ابن عامر الشامي
وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
- إنضم
- 20 ديسمبر 2010
- المشاركات
- 10,237
- النقاط
- 38
- الإقامة
- المملكة المغربية
- احفظ من كتاب الله
- بين الدفتين
- احب القراءة برواية
- رواية حفص عن عاصم
- القارئ المفضل
- سعود الشريم
- الجنس
- اخ
المبحث الخامس: أول من يحشر من الخلق
اختلف العلماء في أول من يحشر من الخلق، هل هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء مثل موسى عليه السلام؟
والصحيح في ذلك: أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أول من يحشر؛ حيث تنشق عنه الأرض قبل كل مخلوق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة, وأول من ينشق عنه القبر)) .
فهو أول الناس يحشر، وأول الخلق تنشق عنه الأرض، لا غيره من البشر.
قال البرديسي: (وأما أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم).
ونقل عن شارح (الجوهرة) قوله: (وأول من يحيا ويحشر نبينا صلى الله عليه وسلم، لا موسى على الأصح) .
2- وأما أول من يكسى من الخلق: فقد ورد في حديث ابن عباس أن إبراهيم – عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- هو أول من يكسى يوم القيامة، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: ((وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم)) .
وهذا يدل على أن الخلائق يخرجون من القبور دون كسوة كلهم، ثم يكسى بعد ذلك من أراد الله كسوته من أصفيائه، وهذا يعارض ما ورد في حديث أبي سعيد ، وما جاء أيضاً عن معاذ بن جبل ، من أن الأموات يبعثون في ثيابهم التي كفنوا فيها.
وقد جمع الإمام ابن حجر بين هذه الأحاديث بأن بعضهم يحشر عارياً، وبعضهم كاسياً، أو يحشرون كلهم عراة، ثم يكون أول من يكسى الأنبياء، فأول من يكسى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أو يخرجون من القبور بالثياب التي ماتوا فيها، ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر، فيحشرون عراة، ثم يكون أول من يكسى إبراهيم.
وحمل بعضهم حديث أبي سعيد على الشهداء؛ لأنهم الذين أمر أن يزملوا في ثيابهم ويدفنوا فيها، فيحتمل أن يكون أبو سعيد سمعه في الشهيد فحمله على العموم.
وممن حمله على عمومه معاذ بن جبل؛ فأخرج ابن أبي الدنيا بسند حسن عن عمرو بن الأسود قال: دفنا أم معاذ بن جبل، فأمر بها فكفنت في ثياب جدد وقال: أحسنوا أكفان موتاكم، فإنهم يحشرون فيها ، قال: وحمله بعض أهل العلم على العمل إلخ ما أورده ابن حجر .
المبحث السادس: التفاضل في المحشر
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يحشرون حفاة عراة غرلاً , وأخبر سبحانه أنه يحشر الكافرين على وجوههم، قال سبحانه: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97]. وقال: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} [الفرقان: 34]. وسئل صلى الله عليه وسلم: كيف يحشر الكافر على وجهه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة)) .
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين, واثنان على بعير, وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير وعشرة على بعير. ويحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا)) . أخرجه البخاري في باب الحشر وذكره مع الحديثين السابقين في حشر المؤمنين وحشر الكافرين.
وقد نقل ابن حجر عن الخطابي – قال: (وصوب عياض ما ذهب إليه الخطابي وقواه) - أن الحشر في هذا الحديث يكون في الدنيا قبل قيام الساعة يحشر الناس أحياء إلى الشام، وأما الحشر من القبور إلى الموقف فهو خلاف هذه الصورة من الركوب على الإبل والتعاقب عليها وإنما هو ما ورد في الحديث حفاة عراة مشاة .
ونقل رحمه الله عن بعض أهل العلم الجزم بأنه الحشر بعد الخروج من القبور، وهو ظاهر صنيع البخاري من إيراده الحديث على الوجه المذكور.
ونقل رحمه الله عن بعض أهل العلم أن حمله على الحشر من القبور أقوى من أوجه، وذكر أربعة أوجه، منها: أن الحشر إذا أطلق في عرف الشارع إنما يراد به الحشر من القبور ما لم يخصه بدليل . وذكر ابن حجر أنه قد جمع بين الحديث, وحديث حشر الناس عراة حفاة مشاة بأنهم يخرجون من قبورهم على هذا الوصف ثم يفترق حالهم من ثم إلى الموقف على ما في هذا الحديث . ومعلوم أن القيامة أحوال متعددة، إلا أن ابن حجر رجح أن الحشر الوارد في الحديث إنما يكون قبل المبعث . والحديث دال على التفاضل في الحشر، وقد نقل ابن حجر عن بعض أهل العلم قوله: (نرى أن هذا التقسيم الذي وقع في هذا الحديث نظير التقسيم الذي وقع في تفسير الواقعة في قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة: 7]. الآيات، فقوله في الحديث: ((راغبين راهبين)) يريد به عوام المؤمنين, وهم من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً, فيترددون بين الخوف والرجاء، يخافون عاقبة سيئاتهم, ويرجون رحمة الله بإيمانهم, وهؤلاء أصحاب الميمنة، وقوله ((واثنان على بعير.. الخ)) السابقين وهم أفاضل المؤمنين يحشرون ركباناً، وقوله: ((وتحشر بقيتهم النار)) يريد به أصحاب المشأمة) .
وقد ذكر ابن القيم أن المراد بالطبقات المذكورة في آخر سورة الواقعة – طبقة المقربين وطبقة أصحاب اليمين، وطبقة المكذبين – الطبقات عند الحشر الأول .
ولعل في قوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85]. شاهد للطائفة الثانية وهم الركبان, لأن الوفد لا يكون إلا راكباً كما روي عن علي رضي الله عنه وقد نقل المفسرون عن أئمة التفسير أن الحشر المذكور في هذه الآية إنما يكون عند المنصرف من بين يدي الله في طريقهم إلى الجنة , فهم لا يركبون إلا من الموقف, أما إذا خرجوا من القبور فحفاة عراة مشاة إلى المواقف كما يقول القرطبي .
ومن الأحوال الفاضلة في الحشر، حال الشهيد فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب اللون لون دم, والريح ريح مسك)) .
ومن الأحوال الفاضلة في المحشر، حال الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله, ومنهم السبعة الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً، ففاضت عيناه)) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((تدني الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار الميل. قال الراوي: فلا أدري ما يعني بالميل؟ أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكتحل به العين؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق. فمنهم من يكون إلى كعبيه. ومنهم من يكون إلى ركبتيه. ومنهم من يكون إلى حقويه. ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً)) وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه)) .
فهذا دليل على تفاضل الخلق في وقوفهم بالمحشر قبل فصل القضاء.
ومن الأحوال المفضولة في الحشر، حال المتكبرين كما في الحديث: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال, يغشاهم الذل من كل مكان)) .
وأفضل أمم المؤمنين في المحشر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد اختصها الله عز وجل فيه بما تمتاز به عن غيرها، ومن هذه الخصائص:
- اختصاصها بأنها أكثر أتباع الأنبياء عدداً، كما في حديث صحيح مسلم الذي تقدم ذكره: ((أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة)).
- وتميزها بعلامة تعرف بها وهي أنهم يأتون غراً محجلين من آثار الوضوء كما في الحديث: ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء)) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لكم سيما ليست لأحد غيركم, تردون عليّ غراً محجلين من آثار الوضوء)) .
وأفضل أحوال أهل المحشر وأكملهم حال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولا ريب، وأفضل أحوال الأنبياء حال آدم وأولي العزم من الرسل الخمسة: نوح, وإبراهيم, وموسى, وعيسى, ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم كما دل عليه صراحة حديث الشفاعة المخرج في الصحيحين وقد سبق ذكره. فأهل المحشر يقصدونهم خاصة من بين سائر الأنبياء والمرسلين لكي يشفعوا عند الله لإراحتهم من هول الموقف، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل أهل المحشر, وحاله أفضل أحوالهم, فهو صاحب الشفاعة العظمى التي يتدافعها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم..
الفصل الخامس: الموقف
تمهيد:
إذا انتهى الناس إلى الموقف الذي أعده الله تبارك وتعالى مكاناً لاجتماع خلقه فيه، وشرفه جل وعلا بنزوله فيه لفصل القضاء بين عباده؛ فإن الخلق يكونون فيه على ما لا يتصور ولا يدرك كنهه من القلق والخوف العظيم، وقد جاء في القرآن الكريم و في السنة النبوية الشريفة أوصافاً كثيرة لهذا الموقف العظيم.
فالشمس فوق رؤوسهم، والعرق قد بلغ من كل واحد قدر عمله، حتى إن منهم من يلجمه إلجاماً، وهم وقوف حفاة عراة غرلاً، شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء، لا ينظر أحد إلى أحد، يفر الحميم من حميمه، والقريب من قريبه، قد ملئت قلوبهم بما يشغلها، وكيف لا تملأ وهم ينتظرون إما ناراً حامية، وإما جنة عالية.
كل واحد يتذكر ما سعى وما قدم لهذا الموقف العظيم؛ لا شغل له إلا ذلك، حتى يفصل الله بينهم، ويتبين مصير كل واحد منهم
المبحث الأول: تعريف الموقف لغةً واصطلاحاً
الموقف في اللغة: المكان الذي يقف فيه الإنسان. قال الراغب: (وموقف الإنسان حيث يقف) .
وقال الفيروزآبادي: (وقف يقف وقوفاً: دام قائماً). وقال أيضاً: (والموقف محل الوقوف) .
أما معناه في الاصطلاح:
فهو المكان الخاص الذي أعده الله تبارك وتعالى لحشر الناس لحسابهم وفصل القضاء بينهم
المبحث الثاني: صفته في القرآن الكريم
أما ما جاء في صفته من القرآن الكريم: فهو ما تتحدث عنه الآيات الآتية:
قال الله تعالى في وصف خوف وامتلاء الخلائق بالغم، ووقوف قلوبهم في حناجرهم:
1- {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}[ غافر: 18].
قال قتادة: (وقفت القلوب في الحناجر من الخوف؛ فلا تخرج ولا تعود إلى أماكنها)، وكذا قال عكرمة, والسدي, وغير واحد .
2- وقال تعالى مبيناً حال الكفار وما يصيبهم من الفزع الشديد لهول ما يرون وذلتهم وفراغ قلوبهم عن كل شيء: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} [ إبراهيم: 42-43].
(يقول تعالى ذكره: إنما يؤخر ربك يا محمد هؤلاء الظالمين – الذين يكذبونك, ويجحدون نبوتك – ليوم تشخص فيه أبصار الخلق، وذلك يوم القيامة) .
وقال تعالى في بيان حال المؤمنين والكافرين، وما امتاز به كل فريق من علامات الشقاء أو السعادة:
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [ آل عمران: 106 - 107].
فقد جعل الله جميع أهل الآخرة فريقين:
(أحدهما: سوداء وجوهه، والآخر: بيضاء وجوهه) .
وقال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[ الجاثية: 28].
(قال الليث: الجثو: الجلوس على الركب كما يجثى بين يدي الحاكم).
وقال ابن عباس: (جاثية: مجتمعة مرتقبة لما يعمل بها، و{إِلَى كِتَابِهَا} أي إلى صحائف أعمالها) .
وقال ابن كثير: (جاثية: أي على ركبها من الشدة والعظمة، ويقال إن هذا إذا جيء بجهنم، فإنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه) .
وقال تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} [ المزمل: 18].
يقول تعالى: كيف تقون أنفسكم إن كفرتم، أي إن بقيتم على كفركم، {يَوْمًا}: أي عذاب يوم يجعل الولدان شيباً، لشدة هوله، أي يصير الولدان شيوخاً، والشيب: جمع أشيب، وهذا يجوز أن يكون حقيقة وأنهم يصيرون كذلك، أو تمثيلاً، لأن من شاهد الهول العظيم تقاصرت, قواه وضعفت أعضاؤه, وصار كالشيخ في الضعف وسقوط القوة {السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} أي متشققة به لشدته وعظيم هوله) .
وقال تعالى: {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [ النبأ: 40]، أخرج ابن جرير رحمه الله عدة روايات عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن ذكوان، وسفيان: أن الكافر يقول ذلك حينما يشاهد البهائم وقد أمر الله بها فصارت تراباً، فعند ذلك يتمنى أنه صار تراباً مثلها ولم يقف بين يدي الله تعالى . {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا}[ النساء: 42].
وقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:34- 41].
أي يفر عن أخيه، وصاحبته: أي زوجته التي كانت زوجته في الدنيا، وبنيه حذراً من مطالبتهم إياه بما بينه وبينهم من التبعات والمظالم.
و{غَبَرَةٌ} ذكر أن البهائم التي يصيرها الله تراباً يومئذٍ - بعد القضاء بينها - يحول ذلك التراب غبرة في وجوه أهل الكفر، والقترة بمعنى الغبرة .
وما هذا الفرار من الأخ, والأم, والأب, والزوجة, والأبناء إلا لما يتوقع الإنسان من الأمور العظام التي هو في انتظارها بين لحظة وأخرى {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.
وقال تعالى: في بيان حال المشركين الذين كذبوا على الله بنسبة الشريك والولد إليه جل وعلا ومبيناً علامتهم التي يتصفون بها {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [ الزمر: 60].
أي يوم القيامة ترى يا محمد الذين كذبوا على الله من قومك، فزعموا أن له ولداً وأن له شريكاً، وعبدوا آلهة من دونه – وجوههم مسودة .
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الواردة في وصف هذا الموقف العظيم وما يقع فيه من الثواب والعقاب، وما يقع فيه كذلك للخلق من الكرب الشديد, والفزع العظيم، وما يكونون عليه من صفات شتى بينها القرآن الكريم تمام البيان، حتى إنها لتكاد أن تصل إلى أن يتخيلها الإنسان وكأنها قد وقعت، لظهورها وكثرة العناية بإبرازها واضحة جلية في أساليب متعددة مؤثرة.
المبحث الثالث: صفته في السنة النبوية
وأما في السنة النبوية فقد جاء أن العرق يبلغ من الإنسان على مقدار عمله، فمن الناس من يبلغ العرق إلى أنصاف أذنيه، ومنهم من يلجمهم إلجاماً، ومنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، فهم على حالات شتى، ومصداق هذا:
1- ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} قال: ((يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه)) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم)) .
وفي رواية مسلم: ((سبعين عاماً، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس)) .
ولهذا فإن الإنسان ليتمنى من شدة الهول والعرق أن يذهب به ولو إلى النار ويستريح منه، كما ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة, فيقول: يا رب أرحني ولو إلى النار)) .
وفي الصحيح من حديث عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثم ليقفن أحدكم بين يدي الله، ليس بينه وبينه حجاب، ولا ترجمان يترجم له، ثم ليقولن له: ألم أوتك مالاً؟ فليقولن: بلى. ثم ليقولن: ألم أرسل إليك رسولاً؟ فليقولن: بلى. فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة)) .
وفي هذا الموقف الرهيب يكون للشمس وقع شديد على الناس، فهي تدنو من رؤوس البشر – رغم حرارتها الهائلة – حتى تكون كمقدار ميل، وللإنسان أن يتصور مدى ما يلحق أهل الموقف من ألم حرارتها.
وهذا ما رواه المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تدني الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل. قال سليم بن عامر – أحد رواة الحديث: فوالله ما أدري ما يعني بالميل؛ أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين؟ قال: فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق. فمنهم من يكون إلى كعبيه. ومنهم من يكون إلى ركبتيه. ومنهم من يكون إلى حقويه. ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً. قال: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه)) .
المبحث الرابع: صفة الأرض التي يقف الخلق عليها
عن سهل بن سعد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي)) قال سهل – أو غيره -: ليس فيها معلم لأحد .
ويتبين من معاني تلك الكلمات الواردة في الحديث: أن تلك الأرض التي يقف عليها الخلق غير هذه الأرض، وليس بينهما تشابه، فتلك أرض لها صفات وهذه أرض لها صفات أخرى، وأن هذه الأرض المعهودة قد انتهت وحلت محلها أرض أخرى هي أكبر منها وأشرف.
أما معنى كونها عفراء، فقال الخطابي: (العفر: بياض ليس بالناصع).
وقال عياض: (العفر: بياض يضرب إلى حمرة قليلاً، ومنه سمي عفر الأرض وهو وجهها) .
وقال ابن فارس: (معنى عفراء: خالصة البياض).
وقال الداودي: (شديدة البياض)، قال ابن حجر: (كذا قال، والأول هو المعتمد).
ومعنى (كقرصة النقي: بفتح النون وكسر القاف: أي الدقيق النقي من الغش والنخالة، قاله الخطابي).
ومعنى (ليس فيها معلم لأحد) أو (علم) كما في رواية مسلم – وهما بمعنى واحد، قال الخطابي: (يريد أنها مستوية، والمعلم – بفتح الميم واللام بينهما مهملة ساكنة – هو الشيء الذي يستدل به على الطريق).
وقال عياض: (المراد أنها ليس فيها علامة سكن, ولا بناء, ولا أثر، ولا شيء من العلامات التي يهتدى بها في الطرقات كالجبل, والصخرة البارزة).
قال ابن حجر: (وفيه تعريض بأرض الدنيا وأنها ذهبت وانقطعت العلاقة منها)، وقال الداودي: (المراد أنه لا يحوز أحد منها شيئا، إلا ما أدرك منها).
ويذكر ابن حجر – نقلاً عن أبي جمرة – أن في الحديث إشارة إلى أن أرض الموقف أكبر من هذه الأرض الموجودة جداً.
اختلف العلماء في أول من يحشر من الخلق، هل هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء مثل موسى عليه السلام؟
والصحيح في ذلك: أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أول من يحشر؛ حيث تنشق عنه الأرض قبل كل مخلوق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة, وأول من ينشق عنه القبر)) .
فهو أول الناس يحشر، وأول الخلق تنشق عنه الأرض، لا غيره من البشر.
قال البرديسي: (وأما أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم).
ونقل عن شارح (الجوهرة) قوله: (وأول من يحيا ويحشر نبينا صلى الله عليه وسلم، لا موسى على الأصح) .
2- وأما أول من يكسى من الخلق: فقد ورد في حديث ابن عباس أن إبراهيم – عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- هو أول من يكسى يوم القيامة، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: ((وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم)) .
وهذا يدل على أن الخلائق يخرجون من القبور دون كسوة كلهم، ثم يكسى بعد ذلك من أراد الله كسوته من أصفيائه، وهذا يعارض ما ورد في حديث أبي سعيد ، وما جاء أيضاً عن معاذ بن جبل ، من أن الأموات يبعثون في ثيابهم التي كفنوا فيها.
وقد جمع الإمام ابن حجر بين هذه الأحاديث بأن بعضهم يحشر عارياً، وبعضهم كاسياً، أو يحشرون كلهم عراة، ثم يكون أول من يكسى الأنبياء، فأول من يكسى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أو يخرجون من القبور بالثياب التي ماتوا فيها، ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر، فيحشرون عراة، ثم يكون أول من يكسى إبراهيم.
وحمل بعضهم حديث أبي سعيد على الشهداء؛ لأنهم الذين أمر أن يزملوا في ثيابهم ويدفنوا فيها، فيحتمل أن يكون أبو سعيد سمعه في الشهيد فحمله على العموم.
وممن حمله على عمومه معاذ بن جبل؛ فأخرج ابن أبي الدنيا بسند حسن عن عمرو بن الأسود قال: دفنا أم معاذ بن جبل، فأمر بها فكفنت في ثياب جدد وقال: أحسنوا أكفان موتاكم، فإنهم يحشرون فيها ، قال: وحمله بعض أهل العلم على العمل إلخ ما أورده ابن حجر .
المبحث السادس: التفاضل في المحشر
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يحشرون حفاة عراة غرلاً , وأخبر سبحانه أنه يحشر الكافرين على وجوههم، قال سبحانه: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97]. وقال: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} [الفرقان: 34]. وسئل صلى الله عليه وسلم: كيف يحشر الكافر على وجهه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة)) .
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين, واثنان على بعير, وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير وعشرة على بعير. ويحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا)) . أخرجه البخاري في باب الحشر وذكره مع الحديثين السابقين في حشر المؤمنين وحشر الكافرين.
وقد نقل ابن حجر عن الخطابي – قال: (وصوب عياض ما ذهب إليه الخطابي وقواه) - أن الحشر في هذا الحديث يكون في الدنيا قبل قيام الساعة يحشر الناس أحياء إلى الشام، وأما الحشر من القبور إلى الموقف فهو خلاف هذه الصورة من الركوب على الإبل والتعاقب عليها وإنما هو ما ورد في الحديث حفاة عراة مشاة .
ونقل رحمه الله عن بعض أهل العلم الجزم بأنه الحشر بعد الخروج من القبور، وهو ظاهر صنيع البخاري من إيراده الحديث على الوجه المذكور.
ونقل رحمه الله عن بعض أهل العلم أن حمله على الحشر من القبور أقوى من أوجه، وذكر أربعة أوجه، منها: أن الحشر إذا أطلق في عرف الشارع إنما يراد به الحشر من القبور ما لم يخصه بدليل . وذكر ابن حجر أنه قد جمع بين الحديث, وحديث حشر الناس عراة حفاة مشاة بأنهم يخرجون من قبورهم على هذا الوصف ثم يفترق حالهم من ثم إلى الموقف على ما في هذا الحديث . ومعلوم أن القيامة أحوال متعددة، إلا أن ابن حجر رجح أن الحشر الوارد في الحديث إنما يكون قبل المبعث . والحديث دال على التفاضل في الحشر، وقد نقل ابن حجر عن بعض أهل العلم قوله: (نرى أن هذا التقسيم الذي وقع في هذا الحديث نظير التقسيم الذي وقع في تفسير الواقعة في قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة: 7]. الآيات، فقوله في الحديث: ((راغبين راهبين)) يريد به عوام المؤمنين, وهم من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً, فيترددون بين الخوف والرجاء، يخافون عاقبة سيئاتهم, ويرجون رحمة الله بإيمانهم, وهؤلاء أصحاب الميمنة، وقوله ((واثنان على بعير.. الخ)) السابقين وهم أفاضل المؤمنين يحشرون ركباناً، وقوله: ((وتحشر بقيتهم النار)) يريد به أصحاب المشأمة) .
وقد ذكر ابن القيم أن المراد بالطبقات المذكورة في آخر سورة الواقعة – طبقة المقربين وطبقة أصحاب اليمين، وطبقة المكذبين – الطبقات عند الحشر الأول .
ولعل في قوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85]. شاهد للطائفة الثانية وهم الركبان, لأن الوفد لا يكون إلا راكباً كما روي عن علي رضي الله عنه وقد نقل المفسرون عن أئمة التفسير أن الحشر المذكور في هذه الآية إنما يكون عند المنصرف من بين يدي الله في طريقهم إلى الجنة , فهم لا يركبون إلا من الموقف, أما إذا خرجوا من القبور فحفاة عراة مشاة إلى المواقف كما يقول القرطبي .
ومن الأحوال الفاضلة في الحشر، حال الشهيد فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب اللون لون دم, والريح ريح مسك)) .
ومن الأحوال الفاضلة في المحشر، حال الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله, ومنهم السبعة الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً، ففاضت عيناه)) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((تدني الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار الميل. قال الراوي: فلا أدري ما يعني بالميل؟ أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكتحل به العين؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق. فمنهم من يكون إلى كعبيه. ومنهم من يكون إلى ركبتيه. ومنهم من يكون إلى حقويه. ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً)) وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه)) .
فهذا دليل على تفاضل الخلق في وقوفهم بالمحشر قبل فصل القضاء.
ومن الأحوال المفضولة في الحشر، حال المتكبرين كما في الحديث: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال, يغشاهم الذل من كل مكان)) .
وأفضل أمم المؤمنين في المحشر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد اختصها الله عز وجل فيه بما تمتاز به عن غيرها، ومن هذه الخصائص:
- اختصاصها بأنها أكثر أتباع الأنبياء عدداً، كما في حديث صحيح مسلم الذي تقدم ذكره: ((أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة)).
- وتميزها بعلامة تعرف بها وهي أنهم يأتون غراً محجلين من آثار الوضوء كما في الحديث: ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء)) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لكم سيما ليست لأحد غيركم, تردون عليّ غراً محجلين من آثار الوضوء)) .
وأفضل أحوال أهل المحشر وأكملهم حال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولا ريب، وأفضل أحوال الأنبياء حال آدم وأولي العزم من الرسل الخمسة: نوح, وإبراهيم, وموسى, وعيسى, ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم كما دل عليه صراحة حديث الشفاعة المخرج في الصحيحين وقد سبق ذكره. فأهل المحشر يقصدونهم خاصة من بين سائر الأنبياء والمرسلين لكي يشفعوا عند الله لإراحتهم من هول الموقف، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل أهل المحشر, وحاله أفضل أحوالهم, فهو صاحب الشفاعة العظمى التي يتدافعها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم..
الفصل الخامس: الموقف
تمهيد:
إذا انتهى الناس إلى الموقف الذي أعده الله تبارك وتعالى مكاناً لاجتماع خلقه فيه، وشرفه جل وعلا بنزوله فيه لفصل القضاء بين عباده؛ فإن الخلق يكونون فيه على ما لا يتصور ولا يدرك كنهه من القلق والخوف العظيم، وقد جاء في القرآن الكريم و في السنة النبوية الشريفة أوصافاً كثيرة لهذا الموقف العظيم.
فالشمس فوق رؤوسهم، والعرق قد بلغ من كل واحد قدر عمله، حتى إن منهم من يلجمه إلجاماً، وهم وقوف حفاة عراة غرلاً، شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء، لا ينظر أحد إلى أحد، يفر الحميم من حميمه، والقريب من قريبه، قد ملئت قلوبهم بما يشغلها، وكيف لا تملأ وهم ينتظرون إما ناراً حامية، وإما جنة عالية.
كل واحد يتذكر ما سعى وما قدم لهذا الموقف العظيم؛ لا شغل له إلا ذلك، حتى يفصل الله بينهم، ويتبين مصير كل واحد منهم
المبحث الأول: تعريف الموقف لغةً واصطلاحاً
الموقف في اللغة: المكان الذي يقف فيه الإنسان. قال الراغب: (وموقف الإنسان حيث يقف) .
وقال الفيروزآبادي: (وقف يقف وقوفاً: دام قائماً). وقال أيضاً: (والموقف محل الوقوف) .
أما معناه في الاصطلاح:
فهو المكان الخاص الذي أعده الله تبارك وتعالى لحشر الناس لحسابهم وفصل القضاء بينهم
المبحث الثاني: صفته في القرآن الكريم
أما ما جاء في صفته من القرآن الكريم: فهو ما تتحدث عنه الآيات الآتية:
قال الله تعالى في وصف خوف وامتلاء الخلائق بالغم، ووقوف قلوبهم في حناجرهم:
1- {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}[ غافر: 18].
قال قتادة: (وقفت القلوب في الحناجر من الخوف؛ فلا تخرج ولا تعود إلى أماكنها)، وكذا قال عكرمة, والسدي, وغير واحد .
2- وقال تعالى مبيناً حال الكفار وما يصيبهم من الفزع الشديد لهول ما يرون وذلتهم وفراغ قلوبهم عن كل شيء: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} [ إبراهيم: 42-43].
(يقول تعالى ذكره: إنما يؤخر ربك يا محمد هؤلاء الظالمين – الذين يكذبونك, ويجحدون نبوتك – ليوم تشخص فيه أبصار الخلق، وذلك يوم القيامة) .
وقال تعالى في بيان حال المؤمنين والكافرين، وما امتاز به كل فريق من علامات الشقاء أو السعادة:
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [ آل عمران: 106 - 107].
فقد جعل الله جميع أهل الآخرة فريقين:
(أحدهما: سوداء وجوهه، والآخر: بيضاء وجوهه) .
وقال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[ الجاثية: 28].
(قال الليث: الجثو: الجلوس على الركب كما يجثى بين يدي الحاكم).
وقال ابن عباس: (جاثية: مجتمعة مرتقبة لما يعمل بها، و{إِلَى كِتَابِهَا} أي إلى صحائف أعمالها) .
وقال ابن كثير: (جاثية: أي على ركبها من الشدة والعظمة، ويقال إن هذا إذا جيء بجهنم، فإنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه) .
وقال تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} [ المزمل: 18].
يقول تعالى: كيف تقون أنفسكم إن كفرتم، أي إن بقيتم على كفركم، {يَوْمًا}: أي عذاب يوم يجعل الولدان شيباً، لشدة هوله، أي يصير الولدان شيوخاً، والشيب: جمع أشيب، وهذا يجوز أن يكون حقيقة وأنهم يصيرون كذلك، أو تمثيلاً، لأن من شاهد الهول العظيم تقاصرت, قواه وضعفت أعضاؤه, وصار كالشيخ في الضعف وسقوط القوة {السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} أي متشققة به لشدته وعظيم هوله) .
وقال تعالى: {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [ النبأ: 40]، أخرج ابن جرير رحمه الله عدة روايات عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن ذكوان، وسفيان: أن الكافر يقول ذلك حينما يشاهد البهائم وقد أمر الله بها فصارت تراباً، فعند ذلك يتمنى أنه صار تراباً مثلها ولم يقف بين يدي الله تعالى . {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا}[ النساء: 42].
وقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:34- 41].
أي يفر عن أخيه، وصاحبته: أي زوجته التي كانت زوجته في الدنيا، وبنيه حذراً من مطالبتهم إياه بما بينه وبينهم من التبعات والمظالم.
و{غَبَرَةٌ} ذكر أن البهائم التي يصيرها الله تراباً يومئذٍ - بعد القضاء بينها - يحول ذلك التراب غبرة في وجوه أهل الكفر، والقترة بمعنى الغبرة .
وما هذا الفرار من الأخ, والأم, والأب, والزوجة, والأبناء إلا لما يتوقع الإنسان من الأمور العظام التي هو في انتظارها بين لحظة وأخرى {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}.
وقال تعالى: في بيان حال المشركين الذين كذبوا على الله بنسبة الشريك والولد إليه جل وعلا ومبيناً علامتهم التي يتصفون بها {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [ الزمر: 60].
أي يوم القيامة ترى يا محمد الذين كذبوا على الله من قومك، فزعموا أن له ولداً وأن له شريكاً، وعبدوا آلهة من دونه – وجوههم مسودة .
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الواردة في وصف هذا الموقف العظيم وما يقع فيه من الثواب والعقاب، وما يقع فيه كذلك للخلق من الكرب الشديد, والفزع العظيم، وما يكونون عليه من صفات شتى بينها القرآن الكريم تمام البيان، حتى إنها لتكاد أن تصل إلى أن يتخيلها الإنسان وكأنها قد وقعت، لظهورها وكثرة العناية بإبرازها واضحة جلية في أساليب متعددة مؤثرة.
المبحث الثالث: صفته في السنة النبوية
وأما في السنة النبوية فقد جاء أن العرق يبلغ من الإنسان على مقدار عمله، فمن الناس من يبلغ العرق إلى أنصاف أذنيه، ومنهم من يلجمهم إلجاماً، ومنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، فهم على حالات شتى، ومصداق هذا:
1- ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} قال: ((يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه)) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم)) .
وفي رواية مسلم: ((سبعين عاماً، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس)) .
ولهذا فإن الإنسان ليتمنى من شدة الهول والعرق أن يذهب به ولو إلى النار ويستريح منه، كما ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة, فيقول: يا رب أرحني ولو إلى النار)) .
وفي الصحيح من حديث عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثم ليقفن أحدكم بين يدي الله، ليس بينه وبينه حجاب، ولا ترجمان يترجم له، ثم ليقولن له: ألم أوتك مالاً؟ فليقولن: بلى. ثم ليقولن: ألم أرسل إليك رسولاً؟ فليقولن: بلى. فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة)) .
وفي هذا الموقف الرهيب يكون للشمس وقع شديد على الناس، فهي تدنو من رؤوس البشر – رغم حرارتها الهائلة – حتى تكون كمقدار ميل، وللإنسان أن يتصور مدى ما يلحق أهل الموقف من ألم حرارتها.
وهذا ما رواه المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تدني الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل. قال سليم بن عامر – أحد رواة الحديث: فوالله ما أدري ما يعني بالميل؛ أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين؟ قال: فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق. فمنهم من يكون إلى كعبيه. ومنهم من يكون إلى ركبتيه. ومنهم من يكون إلى حقويه. ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً. قال: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه)) .
المبحث الرابع: صفة الأرض التي يقف الخلق عليها
عن سهل بن سعد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي)) قال سهل – أو غيره -: ليس فيها معلم لأحد .
ويتبين من معاني تلك الكلمات الواردة في الحديث: أن تلك الأرض التي يقف عليها الخلق غير هذه الأرض، وليس بينهما تشابه، فتلك أرض لها صفات وهذه أرض لها صفات أخرى، وأن هذه الأرض المعهودة قد انتهت وحلت محلها أرض أخرى هي أكبر منها وأشرف.
أما معنى كونها عفراء، فقال الخطابي: (العفر: بياض ليس بالناصع).
وقال عياض: (العفر: بياض يضرب إلى حمرة قليلاً، ومنه سمي عفر الأرض وهو وجهها) .
وقال ابن فارس: (معنى عفراء: خالصة البياض).
وقال الداودي: (شديدة البياض)، قال ابن حجر: (كذا قال، والأول هو المعتمد).
ومعنى (كقرصة النقي: بفتح النون وكسر القاف: أي الدقيق النقي من الغش والنخالة، قاله الخطابي).
ومعنى (ليس فيها معلم لأحد) أو (علم) كما في رواية مسلم – وهما بمعنى واحد، قال الخطابي: (يريد أنها مستوية، والمعلم – بفتح الميم واللام بينهما مهملة ساكنة – هو الشيء الذي يستدل به على الطريق).
وقال عياض: (المراد أنها ليس فيها علامة سكن, ولا بناء, ولا أثر، ولا شيء من العلامات التي يهتدى بها في الطرقات كالجبل, والصخرة البارزة).
قال ابن حجر: (وفيه تعريض بأرض الدنيا وأنها ذهبت وانقطعت العلاقة منها)، وقال الداودي: (المراد أنه لا يحوز أحد منها شيئا، إلا ما أدرك منها).
ويذكر ابن حجر – نقلاً عن أبي جمرة – أن في الحديث إشارة إلى أن أرض الموقف أكبر من هذه الأرض الموجودة جداً.