها متقاربة المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين، وشاهد، وحاكم على كل كتاب قبله) .
وإنما احتل القرآن الكريم هذه المنزلة لكونه يستحيل أن يتطرق إليه التبديل والتحريف، ولا يمكن نسخه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ختم الله به الكتب.
قال الفخر الرازي رحمه الله: (إنما كان القرآن مهيمناً على الكتب لأنه الكتاب الذي لا يصير منسوخاً البتة، ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف على ما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وإذا كان كذلك كانت شهادة القرآن على أن التوراة والإنجيل والزبور حق؛ صدق باقية أبداً) .
مستند الإجماع في المسألة: لقد نص المولى جل جلاله في كتابه العزيز على أن هذا القرآن هو الأمين على ما سبقه من الكتب، وهو الشاهد والحاكم عليها فقال تبارك وتعالى في محكم التنزيل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48].
قال ابن كثير رحمه الله: (جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها؛ حيث جمع فيه محاسن ما قبله من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً، وأميناً، وحاكماً عليها كلها، وتكفل تعالى حفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]) .
فهو محفوظ بحفظ الله عز وجل إلى قيام الساعة، شاهد على هذه الكتب، مبين ما حرف منها، وحاكم بما أقره الله وأمر به من أحكامها، وناسخ ما نسخه الله منها، وهو أمين عليها في ذلك كله.
الفصل الرابع: خصائص القرآن الكريم.
المبحث الأول: الأخبار الغيبية
حوى القرآن الكريم جملة من أخبار الغيب, تجعل الإعجاز في القرآن إعجازاً مركباً, إن كان خصومه عجزوا عن الإتيان بمثله مفرداً, فهم عن الإتيان بمثله مركباً أعجز, فلا يفكر أحدهم أو يخطر بباله محاولة الإتيان بمثله, وإن حاول منهم سفيه ذلك زاد سفاهته سفاهة، وحمقه حمقاً.
وعلم الغيب ليس لأحد من البشر, ولا يدركون منه شيئاً إلا على سبيل التخمين لا على سبيل القطع والجزم.
أما أن يأتي كتاب يحمل أخباراً غيبية، ويقطع بوقوعها ثم تقع كما أخبر فهذا من خصائص القرآن الكريم.
والغيب إما أن يتعلق بماض, أو بحاضر, أو بمستقبل, وهي أخبار كثيرة جداً نذكر أمثلة لكل نوع للإثبات لا للاستقصاء.
فمن الأخبار الغيبية الماضية:
الإخبار عن خلق السماوات والأرض، وآدم وقصة إبليس لعنه الله.. ثم بعد ذلك قصص الأنبياء السابقين، والأمم الماضية ووجه الغيب فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يعرف القراءة, فلم يعهد عنه أنه قرأ في كتب أهل الكتاب, أو تلقى الدرس عن أحد منهم, أو خالطهم, أو مازجهم, ولم يكن أحد من قومه يعلم شيئاً منها.
ونصوص القرآن تشهد على ذلك، فقد خاطب الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في سياق قصة نوح عليه السلام، فقال سبحانه: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 49]، وفي قصة موسى عليه السلام: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ... وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} [هود: 44-46].
وفي قصة مريم عليها السلام: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44].
أخبار غيب الحاضر:
آيات كثيرة كشفت أحداثاً وقضايا في حينها لم يحضرها الرسول صلى الله عليه وسلم, ولم يخبره بها أحد من أصحابه.
وفي سورة التوبة من هذا النوع كثير، فقد وردت آيات تكشف حال المنافقين وما يخفونه بينهم أو في صدورهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ} [البقرة: 204]، {يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة: 74].
ولاشتهار هذا بين المنافقين والكفار فإنهم يتنادون فيما بينهم أن اخفضوا أصواتكم حتى لا يسمعكم إله محمد، ووصف الله المنافقين بقوله: {يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 64]. يقولون ذلك لما شاهدوا من أخبار الغيب التي يجيء بها القرآن الكريم.
أخبار الغيب في المستقبل:
وهذا النوع آياته كثيرة منها ما تحقق وانقطع، ومنها ما تحقق أيضاً وما زال في كل يوم يتحقق.
فمن النوع الأول قوله تعالى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1-4]، الآية والقصة في ذلك مشهورة وتفصيلها في كتب التفسير.
ومنه أيضاً وعد الله سبحانه للرسول وأصحابه بدخول مكة: {لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [الفتح: 27]، ثم وقع هذا الحادث كما أخبر الله تعالى.
ومن ذلك قوله تعالى مخاطباً نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، فلم يستطع أحد أن يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل مع كثرة المتربصين له, بل وكثرة المحاولات لذلك، فتبوء كلها بالفشل أمام: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
والشواهد على ذلك كثيرة أوردها المؤرخون والرواة، وسردوا منها ما يثبت أن هذا التحدي لم يكن في مجتمع يخلص الود والحب، بل كان يكمن فيه أعداء متربصون, ماكرون, يكيدون من اليهود والمشركين.
ومن النوع الثاني الذي تحقق ومازال يتحقق الإخبار بعد أن وقع التحدي بالقرآن أنهم لن يأتوا بمثل هذا القرآن وأنهم لن يفعلوا فقال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
وقال سبحانه: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23-24]، إنه ليس تحدياً فحسب، بل تحد مع إخبار مسبق بأنهم لن يفعلوا!! ومازال التحدي جارياً وما زال الخبر الغيبي متحققاً.
ومنه ما جاء في بيان أن الله قد كتب للإسلام البقاء والخلود وحفظ القرآن: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17]، وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} وقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
ويظهر ذلك ويستبين إذا علمت أن هذه الآيات نزلت في مكة في وقت كان المشركون متكالبين على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وكان المسلمون في اضطهاد وتعذيب, ومع هذا جاءت هذه البشرى ترسل أشعتها, ولو كانت تحمل خبراً بظهورهم على قومهم فحسب لكان فيها إعجاز وأي إعجاز، فكيف وهي تحمل خبر (مكث الإسلام في الأرض), و(إيتاء أكله في كل حين), و(حفظ الله له)، والله ما هذا بقول بشر, ولا يقوله بشر لا يعلم مصيره، ولا يضمن لنفسه حياته، فكيف يضمن بقاء هذا الدين في حياته وبعد وفاته أبد الآبدين وما بقيت على الأرض حياة.
المبحث الثاني: إعجازه
القرآن هو الحجة التي أظهرها الله سبحانه وتعالى على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتحدى الناس أن يأتوا بمثله، وتحداهم أخرى أن يأتوا بعشر سور مثله، وتحداهم ثالثة أن يأتوا بسورة مثله، وتحداهم رابعة أن يأتوا بحديث مثله، وما استطاعوا ولن يستطيعوا.
ولن نذهب يمنة ويسرة لتأصيل الإعجاز، أو لإطالة الحديث عنه هنا، فليس هذا بمقام ذاك، ولا هو بمستوعب له، فالإعجاز أجلى من أن يطال في بيانه، وأوعب من أن تستقصى أطرافه.
نزل القرآن على أمة أمية في العقيدة، وأمية في الفكر، وأمية في الصناعة، وفي الزراعة، وأمية في العلاقات الاجتماعية والسياسية، وأمية في كل شؤون الحياة، إلا الكلمة وتذوقها، فهم أربابها وأصحابها, يمتطونها ويحكمون صنعتها, يطربون لجميلها, ويمجون قبيحها, ملكوها بقدر ما ملكتهم, يسيرونها وتسيرهم, ترفع فيهم وتضع.
بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم فلم تكن معجزته في شيء لا يتقنونه، أو فن لا يحذقونه، بل تحداهم فيما يدركون, وفيما هم فيه بارزون.
جاءت المعجزة قرآناً يقرأونه بألسنتهم، ويسمعونه بآذانهم، ويزنونه بموازين كلامهم، فإذا به أبلغ من بليغ الكلام، وأفصح من فصيحه، لا يرتقي إليه بيان, ولا يدركه لسان، فملك البلاغة بألوانها، وجاز الفصاحة بأركانها. وجاءهم بما لا قبل لهم برده، ولا قدرة لهم في دفعه، لا يملكون من أنفسهم معه إرادة، وليست لهم معه مشيئة، إلا أن يضع المعاند أصابعه في أذنيه، ويستغشي ثيابه ويلغو فيه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآَنِ وَالغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصِّلت: 26]، أما من لم يفعل فقد حيل بينه وبين خلافه, فلا يملك إلا أن ينعقد قلبه عليه وهو يجهد في نقضه, ويستقيم لدعوته، وهو يبالغ في رفضه, فلا مفر منه إلا إليه, فقد أخذ بمجامع القلوب, واستولى على جهات النفوس, فما أعجب شأنه, وأعظم أمره.
ويزيدك عجباً لا ينفد أن هذا الكلام لم يأخذ من اللغة صنعتها، ومن الأسلوب جماله، ومن الفصاحة رونقها، ومن البلاغة سموها فحسب، بل أخذ مع هذا كله من المعاني أسماها، ومن المقاصد أعلاها.
جاء بالدين بأصوله, وحججه, وبراهينه, وشريعته, وآدابه, وسائر مقومات الأمة على أكمل وجه، وأحسنه، فهو والله إعجاز في إعجاز.
القرآن آخر الكتب السماوية وهو خاتمها، وهو أطولها، وأشملها، وهو الحاكم عليها.
قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48].
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 37].
وقال: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
قال أهل التفسير في قوله تعالى {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ}: مهيمناً وشاهداً على ما قبله من الكتب، ومصدقاً لها؛ يعني يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف، وتبديل، وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير.
ولهذا يخضع له كل متمسك بالكتب المتقدمة ممن لم ينقلب على عقبيه كما قال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:52 - 53 ].
فالقرآن هو رسالة الله لجميع الخلق، وقد تكفل سبحانه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
ولا يقبل الله من أحد ديناً إلا ما جاء في هذا القرآن العظيم.
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله في قوله تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ}:أي مشتملاً على ما اشتملت عليه الكتب السابقة وزيادة في المطالب الإلهية، والأخلاق النفسية؛ فهو الكتاب الذي يتبع كل حق جاءت به الكتب، فأمر به، وحث عليه، وأكثر من الطرق الموصلة إليه.
وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين، وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة، والأحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة، فما شهد له بالصدق فهو المقبول، وما شهد له بالرد فهو مردود قد دخله التحريف والتبديل، وإلا لو كان من عند الله لم يخالفه.
القرآن هو المهيمن المؤتمن الشاهد على ما بين يديه من الكتب
أصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب؛ يقال – إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده – قد هيمن فلان عليه.
وتقول: هيمن فلان على فلان، إذا صار قريباً عليه؛ فهو مهيمن .
ويسمى الحاكم على الناس والقائم بأمورهم: المهيمن .
ولفظ مهيمن كان أصله (مؤيمن) بالهمزة، ثم قلبت الهمزة هاء لقرب مخرجها، كما تقلب في أرقت الماء؛ فيقال: هرقت الماء. ويقال: ماء مهراق، والأصل: ماء مراق .
وأهل السنة والجماعة يؤمنون أن القرآن الكريم هو المهيمن على كل الكتب قبله؛ بمعنى: أنه أمين عليها، حافظ لها، وشاهد على أنها حق من عند الله تعالى، يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما فيها من التحريف والتبديل، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل، فصارت له الهيمنة عليها من كل وجه.
نص الإجماع الذي حكاه شيخ الإسلام: قال شيخ الإسلام رحمه الله: (السلف كلهم متفقون على أن القرآن هو المهيمن المؤتمن الشاهد على ما بين يديه من الكتب) .
فهو الأمين والشاهد على ما بين يديه من الكتب، وهو أيضاً الحاكم على كل كتاب قبله بإجماع المسلمين.
قال رحمه الله: (... إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لمسلم أن يحكم بين أحد إلا بما أنزل الله في القرآن، وإذا تحاكم اليهود والنصارى إلى المسلمين لم يجز لهم أن يحكموا بينهم إلا بما أنزل الله في القرآن) .
وقد بين رحمه الله السبب في احتلال القرآن هذه المنزلة العالية، والمرتبة الرفيعة بقوله: (فإنه قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن الله وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك بياناً وتفصيلاً، وبين الأدلة والبراهين على ذلك، وقرر نبوة الأنبياء كلهم، ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع الكلية التي بعث بها الرسل كلهم، وجادل المكذبين بالكتب والرسل بأنواع الحجج والبراهين، وبين عقوبات الله لهم، ونصره لأهل الكتب المتبعين لها، وبين ما حرف منها وبدل، وما فعله أهل الكتاب في الكتب المتقدمة، وبين أيضاً ما كتموه مما أمر الله ببيانه، وكل ما جاءت به النبوات بأحسن الشرائع والمناهج التي نزل بها القرآن، فصارت له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة: فهو شاهد بصدقها، وشاهد بكذب ما حرف منها، وهو حاكم بإقرار ما أقره الله، ونسخ ما نسخه، فهو شاهد في الخبريات، حاكم في الأمريات) .
ذكر من نقل الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: تواترت النصوص عن سلف هذه الأمة وخلفها على أن القرآن الكريم هو المؤتمن والشاهد والحاكم على ما بين يديه من الكتب.
فقد روى الطبري رحمه الله بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في تفسير قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 4]. قال: (المهيمن: الأمين، القرآن أمين على كل كتاب قبله) .
وروي عنه أيضاً أنه قال: ({وَمُهَيْمِنًا} أي: حاكماً على ما قبله من الكتب) .
وقال قتادة رحمه الله: {وَمُهَيْمِنًا} أي: (أميناً وشاهداً على الكتب التي خلت قبله) .
وعن سعيد بن جبير رحمه الله أنه قال: (القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتب) .
وروى الطبري عن ابن زيد في قوله: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} قال: (مصدقاً عليه، كل شيء أنزله الله من توراة أو إنجيل أو زبور فالقرآن مصدق على ذلك، وكل شيء ذكر الله في القرآن فهو مصدق عليها وعلى ما حدث عنها أنه حق) .
وجميع هذه الأقوال كما قال ابن كثير رحمه الله: (كلها متقاربة المعنى، فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين، وشاهد، وحاكم على كل كتاب قبله) .
وإنما احتل القرآن الكريم هذه المنزلة لكونه يستحيل أن يتطرق إليه التبديل والتحريف، ولا يمكن نسخه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ختم الله به الكتب.
قال الفخر الرازي رحمه الله: (إنما كان القرآن مهيمناً على الكتب لأنه الكتاب الذي لا يصير منسوخاً البتة، ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف على ما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وإذا كان كذلك كانت شهادة القرآن على أن التوراة والإنجيل والزبور حق؛ صدق باقية أبداً) .
مستند الإجماع في المسألة: لقد نص المولى جل جلاله في كتابه العزيز على أن هذا القرآن هو الأمين على ما سبقه من الكتب، وهو الشاهد والحاكم عليها فقال تبارك وتعالى في محكم التنزيل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48].
قال ابن كثير رحمه الله: (جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها؛ حيث جمع فيه محاسن ما قبله من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً، وأميناً، وحاكماً عليها كلها، وتكفل تعالى حفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]) .
فهو محفوظ بحفظ الله عز وجل إلى قيام الساعة، شاهد على هذه الكتب، مبين ما حرف منها، وحاكم بما أقره الله وأمر به من أحكامها، وناسخ ما نسخه الله منها، وهو أمين عليها في ذلك كله.
الفصل الرابع: خصائص القرآن الكريم.
المبحث الأول: الأخبار الغيبية
حوى القرآن الكريم جملة من أخبار الغيب, تجعل الإعجاز في القرآن إعجازاً مركباً, إن كان خصومه عجزوا عن الإتيان بمثله مفرداً, فهم عن الإتيان بمثله مركباً أعجز, فلا يفكر أحدهم أو يخطر بباله محاولة الإتيان بمثله, وإن حاول منهم سفيه ذلك زاد سفاهته سفاهة، وحمقه حمقاً.
وعلم الغيب ليس لأحد من البشر, ولا يدركون منه شيئاً إلا على سبيل التخمين لا على سبيل القطع والجزم.
أما أن يأتي كتاب يحمل أخباراً غيبية، ويقطع بوقوعها ثم تقع كما أخبر فهذا من خصائص القرآن الكريم.
والغيب إما أن يتعلق بماض, أو بحاضر, أو بمستقبل, وهي أخبار كثيرة جداً نذكر أمثلة لكل نوع للإثبات لا للاستقصاء.
فمن الأخبار الغيبية الماضية:
الإخبار عن خلق السماوات والأرض، وآدم وقصة إبليس لعنه الله.. ثم بعد ذلك قصص الأنبياء السابقين، والأمم الماضية ووجه الغيب فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يعرف القراءة, فلم يعهد عنه أنه قرأ في كتب أهل الكتاب, أو تلقى الدرس عن أحد منهم, أو خالطهم, أو مازجهم, ولم يكن أحد من قومه يعلم شيئاً منها.
ونصوص القرآن تشهد على ذلك، فقد خاطب الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في سياق قصة نوح عليه السلام، فقال سبحانه: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 49]، وفي قصة موسى عليه السلام: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ... وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} [هود: 44-46].
وفي قصة مريم عليها السلام: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44].
أخبار غيب الحاضر:
آيات كثيرة كشفت أحداثاً وقضايا في حينها لم يحضرها الرسول صلى الله عليه وسلم, ولم يخبره بها أحد من أصحابه.
وفي سورة التوبة من هذا النوع كثير، فقد وردت آيات تكشف حال المنافقين وما يخفونه بينهم أو في صدورهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ} [البقرة: 204]، {يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة: 74].
ولاشتهار هذا بين المنافقين والكفار فإنهم يتنادون فيما بينهم أن اخفضوا أصواتكم حتى لا يسمعكم إله محمد، ووصف الله المنافقين بقوله: {يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 64]. يقولون ذلك لما شاهدوا من أخبار الغيب التي يجيء بها القرآن الكريم.
أخبار الغيب في المستقبل:
وهذا النوع آياته كثيرة منها ما تحقق وانقطع، ومنها ما تحقق أيضاً وما زال في كل يوم يتحقق.
فمن النوع الأول قوله تعالى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 1-4]، الآية والقصة في ذلك مشهورة وتفصيلها في كتب التفسير.
ومنه أيضاً وعد الله سبحانه للرسول وأصحابه بدخول مكة: {لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [الفتح: 27]، ثم وقع هذا الحادث كما أخبر الله تعالى.
ومن ذلك قوله تعالى مخاطباً نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، فلم يستطع أحد أن يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل مع كثرة المتربصين له, بل وكثرة المحاولات لذلك، فتبوء كلها بالفشل أمام: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
والشواهد على ذلك كثيرة أوردها المؤرخون والرواة، وسردوا منها ما يثبت أن هذا التحدي لم يكن في مجتمع يخلص الود والحب، بل كان يكمن فيه أعداء متربصون, ماكرون, يكيدون من اليهود والمشركين.
ومن النوع الثاني الذي تحقق ومازال يتحقق الإخبار بعد أن وقع التحدي بالقرآن أنهم لن يأتوا بمثل هذا القرآن وأنهم لن يفعلوا فقال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
وقال سبحانه: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23-24]، إنه ليس تحدياً فحسب، بل تحد مع إخبار مسبق بأنهم لن يفعلوا!! ومازال التحدي جارياً وما زال الخبر الغيبي متحققاً.
ومنه ما جاء في بيان أن الله قد كتب للإسلام البقاء والخلود وحفظ القرآن: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 17]، وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} وقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
ويظهر ذلك ويستبين إذا علمت أن هذه الآيات نزلت في مكة في وقت كان المشركون متكالبين على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وكان المسلمون في اضطهاد وتعذيب, ومع هذا جاءت هذه البشرى ترسل أشعتها, ولو كانت تحمل خبراً بظهورهم على قومهم فحسب لكان فيها إعجاز وأي إعجاز، فكيف وهي تحمل خبر (مكث الإسلام في الأرض), و(إيتاء أكله في كل حين), و(حفظ الله له)، والله ما هذا بقول بشر, ولا يقوله بشر لا يعلم مصيره، ولا يضمن لنفسه حياته، فكيف يضمن بقاء هذا الدين في حياته وبعد وفاته أبد الآبدين وما بقيت على الأرض حياة.
المبحث الثاني: إعجازه
القرآن هو الحجة التي أظهرها الله سبحانه وتعالى على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وتحدى الناس أن يأتوا بمثله، وتحداهم أخرى أن يأتوا بعشر سور مثله، وتحداهم ثالثة أن يأتوا بسورة مثله، وتحداهم رابعة أن يأتوا بحديث مثله، وما استطاعوا ولن يستطيعوا.
ولن نذهب يمنة ويسرة لتأصيل الإعجاز، أو لإطالة الحديث عنه هنا، فليس هذا بمقام ذاك، ولا هو بمستوعب له، فالإعجاز أجلى من أن يطال في بيانه، وأوعب من أن تستقصى أطرافه.
نزل القرآن على أمة أمية في العقيدة، وأمية في الفكر، وأمية في الصناعة، وفي الزراعة، وأمية في العلاقات الاجتماعية والسياسية، وأمية في كل شؤون الحياة، إلا الكلمة وتذوقها، فهم أربابها وأصحابها, يمتطونها ويحكمون صنعتها, يطربون لجميلها, ويمجون قبيحها, ملكوها بقدر ما ملكتهم, يسيرونها وتسيرهم, ترفع فيهم وتضع.
بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم فلم تكن معجزته في شيء لا يتقنونه، أو فن لا يحذقونه، بل تحداهم فيما يدركون, وفيما هم فيه بارزون.
جاءت المعجزة قرآناً يقرأونه بألسنتهم، ويسمعونه بآذانهم، ويزنونه بموازين كلامهم، فإذا به أبلغ من بليغ الكلام، وأفصح من فصيحه، لا يرتقي إليه بيان, ولا يدركه لسان، فملك البلاغة بألوانها، وجاز الفصاحة بأركانها. وجاءهم بما لا قبل لهم برده، ولا قدرة لهم في دفعه، لا يملكون من أنفسهم معه إرادة، وليست لهم معه مشيئة، إلا أن يضع المعاند أصابعه في أذنيه، ويستغشي ثيابه ويلغو فيه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآَنِ وَالغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصِّلت: 26]، أما من لم يفعل فقد حيل بينه وبين خلافه, فلا يملك إلا أن ينعقد قلبه عليه وهو يجهد في نقضه, ويستقيم لدعوته، وهو يبالغ في رفضه, فلا مفر منه إلا إليه, فقد أخذ بمجامع القلوب, واستولى على جهات النفوس, فما أعجب شأنه, وأعظم أمره.
ويزيدك عجباً لا ينفد أن هذا الكلام لم يأخذ من اللغة صنعتها، ومن الأسلوب جماله، ومن الفصاحة رونقها، ومن البلاغة سموها فحسب، بل أخذ مع هذا كله من المعاني أسماها، ومن المقاصد أعلاها.
جاء بالدين بأصوله, وحججه, وبراهينه, وشريعته, وآدابه, وسائر مقومات الأمة على أكمل وجه، وأحسنه، فهو والله إعجاز في إعجاز.