الموسوعة العقدية

طباعة الموضوع

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ولعل سعيدا أومأ إلى أن تأويل ابن عباس أولى لعمومه؛ لأنه يشمل كل خير كثير مفرط؛ من علم وعمل وشرف الدارين، وهذا – و إن كان تأويلا حسنا – لكن ثبت تخصيصه بالنهر من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم من عدة طرق عن عدد من الصحابة، فلا معدل عنه؛ لثبوت ذلك وصحته عن الذي أنزل عليه الوحي .... وهناك أقوال لأهل العلم في بيان معنى الكوثر، هي في الواقع لا تخرج عن مضمون ما سبق، قال الشوكاني: (وذهب أكثر المفسرين – كما حكاه الواحدي – إلى أن الكوثر نهر في الجنة، وقيل: هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم في الموقف، قاله عطاء، وقال عكرمة،: الكوثر النبوة، وقال الحسن: هو القرآن، وقال الحسن بن الفضل: هو تفسير القرآن وتخفيف الشرائع، وقال أبوبكر بن عياش: هو كثرة الأصحاب والأمة، وقال ابن كيسان: هو الإيثار، وقيل: هو الإسلام، وقيل: رفعة الذكر، وقيل: نور القلب، وقيل: الشفاعة، وقيل: المعجزات، وقيل: إجابة الدعوة، وقيل: لا إله إلا الله، وقيل: الفقه في الدين، وقيل: الصلوات الخمس) .
و ذكر السيوطي عن مجاهد رضي الله عنه قال: الكوثر خير الدنيا و الآخرة ، فهذا الأقوال لا ينافي بعضها بعضا؛ إذ أنها تشترك في إثبات أن خيرا خص الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إكراما وتشريفا له، وهذا يصدق على كل ما قيل في ذلك، أما القول الأول؛ وهو أن الكوثر نهر في الجنة، فهذا هو الراجح في بيان معناه والذي تشهد له النصوص كما أشرنا إليه.
وأما القول الثاني: وهو أن الكوثر هو نفس الحوض الذي وعد به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهو من باب تغليب التسمية باعتبار ما يصب فيه من الكوثر الذي هو داخل الجنة – كما سيأتي في وجه الاتصال بينهما، وأما الأقوال الأخرى فإنها كلها تهدف إلى إثبات خير أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم، وكلها تدخل في تعريف من عرف الكوثر بأنه الخير الكثير، و إن كان في تلك الصفات ما يختص به وحده ومنها ما يشركه فيها من الأنبياء والرسل وأتباعهم كالشفاعة مثلا.
وفي هذا يقول الخازن في تفسيره: فجميع ما جاء في تفسير الكوثر فقد أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ أعطي النبوة، والكتاب، والحكمة، والعلم، والشفاعة والحوض المورود، والمقام المحمود، وكثرة الأتباع، والإسلام وإظهاره على الأديان كلها والنصر على الأعداء، وكثرة الفتوح في زمنه وبعده إلى يوم القيامة. وأولى الأقاويل في الكوثر الذي عليه جمهور العلماء أنه نهر في الجنة .
وقال النيسابوري: قال أهل المعنى: ولعله إنما سمي كوثرا لأنه أكثر أنهار الجنة ماء أو خيرا، ولأن أنهار الجنة تتفجر منه .
و يقول ابن حجر: والكوثر فوعل من الكثرة، سمي بها لكثرة مائه و آنيته وعظم قدره وخيره .
وقد ذكر النيسابوري إضافة إلى ما سبق من الأقوال قولين يبدو عليهما أثر التكلف؛ مثل القول بأن المراد بالكوثر هم أولاد الرسول صلى الله عليه وسلم، أي أولاد ابنته فاطمة، أو هم علماء أمته . وهما وإن كانا داخلين في عموم لفظ الكوثر بمعناه اللغوي إلا أنهما لا دليل عليهما.
المبحث الثاني: الأدلة على إثبات الكوثر
المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم:
جاء في كتاب الله عز وجل الامتنان على نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم بما حباه به ربه من إعطائه الكوثر، فقال عز وجل مبشرا له: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [ الكوثر: 1-3 ].
فهذه الآية الكريمة صريحة في ثبوت الكوثر، لكنها لم تحدد موقعه.
و لكن جاءت السنة النبوية فوضحت ذلك، و أنه نهر في الجنة. وهذا ما نتبينه في الأدلة الآتية من السنة النبوية.
المطلب الثاني: الأدلة من السنة:
أخرج عن أبي عبيدة عن عائشة رضي الله عنها قال سألتها عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]، فقالت: ((هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم وشاطئاه عليه در مجوف، آنيته كعدد النجوم)) .
وعن أنس رضي الله عنه قال: لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: ((أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوف فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر))
وفي رواية أخرى للبخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما أنا أسير في الجنة إذا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا - طينه – أو طيبه – مسك أذفر)) .
وهذه الرؤية حصلت ليلة الإسراء.
وعن أنس رضي الله عنه قال: ((بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة . ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت عليَّ آنفا . سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [ الكوثر: 1-3 ] .
ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: ماتدري ما أحدثت بعدك)), زاد ابن حجر في حديثه ((بين أظهرنا في المسجد... وقال: ما أحدث بعدك)) والقائل له هذا القول: يحتمل أن يكون من الملائكة ويحتمل أن يكون الله تعالى .
و لعل هذا الحديث إنما يتوجه إلى الحوض الذي هو خارج الجنة، بدليل ما يقع فيه من اختلاج أقوام ومنعهم من الشرب منه؛ إذ لو كان المراد النهر الذي هو داخل الجنة لما حصل المنع و الاختلاج، وأما تسميته بالكوثر؛ فإن ذلك يرجع على ملاحظة أن ماء الحوض إنما هو من الكوثر حيث يمد بواسطة ميزابين.
و لهذا فإن الداودي استشكل ما جاء من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نهر الكوثر داخل الجنة بقوله عليه الصلاة والسلام: ((بينما أنا أسير في الجنة إذ بنهر...)) إلخ. الحديث و بين ما جاء في طرد أناس و اختلاجهم عنه بعدما يراهم ويناديهم ومعلوم أن تلك الرؤية له صلى الله عليه وسلم حصلت في الإسراء، فظن الداودي – كما يذكر ابن حجر – أن هذا يكون في يوم القيامة لأنه قال: إن كان هذا محفوظا دل على أن الحوض الذي يدفع عنه أقوام غير النهر الذي في الجنة، و يكون يراهم وهو داخل الجنة وهم من خارجها، فيناديهم فيصرفون عنه.
قال ابن حجر معلقا على هذا القول:
(وهو تكلف عجيب يغني عنه أن الحوض الذي هو خارج الجنة يمد من النهر الذي هو داخل الجنة فلا إشكال أصلا) .
وقد جاء التصريح كذلك بأنه نهر في الجنة في رواية الإمام أحمد، وقد ذكرها بما تقدم عند مسلم بزيادة قال: ((هو نهر أعطانيه ربي في الجنة)) الحديث .
وقد قال النووي في شرحه للحديث: والكوثر هنا نهر في الجنة – كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في موضع آخر عبارة عن الخير الكثير .
وعن المختار بن فلفل قال: سمعت أنس بن مالك يقول: أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة بنحو حديث ابن مسهر – أي السابق – غير إنه قال: ((نهر وعدنيه ربي عز وجل في الجنة و عليه الحوض))، ولم يذكر آنيته عدد النجوم .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الكوثر نهر من الجنة حافتاه من ذهب، مجراه على الياقوت و الدر، تربته أطيب من المسك، و ماؤه أحلى من العسل و أشد بياضا من الثلج)) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الكوثر؟ فقال: ذاك نهر أعطانيه الله)) – يعنى في الجنة – ((أشد بياضا من اللبن، و أحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق الجزر . قال عمر: إن هذه لناعمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكلتها أنعم منها)) .
و أخرج الطبري عن أنس أن القائل ((إنها لناعمة)) هو أبو بكر رضي الله عنه . ، وأخرج أيضا رواية أخرى أن القائل هو عمر . و لا منافاة في هذا فيمكن أن يكون كل منهما قد قال هذا القول، و لامانع من حصول هذا والله أعلم. وفي رواية الإمام أحمد: ((أكلتها أنعم منها))
و عند الطبري: ((آكلها أنعم منها)) . ففي الأولى جاء الوصف لبيان لذة أكلها، وفي الثانية جاء الوصف لبيان نعومة آكلها، وفي كلتا الحالتين فالأمر لا يختلف؛ فإن أكلها ناعم ولذيذ وآكلها كذلك ناعم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، والماء يجري على اللؤلؤ، و ماؤه أشد بياضا من اللبن، و أحلى من العسل، و أطيب ريحا من المسك، أكوابه مثل نجوم السماء، من شرب شربة لم يظمأ بعدها، أول الناس ورودا علي صعاليك المهاجرين. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الشعثة رؤوسهم والنحيفة وجوهم والدنسة ثيابهم، لا تفتح لهم السدد ولا ينكحون المنعمات والذين يعطون كل الذي عليهم، ولا يأخذون كل الذي لهم))
المبحث الثالث: تسمية الكوثر بالحوض والحوض بالكوثر وبيان وجه الاتصال بينهما
فسر الرسول صلى الله عليه وسلم الكوثر بأنه: نهر في الجنة من أنهارها، وأخبر عن الحوض بما يدل على أنه في الموقف في عرصات القيامة، و أخبر عن وجه الاتصال بينهما بأن ذلك يتم بواسطة ميزابين يجريان من الكوثر إلى الحوض، ولكن وقع خلاف بين العلماء في إطلاق بعض العلماء التسمية على الحوض أنه الكوثر؟ واستدل لإثباته من القرآن الكريم بسورة الكوثر.
والجواب عن ذلك: أن تفسير الكوثر بأنه نهر في الجنة هو ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدمت أدلة ذلك، وعلى هذا الرأي كثير من العلماء، ومنهم: الإمام الطبري، حيث قال – بعد أن ذكر أقوال العلماء في معنى الكوثر: أولى هذه الأقوال بالصواب عندي قول من قال: هو اسم النهر الذي أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة؛ وصفه الله بالكثرة لعظم قدره .ومنهم الشوكاني، فهو بعد أن أورد بعض الأحاديث التي تثبت الكوثر بأنه نهر في الجنة قال: فهذه الأحاديث تدل على أن الكوثر هو النهر الذي في الجنة فيتعين المصير إليها وعدم التعويل على غيرها .
وليس معنى هذا أن يغفل اتصال الكوثر بالحوض، فإن اتصالهما أمر معلوم كما ورد.
و أما الذين أطلقوا تسمية الكوثر على الحوض فهو من باب تغليب الأصل على الفرع و وقد أصبح معلوما أن موقع الحوض غير موقع الكوثر، وتسمية الحوض – بغض النظر عن اتصاله بالكوثر – غير الكوثر، ولكن الإيراد يأتي على من فسر الكوثر بالحوض و حيث غلب الفرع على الأصل، مثلما كان يفسر عطاء الكوثر لمن يسأله عنه بالحوض الذي يكثر الناس عليه، أي حوض نبينا صلى الله عليه وسلم .
وكذلك ما يذكره صاحب النشر الطيب أن الكوثر هو الحوض، و أن هذا هو قول الجمهور، وذلك في قوله: اختلف في تفسير الكوثر على أقوال: الأول أنه الحوض، وصححه ابن جزي وعليه الجمهور، لظاهر هذا الحديث – يعني به حديث أنس في وصف الكوثر والطير التي ترد عليه، ولما في الصحيحين عن أنس عنه صلى الله عليه وسلم حين أنزلت عليه سورة الكوثر: ((أتدرون ما الكوثر؟)) . إلخ الحديث
ومثله ما ذكره عاشور في كتابه: نعيم الجنة من أن الكوثر هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم، و هو رأي الجمهور .
و أما حجتهم في تسمية الحوض بالكوثر فهو ما أشار إليه ابن حجر من أنهم تمسكوا بحديث المختار بن فلفل.
قال ابن حجر: وجاء إطلاق الكوثر على الحوض في حديث المختار بن فلفل .
وقد قدمنا ذكر هذا الحديث وهو واضح في إطلاق الكوثر على الحوض لما فيه من الصفات التي تليق بالحوض، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال هذا لعله غلب تسمية الكوثر على الحوض مع مراعاة الفوارق بينهما.
أما من ناحية وجه الاتصال بينهما حقيقة فهو ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه يشخب فيه ميزابان من الكوثر يمدانه.
وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم – كما في حديث ثوبان الذي قدمناه ذكره في باب الحوض – بالرابطة التي تربط بين الحوض والكوثر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((يغت فيه ميزابان يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب، و الآخر من ورق)) .. ومثل حديث ثوبان حديث آخر عن ابن مسعود، وفيه التصريح ببيان وجه الاتصال بين الحوض والكوثر أيضا، وهو حديث طويل نأخذ منه قوله صلى الله عليه وسلم: ((ويفتح نهر من الكوثر إلى الحوض)) الحديث
الباب الرابع: الجنة والنار
المبحث الأول: تعريف الجنة
الجنة هي الجزاء العظيم، والثواب الجزيل، الذي أعده الله لأوليائه وأهل طاعته، وهي نعيم كامل لا يشوبه نقص، ولا يعكر صفوه كدر، وما حدثنا الله به عنها، وما أخبرنا به الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحير العقل ويذهله، لأن تصور عظمة ذلك النعيم يعجز العقل عن إدراكه واستيعابه. استمع إلى قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت،ولا خطر على قلب بشر)) ثم قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((اقرؤوا إن شئتم {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17])) وتظهر عظمة النعيم بمقارنته بمتاع الدنيا، فإن متاع الدنيا بجانب نعيم الآخرة تافه حقير، لا يساوي شيئاً. ففي (صحيح البخاري) عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها)) ولذا كان دخول الجنة والنجاة من النار في حكم الله وتقديره هو الفلاح العظيم، والفوز الكبير، والنجاة العظمى قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [ آل عمران:185]، وقال: {وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَناتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَناتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [ التوبة:72]، وقال أيضا: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَناتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء:13]
المبحث الثاني: دخول الجنة
تمهيد:
لا شك أن سعادة المؤمنين لا تعادلها سعادة عندما يساقون معززين مكرمين زمراً إلى جنات النعيم، حتى إذا ما وصلوا إليها فتحت أبوابها، واستقبلتهم الملائكة الكرام يهنئونهم بسلامة الوصول، بعدما عانوه من الكربات، وشاهدوه من الأهوال {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]، أي طابت أعمالكم وأقوالكم وعقائدكم، فأصبحت نفوسكم زاكية، وقلوبكم طاهرة، فبذلك استحققتم الجنات
المطلب الأول: الشفاعة في دخول الجنة
ثبت في الأحاديث الصحيحة أن المؤمنين عندما يطول عليهم الموقف في يوم الجزاء يطلبون من الأنبياء أن يستفتحوا لهم باب الجنة، فكلهم يمتنع ويتأبى، ويقول: لست لها حتى يبلغ الأمر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فيشفع في ذلك، فيُشفّع، ففي (صحيح مسلم) عن حذيفة بن اليمان وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون، حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم، فيقولون: يا أبانا، استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم، لست بصاحب ذلك..)). الحديث
وذكر فيه تدافع الأنبياء لها، حتى يأتون محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فيؤذن لهم.
المطلب الثاني: تهذيب المؤمنين وتنقيتهم قبل الدخول
بعد أن يجتاز المؤمنون الصراط يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، ثم يهذبون وينقون، وذلك بأن يقتص لبعضهم من بعض إذا كانت بينهم مظالم في الدنيا، حتى إذا دخلوا الجنة كانوا أطهاراً أبراراً، ليس لأحد عند الآخر مظلمة، ولا يطلب بعضهم بعضاً بشيء. روى البخاري في (صحيحه) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا)) ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - هو أول من يستفتح الجنة بعد أن يأبى أبو البشر آدم وأولوا العزم من الرسل التعرض لهذه المهمة.
المطلب الثالث: الأوائل في دخول الجنة
أن أول من يقرع باب الجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من يدخلها من الأمم أمته.
وأخرج الطبراني عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آتي باب الجنة فأستفتح فيقوم الخازن فيقول: لا أفتح لأحد قبلك, ولا أقوم لأحد بعدك)) وذلك أن قيامه إليه صلى الله عليه وسلم خاصة إظهار المرتبة ومرتبته، ولا يقوم في خدمة أحد بعده, بل خزنة الجنة دونه يقومون في خدمته، وهو كالملك عليهم, وقد أقامه الله في خدمة عبده ورسوله، حتى مشى إليه وفتح الباب.
وأخرجه مسلم في صحيحه عنه بلفظ: ((آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك)) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أنا أول من يفتح له باب الجنة, إلا أن امرأة تبادرني فأقول لها: ما لك أو ما أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على أيتامي)) .
وفي الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((جلس ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرونه, فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون, فسمع حديثهم, فقال بعضهم: عجباً إن لله من خلقه خليلاً اتخذ الله إبراهيم خليلاً, وقال آخر: ماذا بأعجب من كلامه موسى كلمه تكليماً، وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه, وقال آخر: آدم اصطفاه الله, فخرج عليهم فسلم وقال: سمعت كلامكم وعجبكم إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى نجي الله وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر)) . قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا فخر) أي: ولا فخر أعظم من هذا الفخر.
وقال بعضهم: وعندي أن معناه أني لا أقول ذلك افتخاراً واستكباراً بل على سبيل التنويه والتعريف والتذكر بنعم الله تعالى:
قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11].
فما قاله صلى الله عليه وسلم من باب التحدث بالنعم.
نكتة: لا بأس للعالم أن يذكر ما لديه من العلوم على سبيل التنويه ليقصد ويؤخذ عنه ذلك لا على سبيل الافتخار, فإن ذلك مزلة إلى النار, وبم يعجب العاقل وما لديه من العلم ليس من وسعه وقوته, وإنما هو من فضل مولاه ومنته والله أعلم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وقائدهم إذا وفدوا، وشافعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا يئسوا، لواء الحمد بيدي، ومفاتح الجنة يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم يومئذ على ربي ولا فخر, يطوف علي ألف خادم كأنهم اللؤلؤ المكنون)). رواه الترمذي، والبيهقي واللفظ له .
وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أكثر الناس تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة)) .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن السابقون الأولون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم)) أي: لم يسبقونا إلا بهذا القدر.
قال في (حادي الأرواح):(معنى (بيد) معنى سوى، وغير، وإلا ونحوها أي من أدوات الاستثناء فمعنى بيد أنهم أي: غير أنهم والله أعلم).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه)) .
وفي الصحيحين عنه مرفوعاً: ((نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة, بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا, وأوتيناه من بعدهم)) .
وعند الدارقطني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي)) .
والحديث غريب كما نبه عليه الدارقطني، والحاصل أن هذه الأمة المشرفة أسبق الأمم خروجاً من الأرض، وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف, وأسبقهم إلى ظل العرش، وأسبقهم إلى الفصل والقضاء بينهم، وإلى الجواز على الصراط، وإلى دخول الجنة, فالجنة محرمة على الأنبياء حتى يدخلها محمد صلى الله عليه وسلم، ومحرمة على الأمم حتى تدخلها أمته, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وأخرج أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل فأخذ بيدي فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي، فقال أبو بكر: يا رسول الله وددت أني كنت معك حتى أنظر إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي)) .
وقوله رضي الله عنه: (وددت أني كنت معك) حرص منه على زيادة اليقين, وأن يصير الخبر عياناً لا أنه رضي الله عنه عنده شك في ذلك – معاذ الله – نظيره قول سيدنا إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].
ومن المعلوم أنه ليس الخبر كالعيان, وإن جزم بأن المخبر به واقع لا محالة.
المطلب الرابع: الذين يدخلون الجنة بغير حساب
أول زمرة تدخل من هذه الأمة الجنة هي القمم الشامخة في الإيمان والتقى والعمل الصالح والاستقامة على الدين الحق، يدخلون الجنة صفاً واحداً، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، صورهم على صورة القمر ليلة البدر.
روى البخاري في (صحيحه) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يمتخطون، ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الأَلُوَّة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً))
وروى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً أو سبعمائة ألف لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر)).
وقد صح أن الله أعطى رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع كل واحد من السبعين هؤلاء سبعين ألفاً، ففي (مسند أحمد) بإسناد صحيح عن أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أعطيت سبعين ألفاً من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، قلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي عز وجل، فزادني مع كل واحد سبعين ألفاً))
وفي (مسند أحمد) و(سنن الترمذي) و(صحيح ابن حبان) عن أبي أمامة بإسناد صحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بلا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون، وثلاث حثيات من حثيات ربي)) فذكر هذا الحديث زياد ثلاث حثيات.
وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم السبعين ألفاً الأوائل وبيَّن علاماتهم، ففي (صحيح البخاري) عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عُرضت عليّ الأمم، فأخذ النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت فإذا سواد كثير، قلت: يا جبريل، هؤلاء أمتي؟ قال: لا، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير. قال: هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفاً قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب، قلت: ولم؟ قال: كانوا لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام إليه عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: اللهم اجعله منهم. ثم قام إليه رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: سبقك بها عكاشة))
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ولعل هؤلاء هم الذين سماهم الحق بالمقربين، وهم السابقون، {وَالسابِقُونَ السابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُون} [الواقعة:10-12]، وهؤلاء ثلة من الأولين وقليل من الآخرين {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13-14]
المطلب الخامس: الفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنة
روى مسلم في (صحيحه) عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفاً)).
وروى الترمذي عن أبي سعيد ، وأحمد والترمذي وابن حبان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة سنة))
وقد بيّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في موضع آخر أن هؤلاء لم يكن عندهم شيء يحاسبون عليه، هذا مع جهادهم وفضلهم، أخرج الحاكم في (مستدركه) عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي؟ قلت: الله ورسوله أعلم، فقال: فقراء المهاجرين، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة، ويستفتحون، فيقول لهم الخزنة: أو قد حوسبتم؟ فيقولون: بأي شيء نحاسب، وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك؟ قال: فيفتح لهم، فيقيلون فيه أربعين عاماً قبل أن يدخلها الناس)) وفي (صحيح البخاري) عن أسامة بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار)) . وأصحاب الجد هم الأغنياء من المسلمين. وقد وقع في الأحاديث السابقة أن الفقراء يسبقون الأغنياء بأربعين خريفاً، وجاء في حديث آخر بخمسمائة عام، ووجه التوفيق بين الحديثين أن الفقراء مختلفو الحال، وكذلك الأغنياء – كما يقول القرطبي-. فالفقراء متفاوتون في قوة إيمانهم وتقدمهم، والأغنياء كذلك، فإذا كان الحساب باعتبار أول الفقراء دخولاً الجنة وآخر الأغنياء دخولاً الجنة فتكون المدة خمسمائة عام، أما إذا نظرت إلى آخر الفقراء دخولاً الجنة وأول الأغنياء دخولاً الجنة فتكون المدة أربعين خريفاً، باعتبار أول الفقراء وآخر الأغنياء والله أعلم".
المطلب السادس: دخول عصاة المؤمنين الجنة
إخراجهم من النار وإدخالهم الجنة بالشفاعة
روى مسلم في (صحيحه) عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم (أو قال: بخطاياهم) فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحماً، أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل)) .
ولمسلم من حديث جابر بن عبدالله يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أقواماً يخرجون من النار يحترقون فيها، إلا دارات وجوههم، حتى يدخلون الجنة)) .
وهؤلاء الذين يخرجون من النار ويدخلون الجنة يسميهم أهل الجنة بالجهنميين، ففي (صحيح البخاري) عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يخرج قوم من النار بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيدخلون الجنة، يسمون الجهنميين)) .
وفي (الصحيح) أيضاً عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يخرج من النار بالشفاعة كأنهم الثعارير، قلت: وما الثعارير؟ قال: الضغابيس))
وروى البخاري عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يخرج قوم من النار بعدما مسهم منها سفع، فيدخلون الجنة، فيسميهم أهل الجنة الجهنميين))
وفي (صحيح مسلم) من حديث أبي هريرة الطويل في وصف الآخرة: ((حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً، ممن أراد الله أن يرحمه، ممن يقول: لا إله إلا الله، فيعرفونهم في النار، يعرفونهم بأثر السجود، تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار وقد امتحشوا (احترقوا)، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون منه، كما تنبت الحبة في حميل السيل))
وقد ورد في أكثر من حديث أن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار أو نصف دينار أو مثقال ذرة من إيمان، بل يخرج أقواماً لم يعملوا خيرا ً قط، ففي حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدخل الله أهل الجنة الجنة،يدخل من يشاء برحمته، ويدخل أهل النار النار، ثم يقول: انظروا من وجدتم في قلبه حبة من خردل من إيمان فأخرجوه))
وفي حديث جابر بن عبدالله في ورود النار: ((ثم تحل الشفاعة، ويشفعون حتى يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير مثقال شعيرة، فيجعلون بفناء الجنة، ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء، حتى ينبتوا نبات الشيء في حميل السيل. ويذهب حراقه ثم يسأل حتى يجعل له الدنيا وعشرة أمثالها معها)) .
وفي حديث أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن الذرة))
المطلب السابع: آخر من يدخل الجنة
حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - قصة آخر رجل يخرج من النار ويدخل الجنة، وما جرى من حوار بينه وبين ربه، وما أعطاه الله من الكرامة العظيمة التي لم يُصدّق أن الله أكرمه بها لعظمها، وقد جمع ابن الأثير روايات هذا الحديث في (جامع الأصول)، ومنه نقلنا هذه الأحاديث:
1- عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ((إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة: رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب، وجدتها ملأى، فيقول الله عز وجل: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا، وعشرة أمثالها أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول: أتسخر بي – أو أتضحك بي – وأنت الملك؟ قال: فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه، فكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة)) أخرجه البخاري ومسلم .
ولمسلم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار: رجل يخرج منها زحفا، فيقال له: انطلق فادخل الجنة، قال: فيذهب فيدخل الجنة، فيجد الناس قد أخذوا المنازل، فيقال له: أتذكر الزمان الذي كنت فيه؟ فيقول: نعم، فيقال له: تمنَّ، فيتمنى فيقال له: لك الذي تمنيت، وعشرة أضعاف الدنيا، فيقول: أتسخر بي وأنت الملك؟ قال: فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك حتى بدت نواجذه)) . وفي رواية الترمذي مثل هذه التي لمسلم .
2- عن عبدالله بن مسعود رضي الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين، فترفع له شجرة، فيقول: يا رب، أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها، وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها؟ فيقول: لا، يا رب ويعاهده أن لا يسأله غيرها، قال: وربه عز وجل يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي رب، أدنني من الشجرة لأشرب من مائها وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ فيقول: لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها؟ فيعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه تعالى يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة، وهي أحسن من الأوليين، فيقول: أي رب أدنني من هذه لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ قال: بلى، يا رب لا أسألك غيرها – وربه عز وجل يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة فيقول: أي رب أدخلنيها، فيقول: يا ابن آدم، ما يصريني منك، أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب، أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فضحك ابن مسعود، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا: مم تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ فقال: من ضحك رب العالمين، حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر)) أخرجه مسلم
وهذا الحديث هكذا أخرجه الحميدي وحده في أفراد مسلم، والذي قبله في المتفق عليه، وقال: إنما أفردناه للزيادة التي فيه.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أدنى أهل الجنة منزلة: رجل صرف الله وجهه عن النار قِبل الجنة، ومثل له شجرة ذات ظل، فقال: أي رب، قدمني إلى هذه الشجرة لأكون في ظلها وساق الحديث بنحو حديث ابن مسعود، ولم يذكر: فيقول: يا ابن آدم، ما يصريني منك؟. . إلى آخر الحديث)). وزاد فيه: ((ويذكره الله، سل كذا وكذا، فإذا انقطعت به الأماني، قال الله: هو لك وعشرة أمثاله، قال: ثم يدخل بيته، فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين، فيقولان: الحمد لله الذي أحياك لنا، وأحيانا لك، قال: فيقول: ما أعطي أحد مثل ما أعطيت)) أخرجه مسلم هكذا عقيب حديث ابن مسعود.
المطلب الثامن: الذين دخلوا الجنة قبل يوم القيامة
أول من دخل الجنة من البشر هو أبو البشر آدم {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظالِمِينَ} [ البقرة:35]، وقال: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظالِمِينَ} [ الأعراف: 19]، ولكن آدم عصى ربه بأكله من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها فأهبطه الله من الجنة إلى دار الشقاء: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [ طه: 115-123].
وقد رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجنة ففي (صحيح البخاري) عن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)).
ومن الذين يدخلون الجنة قبل يوم القيامة الشهداء، ففي (صحيح مسلم) عن مسروق قال: سألنا عبدالله بن مسعود عن هذه الآية: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]. قال: ((إنا قد سألنا عن ذلك فقال:" أرواحهم في أجواف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعه، فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا: قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا)).
ومن مات عرض عليه مقعده من الجنة والنار بالغداة والعشي، ففي (صحيح مسلم) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة))
المبحث الثالث: أسماء الجنة
قال في (حادي الأرواح): لها عدة أسماء باعتبار صفاتها، ومسماها واحد باعتبار الذات، فهي مترادفة من هذا الوجه، وهكذا أسماء الرب تعالى، وأسماء كتابه، وأسماء رسوله، وأسماء اليوم الآخر، وأسماء النار.
الاسم الأول: الجنة، وهو العام المتناول لتلك الدار جملة، وما اشتملت عليه في أنواع النعيم، وأصل اشتقاقه من الستر والتغطية، ومنه الجنين لاستتاره في البطن, والجان لاستتاره عن عيون الإنس، والمجن، السترة ووقاية الوجه، والمجنون لاستتار عقله، وتواره عنه. والجان وهي الحية الصغيرة الدقيقة، ومنه سمي البستان جنة؛ لأنه يستر ما داخله من الأشجار، ولا يطلق هذا الاسم إلا على موضع كثير الشجر مختلف الأنواع، والجنة بالضم ما يستجن أي: يوقى به من نحو ترس، وبالكسر الجن كما في قوله تعالى {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 6].
الثاني: دار السلام وقد سماه الله بهذا الاسم في قوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127] وقوله: {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} [يونس: 25]، وهي جديرة بهذا الاسم؛ لسلامتها من كل بلية وآفة، فإن الله هو السلام، وهي داره، فمن أسمائه الحسنى السلام. فالله سبحانه سلم هذه الدار، وسلم أهلها من كل نكبة وداهية، وتحيتهم فيها سلام، والرب تعالى سلم عليهم من فوقهم، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم، وكلامهم كله فيها سلام، ولا يسمعون فيها لغوا إلا سلاماً.
وأما قوله تعالى: {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 90-91] فحقق في (حادي الأرواح) أن المعنى: سلام لك أيها الراحل في الدنيا, سلموا من الدنيا وأنكادها, والنار وعذابها, فبشر بالسلامة عند ارتحاله من الدنيا وقدومه على الله تعالى، كما يبشر الملك روحه عند أخذها بقوله: ((أبشري بروح وريحان, ورب غير غضبان)) . وهذا أول البشرى التي للمؤمنين في الآخرة.
الثالث: دار الخلد، وسميت بذلك لأن أهلها لا يظعنون عنها، واشتقاقه من الخلد وهو دوام البقاء. تقول: خلد الرجل يخلد خلوداً وأخلده الله سبحانه وتعالى إخلاداً. وخلده تخليداً أبقاه. وأخلدت إلى فلان: ركنت إليه.
وأخلد بالمكان أقام به، وأما الخلد بالتحريك: فالبال.
يقال: سنح في خلدي أي: خطر في روعي وبالي وقلبي، والخلد أيضاً: ضرب من الجرادين أعمى. والله أعلم.
الرابع: دار المقامة: قال تعالى حكاية عن أهلها: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ} [فاطر: 34-35] قال مقاتل: أنزلنا دار الخلود أقاموا فيها أبداً لا يموتون ولا يتحولون. قال أهل اللغة: المقامة والإقامة بمعنى.
الخامس: جنة المأوى، وهو مفعل من آوى يأوي أي انضم إلى المكان. قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40-41] وقال في النار: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 39] وقال تعالى: {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 14-15].
قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: (هي الجنة التي يأوي إليها جبريل والملائكة). وقال مقاتل: (هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء). وقال كعب: (جنة المأوى جنة فيها طير خضر ترعى فيها أرواح الشهداء).
وقالت عائشة رضي الله عنها: (هي جنة من الجنات).
قال المحقق:(والصحيح أنه اسم من أسماء الجنة).
السادس: جنات عدن قيل: هو اسم لجنة من جملة الجنات.
قال المحقق: (والصحيح أنه اسم لجملة الجنات، فكلها جنات عدن).
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} [مريم: 61] وقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [فاطر: 33] وقال تعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [الصف: 12].
والاشتقاق يدل على أن جميعها جنات عدن، فإنه من الإقامة والدوام. يقال عدن بالمكان: إذا أقام به، وعدنت البلد: توطنته، وعدنت الإبل بمكان كذا: لزمته فلم تبرح منه.
قال الجوهري: (ومنه جنات عدن أي: جنات إقامة. وثم قول بأن جنة عدن اسم لموضع من الجنة مخصوص) .
وهو جنة من جملة الجنان، ... ولا مانع من كونه اسم لموضع مخصوص، ويطلق على الكل أنه عدن أي: أقام, وخلد, واستمر، وأما أنه جنة مخصوصة من جملة الجنان فهذا أظهر من الشمس الصابحة لورود الأحاديث الثابتة بذلك، ...
ما أخرج الطبراني في المعجم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل الله تعالى في آخر ثلاث ساعات يبقين من الليل، فينظر الله في الساعة الأولى منهن في الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت، ثم ينظر في الثانية في جنة عدن وهي مسكنه الذي يسكن لا يكون معه فيها أحد إلا الأنبياء, والشهداء, والصديقون، وفيها ما لم يره أحد, ولا خطر على قلب بشر, ثم يهبط آخر ساعة من الليل فيقول: ألا مستغفر يستغفرني فأغفر له؟ ألا سائل يسألني فأعطيه؟ ألا داع يدعوني فأستجيب له؟ حتى يطلع الفجر)) . قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] فيشهده الله.
وأخرج الدارمي عن ابن عمر موقوفاً: (خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش، والقلم، وعدن، وآدم ثم قال لسائر الخلق: كن فكان) .
وأخرج الدارمي عن ميسرة: (إن الله لم يمس شيئاً من خلقه بيده غير ثلاث: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده) .
وأخرج عن كعب قال: (لم يخلق الله بيده غير ثلاث: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده، ثم قال لها: تكلمي. قالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]) .
وذكر الحاكم عن مجاهد: (أن الله تعالى غرس جنات عدن بيده فلما تكاملت أغلقت فهي تفتح كل سحر، فينظر الله إليها فيقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}) .
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً: ((خلق الله جنة عدن بيده لبنة من درة بيضاء، ولبنة من ياقوتة حمراء، ولبنة من زبرجدة خضراء, ملاطها المسك, وحصباؤها اللؤلؤ, وحشيشها الزعفران. ثم قال لها: انطقي. قالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}. فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9])) فهذه الجنة من الجنان كآدم في نوع الحيوان بجامع أن كلاً منها خلقه الله بيده جل شأنه وتعالى سلطانه.
قال في (حادي الأرواح): (تأمل هذه العناية كيف خص الجنة التي غرسها بيديه لمن خلقه، ولأفضل ذريته اعتناء, وتشريفاً, وإظهاراً لفضل ما خلقه بيده على غيره. فهذا كله يدل على أن جنة عدن اسم لموضع من الجنان مخصوص، ويطلق على جملة الجنات، إما حقيقة لوجود الحقيقة وهي الإقامة والدوام والاستمرار، وإما مجازاً من باب إطلاق البعض على الكل. هذا ما ظهر لي، والله تعالى أعلم) .
السابع من أسماء الجنة: دار الحيوان قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64] والمراد الجنة.
قال أهل التفسير: ({وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ} يعني: الجنة {لَهِيَ الْحَيَوَانُ} هي: دار الحياة التي لا موت فيها).
قال أهل اللغة:(الحيوان بمعنى: الحياة).
قال أبو عبيدة وابن قتيبة:(الحياة: الحيوان)، ...
قال أبو علي: (يعني: إنها مصادر، فالحياة فعلة كالجبلة، والحيوان كالنزوان والغليان، والحي كالعي).
وقال أبو زيد:(الحيوان ما فيه روح، والموتان والموات ما لا روح فيه, والصواب: أن الحيوان يقع على ضربين: أحدهما: مصدر كما حكاه أبو عبيدة، والثاني: وصف كما حكاه أبو زيد).
فعلى قول أبي زيد يكون المعنى أنها الدار التي لا تفنى, ولا تنقطع, ولا تبيد كما تفنى الأحياء في هذه الدار, فهي أحق بهذا الاسم من الحيوان الذي يفنى ويموت والأول أظهر والله أعلم.
الثامن: الفردوس.
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10-11] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف: 107]، ...
قال كعب:(هو البستان الذي فيه الأعناب). وقال الليث: (الفردوس جنة ذات كروم يقال: كرم مفردس أي: معرش). وقال الضحاك: (واختاره المبرد أنها الجنة الملتفة بالأشجار). وقيل: (إنه ليس بعربي، وإنما هو رومي ومعناه بالعربية: البستان) قاله الزجاج وقال:(حقيقته البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين).
قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:

وإن ثواب الله لكل مخلد
جنان من الفردوس فيها يخلد

التاسع: جنات النعيم
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} [لقمان: 8] وهو اسم جامع لجميع الجنات لما اشتملت عليه من النعيم المقيم.
العاشر: المقام الأمين.
قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان: 51] فالمقام موضع الإقامة والأمين الأمن من كل سوء ومكروه.
الحادي عشر والثاني عشر: مقعد الصدق وقدم الصدق
قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 54-55] فسمى الجنة مقعد صدق لحصول ما يراد من المقعد الحسن كما يقال: مودة صادقة إذا كانت ثابتة وموضوع هذه اللفظة في كلامهم الصحة والكمال، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة)) . ومنه الصدق في الحديث، والصدق في العمل، والصديق الذي يصدق قوله بالعمل.
وفسر قدم الصدق بالجنة، وفسر بالأعمال التي تنال بها الجنة، وفسر بالسابقة التي سبقت لهم من الله، وفسر بالرسول الذي على يده وهدايته نالوا ذلك. قال المحقق: (والتحقيق أن الجميع حق, فإنهم سبقت لهم من الله السابقة بالأسباب التي قدرها لهم على يد رسوله, وادخر لهم جزاءها يوم القيامة, ولسان الصدق هو لسان الثناء الصادق بمحاسن الأفعال, وجميل الطرائق, وفي كونه لسان صدق إشارة إلى مطابقته للواقع، وأنه ثناء بحق لا بباطل.
ومدخل الصدق، ومخرج الصدق هو المدخل والمخرج الذي يكون صاحبه فيه ضامناً على الله وهو دخوله وخروجه بالله ولله, وهذه الدعوة من أنفع الدعاء للعبد, فإنه لا يزال داخلاً في أمر وخارجاً من آخر, فمتى كان دخوله لله وبالله وخروجه كذلك كان قد أدخل مدخل صدق وأخرج مخرج صدق. والله أعلم)
المبحث الرابع: صفة الجنة
المطلب الأول: نعيم الجنة
قال الله عز وجل: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25] {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء: 57]، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 45-48 ]، {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [ فاطر: 34-35]، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان: 52-57]، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 10-24]، {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَاء مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 27-38]، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية: 8-11].
أخرج أبو بكر البزار من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله تبارك وتعالى الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة, وملاطها المسك, وقال لها: تكلمي فقالت: قد أفلح المؤمنون فقالت الملائكة: طوبى لك منزل الملوك)) وهذا يروى موقوفاً عن أبي سعيد قال: (خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وغرسها وقال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، فدخلتها الملائكة فقالت: طوبى لك منزل الملوك) .
ومن حديث مسلم عن أبي سعيد الخدري: ((أن ابن صياد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة فقال (درمكة) بيضاء مسك خالص)) .
وعن أنس بن مالك عن النبي عليه السلام قال: ((أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك))
الجنابذ: القباب واحدها جنبذة.
وذكر مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله عز وجل أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, مصداق ذلك في كتاب الله عز وجل {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[السجدة: 17])) .
وذكر مسلم أيضاً من حديث سهل بن (سعد) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها)) قال أبو حازم: فحدثت به النعمان بن أبي عياش (الرزقي) فقال: حدثني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة شجرة يسير الراكب ذو الجواد المضمر السريع مائة عام لا يقطعها)) .
وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, اقرؤا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرؤوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30] ولموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، واقرؤوا إن شئتم: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ} [آل عمران: 185])) .
وأما ما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة شجرة يستظل الراكب في ظلها مائة سنة واقرؤوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}, ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو تغرب)) .
وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب)) .... وذكر ابن المبارك عن سليم بن عامر قال: ((كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إنه لينفعنا الله بالأعراب ومسائلهم أقبل أعرابي يوماً فقال: يا رسول الله لقد ذكر الله في الجنة شجرة مؤذية, وما كنت أدري في الجنة شجرة تؤذي صاحبها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما هي؟ قال: السدر فإن له شوكاً مؤذياً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ليس يقول: {سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} خضد الله شوكه, فجعل مكان كل ذي شوكة ثمرة, فإنها لتنبت تمراً تفتق التمرة منها عن اثنين وسبعين لوناً من طعام، ما فيها لون يشبه الآخر)) ويروى ثمراً بالثاء المثلثة فيها كلها.
وقال عليه السلام: وذكر سدرة المنتهى ((وإذا ثمرها كالقلال)) ذكره مسلم بن الحجاج رحمه الله.
وذكر مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)) .
وذكر مسلم أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أهل الجنة ليتراءون (أهل الغرف) من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغائر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده, رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)) .
وذكر مسلم أيضاً عن محمد بن سيرين قال: (أما تفاخروا وأما تذاكروا, الرجال أكثر في الجنة أم النساء) فقال أبو هريرة ألم يقل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ((إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر, والتي بعدها على أضوأ كوكب دري في السماء, لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان, يرى مخ سوقها من وراء اللحم وما في الجنة أعزب)) .
وذكر الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أول زمرة يدخلون الجنة يوم القيامة ضوء وجوههم على مثل ضوء القمر ليلة البدر, والزمرة الثانية على مثل أحسن كوكب في السماء, لكل واحد منهم زوجتان, على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من ورائها)) .
وذكر مسلم بن الحجاج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر, والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة, لا يبولون, ولا يتغوطون, ولا يتمخطون, ولا يتفلون, أمشاطهم الذهب, ورشحهم المسك, ومجامرهم الأَلُوَّة، وأزواجهم الحور العين, أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء)) .
وذكر مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر, ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة, ثم هم بعد ذلك منازل لا يتغوطون, ولا يبولون, ولا يتمخطون, ولا يبصقون, أمشاطهم الذهب, ومجامرهم الأَلُوَّة, ورشحهم المسك, أخلاقهم على خلق رجل واحد, على طول أبيهم آدم عليه السلام ستون ذراعاً في السماء)) ويروى: على خلق.
وذكر أيضاً من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر, لا يبصقون فيها, ولا يتمخطون فيها, ولا يتغوطون فيها, آنيتهم وأمشاطهم من الذهب والفضة, ومجامرهم من الأَلُوَّة, ورشحهم المسك, ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن, لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد, يسبحون الله بكرة وعشياً)) .
وذكر من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأكل أهل الجنة فيها ويشربون, ولا يتغوطون, ولا يتمخطون, ولا يبولون, ولكن طعامهم ذلك (جشاء) كرشح المسك، يلهمون التسبيح والحمد كما يلهمون النفس)) .
وذكر النسائي من حديث زيد بن أرقم قال: ((جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم أتزعمون أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ فقال: إي والذي نفسي بيده إن الرجل منهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل, والشرب, والجماع, والشهوة. قال الرجل: فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة, وليس في الجنة أذى, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حاجة أحد منهم رشح يفيض من جلده فإذا بطنه قد ضمر)) .
وذكر الترمذي من حديث أنس بن مالك قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الكوثر؟ قال: ذلك نهر أعطانيه الله، يعني في الجنة, أشد بياضاً من اللبن, وأحلى من العسل, فيه طير أعناقها كأعناق الجزر، قال عمر: إن هذه لناعمة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آكلها أنعم منها)) .... وذكر الترمذي أيضاً عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها أبداً, وكذلك أهل النار)) .
كذا قال ثلاثين، والأول أحسن إسناداً.
وذكر مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من يدخل الجنة ينعم ولا ييأس, لا تبلى ثيابه, ولا يفنى شبابه)) .
وذكر مسلم أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري, وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً, وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً, وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً, وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً, فذلك قوله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ})) .
المطلب الثاني: مفتاح الجنة
واعلم أن الباب لابد له من مفتاح، وأن مفتاح الجنة هي كلمة الإخلاص، وهي شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أخرج الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعاً: ((مفتاح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله)) . قال الحافظ ابن رجب في كتابه (التوحيد): إسناده منقطع وسنده صحيح.
البخاري عن وهب بن منبه: (أنه قيل له: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى ولكن ليس من مفتاح إلا له أسنان فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح) .
......... وفي المسند عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدلك على باب من أبواب الجنة؟ قلت: بلى. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله)) .
قال في حادي الأرواح: (ولقد جعل الله لكل مطلوب مفتاحاً يفتح به، فجعل مفتاح الصلاة الطهارة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((مفتاح الصلاة الطهور)) ، ومفتاح الحج الإحرام، ومفتاح البر الصدق، ومفتاح الجنة التوحيد، ومفتاح العلم حسن السؤال، وحسن الإصغاء، ومفتاح النصر والظفر الصبر، ومفتاح المزيد الشكر، ومفتاح الولاية المحبة، ومفتاح المحبة الذكر، ومفتاح الفلاح التقوى، ومفتاح التوفيق الرغبة والرهبة، ومفتاح الإجابة الدعاء، ومفتاح الإيمان التفكر فيما دعا الله عباده إلى التفكر فيه، ومفتاح الدخول على الله سلامة القلب، وسلامته له والإخلاص له في الحب والبغض والفعل والترك، ومفتاح حياة القلب تدبر القرآن, والتضرع بالأسحار, وترك الذنوب والأوزار، ومفتاح حصول الرحمة الإحساس في عبادة الخالق والسعي في نفع عبيده، ومفتاح حصول الرزق السعي مع الاستغفار والتقوى، ومفتاح العز طاعة الله ورسوله، ومفتاح الاستعداد للآخرة قصر الأمل، ومفتاح كل خير الرغبة في الله والدار الآخرة، ومفتاح كل شر حب الدنيا وطول الأمل، وهذا باب عظيم من أنفع أبواب العلم لمعرفة مفاتيح الخير والشر، فإن الله جعل للخير وللشر مفتاحاً وباباً يدخل فيه إليه، كما جعل الشرك والكبر والإعراض عما بعث الله به رسوله والغفلة عن ذكره والقيام بحقه مفتاحاً للنار، والخمر مفتاح كل إثم، والغناء مفتاح الزنا، وإطلاق النظرة في الصور مفتاح الطلب، والعشق والكسل والراحة مفتاح الخيبة والحرمان، والمعاصي مفتاح الكفر، والكذب مفتاح النفاق، والشح والحرص مفتاح البخل، وقطيعة الرحم وأخذ المال من غير حله والإعراض عما جاء به الرسول مفتاح كل بدعة وضلالة, فسبحان مسبب الأسباب والله الموفق) وإلى المفتاح أشار في النونية بقوله :

هذا وفتح الباب ليس بممكن
إلا بمفتاح على أسنان

مفتاحه بشهادة الإخلاص والتوحيد
تلك شهادة الإيمان

أسنانه الأعمال وهي شرائع الإسلام
والمفتاح بالأسنان

لا تلغين هذا المثال فكم به
من حل إشكال لذي العرفان
المطلب الثالث: أبواب الجنة
قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، وقال في صفة النار: {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71]، بغير واو, فزعمت طائفة أن هذه الواو واو الثمانية دخلت في أبواب الجنة لكونها ثمانية بخلاف أبواب النار فإنها سبعة, وذكره الإمام ناصر السنة ابن الجوزي في (التبصرة) وانتصر له.
... الواو عاطفة على قوله تعالى: {جَاؤُوهَا} وأن الجواب محذوف.
... (وهو اختيار أبي عبيدة، والمبرد، والزجاج، وغيرهم، قال المبرد: (وحذف الجواب أبلغ عند أهل العلم). قال أبو الفتح ابن جني: (وأصحابنا يدفعون زيادة الواو، ولا يجيزونه، ويرون أن الجواب محذوف للعلم به). فإن قيل: ما السر في حذف الجواب في آية أهل الجنة، وذكره في آية أهل النار؟ فالجواب: إن هذا أبلغ في الموضعين, فإن الملائكة تسوق أهل النار إليها وأبوابها مغلقة, حتى إذا جاءوها فتحت في وجوههم ففجئهم العذاب بغتة, فحين انتهوا إليها فتحت أبوابها بلا مهلة، فإن هذا أن الجزاء المرتب على الشرط أن يكون عقيبه، فإنها دار الإهانة والخزي، فلم يستأذن لهم في دخولها، وأما الجنة فدار كرامته تعالى، ومحل خواصه وأوليائه, فإذا انتهوا إليها صادفوها مغلقة فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أن يفتحها لهم، ويستشفعون إليه بأولي العزم من رسله فكلهم يتأخر عن ذلك حتى تقع الدلالة على خاتمهم، وسيدهم، وأفضلهم فيقول: ((أنا لها)) . فيأتي تحت العرش، ويخر ساجداً لربه فيدعه ما شاء أن يدعه, ثم يأذن له في رفع رأسه، وأن يسأل حاجته فيشفع إليه سبحانه في فتح أبوابها فيشفعه، ويفتحها تعظيماً لخطرها, وإظهاراً لمنزلة رسوله وكرامته عليه وإن مثل هذه الدار التي هي دار ملك الملوك إنما يدخل إليها بعد تلك الأهوال العظيمة التي أولها من حين عقل العبد في هذه الدار إلى أن ينتهي إليها وما ركبه من الأطباق طبقاً فوق طبق) .
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ} [الانشقاق: 19]: (يعني الشدائد والأهوال والموت، ثم البعث، ثم العرض).
وقال عكرمة : (حالاً بعد حال رضيعاً، ثم فطيماً، ثم غلاماً، ثم شاباً، ثم شيخاً هذا معنى الآية الكريمة).
وقيل غير ذلك من الشدائد، والمصائب شدة بعد أخرى حتى يأذن الله سبحانه لنبيه وخاتم رسله أن يشفع إليه في فتحها لهم, وهذا أبلغ وأعظم في تمام النعمة، وحصول الفرح والسرور لئلا يتوهم الجاهل أنها بمنزلة الخان الذي يدخله من شاء فجنة الله غالية، ومنزلة عالية بين الناس, وبينها من العقاب، والمفاوز، والأخطار ما لا تنال إلا به, فما لمن أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني ولهذه الدار, فليعد عنها إلى ما هو أولى به وقد خلق لها وهي له...
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
تدبر قوله تعالى: {زُمَرًا} وتأمل قول خزنة الجنة لأهلها: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا} أي: سلامتكم ودخولها يطيبكم، فإن الله حرمها إلا على الطيبين فيبشرونهم بالسلامة, والطيب, والدخول, والخلود، وأما أهل النار فإنهم لما انتهوا إليها على تلك الحالة من الهم, والغم, والخزي, والحزن فتحت لهم أبوابها, فوقفوا عليها وزيدوا على ما هم عليه من الخزي والنكال توبيخ خزنتها وتبكيتهم بقولهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا} فاعترفوا و {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71].
وكلمة العذاب قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13].
وحقت بمعنى وجبت، فيبشرونهم حينئذ بدخولها والخلود فيها, وأنها بئس المأوى لهم، وتأمل قول خزنة الجنة لأهليها: {ادخلوها} وقول خزنة النار لأهلها: {ادخلو أبواب جهنم} تجد تحته سراً لطيفاً, ومعنى بديعاً ظريفاً، وهو أنها لما كانت دار العقوبة فأبوابها أفظع كل شيء, وأشده حراً, وأعظمه غماً, يستقبل الداخل في العذاب ما هو أشد منها, ويدنو من الغم والخزي بدخول الأبواب فقيل: ادخلوا أبوابها صغاراً لهم, وإذلالاً وخزياً ثم قيل لهم: لا يقتصر بكم على مجرد ذلك, ولكن وراء ذلك الخلود في النار.
وأما الجنة فهي دار الكرامة, والمنزل الذي أعد الله لأوليائه, فيبشرون من أول وهلة بالدخول إلى المقاعد والمنازل والخلود فيها، وتأمل قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} [ص: 50-51] كيف تجد تحته معنى بديعاً، وهو أنهم إذا دخلوا لم تغلق أبوابها عليهم, بل تبقى مفتحة كما هي خلاف النار, فإذا دخلوها أغلقت عليهم، كما قال تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} [الهمزة: 8] أي: مطبقة, ومنه سمي الباب وصيداً, وهي مؤصدة في عمد ممدة, قد جعلت العمد ممسكة للأبواب من خلفها كالحجر العظيم الذي يجعل خلف الباب.
قال مقاتل: (يعني أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لها باب, ولا يخرج منها غم, ولا (يدخل فيها روح) ولا يدخل فيها نسيم آخر الأبد، وأيضاً فإن في فتح الأبواب حيث شاؤوا, ودخول الملائكة عليهم من كل باب في كل وقت, بالتحف والألطاف من ربهم, وأيضاً إشارة إلى أنها دار من لا يحتاج إلى غلق الأبواب كما في الدنيا...
وأخرج الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((في الجنة ثمانية أبواب: باب منها يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون))
وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان. فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله يا رسول الله ما على أحد من ضرورة من أيها دعي، فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: نعم، وإني لأرجو أن تكون منهم)) قال القرطبي: (قيل الدعاء من جميعها دعاء تنويه وإكرام ثم يدخل من الباب الذي غلب عليه العمل) .
وأخرج مسلم عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ – أو فيسبغ – الوضوء ثم يقول: أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم اجعلني من التوابين. إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)) . زاد الترمذي: ((واجعلني من المتطهرين)) . زاد الإمام أحمد وأبو داود: ((ثم رفع نظره إلى السماء فقال: اللهم اجعلني...)) الحديث.
وعند الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه يرفعه: ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال ثلاث مرات: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. إلا فتح له ثمانية أبواب الجنة من أيها شاء دخل)) .
وأخرج عبد الله بن الإمام أحمد، وابن ماجه عن عتبة بن عبد الله السلمي مرفوعاً: ((ما من مسلم يتوفى له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل)) .
المطلب الرابع: درجات الجنة
قال الله تعالى: {وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 95-96].
قال ابن محيريز:(هي سبعون درجة ما بين الدرجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين عاماً). وأخرج ابن المبارك عن الضحاك في قوله تعالى: {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} [الأنفال: 4] وقال بعضهم: أفضل من بعض فيرى الذي عقد فضل به فضله, ولا يرى الذي أسفل منه أنه فضل عليه أحد من الناس قلت: وهذا من تمام نعم الله على عبده لأن الأنفس مطبوعة على التألم بمشاهدة من هو فوقها إلا من وفقه الله، وهنا نكتة عنَّ لي أن أنبه عليها وهي: أن العاقل ينبغي له أن يتألم بسبق غيره له في الطاعات ووجوه الخير فيبادر إلى فعل مثل ما فعل ذلك المبادر

إذا أعجبتك خلالاً منه
فكنه تكن مثل من يعجبك

فليس على الجود والمكرمات
إذا جئتها حاجب يحجبك

والله الموفق
... قوله تعالى: {فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ} الآيتين أوقع التفضل أولاً بدرجة ثم أوقعه ثانياً بدرجات فقيل: الأول بين القاعد, المعذور, والمجاهد. والثاني: بين القاعد بلا عذر والمجاهد. وقال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران: 163] وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 3-4].
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)) .
ولفظ البخاري في ((الأفق)) وهو أبين قال في ((حادي الأرواح)): (الغابر هو: الذاهب الماضي الذي قد تدلى للغروب وفي التمثيل به دون الكوكب – المسامت للرأس وهو أعلى فائدتان أحدهما: بعده عن العيون. والثانية: أن الجنة درجات بعضها فوق بعض وأعلى من بعض وإن لم تسامت العليا السفلى كالبساتين الممتدة من رأس الجبل إلى ذيله) . انتهى.
وأخرج الشيخان عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة كما تراءون الكوكب في أفق السماء)) وأخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن أهل الجنة ليتراءون في الجنة كما تراءون أو ترون الكوكب الدري الغارب في الأفق الطالع في تفاضل الدرجات. قالوا: يا رسول الله أولئك النبيون قال: بلى، والذي نفسي بيده وأقوام آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)) .
قال في (حادي الأرواح): ورجال هذا الإسناد احتج بهم البخاري في صحيحه. وفي هذا الحديث: (الغارب) وفي حديث أبي سعيد: (الغابر) وقوله: (الطالع) صفة للكوكب وصفة بكونه غارباً وبكونه طالعاً.
وقد خرج هذا المعنى في الحديث الذي رواه ابن المبارك عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل الجنة ليتراءون في الغرف كما يرى الكوكب الشرقي والكوكب الغربي في الأفق في تفاضل الدرجات. قالوا: يا رسول الله أولئك النبيون قال: بلى والذي نفسي بيده وأقوام آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)) . قال: وهذا على شرط البخاري أيضاً.
وفي المسند عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المتحابين لترى غرفهم في الجنة كالكوكب الطالع الشرقي والغربي فيقال: من هؤلاء؟ فيقال: هؤلاء المتحابون في الله عز وجل)) .
وفي المسند من حديث أبي سعيد أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الجنة مائة درجة ولو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن وسعتهم)) وفيه عنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة: اقرأ واصعد. فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيء معه)) .
قال المحقق: وهذا صريح في أن درج الجنة تزيد على مائة.
وأما حديث البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: ((أن الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة)) .
فالجواب عنه: أنه يحتمل أن تكون هذه المائة درجة من جملة الدرج أو تكون نهايتها هذه المائة، وفي ضمن كل درجة درج دونها.
... والثاني أوجه؛ لأن لفظ حديث البخاري معرفة الطرفين فيفيد الحصر على رأي البيانيين، وإن استوجه المحقق الأول، واستدل له بما خرجه الترمذي عن معاذ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من صلى هؤلاء الصلوات الخمس، وصام شهر رمضان كان حقاً على الله أن يغفر له هاجر أو قعد حيث ولدته أمه. قلت: يا رسول الله ألا أخرج فأؤذن الناس؟ قال: ذر الناس يعملون, فإن في الجنة مائة درجة بين كل درجتين منهما مثل ما بين السماء والأرض، وأعلى درجة منها الفردوس، وعليها يكون العرش، وهي أوسط شيء في الجنة، ومنها تفجر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس)) فرواه بلفظة (في).
وأخرج أيضاً عن عبادة بن الصامت مرفوعاً: ((في الجنة مائة درجة)) فذكر نحوه وعنده أيضاً عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((في الجنة مائة درجة)) وذكر نحوه وقال حديث حسن غريب، وفيه عن أبي سعيد مرفوعاً: ((إن في الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم)) ورواه الإمام أحمد بدون لفظة (في) كما تقدم فرويت هذه الأحاديث بلفظة في وبدونها. فإن كان المحفوظ ثبوتها فهي من جملة درجتها، وإن كان المحفوظ سقوطها فهي الدرج الكبار المتضمنة للدرج الصغار، ولا تناقض بين تقدير ما بين الدرجتين بالمائة وتقديرها بالخمسمائة لاختلاف السير في السرعة والبطء، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا تقريباً للإفهام يدل له حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: ((مائة درجة في الجنة ما بين الدرجتين ما بين السماء والأرض، وأبعدهما بين السماء والأرض. قلت: يا رسول الله: لمن؟ قال: لمجاهدين في سبيل الله)) .
وهذه الجنات متفاضلة، ففيها جنات عُلَى كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [ طه: 75]. وفيها درجات دون التي فوقها كما قال سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} إلى أن قال: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [ الرحمن: 46- 62]. والجنات بعضها فوق بعض كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم)) .
فقوله: ((من فوقهم)) يدل على ما ذكر، وهذه الجنات متباعدات كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله, ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة, وأعلى الجنة, وفوقه عرش الرحمن, ومنه تفجر أنهار الجنة)) .
فهذا تباعد ما بين درجات هذه المائة التي أعدت للمجاهدين، ودرجات الجنة كثيرة لم يرد حصرها في عدد, فهذه مائة أعدت للمجاهدين, وقال صلى الله عليه وسلم: ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا, فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها)) وهذا يدل على أن درج الجنة لا حصر لها.
والجنات على كثرتها وعدم إحصائها إلا أنها ترجع إلى نوعين: جنتان ذهبيتان بكل ما اشتملتا عليه, وهما المخصوصتان بالمقربين، وجنتان فضيتان بكل ما اشتملتا عليه وهما لأصحاب اليمين قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} إلى أن قال: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [ الرحمن: 46 -62].
قال صلى الله عليه وسلم: ((جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما)) .
والمؤمنون متفاضلون بتفاضل درجاتها، وأعلاهم وأكملهم درجة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، كما في الحديث المذكور قريباً، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)) .
أي: نعم هي منازل الأنبياء بإيجاب الله تعالى لهم ذلك, ولكن قد يتفضل الله تعالى على غيرهم بالوصول إلى تلك الدرجة .
وأفضل الأنبياء درجة محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول. ثم صلوا عليّ. فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً. ثم سلوا الله لي الوسيلة. فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله. وأرجو أن أكون أنا هو)) .
فهذه منزلة في الجنة خاصة به صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم أول من يقرع باب الجنة فقد قال: ((أنا أول من يقرع باب الجنة))
فيكون أول من يفتح له، قال صلى الله عليه وسلم: ((آتي باب الجنة يوم القيامة. فأستفتح. فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد. فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك)) .
ثم يتفاضل المؤمنون بعد الأنبياء في الجنات، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة)) . ولعل المراد بأول زمرة السبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الأحاديث المذكورة فيهم أنهم يتقدمون الأمة, وأن من صفاتهم أنهم زمرة واحدة على صورة القمر. وأقل أهل الجنة منزلة المخرجون من النار بعد العقوبة، قال صلى الله عليه وسلم: ((يخرج قوم من النار بعد ما مسهم منها سفع, فيدخلون الجنة، فيسميهم أهل الجنة: الجهنميين)) . وهؤلاء يتفاضلون في خروجهم من النار، يخرج بعضهم قبل بعض على منازلهم في الإيمان كما في حديث الرؤية الطويل الذي فيه ((أن المجاوزين الصراط إذا رأوا أنهم قد نجو وبقي إخوانهم يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا)) .
وآخر أهل النار خروجاً منها ما جاء فيه: ((إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها، وآخر أهل الجنة دخولاً، رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا ربي وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها)) وجاء في آخر الرواية: ((فكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة)) .
وهذا هو أدنى أهل الجنة منزلة كما في حديث: ((سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة. فيقول: أي رب, كيف وقد نزل الناس منازلهم, وأخذوا أخذتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك ومثله, ومثله, ومثله, ومثله. فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله. ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك. فيقول: رضيت رب، قال: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت, غرست كرامتهم بيدي, وختمت عليها. فلم تر عين, ولم تسمع أذن, ولم يخطر على قلب بشر. قال ومصداقه في كتاب الله عز وجل: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [ السجدة: 17])) .
وحظ الرجال من الجنة أعظم من حظ النساء ففي الحديث: ((أريت النار فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع, ورأيت أكثر أهلها النساء)) .
وقال صلى الله عليه وسلم للنساء: ((تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم)) .
وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل أهل الجنة, فهم أول من يدخل الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: ((نحن الآخرون الأولون يوم القيامة. ونحن أول من يدخل الجنة)) . وهم أكثر أهل الجنة, إذ هم نصف أهل الجنة. ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟. قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قالوا: نعم، فقال: ((والذي نفس محمد بيده، إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر)) .
المطلب الخامس: تربة الجنة
أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((قلنا: يا رسول الله إذا رأيناك رقت قلوبنا، وكنا من أهل الآخرة، وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا، وشممنا النساء والأولاد قال: لو تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم. قال: قلنا: يا رسول الله, حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: لبنة ذهب، ولبنة فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران, من يدخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه, ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم تحمل على الغمام، وتفتح لها أبواب السموات، ويقول الرب: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)) .
قوله: ((وملاطها المسك)) قال في النهاية: (الملاط الطين الذي يجعل بين ساقي البناء يملط به الحائط أي: يخلط. ...
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو ذر رضي الله عنه يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك)) وهو قطعة من حديث المعراج. قوله: ((جنابذ اللؤلؤ)) بالجيم والنون المفتوحين، ثم ألف، ثم ذال معجمة القباب, وفي (مشارق الأنوار) للقاضي عياض ما نصه: وفي الحديث: ((وإذا فيها جنابذ اللؤلؤ)) كذا في كتاب مسلم، وفي البخاري في كتاب الأنبياء من رواية غير المروزي فسروه بالقباب, واحدتها جنبذة بالضم، والجنبذة ما ارتفع من البناء وجاء في البخاري في الصلاة ((حبائل اللؤلؤ)), وزعم قوم أنه تصحيف من جنابذ وقال: في حرف الجاء مع الباء ((فيها حبائل اللؤلؤ)) كذا لجميعهم في البخاري وفي مسلم ((جنابذ اللؤلؤ)) وهو الصواب وقد جاء في حديث آخر ((حافاته قباب اللؤلؤ)) والجنابذ جمع جنبذة وهي القبة وقال من ذهب إلى صحة الرواية: إن الحبائل القلائد العقود، أو يكون من حبال الرمل أي: فيها اللؤلؤ كحبال الرمل أي: وهو ما طال منه وضخم، قال: أو من الحبلة وهو ضرب من الحلي معروف.
قال ابن قرقول في (استدراكاته) على القاضي عياض: وهذا كله تخييل ضعيف، بل هو لا شك تصحيف من الكاتب، والحبائل إنما تكون جمع حبالة، أو حبيلة. انتهى.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ابن صياد عن تربة الجنة فقال: درمكة بيضاء مسك خالص، فقال صلى الله عليه وسلم: صدق)) .
قال سفيان بن عيينة، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر رضي الله عنه قال: ((جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد قد غلب أصحابك. قال: وبأي شيء غلبوا؟ قال: سألهم اليهود: كم عدد خزنة النار؟ فقالوا: لا ندري حتى نسأل نبينا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون فقالوا: حتى نسأل نبينا، ولكن هم أعداء الله سألوا نبيهم أن يريهم الله جهرة، علي بأعداء الله فإني سائلهم عن تربة الجنة، وإنها درمكة. فلما أن جاءوا قالوا: يا أبا القاسم، كم عدة خزنة أهل النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه كلتيهما: هكذا وهكذا وقبض واحدة أي: تسعة عشر فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تربة الجنة؟ فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: خبزة يا أبا القاسم فقال صلى الله عليه وسلم: الخبزة من الدرمك)) .
فحصل من هذه الأحاديث ثلاث صفات في تربتها: قيل: زعفران، أو مسك، أو خبزة.
قال في (حادي الأرواح): لا تعارض بينها لإمكان الجمع قال: ذهبت طائفة من السلف إلى أن تربتها متضمنة للنوعين: المسك، والزعفران. قال: ويحتمل معنين آخرين أحدهما: أن يكون التراب من: زعفران فإذا عجن بالماء صار مسكاً، والطين يسمى تراباً ويدل على هذا قوله (ملاطها المسك) والملاط الطين. وفي بعض الروايات: ((ترابها الزعفران وطينها المسك)) فلما كانت تربتها طيبة وماؤها طيب وانضم أحدهما إلى الآخر حدث لهما طيب آخر فصار مسكاً.
الثاني: أن يكون زعفراناً باعتبار لونه، مسكاً باعتبار رائحته، وهذا من أحسن شيء يكون البهجة والإشراق لون الزعفران ورائحة المسك. قال: وكذلك تشبيهها بالدرمك، وهو الخبز الصافي الذي يضرب لونه إلى صفرة مع لينها ونعومتها، قال: وهذا معنى ما ذكره سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أرض الجنة من فضة، وترابها مسك، فاللون في البياض لون الفضة، والرائحة رائحة المسك) .
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أرض الجنة بيضاء عرصتها صخور الكافور، وقد أحاط به المسك مثل كثبات الرمل، فيها أنهار مطردة، فيجتمع فيها أهل الجنة أدناهم وآخرهم فيتعارفون، فيبعث الله ريح الرحمة، فتهيج عليهم ريح المسك)) الحديث .
وأخرج أبو الشيخ عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قلت ليلة أسري بي: يا جبريل إنهم سيسألوني عن الجنة؟ قال: فأخبرهم: أنها من درة بيضاء، وأن أرضها عقيان)) .
قال في (حادي الأرواح): (العقيان من الذهب فإن كان (ابن علاثة حفظه) فهي أرض الجنتين الذهبيتين، ويكون جبريل أخبره بأعلى الجنتين والله أعلم) .
المطلب السادس: أنهار الجنة
أخبرنا الله تبارك وتعالى بأن الجنة تجري من تحتها الأنهار،{وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَناتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25]وأحيانا يقول: تجري تحتهم الأنهار: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَناتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [ الكهف:31]. وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن أنهار الجنة حديثا واضحاً بينا، ففي إسرائه صلوات الله وسلامه عليه: ((رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان، فقلت: يا جبريل، ما هذه الأنهار؟ قال: أما النهران الباطنان: فنهران في الجنة وأما الظاهران: فالنيل والفرات))
وفي (صحيح البخاري) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رفعت لي السدرة، فإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان، فأما الظاهران: فالنيل والفرات، وأما الباطنان: فنهران في الجنة)).
وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة)). (ولعل المراد من كون هذه الأنهار من الجنة أن أصلها منها كما أن أصل الإنسان من الجنة، فلا ينافي الحديث ما هو معلوم مشاهد من أن هذه الأنهار تنبع من منابعها المعروفة في الأرض، فإذا لم يكن هذا هو المعنى أو ما يشبهه، فالحديث من أمور الغيب التي يجب الإيمان بها، والتسليم للمخبر عنها).
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وقال القاري: " إنما جعل الأنهار الأربعة من أنهار الجنة، لما فيها من العذوبة والهضم، ولتضمنها البركة الإلهية، وتشرفها بورود الأنبياء إليها وشربهم منها ". ومن أنهار الجنة الكوثر الذي أعطاه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [ الكوثر:1]، وقد رآه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحدثنا عنه، ففي (صحيح البخاري) عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بينما أنا أسير في الجنة، إذ أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طيبه- أو طينه – مسك أذفر)) شك هُدْبة. وقد فسر ابن عباس الكوثر بالخير الكثير الذي أعطاه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو بشر لسعيد بن جبير راوي هذا التفسير عن ابن عباس: إن أناساً يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه وقد جمع الحافظ بن كثير الأحاديث التي أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها عن الكوثر، فمن هذه الأحاديث ما رواه مسلم في (صحيحه) عن أنس، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين أنزلت عليه {إِنا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [ الكوثر:1] قال: ((أتدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هو نهر وعدنيه الله عز وجل، عليه خير كثير)). وساق حديث أنس عند أحمد في (مسنده) عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أعطيت الكوثر، فإذا نهر يجري على ظهر الأرض، حافتاه قباب اللؤلؤ، ليس مسقوفاً، فضربت بيدي إلى تربته، فإذا تربته مسك أذفر، وحصباؤه اللؤلؤ)). وفي رواية أخرى في (المسند) عن أنس يرفعه: ((هو نهر أعطانيه الله في الجنة، ترابه مسك، ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، ترده طيور أعناقها مثل أعناق الجزور)). وقد ساق الحافظ ابن كثير روايات أخرى كثيرة في الموضوع فارجع إليه إن شئت المزيد.
وأنهار الجنة ليست ماء فحسب، بل منها الماء، ومنها اللبن، ومنها الخمر، ومنها العسل المصفى.
قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن ماء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} [ محمد:15]. وفي (سنن الترمذي) بإسناد صحيح عن حكيم بن معاوية (وهو جد بهز بن حكيم) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن في الجنة بحر العسل، وبحر الخمر، وبحر اللبن، وبحر الماء، ثم تنشق الأنهار بعد)) فأنهار الجنة تنشق من تلك البحار التي ذكرها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن نهر يسمى بارق يكون على باب الجنة، ويكون الشهداء في البرزخ عند هذا النهر، ففي (مسند أحمد)، و(معجم الطبراني)، و(مستدرك الحاكم) عن ابن عباس بإسناد حسن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً)).
المطلب السابع: عيون الجنة
في الجنة عيون كثيرة مختلفة الطعوم والمشارب {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَناتٍ وَعُيُونٍ} [ الحجر:45]، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات:41]، وقال في وصف الجنتين اللتين أعدهما لمن خاف ربه {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [ الرحمن:50]. وقال في وصف الجنتين اللتين دونهما {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضاخَتَانِ} [ الرحمن: 66].
وفي الجنة عينان يشرب المقربون ماءها صرفاً غير مخلوط، ويشرب منهما الأبرار الشراب مخلوطاً ممزوجاً بغيره.
العين الأولى: عين الكافور قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 5-6]. فقد أخبر أن الأبرار يشربون شرابهم ممزوجاً من عين الكافور، بينما عباد الله يشربونها خالصاً.
العين الثانية: عين التسنيم، قال تعالىٍ: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ }[المطففين:22-28].
ومن عيون الجنة عين تسمى السلسبيل، قال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} [الإنسان:17-18]. ولعل هذه هي العين الأولى نفسها
المطلب الثامن: قصور الجنة وخيامها
يبني الله لأهل الجنة في الجنة مساكن طيبة حسنة كما قال تعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَناتِ عَدْنٍ} [التوبة:72]. وقد سمى الله في مواضع من كتابه هذه المساكن بالغرفات، قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:37]، وقال في جزاء عباد الرحمن: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} [الفرقان:75]، وقال تعالى واصفاً هذه الغرفات: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر:20]. قال ابن كثير: أخبر عز وجل عن عباده السعداء أن لهم غرفاً في الجنة وهي القصور أي الشاهقة، {مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ} [الزمر: 20]، طباق فوق طباق مبنيات محكمات مزخرفات عاليات.
وقد وصف لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه القصور، ففي الحديث الذي يرويه أحمد في (مسنده) وابن حبان في (صحيحه) عن أبي مالك الأشعري والترمذي عن عليٍّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام)) وقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أن في الجنة خياماً، قال تعالى: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [ الرحمن:72]. وهذه الخيام خيام عجيبة، فهي من لؤلؤ، بل هي من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها في السماء ستون ميلاً، وفي بعض الروايات عرضها ستون ميلاً ففي (صحيح البخاري) عن عبدالله بن قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ثلاثون ميلاً، في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون))، قال أبو عبد الصمد والحارث عن أبي عمران:((ستون ميلاً))
ورواه مسلم عن عبدالله بن قيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلاً ٍ،للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضاً)).
وفي رواية عند مسلم: ((في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل، ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن)) وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن صفات قصور بعض أزواجه وبعض أصحابه، ففي (صحيحي البخاري ومسلم) عن أبي هريرة، قال: أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:((يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام وطعام، فإذا أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)) وفي (صحيح البخاري) ومسلم عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة وسمعت خشفة، فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصراً بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك، فقال عمر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله: أعليك أغار؟)) وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالطريق الذي يحصل به المؤمن على مزيد من البيوت في الجنة، فالذي يبني لله مسجداً يبني الله له بيتاً في الجنة، ففي (مسند أحمد) عن ابن عباس بإسناد صحيح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من بني لله مسجداً، ولو كمفحص قطاة لبيضها بني الله له بيتاً في الجنة)). وفي (مسند أحمد) و(صحيحي البخاري ومسلم) و(سنن الترمذي) و(سنن ابن ماجه) عن عثمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من بني مسجداً، يبتغي به وجه الله، بني الله له مثله في الجنة)). وفي (صحيح مسلم) و(مسند أحمد) و(سنن أبي داود)، و(سنن النسائي)، و(سنن ابن ماجه) عن أم حبيبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صلى في اليوم والليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعاً، بني الله له بيتاً في الجنة))
المطلب التاسع: الثامن: عيم الجنةنور الجنة
قال القرطبي: (قال العلماء: ليس في الجنة ليل ونهار، وإنما هم في نور دائم أبداً، وإنما يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب، ذكره أبو الفرج بن الجوزي. قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} [مريم:62-63] " أي في مثل وقت البكرات ووقت العشيات، لا أن هناك ليلاً ونهاراً، ولكنهم في ٍأوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار). ويقول ابن تيمية في هذا الموضوع: (والجنة ليس فيها شمس ولا قمر، ولا ليل ولا نهار، لكن تعرف البكرة والعشية بنور يظهر من قِبل العرش).
المطلب العاشر: ريح الجنة
أما ريحها فأخرج الطبراني عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل قتيلاً من أهل الذمة لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد في مسيرة مائة عام)) . وأخرجه البخاري في صحيحه بلفظ: ((ليوجد من مسيرة أربعين عاماً)) .
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((ألا من قتل نفساً معاهداً له ذمة الله، وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً)) . قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قال في (حادي الأرواح): (قال محمد بن عبد الواحد: وإسناده عندي على شرط الصحيح) .
... وقد رواه الطبراني عنه مرفوعاً ((من قتل نفساً معاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنة، وإن ريح الجنة يوجد من مسيرة مائة عام)) وأخرج عن أبي بكرة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ريح الجنة يوجد من مسيرة مائة عام)) .
قال في (حادي الأرواح): (وهذه الألفاظ لا تعارض بينها بوجه، وقد أخرجا في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: ((لم يشهد عمي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا قال: فشق عليه قال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه, فإن أراني الله مشهداً فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع قال: فهاب أن يقول غيرها. قال: فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد قال: فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أين؟ فقال: واها لريح الجنة أجده دون أحد قال: فقاتلهم حتى قتل قال: فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة، وطعنة، ورمية فقالت أخته: عمتي الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه، ونزلت هذه الآية {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه، وفي أصحابه)) .
قال في (حادي الأرواح) : (وريح الجنة نوعان: ريح يوجد في الدنيا تشمه الأرواح أحياناً لا يدركه العباد، وريح يدرك بحاسة الشم للأبدان كما تشم روائح الأزهار، وغيرها، وهذا يشترك أهل الجنة في إدراكه في الآخرة من قرب وبعد، وأما في الدنيا فقد يدركه من شاء الله من أنبيائه، ورسله، وهذا الذي وجده أنس بن النضر رضي الله عنه يجوز أن يكون من هذا، وأن يكون من الأول). انتهى.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
... الظاهر أنه من الثاني؛ لأنه قوله: (لريح الجنة أجده دون أحد، يشير إلى هذا)، فتأمل.
وأخرج (أبو نعيم) عن أبي هريرة مرفوعاً: ((رائحة الجنة توجد من مسيرة خمسمائة عام)) .
وأخرج الطبراني عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام والله لا يجدها عاق، ولا قاطع رحم، ولا شيخ زان، ولا جار إزاره خيلاء)) .
وأخرج أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: ((من ادعى إلى غير أبيه لم يرح رائحة الجنة, وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام)) .
أخرج الطبراني، وأبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً قال: ((تراح رائحة الجنة من مسيرة خمسمائة عام، ولا يجد ريحها منان بعمله، ولا عاق، ولا مدمن خمر)) .
وأخرج أبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وصححه عن أبي هريرة مرفوعاً: ((من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) .
... والجمع بين هذه الأحاديث أنه يختلف ذلك باختلاف الشام، وهذا الذي أومأ إليه المحقق في (حادي الأرواح) حيث قال: (وهذه الألفاظ لا تعارض بينها والله الموفق).
قال في (حادي الأرواح) : (وأشهد الله سبحانه عباده في هذه الدار آثاراً من آثار الجنة، وأنموذجاً منها من الرائحة الطيبة، واللذات المشتهاه، والمناظر البهية، والفاكهة الحسنة، والنعيم والسرور، وقرة العين).
وأخرج أبو نعيم عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: ((يقول الله عز وجل للجنة: طيبي لأهلك فتزداد طيباً. فذلك البرد الذي يجده الناس بالسحر من ذلك)) ، كما جعل سبحانه نار الدنيا وآلامها وأحزانها مذكرة بنار الآخرة قال تعالى في هذه النار: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا} [الواقعة: 73].
وأخبر الصادق صلى الله عليه وسلم أن: ((شدة الحر والبرد من أنفاس جهنم)) . فلابد أن يشهد عباده أنفاس جنته، وما يذكرهم بها، والله المستعان.
المطلب الحادي عشر: أشجار الجنة وثمارها
الفرع الأول: كثرة أشجار الجنة وثمارها
أشجار الجنة كثيرة طيبة متنوعة، وقد أخبرنا الحق أن في الجنة أشجار العنب والنخل والرمان، كما فيها أشجار السدر والطلح، {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ:31-32]، {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمانٌ} [ الرحمن:68]، {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَاء مَّسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} [الواقعة:27-32]، والسدر هو شجر النبق الشائك، ولكنه في الجنة مخضود شوكه، أي منزوع. والطلح: شجر من شجر الحجاز من نوع العضاه فيه شوك، ولكنه في الجنة منضود معد للتناول بلا كد ولا مشقة.
وهذا الذي ذكره القرآن من أشجار الجنان شيء قليل مما تحويه تلك الجنان، ولذا قال الحق: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] ولكثرتها فإن أهلها يدعون منها بما يريدون، ويتخيرون منها ما يشتهون {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} [ص:51] {وَفَاكِهَةٍ مِّما يَتَخَيَّرُونَ} [ الواقعة:20] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِما يَشْتَهُونَ }[ المرسلات:41-42]، وبالجملة فإن في الجنة من أنواع الثمار والنعيم كل ما تشتهيه النفوس وتلذه العيون {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71].
وقال ابن كثير كلاماً لطيفاً دلل فيه على عظيم ثمار الجنة، إذ استنتج أن الله نبه بالقليل على الكثير، والهين على العظيم عندما ذكر السدر والطلح، قال: (وإذا كان السدر الذي في الدنيا لا يثمر إلا ثمرة ضعيفة وهو النبق، وشوكه كثير، والطلح الذي لا يراد منه في الدنيا إلا الظل، يكونان في الجنة في غاية من كثرة الثمار وحسنها، حتى إن الثمرة الواحدة منها تتفتق عن سبعين نوعاً من الطعوم، والألوان، التي يشبه بعضها بعضاً، فما ظنك بثمار الأشجار، التي تكون في الدنيا حسنة الثمار، كالتفاح، والنخل، والعنب، وغير ذلك؟ وما ظنك بأنواع الرياحين، والأزاهير؟ وبالجملة فإن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل الله منها من فضله).
وأشجار الجنة دائمة العطاء،فهي ليست كأشجار الدنيا تعطي في وقت دون وقت، وفصل دون فصل، بل هي دائمة الإثمار والظلال {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النارُ} [ الرعد: 35] {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:32-33] أي دائمة مستمرة، وهي مع دوامها لا يمنع عنها أهل الجنة. ومن لطائف ما يجده أهل الجنة عندما تأتيهم ثمارها أنهم يجدونها تتشابه في المظهر، ولكنها تختلف في المخبر، {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [ البقرة:25].
وأشجار الجنة ذات فروع وأغصان باسقة نامية {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [ الرحمن:46-48]، وهي شديدة الخضرة: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا مُدْهَامَّتَانِ} [ الرحمن:62-64]، ولا توصف الجنة بأنها مدهامة إلا إذا كانت أشجارها مائلة إلى السواد من شدة خضرتها، واشتباك أشجارها. أما ثمار تلك الأشجار فإنها قريبة دانية مذللة ينالها أهل الجنة بيسر وسهولة، {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54]، {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان:14]. أما ظلها فكما قال تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} [النساء:57]، و {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة:30]، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات:41
الفرع الثاني: وصف بعض شجر الجنة
حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن بعض شجر الجنة حديثاً عجباً ينبيك عن خلق بديع هائل يسبح الخيال في تقديره والتعرف عليه طويلاً، ونحن نسوق لك بعض ما حدثنا به الرسول صلى الله عليه وسلم.
- الشجرة التي يسير الراكب في ظلها مائة عام
هذه شجرة هائلة لا يقدر قدرها إلا الذي خلقها، وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - عظم هذه الشجرة بأن أخبر أن الراكب لفرس من الخيل التي تعد للسباق يحتاج إلى مائة عام حتى يقطعها إذا سار بأقصى ما يمكنه، ففي (الصحيحين) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ((إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام وما يقطعها))
وفي (صحيح البخاري) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة، واقرؤوا إن شئتم: (وظل ممدود) [الواقعة:30])).
ورواه مسلم عن أبي هريرة وسهل بن سعد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال:((إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها))
- سدرة المنتهى
وهذه الشجرة ذكرها الحق في محكم التنزيل، وأخبر الحق أن رسولنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها عندها، وأن هذه الشجرة عند جنة المأوى، كما أعلمنا أنه قد غشيها ما غشيها مما لا يعلمه إلا الله عندما رآها الرسول - صلى الله عليه وسلم -:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:13-17].
وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الشجرة بشيء مما رآه: ((ثم رفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. قال: (أي جبريل) هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار،نهران باطنان، ونهران ظاهران، قلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات)). رواه البخاري ومسلم. وفي (الصحيحين) أيضاً: ((ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، ونبقها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة، تكاد الورقة تغطي هذه الأمة، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك)). .
- شجرة طوبى
وهذه شجرة عظيمة كبيرة تصنع ثياب أهل الجنة، ففي (مسند أحمد)، و(تفسير ابن جرير)، و(صحيح ابن حبان) عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((طوبى شجرة في الجنة، مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها)) وقد دل على أن ثياب أهل الجنة تشقق عنها ثمار الجنة – الحديث الذي يرويه أحمد في (مسنده) عن عبدالله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أخبرنا عن ثياب أهل الجنة خلقاً تخلق، أمن نسجاً تنسج؟ فضحك بعض القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ومم تضحكون، من جاهل سأل عالماً؟ ثم أكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: أين السائل؟ قال: هو ذا أنا يا رسول الله، قال: لا بل تشقق عنها ثمر الجنة، ثلاث مرات)).
- سيد ريحان الجنة
أخبرنا الله أن في الجنة ريحاناً {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [ الواقعة: 88-89]، وأخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن سيد ريحان أهل الجنة الحناء، ففي (معجم الطبراني الكبير) بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن عبدالله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سيد ريحان الجنة الحناء))
- سيقان أشجار الجنة من ذهب
ومن عجب ما أخبرنا به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن سيقان أشجار الجنة من ذهب، ففي (سنن الترمذي)، و(صحيح ابن حبان)، و(سنن البيهقي)، بإسناد صحيح، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب))
- كيف يكثر المؤمن حظه من أشجار الجنة ؟
طلب خليل الرحمن أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام من نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في ليلة الإسراء أن يبلغ أمته السلام وأن يخبرهم بالطريقة التي يستطيعون بها تكثير حظهم من أشجار الجنة، فقد روى الترمذي بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك أن الجنة أرض طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر))
المطلب الثاني عشر: دواب الجنة وطيورها
في الجنة من الطيور والدواب مالا يعلمه إلا الله تعالى، قال تعالى فيما يناله أهل الجنة من النعيم {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّما يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 21-22]، وفي (سنن الترمذي) عن أنس قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما الكوثر؟ قال: ((ذاك نهر أعطانيه الله – يعني في الجنة – أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق الجزر)). قال عمر: إن هذه لناعمة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((أكلتها أنعم منها)). وأخرج أبو نعيم في (الحلية)، والحاكم في (مستدركه) عن ابن مسعود قال: ((جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: يا رسول الله هذه الناقة في سبيل الله. فقال: لك بها سبعمائة ناقة مخطومة في الجنة)). . ورواه مسلم في (صحيحه) عن أبي مسعود الأنصاري، قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة)).
المبحث الخامس: أصحاب الجنة
المطلب الأول: بعض الأعمال التي استحقوا بها الجنة
أصحاب الجنة هم المؤمنون الموحدون، فكل من أشرك بالله أو كفر به، أو كذب بأصل من أصول الإيمان فإنه يحرم من الجنان، ويكون في النيران.
والقرآن يذكر كثيراً أن أصحاب الجنة هم المؤمنون الذين يعملون الصالحات، وفي بعض الأحيان يفصل الأعمال الصالحة التي يستحق بها صاحبها الجنة. ومن المواضع التي نص القرآن على استحقاق أهل الجنة الجنة بالإيمان والأعمال الصالحة قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَناتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25]. وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَناتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} [النساء: 57]، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 42]، وقوله: {وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَناتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَناتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [ التوبة: 72]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَناتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 9-10]. وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَناتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 31]. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَناتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى} [طه: 75-86]. وفي بعض الأحيان يذكر أنهم استحقوا الجنة لتحقيقهم أمراً من أمور الإيمان أو عملاً صالحاً، وقد يفصل في الأعمال الصالحة، ويطيل في ذلك. ففي بعض الأحيان يذكر أنهم استحقوا الجنة بالإيمان والإسلام {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:68-70]. وأحياناً يذكر أنهم استحقوها لأنهم أخلصوا دينهم لله: {إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ فِي جَناتِ النَّعِيمِ} [ الصافات: 40-43]. وأحياناً يذكر استحقاقهم لها لقوة ارتباطهم بالله ورغبتهم إليه وعبادتهم له {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِما رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 15-18]. ومن الأعمال الصبر والتوكل:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [ العنكبوت: 58-59]. ومنها الاستقامة على الإيمان:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [ الأحقاف: 13-14]، ومنها الإخبات إلى الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [ هود: 23]، ومن ذلك الخوف من الله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [ الرحمن: 46]. ومن ذلك بغض الكفرة المشركين، وعدم موادتهم {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَناتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [ المجادلة: 22]. وفي بعض الأحيان تفصل الآيات في ذكر الأعمال الصالحة التي يستحق بها أصحابها الجنة تفصيلاً كثيراً، فذكر في سورة الرعد أنهم استحقوها باعتقادهم أن ما أنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحق، وبوفائهم بالعهود، وعدم نقضهم الميثاق، ووصلهم ما أمر الله بوصله، وخشيتهم لله، وخوفهم من سوء الحساب، وصبرهم لله، وإقام الصلاة، والإنفاق سراً وعلانية، ودرئهم بالحسنة السيئة {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِما رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدار} [ الرعد: 19-24] وفي مطلع سورة المؤمنون حكم أن الفلاح إنما هو للمؤمنين، ثم بين الأعمال التي تؤهلهم للفلاح، وأعلمنا أن فلاحهم إنما يكون بإدخالهم الفردوس خالدين فيها أبداً. {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 – 11]. وقد حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ثلاثة أعمال عظيمة يستحق بها أصحابها الجنة، فقد روى مسلم في (صحيحه) عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبته: ((... وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال)).
المطلب الثاني: طريق الجنة شاق
الجنة درجة عالية، والصعود إلى العلياء يحتاج إلى جهد كبير، وطريق الجنة فيه مخالفة لأهواء النفوس ومحبوباتها، وهذا يحتاج إلى عزيمة ماضية، وإرادة قوية، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره)) ولمسلم حفت بدل حجبت وفي (سنن النسائي) و(الترمذي) و(أبي داود) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فحفها بالمكاره، فقال: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد)) وقد علق النووي في (شرحه على مسلم) على الحديث الأول قائلاً: هذا من بديع الكلام وفصيحه وجوامعه التي أوتيها - صلى الله عليه وسلم - من التمثيل الحسن، ومعناه لا يوصل الجنة إلا بارتكاب المكاره، والنار بالشهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات، فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادة، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ، والعفو، والحلم، والصدقة، والإحسان إلى المسيء، والصبر عن الشهوات، ونحو ذلك "
المطلب الثالث: أهل الجنة يرثون نصيب أهل النار في الجنة
جعل الله لكل واحد من بني آدم منزلين: منزلاً في الجنة، ومنزلاً في النار، ثم إن من كتب له الشقاوة من أهل الكفر والشرك يرثون منازل أهل الجنة التي كانت لهم في النار، والذين كتب لهم السعادة من أهل الجنة يرثون منازل أهل النار التي كانت لهم في الجنة، قال تعالى في حق المؤمنين المفلحين بعد أن ذكر أعمالهم التي تدخلهم الجنة: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10-11].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: " قال ابن أبي حاتم – وساق الإسناد إلى أبي هريرة رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:((ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإن مات فدخل النار وَرثَ أهل الجنة منزله، فذلك قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 10])) . وقال ابن جُرَيْج، عن لَيْث، عن مجاهد: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} قال: ((ما من عبد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فأما المؤمن فيبني بيته الذي في الجنة، ويهدم بيته الذي في النار)) . وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك، فالمؤمنون يرثون منازل الكفار، لأنهم خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له، فلما قام هؤلاء بما وجب عليهم من العبادة، وترك أولئك ما أمروا به مما خلقوا له، أحرز هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل، بل أبلغ من هذا أيضاً، وهو ما ثبت في (صحيح مسلم) عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يجيء ناس يوم القيامة من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى)) وفي لفظ له: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهودياً أو نصرانياً، فيقال: هذا فكاكك من النار)) . وهذا الحديث كقوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم:63] وقوله: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] فهم يرثون نصيب الكفار في الجنان.
المطلب الرابع: الضعفاء أكثر أهل الجنة
أكثر من يدخل الجنة الضعفاء الذين لا يأبه الناس لهم، ولكنهم عند الله عظماء، لإخباتهم لربهم، وتذللهم له، وقيامهم بحق العبودية لله، روى البخاري ومسلم عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بأهل الجنة؟ قالوا: بلى، قال: كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره)) . قال النووي في شرحه للحديث: ومعناه يستضعفه الناس، ويحتقرونه، ويتجبرون عليه، لضعف حاله في الدنيا، والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء... وليس المراد الاستيعاب وفي (الصحيحين) و(مسند أحمد) عن أسامة بن زيد، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء)). وفي (الصحيحين) عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اطلعت في الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء))
المطلب الخامس: هل الرجال أكثر في الجنة أم النساء ؟
تخاصم الرجال والنساء في هذا والصحابة أحياء، ففي (صحيح مسلم) عن ابن سيرين قال: اختصم الرجال والنساء: أيهم أكثر في الجنة؟ وفي رواية: إما تفاخروا، وإما تذاكروا: الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟ فسألوا أبا هريرة، فاحتج أبو هريرة على أن النساء في الجنة أكثر بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضوأ كوكب دري في السماء، لكل امرئٍ منهم زوجتان اثنتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب)). والحديث واضح الدلالة على أن النساء في الجنة أكثر من الرجال، وقد احتج بعضهم على أن الرجال أكثر بحديث: ((رأيتكن أكثر أهل النار)) . والجواب أنه لا يلزم من كونهن أكثر أهل النار أن يكن أقل ساكني الجنة كما يقول ابن حجر العسقلاني ، فيكون الجمع بين الحديثين أن النساء أكثر أهل النار وأكثر أهل الجنة، وبذلك يكن أكثر من الرجال وجوداً في الخلق. ويمكن أن يقال: إن حديث أبي هريرة يدل على أن نوع النساء في الجنة أكثر سواء كن من نساء الدنيا أو من الحور العين، والسؤال هو: أيهما أكثر في الجنة: رجال أهل الدنيا أم نساؤها؟ وقد وفق القرطبي بين النصين بأن النساء يكن أكثر أهل النار قبل الشفاعة وخروج عصاة الموحدين من النار، فإذا خرجوا منها بشفاعة الشافعين ورحمة أرحم الراحمين كن أكثر أهل الجنة.
ويدل على قلة النساء في الجنة ما رواه أحمد وأبو يعلى عن عمرو بن العاص قال: ((بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشعب إذ قال: انظروا هل ترون شيئا؟ فقلنا: نرى غرباناً فيها غراب أعصم، أحمر المنقار والرجلين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يدخل الجنة من النساء إلا من كان منهن مثل هذا الغراب في الغربان)).
قال في (حادي الأرواح) : فإن كن من نساء الدنيا فالنساء في الدنيا أكثر من الرجال، وإن كن من الحور العين لم يلزم أن يكن في الدنيا أكثر، والظاهر أنهن من الحور العين لما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً: ((للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين على كل واحدة سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء الثياب)) .
فإن قيل: كيف هذا مع حديث جابر المتفق عليه: ((شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد صلى قبل أن يخطب بغير أذان ولا إقامة، ثم خطب بعدما صلى فوعظ الناس وذكرهم، ثم أتى النساء فوعظهن ومعه بلال فذكرهن، وأمرهن بالصدقة قال: فجعلت المرأة تلقي خاتمها, وخرصها, والشيء كذلك, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فجمع ما هناك. قال: إن منكن في الجنة ليسير، فقالت امرأة: يا رسول الله لم؟ قال: إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير)) وفي الحديث الآخر: ((إن أقل ساكني الجنة النساء)) .
فالجواب كما في (حادي الأرواح): (إن هذا يدل على أنهن إنما كن في الجنة أكثر بالحور العين اللاتي خلقن في الجنة, وأقل ساكنيها باعتبار نساء الدنيا, فنساء الدنيا أقل أهل الجنة، وأكثر أهل النار) .
المطلب السادس: مقدار ما يدخل الجنة من هذه الأمة
يدخل من هذه الأمة الجنة جموع كثيرة الله أعلم بعددهم، ففي (صحيح البخاري) عن سعيد بن جبير قال: حدثني ابن عباس، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عرضت علي الأمم، فأخذ النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت فإذا سواد كثير، قلت: يا جبريل هؤلاء أمتي؟ قال: لا، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير، قال: هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفاً قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب)) والسواد الأول الذي ظنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمته هم بنو إسرائيل، كما في بعض الروايات في (الصحيح) ((فرجوت أن تكون أمتي فقيل: هذا موسى وقومه)). ولا شك أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أكثر من بني إسرائيل، ففي الحديث: ((فإذا سواد كثير)) قال ابن حجر في رواية سعيد بن منصور ((عظيم)) وزاد ((فقيل لي: انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر مثله))، وفي رواية ابن فضيل: ((فإذا سواد قد ملأ الأفق، فقيل لي: انظر هاهنا، وهاهنا في آفاق السماء)) وفي حديث ابن مسعود: ((فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال)) ، وفي لفظ لأحمد: ((فرأيت أمتي قد ملؤوا السهل والجبل، فأعجبني كثرتهم وهيئتهم، فقيل: أرضيت يا محمد؟ قلت: نعم يا رب)) وقد ورد في بعض الأحاديث أن مع كل ألف من السبعين ألفاً سبعين ألفاً، وثلاث حثيات من حثيات الله، ففي (مسند أحمد)، و(سنن الترمذي) و(ابن ماجه) عن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً لا حساب عليهم، ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفاً، وثلاث حثيات من حثيات ربي)) ، ولا شك أن الثلاث حثيات تدخل الجنة خلقاً كثيراً. وقد كان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يرجو أن تكون هذه الأمة نصف أهل الجنة، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذكر بعث النار، قال صلوات الله وسلامه عليه في آخره: ((والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة " فكبرنا. فقال: " أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة "، فكبرنا. فقال: " أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة " فكبرنا. قال: " ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود)) بل ورد في بعض الأحاديث أن هذه الأمة تبلغ ثلثي أهل الجنة، ففي (سنن الترمذي) بإسناد حسن، و(سنن الدارمي)، و(البعث والنشور) للبيهقي عن بريدة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم)) وفي (صحيح مسلم) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أول شفيع في الجنة لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء نبياً ما صدقه من أمته إلا رجل واحد)) والسر في كثرة من آمن من هذه الأمة أن معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكبرى كانت وحياً متلواً يخاطب العقول والقلوب، وهي معجزة باقية محفوظة إلى قيام الساعة، ففي (الصحيحين) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إلي، وأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة))
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وأخرج عبد الله ولد الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لما نزلت {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم ربع أهل الجنة، أنتم ثلث أهل الجنة، أنتم نصف أهل الجنة)) قال الطبراني: تفرد به ابن المبارك عن الثوري.
واعلم أنه لا تنافي بين هذه الروايات، وبين حديث الشطر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رجا أن يكونوا شطر أهل الجنة فأعطاه الله رجاءه، وزاده عليه شيئاً آخر قاله في (حادي الأرواح).
المطلب السابع: أعلى أهل الجنة منزلة
وأما أعلى أهل الجنة منزلة فهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 253] قال مجاهد وغيره: (منهم من كلم الله موسى، ورفع بعضهم درجات هو محمد صلى الله عليه وسلم)، وفي حديث الإسراء المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم لما جاوز موسى قال: ((رب لم أظن أن يرفع علي أحد)) ثم علا فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاوز سدرة المنتهى.
وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) .
وفي صحيح مسلم أيضاً عن المغيرة بن شعبة مرفوعاً: ((إن موسى عليه السلام سأل ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال: (يعني الله سبحانه وتعالى) رجل (أي: هو رجل) يجيء بعدما دخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة. فيقول: رب كيف وقد نزل الناس منازلهم, وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب. فيقول: لك ذلك، ومثله، ومثله، ومثله. فقال في الخامسة: رضيت رب. قال: رب فأعلاهم منزلة. قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر)) .
وأخرج الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى خيامه، وأزواجه، ونعمه، وخدمه، وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23])) . ولهذا الحديث طرق، وروي موقوفاً على ابن عمر، ومرفوعاً كما هنا والله سبحانه وتعالى أعلم.
المبحث السادس: سادة أهل الجنة من هذه الأمة
المطلب الأول: سيدا كهول أهل الجنة
روى جمع من الصحابة منهم علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك، وأبو جحيفة، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين)) ...
المطلب الثاني: سيدا شباب أهل الجنة
الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، ثبت ذلك من طرق كثيرة تبلغ درجة التواتر ... فقد رواه الترمذي والحاكم والطبراني وأحمد وغيرهم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)) . ورواه الترمذي وابن حبان وأحمد والطبراني وغيرهم عن حذيفة رضي الله عنه قال: ((أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصليت معه المغرب، ثم قام يصلي حتى العشاء، ثم خرج، فاتبعته، فقال: " عرض لي ملك استأذن ربه أن يسلم عليّ ويبشرني في أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة))
المطلب الثالث: سيدات نساء أهل الجنة
السيد الحق هو الذي يثني عليه ربه ويشهد له، والسيدة الفاضلة هي التي يرضى عنها ربها، ويتقبلها بقبول حسن، وأفضل النساء هن اللواتي يحزن جنات النعيم، ونساء أهل الجنة يتفاضلن، وسيدات نساء أهل الجنة: خديجة، وفاطمة، ومريم وآسية، ففي (مسند أحمد)، و(مشكل الآثار) للطحاوي، و(مستدرك الحاكم)، بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: ((خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأرض أربعة أخطط، ثم قال: تدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون)). ومريم وخديجة أفضل الأربع، ففي (صحيح البخاري) عن علي بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة)) ومريم هي سيدة النساء الأولى وأفضل النساء على الإطلاق، فقد روى الطبراني بإسناد صحيح على شرط مسلم عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ((سيدات نساء أهل الجنة بعد مريم ابنة عمران، فاطمة، وخديجة، وآسية امرأة فرعون)) . وكونها أفضل النساء على الإطلاق صرح به القرآن: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42]، وكيف لا تكون كذلك وقد صرح الحق بأنه تقبلها {بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [ آل عمران: 37].
وهؤلاء الأربع نماذج رائعة للنساء الكاملات الصالحات، فمريم ابنة عمران أثنى عليها ربها في قوله: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12]. وخديجة الصديقة التي آمنت بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من غير تردد، وثبتته، وواسته بنفسها ومالها، وقد بشرها ربها في حياتها بقصر في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، فقد روى البخاري في (صحيحه) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب)).
وآسية امرأة فرعون هان عليها ملك الدنيا ونعيمها، فكفرت بفرعون وألوهيته، فعذبها زوجها فصبرت حتى خرجت روحها إلى بارئها {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظالِمِينَ} [التحريم: 11]. وفاطمة الزهراء ابنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصابرة المحتسبة التقية الورعة فرع الشجرة الطاهرة، وتربية معلم البشرية.
المطلب الرابع: العشرة المبشرون بالجنة
نص الرسول - صلى الله عليه وسلم - نصاً صريحاً على أن عشرة من أصحابه من أهل الجنة، ففي (مسند أحمد)، و(سنن الترمذي) عن عبدالرحمن بن عوف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة)).وإسناده صحيح
وروى الحديث الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والضياء في المختارة عن سعيد بن زيد بلفظ فيه شيء من الاختلاف عن سابقه، ولفظه: ((عشرة في الجنة: النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة)) وإسناده صحيح. وتذكر لنا كتب السنة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يوماً جالساً على بئر أريس وأبو موسى الأشعري بواب له، فجاء أبو بكر الصديق فاستأذن، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ائذن له وبشره بالجنة ثم جاء عمر فقال: ائذن له، وبشره بالجنة ثم جاء عثمان، فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه)) وروى ابن عساكر بإسناد صحيح عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((القائم بعدي في الجنة، والذي يقوم بعده في الجنة، والثالث والرابع في الجنة)) . ومراده بالقائم بعده: الذي يلي الحكم بعد موته، وهؤلاء الأربعة هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعاً. وروى الترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها ((أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: " أنت عتيق من النار))
المطلب الخامس: بعض من نص على أنهم في الجنة غير من ذكر
1- 2 - جعفر بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب:
2- من الذين أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنهم في الجنة جعفر وحمزة، ففي (سنن الترمذي)، و(مسند أبي يعلى)، و(مستدرك الحاكم) وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رأيت جعفر بن أبي طالب ملكاً يطير في الجنة بجناحين))
3- وروى الطبراني، وابن عدي، والحاكم عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دخلت الجنة البارحة، فنظرت فيها، فإذا جعفر يطير مع الملائكة، وإذا حمزة متكئ على سرير)). وإسناده صحيح.
4- وقد صح أن الرسول قال: ((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب))
5- 3- عبدالله بن سلام:
6- روى أحمد والطبراني والحاكم بإسناد صحيح عن معاذ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عبدالله بن سلام عاشر عشرة في الجنة)) .
7- 4- زيد بن حارثة:
8- روى الروياني والضياء عن بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دخلت الجنة، فاستقبلتني جارية شابة، فقلت: لمن أنت؟ قالت: لزيد بن حارثة))
9- 5- زيد بن عمرو بن نفيل:
10- روى ابن عساكر بإسناد حسن عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دخلت الجنة، فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل درجتين))
11- وزيد هذا كان يدعو إلى التوحيد في الجاهلية، وكان على الحنيفية ملة إبراهيم.
12- 6- حارثة بن النعمان:
13- وروى الترمذي والحاكم عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دخلت الجنة، فسمعت فيها قراءة، فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان، كذلكم البر، كذلكم البر))
14- 7- بلال بن رباح:
15- روى الطبراني وابن عدي بإسناد صحيح عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دخلت الجنة، فسمعت خَشفة بين يدي، قلت: ما هذه الخشفة؟ فقيل: هذا بلال يمشي أمامك)).
16- وفي (المسند) بإسناد صحيح عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دخلت الجنة ليلة أسري بي، فسمعت من جانبها وجساً، فقلت: يا جبريل ما هذا؟ قال: بلال المؤذن)).
17- 8 – أبو الدحداح:
18- روى مسلم في (صحيحه) وأبو داود والترمذي وأحمد عن جابر بن سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كم من عذق معلق لأبي الدحداح في الجنة))
19- وأبو الدحداح هذا هو الذي تصدق ببستانه: بيرحاء، أفضل بساتين المدينة عندما سمع الله يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245].
20- 9- ورقة بن نوفل:
21- روى الحاكم بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تسبوا ورقة بن نوفل، فإني قد رأيت له جنة أو جنتين))
22- وورقة آمن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما جاءته خديجة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في أول مرة، وتمنى على الله أن يدرك ظهور أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لينصره.
المطلب السادس: الجنة ليست ثمناً للعمل
الجنة شيء عظيم، لا يمكن أن يناله المرء بأعماله التي عملها، وإنما تنال برحمة الله وفضله، روى مسلم في (صحيحه) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لن يدخل أحد منكم عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة)). وقد يشكل على هذا النصوص التي تشعر بأن الجنة ثمن للعمل، كقوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]، وقوله: {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]. ولا تعارض بين الآيات وما دل عليه الحديث، فإن الآيات تدل على أن الأعمال سبب لدخول الجنة، وليست ثمناً لها. والحديث نفى أن تكون الأعمال ثمناً للجنة. وقد ضل في هذا فرقتان: الجبرية التي استدلت بالحديث على أن الجزاء غير مرتب على الأعمال، لأنه لا صنع للعبد في عمله، والقدرية استدلوا بالآيات، وقالوا: إنها تدل على أن الجنة ثمن للعمل، وأن العبد مستحق دخول الجنة على ربه بعمله.
يقول شارح الطحاوية في هذه المسالة: (وأما ترتب الجزاء على الأعمال، فقد ضل فيه الجبرية والقدرية، وهدى الله أهل السنة، وله الحمد والمنة، فإن الباء التي في النفي غير الباء التي في الإثبات. فالمنفي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لن يدخل أحد منكم عمله الجنة)) – باء العوض، وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل إلى الجنة، كما زعمت المعتزلة أن العامل مستحق دخول الجنة على ربه بعمله، بل ذلك برحمه الله وفضله. والباء التي في قوله: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] وغيرها باء السبب، أي بسبب عملكم، والله تعالى هو خلق الأسباب والمسببات، فرجع الكل إلى محض فضل الله ورحمته).
المبحث السابع: صفة أهل الجنة ونعيمهم فيها
المطلب الأول: نعيم أهل الجنة
فضل نعيم الجنة على متاع الدنيا
متاع الدنيا واقع مشهود، ونعيم الجنة غيب موعود، والناس يتأثرون بما يرون ويشاهدون، ويثقل على قلوبهم ترك ما بين أيديهم إلى شيء ينالونه في الزمن الآتي، فكيف إذا كان الموعود ينال بعد الموت؟ من أجل ذلك قارن الحق تبارك وتعالى بين متاع الدنيا ونعيم الجنة، وبين أن نعيم الجنة خير من الدنيا وأفضل، وأطال في ذم الدنيا وبيان فضل الآخرة، وما ذلك إلا ليجتهد العباد في طلب الآخرة ونيل نعيمها. وتجد ذم الدنيا ومدح نعيم الآخرة، وتفضيل ما عند الله على متاع الدنيا القريب العاجل في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198]، وقوله: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [ طه: 131]. وقال في موضع ثالث: {زُيِّنَ لِلناسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَناتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد} [ آل عمران: 14-15]. ولو ذهبنا نبحث في سر أفضلية نعيم الآخرة على متاع الدنيا لوجدناه من وجوه متعددة:
أولاً: متاع الدنيا قليل، قال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى} [ النساء: 77].
وقد صور لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - قلة متاع الدنيا بالنسبة إلى نعيم الآخرة بمثال ضربه فقال: ((والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه – وأشار بالسبابة – في اليم، فلينظر بم ترجع)) . ما الذي تأخذه الإصبع إذا غمست في البحر الخضم، إنها لا تأخذ منه قطرة. هذا هو نسبة الدنيا إلى الآخرة. ولما كان متاع الدنيا قليلاً، فقد عاتب الله المؤثرين لمتاع الدنيا على نعيم الآخرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} [ التوبة: 38].
الثاني: هو أفضل من حيث النوع، فثياب أهل الجنة وطعامهم وشرابهم وحليهم وقصورهم – أفضل مما في الدنيا، بل لا وجه للمقارنة، فإن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ففي (صحيح البخاري) و(مسلم) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها)) . وفي الحديث الآخر الذي يرويه البخاري ومسلم أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير مما طلعت عليه الشمس)) . وقارن نساء أهل الجنة بنساء الدنيا لتعلم فضل ما في الجنة على ما في الدنيا، ففي (صحيح البخاري) عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها)) .
الثالث: الجنة خالية من شوائب الدنيا وكدرها، فطعام أهل الدنيا وشرابهم يلزم منه الغائط والبول، والروائح الكريهة، وإذا شرب المرء خمر الدنيا فقد عقله، ونساء الدنيا يحضن ويلدن، والمحيض أذى، والجنة خالية من ذلك كله، فأهلها لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يبصقون ولا يتفلون، وخمر الجنة كما وصفها خالقها {بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [ الصافات: 46-47] وماء الجنة لا يأسن، ولبنها لا يتغير طعمه {أَنْهَارٌ مِّن ماء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [ محمد: 15]، ونساء أهل الجنة مطهرات من الحيض والنفاس وكل قاذورات نساء الدنيا، كما قال تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [ البقرة: 25]. وقلوب أهل الجنة صافية، وأقوالهم طيبة، وأعمالهم صالحة، فلا تسمع في الجنة كلمة نابية تكدر الخاطر، وتعكر المزاج، وتستثير الأعصاب، فالجنة خالية من باطل الأقوال والأعمال، ({لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [ الطور: 23]، ولا يطرق المسامع إلا الكلمة الصادقة الطيبة السالمة من عيوب كلام أهل الدنيا {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذابًا} [ النبأ: 35]، {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا} [مريم: 62]، {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية: 11]، إنها دار الطهر والنقاء والصفاء الخالية من الأشواب والأكدار، إنها دار السلام والتسليم {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا إِلاَّ قِيلاً سَلامًا سَلامًا} [ الواقعة: 25-26]. ولذلك فإن أهل الجنة إذا خلصوا من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار، ثم يهذبون وينقون بأن يقتص لبعضهم من بعض، فيدخلون الجنة وقد صفت منهم القلوب، وزال ما في نفوسهم من تباغض وحسد ونحو ذلك مما كان في الدنيا، وفي (الصحيحين) في صفة أهل الجنة عند دخول الجنة ((لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً)) . وصدق الله إذ يقول: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [ الحجر: 47 ]. والغل: الحقد، وقد نقل عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب أن أهل الجنة عندما يدخلون الجنة يشربون من عين فيذهب الله ما في قلوبهم من غل، ويشربون من عين أخرى فتشرق ألوانهم وتصفو وجوههم. ولعلهم استفادوا هذا من قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [ الإنسان: 21]. الرابع: نعيم الدنيا زائل، ونعيم الآخرة باق دائم، ولذلك سمى الحق تبارك وتعالى ما زين للناس من زهرة الدنيا متاعاً، لأنه يتمتع به ثم يزول، أما نعيم الآخرة فهو باق، ليس له نفاد، {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]، {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} [ ص: 54]، {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} [ الرعد: 35]، وقد ضرب الله الأمثال لسرعة زوال الدنيا وانقضائها {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 45 – 46]. فقد ضرب الله مثلاً لسرعة زوال الدنيا وانقضائها بالماء النازل من السماء الذي يخالط نبات الأرض فيخضر ويزهر ويثمر، وما هي إلا فترة وجيزة حتى تزول بهجته، فيذوي ويصفر، ثم تعصف به الرياح في كل مكان، وكذلك زينة الدنيا من الشباب والمال والأبناء الحرث والزرع... كلها تتلاشى وتنقضي، فالشباب يذوي ويذهب، والصحة والعافية تبدل هرماً ومرضاً، والأموال والأولاد قد يذهبون، وقد ينتزع الإنسان من أهله وماله، أما الآخرة فلا رحيل، ولا فناء، ولا زوال {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [ النحل: 30-31].
الخامس: العمل لمتاع الدنيا ونسيان الآخرة يعقبه الحسرة والندامة ودخول النيران، {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].
المطلب الثاني: طعام أهل الجنة وشرابهم
وأما طعام أهل الجنة، وشرابهم ومصرفه فقد قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المرسلات: 41-42]. وقال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]. وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف: 72-73]. وقال: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} [الرعد: 35] وقال تعالى: {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 25-26].
وأخرج مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأكل أهل الجنة، ويشربون، ولا يتمخطون، ولا يتغوطون، ولا يبولون، طعامهم ذلك جشاء كريح المسك، يلهمون التسبيح والتكبير كما تلهمون النفس)) وفيه أيضاً عنه أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: فما بال الطعام؟ قال: ((جشاء ورشح كرشح المسك, يلهمون التسبيح والحمد))
قوله: فما بال الطعام؟ قال: ((جشاء)) كذا في جميع نسخ مسلم. قال الوقشي ولعله (فمال)؛ لأنه جاء في رواية الزبيدي (أن يهودياً) يعني حديث ابن أرقم الذي أخرجه الإمام أحمد: قال في (مشارق الأنوار) والبال: يأتي بمعنى الحال كقوله ما بال هذه؟ أي: ما حالها وشأنها؟ فمعناه: ما بال عقبا الطعام؟ وما شأن عقباه؟ وأخرج الإمام أحمد، والنسائي بإسناد صحيح عن زيد بن أرقم قال: ((جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون، قال: نعم. والذي نفس محمد بيده إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل، والشرب، والجماع، والشهوة. قال: فإن الذي يأكل، ويشرب يكون له حاجة، وليس في الجنة أذى، قال تكون حاجة أحدهم رشحاً يفيض من جلودهم كرشح المسك فيضمر بطنه)) . ورواه الحاكم في صحيحه بنحوه.
وفي (حادي الأرواح) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لتنظر إلى الطير في الجنة، فتشتهيه، فيخر بين يديك مشوياً)) .
وأخرج الحاكم عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن في الجنة طيراً مثل البخاتي، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنها لناعمة يا رسول الله قال: أنعم منها من يأكلها يا أبا بكر)).
وفي (حادي الأرواح) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} [الواقعة: 18] يقول: الخمر {لَا فِيهَا غَوْلٌ} ولا صداع، وفي قوله: {وَلَا يُنزِفُونَ} [الواقعة: 19] لا تذهب عقولهم، وفي قوله: {وَكَأْسًا دِهَاقًا} [النبأ: 34] ممتلئة، وفي قوله: {رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} [المطففين: 25] يقول: الخمر ختم بالمسك. وقال علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه: (ختامه مسك: قال: خلطه وليس بخاتم يختم). قال المحقق: (قلت يريد – والله أعلم – أن آخره مسك، فيخالطه، فهو من الخاتمة ليس من الخاتم). وعن مسروق: (الرحيق: الخمر، والمختوم: يجدون عاقبتها طعم المسك). وقال عبد الله في قوله تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} [المطففين: 27] قال: (يمزج لأصحاب اليمين ويشربها المقربون صرفاً) وكذلك قال ابن عباس: (يشرب منها المقربون صرفاً، وتمزج لمن دونهم). وقال عطاء: (التسنيم: اسم العين التي يمزج منها الخمر).
وقال في (حادي الأرواح) في قوله تعالى: {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} [الإنسان: 18](قال بعضهم إنها جملة مركبة من فعل وفاعل، وسلسبيلاً: منصوب على المفعول أي: سلسبيلاً إليها قال: وليس هذا بشيء، وإنما السلسبيل كلمة مفردة وهي اسم للعين نفسها باعتبار صفتها).
وقال قتادة في اشتقاقها: (سلسلة لهم يصرفونها حيث شاؤا)، وهو من الاشتقاق الأكبر. وقال مجاهد: (سلسلة السبيل حديدة الجرية).
وقال أبو العالية: (تسيل عليهم في الطرق، وفي منازلهم، وهذا من سلاستها، وحدة جريتها). وقال آخرون: معناها طيب الطعم والمذاق. وقال أبو إسحاق: سلسبيل: صفة لما كان في غاية السلاسة فسميت العين بذلك, وصوب ابن الأنباري أن سلسبيل صفة للماء وليس باسم العين، واحتج بأن سلسبيل مصروف، ولو كان اسماً للعين لمنع من الصرف، وأيضاً فإن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (معناه أنها تسيل في حلوقهم انسلال)
المطلب الثالث: خمر أهل الجنة
من الشراب الذي يتفضل الله على أهل الجنة الخمر، وخمر الجنة خالي من العيوب والآفات التي تتصف بها خمر الدنيا، فخمر الدنيا تذهب العقول، وتصدع الرؤوس، وتوجع البطون، وتمرض الأبدان، وتجلب الأسقام، وقد تكون معيبة في صنعها أو لونها أو غير ذلك، أما خمر الجنة فإنها خالية من ذلك كله، جميلة صافية رائقة، {يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [ الصافات: 45-47]. لقد وصف الله جمال لونها {بَيْضَاء} ثم بين أنها تلذ شاربها من غير اغتيال لعقله، كما قال: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشارِبِينَ} [محمد:18]، ثم إن شاربها لا يمل من شربها {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [ الصافات: 47]، وقال في موضع آخر يصف خمر الجنة:{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [ الواقعة: 17-19]. قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: (لا تصدع رؤوسهم، ولا تنزف عقولهم، بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة، وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول، فذكر الله خمر الجنة، ونزهها عن هذه الخصال). وقال الحق في موضع ثالث: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 25-26]، والرحيق الخمر، ووصف هذا الخمر بوصفين: الأول أنه مختوم، أي موضوع عليه خاتم. الأمر الثاني: أنهم إذا شربوه وجدوا في ختام شربهم له رائحة المسك.
المطلب الرابع: أول طعام أهل الجنة
أول طعام يُتحِف الله به أهل الجنة زيادة كبد الحوت، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة، يتكفؤها الجبار بيده، كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلاً لأهل الجنة " فأتى رجل من اليهود، فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم، ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: بلى قال: تكون الأرض خبزة واحدة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا، ثم ضحك حتى بدت نواجذه ثم قال: ألا أخبرك بإدامهم؟ قال إدامهم بالام ونون. قالوا: وما هذا؟ قال: ثور ونون، يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفاً)). قال النووي في شرح الحديث ما ملخصه: النزل: ما يعد للضيف عند نزوله، (ويتكفأها بيده)، أي: يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتستوي، لأنها ليست منبسطة كالرقاقة ونحوها، ومعنى الحديث: أن الله تعالى يجعل الأرض كالرغيف العظيم، ويكون طعاماً ونزلاً لأهل الجنة، والنون: الثور، والـ (بالام): لفظة عبرانية، معناها: ثور، وزائدة كبد الحوت: هي القطعة المنفردة المتعلقة في الكبد، وهي أطيبها. وفي (صحيح البخاري) أن عبدالله بن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم أول قدومه المدينة أسئلة منها: ((ما أول شيء يأكله أهل الجنة؟ فقال: زيادة كبد الحوت)). وفي (صحيح مسلم) عن ثوبان أن يهودياً سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد الحوت. قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي يأكل من أطرافها. قال: فما شرابهم عليه؟ قال: من عين تسمى سلسبيلا)) قال: صدقت
المطلب الخامس: طعام أهل الجنة وشرابهم لا دنس معه
قد يتبادر إلى الذهن أن الطعام والشراب في الجنة ينتج عنه ما ينتج عن طعام أهل الدنيا وشرابهم من البول والغائط والمخاط والبزاق ونحو ذلك، والأمر ليس كذلك، فالجنة دار خالصة من الأذى، وأهلها مطهرون من أوشاب أهل الدنيا، ففي الحديث الذي يرويه صاحبا (الصحيحين) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال نافياً هذا الظن: ((أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون فيها)) وليس هذا خاص بأول زمرة تدخل الجنة، وإنما هو عام في كل من يدخل الجنة، ففي رواية عند مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة، ثم هم بعد ذلك منازل، لا يتغوطون، ولا يتبولون، ولا يبزقون)). فالذي يتفاوت فيه أهل الجنة مما نص عليه في الحديث قوة نور كل منهم، أما خلوصهم من الأذى فإنهم يشتركون فيه جميعاً، فهم لا يتغوطون ولا يتبولون، ولا يتفلون، ولا يبزقون، ولا يمتخطون. وقد يقال: فأين تذهب فضلات الطعام والشراب، وقد وجه هذا السؤال إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل أصحابه، فأفاد أن بقايا الطعام والشراب تتحول إلى رشح كرشح المسك يفيض من أجسادهم، كما يتحول بعض منه أيضاً إلى جشاء، ولكنه جشاء تنبعث منه روائح طيبة عبقة عطرة، ففي (صحيح مسلم) عن جابر بن عبد الله، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول: ((إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون، ولا يتبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون"، قالوا: فما بال الطعام؟ قال: جشاء كجشاء المسك))
المطلب السادس: لماذا يأكل أهل الجنة ويشربون ويمتشطون ؟
إذا كان أهل الجنة فيها خالدون، وكانت خالية من الآلام والأوجاع والأمراض، لا جوع فيها ولا عطش، ولا قاذورات ولا أوساخ، فلماذا يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولماذا يتطيبون ويمتشطون ؟
أجاب القرطبي في التذكرة عن هذا السؤال قائلاً: (نعيم أهل الجنة وكسوتهم ليس عن دفع ألم اعتراهم، فليس أكلهم عن جوع، ولا شربهم عن ظمأ، ولا تطيبهم عن نتن، وإنما هي لذّات متوالية، ونعم متتابعة، ألا ترى قوله تعالى لآدم:{إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [ طه: 118-119]. وحكمة ذلك أن الله تعالى عرفهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا، وزادهم على ذلك ما لا يعلمه إلا الله عز وجل).
المطلب السابع: آنية طعام أهل الجنة وشرابهم
وأما آنيتهم فقال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف: 71] والصحاف جمع صحفة، وهي القصاع قاله الكلبي، وقال الليث: (الصحفة: قصعة مسلنطحة عريضة، والجمع: صحاف) ، والأكواب: جمع كوب هو المستدير الرأس الذي لا أذن له, ومرت الإشارة إليها.
وقال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} [الإنسان: 17-18] فالأباريق هي: الأكواب غير أن لها خراطيم, فإن لم يكن لها خراطيم، ولا عرى فهي أكواب، وأباريق الجنة من الفضة في صفاء القوارير يرى من ظاهرها ما في باطنها، والعرب تسمي السيف إبريقاً لبريق لونه.
قال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان: 15-16] فالقوارير: هو الزجاج، وشفافته، وهذا من أحسن الأشياء وأعجبها، وقطع توهم كون تلك القوارير من زجاج بقوله: {مِن فِضَّةٍ} [الإنسان: 15].
وأخرج البخاري، ومسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)) .
وأخرج أبو يعلى الموصلي عن أنس رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا فربما رأى الرجل الرؤيا فيسأل عنه إذا لم يكن يعرفه, فإذا أثني عليه معروفاً كان أعجب لرؤياه إليه، فأتته امرأة فقالت: يا رسول الله رأيت كأني أتيت فأخرجت من المدينة فأدخلت الجنة، فسمعت وجبة ارتجت لها الجنة، فنظرت فإذا فلان بن فلان، وفلان بن فلان فسمت اثني عشر رجلاً. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث سرية قبل ذلك, فجيء بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم فقيل: اذهبوا بهم إلى نهر البيدخ أو البيدي، فغمسوا فيه، فخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر، فأتوا بصحفة من ذهب فيها بسر، فأكلوا من بسره ما شاؤوا، فما يقلبونها من وجه إلا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا، وأكلت معهم)). فجاء البشير من تلك السرية فقال: أصيب فلان، وفلان حتى عدَّ اثني عشر رجلاً فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة فقال: ((قصي رؤياك)) قصتها وجعلت تقول: جيء بفلان وفلان كما قال)) . ورواه الإمام أحمد في مسنده بنحوه. قال في (حادي الأرواح) :(وإسناده على شرط مسلم).
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المطلب الثامن: لباس أهل الجنة وحليهم ومباخرهم
أهل الجنة يلبسون فيها الفاخر من اللباس، ويتزينون فيها بأنواع الحلي من الذهب والفضة واللؤلؤ، فمن لباسهم الحرير، ومن حلاهم أساور الذهب والفضة واللؤلؤ: قال تعالى: {وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [ الإنسان: 12]، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23]، {جَناتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر: 33]،{وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان:21]. وملابسهم ذات ألوان، ومن ألوان الثياب التي يلبسون الخضر من السندس والإستبرق {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 31]، {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [ الإنسان: 21]. ولباسهم أرقى من أي ثياب صنعها الإنسان، فقد روى البخاري في (صحيحه) عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: ((أتى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بثوب من حرير، فجعلوا يعجبون من حسنه ولينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أفضل من هذا)) وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن لأهل الجنة أمشاطاً من الذهب والفضة، وأنهم يتبخرون بعود الطيب، مع أن روائح المسك تفوح من أبدانهم الزاكية، ففي (صحيح البخاري) عن أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في صفة الذين يدخلون الجنة: ((آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ووقود مجامرهم الأَلُوَّة – قال أبو اليمان: عود الطيب – ورشحهم المسك)) ومن حليهم التيجان، ففي (سنن الترمذي) و(ابن ماجه) عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذكر الخصال التي يُعطاها الشهيد: ((ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها)) . وثياب أهل الجنة وحليهم لا تبلى ولا تفنى، ففي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه))
المطلب التاسع: فرش أهل الجنة
أعدت قصور الجنة، وأماكن الجلوس في حدائقها وبساتينها بألوان فاخرة رائعة من الفرش للجلوس والاتكاء ونحو ذلك، فالسرر كثيرة راقية والفرش عظيمة القدر بطائنها من الإستبرق، فما بالك بظاهرها، وهناك ترى النمارق مصفوفة على نحو يسر الخاطر، ويبهج النفس، والزرابي مبثوثة على شكل منسق متكامل، قال تعالى:{فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [ الغاشية: 13-16]، {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن: 54]، {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} [ الطور: 20]،{ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة: 13-16]. واتكاؤهم عليها على هذا النحو نوع من النعيم الذي يتمتع به أهل الجنة حين يجتمعون كما أخبر الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [ الحجر: 47] وقال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 76]، {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} [الكهف: 31]. والمراد بالنمارق: المخاد، والوسائد: المساند، والزرابي: البسط، والعبقري: البسط الجياد. والرفرف: رياض الجنة. وقيل: نوع من الثياب، والأرائك: السرر.
المطلب العاشر: خدم أهل الجنة
يخدم أهل الجنة ولدان ينشئهم الله لخدمتهم، يكونون في غاية الجمال والكمال، كما قال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} [الواقعة: 17-18]، وقال في موضع آخر: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا} [ الإنسان: 19]. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان أهل الجنة {مُّخَلَّدُونَ} أي: على حالة واحدة مخلدون عليها، لا يتغيرون عنها، لا تزيد أعمارهم عن تلك السن، ومن فسرهم بأنهم مخرصون، في آذانهم الأقرطة، فإنما عبر عن المعنى، لأن الصغير هو الذي يليق له ذلك دون الكبير. وقوله تعالى: {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا} [الإنسان: 19]، أي إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة وكثرتهم وصباحة وجوههم وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم، حسبتهم لؤلواً منثوراً، ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن). وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن هؤلاء الولدان هم الذين يموتون صغاراً من أبناء المؤمنين أو المشركين، وقد رد العلامة ابن تيمية رحمه الله تعالى هذا القول، وبين أن الولدان المخلدون هم خلق من خلق الجنة قال: (والولدان الذين يطوفون على أهل الجنة: خلق من خلق الجنة ليسوا من أبناء الدنيا، بل أبناء أهل الدنيا إذا دخلوا الجنة كمل خلقهم كأهل الجنة، على صورة أبيهم آدم).
المطلب الحادي عشر: سوق أهل الجنة
أخرج مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسناً وجمالاً, فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم حسناً وجمالاً.)) . الإمام أحمد في المسند، وقال: ((فيها كثبان المسك فإذا أخرجوا إليها هبت الريح)) .
وأخرج ابن أبي عاصم في كتاب (السنة) أن سعيد بن المسيب لقي أبا هريرة رضي الله عنه فقال أبو هريرة رضي الله عنه: أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة. فقال سعيد أوفيها سوق؟ قال: نعم. ((أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أهل الجنة إذا دخلوها بفضل أعمالهم فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الله تبارك وتعالى، فيبرز لهم عرشه، ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة، فيوضع لهم منابر من نور، ومنابر من مسك، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ياقوت، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ويجلس أدناهم (وما فيهم دني) على كثبان المسك والكافور ما يرون أن أصحاب الكرسي بأفضل منهم مجلساً.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: وهل نرى ربنا عز وجل؟ قال: نعم هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟ قلنا: لا. قال: فكذلك لا تمارون في رؤية ربكم، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله محاضرة حتى يقول: يا فلان ابن فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا. فيذكره ببعض غدراته في الدنيا فيقول: بلى أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى فبمغفرتي بلغت منزلتك هذه قال: فبيناهم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيباً لم يجدوا مثل ريحه شيئاً قط قال: ثم يقول ربنا تبارك وتعالى: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما شئتم. قال: فيأتون سوقاً قد حفت به الملائكة فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان، ولم يخطر على القلوب فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيه، ولا يشترى، وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضاً.
قال: فيقبل ذو البزة المرتفعة، فيلقى من هو دونه (وما فيهم دني) فيروعه ما يرى عليه من اللباس، والهيئة فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه، وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها. قال: ثم ننصرف إلى منازلنا: فيلقانا أزواجنا فيقلن: مرحباً وأهلاً لقد جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه. فيقول: إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار عز وجل وبحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا)) .
ورواه الترمذي في صفة الجنة، وابن ماجه.
المطلب الثاني عشر: زيارة أهل الجنة ربهم
ذكر الترمذي عن سعيد بن المسيب أنه لقى أبا هريرة فقال أبو هريرة: ((أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة, فقال سعيد أفيها سوق؟ قال: نعم، أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم, ثم يؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا, فيزورون ربهم, ويبرز لهم عرشه, ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة, فتوضع لهم منابر من نور, ومنابر من اللؤلؤ, ومنابر من ياقوت, ومنابر من زبرجد, ومنابر من ذهب, ومنابر من فضة, ويجلس أدناهم وما فيهم من دني على كثبان المسك والكافور, ما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلساً, قال أبو هريرة: قلت يا رسول الله وهل نرى ربنا؟ قال: نعم, هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟ قلنا: لا، قال: كذلك لا تتمارون في رؤية ربكم, ولا يبقى في ذلك المجلس رجل (إلا) حاضره الله محاضرة, حتى يقول للرجل فيهم: يا فلان بن فلان أتذكر يوم قلت كذا وكذا, فيذكره ببعض غدراته في الدنيا فيقول: يا رب أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى فبسعة مغفرتي بلغت بك منزلتك هذه. (فبينا) هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم, فأمطرت عليهم طيباً لم يجدوا مثل ريحه شيئاً قط, ويقول ربنا: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما (اشتهيتم), فنأتي سوقاً قد حفت به الملائكة, (فيه) ما لم تنظر العيون إلى مثله, ولم تسمع الآذان, ولم يخطر على القلوب, فيحمل لنا ما اشتهينا, ليس يباع فيها ولا يشترى, وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضاً قال: فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقى من هو دونه وما فيهم دني فيروعه ما يرى عليه من اللباس (فما) ينقضي آخر حديثه (حتى) يتخيل (عليه) ما هو أحسن منه, وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها, ثم ننصرف إلى منازلنا, فتتلقانا أزواجنا فيقلن: مرحباً وأهلاً لقد جئت وإن (لك) من الجمال أفضل مما فارقتنا عليه, فيقول: إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار جل جلاله (ويحق لنا) أن ننقلب ما انقلبنا)) .
541- وذكر الترمذي من حديث صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، قالوا: ألم يبيض وجوهنا؟ ألم ينجنا من النار؟! ألم يدخلنا الجنة؟! قالوا: بلى، فيكشف الحجاب, فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه)).
المطلب الثالث عشر: اجتماع أهل الجنة وأحاديثهم
أهل الجنة يزور بعضهم بعضاً، ويجتمعون في مجالس طيبة يتحدثون، ويذكرون ما كان منهم في الدنيا، وما من الله به عليهم من دخول الجنان، قال تعالى في وصف اجتماع أهل الجنة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [ الحجر: 47]، وأخبرنا الله بلون من ألوان الأحاديث التي يتحدثون بها في مجتمعاتهم {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنا كُنا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنا كُنا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيم} [ الطور: 25-27]. ومن ذلك تذكرهم أهل الشر الذين كانوا يشككون أهل الإيمان، ويدعونهم إلى الكفران،{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 50-61
المطلب الرابع عشر: أماني أهل الجنة
يتمنى بعض أهل الجنة فيها أماني تتحقق على نحو عجيب، لا تشبه حال ما يحدث في الدنيا، وقد حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن بعض هذه الأماني وكيفية تحققها.
فهذا واحد من أهل الجنة يستأذن ربه في الزرع، فيأذن له، فما يكاد يلقي البذر، حتى يضرب بجذوره في الأرض، ثم ينمو، ويكتمل، وينضج في نفس الوقت، ففي (صحيح البخاري) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتحدث – وعنده رجل من أهل البادية -: ((إن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟. قال: بلى، ولكن أحب الزرع، فبذر، فبادر الطرف نباته. واستواؤه، واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله تعالى: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء فقال الأعرابي: والله لا تجده إلا قرشياً أو أنصارياً، فإنهم أصحاب الزرع، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم –)).
وهذا آخر يتمنى الولد، فيحقق الله له أمنيته في ساعة واحدة، حيث تحمل وتضع في ساعة واحدة.
وروى الترمذي في (سننه)، وأحمد في (مسنده)، وابن حبان في (صحيحه) بإسناد صحيح عن أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة، كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة كما يشتهي))
المطلب الخامس عشر: نساء أهل الجنة
زوجة المؤمن في الدنيا زوجته في الآخرة إذا كانت مؤمنة
إذا دخل المؤمن الجنة، فإن كانت زوجته صالحة، فإنها تكون زوجته في الجنة أيضاً: {جَناتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّياتِهِمْ} [ الرعد: 23]، وهم في الجنات منعمون مع الأزواج، يتكئون في ظلال الجنة مسرورين فرحين {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ} [يس: 56]، {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 70].
المطلب السادس عشر: المرأة لآخر أزواجها
روى أبو علي الحراني في (تاريخ الرقة) عن ميمون بن مهران قال: خطب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أم الدرداء، فأبت أن تتزوجه، وقالت: سمعت أن أبا الدرداء يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((المرأة في آخر أزواجها، أو قال: لآخر أزواجها)) ورجال هذا الإسناد موثقون غير العباس بن صالح فليس له ترجمة، ورواه أبو الشيخ في (التاريخ) بإسناد صحيح مقتصراً منه على المرفوع، ورواه الطبراني في (معجمه الأوسط) بإسناد ضعيف، ولكنه بمجموع الطريقين قوي، والمرفوع منه صحيح، وله شاهدان موقوفان: الأول يرويه ابن عساكر عن عكرمة ((إن أسماء بنت أبي بكر كانت تحت الزبير بن العوام، وكان شديداً عليها، فأتت أباها، فشكت ذلك إليه، فقال: يا بنية اصبري، فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح، ثم مات عنها، فلم تزوج بعده جمع بينهما في الجنة)) . ورجاله ثقات إلا أن فيه إرسالاً لأن عكرمة لم يدرك أبا بكر إلا أن يكون تلقاه عن أسماء. والآخر أخرجه البيهقي في (السنن) أن حذيفة قال لزوجته: ((إن شئت أن تكوني زوجتي في الجنة، فلا تزوجي بعدي، فإن المرأة في الجنة لآخر أزواجها في الدنيا)) . فلذلك حرم الله على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينكحن من بعده، لأنهن أزواجه في الآخرة.
المطلب السابع عشر: الحور العين
يزوج الله المؤمنين في الجنة بزوجات جميلات غير زوجاتهم اللواتي في الدنيا، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54]. والحور: جمع حوراء، وهي التي يكون بياض عينها شديد البياض، وسواده شديد السواد. والعين: جمع عيناء، والعيناء هي واسعة العين. وقد وصف القرآن الحور العين بأنهن كواعب أتراب، قال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حدائق وأعناباً وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ: 31-33]. والكاعب: المرأة الجميلة التي برز ثدياها، والأتراب المتقاربات في السن. والحور العين من خلق الله في الجنة، أنشأهن الله إنشاءً فجعلهنّ أبكاراً، عرباً أتراباً {إِنا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا} [ الواقعة: 35-37] وكونهن أبكاراً يقضي أنه لم ينكحهن قبلهم أحد، كما قال تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن: 56]، وهذا ينفي قول من قال: إن المراد بالزوجات اللواتي ينشئهن الله في الجنة زوجاتهم في الدنيا إذ يعيدهن شباباً بعد الكهولة والهرم، وهذا المعنى صحيح، فالله يدخل المؤمنات الجنة في سن الشباب، ولكنهن لسن الحور العين اللواتي ينشئهن الله إنشاء. والمراد بالعُرُب: الغنجات المتحببات لأزواجهنّ. وقد حدثنا القرآن عن جمال نساء الجنة فقال: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: 22 – 23] والمراد بالمكنون: المخفي المصان، الذي لم يغير صفاء لونه ضوء الشمس، ولا عبث الأيدي، وشبههن في موضع آخر بالياقوت والمرجان {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 56-58]، والياقوت والمرجان حجران كريمان فيهما جمال، ولهما منظر حسن بديع، وقد وصف الحور العين بأنهن قاصرات الطرف، وهن اللواتي قصرن بصرهن على أزواجهن، فلم تطمح أنظارهن لغير أزواجهن، وقد شهد الله لحور الجنة بالحسن والجمال، وحسبك أن الله شهد بهذا ليكون قد بلغ غاية الحسن والجمال {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ }[ الرحمن: 70-72]. ونساء الجنة لسن كنساء الدنيا، فإنهن مطهرات من الحيض والنفاس، والبصاق والمخاط والبول والغائط، وهذا مقتضى قوله تعالى: ({وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [ البقرة: 25]. وقد حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن جمال نساء أهل الجنة، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون، ولا يمتخطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن)). وانظر إلى هذا الجمال الذي يحدث عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هل تجد له نظيراً مما تعرف؟ ((ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها)) رواه البخاري.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وتحديد عدد زوجات كل شخص في الجنة باثنين يبدو أنه أقل عدد، فقد ورد أن الشهيد يزوج باثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ففي (سنن الترمذي) و(سنن ابن ماجه). بإسناد صحيح عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((للشهيد عند الله ثلاث خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقربائه)) .
المطلب الثامن عشر: غناء الحور العين
وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الحور العين في الجنان يغنين بأصوات جميلة عذبة، ففي (معجم الطبراني الأوسط) بإسناد صحيح عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط. إن مما يغنين: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرن بقرة أعيان. وإن مما يغنين به: نحن الخالدات فلا يمتنه، نحن الآمنات فلا يخفنه، نحن المقيمات فلا يظعنّه))
وروى سمويه في (فوائده) عن أنس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الحور العين لتغنين في الجنة، يقلن: نحن الحور الحسان، خبئنا لأزواج كرام)).
المطلب التاسع عشر: غيرة الحور العين على أزواجهنّ في الدنيا
أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الحور العين يغرن على أزواجهن في الدنيا إذا آذى الواحد زوجته في الدنيا، ففي (مسند أحمد)، و(سنن الترمذي) بإسناد صحيح عن معاذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا، إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو دخيل عندك، يوشك أن يفارقك إلينا))
المطلب العشرون: يُعطى المؤمن في الجنة قوة مائة رجل
عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا من الجماع)). قيل: يا رسول الله، أو يطيق ذلك؟ قال: ((يعطى قوة مائة رجل)) رواه الترمذي
المطلب الحادي والعشرون: ضحك أهل الجنة من أهل النار

بعد أن يدخل الله أهل الجنة الجنة ينادون خصومهم من الكفار أهل النار مبكتين ومؤنبين ({وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظالِمِينَ} [الأعراف:44]. لقد كان الكفار في الدنيا يخاصمون المؤمنين، ويسخرون منهم، ويهزؤون بهم، وفي ذلك اليوم ينتصر المؤمنون، فإذا بهم وهم في النعيم المقيم، ينظرون إلى المجرمين، فيسخرون منهم، ويهزؤون بهم، {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 22-36]. نعم، والله لقد جوزي الكفار بمثل ما كانوا يفعلون، والجزاء من جنس العمل، ويتذكر المؤمن في جنات النعيم ذلك القرين أو الصديق الذي كان يزين له الكفر في الدنيا، وكان يدعوه إلى تلك المبادئ الضالة التي تجعله في صف الكافرين أعداء الله، فيحدّث إخوانه عن ذلك القرين، ويدعوهم للنظر إليه في مقره الذي يعذب فيه، فعندما يرى ما يعاينه من العذاب – يعلم مدى نعمة الله عليه، وكيف خلصه من حاله، ثم يتوجه إليه باللوم والتأنيب {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات: 50-60]
المطلب الثاني والعشرون: التسبيح والتكبير من نعيم أهل الجنة
الجنة دار جزاء وإنعام، لا دار تكليف واختبار، وقد يشكل على هذا ما رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صفة أول زمرة تدخل الجنة، قال في آخره: ((يسبحون الله بكرة وعشياً)) . ولا إشكال في ذلك إن شاء الله تعالى، لأن هذا ليس من باب التكليف، قال ابن حجر في شرحه للحديث: قال القرطبي: (هذا التسبيح ليس عن تكليف وإلزام !، وقد فسره جابر في حديثه عند مسلم بقوله: ((يُلهمون التسبيح والتكبير كما تلهمون النفس)) ووجه التشبيه أن تنفس الإنسان لا كلفة عليه فيه، ولا بد منه، فجعل تنفسهم تسبيحاً، وسببه أن قلوبهم تنورت بمعرفة الرب سبحانه، وامتلأت بحبه، ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره). وقد قرر شيخ الإسلام أن هذا التسبيح والتكبير لون من ألوان النعيم الذي يتمتع به أهل الجنة، قال: (هذا ليس من عمل التكليف الذي يطلب له ثواب منفصل، بل نفس هذا العمل من النعيم الذي تتنعم به الأنفس وتتلذذ به)
المطلب الثالث والعشرون: رؤية الله ورضاه أفضل ما يُعطاه أهل الجنة
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)) متفق عليه وأعظم النعيم النظر إلى وجه الله الكريم في جنات النعيم، يقول ابن الأثير: (رؤية الله هي الغاية القصوى في نعيم الآخرة، والدرجة العليا من عطايا الله الفاخرة، بلغنا الله منها ما نرجو). وقد صرح الحق تبارك وتعالى برؤية العباد لربهم في جنات النعيم {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [ القيامة: 22-23]، والكفار والمشركون يحرمون من هذا النعيم العظيم، والتكرمة الباهرة: {كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [ المطففين:15]، وقد روى مسلم في (صحيحه) والترمذي في (سننه) عن صهيب الرومي – رضي الله عنه – أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دخل أهل الجنة، يقول تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى))، زاد في رواية: ((ثم تلا هذه الآية: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26])). وفي (صحيحي البخاري ومسلم) عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة مجوفة، عرضها – وفي رواية طولها – ستون ميلاً، في كل زاوية منها أهل، ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)).
والنظر إلى وجه الله تعالى هو من المزيد الذي وعد الله به المحسنين {لَهُم ما يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35]، {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وقد فسرت الحسنى بالجنة، والزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم، يشير إلى هذا الحديث الذي رواه مسلم ... ورؤية الله رؤية حقيقية، لا كما تزعم بعض الفرق التي نفت رؤية الله تعالى بمقاييس عقلية باطلة، وتحريفات لفظية جائرة، وقد سئل الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة عن قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [ القيامة: 23]، فقيل: إن قوماً يقولون: إلى ثوابه. فقال مالك: كذبوا، فأين هم عن قوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]؟ قال مالك: الناس ينظرون إلى الله يوم القيامة بأعينهم، وقال: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة، لم يعبر الله عن الكفار بالحجاب، فقال: {كَلا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [ المطففين:15]، رواه في (شرح السنة) ومن الذين نصوا على رؤية المؤمنين ربهم في الجنات الطحاوي في العقيدة المشهورة باسم (العقيدة الطحاوية)، قال: (والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [ القيامة: 22-23]، وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه، وكل ما جاء في ذلك الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سَلِم في دينه إلا من سلّم لله عز وجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. وردّ علم ما اشتبه عليه إلى عالمه). وقال شارح (الطحاوية) مبيناً مذاهب الفرق الضالة في هذه المسألة ومذهب أهل الحق: (المخالف في الرؤية الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية. وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة، وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، وأهل الحديث، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة). ثم بين أهمية هذه المسألة فقال: (وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس المتنافسون، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون، وعن بابه مردودن). ثم بين أن قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [ القيامة: 22-23].
المبحث الثامن: المحاجة بين الجنة والنار
أخبرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أن الجنة والنار تحاجتا عند ربهما، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فمالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ - زاد في رواية: وغرتهم – فقال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار: فلا تمتلئ حتى يضع رجله – وفي رواية: حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله – فتقول: قط قط قط، فهنالك تمتلئ، ويُزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً)) أخرجه البخاري ومسلم. . وللبخاري قال: ((اختصمت الجنة والنار إلى ربهما فقالت الجنة يا رب ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم. وقالت النار - يعنى - أوثرت بالمتكبرين. فقال الله تعالى للجنة أنت رحمتي. وقال للنار أنت عذابي أصيب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها - قال - فأما الجنة فإن الله لا يظلم من خلقه أحدا، وإنه ينشئ للنار من يشاء فيلقون فيها فتقول هل من مزيد. ثلاثا، حتى يضع فيها قدمه فتمتلئ ويرد بعضها إلى بعض وتقول قط قط قط)). وله في أخرى: - وكان كثيراً ما يقفه أبو سفيان الحميري، أحد رواته، قال: ((يقال لجهنم، هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟ فيضع الرب قدمه عليها، فتقول: قط قط)). ولمسلم بنحو الأولى، وانتهى عند قوله: ((ولكل واحدة منهما ملؤها)) . وقال في رواية: ((فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم؟)) وفي آخره: ((فأما النار، فلا تمتلئ حتى يضع قدمه عليها، فهنالك تمتلئ، ويزوي بعضها إلى بعض))
المبحث التاسع: الجنة خالدة وأهلها خالدون
المطلب الأول: عدم فناء الجنة
يؤمن أهل السنة والجماعة بأن الله عز وجل أعد لعباده المؤمنين جنة عرضها السموات والأرض يدخلها المؤمن فينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت وأنها دار باقية لا تفنى ولا نهاية لها {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108].....
-قال شيخ الإسلام ابن تيمية– رحمه الله -: (وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية، كالجنة...) .
........ قال الإمامان الحافظان، أبو حاتم وأبو زرعة – رحمهما الله-: (أدركنا العلماء في جميع الأمصار – حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً – فكان من مذهبهم... الجنة حق والنار حق، وهما مخلوقان لا يفنيان أبداً) .
وقال الإمام أبو إسماعيل الصابوني – رحمه الله – (ويشهد أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان وإنهما باقيتان لا يفنيان أبداً) .
وقال الإمام الحافظ ابن حزم – رحمه الله -: (الجنة حق، والنار حق، وأنهما مخلوقتان مخلدتان هما ومن فهيما بلا نهاية... كل هذا إجماع من جميع أهل الإسلام، ومن خرج عنه خرج عن الإسلام) .
وغير هؤلاء كثير، ممن نقل الإجماع على أبدية الجنة وعدم فنائها.
ذكر مستند الإجماع على عدم فناء الجنة:
أخبر الله تعالى بأن أهل الجنة خالدون فيها خلوداً مؤبداً، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [البينة: 7- 8]. وقال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التغابن: 9] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} [النساء: 122].
ووصفهم بعدم الخروج من الجنة، فقال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 47-48].
ووصف نعيمهم بعدم الانقطاع، فقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108].
وقال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 32-33].
وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، قال فيؤمر به فيذبح. قال ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39] وأشار بيده إلى الدنيا)) .
المطلب الثاني: النصوص الدالة على أن الجنة خالدة وأهلها خالدون
الجنة خالدة لا تفنى ولا تبيد، وأهلها فيها خالدون، لا يرحلون عنها ولا يظعنون، ولا يبيدون ولا يموتون، {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [ الدخان:56]، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَناتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [ الكهف:107-108]. وقد سقنا عند الحديث عن خلود النار – الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذبح الموت بين الجنة والنار، ثم يقال لأهل الجنة ولأهل النار:((يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت)) . إن مقتضى النصوص الدالة أن الجنة تخلق خلقاً غير قابل للفناء، وكذلك أهلها، ففي الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من يدخل الجنة ينعم، لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه)). واستمع إلى النداء العلوي الرباني الذي ينادي به أهل الجنة بعد دخولهم الجنة: ((إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا، فلا تبتئسوا أبدا، فذلك قوله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43].))
المطلب الثالث: القائلون بفناء الجنة
قال بفناء الجنة كما قال بفناء النار الجهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له سلف قط، لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين، ولا من أهل السنة، وأنكره عليه عامة أهل السنة.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة قال بفناء حركات أهل الجنة والنار، بحيث يصيرون إلى سكون دائم لا يقدر أحد منهم على حركة. وكل هذا باطل، قال شارح الطحاوية: (فأما أبدية الجنة، وأنها لا تفنى ولا تبيد، فهذا مما يعلم بالضرورة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر به، قال تعالى: {وَأَما الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108]، أي غير مقطوع، ولا ينافي ذلك قوله:{إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} [ هود:108]) وقد ذكر شارح الطحاوية اختلاف السلف في هذا الاستثناء فقال: (واختلف السلف في هذا الاستثناء: فقيل: معناه إلا مدة مكثهم في النار، وهذا يكون لمن دخل منهم إلى النار ثم أخرج منها، لا لكلهم. وقيل: إلا مدة مقامهم في الموقف. وقيل: إلا مدة مقامهم في القبور والموقف. وقيل: هو استثناء الرب ولا يفعله، كما تقول: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وأنت لا تراه، بل تجزم بضربه. وقيل: (إلا) بمعنى الواو، وهذا على قول بعض النحاة، وهو ضعيف.وسيبويه يجعل إلا بمعنى لكن، فيكون الاستثناء منقطعاً ورجحه ابن جرير وقال: إن الله تعالى لا خلف لوعده، وقد وصل الاستثناء بقوله: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [ هود:108]، قالوا: ونظيره أن تقول: أسكنتك داري حولاً إلا ما شئت، أي سوى ما شئت، ولكن ما شئت من الزيادة عليه. وقيل: الاستثناء لإعلامهم بأنهم – مع خلودهم – في مشيئة الله، لأنهم لا يخرجون عن مشيئته، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود، كما في قوله تعالى: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} [ الإسراء:86]، وقوله تعالى: ({فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24]، وقوله: {قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس:16]، ونظائره كثيرة، يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
وقيل: إن (ما) بمعنى (من) أي: إلا من شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء. وقيل غير ذلك.
وعلى كل تقدير، فهذا الاستثناء من المتشابه، وقوله: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [ هود:108]. وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} [ص:54]. وقوله: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} [ الرعد:35].وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن، وأخبر أنهم {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56].وهذا الاستثناء منقطع، وإذا ضممته إلى الاستثناء في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} [هود:108]، - تبين أن المراد من الآيتين استثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود، كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية، وذلك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها).
الفصل الثاني: النار
المبحث الأول: تعريف النار
النار هي الدار التي أعدها الله للكافرين به، المتمردين على شرعه، المكذبين لرسله، وهي عذابه الذي يعذب فيه أعداءه، وسجنه الذي يسحن فيه المجرمين. وهي الخزي الأكبر، والخسران العظيم، الذي لا خزي فوقه، ولا خسران أعظم منه، {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [آل عمران: 192]، {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63]، وقال: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15]. وكيف لا تكون النار كما وصفنا وفيها من العذاب والآلام والأحزان ما تعجز عن تسطيره أقلامنا، وعن وصفه ألسنتنا، وهي مع ذلك خالدة وأهلها فيها خالدون، ولذلك فإن الحق أطال في ذم مقام أهل النار في النار {إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 66]، {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ} [ص: 55 – 56].
المبحث الثاني: الجنة والنار مخلوقتان
قال الطحاوي في العقيدة السلفية التي تنسب إليه المعروفة بالعقيدة (الطحاوية): والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، فإن الله تعالى: خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه، وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له، والخير والشر مقدران على العباد. وقال ابن أبي العز الحنفي شارح (الطحاوية) في شرحه لهذا النص: أما قوله: إن الجنة والنار مخلوقتان، فاتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولم يزل أهل السنة على ذلك، حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية، فأنكرت ذلك، وقالت: بل ينشئهما الله يوم القيامة. وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله الله، وأنه ينبغي أن يفعل كذا، ولا ينبغي له أن يفعل كذا. وقاسوه على خلقه في أفعالهم، فهم مشبهة في الأفعال، ودخل التجهم فيهم، فصاروا مع ذلك معطلة. وقالوا: خلق الجنة قبل الجزاء عبث، لأنها تصير معطلة مدداً متطاولة. فردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب تعالى، وحرفوا النصوص عن مواضعها، وضللوا وبدعوا من خالف شريعتهم. ثم ساق الأدلة من الكتاب والسنة التي تدل على أنهما مخلوقتان، فمن نصوص الكتاب: قوله تعالى: عن الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21]، وعن النار {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]، {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} [النبأ: 21 – 22]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 13– 15]. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، ورأى عندها جنة المأوى. كما في (الصحيحين)، من حديث أنس رضي الله عنه، في قصة الإسراء، وفي آخره: ((ثم انطلق بي جبرائيل، حتى أتى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، قال: ثم دخلت الجنة، فإذا هي جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك)) . وفي (الصحيحين) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)) وحديث البراء بن عازب وفيه: ((ينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها)). وفي (صحيح مسلم)، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت الحديث، وفيه: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم، حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني جعلت أقدم. ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً حين رأيتموني تأخرت)). وفي (الصحيحين) واللفظ للبخاري، عن عبدالله بن عباس، قال: ((انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث، وفيه: فقالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك، ثم رأيناك كعكعت؟ فقال: إني رأيت الجنة، فتناولت عنقوداً، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار، فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: بم، يا رسول الله؟ قال: بكفرهن قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت خيراً قط)) وفي (صحيح مسلم) من حديث عائشة السابق أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بعد الصلاة: ((لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً، ولضحكتم قليلاً)). وفي (الموطأ) و(السنن)، من حديث كعب بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إنما نسمة المؤمن طيرٌ تعلق في شجر الجنة، حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة)) وهذا صريح في دخول الروح الجنة قبل يوم القيامة. وفي (صحيح مسلم) و(السنن) و(المسند)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله الجنة والنار، أرسل جبرائيل إلى الجنة، فقال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، فرجع فقال: وعزتك، لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بالجنة، فحفت بالمكاره، فقال: ارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها. قال: فنظر إليها، ثم رجع فقال: وعزتك، لقد خشيت أن لا يدخلها أحد. قال: ثم أرسله إلى النار، قال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها، فإذا هي يركب بعضها بعضاً، ثم رجع فقال: وعزتك، لا يدخلها أحد سمع بها، فأمر بها فحفت بالشهوات، ثم قال: اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها، فرجع فقال: وعزتك، لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها)) ونظائر ذلك في السنة كثيرة وقد عقد البخاري في (صحيحه) باباً قال فيه: باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة وساق في هذا الباب أحاديث كثيرة تدل على أن الجنة مخلوقة، منها الحديث الذي ينص على أن الله يُري الميت عندما يوضع في قبره مقعده من الجنة والنار ، وحديث اطلاع الرسول صلى الله عليه وسلم على الجنة والنار ، وحديث رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لقصر عمر بن الخطاب في الجنة ، وغير ذلك من الأحاديث، وقد كان ابن حجر مصيباً عندما قال: وأصرح مما ذكره البخاري في ذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود بإسناد قوي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله الجنة، قال لجبريل: اذهب فانظر إليها))
المبحث الثالث: في بيان وجود النار الآن
أعلم أنه لم يزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون, وأهل السنة, والحديث قاطبة. وفقهاء الإسلام, وأهل التصوف والزهد, على اعتقاد ذلك وإثباته، مستندين في ذلك إلى نصوص الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وما علم بالضرورة من أخبار الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم،....، فإنهم دعوا الأمم إليها, وأخبروا بها, إلى أن نبغت نابغة من أهل البدع والأهواء فأنكرت أن تكون الآن مخلوقة موجودة، وقالت بل الله ينشئها يوم المعاد.
وأن خلق النار قبل الجزاء عبث فإنها تصير معطلة مدداً متطاولة ليس فيها سكانها؛ فردوا من النصوص الأصول والفروع، وضللوا كل من خالف بدعتهم هذه بما لا يسمن ولا يغني من جوع. ولهذا صار السلف الصالح ومن نحا نحوهم يذكرون في عقائدهم أن الجنة والنار مخلوقتان الآن موجودتان في الحال، ويذكر من صنف في المقالات أن هذه مقالة أهل السنة والحديث كافة لا يختلفون فيها، منهم أبو الحسن الأشعري إمام الأشاعرة في كتابه (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين).
وقد ذكر الله تعالى النار في كتابه في مواضع كثيرة يتعسر حدها ويفوت عدها ووصفها. وأخبر بها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ونعتها فقال عز من قال {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] وقال {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29].
وقال {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف: 102] وقال {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} [الفرقان: 11] وقال تعالى {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح: 25] وقال {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6] وقال {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5] وقال {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] إلى غير ذلك من الأدلة القطعية التي كلها صيغ موضوعة للمعنى حقيقة فلا وجه للعدول عنها إلى المجازات إلا بصريح آية أو صحيح دلالة وأنى لهم ذلك؟
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي, إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة, وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة)) . وفيهما أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((رأى في صلاة الكسوف النار فلم ير منظر أفظع من ذلك)) وفي البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)) وفيه دلالة على وجودها حال اطلاعه, ورواه الترمذي والنسائي أيضاً.
وفي الصحيح (باب صفة النار وأنها مخلوقة الآن) وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم)) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضاً, فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء, ونفس في الصيف, فأشد ما تجدون من الحر, وأشد ما تجدون من الزمهرير)) رواه البخاري أي من ذلك التنفس.
وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحمى من فيح جهنم, فأبردوها بالماء)) رواه البخاري وفي رواية ((من فور جهنم)) رواه عن رافع بن خديج. وكل ذلك يفيد وجود النار الآن، وفي مسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما: ((ولقد أدنيت النار مني حتى لقد جعلت أتقيها خشية أن تغشاكم)) الحديث وفي صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم: قال ((لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال رأيت الجنة والنار)) .
وفي مسند أحمد ومسلم والسنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها, قال: فرجع إليه وقال: فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها, فأمر بها فحفت بالمكاره, فقال: ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها. قال فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره، فرجع إليه فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد، قال اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها, فإذا هي يركب بعضها بعضاً، فرجع إليه: فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها, فأمر بها فحفت بالشهوات, فقال: ارجع إليها, فرجع إليها فقال: وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها)) . قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وفي الصحيحين من حديثه أيضاً يرفعه: ((حجبت الجنة بالمكاره, وحجبت النار بالشهوات)) وفي الباب أحاديث كثيرة، وقال الشيخ أحمد ولي الله المحدث الدهلوي في عقائده: (الجنة والنار حق, وهما مخلوقتان اليوم, باقيتان إلى يوم القيامة) انتهى، ونحوه ومثله في الكتب الأخرى المؤلفة في أصول الدين.
المبحث الرابع: شبهة من قال النار لم تخلق بعد
وقد ناقش شارح (الطحاوية) شبهة الذين قالوا: لم تخلق النار بعد، ورد عليها فقال: وأما شبهة من قال: إنها لم تخلق بعد، وهي: أنها لو كانت مخلوقة الآن لوجب اضطراراً أن تفنى يوم القيامة وأن يهلك كل من فيها ويموت، لقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]، و{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، وقد روى الترمذي في (جامعه)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر)) . وفيه أيضاً: من حديث أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((من قال سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له نخلة في الجنة)) . قالوا: فلو كانت مخلوقة مفروغاً منها لم تكن قيعاناً، ولم يكن لهذا الغراس معنى. قالوا: وكذا قوله تعالى: عن امرأة فرعون أنها قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]. فالجواب: إنكم إن أردتم بقولكم إنها الآن معدومة بمنزلة النفخ في الصور وقيام الناس من القبور، فهذا باطل، يرده ما تقدم من الأدلة وأمثالها مما لم يذكر، وإن أردتم أنها لم يكمل خلق جميع ما أعد الله فيها لأهلها، وأنها لا يزال الله يُحدث فيها شيئاً بعد شيء، وإذا دخلها المؤمنون أحدث فيها عند دخولهم أموراً أخر - فهذا حق لا يمكن رده، وأدلتكم هذه إنما تدل على هذا القدر. وأما احتجاجكم بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]، فأتيتم من سوء فهمكم معنى الآية، واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن – نظير احتجاج إخوانكم على فنائهما وخرابهما وموت أهلهما!! فلم توفقوا أنتم ولا إخوانكم لفهم معنى الآية، وإنما وفق لذلك أئمة الإسلام. فمن كلامهم: أن المراد {كُلُّ شَيْء} مما كتب الله عليه الفناء والهلاك {هَالِكٌ}، والجنة والنار خُلِقتا للبقاء لا للفناء، وكذلك العرش، فإنه سقف الجنة. وقيل: المراد إلا مُلْكَه. وقيل: إلا ما أريد به وجهه. وقيل: إن الله تعالى: أنزل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26]، فقالت الملائكة: هلك أهل الأرض، وطمعوا في البقاء، فأخبر تعالى: عن أهل السماء والأرض أنهم يموتون، فقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] لأنه حي لا يموت، فأيقنت الملائكة عند ذلك بالموت. وإنما قالوا ذلك توفيقاً بينها وبين النصوص المحكمة، الدالة على بقاء الجنة، وعلى بقاء النار أيضاً.

المبحث الخامس: خزنة النار
يقوم على النار ملائكة، خلقهم عظيم، وبأسهم شديد، لا يعصون الله الذي خلقهم، ويفعلون ما يؤمرون، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. وعدتهم تسعة عشر ملكاً، كما قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 26 - 30] وقد فتن الكفار بهذا العدد، فقد ظنوا أنه يمكن التغلب على هذا العدد القليل، وغاب عنهم أن الواحد من هؤلاء يملك من القوة ما يواجه به البشر جميعاً، ولذلك عقب الحق على ما سبق بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر: 31]. قال ابن رجب: والمشهور بين السلف والخلف أن الفتنة إنما جاءت من حيث ذكر عدد الملائكة الذين اغتر الكفار بقلتهم، وظنوا أنهم يمكنهم مدافعتهم وممانعتهم، ولم يعلموا أن كل واحد من الملائكة لا يمكن البشر كلهم مقاومته. وهؤلاء الملائكة هم الذين سماهم الله بخزنة جهنم في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ} [غافر: 49].
المبحث السادس: صفة النار
المطلب الأول: مكان النار
أما مكانها فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: (جهنم في الأرض السابعة). رواه أبو نعيم .
وخرج ابن منده عن مجاهد قال: (قلت لابن عباس رضي الله عنهما: أين النار؟ قال: تحت سبعة أبحر مطبقة)......
وخرج ابن خزيمة، وابن أبي الدنيا عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه: (إن الجنة في السماء، وإن النار في الأرض) . وابن أبي الدنيا عن قتادة:(كانوا يقولون: الجنة في السموات السبع، وإن جهنم في الأرضين السبع) . وفي حديث البراء في حق الكافر: ((يقول الله: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى, فتطرح روحه طرحاً)) خرجه الإمام أحمد، وغيره وتقدم أول الكتاب بطوله.
وأخرج الإمام أحمد بسند فيه نظر عن يعلى بن أمية، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البحر هو جهنم)) فقالوا ليعلى: ألا تركبها. يعني: البحور. قال: ألا ترون أن الله يقول: {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29]. لا والذي نفس يعلى بيده لا أدخلها أبداً حتى أعرض على الله عز وجل ولا يصيبني منها قطرة حتى ألقى الله عز وجل.
قال الحافظ ابن رجب : (وهذا إن شئت فالمراد به أن البحار تفجر يوم القيامة فتصير بحراً واحداً، ثم يسجر ويوقد عليها فتصير ناراً، وتزاد في نار جهنم. وقد فسر قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] بنحو هذا). وقال ابن عباس: تسجر تصير ناراً. وفي رواية عنه: (تكون الشمس والقمر والنجوم في البحر, فيبعث الله عليها ريحاً دبورا فتنفخه حتى يرجع ناراً) رواه ابن أبي الدنيا، وابن أبي حاتم، وأخرجا عنه أيضاً في قوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 54]. قال: (هو هذا البحر فتنشر الكواكب فيه، وتكور الشمس والقمر فيه فيكون هو جهنم). وقال سيدنا علي رضي الله عنه ليهودي: (أين جهنم؟ قال: تحت البحر قال علي: صدق، ثم قرأ: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ})[التكوير: 6] رواه ابن أبي إياس.
وخرج ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب رضي الله عنه في قوله: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}. قال: (قالت الجن للإنس: نأتيكم بالخبر فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج) .
وفي سنن أبي داود عن ابن عمرو مرفوعاً: ((لا يركب البحر إلا حاجاً، أو معتمراً، أو غازياً في سبيل الله فإن تحت البحر ناراً، وتحت النار بحراً)) . وروي عن ابن عمر مرفوعاً: ((إن جهنم محيطة بالدنيا، وإن الجنة من ورائها فلذلك كان الصراط على جهنم طريقا إلى الجنة)) . قال الحافظ ابن رجب: (هذا حديث غريب منكر) .
وقيل: إن النار في السماء. وخرج الإمام أحمد عن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أتيت بالبراق فلم نزايل طرفه أنا وجبريل حتى أتيت بيت المقدس، وفتح لنا أبواب السماء، ورأيت الجنة والنار)) .
وخرج عنه أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((رأيت ليلة أسري بي الجنة والنار في السماء فقرأت هذه الآية: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] فكأني لم أقرأها قط)) .
ولا حجة في هذا ونحوه على أن النار في السماء لجواز أن يراها في الأرض وهو في السماء, وهذا الميت يرى وهو في قبره الجنة والنار وليست الجنة في الأرض, وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم رآهما وهو في صلاة الكسوف وهو في الأرض, وفي بعض طريق حديث الإسراء عن أبي هريرة أنه مر على أرض الجنة والنار في مسيره إلى بيت المقدس . ولم يدل شيء من ذلك على أن الجنة في الأرض، فحديث حذيفة إن ثبت فيه أنه رأى الجنة والنار في السماء، فالسماء ظرف للرؤية لا للمرئي أي: رأيت الجنة والنار حال كوني في السماء، يعني: صدرت الرؤيا مني وأنا في السماء، ولا تعرض في الحديث للمرئي فتأمل.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وعن عبد الله ابن سلام قال: (إن أكرم خليفة لله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم, وإن الجنة في السماء) أخرجه أبو نعيم، وعنده أيضاً عن ابن عباس ((أن الجنة في السماء السابعة)) ويجعلها الله تعالى حيث شاء يوم القيامة، ((وجهنم في الأرض السابعة)) وعن ابن مسعود رضي الله عنه: ((الجنة في السماء الرابعة, فإذا كان يوم القيامة جعلها الله حيث شاء, والنار في الأرض السابعة فإذا كان يوم القيامة جعلها الله حيث شاء)) أخرجه ابن مندة .
وقال مجاهد: قلت لابن عباس: (أين الجنة؟ قال: فوق سبع سموات، قلت: فأين النار؟ قال: تحت سبعة أبحر مطبقة) رواه ابن منده، قال الشوكاني في فتح القدير: والأولى الحمل على ما هو الأعم من هذه الأقوال, فإن جزاء الأعمال مكتوب في السماء, والقدر, والقضاء ينزل منها, والجنة والنار فيها. انتهى.
... والحاصل أن الجنة فوق السماء السابعة, وسقفها العرش، وأن النار في الأرض السابعة على الصحيح المعتمد وبالله التوفيق) انتهى .
... قال السيوطي في (إتمام الدراية شرح النقاية): (ونقف عن النار, أي نقول فيها بالوقف, أي محلها حيث لا يعلمه إلا الله، فلم يثبت عندي حديث أعتمده في ذلك, وقيل: تحت الأرض لما روى ابن عبد البر وضعفه من حديث ابن عمر مرفوعاً ((لا يركب البحر إلا غاز أو حاج, أو معتمر, فإن تحت البحر ناراً)) ...... وقيل: هي على وجه الأرض لما روى وهب أيضاً قال:(قال: أشرف ذو القرنين على جبل قاف فرأى تحته جبالاً صغاراً – إلى أن قال – يا قاف, أخبرني عن عظمة الله, فقال: إن شأن ربنا لعظيم. إن ورائي أرضاً مسيرة خمسمائة عام في خمسمائة عام, من جبال ثلج, يحطم بعضها بعضاً ولولا هي لاحترقت من جهنم).
وروى الحارث بن أسامة في مسنده عن عبد الله بن سلام قال: (الجنة في السماء والنار في الأرض) وقيل: محلها في السماء). انتهى كلام السيوطي ومثله في التذكرة للقرطبي قال:(فهذا يدل على أن جهنم على وجه الأرض والله أعلم بموضعها, وأين هي من الأرض). انتهى.
وقال الشيخ أحمد ولي الله المحدث الدهلوي في عقيدته: (ولم يصرح نص بتعيين مكانهما بل حيث شاء الله تعالى إذ لا إحاطة لنا بخلق الله وعوالمه)، انتهى.
أقول وهذا القول أرجح الأقوال وأحوطها إن شاء الله تعالى.
المطلب الثاني: سعة النار وبعد قعرها
وأما قعرها وعمقها فعن خالد بن عمير قال: ((خطب عتبة بن غزوان فقال: إنه ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يدرك لها قعراً والله لَتُملأَن أفعجبتم.)) رواه مسلم موقوفاً هكذا، وكذا خرجه الإمام أحمد موقوفاً، وخرجه أيضاً مرفوعاً. قال الحافظ: والموقوف أصح .
وخرج الترمذي عن عتبة بن غزوان أنه قال على منبر البصرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين وما تقض إلى قرارها)).
قال: وكان عمر رضي الله عنه يقول: (أكثروا ذكر النار, فإن حرها شديد, وإن قعرها بعيد, وإن مقامعها من حديد) .
قال الترمذي: (رواه الحسن عن عتبة ولا نعرف للحسن سماعاً من عتبة بن غزوان).
وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فسمعنا وجبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا حجر أرسل في جهنم منذ سبعين خريفاً)) .
وخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لو أن حجراً قذف به في نار جهنم لهوى فيها سبعين خريفاً قبل أن يبلغ قعرها)) .
وأخرج ابن المبارك عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (إن ما بين شفير جهنم مسيرة سبعين خريفاً من حجر يهوي أو صخرة تهوي عظمها كعشر عشراوات أي: نوق عشارية عظام سمان فقال له رجل تحت ذلك شيء يا أبا أمامة؟ قال: نعم غي وآثام) .
قال الحافظ في التخويف : (وقد روي هذا مرفوعاً بإسناد فيه ضعف وزاد فيه: ((قيل وما غي وما آثام قال: بئران يسيل فيهما صديد أهل النار وهما اللتان ذكرهما الله في كتابه {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] وفي الفرقان {يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68].)) .
قال الحافظ: (والموقوف أصح) .
وأخرج الإمام أحمد عن عبد الله عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من حكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقفه على شفير جهنم, ثم يرفع رأسه إلى الله عز وجل فإذا قال: ألقه، ألقاه في مهوي أربعين خريفاً)) .
وفي التخويف للحافظ بسند فيه عبد الله بن الوليد الرصافي لا يحفظ الحديث – وكان شيخاً صالحاً – أن أبا ذر رضي الله عنه قال لعمر رضي الله عنه ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يجاء بالوالي يوم القيامة فينبذ على جسر جهنم فيرتج به الجسر ارتجاجة لا يبقي منه مفصل إلا زال عن مكانه, فإن كان مطيعاً لله في عمله مضى به، وإن كان عاصياً لله في عمله انخرق به الجسر فهوى في جهنم مقدار خمسين عاماً. فقال له عمر رضي الله عنه: من يطلب العمل بعد هذا؟ قال أبو ذر رضي الله عنه: من سلت الله أنفه, وألصق خده بالتراب, فجاء أبو الدرداء فقال له عمر: يا أبا الدرداء هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ حدثنا بحديث حدثني به أبو ذر، قال: فأخبره أن مع الخمسين خمسين عاما يهوي أو نحو هذا)) .
........ وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار)) وفي لفظ ((يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)) .
وأخرج الإمام أحمد والترمذي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها في النار سبعين خريفاً)) .
وخرجه ابن ماجه وكذا البزار بنحوه عن ابن مسعود رضي الله عنه. هذا عمقها.
وأما سعتها فروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((أتدرون ما سعة جهنم؟ قلنا: لا، قال: قال: أجل والله ما تدرون, ما بين شحمة أذن أحدهم وعاتقه مسيرة سبعين خريفاً، تجري فيه أودية القيح والصديد والدم، قلنا: أنهار؟ قال: لا بل أودية، ثم قال: أتدرون ما سعة جهنم؟ قلنا: لا، قال: حدثتني عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] فأين الناس يومئذ؟ قال: على جسر جهنم)) روه الإمام أحمد.
وخرج النسائي والترمذي منه المرفوع وصححه الترمذي وخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
المطلب الثالث: دركات النار
النار متفاوتة في شدة حرها، وما أعده الله من العذاب لأهلها، فليست درجة واحدة، وقد قال الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]. والعرب تطلق: الدرك على كل ما تسافل، كما تطلق: الدرج على كل ما تعالى: فيقال: للجنة درجات وللنار دركات، وكلما ذهبت النار سفلاً كلما علا حرها واشتد لهيبها، والمنافقون لهم النصيب الأوفر من العذاب، ولذلك كانوا في الدرك الأسفل من النار. وقد تسمى النار درجات أيضاً، ففي سورة الأنعام ذكر الله أهل الجنة والنار، ثم قال: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} [الأنعام: 132]، وقال: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ, هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران: 162 - 163]، قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: (درجات الجنة تذهب علواً، ودرجات النار تذهب سفلاً) . وقد ورد عن بعض السلف أن عصاة الموحدين ممن يدخلون النار يكونون في الدرك الأعلى، ويكون في الدرك الثاني اليهود، وفي الدرك الثالث النصارى، وفي الدرك الرابع الصابئون، وفي الخامس المجوس، وفي السادس مشركو العرب، وفي السابع المنافقون. ووقع في بعض الكتب تسمية هذه الدركات: فالأول جهنم، والثاني لظى، والثالث الحطمة، والرابع السعير، والخامس سقر، والسادس الجحيم، والسابع الهاوية. ولم يصح تقسيم الناس في النار وفق هذا التقسيم، كما لم يصح تسمية دركات النار على النحو الذي ذكروه، والصحيح أن كل واحد من هذه الأسماء التي ذكروها: جهنم، لظى، الحطمة... إلخ اسم علم للنار كلها، وليس لجزء من النار دون جزء
فعذاب جهنم متفاوت بعضه أشد من بعض، وعلى هذا فمنازل أهل النار متفاوتة بتفاوت دركاتها، وقد أخبر سبحانه أن المنافقين أسفل أهل النار إذ هم في الدرك الأسفل منها.
وأخبر صلى الله عليه وسلم عن أهون أهل النار عذاباً فقال: ((إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة يغلي منها دماغه)) . وصرح صلى الله عليه وسلم أنه أبو طالب فقال: ((أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو متنعل بنعلين يغلي منهما دماغه)) .
ولا شك أن عصاة المؤمنين الذين يدخلون النار فيعذبون فيها على قدر أعمالهم ثم يخرجون منها.... لا شك أنهم أهون أهل النار عذاباً لأن عذابهم فيها مؤقت، أما بقية أهل النار من الكفار والمنافقين فكما قال الله عز وجل فيهم: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} [ فاطر: 36].
ومقصود النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أهون أهل النار عذاباً)) في هذا الحديث أهلها المقيمين فيها الذين لا يخرجون منها كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون. ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم (أو قال: بخطاياهم) فأماتهم إماتة. حتى إذا كانوا فحماً، أذن بالشفاعة. فجيء بهم ضبائر ضبائر. فبثوا على أنهار الجنة. ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم. فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل)) .
المطلب الرابع: سجر جهنم وتسعرها
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله النار أرسل إليها جبريل قال له: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها، قال: فنظر إليها فإذا هي يركب بعضها بعضاً, فرجع فقال: وعزتك لا يدخلها أحد سمع بها, فأمر بها فحفت بالشهوات, ثم قال له: اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها, فذهب فنظر إليها ورجع فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها)) خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي .
وفي حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن ملكين أتياه في المنام فذكر رؤيا طويلة وفيها: قال: انطلقت, فأتينا على رجل كريه المرآة, كأكره ما أنت راء، فإذا هو عند نار يحشها ويسعى حولها قال: قلت: ما هذا؟ قالا لي: انطلق)) وفي آخر الحديث: ((قالا: فأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم)) وقد خرجه البخاري بتمامه، وخرج مسلم أوله ولم يتمه .
وقوله: ((كريه المرآة)) أي المنظر, وقوله: ((يحشها)) أي يوقدها.
وروى هذا الحديث أبو خلدة عن أبي رجاء عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث بطوله، وفي حديثه قال: ((فرأيت شجرة لو اجتمع تحتها خلق كثير لأظلتهم, وتحتها رجلان أحدهما يوقد ناراً والآخر يحتطب الحطب)) وفي آخر الحديث: ((قلت: فالرجلان اللذان رأيت تحت الشجرة، قال: ذلك ملكان من جهنم يحمون جهنم لأعداء الله إلى يوم القيامة)) ...
وجهنم تسجر كل يوم نصف النهار, وفي (صحيح مسلم) عن عمرو بن عبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صلِّ صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع, فإنها تطلع بين قرني شيطان, وحينئذ يسجد لها الكفار, ثم صل فإن الصلاة مشهودة (محظورة) حتى يستقل الظل بالرمح, ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصل)) وذكر بقية الحديث.
وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه من حديث أبي أمامة وغيره .
وفي حديث صفوان بن المعطل عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا طلعت الشمس فصل حتى تعتدل على رأسك مثل المرح، فإذا اعتدلت على رأسك فإن تلك الساعة تسخر فيها جهنم وتفتح فيها أبوابها, حتى تزول عن حاجبك الأيمن)) خرجه عبدالله بن الإمام أحمد .
وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((فإذا انتصف النهار فأقصر عن الصلاة حتى تميل الشمس, فإنها حيئنذ تسعر جهنم, وشدة الحر من فيح جهنم)) .
وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن عبدالله بن مسعود قال: (أن الشمس تطلع بين قرني شيطان, أو في قرني شيطان, فما ترتفع قصمة في السماء إلا فتح لها باب من أبواب النار, فإذا كانت الظهيرة فتحت أبواب النار كلها, فكنا ننهى عن الصلاة عند طلوع الشمس, وعند غروبها, ونصف النهار) خرجه يعقوب بن شيبة ورواه الإمام أحمد عن أبي بكر بن عياش أيضاً.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم)) وفي رواية خرجها أبو نعيم: ((من فيح جهنم)) أو((من فيح أبواب جهنم))
المطلب الخامس: أبواب النار
أخبر الحق أن للنار سبعة أبواب كما قال تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} [الحجر: 43 - 44]. قال ابن كثير في تفسير الآية: أي قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه لا محيد لهم عنه، أجارنا الله منها، وكل يدخل من باب بحسب عمله، ويستقر في درك بحسب عمله ونُقِلَ عن علي بن أبي طالب قوله وهو يخطب: إن أبواب جهنم هكذا - قال أبو هارون - أطباقاً بعضها فوق بعض ونُقل عنه أيضاً قوله: أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيمتلئ الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، حتى تمتلئ كلها . وعندما يردُ الكفار النار تفتح أبوابها، ثم يدخلونها خالدين {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71]، وبعد هذا الإقرار يقال لهم: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 72]، وهذه الأبواب تغلق على المجرمين، فلا مطمع لهم في الخروج منها بعد ذلك، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ} [البلد: 19 - 20]. قال ابن عباس: {مُّؤْصَدَةٌ} مغلقة الأبواب، وقال مجاهد: أصد الباب بلغة قريش، أي أغلقه. وقال الحق في سورة الهمزة: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} [الهمزة: 1 - 9]. فأخبر الحق أن أبوابها مغلقة عليهم، وقال ابن عباس: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} يعني الأبواب هي الممددة، وقال قتادة في قراءة ابن مسعود: إنها عليهم مؤصدة بعمد ممددة، وقال عطية العوفي: هي عمد من حديد، وقال مقاتل: أطبقت الأبواب عليهم، ثم شدت بأوتاد من حديد، حتى يرجع عليهم غمها وحرها، وعلى هذا فقوله: {مُّمَدَّدَةٍ} صفة للعمد، يعني أن العمد التي أوثقت بها الأبواب ممددة مطولة، والممدود الطويل أرسخ وأثبت من القصير. وقد تفتح أبواب النار وتغلق قبل يوم القيامة، فقد أخبر المصطفى أن أبواب النار تغلق في شهر رمضان، فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين ومردة الجن)) . وخرّج الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب))
المطلب السادس: بُعد أبواب جهنم بعضها من بعض وما أعد الله تعالى فيها من العذاب
قال بعض أهل العلم في قوله تعالى: {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر: 44] قال: (من الكفار، والمنافقين, والشياطين، بين الباب والباب خمسمائة عام, فالباب الأول: يسمى جهنم لأنه يتجهم في وجوه الرجال والنساء، فيأكل لحومهم، وهو أهون عذاباً من غيره، والباب الثاني: يقال له: لظى نزاعة للشوى، ويقول آكلة لليدين والرجلين, {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ} عن التوحيد {وتولى} عما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والباب الثالث: يقال: له سقر، وإنما سمي سقر لأنه يأكل لحوم الرجال والنساء لا يبقى لهم لحماً على عظم، والباب الرابع يقال له: الحطمة. فقد قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ} الآية تحطم العظام، وتحرق الأفئدة: قال تعالى: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ}, تأخذه النار من قدميه، وتطلع على فؤاده، وترمي بشرر كالقصر، كما قال تعالى:{تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} الآية, يعني سوداً فتطلع الشرر إلى السماء، ثم تنزل فتحرق وجوههم, وأيديهم, وأبدانهم، فيبكون الدمع حتى ينفذ، ثم يبكون الدماء، ثم يبكون القيح حتى تنفذ، حتى أن السفن لو أرسلت تجري فيما خرج من أعينهم لجرت، والباب الخامس يقال: له الجحيم, وإنما سمي الجحيم لأنه عظيم، الجمرة الواحدة منه أعظم من الدنيا.
والباب السادس: يقال له: السعير وإنما سمي السعير لأن يسعر منذ خلق؛ فيه ثلاثمائة قصر في كل قصر ثلاثمائة بيت في كل بيت ثلاثمائة لون من العذاب, وفيه الحيات، والعقارب، والقيود، والسلاسل، والأغلال، والأنكال، وفيه جب الحزن، ليس في النار عذاب أشد منه، إذا فتح باب الجب حزن أهل النار حزناً شديداً.الباب السابع: يقال له الهاوية من وقع فيه لم يخرج منه أبداً. وفيه بئر الهباب إذا فتح تخرج منه نار تستعيذ منه النار، وفيه الذي قال الله عز وجل: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} أو جبل من نار تصعده أعداء الله على وجوههم, مغلولة أيديهم إلى أعناقهم, مجموعة أعناقهم إلى أقدامهم, والزبانية وقوف على رءوسهم, بأيديهم مقامع من حديد، إذا ضرب أحدهم بالمقمعة ضربة سمع صوتها الثقلان، وأبواب النار حديد، فرشها الشوك، غشاوتها الظلمة, أرضها نحاس, ورصاص, وزجاج، النار من فوقهم، والنار من تحتهم، لهم من فوقهم ظلل من النار. ومن تحتهم ظلل, أوقد عليها ألف عام حتى احمرت, وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مدلهمة مظلمة، قد مزجت بغضب الله).
ذكره القتيبي في كتاب (عيون الأخبار).
وذكر عن ابن عباس: (أن جهنم سوداء مظلمة لا ضوء لها ولا لهب، وهي كما قال تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} على كل باب سبعون ألف جبل, على كل جبل سبعون ألف شعب من النار، في كل شعب سبعون ألف شق من نار، في كل شق سبعون ألف واد من نار، في كل واد سبعون ألف قصر من النار، في كل قصر سبعون ألف حية, وسبعون ألف عقرب، لكل عقرب سبعون ألف ذنب، لكل ذنب سبعون ألف نقار, لكل نقار سبعون ألف قلة من سم، فإذا كان يوم القيامة كشف عنها الغطاء, فتطير منها سرادق عن يمين الثقلين, وآخر عن شمالهم, وسرادق أمامهم, وسرادق من فوقهم, وآخر من ورائهم، فإذا نظر الثقلان إلى ذلك جثوا على ركبهم وكل ينادي رب سلم سلم).
قال القرطبي : (ومثله لا يقال من جهة الرأي، فهو توقيف لأنه أخبار عن مغيب). انتهى.
ثم نقل عن وهب بن منبه نحوه. وأقول: وهب يحدث عن الإسرائيليين كثيراً، ولا يقبل مثل ذلك عنه، ولا عن أمثاله ونظرائه إلا أن يرد به دليل من الكتاب أو السنة الصحيحة، وما ورد في ذلك من القرآن والحديث يكفي، ويشفي ويغني عن غيره.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المطلب السابع: وقود النار
وقود النار الأحجار والفجرة الكفار، كما قال الحق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، وقال: {فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24]. والمراد بالناس الذين توقد النار بهم الكفرة المشركون، وأما نوع الحجارة التي تكون للنار وقوداً فالله أعلم بحقيقتها، وقد ذهب بعض السلف إلى أن هذه الحجارة من كبريت، قال عبدالله بن مسعود: هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين، رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم في المستدرك. وقال بهذا القول ابن عباس ومجاهد وابن جريج. وإذا كان القول هذا مأخوذاً من الرسول صلى الله عليه وسلم فنأخذ به، ولا نجادل فيه، وإن كان أمراً اجتهادياً مبنياً على العلم بطبائع الحجارة وخصائصها فهذا قول غير مسلّم، فإن من الحجارة ما يفوق حجارة الكبريت قوة واشتعالاً. والأوائل رأوا أن حجارة الكبريت لها خصائص ليست لغيرها من الحجارة فقالوا إنها مادة وقود النار، يقول ابن رجب: وأكثر المفسرين على أن المراد بالحجارة حجارة الكبريت توقد بها النار. ويقال: إن فيها خمسة أنواع من العذاب ليس في غيرها: سرعة الإيقاد، ونتن الرائحة، وكثرة الدخان، وشدة الالتصاق بالأبدان، قوة حرها إذا حميت. وقد يوجد الله من أنواع الحجارة ما يفوق ما في الكبريت من خصائص، ونحن نجزم أن ما في الآخرة مغاير لما في الدنيا. ومما توقد به النار الآلهة التي كانت تعبد من دون الله {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء: 98 – 99 ]وحصبها: وقودها وحطبها، وقال الجوهري: كل ما أوقدت به النار أو هيجتها فقد حصبتها، وقال أبو عبيدة: كل ما قذفته في النار فقد حصبتها به
المطلب الثامن: شدة حرها وعظم دخانها وشرارها، وزمهريرها
قال الله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [ الواقعة:41-44]
قال ابن عباس: (من دخان) وكذا قال مجاهد وعكرمة وغير واحد ، وعن مجاهد قال: (ظل من دخان جهنم وهو السموم) وقال أبو مالك: (اليحموم ظل من دخان جهنم) قال الحسن وقتادة في قوله: {لاَّ بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ}: (لا بارد المدخل ولا كريم المنظر) , والسموم: هو الريح الحارة, قاله قتادة وغيره .
وهذا الآية تضمنت ذكر ما يتبرد به في الدنيا من الكرب والحر، وهو ثلاثة، الماء, والهواء, والظل، فهواء جهنم، السموم وهو الريح الحارة الشديدة الحر، وماؤها الحميم الذي قد اشتد حره، وظلها اليحموم, وهو قطع دخانها أجارنا الله من ذلك كله بكرمه ومنه.
وقال تعالى: {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} [ المرسلات:30], قال مجاهد: (هو دخان جهنم: اللهب الأخضر, والأسود, والأصفر الذي يعلو النار إذا أوقدت).
قال السدي: في قوله: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [ المرسلات:32] قال: (زعموا أن شررها ترمي به كأصول الشجر ثم يرتفع فيمتد).
وقال القرظي: (على جهنم سور, فما خرج من وراء سورها يخرج منها في عظم القصور, ولون القار) .
وقال الحسن والضحاك في قوله: {كَالْقَصْرِ}: (هو كأصول الشجر العظام) .
وقال مجاهد: (قطع الشجر والجبل) .
وصح عن ابن مسعود قال: (شرر كالقصور والمدائن) . وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: ({بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} يقول: كالقصر العظيم) .
وفي (صحيح البخاري) عن ابن عباس قال: (كنا نرفع من الخشب بقصر ثلاثة أذرع أو أقل, نرفعه للشتاء نسميه القصر) .
وقوله: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} قال ابن عباس: (حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض تكون كأوساط الرجال) وقال مجاهد: (هي حبال الجسور) . وقالت طائفة: (هي الإبل) منهم الحسن وقتادة والضحاك وقالوا: (الصفر هي السود). وروي عن مجاهد أيضاً .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {جِمَالَتٌ صُفْرٌ} قال: (يقول قطع النحاس) .
قال الله عز وجل: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ} [الرحمن:35] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ({شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} ويقول: لهب النار {وَنُحَاسٌ} يقول: دخان النار) ، وكذا قال سعيد بن جبير وأبو صالح وغيرهما: أن النحاس دخان النار ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: {شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} قال: (دخان) ، وقال أبو صالح: (الشواظ: اللهب الذي فوق النار ودون الدخان) ، قال منصور عن مجاهد: (الشواظ، هو اللهب الأخضر المتقطع) وعنه قال: (الشواظ قطعة من النار فيها خضرة) .
قال الحسين بن منصور: أخرج الفضيل بن عياض رأسه من خوخة, فقال منصور عن مجاهد: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ} [ الرحمن:35] ثم أدخل رأسه فانتحب ثم أخرج رأسه، فقال: هو اللهب المنقطع, ولم يستطع أن يجيز الحديث .
وخرج النسائي والترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف امرئ أبداً))
أما حرها فقال تعالى: {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81] وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضا فنفسني, فأذن لها في نفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر من سمومها, وأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها)) .
وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ناركم هذه ما يوقد ابن آدم جزء واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم)) قالوا: والله إن كانت لكافية قال: ((إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها)) .
وخرجه الإمام أحمد وزاد فيه: ((وضربت بالبحر مرتين, ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد)) وتقدم.
وخرج الإمام عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن النار هذه جزء من مائة جزء من جهنم)) وروى الطبراني: ((أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق لو أن قدر ثقب إبرة فتح من جهنم لمات من في الأرض كلهم جميعاً من حره)) .
قال الحافظ : (وروي عن الحسن مرسلاً من وجه ضعيف، والحديث تكلم فيه والله تعالى أعلم).
وقال كعب الأحبار رحمه الله لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لو فتح من جهنم قدر منخر ثور بالمشرق ورجل بالمغرب لغلى دماغه حتى يسيل من حرها.)
وقال عبد الملك بن عمير: (لو أن أهل النار كانوا في نار الدنيا لقالوا فيها).
وقال بشير بن منصور: قلت لعطاء السلمي رحمه الله: (لو أن إنساناً أوقدت له نار وقيل له: من دخل هذه النار نجا من النار، فقال عطاء: لو قيل لي ذلك لخشيت أن تخرج نفسي فرحاً قبل أن أقع فيها) .
فإن قلت قد ذكرت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((أن هذه النار جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم)) وفي حديث آخر ((من مائة جزء)) وكلا الحديثين ثابت عنه صلى الله عليه وسلم.
قلت: لفظة سبعين وسبعمائة وسبعة آلاف ونحوها كثيراً ما يراد به التكثير كقوله تعالى: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] وهذا كثير جداً في كلام العرب أو يقال: إن هذين الحديثين وردا بحسب اختلاف النارين اللتين من نار الدنيا, وكل أحد يشاهد أن بعض نار الدنيا أقوى وأشد حر من بعض، هذا معلوم بالحس لا ينكره أحد والله تعالى أعلم.
وأما زمهريرها
فروي أن بيتاً في جهنم يتميز فيه الكافر من برده يعني يتقطع ويتمزع وقال مجاهد: (إن في النار لزمهريراً يقيلون فيه، يهربون إلى ذلك الزمهرير فإذا وقعوا حطم عظامهم حتى يسمع لها نقيض).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحر) .
وعن عبد الملك بن عمير أنه قال: (بلغني أن أهل النار يسألون خازنها أن يخرجهم إلى حَبَّانها فأخرجهم فقتلهم البرد حتى رجعوا إليها فدخلوها مما وجدوا من البرد) .
وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن كعباً رضي الله عنه قال: (إن في جهنم برداً هو الزمهرير يسقط اللحم حتى يستغيثوا بحر جهنم) .
المطلب التاسع: النار تتكلم وتبصر
الذي يقرأ النصوص من الكتاب والسنة التي تصف النار يجدها مخلوقاً يبصر، ويتكلم، ويشتكي، ففي الكتاب العزيز أن النار ترى أهلها وهم قادمون إليها من بعيد، فعند ذلك تطلق الأصوات المرعبة الدالة على مدى حنقها وغيظها على هؤلاء المجرمين، قال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12 ]. وروى ابن جرير عن ابن عباس قال: ((إن الرجل ليجر إلى النار، فتنزوي وينقبض بعضها إلى بعض، فيقول لها الرحمن: مالك؟ فتقول: إنه يستجير مني، فيقول: أرسلوا عبدي. وإن الرجل ليجر إلى النار فيقول: يا رب ما كان هذا الظن بك، فيقول: ما كان ظنك؟ فيقول: أن تسعني رحمتك، فيقول: أرسلوا عبدي. وإن الرجل إلى النار، فتشهق إليه النار شهوق البغلة إلى الشعير، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف)) . وقد خرج الإمام أحمد والترمذي من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يخرج يوم القيامة عنق من النار، لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، تقول: إني وُكّلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين)) .
المطلب العاشر: رؤيا ابن عمر للنار
وفي (الصحيحين) واللفظ للبخاري عن ابن عمر: ((أنه رأى في المنام أنه جاءه ملكان في يد كل واحد منهما مقمعة من حديد، يقبلا بي إلى جهنم ثم لقيه ملك في يده مقمعة من حديد، قالوا: لن تُرع. نعم الرجل أنت، لو كنت تكثر الصلاة، قال: فانطلقوا بي حتى وقفوا بي على شفير جهنم، فإذا هي مطوية كطي البئر، له قرون كقرن البئر، بين كل قرنين ملك بيده مقمعة من حديد، وأرى فيها رجالاً معلقين بالسلاسل، رؤوسهم أسفلهم، عرفت فيها رجالاً من قريش، فانصرفوا بي عن ذات اليمين، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن عبدالله رجل صالح)) .

المطلب الحادي عشر: هل يرى أحد النار قبل يوم القيامة عياناً؟
الذي نعلمه أن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه قد رأى النار كما رأى الجنة في حياته، ففي (الصحيحين) عن عبدالله بن عباس في صلاة الخسوف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إني رأيت الجنة، فتناولت عنقوداً، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، وأريت النار فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء)) وفي (صحيح البخاري) عن أسماء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((قد دنت مني الجنة، حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطاف من قطافها، ودنت مني النار حتى قلت: أي رب وأنا معهم؟ فإذا امرأة - حسبت أنه قال – تخدشها هرة. قلت: ما شأن هذه؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعاً، لا هي أطعمتها، ولا أرسلتها تأكل – قال نافع: حسبت أنه قال: - من خشيش أو خشاش الأرض)) وفي (مسند أحمد) عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ((إن النار أدنيت مني حتى نفخت حرها عن وجهي، فرأيت فيها صاحب المحجن، والذي بحر البحيرة، وصاحب حمير، وصاحبة الهرة)) وفي (صحيح مسلم) عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عرضت عليّ الجنة، حتى لو تناولت منها قطفاً أخذته، (أو قال: تناولت منها قطفاً، فقَصُرت يدي عنه)، وعرضت عليّ النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها، ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ورأيت عمرو بن مالك يجرُّه قصبه في النار)) ، وبعد أن يموت العباد تعرض عليهم في البرزخ مقاعدهم في الجنة إن كانوا مؤمنين، ومقاعدهم في النار إن كانوا كافرين.
المطلب الثاني عشر: تأثير النار على الدنيا وأهلها
روى البخاري في (صحيحه) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((اشتكت النار إلى ربها، فقالت رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لنا بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر، وأشدُّ ما تجدون من الزمهرير)) . وروى البخاري أيضاً عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم)
المبحث السابع: أهل النار
المطلب الأول: أهل النار المخلدون فيها
التعريف بهم:
أهل النار الخالدون فيها الذين لا يرحلون ولا يبيدون - هم الكفرة والمشركون. قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 36]، وقال: {لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء: 99 ]، وقال: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف: 74 ]، وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36 ]. وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 39 ]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} [البقرة:161-162]. وقال: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63] وقال: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17] ولما كانوا خالدين فيها فقد وصف الحق عذاب النار بأنه مقيم، أي لا ينقطع، كما أضافه إلى الخلد، قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [النجم:37] وقال: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [يونس: 52]. وفي (صحيح البخاري) عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم: يا أهل النار لا موت، ويا أهل الجنة لا موت، خلود)) . وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة خلود لا موت، ولأهل النار، يا أهل النار خلود لا موت)) وهذا يقال بعد ذبح الموت كما في حديث ابن عمر عند البخاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي منادي: يا أهل الجنة لا موت، يا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم)) .
وفي (صحيح مسلم) عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون:نعم هذا الموت. قال: ويقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح. قال: ثم قال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت. قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39 ])) . وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري يرفعه قال: ((إذا كان يوم القيامة أتي بالموت كالكبش الأملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيذبح وهم ينظرون، فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة، ولو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار))
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المطلب الثاني: النار مسكن الكفرة المشركين
لما كان الكفرة المشركون خالدين في النار فإن النار تعتبر بالنسبة لهم سكناً ومأوى، كما أن الجنة مسكن المؤمنين، {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151 ]، {أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [يونس: 8 ]، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68]. وهي مأواهم تتولى أمرهم {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ} [الحديد: 15 ]. وهي بئس المسكن والمثوى، {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 206 ]، {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ} [ص:55-56 ].
المطلب الثالث: الدعاة إلى النار
أصحاب المبادئ الضالة، والمذاهب الباطلة المخالفون لشرع الله، الدعاة المؤمنون بباطلهم هم دعاة النار، {أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [البقرة: 221]، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41]، ومن هؤلاء الشيطان {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان: 21]، {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]. وهؤلاء الذين يدعون إلى النار في الدنيا يقودون أقوامهم وأتباعهم إلى النار في الآخرة، ففرعون مثلاً: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98]. وكل قادة الشر الذين يدعون إلى عقائد ومبادئ مخالفة للإسلام هم دعاة إلى النار، لأن الطريق الوحيد الذي ينجي من النار ويدخل الجنة هو طريق الإيمان {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر: 41 ]، كانوا يدعونه إلى فرعون وكفره وشركه، وهو يدعوهم إلى الله وتوحيده والإيمان به. ولما كان الكفار دعاة إلى النار حرم الله على المؤمنين الزواج من المشركات، كما حرم على المؤمنات الزواج من المشركين {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221
المطلب الرابع: أعظم جرائم الخالدين في النار
لقد أطال القرآن في تبيان جرائم الخالدين الذين استحقوا بها الخلود في النيران، ونحن نذكر هنا أهمها:
1- الكفر والشرك
فقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أن الذين كفروا يُنادَون عندما يكونون في النار. فيقال لهم: إن مقت الله لكم أعظم من مقتكم أنفسكم بسبب كفركم بالإيمان، ثم بين أن خلودهم في النار إنما هو بسبب كفرهم وشركهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 10]. وحدثنا الحق تبارك وتعالى أن خزنة النار يسألون الكفار عند ورودهم النار قائلين: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 50]، فيكون الجواب: أنهم استحقوا النار بسبب تكذيبهم المرسلين، وما جاؤوا به {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 9 ]. وقال في المكذبين بالكتاب: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} [طه:99-101]. وقال في المكذبين بالكتاب المشركين بالله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر: 70-76 ]. وقال في الكفرة المشركين المسوين آلهتم برب العالمين: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 94-98 ]. وقال في حق المكذبين بيوم الدين: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} [الفرقان:11]، {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} [الرعد: 5 ]. وقال: {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 97-98 ].
2- عدم القيام بالتكاليف الشرعية مع التكذيب بيوم الدين وترك الالتزام بالضوابط الشرعية
فقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أن أهل الجنة يسألون أهل النار قائلين: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42 ] فيجيبون قائلين: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 43-47 ].
3- طاعة رؤساء الضلال وزعماء الكفر فيما قرروه من مبادئ الضلال وخطوات الكفر التي تصد عن دين الله ومتابعة المرسلين.
قال تعالى: في هؤلاء: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 25-28]. وعندما يحل الكفار في النار، وتقلب وجوههم فيها يتندمون لعدم طاعتهم الله ورسوله، وطاعتهم السادة الكبراء: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لاَّ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب: 64-67 ].
4- النفاق: وعد الله المنافقين النار، وهو وعد قطعه على نفسه لا يخلفه
{وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [التوبة: 68 ]، وأخبرنا أن موقع المنافقين في النار هو دركاتها السفلى، وهي أشدها حراً، وأكثرها إيلاماً {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] .
5- الكبر
وهذه صفة يتصف بها عامة أهل النار، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 36 ]. وقد عقد مسلم في (صحيحه) باباً عنون له بقوله: باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء وذكر فيه احتجاج الجنة والنار وما قالتا وما قال الله لهما، وساق فيه حديث أبي هريرة يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه أن النار قالت: ((يدخلني الجبارون والمتكبرون)) وفي رواية قالت: ((أوثرت بالمتكبرين والجبارين. وقال الله لها: أنت عذابي أعذب بك من أشاء)) . وفي (صحيحي البخاري ومسلم) و(سنن الترمذي) عن حارثة بن وهب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار، كل عتل جواظ مستكبر)) ، وفي رواية لمسلم: ((كل جواظ زنيم متكبر)) ومصداق هذا في كتاب الله تبارك وتعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60 ]، وقوله: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأحقاف: 20 ]، وقولـه: {فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37-39 ].
المطلب الخامس: جملة الجرائم التي تدخل النار
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ما عمل أهل النار، وما عمل أهل الجنة؟ فأجاب: عمل أهل النار: الإشراك بالله تعالى، والتكذيب للرسل، والكفر، والحسد، والكذب، والخيانة، والظلم، والفواحش، والغدر، وقطيعة الرحم، والجبن عن الجهاد، والبخل، واختلاف السر والعلانية، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والجزع عند المصائب، والفخر والبطر عند النعم، وترك فرائض الله، واعتداء حدوده، وانتهاك حرماته، وخوف المخلوق دون الخالق، والعمل رياءً وسمعة، ومخالفة الكتاب والسنة؛ أي: اعتقاداً وعملاً، وطاعة المخلوق في معصية الخالق، والتعصب للباطل، والاستهزاء بآيات الله، وجحد الحق، والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة، والسحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والربا، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات. وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم جماع الذنوب التي تدخل النار، ففي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة له طويلة: ((وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبْرَ له، الذين هم فيكم تبعاً لا يبتغون أهلا ولا مالاً، والخائن الذي لا يخفى له طمع، وإن دقّ إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسى إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك. وذكر البخل، والكذب، والشنظير، الفحاش)) .
المطلب السادس: أشخاص بأعيانهم في النار
الكفار المشركون في النار لا شك في ذلك، وقد أخبرنا القرآن الكريم، كما أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن أشخاصاً بأعيانهم في النار، فمن هؤلاء فرعون موسى، {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود: 98]. ومنهم: امرأة نوح وامرأة لوط، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10 ].
ومنهم: أبو لهب وامرأته {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد]. ومنهم: عمرو بن عامر الخزاعي، فقد رآه الرسول يجر أمعاءه في النار، ومنهم الذي قتل عمار وسلبه، ففي (معجم الطبراني) بإسناد صحيح عن عمرو بن العاص وعن ابنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قاتل عمار وسالبه في النار)) .
المطلب السابع: كفرة الجن في النار
كفرة الجن يدخلون النار كما يدخلها كفرة الإنس، فالجن مكلفون كالإنس: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56 ]. وفي يوم القيامة يحشر الجن والإنس على حد سواء: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ} [الأنعام: 128 ]، {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} [مريم: 68-70 ] ثم يقال للكفرة منهم: {ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ} [الأعراف: 38 ]، وعند ذلك يكبكبون في النار: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء: 94-95 ]، وبذلك تتم كلمة الله القاضية بملء النار من كفرة الجن والإنس {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119] {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [فصلت: 25 ].

المطلب الثامن: الذين لا يخلدون في النار
التعريف بهم: الذين يدخلون النار، ثم يخرجون منها هم أهل التوحيد الذين لم يشركوا بالله شيئاً، ولكن لهم ذنوب كثيرة فاقت حسناتهم، فخفت موازينهم، فهؤلاء يدخلون النار مدداً يعلمها الله تبارك وتعالى، ثم يخرجون بشفاعة الشافعين، ويخرج الله برحمته أقواماً لم يعملوا خيراً قط.
المطلب التاسع: صفات أهل النار
عن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف, لو أقسم على الله لأبره, ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل, جواظ, مستكبر)) .
و(العتل) قال مجاهد وعكرمة: (هو القوي) ، وقال أبو رزين: (هو الصحيح) .
وقال عطاء بن يسار: عن وهب الذماري قال: (تبكي السماء والأرض من رجل أتم الله خلقه, وأرحب جوفه, وأعطاه معظماً من الدنيا, ثم يكون ظلوماً غشوماً للناس, لذلك العتل الزنيم) .
وقال إبراهيم النخعي: (العتل: الفاجر, والزنيم: اللئيم في أخلاق الناس).
وروى شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن غنم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة جواظ, ولا جعظري, ولا العتل الزنيم, فقال رجل من المسلمين: ما الجواظ, الجعظري, والعتل الزنيم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجواظ الذي جمع ومنع, وأما الجعظري فالفظ الغليظ قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وأما العتل الزنيم فشديد الخلق, رحيب الجوف, مصحح, أكول, شروب, واجد للطعام, ظلوم للأنام)) .
وروى معاوية بن صالح عن كثير بن الحارث عن القاسم مولى معاوية قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العتل الزنيم قال: ((هو الفاحش اللئيم)) وقال معاوية: وحدثني عياض بن عبدالله الفهري عن موسى بن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك خرجه كله ابن أبي حاتم .
وأما المستكبر فهو الذي يتعاطى الكبر على الناس والتعاظم عليهم, وقد قال الله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60] وقد ذكرنا فيما سبق حديث: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر, يساقون إلى سجن في النار يقال له: بولس, تعلوهم نار الأنيار, يغشاهم الذل من كل مكان)) فإن عقوبة التكبر الهوان والذل كما قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20]
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه عز وجل قال: ((الكبرياء ردائي, والعظمة إزاري, فمن نازعني واحداً منهما عذبته بناري)) يعني: ألقيته في جهنم .
وفي (الصحيحين) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تحاجت الجنة والنار, فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين, والمتجبرين, وقالت الجنة: (فما لي) لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم (وغرتهم), قال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي فلا تمتلئ حتى يضع عليها رجله, فتقول: قط قط. فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض, ولا يظلم الله من خلقه أحداً, وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً))
وفي رواية خرجها ابن أبي حاتم: ((فقالت النار مالي لا يدخلني إلا الجبارون, والمتكبرون, والأشراف, وأصحاب الأموال)) .
وخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((افتخرت الجنة والنار فقالت النار: يا رب يدخلني الجبابرة, والمتكبرون, والملوك, والأشراف، وقالت الجنة: أي رب يدخلني الضعفاء, والفقراء, والمساكين)) ذكر الحديث بمعنى ما تقدم.
وسبب هذا أن الله عز وجل حف الجنة بالمكاره, وحف النار بالشهوات كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37-41]
وفي (صحيح البخاري) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حجبت الجنة بالمكاره, وحجبت النار بالشهوات)) , وخرجه مسلم ولفظه: ((حفت الجنة بالمكاره, وحفت النار بالشهوات)) وخرجه أيضاً من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها, قال: فجاءها فنظر إليها وإلى ما أعد لأهلها فيها, قال: فرجع إليه فقال: فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها, فأمر بها فحفت بالمكاره, فقال: ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها, قال: فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره, فرجع إليه فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد. قال: فاذهب إلى النار فانظر إلى ما أعددت لأهلها, فإذا هي يركب بعضها بعضاً, فرجع إليه فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها, فأمر بها فحفت بالشهوات، فقال: ارجع إليها, فرجع إليها فقال: وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها)) .
فتبين بهذا أن صحة الجسد وقوته, وكثرة المال, والتنعم بشهوات الدنيا, والتكبر والتعاظم على الخلق وهي صفات أهل النار التي ذكرت في حديث حارثة بن وهب, هي جماع الطغيان والبغي كما قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [ العلق:6-7] والطغيان وإيثار الحياة الدنيا وشهواتها من موجبات النار كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37-39].
وأما الضعيف في البدن, والاستضعاف في الدنيا من قلة المال والسلطان, مع الإيمان فهو جماع كل خير، ولهذا يقال: من العصمة أن لا تجد، فهذه صفة أهل الجنة التي ذكرت في حديث حارثة.
وقد روي نحو حديث حارثة من وجوه متعددة وفي بعضها زيادات... ومن حديث سراقة بن مالك بن جعشم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا سراقة, ألا أخبرك بأهل الجنة وأهل النار؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: أما أهل النار فكل جعظري, جواظ، مستكبر. وأما أهل الجنة فالضعفاء المغلوبون))
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
ومن حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بأهل الجنة وأهل النار، أما أهل الجنة فكل ضعيف متضعف, أشعث ذو طمرين, لو أقسم على الله لأبره، وأما أهل النار فكل جعظري, جواظ, جماع, مناع, ذي تبع)) ...
وخرج الطبراني من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بصفة أهل الجنة؟ قلنا: بلى يا رسول الله, قال: كل ضعيف متضاعف, ذو طمرين, لو أقسم على الله لأبره, ألا أنبئكم بأهل النار؟ قلنا: بلى يا رسول الله, قال: كل جظٍ, جعظرٍ, مستكبر، قال: فسألته: ما الجظ؟ قال: الضخم, وما الجعظر؟ قال: العظيم في نفسه)) ...
وروى سليم بن عمر عن فرات البهراني عن أبي عامر الأشعري أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل النار فقال: لقد سألت عن عظيم, كل شديد قعبري, فقال: وما القعبري يا رسول الله؟ قال: الشديد على العشيرة, الشديد على الأهل, الشديد على الصاحب، قال: فمن أهل الجنة يا رسول الله؟ فقال: سبحان الله, لقد سألت عن عظيم, كل ضعيف مزهد)) .
وفي المعنى أحاديث أخر، وفي (صحيح مسلم) عن عياض بن حمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: ((وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق, ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم, وعفيف متعفف ذو عيال. وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له, الذين هم فيكم تبعاً لا يبغون أهلاً, ولا مالاً. والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه, ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك)) وذكر البخل, والكذب, والشنظير الفحاش .
ففي هذا الحديث جعل النبي صلى الله عليه وسلم أهل الجنة ثلاث أصناف.
أحدهما- ذو السلطان المقسط المتصدق, وهو من كان له سلطان على الناس, فسار في سلطانه بالعدل, ثم ارتقى درجة الفضل.
والثاني- الرحيم الرقيق القلب, الذي لا يخص برحمته قرابته, بل يرحم المسلمين عموماً، فتبين أن القسمين أهل الفضل والإحسان.
والثالث: العفيف المتعفف, ذو العيال, وهو من يحتاج إلى ما عند الناس فيتعفف عنهم, وهذا أحد نوعي الجود أعني العفة عما في أيدي الناس لا سيما مع الحاجة.
وقد وصف الله في كتابه أهل الجنة ببذل الندى, وكف الأذى ولو كان الأذى بحق, فقال: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [ آل عمران:133-134]، فهذا حال معاملتهم للخلق ثم وصف قيامهم بحق الحق فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [ آل عمران:135-136] فوصفهم الله عند الذنوب بالاستغفار، وعدم الإصرار, وهو حقيقة التوبة النصوح.
وقريب من هذه الآية قوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد:11-18]، والعقبة قد فسرها ابن عباس بالنار، وفسرها ابن عمر بعقبة في النار ... فأخبر سبحانه أن اقتحامها، وهو قطعها ومجاوزتها يحصل بالإحسان إلى الخلق، إما بعتق الرقبة, وإما بالإطعام في المجاعة, والمطعم إما يتيم من ذوي القربى, أو مسكين قد لصق بالتراب فلم يبق له شيء. ولا بد مع هذا الإحسان أن يكون من أهل الإيمان, والآمر لغيره بالعدل والإحسان, وهو التواصي بالصبر, والتواصي بالمرحمة, وأخبر سبحانه أن هذه الأوصاف أوصاف أصحاب الميمنة.
وأما أهل النار فقد قسمهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث خمسة أصناف.
الصنف الأول: الضعيف، الذي لا زبر له، ويعني بالزبر القوة والحرص على ما ينتفع به صاحبه في الآخرة من التقوى والعمل الصالح, وخرج العقيلي من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((إن الله يبغض المؤمن الذي لا زبر له)) قال بعض رواة الحديث: يعني الشدة في الحق, ولما حدث مطرف بن عبدالله بحديث عياض بن حمار هذا وبلغ قوله: ((الضعيف الذي لا زبر له)) فقيل له: أو يكون هذا؟ قال: نعم والله, لقد أدركتهم في الجاهلية وإن الرجل ليرعى على الحي ماله إلا وليدتهم يطؤها ........ وهذا القسم شر أقسام الناس, ونفوسهم ساقطة, لأنهم ليس لهم همم في طلب الدنيا ولا الآخرة, وإنما همه شهوة بطنه وفرجه كيف اتفق له، وهو تبع للناس خادم لهم أو طواف عليهم سائل لهم.
والصنف الثاني: الخائن: لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه أي يعني لا يقدر على خيانة ولو كانت حقيرة يسيرة إلا بادر إليها واغتنمها, ويدخل في ذلك التطفيف في المكيال والميزان, وكذلك الخيانة في الأمانات القليلة كالودائع, وأموال اليتامى, وغير ذلك, وهو خصلة من خصال النفاق, وربما يدخل الخيانة من خان الله ورسوله في ارتكاب المحارم سراً مع إظهار اجتنابها.
قال بعض السلف: كنا نتحدث أن صاحب النار من لا تمنعه خشية الله من شيء خفي له.
الصنف الثالث: المخادع، الذي دأبه صباحاً ومساء مخادعة الناس على أهليهم وأموالهم والخداع من أوصاف المنافقين كما وصفهم الله تعالى بذلك, والخداع معناه إظهار الخير, وإضمار الشر لقصد التوصل إلى أموال الناس وأهليهم والانتفاع بذلك، وهو من جملة المكر والحيل المحرمة، وفي حديث ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار))
الصنف الرابع: الكذب والبخل ...
الصنف الخامس: الشنظير وقد فسر بالسيء الخلق، والفاحش هو الفاحش المتفحش.
وفي (الصحيحين) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه)).
وفي الترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يبغض الفاحش الفاحش البذيء)) والبذيء الذي يجري لسانه بالسفه ونحوه من لغو الكلام.
وفي (المسند) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بحسب امرئٍ من الشر أن يكون فاحشاً بذيئاً بخيلاً جباناً)) فالفاحش هو الذي يفحش في منطقه ويستقبل الرجال بقبيح الكلام من السب ونحوه، ويأتي في كلامه بالسخف وما يفحش ذكره.
المبحث الثامن: الذنوب المتوعد عليها بالنار
المطلب الأول: الفرق المخالفة للسنة
روى أبو داود والدارمي وأحمد والحاكم وغيرهم عن معاوية بن أبي سفيان أنه قال: ألا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا فقال: ((ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة)) .
وهذا حديث صحيح. قال فيه الحاكم بعد سياقه لأسانيده: هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح الحديث. ووافقه الذهبي. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية فيه: هو حديث صحيح مشهور. وصححه الشاطبي في (الاعتصام)، وقد جمع الشيخ ناصر الدين الألباني طرقه وتكلم على أسانيده، وبين أنه حديث صحيح لا شك في صحته.
وقد ذهب صديق حسن خان إلى أن الزيادة التي في الحديث وهي: كلها هالكة إلا واحدة ومثلها: ثنتان وسبعون في النار زيادة ضعيفة. ونقل تضعيف ذلك عن شيخه الشوكاني ومن قبله عن ابن الوزير ومن قبله عن ابن حزم. وقد استحسن قول من قال: إن هذه الزيادة من دسيس الملاحدة، فإن فيها التنفير عن الإسلام والتخويف من الدخول فيه. وقد رد الشيخ ناصر الدين الألباني على من ضعّف هذه الزيادة من وجهين:
الأول: أن النقد العلمي الحديثي قد دل على صحة هذه الزيادة، فلا عبرة بقول من ضعفها.
الثاني: أن الذين صححوها أكثر وأعلم من ابن حزم، لا سيما وهو معروف عند أهل العلم بتشدده بالنقد، فلا ينبغي أن يحتج به إذا تفرد عند عدم المخالفة، فكيف إذا خالف.
وأما ابن الوزير فإنه يرد الزيادة من جهة المعنى لا من جهة الإسناد، وقد تكلم على هذا صديق حسن خان في (يقظة أولي الاعتبار) مبيناً أن مقتضى الزيادة أن الذي يدخل الجنة من هذه الأمة قليل، والنصوص الصحيحة الثابتة تدل على أن الداخلين من هذه الأمة الجنة كثير كثير، يبلغون نصف أهل الجنة.
والرد على هذا من عدة وجوه:
الأول: ليس معنى انقسام الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة أن يكون أكثر الأمة في النار، لأن أكثر الأمة عوام لم يدخلوا في تلك الفرق، والذين افترقوا وقعّدوا وأصّلوا مخالفين السنة قليل بالنسبة للذين جانبوا ذلك كله.
الثاني: ليس كل من خالف أهل السنة في مسألة من مسائل يعد من الفرق المخالفة للسنة، بل المراد بهم الذين تبنوا أصولاً تصيرهم فرقة مستقلة بنفسها، تركوا من أجلها كثيراً من نصوص الكتاب والسنة، كالخوارج والمعتزلة والرافضة. أما الذين يتبنون الكتاب والسنة ولا يحيدون عنهما، فإنهم إذا خالفوا في مسألة من المسائل لا يعدون فرقة من الفرق.
الثالث: الزيادة دلت على أن الفرق في النار، ولكنها لم توجب لهم الخلود في النار.
ومن المعلوم أن بعض أهل هذه الفرق كفرة خالدون في النار، كغلاة الباطنية الذين يُظِهرون الإيمان ويُبطنون الكفر كالإسماعيلية والدروز والنصيرية ونحوهم. ومنهم الذين خالفوا أهل السنة في مسائل كبيرة عظيمة، ولكنها لا تصل إلى الكفر، فهؤلاء ليس لهم وعد مطلق بدخول الجنة، ولكنهم تحت المشيئة إن شاء الله غفر لهم وإن شاء عذبهم، وقد تكون لهم أعمال صالحة عظيمة تنجيهم من النار، وقد ينجون من النار بشفاعة الشافعين، وقد يدخلون النار، ويمكثون فيها ما شاء الله أن يمكثوا، ثم يخرجون منها بشفاعة الشافعين ورحمة أرحم الراحمين.
المطلب الثاني: الممتنعون من الهجرة
لا يجوز للمسلم أن يقيم في ديار الكفر إذا وجدت ديار الإسلام خاصة إذا كان مكثه في ديار الكفر يعرضه للفتنة، ولم يقبل الله الذين تخلفوا عن الهجرة، فقد أخبرنا الحق أن الملائكة تُبَكّت هذا الصنف من الناس حال الموت، ولا تعذرهم عندما يدعون أنهم كانوا مستضعفين في الأرض: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} [النساء: 97-98]، فلم يعذر الله من هؤلاء إلا المستضعفين الذين لا يجدون حيلة للخروج، ولا يهتدون إلى الطريق الذي يوصلهم إلى ديار الإسلام
المطلب الثالث: الجائرون في الحكم
أنزل الله الشريعة ليقوم الناس بالقسط، وأمر الله عباده بالعدل {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90]، وفرض على الحكام والقضاة الحكم بالعدل وعدم الجور {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [النساء: 58 ]، وقد تهدد الحق الذين لا يحكمون بالحق بالنار، فقد روى بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة: فرجل عرف الحق وقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار)) أخرجه أبو داود .
المطلب الرابع: الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم
عقد ابن الأثير في كتابه الكبير (جامع الأصول) فصلاً ساق فيه كثيراً من الأحاديث التي تحذر من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، فمنها ما رواه البخاري ومسلم والترمذي عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكذبوا عليَّ، فإنه من كذب عليَّ يلج النار)) .
ومنها ما رواه البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من تقوّل عليَّ ما لم أقل، فليتبوأ مقعده في النار)) . ومنها ما رواه البخاري في (صحيحه)، وأبو داود في (سننه) عن عبدالله بن الزبير عن أبيه الزبير بن العوام، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) . ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن كذباً عليّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار))
المطلب الخامس: الكبر
من الذنوب الكبار الكبر، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار (وفي رواية) أذقته النار)) رواه مسلم .
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنا، قال: إن الله جميل يحب الجمال. الكبر: بطر الحق، وغمط الناس)) رواه مسلم .
المطلب السادس: قاتل النفس بغير حق
قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93 ]. فلا يجوز في دين الله قتل النفس المسلمة إلا بإحدى ثلاث كما في الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين، التارك للجماعة)) وفي (صحيح البخاري) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) . قال ابن عمر: إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله . وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يقاتل بعضهم بعضاً، وأخبر أن القاتل والمقتول في النار، فعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار قال: فقلت، أو قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)) . ولذا فإن العبد الصالح أبى أن يقاتل أخاه، خشية أن يكون من أهل النار، فباء القاتل بإثمه وإثم أخيه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ} [المائدة: 27 – 29
المطلب السابع: أكلة الربا
من الذنوب التي توبق صاحبها الربا، وقد قال الحق في الذين يأكلونه بعد أن بلغهم تحريم الله له: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275 ]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 130-131 ].
وقد عده الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه واحداً من سبعة ذنوب توبق صاحبها، ففي (الصحيحين) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات))
المطلب الثامن: أكلة أموال الناس بالباطل
من الظلم العظيم الذي يستحق به صاحبه النار أكل أموال الناس بالباطل، كما قال تعالى:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً} [النساء: 29-30 ].
ومن أكل أموال الناس بالباطل أكل أموال اليتامى ظلماً، وقد خص الحق أموالهم بالذكر لضعفهم وسهولة أكل أموالهم، ولشناعة هذه الجريمة {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]
المطلب التاسع: المصورون
أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون الذين يضاهئون خلق الله، ففي (الصحيحين) عن عبدالله بن مسعود، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أشدّ الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون)) .
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً، فتعذبه في جهنم)) متفق عليه
وعن عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم: ((قال في النمرقة التي فيها تصاوير: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)) متفق عليه .
وعن عائشة أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أشدّ الناس عذاباً الذين يضاهون بخلق الله)) متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال عزّ وجلّ: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة)) متفق عليه
المطلب العاشر: الركون إلى الظالمين
من الأسباب التي تدخل النار الركون إلى الظالمين أعداء الله وموالاتهم: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113 ].
المطلب الحادي عشر: الكاسيات العاريات والذين يجلدون ظهور الناس
من الأصناف التي تصلى النار الفاسقات المتبرجات اللواتي يفتن عباد الله، ولا يستقمن على طاعة الله، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا)) أخرجه مسلم، والبيهقي، وأحمد .
قال القرطبي في الذين معهم سياط كأذناب البقر: وهذه الصفة للسياط مشاهدة عندنا بالمغرب إلى الآن قال صديق حسن خان معقباً على قول القرطبي: بل هو مشاهد في كل مكان وزمان، ويزداد يوماً فيوماً عند الأمراء والأعيان، فنعوذ بالله من جميع ما كرهه الله. أقول: ولا زلنا نرى هذا الصنف من الناس في كثير من الديار يجلدون أبشار الناس، فتبّاً لهؤلاء وأمثالهم. والكاسيات العاريات كثيرات في زماننا، ولعله لم يسبق أن انتشرت فتنتهن كما انتشرت في زماننا، وهن على النعت الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم: كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت.
المطلب الثاني عشر: الذين يعذبون الحيوان
روى مسلم في (صحيحه) عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عُرضَت عليّ النار، فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تُعذّب في هرة لها، ربطتها فلم تُطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت جوعاً)) إذا كان هذا حال من يعذب هرة، فكيف من يتفنن في تعذيب العباد؟ فكيف إذا كان التعذيب للصالحين منهم بسبب إيمانهم وإسلامهم ؟
المبحث التاسع: كثرة أهل النار
المطلب الأول: النصوص الدالة على كثرة أهل النار
جاءت النصوص كثيرة وافرة دالة على كثرة من يدخل النار من بني آدم، وقلة من يدخل الجنة منهم.
قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103 ]، وقال: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20 ]. وقال الحق تبارك وتعالى لإبليس: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85 ] فكل من كفر فهو من أهل النار على كثرة من كفر من بني آدم.
ويدلك على كثرة الكفرة المشركين الذين رفضوا دعوة الرسل أنّ النبي يأتي في يوم القيامة ومعه الرهط، وهم جماعة دون العشرة، والنبي ومعه الرجل والرجلان، بل إن بعض الأنبياء يأتي وحيداً لم يؤمن به أحد، ففي (صحيح مسلم) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد))
وجاءت نصوص كثيرة تدل على أنه يدخل في النار من بني آدم تسعمائة وتسعة وتسعون من كل ألف، وواحد فقط هو الذي يدخل الجنة. فقد روى البخاري في (صحيحه) عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، ثم يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذاك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد. فاشتد ذلك عليهم فقالوا: يا رسول الله، أينا ذلك الرجل؟ قال: أبشروا، فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم رجل. ثم قال: والذي نفسي بيده، إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة. قال: فحمدنا الله وكبرنا. ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة، إنّ مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالرقمة في ذراع الحمار)) .
وروى عمران بن حصين ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو في بعض أسفاره، وقد تفاوت بين أصحابه السير، رفع بهاتين الآيتين صوته: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1-2 ]، فلما سمع أصحابه ذلك حثوا المطي، وعرفوا أنه عند قول يقوله، فلما دنوا حوله قال: أتدرون أي يوم ذاك؟ قال: ذاك يوم يُنادى آدم عليه السلام، فيناديه ربه عز وجل، فيقول: يا آدم ابعث بعثاً إلى النار. فيقول: يا رب، وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحد في الجنة. قال: فأبلس أصحابه، حتى ما أوضحوا بضاحكة. فلما رأى ذلك قال: أبشروا واعملوا، فوالذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج، ومن هلك من بني آدم وبني إبليس قال: فسري عنهم، ثم قال: اعملوا وأبشروا، فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو الرقمة في ذراع الدابة)) رواه أحمد والترمذي والنسائي في كتاب التفسير في (سننهما)، وقال الترمذي: حسن صحيح
وقد يقال كيف تجمع بين هذه الأحاديث وبين ما ثبت في (صحيح البخاري) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أول من يدعى يوم القيامة آدم، فتراءى ذريته، فيقال: هذا أبوكم آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج بعث جهنم من ذريتك، فيقول: أخرج بعث جهنم من ذريتك، فيقول: يا رب، كم أخرج؟ فيقول: أخرج من كل مائة تسعة وتسعين فقالوا: يا رسول الله، إذا أخذ منا من كل مائه تسعة وتسعون، فما يبقى منا؟ قال: إن أمتي في الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود))
والظاهر أن هذه الرواية لا تخالف الروايات الأخرى الصحيحة ... فإن ذلك العدد باعتبار معين، وهذا العدد باعتبار آخر. فالأحاديث التي تجعل النسبة تسعمائة وتسعة وتسعين يمكن تحمل على جميع ذرية أدم، وحديث البخاري الذي يجعلها تسعة وتسعين تحمل على جميع ذريته ما عدا يأجوج ومأجوج، ويقرب هذا الجمع كما يقول ابن حجر أن يأجوج ومأجوج ذكروا في حديث أبي سعيد دون حديث أبي هريرة، ويمكن أن يقال: إن الأحاديث الأولى تتعلق بالخلق أجمعين، فإذا جعلت نسبة من يدخل النار إلى من يدخل الجنة باعتبار الأمم جميعاً تكون النسبة، ويكون حديث البخاري الأخير مبيناً نسبة من يدخل النار من هذه الأمة دون سواها، قال ابن حجر: ويُقربه أي هذا القول قولهم في حديث أبى هريرة إذا أخذ منا، ثم قال: ويحتمل أن تقع القسمة مرتين مرة من جميع الأمم قبل هذه الأمة، فيكون من كل ألف واحد إلى الجنة، ومرة من هذه الأمة، فيكون من كل ألف عشرة.
المطلب الثاني: السر في كثرة أهل النار
ليس السبب في كثرة أهل النار هو عدم بلوغ الحق إلى البشر على اختلاف أزمانهم وأمكنتهم، فإن الله لا يؤاخذ العباد إذا لم تبلغهم دعوته، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15 ]، ولذلك فإن الله أرسل في كل أمة نذيراً، {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24 ]. ولكن السبب وراء ذلك يعود إلى قلة الذين استجابوا للرسل وكثرة الذين كفروا بهم، وكثير من الذين استجابوا لم يكن إيمانهم خالصاً نقياً. وقد تعرض ابن رجب في كتابه (التخويف من النار) إلى السبب في قلة أهل الجنة، وكثرة أهل النار فقال: فهذه الأحاديث وما في معناها تدل على أن أكثر بني آدم من أهل النار، وتدل أيضاً على أن أتباع الرسل قليل بالنسبة إلى غيرهم، وغير أتباع الرسل كلهم في النار إلا من لم تبلغه الدعوة أو لم يتمكن من فهمها على ما جاء فيه من الاختلاف، والمنتسبون إلى أتباع الرسل كثير منهم من تمسك بدين منسوخ، وكتاب مبدل، وهم أيضاً من أهل النار كما قال تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17]. وأما المنتسبون إلى الكتاب المحكم والشريعة المؤيدة والدين الحق فكثير منهم من أهل النار أيضاً، وهم المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، وأما المنتسبون إليه ظاهراً وباطناً فكثير منهم فتن بالشبهات، وهم أهل البدع والضلال، وقد وردت الأحاديث على أن هذه الأمة ستفترق على بضع وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة، وكثير منها أيضاً فتن بالشهوات المحرمة المتوعد عليها بالنار وإن لم يقتض ذلك الخلود فيها فلم ينج من الوعيد بالنار، ولم يستحق الوعد المطلق بالجنة من هذه الأمة إلا فرقة واحدة، وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ظاهراً وباطناً، وسلم من فتنة الشهوات والشبهات، وهؤلاء قليل جداً لاسيما في الأزمان المتأخرة ولعل السبب الأعظم هو اتباع الشهوات، ذلك أن حب الشهوات مغروس في أعماق النفس الإنسانية {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14 ]. وكثير من الناس يريد الوصول إلى هذه الشهوات عن الطريق التي تهواها نفسه ويحبها قلبه، ولا يراعي في ذلك شرع الله المنزل، أضف إلى هذا تمسك الأبناء بميراث الآباء المناقض لشرع الله {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 23-24]. وإلف ما كان عليه الآباء وتقديسه داء ابتليت به الأمم، لا يقل أثره عن الشهوات المغروسة في أعماق الإنسان، إن لم يكن هو شهوة في ذاته. وقد روى الترمذي وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لما خلق الله النار، قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات، فقال: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فلما رجع، قال: وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها)). أخرجه الترمذي وأبو داود، وزاد النسائي: بعد قوله: ((اذهب فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها)) وفي (صحيحي البخاري ومسلم) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره)). أخرجه البخاري ومسلم، ولمسلم ((حفت)) بدل: حجبت. قال صديق حسن خان: والمراد بالشهوات مرادات النفوس ومستلذاتها وأهويتها، وقال القرطبي: الشهوات كل ما يوافق النفس ويلائمها، وتدعو إليه، ويوافقها، وأصل الحفاف الدائر بالشيء المحيط به، الذي لا يتوصل إليه بعد أن يتخطى
المطلب الثالث: أكثر من يدخل النار النساء
وأما أكثر أهل النار أجارنا الله تعالى منها بمنه وكرمه فالنساء كما في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبة الكسوف: ((رأيت النار، ورأيت أكثر أهلها النساء لكفرهن قيل: أيكفرن بالله قال: يكفرن العشير, ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط)) .
وفي صحيح مسلم: ((اطَّلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)) ...
فالحاصل أنه يدخل النار من ذرية آدم خلق أكثر من الجنة، والذين يدخلون النار من أمة محمد أكثر من الذين يدخلون الجنة منهم باعتبار الدخول الأول، وأكثر من يدخل النار من أمة محمد النساء، والله أعلم.
المبحث العاشر: عظم خلق أهل النار
يدخل أهل الجحيم النار على صورة ضخمة هائلة لا يقدر قدرها إلا الذي خلقهم، ففي الحديث الذي يرفعه أبو هريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع)) رواه مسلم . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ضرس الكافر، أو ناب الكافر، مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث)) وقال زيد بن أرقم: ((إن الرجل من أهل النار ليعظم للنار، حتى يكون الضرس من أضراسه كأحد)). رواه أحمد وهو مرفوع، ولكن زيداً لم يصرح برفعه وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً، وإن ضرسه مثل أحد، وإن مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة)) رواه الترمذي وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ضرس الكافر يوم القيامة مثل أحد، وعرض جلده سبعون ذراعاً، وعضده مثل البيضاء، وفخذه مثل ورقان، ومقعده من النار ما بيني وبين الربذة)) أخرجه الحاكم وأحمد. وهذا التعظيم لجسد الكافر ليزداد عذابه وآلامه، يقول النووي في شرحه لأحاديث مسلم في هذا الباب: هذا كله لكونه أبلغ في إيلامه، وكل هذا مقدور لله تعالى: يجب الإيمان به لإخبار الصادق به. وقال ابن كثير معلقاً على ما أورده من هذه الأحاديث: ليكون ذلك أنكى في تعذيبهم، وأعظم في تعبهم ولهيبهم، كما قال شديد العقاب: {لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} [النساء: 56 ]
المبحث الحادي عشر: طعام أهل النار وشرابهم ولباسهم
إن طعام أهل النار هوالضريع والزقوم، وشرابهم الحميم والغسلين والغساق، قال تعالى: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ} [الغاشية: 6-7 ]، والضريع شوك بأرض الحجاز يقال له الشبرق. وعن ابن عباس: الشبرق: نبت ذو شوك لاطئ بالأرض، فإذا هاج سمي ضريعاً. وقال قتادة: من أضرع الطعام وأبشعه. وهذا الطعام الذي يأكله أهل النار لا يفيدهم، فلا يجدون لذة، ولا تنتفع به أجسادهم، فأكلهم له نوع من أنواع العذاب. وقال تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 43-46] وقد وصف شجرة الزقوم في آية أخرى فقال: { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإٍلَى الْجَحِيمِ} [الصافات: 62-68 ]. وقال في موضع آخر: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة: 51-56 ]. ويؤخذ من هذه الآيات أن هذه الشجرة شجرة خبيثة، جذورها تضرب في قعر النار، وفروعها تمتد في أرجائها، وثمر هذه الشجرة قبيح المنظر ولذلك شبهه برؤوس الشياطين، وقد استقر في النفوس قبح رؤوسهم وإن كانوا لا يرونهم، ومع خبث هذه الشجرة وخبث طلعها، إلا أن أهل النار يلقى عليهم الجوع بحيث لا يجدون مفراً من الأكل منها إلى درجة ملء البطون، فإذا امتلأت بطونهم أخذت تغلي في أجوافهم كما يغلي دردي الزيت، فيجدون لذلك آلاماً مبرحة، فإذا بلغت الحال بهم هذا المبلغ اندفعوا إلى الحميم، وهو الماء الحار الذي تناهى حره، فشربوا منه كشرب الإبل التي تشرب وتشرب ولا تروى لمرض أصابها، وعند ذلك يقطع الحميم أمعاءهم {وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} [ محمد: 15 ]. هذه هي ضيافتهم في ذلك اليوم العظيم، أعاذنا الله من حال أهل النار بمنه وكرمه. وإذا أكل أهل النار هذا الطعام الخبيث من الضريع والزقوم غصوا به لقبحه وخبثه وفساده {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل: 12-13 ]، والطعام ذو الغصة هو الذي يغص به آكله، إذ يقف في حلقه. ومن طعام أهل النار الغسلين، قال تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُونَ} [الحاقة: 35-37 ]، وقال تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَساقٌ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 57-58 ]. والغسلين والغساق بمعنى واحد، وهو ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد، وقيل: ما يسيل من فروج النساء الزواني ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم، وقال القرطبي: هو عصارة أهل النار. وقد أخبر الحق أن الغسلين واحد من أنواع كثيرة تشبه هذا النوع في فظاعته وشناعته. أما شرابهم فهو الحميم، قال تعالى: {وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} [ محمد: 15 ]، وقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنا أَعْتَدْنَا لِلظالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29 ]، وقال: وَيُسْقَى مِن ماء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ{ [إبراهيم:16-17]، وقال: }هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَساقٌ{ [ص: 57 ]. }
وقد ذكرت هذه الآيات أربعة أنواع من شراب أهل النار:
الأول: الحميم، وهو الماء الحار الذي تناهي حره، كما قال تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44 ]، والـ (آن): هو الذي انتهى حره، وقال: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:5 ]، وهي التي انتهى حرها فليس بعدها حر.
النوع الثاني: الغساق ...
النوع الثالث: الصديد، وهو ما يسيل من لحم الكافر وجلده، وفي (صحيح مسلم) عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن على الله عهداً لمن شرب المسكرات ليسقيه طينة الخبال. قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار)) .
الرابع: المهل وقال ابن عباس: في تفسير المهل: ((غليظ كدردي الزيت)) .
وأما لباس أهل النار فقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أنه يُفصّل لأهل النار حلل من النار، كما قال تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 19 ]. وكان إبراهيم التيمي إذا تلا هذه الآية يقول: سبحان من خلق من النار ثياباً. وقال تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النارُ} [إبراهيم: 48- 49]. والقطران: هو النحاس المذاب. وفي (صحيح مسلم) عن أبي مالك الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة، وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)). وخرجه ابن ماجه ولفظه: ((النائحة إذا ماتت ولم تتب قطع الله لها ثياباً من قطران ودرعاً من جرب)) .
المبحث الثاني عشر: عذاب أهل النار وصوره
المطلب الأول: شدة ما يكابده أهل النار من عذاب
النار عذابها شديد، وفيها من الأهوال وألوان العذاب ما يجعل الإنسان يبذل في سبيل الخلاص منها نفائس الأموال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن ناصِرِينَ} [آل عمران: 91 ]، وقال الحق في هذا المعنى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم ما فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة المائدة:36]
وفي (صحيح مسلم) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب)). إنها لحظات قليلة تُنسي أكثر الكفار نعيماً كلّ أوقات السعادة والهناء.
وفي (الصحيحين) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تبارك وتعالى لأهون أهل النار عذاباً لو كانت لك الدنيا وما فيها، أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم فيقول أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم أن لا تشرك (أحسبه قال:) ولا أدخلك النار، فأبيت إلا الشرك))
إن شدة النار وهولها تفقد الإنسان صوابه، وتجعله يجود بكل أحبابه لينجو من النار، وأنى له النجاة: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى} [المعارج: 11-16]. وهذا العذاب الهائل المتواصل يجعل حياة هؤلاء المجرمين في تنغيص دائم، وألم مستمر
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المطلب الثاني: صور من عذابهم
تفاوت عذاب أهل النار
لما كانت النار دركات بعضها أشد عذاباً وهولاً من بعض كان أهلها متفاوتون في العذاب، ففي الحديث الذي يرويه مسلم وأحمد عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أهل النار: ((إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى ترقوته (وفي رواية) إلى عنقه)) .
وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن أخف أهل النار عذاباً، ففي (صحيح البخاري) عن النعمان بن بشير قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة يغلي منها دماغه)) . وفي رواية أخرى في (صحيح البخاري) أيضاً عن النعمان بن بشير: ((إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة رجل على أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل في القمقم)).
وفي رواية النعمان بن بشير عن مسلم: ((إن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه، كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً))
وفي (صحيح مسلم) عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أدنى أهل النار عذابا ينتعل نعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه))
وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذُكر عنده عمه أبو طالب، فقال: ((لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه، يغلي منه أم دماغه))
وقد جاءت النصوص القرآنية مصدقة لتفاوت أصحاب النار في العذاب كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [ النساء:145]، وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [ غافر:46]، وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} [ النحل: 88].
يقول القرطبي في هذا الموضوع: هذا الباب يدلك على أن كفر من كفر فقط، ليس ككفر من طغى وكفر وتمرد وعصى، ولا شك أن الكفار في عذاب جهنم متفاوتون كما قد علم من الكتاب والسنة، ولأنا نعلم على القطع والثبات أنه ليس عذاب من قتل الأنبياء والمسلمين وفتك فيهم وأفسد في الأرض وكفر، مساوياً لعذاب من كفر فقط وأحسن للأنبياء والمسلمين، ألا ترى أبا طالب كيف أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ضحضاح لنصرته إياه، وذبّه عنه وإحسانه إليه؟ وحديث مسلم عن سمرة يصح أن يكون في الكفار بدليل حديث أبي طالب، ويصح أن يكون فيمن يعذب من الموحدين.
وقال ابن رجب: واعلم أن تفاوت أهل النار في العذاب هو بحسب تفاوت أعمالهم التي أدخلوا بها النار، ثم ساق الأدلة الدالة على ذلك، وساق قول ابن عباس: ليس عقاب من تغلظ كفره وأفسد في الأرض ودعا إلى الكفر كمن ليس كذلك. ثم قال ابن رجب: وكذلك تفاوت عذاب عصاة الموحدين في النار بحسب أعمالهم، فليس عقوبة أهل الكبائر كعقوبة أهل الصغائر، وقد يخفف عن بعضهم بحسنات أخرى له أو بما شاء الله من الأسباب، ولهذا يموت بعضهم في النار.
المطلب الثالث: إنضاج الجلود
إن نار الجبار تحرق جلود أهل النار، والجلد موضع الإحساس بألم الاحتراق، ولذلك فإن الله يبدل لهم جلوداً أخرى غير تلك التي احترقت، لتحترق من جديد، وهكذا دواليك، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [ النساء: 56]
المطلب الرابع: الصهر
من ألوان العذاب صب الحميم فوق رؤوسهم، والحميم هو ذلك الماء الذي انتهى حره، فلشدة حره تذوب أمعاؤهم وما حوته بطونهم {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُود} [الحج:19-20].
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الحميم ليصب على رؤوسهم، فينفذ حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه، حتى يمرق من قدميه، وهو الصهر، ثم يعود كما كان))، وقال: حسن غريب صحيح
المطلب الخامس: اللفح
أكرم ما في الإنسان وجهه،ولذلك نهانا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ضرب الوجه، ومن إهانة الله لأهل النار أنهم يحشرون في يوم القيامة على وجوههم عمياً وصما وبكماً {وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مأواهم جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [ الإسراء:97]، ويلقون في النار على وجوههم {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:90]. وتلفح النار وجوههم وتغشاها أبداً لا يجدون حائلا يحول بينهم وبينها {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النارَ وَلا عَن ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [ الأنبياء:39]، {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104]، {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النارُ} [ إبراهيم:50]، {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزمر:24]، وانظر إلى هذا المنظر الذي تقشعر لهوله الأبدان: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [ الأحزاب: 66]، أرأيت كيف يقلب اللحم على النار، والسمك في المقلي، كذلك تقلب وجوههم في النار، نعوذ بالله من عذاب أهل النار.
المطلب السادس: السحب
ومن أنواع العذاب الأليم سحب الكفار في النار على وجوههم {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [ القمر:47-48]، ويزيد من آلامهم حال سحبهم في النار أنهم مقيدون بالقيود والأغلال والسلاسل {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النارِ يُسْجَرُونَ }[ غافر:70-72]، قال قتادة: يسحبون مرة في النار وفي الحميم مرة.
المطلب السابع: تسويد الوجوه
يسود الله في الدار الآخرة وجوه أهل النار {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَما الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [ آل عمران:106]، وهو سواد شديد، كأنما حلت ظلمة الليل في وجوههم {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [ يونس: 27]
المطلب الثامن: إحاطة النار بالكفار
أهل النار هم الكفار الذين أحاطت بهم ذنوبهم ومعاصيهم، فلم تبق لهم حسنة، كما قال تعالى في الرد على اليهود الذين قالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [ البقرة:81]، ولا يكون المرء كذلك إلا إذا كان كافراً مشركاً، يقول صديق حسن خان: " المراد بالسيئة هنا الجنس، ولابد أن يكون سببها محيطاً بها من جميع جوانبه، فلا تبقى له حسنة، وسدت عليها مسالك النجاة، والخلود في النار هو للكفار والمشركين، فيتعين تفسير السيئة والخطيئة في هذه الآية بالكفر والشرك، وبهذا يبطل تشبث المعتزلة والخوارج لما ثبت في السنة متواتراً من خروج عصاة الموحدين من النار ".
ولما كانت الخطايا والذنوب تحيط بالكافر إحاطة السوار بالمعصم، فإن الجزاء من جنس العمل، ولذا فإن النار تحيط بالكفار من كل جهة، كما قال تعالى: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظالِمِينَ} [ الأعراف:41]. والمهاد ما يكون من تحتهم، والغواش جمع غاشية، وهي التي تغشاهم من فوقهم، والمراد أن النيران تحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [ العنكبوت:55]، وقال في موضع آخر: {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [ الزمر:16]، وقد صرح بالإحاطة في موضع آخر: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49]. وقد فسر بعض السلف المهاد بالفرش، والغواش باللحف.
وتأتي الإحاطة من ناحية أخرى، ذلك أن للنار سوراً يحيط بالكفار، فلا يستطيع الكفار مغادرتها أو الخروج منها، كما قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنا أَعْتَدْنَا لِلظالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} [ الكهف:29]. وسرادق النار سورها وحائطها الذي يحيط بها.
المطلب التاسع: إطلاع النار على الأفئدة
ذكرنا أن أهل النار يضخم خلقهم في النار شيئاً عظيماً، ومع ذلك فإن النار تدخل في أجسادهم حتى تصل إلى أعمق شيء فيهم {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَواحَةٌ لِّلْبَشَرِ} [ المدثر:26-29]، قال بعض السلف في قوله: (لا تبقي ولا تذر)، قال: (تأكل العظم واللحم والمخ ولا تذره على ذلك). وقال الحق تبارك وتعالى: {كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَة} [الهمزة:4-7]. قال محمد بن كعب القرظي: (تأكله النار إلى فؤاده، فإذا بلغت فؤاده أنشئ خلقه). وعن ثابت البناني أنه قرأ هذه الآية، ثم قال: (تحرقهم النار إلى الأفئدة وهم أحياء، لقد بلغ منهم العذاب، ثم يبكي).
المطلب العاشر: اندلاق الأمعاء في النار
في (الصحيحين) عن أسامة بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يُجاء بالرجل يوم القيامة، فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلان، ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)) ومن الذين يجرون أمعاءهم في النار عمرو بن لحي، وهو أول من غير دين العرب، وقد رآه الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجر قصبه في النار، ففي (الصحيحين) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب)) .
المطلب الحادي عشر: قيود أهل النار وأغلالهم وسلاسلهم ومطارقهم
أعد الله لأهل النار في النار سلاسل وأغلالاً وقيوداً ومطارق {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} [الإنسان:4] {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:12-13]، والأغلال توضع في الأعناق {وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ:33]، {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر:71]، والأنكال: القيود، سميت أنكالاً لأن الله يعذبهم وينكل بهم {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا} [المزمل:12]، والسلاسل نوع آخر من ألوان العذاب التي يقيد بها المجرمون كما يقيد المجرمون في الدنيا، وانظر إلى هذه الصورة التي أخبرنا بها الكتاب الكريم {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [ الحاقة:30-32]. وأعد الله لأهل النار مقامع من حديد، وهي المطارق التي تهوي على المجرمين وهم يحاولون الخروج من النار، فإذا بها تطوح بهم مرة أخرى إلى سواء الجحيم، {وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:21-22]
المطلب الثاني عشر: قرن معبوداتهم وشياطينهم بهم في النار
كان الكفار والمشركون يعظمون الآلهة التي يبعدونها من دون الله، ويدافعون عنها، ويبذلون في سبيل ذلك النفس والمال، وفي يوم القيامة يدخل الحق تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله النار إهانة لعابديها وإذلالاً لهم، ليعلموا أنهم كانوا ضالين، يعبدون ما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً ما وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:98-99].
يقول ابن رجب: (لما عبد الكفار الآلهة من دون الله، واعتقدوا أنها تشفع لهم عند الله، وتقربهم إليه، عوقبوا بأن جعلت معهم في النار إهانة لهم وإذلالاً، ونكاية لهم وإبلاغاً في حسرتهم وندامتهم، فإن الإنسان إذا قرن في العذاب بمن كان سبب عذابه كان أشد في ألمه وحسرته).
ومن أجل ذلك يقذف في يوم القيامة بالشمس والقمر في النار، ليكونا مما توقد به النار، تبكيتاً للظالمين الذين كانوا يعبدونها من دون الله، ففي الحديث: ((الشمس والقمر مكوران في النار)) .
يقول القرطبي: (وإنما يجمعان في جهنم، لأنهما قد عُبدا من دون الله لا تكون النار عذاباً لهم، لأنهما جماد، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين وحسرتهم، هكذا قال بعض أهل العلم).
ولهذا المعنى يقرن الكفار بشياطينهم ليكون أشداً لعذابهم: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُون} [الزخرف:36-39]
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المطلب الثالث عشر: حسرتهم وندمهم ودعاؤهم
عندما يرى الكفار النار يندمون أشد الندم، ولات ساعة مندم {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَما رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [يونس:54].، وعندما يطلع الكافر على صحيفة أعماله، فيرى كفره وشركه الذي يؤهله للخلود في النار، فإنه يدعو بالثبور والهلاك {وَأَما مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا} [ الانشقاق: 10-12]. ويتكرر دعاؤهم بالويل والهلاك عندما يلقون في النار، ويصلون حرها {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:13-14]. وهناك يعلو صراخهم ويشتد عويلهم، ويدعون ربهم آملين أن يخرجهم من النار، {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [فاطر:37]، وهم يعترفون في ذلك الوقت بضلالهم وكفرهم وقلة عقولهم {وَقَالُوا لَوْ كُنا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]، {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} [غافر:11]. ولكن طلبهم يرفض بشدة، ويجابون بما تستحق أن تجاب به الأنعام {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [ المؤمنون:106-108]. لقد حق عليهم القول، وصاروا إلى المصير الذي لا ينفع معه دعاء ولا يقبل فيه رجاء {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنا مُوقِنُونَ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالناسِ أَجْمَعِينَ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة:12-14]. ويتوجه أهل النار بعد ذلك بالنداء إلى خزنة النار، يطلبون منهم أن يشفعوا لهم كي يخفف الله عنهم شيئاً مما يعانونه {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} [غافر:49-50]. عند ذلك يسألون الشفاعة كي يهلكهم ربهم {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم ماكِثُونَ} [الزخرف:77]. إنه الرفض لكل ما يطلبون، لا خروج من النار، ولا تخفيف من عذابها، ولا إهلاك، بل هو العذاب الأبدي السرمدي الدائم، ويقال لهم آن ذاك:{اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:16]. هناك يشتد نحيبهم، وتفيض دموعهم، ويطول بكاؤهم {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [ التوبة:82]، إنهم يبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون دماً، وتؤثر دموعهم في وجوههم كما يؤثر السيل في الصخر، ففي مستدرك الحاكم عن عبدالله بن قيس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أهل النار ليبكون، حتى لو أجريت السفن في دموعهم، لجرت وإنهم ليبكون الدم – يعني – مكان الدمع)) . وعن أنس بن مالك مرفوعاً بلفظ: ((يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم حتى تصير في وجوههم كهيئة الأخدود، لو أرسلت فيه السفن لجرت)) . لقد خسر هؤلاء الظالمون أنفسهم وأهليهم عندما استحبوا الكفر على الإيمان، واستمع إلى عويلهم وهم يرددون حال العذاب {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:66-68]. وتأمل قوله تعالى يصف حالهم، ونعوذ بالله من حالهم {فَأَما الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} [هود:106]، قال الزجاج: الزفير من شدة الأنين وهو المرتفع جداً. وقيل: الزفير: ترديد النفس في الصدر من شدة الخوف حتى تنتفخ منه الأضلاع، والشهيق النفس الطويل الممتد، أو رد النفس إلى الصدر، والمراد بهما الدلالة على شدة كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه وانحصر فيه روحه. وقال الليث: الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ويخرجه، والشهيق أن يخرج ذلك النفس(11)

المبحث الثالث عشر: كيف يتقي الإنسان نار الله؟
لما كان الكفر هو السبب في الخلود في النار فإن النجاة من النار تكون بالإيمان والعمل الصالح، ولذا فإن المسلمين يتوسلون إلى ربهم بإيمانهم كي يخلصهم من النار، {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النارِ} [ آل عمران:16]، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:191-194]. وقد فصلت النصوص هذا الموضوع فبينت الأعمال التي تقي النار فمن ذلك محبة الله، ففي (مستدرك الحاكم) و(مسند أحمد) عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لا يلقي الله حبيبه في النار)) والصيام جنة من النار، ففي (مسند أحمد)، والبيهقي في (شعب الإيمان) بإسناد حسن عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: الصيام جنة يستجن بها من النار)). وعند البيهقي في (الشعب) من حديث عثمان بن أبي العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الصوم جنة من عذاب الله)) ورواه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وإسناده صحيح . أما إذا كان الصوم في حال جهاد الأعداء فذاك الفوز العظيم، فعن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صام يوماً في سبيل الله بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)) . رواه أحمد، والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي. ومما ينجي من النار مخافة الله، والجهاد في سبيل الله {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [ الرحمن:46]، وروى الترمذي والنسائي في (سننهما) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم)). وفي (صحيح البخاري) عن ابن عبس وهو عبدالرحمن بن جبر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله، فتمسه النار)) ، وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبداً)) ومما يقي العبد من النار استجارة العبد بالله من النار، {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:65-66]، وفي (مسند أحمد) و(سنن ابن ماجه) و(صحيح ابن حبان) و(مستدرك الحاكم) بإسناد صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما سأل أحد الله الجنة ثلاثاً، إلا قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ولا استجار رجل مسلم الله من النار ثلاثاً، إلا قالت النار: اللهم أجره مني)) وفي (الصحيحين) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الملائكة الذين يلتمسون مجالس الذكر وفيه: ((أن الله عز وجل يسألهم وهو أعلم بهم، فيقول: فمم يتعوذون؟ فيقولون: من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها، فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً، وأشد مخافة، فأشهدكم أني قد غفرت لهم))
المبحث الرابع عشر: بقاء النار وعدم فنائها
المطلب الأول: النار خالدة لا تبيد
قال تعالى {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [النساء: 257] وهذه الآية في مواضع من القرآن الكريم وقال تعالى {يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14] وقال تعالى {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17] وقال تعالى: {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا} [التوبة: 63] وقال {فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [النحل: 29] وهذه في غير موضع من القرآن، وقال {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء: 99] وقال {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ }المؤمنون: 103-104{ وقال }إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ{ [الزخرف: 74] وقال: }فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا{ [الحشر: 17] وقال: }فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا{ [البينة: 6] وقال: }وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ{ [البقرة: 167].}
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخل الله أهل الجنة الجنة, وأهل النار النار, ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت, ويا أهل النار لا موت, كل خالد فيما هو فيه)) أخرجه الشيخان وفي رواية عنه عندهما ((فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم)) .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((يجاء بالموت في صورة كبش أملح, فيوقف بين الجنة والنار, ثم يقال يا أهل الجنة فيطلعون مشفقين، ويقال: يا أهل النار فيطلعون فرحين، فقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار, ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت فيها، ويا أهل النار خلود ولا موت فيها)) أخرجه البخاري ومسلم.
وفي هذا عدة أحاديث عن أبي هريرة عن الترمذي وصححه, والحاكم, وابن ماجة، وعن أنس عن أبي يعلى, والبزار, والطبراني وفيه: ((فيذبح كما تذبح الشاة, فيأمن هؤلاء, وينقطع رجاء هؤلاء))، فثبت بما ذكر من الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة خلود أهل الدارين خلوداً مؤبداً كل بما هو فيه من نعيم وعذاب أليم.
وعلى هذا إجماع أهل السنة والجماعة, فأجمعوا على أن عذاب الكفار لا ينقطع, كما أن نعيم أهل الجنة لا ينقطع، ودليل ذلك الكتاب والسنة.
ويعتقد أهل السنة والجماعة أن النار مخلوقة وأعدها الله عز وجل لمن يستحقها من عباده.. وأن الكفار والمشركين خالدون فيها أبداً، وأنها دار باقية لا تفنى ولا ينقطع عذابها.
-قال شيخ الإسلام رحمه الله -: (وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا ينفى بالكلية، كالجنة والنار والعرش) .
....... نقل الإجماع على عدم فناء النار كثير من أهل العلم مؤكدين أن عدم فناء النار هو اعتقاد أهل السنة والجماعة.
فقال الإمامان الحافظان الرازيان – رحمهما الله – أبو حاتم وأبو زرعة: (أدركنا العلماء في جميع الأمصار – حجازاً و عراقاً وشاماً ويمناً – فكان من مذهبهم... الجنة حق والنار حق، وهما مخلوقان لا يفنيان أبداً) .
وقال الإمام ابن بطة العكبري - رحمه الله - بعد قوله: (ونحن الآن ذاكرون شرح السنة ووصفها وما هي في نفسها، وما الذي إذا تمسك به العبد ودان الله به سمي بها واستحق الدخول في جملة أهلها وما إن خالفه أو شيئاً منه دخل في جملة من عبناه وذكرناه، وحذر منه من أهل البدع والزيغ مما أجمع على شرحنا له أهل الإسلام وسائر الأمة مذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا... (فذكر جملة من معتقد أهل السنة إلى أن قال).. وأما عذاب النار فدائم أبداً بدوام الله، وأهلها فيها مخلدون خالدون) .
ونقل ذلك عن أهل السنة أيضاً الإمام أبو إسماعيل عثمان الصابوني – رحمه الله – فقال: (ويشهد أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان وأنهما باقيتان لا يفنيان أبداً، وأن... أهل النار – الذين هم أهلها خلقوا لها – لا يخرجون منها أبداً) .
وقال الإمام الحافظ ابن حزم - رحمه الله -: (الجنة حق، والنار حق داران مخلوقتان مخلدتان هما ومن فهيما بلا نهاية... كل هذا إجماع من جميع أهل الإسلام، ومن خرج عنه خرج عن الإسلام) .
ويقرر ذلك الإمام العلامة حافظ المغرب ابن عبد البر – رحمه الله – بقوله: (قال أهل السنة: إن الجنة والنار مخلوقتان وأنهما لا تبيدان) .
ويؤكد ذلك أيضاً الإمام الحافظ قوام السنة أبو القاسم إسماعيل التيمي الأصبهاني – رحمه الله – بقوله: (أهل السنة يعتقدون أن الجنة والنار خلقتا للبقاء ولا يفنيان أبداً) .
وانظر أيضاً ما قاله الإمام أحمد في (الرد على الجهمية) ؛ وابن خزيمة في كتاب (التوحيد) ؛ وأبو جعفر الطحاوي في عقيدته المشهورة بـ(الطحاوية) ؛ وأبو الحسن البربهاري في (شرح السنة) ؛ والآجري في (الشريعة) ، وابن أبي زيد في (القيروانية) ، وابن حزم في (المحلى) .
ذكر مستند الإجماع على عدم فناء النار: أخبر الله تعالى بأن أهل النار خالدون فيها خلوداً مؤبداً، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 168-169].
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} [الأحزاب: 64].
ووصفهم بعدم الخروج من النار، فقال تعالى: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167]، وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [المائدة: 37].
وقضى عليهم بعدم الموت وعدم تخفيف العذاب، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36].
وحرم عليهم دخول الجنة، فقال تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: 72].
وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحييون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم – أو قال خطاياهم – فأماتتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة...)) الحديث. .
من هذه النقولات والأدلة يتبين لنا أن أهل السنة والجماعة مجمعون على أبدية النار وعدم فنائها.. وقد صرح شيخ الإسلام بنقل الاتفاق عن سلف الأمة وأئمتها على ذلك، ولهذا لم يعقب على الأشعري عندما نقل كلامه في (درء تعارض العقل والنقل) فقال – رحمه الله –: (قال الأشعري: قال أهل الإسلام جميعاً: ليس للجنة والنار آخر، وأنهما لا تزالان باقيتين) ، وكذلك في كتاب نقد مراتب الإجماع فقد نقل ابن حزم – رحمه الله - الاتفاق على: (أن النار حق، وأنها دار عذاب أبداً لا تفنى ولا يفنى أهلها أبداً بلا نهاية) . فلم يعقب شيخ الإسلام على ذلك ولم ينقد نقله لهذا الاتفاق، مع نقده لمسائل كثيرة نقل ابن حزم فيها الإجماع.
وقد اشتهر عن شيخ الإسلام القول بفناء النار..!!
والجواب عن ذلك من وجوه:
أولاً: أن هذا الذي اشتهر، لو سلمنا بصحته عن شيخ الإسلام – ولم ينقل نص صريح بذلك عنه – فإن غاية ما فيه رأي رآه في أول حياته ثم تبين له خلافه، وذلك جمعاً بين ما ثبت عنه من نقل الاتفاق على عدم فناء النار وما ينسب له من القول بفنائها، ولا يمكن أن ينقل الاتفاق على ذلك ثم يقول بخلافه..!! وقد قال شيخ الإسلام بحياة الخضر ثم تبين له بعد ذلك الصواب في خلافه فقال – رحمه الله -: (والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت) .. ولهذا قال الألباني – رحمه الله – في مسألة فناء النار واعتماد شيخ الإسلام على بعض الآثار الضعيفة: (ولعل ذلك كان منه إبان طلبه للعلم، وقبل توسعه في دراسة الكتاب والسنة، وتضلعه بمعرفة الأدلة الشرعية) .
ثانياً: لو قال قائل إننا لا ندري أي القولين قبل الآخر..!!، فلا يقال إن هذا رأي رآه في أول حياته ثم تبين له خلافه..!!
... هب أن الأمر كذلك.. فلقد رسم الله عز وجل لنا قاعدة عظيمة محكمة وذلك بقوله: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} [آل عمران: 7]، فإذا ورد نصان أحدهما محكم لا يحتمل إلا معنى واحداً، والآخر متشابه يحتمل أكثر من معنى فإن حال الراسخين في العلم يردون المتشابه إلى المحكم فيصبح الكل محكماً، قال محمد بن جرير الطبري – رحمه الله -: (وقال آخرون: المحكمات من آي الكتاب: ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد، والمتشابه منها: ما احتمل من التأويل أوجها) .
وإذا طبقنا هذه القاعدة العظيمة على مسألتنا، نجد أن نقل الاتفاق على عدم فناء النار نص محكم جلي لا يحتمل إلا وجهاً واحداً؛ وهو الاتفاق على عدم فناء النار.. وقول البعض إن كلام شيخ الإسلام محمول على القول بعدم فناء الجنة والنار معاً.. قول مردود وذلك أن عبارته صريحة في نقل الاتفاق على الجميع باعتبار كل واحدة منفصلة فهو يضرب أمثلة على مخلوقات لا تفنى ولا تعدم بالكلية فيقول – رحمه الله -: (وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار والعرش وغير ذلك) .
فهو نص محكم لا يحتمل إلا وجهاً واحداً وهو الاتفاق على عدم فناء النار، وأما ما ينسب إليه من القول بفناء النار فهو قول متشابه، ولهذا اختلفت آراء العلماء في توجيهه، فإذا رددنا المتشابه من قوله إلى المحكم أصبح الكل محكماً، ويكون قول شيخ الإسلام كسائر أقوال أهل السنة.
ثالثاً: أنه لو سلم أن هذا رأي لشيخ الإسلام وثابت عنه ولم يكن رأياً متقدماً في الزمن – أي في أول حياته – ولم يكن متشابهاً بل كلام محكم، فإنه يكون رأياً له – رحمه الله -.. والحق أحق وأولى بالاتباع.. فهو العلم الذي لا يجارى والبحر المتلاطم أمواجه.. ولكنه بشر غير معصوم..!! وهو مأجور على اجتهاده.
بقي أن يقال هل يوجد مخالف من السلف قبل شيخ الإسلام لهذا الإجماع؟!
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
لم أقف على مخالف لهذا الإجماع.. والإجماع فيها قائم وسالم لا معارض له.. ويدل لذلك أمور:
أولاً: النصوص الكثيرة التي نقلها سلف الأمة وأئمة هذا الدين من الإجماع على عدم فناء النار وخلود الكفار فيها خلوداً مؤبداً، وقد أشرنا إلى بعضها آنفاً، مع اختلاف أزمانهم وبلدانهم ولن يتتابع هؤلاء الأئمة في نقل الإجماع على مسألة وفيها من يخالف هذا الإجماع من العلماء فضلاً عن أن يكون المخالف من الصحابة!!.
ثانياً: الذين ذكروا بعض المخالفين لفناء النار.. فقد نقلوا الإجماع على خلود الكفار فيها خلوداً مؤبداً.
فيقول ابن القيم – رحمه الله -: (الذي يدل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه السلف أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن أهل النار لا يخرجون منها ولا يخفف عنهم من عذابها، ولا يفتر عنهم وأنهم خالدون فيها) .
ويقول – رحمه الله -: (الذي دل عليه القرآن أن الكفار خالدون في النار أبداً، وأنهم غير خارجين منها وهذا كله مما لا نزاع فيه بين الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين) .
ثالثاً: الآثار التي استدل بها من يقول بفناء النار.. فقد بين العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني – رحمه الله – في كتابه الموسوم (رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار) ومحقق الكتاب العلامة الألباني – رحمه الله – بينا أنها آثار لا تصح والصحيح منها غير صريح، فهي إما غير صحيحة أو غير صريحة! فكيف يخالف بها الإجماع المنقول عن سلف الأمة وأئمتها!!
المطلب الثاني: القائلون بفناء النار
المخالفون لمذهب أهل الحق في هذه المسألة...:
1- الجهمية: القائلون بفناء النار وفناء الجنة أيضاً، وقد حكى الإمام أحمد في آخر كتاب (الرد على الزنادقة) مذهب الجهمية بأن النار والجنة تفنيان، ورد عليهم ذاكراً النصوص الدالة على عدم فنائهما.
2- الخوارج والمعتزلة: يقولون بخلود كل من يدخل النار، ولو كانوا من أهل التوحيد، وسر هذا القول أن الخوارج يكفرون المسلمين بالذنوب، فكل من ارتكب ذنباً، فإنه كافر خالد مخلد في نار جهنم، والمعتزلة يرون أن من ارتكب ذنباً في منزلة بين المنزلتين، فلا هو مؤمن ولا كافر، ويجرون عليه أحكام الإسلام في الدنيا، ولكنه في الآخرة مخلد في نار جهنم، وقد سقنا كثيراً من النصوص الدالة على أن أهل التوحيد يخرجون من النار.
3- اليهود: الذين يزعمون أنهم يعذبون في النار وقتاً محدوداً، ثم يخلفهم غيرهم فيها، وقد أكذبهم الله في زعمهم، ورد عليهم مقالتهم {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 80 - 81 ]. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 23 - 24 ].
ونقل ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس أنه قال في تفسير آية البقرة: (قال أعداء الله اليهود: لن يدخلنا الله النار إلا تحلة القسم، الأيام التي أصبنا فيها العجل: أربعين يوما، فإذا انقضت عنا تلك الأيام، انقطع عنا العذاب).
وذكر ابن جرير عن السدي قوله: (قالت اليهود: إن الله يدخلنا النار أربعين ليلة، حتى إذا أكلت النار خطايانا، نادى مناد: أخرجوا كل مختون من ولد بني إسرائيل، فلذلك أمرنا أن نختن، قالوا: فلا يدعون منا في النار أحداً إلا أخرجوه).
وذكر أيضاً ابن عباس قال: (ذكر أن اليهود وجدوا في التوراة مكتوباً: إن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهي إلى شجرة الزقوم ثابتة في أصل الجحيم، وكان ابن عباس يقول: إن الجحيم سقر، وفيها شجرة الزقوم، فزعم أعداء الله أنه خلا العدد الذي وجدوا في كتابهم أياماً معدودة).
قال ابن جرير: (وإنما يعني بذلك يعني بذلك المسير الذي ينتهي في أصل الجحيم، فقالوا: إذا خلا العدد انتهى الأجل، فلا عذاب وتذهب جهنم وتهلك، فذلك قوله: {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة:80 ]. يعنون بذلك الأجل، فقال ابن عباس: (لما اقتحموا من باب جهنم ساروا في العذاب، حتى انتهوا إلى شجرة الزقوم آخر يوم من الأيام المعدودة، قال لهم خزان سقر: زعمتم أنكم لن تمسكم النار إلا أياماً معدودة، فقد خلا العدد، وأنتم في الأبد، فأخذ بهم في الصعود في جهنم يرهقون).
4- قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي، فإنه زعم أن أهلها يعذبون فيها مدة، ثم تنقلب طبائعهم نارية يتلذذون بالنار لموافقتها لطبائعهم، قال ابن حجر في الفتح: (وهذا قول بعض من ينسب إلى التصوف من الزنادقة).
5- قول من زعم أن أهلها يخرجون منها، وتبقى على حالها خالدة لا تبيد. 6- قول أبي هذيل العلاف من أئمة المعتزلة الذاهب إلى أن حياة أهل النار تفنى، ويصيرون جماداً لا يتحركون، ولا يحسون بألم، قال بذلك لأنه يقول بامتناع حوادث لا نهاية لها، فخالف الأدلة الصريحة القطيعة الثبوت بمقاييس عقلية باطلة. ... وقد تتابع العلماء في التأليف لبيان خطأ هذا المذهب، يقول ابن حجر العسقلاني بعد حكايته لهذا القول: (وقد مال بعض المتأخرين إلى هذا القول، ونصره بعدة أوجه من جهة النظر، وهو مذهب رديء مردود على قائله، وقد أطنب السبكي الكبير في بيان وهائه فأجاد) ، وهذا الكتاب الذي أشار إليه هو (الاعتبار ببقاء الجنة والنار) لتقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي المتوفى سنة 756. وقال صديق حسن خان: (وقد ألف العلامة الشيخ مرعي الكرمي الحنبلي رسالة سماها: (توفيق الفريقين على خلود أهل الدارين)، وفي الباب رسالة للسيد الإمام محمد بن إسماعيل الأمير، ورسالة للقاضي العلامة المجتهد محمد بن علي الشوكاني، حاصلهما بقاء الجنة والنار وخلود أهلهما فيهما). ... ومن الذين تعرضوا لهذه المسألة القرطبي في (التذكرة)، فقد ساق النصوص الدالة على خلود الجنة والنار، والمخبرة بأن الموت يذبح بين الجنة والنار ثم يقال: (يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت) ثم قال: (هذه الأحاديث مع صحتها في خلود أهل الدارين فيها، لا إلى غاية ولا إلى أمد، مقيمين على الدوام والسرمد من غير موت ولا حياة ولا راحة ولا نجاة).
ورد القرطبي على الذين قالوا بفناء النار، وبين أن الذي يفنى إنما هو النار التي يدخلها عصاة الموحدين، قال: (فمن قال: إنهم يخرجون منها، وأن النار تبقى خالية بجملتها خاوية على عروشها، وأنها تفنى وتزول، فهو خارج عن مقتضى المعقول، ومخالف لما جاء به الرسول، وما أجمع عليه أهل السنة والأئمة العدول. وإنما تخلى جهنم وهي الطبقة العلية التي فيها العصاة من أهل التوحيد، وهي التي ينبت على شفيرها الجرجير).
ونقل القرطبي عن فضل بن صالح المعافري قال: (كنا عند مالك بن أنس ذات يوم، فقال لنا: انصرفوا، فلما كان العشية رجعنا إليه، فقال: إنما قلت لكم انصرفوا، لأنه جاءني رجل يستأذن علي زعم أنه قدم من الشام في مسألة فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في أكل الجرجير، فإنه يتحدث عنه أنه ينبت على شفير جهنم؟ فقلت له: لا بأس به . فقال: أستودعك الله، وأقرأ عليك السلام، ذكره الخطيب أبو بكر أحمد رحمه الله، وذكر أبو بكر البزار، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: ((يأتي على النار زمان تخفق الرياح أبوابها، ليس فيها أحد، يعني من الموحدين)) هكذا رواه موقوفاً عن عبد الله بن عمرو، وليس فيه ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومثله لا يقال من جهة الرأي، فهو مرفوع).
قال القرطبي: أجمع علماء أهل السنة على أن أهل النار مخلدون فيها غير خارجين منها, كإبليس وفرعون, وهامان, وقارون, وكل من كفر وتكبر, وطغى وتجبر, فإن له نار جهنم لا يموت فيها ولا يحيى، وقد وعدهم الله عذاباً أليماً فقال عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} وأجمع أهل السنة أيضاً على أنه لا يبقى فيها مؤمن, ولا يخلد فيها إلا كافر جاحد. فاعلمه.
وقد زل هنا بعض من ينتمي إلى العلم والعلماء: فقال إنه يخرج من النار كل كافر, ومبطل, وشيطان, وجاحد ويدخل الجنة, وإنه جائز في العقل أن تنقطع صفة الغضب، فيعكس عليه فيقال: وكذلك جائز في العقل: أن تنقطع صفة الرحمة, فيلزم عليه أن تدخل الأنبياء والأولياء النار يعذبون فيها، وهذا فاسد مردود بوعده الحق وقوله الصدق قال تعالى في حق أهل الجنان {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] أي غير مقطوع وقال: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] وقال: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق: 25] وقال: {لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [التوبة: 21-22] وقال في حق الكافرين: {لَا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ} [الأعراف: 40] وقال {فَاليَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية: 35] وهذا واضح.
وبالجملة فلا مدخل للعقول فيمن اقتطع أصله بالإجماع والنقول. ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، انتهى.
الكتاب السابع: الإيمان بالقضاء والقدر
الباب الأول: تعريف القضاء والقدر وحكمه ومراتبه
الفصل الأول: تعريف القضاء والقدر
المطلب الأول: القضاء لغة
هو بالمد، ويقصر، أصله، قضاي، فلما جاءت الياء بعد ألف زائدة متطرفة همزت وجمعه أقضية .
قال ابن فارس: (القاف والضاد والحرف المعتل أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته) . وقال في (النهاية): (القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه) .
ويتبين مما تقدم أن معنى القضاء في اللغة هو إحكام الشيء وإتمام الأمر، وهذا هو أصل معنى القضاء، وإليه ترجع جميع معاني القضاء الواردة في اللغة، وقد يأتي بمعنى القدر .
وقد ورد لفظ القضاء ومشتقاته كثيراً في القرآن الكريم، وكل معانيه، التي قد تأتي متداخلة أحياناً، ترجع إلى الأصل السابق، فمن المعاني التي ورد بها:
1- معنى الأمر، ومنه قوله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، أي: أمر سبحانه وتعالى بعبادته وحده لا شريك له .
2- معنى الأداء والإنهاء، {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ} [الحجر: 66]، أي: تقدمنا إليه وأنهينا .
3- معنى الحكم، ومنه قوله تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ} [طه: 72] اصنع, واحكم, وافعل ما شئت وما وصلت إليه يدك .
4- ومعنى الفراغ، ومنه قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [ فصلت: 12] أي: فرغ من تسويتهن سبع سموات في يومين, ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} [القصص: 29] أي: فرغ من الأجل الأوفى والأتم .
5- ومعنى الأداء، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] أديتموها وفرغتم منها وهذا داخل في المعنى السابق.
6- ومعنى الإعلام، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [ الإسراء: 4] أي: تقدمنا وأخبرنا بني إسرائيل في الكتاب الذي أنزل إليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين .
7- وبمعنى الموت، يقال: ضربه فقضى عليه، أي: قتله قال تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [ القصص: 15], أي قتله.
هذه هي أهم معاني (القضاء) في اللغة، وهناك اشتقاقات أخرى ذكرتها كتب اللغة ومن خلال عرض هذه المعاني يتبين ما بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي من رابط قوي، فتقدير الله للأمور، وكتابته لذلك، وكونها تجري بحكمة ودقة على حسب ما أرادها سبحانه وقضاها، كل هذه المعاني يوحي بها المعنى اللغوي.
المطلب الثاني: القدر لغة
قدر: (القاف والدال والراء أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته)
وهو بتسكين الدال وفتحها مع فتح القاف, وقد نقل الصغاني عن الفراء أنه قد يأتي بضم القاف (قدر) ولما كان لفظ القدر يأتي بسكون الدال وفتحها قال اللحياني: إن القدر – بالفتح - الاسم، والقدر- بالسكون - المصدر ويطلق القدر على الحكم والقضاء, ومن ذلك حديث الاستخارة وفيه: ((فاقدره لي ويسره لي)).
والقدر، بتحريك الدال وإسكانها، الطاقة ومن ذلك قوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ} [البقرة:236] بفتح الدال، وقرئ بإسكانها.
ويأتي القدر بمعنى التضييق، ومنه قوله تعالى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:16] وعليه فسر قوله –تعالى- عن يونس-عليه السلام-: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} الأنبياء : 87[ أي: لن نضيق عليه.]
وقدرت الشيء أقدره من التقدير، ومنه الحديث: ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) أي: قدروا له عدد الشهر حتى تكملوه ثلاثين يومياً، وقيل: قدروا له منازل القمر، فإنه يدلكم على أن الشهر تسع وعشرون أو ثلاثون .
وقدر كل شيء ومقداره: مقياسه، يقال قدره به قدراً إذا قاسه، والقدر من الرحال والسروج: والوسط، وقدرت الشيء قدارة، أي: هيأت ووقت، ومنه قول الأعشى:

فأقدر بذرعِك بيننا
إن كنت بوَّأْتَ القدارة

والقدرة، اليسار، والغنى، والقوة .
هذه هي أهم المعاني لـ(القدر) في اللغة. وهناك معان أخرى جانبية تعرضت لها كتب اللغة .
ويتبين مما سبق ما بين المعنى اللغوي لكل من القضاء والقدر والمعنى الشرعي - كما سيأتي - من رابط قوي، فكل منهما يأتي بمعنى الآخر، ومن معاني القضاء ترجع إلى إحكام الأمر وإتقانه وإنفاذه، ومن معانيه الأمر، والحكم، والإعلام، كما أن معاني القدر ترجع إلى التقدير، والله سبحانه وتعالى قدر مقادير الخلق، فعلمها وكتبها وشاءها وخلقها، وهي مقضية ومقدرة فتقع حسب أقدارها، ويتبين من خلال ذلك ما بين معنى القضاء والقدر في اللغة والشرع من ترابط.
المبحث الثاني: معنى القضاء والقدر شرعاً، والفرق بينهما
المطلب الأول: معنى القضاء والقدر شرعاً
هو تقدير الله تعالى الأشياء في القدم، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة، وكتابته سبحانه لذلك ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدرها وخلقه لها
المطلب الثاني: الفرق بين القضاء والقدر
انقسم العلماء في ذلك إلى فريقين:
الفريق الأول: قالوا بأنه لا فرق بين القضاء والقدر، فكل واحد منهما في معنى الآخر، فإذا أطلق التعريف على أحدهما شمل الآخر، ولذلك إذا أطلق القضاء وحده فسر بالقدر، وكذلك القدر، فلا فرق بينهما في اللغة، كما أنه لا دليل على التفريق بينهما في الشرع.
الفريق الثاني: قالوا بالفرق بينهما، ولكن هؤلاء اختلفوا في التمييز بينهما على أقوال:
القول الأول: رأي أبي حامد الغزالي, أن هناك - بالنسبة لتدبير الله وخلقه - ثلاثة أمور:
1- الحكم: وهو التدبير الأول الكلي، والأمر الأزلي.
2- القدر: وهو توجيه الأسباب الكلية بحركاتها المقدرة المحسوبة إلى مسبباتها المعدودة المحدودة، بقدر معلوم لا يزيد ولا ينقص .
القول الثاني: من فرق بينهما بأن القضاء: هو الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل، والقدر: الحكم بوقوع الجزيئات التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل .
القول الثالث: أن القدر هو التقدير والقضاء هو التفصيل والتقطيع فالقضاء أخص من القدر الذي هو كالأساس .
القول الرابع: ذكر بعض العلماء أن القدر بمنزلة المعد للكيل، والقضاء بمنزلة الكيل، وهذا كما قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنه لما أراد الفرار من الطاعون بالشام: (أتفر من القضاء؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله) تنبيهاً على أن القدر ما لم يكن قضاء فمرجو أن يدفعه الله, فإذا قضي فلا مدفع له
والاستشهاد بالحادثة ضعيف لأنها لم ترد بهذا اللفظ
القول الخامس: قول الماتريدية وقد فرقوا بينهما: بأن القضاء هو الخلق الراجع إلى التكوين، أي: الإيمان على وفق القدر السابق، والقدر هو ما يتعلق بعلم الله الأزلي، وذلك بجعل الشيء بالإرادة على مقدار محدد قبل وجوده .
القول السادس: قول الأشاعرة وجمهور أهل السنة:
أ- أن القضاء هو إرادة الله الأزلية المتعلقة بالأشياء على وفق ما توجد عليه في وجودها الحادث.
ب- والقدر إيجاد الله الأشياء على مقاديرها المحددة في كل ما يتعلق بها
هذه هي أهم الأقوال في الفرق بين القضاء والقدر، ونلخص منها إلى ما يلي:
1- الذين فرقوا بينهما ليس لهم دليل واضح من الكتاب والسنة يفصل في القضية.
2- عند إطلاق أحدهما يشمل الآخر , وهذا يوحي بأنه لا فرق بينهما في الاصطلاح ولذا فالراجح أنه لا فرق بينهما.
3- ولا فائدة من هذا الخلاف، وعلى هذا فيكون التعريف السابق للقضاء والقدر شرعاً هو الراجح.

المبحث الثالث: نشأة القول بالقدر (القدرية الأولى)
الإيمان بالقدر أحد أصول الإيمان، وقد بيَّن هذا الكتاب والسنة مفهوم القدر، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن العمل والأخذ بالأسباب هو من القدر ولا ينافيه ولا يناقضه، وحذر أمته من الذين يكذبون بالقدر، أو يعارضون به الشرع. وغضب الرسول صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً عندما خرج على أصحابه يوماً وهم يتنازعون في القدر، حتى احمرَّ وجهه، حتى كأنما فُقئ في وجنتيه الرمان، فقال: ((أبهذا أمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه)) . واستجاب الصحابة رضوان الله عليهم لعزيمة نبيهم وتوجيهه، فلم يُعرف عن أحد منهم أنه نازع في القدر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته.
ولم يَردْ إلينا أن واحداً من المسلمين نازع في القدر في عهد الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان، وكل ما ورد إلينا أن أبا عبيدة عامر بن الجراح اعترض على رجوع عمر بالناس عن دخول الشام عندما انتشر بها الطاعون، وقال لعمر بن الخطاب: (يا أمير المؤمنين أفراراً من قدر الله ؟) فقال عمر: (لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله. أرأيت إن كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان: إحداهما خصيبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدرة الله) . وروى اللالكائي أن عمر بن الخطاب خطب الناس بالجابية (من أرض الشام فقال في خطبته: من يضلل الله فلا هادي له, وكان الجثاليق بين يديه، فقال: إن الله لا يضل أحداً، وعندما كررها عمر بن الخطاب نفض الجثاليق ثوبه ينكر قول عمر. فقال له عمر بعد أن تُرجم له كلامه: كذبت يا عدو الله خلقك الله، والله يضلك، ثم يميتك، فيدخلك النار إن شاء الله... إن الله خلق الخلق، وقال: حين خلق آدم نثر ذريته في يده، وكتب أهل الجنة وما هم عاملون، وكتب أهل النار وما هم عاملون، ثم قال: هؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه فتفرق الناس وما يختلف في القدر اثنان) .
وقد اختلفت الآراء حول نشأة القول بالقدر في الإسلام، وعلى يد من نشأ القول به, وأهم الأقوال التي قيلت في ذلك هي:
القول الأول: تكاد تجمع المصادر على أن أول من قال بالقدر (معبد الجهني), وأن ذلك كان بالبصرة في أواخر عهد الصحابة رضوان الله عليهم، وكل من ترجم لمعبد الجهني هذا قال عنه: إنه أول من تكلم بالقدر ، أو ابتدع القول بالقدر، ومعلوم أن المقصود إنما هو نفي القدر، ودليل هذا القول: رواية مسلم في صحيحه في الحديث المشهور فقد روى عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني, فانطلقت أنا وحميد بن عبدالرحمن الحميري حاجين أو معتمرين, فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر, فوفق لنا عبدالله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد, فاكتنفته أنا وصاحبي, أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله, فظننت أن صاحبي سيكل الأمر إلي، فقلت: أبا عبدالرحمن, إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم (وذكر من شأنهم) وأنهم يزعمون ألا قدر، وأن الأمر أنف...) الحديث ، وهذا يفيد أن معبداً هو أول من قال بالقدر.
وهناك من يقول: إن أول من ابتدع القول بالقدر رجل من أهل البصرة من المجوس اسمه (سيسويه) وقال محمد بن شعيب الأوزاعي: (أول من نطق بالقدر رجل من أهل العراق يقال له: (سوسن), وكان نصرانياً فأسلم ثم تنصر) وهؤلاء يقولون: إن معبداً الجهني أخذ عن (سوسن) القول بالقدر .
وقد يكون من المحتمل أن الفكرة من أساسها كانت عند هذا الرجل النصراني الذي تظاهر بالإسلام, أو عند هذا المجوسي سيسويه، ولكنه لم يستطع بشخصه أن يجاهر بها ويذيعها بين الناس لعدم ثقة الناس به، فتأثر به معبد الجهني الذي نطق بها علانية ونشرها, فاشتهرت عنه.
ويلاحظ أن اسم (سيسويه) و(سوسن) متقاربان، فلعلهما شخص واحد.
وهناك من المعاصرين من ينكر أي أثر للنصارى أو لرجل نصراني على معبد الجهني حول فكرة القول بالقدر، مدعياً (أن محاولة ربط عقائد أصحاب مذهب الإرادة الحرة بنصراني أسلم ثم تنصر محاولة غير صحيحة، سار عليها أصحاب الفرق المختلفة) .
وهذه دعوة لا يعتمد عليها في القضية، إذ المعتمد في النفي أو الإثبات إنما هو الروايات التاريخية في صحتها أو عدم صحتها، والكتاب نفسه ذكر في كتابه الذي قال فيه هذا الكلام فصلاً طويلاً عن أثر (المسيحية) في نشأة علم الكلام والفرق .
هذا هو القول الأول، وقد أخذ عن معبد الجهني قوله بنفي القدر شخص آخر اسمه غيلان الدمشقي ويعد ثاني من تكلم بالقدر.
وهؤلاء هم القدرية الأوائل الذين أنكروا القدر, وأنكروا علم الله السابق بالأمور، وهذا معنى ما في حديث مسلم أنهم: يزعمون ألا قدر, وأن الأمر أنف، أي: مستأنف لم يسبق لله - تعالى - فيه علم, وهؤلاء هم الذين تبرأ منهم من سمع بهم من الصحابة كعبد الله بن عمر، وأبي هريرة، وابن العباس، وأنس بن مالك، وعبدالله بن أبي أوفى، وعقبة بن عامر الجهني، وواثلة بن الأسقع، وغيرهم , وهؤلاء أيضاً هم الذين قال فيهم الأئمة كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم: إن المنكرين لعلم الله، القدرية يكفرون .
القول الثاني: أن أول ما حدث القول بالقدر في الحجاز، قبل معبد الجهني، وأن ذلك وقع لما احترقت الكعبة وعبدالله بن الزبير رضي الله عنه محصورا بمكة فقال أناس: احترقت بقدر الله تعالى, وقال: أناس لم تحترق بقدر الله .
القول الثالث: أن أول من نادى بالقدر في الشام هو (عمرو المقصوص), وكان عمرو هذا معلماً لمعاوية الثاني, وأثر عليه كثيراً, فاعتنق أقواله في القدر، حتى إنه لما أن تولى الخلافة كان عمرو هذا هو الذي أثر عليه فاعتزلها حتى مات، ووثب بنو أمية على عمرو المقصوص وقالوا: أنت أفسدته وعلمته، ثم دفنوه حياً حتى مات, وهذا القول ضعيف، لأن معاوية بن يزيد كان رجلاً صالحاً، وعمرو المقصوص لم أجد من ذكر قصته من المؤرخين غير ابن العبري.
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
هذه هي أهم الأقوال في أول من قال بالقدر، ولا شك أن القول الأول هو أشهرها وأرجحها، ولا مانع أن تكون هناك أقوال مفردة قبل ذلك، ويكون كل قول هو الأول باعتبار البلد الذي ابتدئ القول بالقدر فيه، لكن الذي نشأ به القول الأول بالقدر وكان له رجال كانوا سبباً في نشره فيما بعد، هو ما بدأه معبد الجهني، وغيلان الدمشقي.
ثم أخذ هذا المذهب عن معبد رؤوس الاعتزال وأئمته كواصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وغيلان الدمشقي. فأما واصل بن عطاء رأس الاعتزال، فقد زعم أن الشر لا يجوز إضافته إلى الله، لأن الله حكيم، ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمر، ويحتم عليهم شيئاً، ثم يجازيهم عليه. وقرر في مقالته: أن العبد هو الفاعل للخير والشر، والإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، وهو المجازى على فعله، والربُّ تعالى أقدره على ذلك كله. وذهب النظام من المعتزلة إلى أن الله لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي، وليست هي مقدورة لله.
وهذه الفرقة هي التي أطلق عليها علماؤنا: اسم القدرية. وسموا بذلك لأنهم أثبتوا للعبد قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله تعالى، ونفوا أن تكون الأشياء بقدر الله وقضائه، وهؤلاء مع ضلالتهم يضيفون هذا الاسم إلى مخالفيهم من أهل الهدى، فيقولون: أنتم القدرية حين تجعلون الأشياء جارية بقدر من الله، وإنكم أولى بهذا الاسم منا (11). وقد ذكر النووي في شرحه على (صحيح مسلم): (أن بعض القدرية قال: لسنا بقدرية، بل أنتم القدرية، لاعتقادكم إثبات القدر). قال ابن قتيبة والإمام (يريد الإمام الجويني): (هذا تمويه من هؤلاء الجهلة ومباهتة وتواقح، فإن أهل الحق يفوضون أمورهم إلى الله سبحانه وتعالى، ويضيفون القدر والأفعال إلى الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء الجهلة يضيفونه إلى أنفسهم، ومُدَّعي الشيء لنفسه، ومضيفه إليها أولى بأن ينسب إليه ممن يعتقده لغيره، وينفيه عن نفسه) . وقد صح أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى القدرية مجوس هذه الأمة، والحديث أخرجه أبو داود في (سننه) والحاكم في (مستدركه على الصحيحين)، وقال: صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر . والسبب في تسمية هذه الفرقة بمجوس هذه الأمة (مضاهاة مذهبهم المجوس في قولهم بالأصلين: النور والظلمة، يزعمون أن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثَنَوِيَّة، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله تعالى، والشر إلى غيره، والله – سبحانه وتعالى – خالق الخير والشر جميعاً، لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته، فهما مضافان إليه – سبحانه وتعالى – خلقاً وإيجاداً، وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلاً واكتساباً). ونشأ في آخر عهد بني أمية أقوام يزعمون أن العبد مجبور على فعله، ليس له خيار فيما يأخذ أو يدع، وبعضهم يثبت للعبد قدرة غير مؤثرة، وأول من ظهر عنه هذا القول هو الجهم بن صفوان، وتفرع عن هذه البدعة أقوال شنيعة، وضلال كبير. وقد انتشر هذا القول في الأمة الإسلامية وتقلده كثير من العباد والزهاد والمتصوفة، وإذا كان الفريق الأول أشبه المجوس فإن هذا الفريق أشبه المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ}.[الأنعام:148]. وهذا الفريق شرٌّ من الفريق الأول، لأن الأولين عظموا الأمر والنهي، وأخرجوا أفعال العباد عن تكون خلقاً لله، وهذا الفريق أثبت القدر، واحتج به على إبطال الأمر والنهي.
الفصل الثاني: حكم الإيمان بالقضاء والقدر، ومراتبه
المطلب الأول: حكم الإيمان بالقضاء والقدر
الإيمان بالقدر من أصول الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا بها، ففي (صحيح مسلم) من حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال (أي جبريل عليه السلام): صدقت)) . والنصوص المخبرة عن قدرة الله أو الآمرة بالإيمان بالقدر كثيرة، فمن ذلك قوله تعالى: {إِنا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [ القمر:49 ]. وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} [ الأحزاب: 38 ]، وقوله: {وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [ الأنفال:42 ]. وقال:{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [ الفرقان:2 ]. وقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [ الأعلى: 1-3]. وروى مسلم في (صحيحه) عن طاووس قال: ((أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر حتى العجزُ والكَيْس، أو الكَيْس والعَجْز)) . وروى مسلم أيضاً عن أبي هريرة قال: ((جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فنزلت: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [ القمر: 48: 49 ])) . والنصوص في ذلك كثيرة جداً فإن النصوص الدالة على علم الله وقدرته ومشيئته وخلقه تدل على قدره تبارك وتعالى، فالقدر يتضمن الإيمان بعلم الله ومشيئته وخلقه، ... وذكر النصوص الواردة في ذلك. والقدر يدل بوضعه – كما يقول الراغب الأصفهاني فيما نقله عنه ابن حجر العسقلاني – على القدرة وعلى المقدور الكائن بالعلم.
فلله تعالى القدرة المطلقة، وقدرته لا يعجزها شيء، ومن أسمائه – تبارك وتعالى – القادر والقدير والمقتدر، والقدرة صفة من صفاته. فالقادر اسم فاعل من قدر يقدر. والقدير فعيل منه، وهو للمبالغة، ومعنى (القدير) الفاعل لما يشاء، على قدر ما تقتضيه الحكمة لا زائداً عليه، ولا ناقصاً عنه، ولذلك لا يصح أن يوصف به إلا الله عز وجل. قال تعالى:{إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [ الأحقاف:33]. و(المقتدر) مفتعل من اقتدر، وهو أبلغ من (قدير) ومنه قوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 55]. وقد سئل الإمام أحمد – رحمة الله تعالى – عن القدر: فقال: (القدر قدرة الله). قال ابن القيم: (وقال الإمام أحمد: القدرُ قدرة الله. واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جداً، وقال: هذا يدل على دقة أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين، وهو كما قال أبو الوفاء، فإن إنكاره إنكار لقدرة الرب على خلق أفعال العباد وكتابتها وتقديرها) وقد صاغ ابن القيم لهذا المعنى شعراً فقال:

واستحسن ابن عقيل ذا من أحمد
لمـا حكاه عن الرضا الربان

فحقيقة القدر الذي حار الورى
في شأنه هو قدرة الرحمـــــن

ولذا فإن الذين يكذبون بالقدر لا يثبتون قدرة الله تعالى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (مَنْ لم يقل بقول السلف فإنه لا يُثبِت لله قدرة، ولا يثبته قادراً كالجهمية ومن اتبعهم، والمعتزلة المجبرة والنافية: حقيقة قولهم أنه ليس قادراً، وليس له الملك، فإن المُلك إما أن يكون هو القدرة، أو المقدور، أو كلاهما، وعلى كل تقدير فلا بدَّ من القدرة، فمن لم يثبت له قدرة حقيقية لم يثبت له ملكاً) . والذين كذبوا بالقدر لم يوحدوا الله عز وجل، فإن نفاة القدر يقولون: خالق الخير غير خالق الشر، ويقول من كان منهم في ملتنا: إن الذنوب الواقعة ليست واقعة بمشيئة الله تعالى، وربما قالوا: ولا يعلمها أيضاً، ويقولون: إن جميع أفعال الحيوان واقعة بغير قدرته ولا صنعه، فيجحدون مشيئته النافذة، وقدرته الشاملة. وقد تقاطر أهل العلم على تقرير القدر والنصِّ على وجوب الإيمان به، وما من عالم من علماء أهل السنة الذين هم أعلام الهدى وأنوار الدجا إلا وقد نصَّ على وجوب الإيمان به، وبدَّع وسفَّه من أنكره وردَّه. يقول النووي رحمه الله تعالى في شرحه لأحاديث القدر من (صحيح مسلم): (وفي هذه الأحاديث كلها دلالات ظاهرة لمذهب أهل السنة في إثبات القدر، وأن جميع الواقعات بقضاء الله وقدره خيرها وشرها نفعها وضرها) . وقال في موضع آخر: (تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدر الله سبحانه وتعالى) . ويقول ابن حجر رحمه الله تعالى: (مذهب السلف قاطبة أن الأمور كلَّها بتقدير الله تعالى، كما قال تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [ الحجر: 21 ]) .
المطلب الثاني: الأدلة على وجوب الإيمان بالقدر
الفرع الأول: الأدلة العامة من القرآن الكريم على وجوب الإيمان بالقدر
الأدلة العامة من القرآن الكريم على وجوب الإيمان بالقدر: وردت في كتاب الله تعالى آيات تدل على أن الأمور تجري بقدر الله تعالى وعلى أن الله تعالى علم الأشياء وقدرها في الأزل، وأنها ستقع على وفق ما قدرها الله سبحانه وتعالى ومن هذه الآيات:
قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [ القمر: 49] ...
2- وقوله تعالى {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} [ الأحزاب:38] (أي قضاء مقضياً، وحكماً مبتوتاً، وهو كظل ظليل, وليل أليل، وروض أريض في قصد التأكيد) .
3- وقوله تعالى عن موسى عليه السلام: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [ طه: 40] أي أنه جاء موافقاً لقدر الله تعالى وإرادته على غير ميعاد .
4- وقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [ المرسلات: 21-23]. أي: جعلنا الماء في مقر يتمكن فيه وهو الرحم مؤجلاً إلى قدر معلوم قد علمه الله سبحانه وحكم به, فقدرنا على ذلك فنعم القادرون نحن, أو: فقدرنا ذلك تقديراً فنعم المقدرون له نحن – على قراءتين- والقراءة الثانية (قدّرنا) بالتشديد توافق قوله تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [ عبس:19].
فهذه الآيات تفيد الإخبار عن قدر الله الشامل لكل شيء، وأخبار القرآن مقطوع بها.
الفرع الثاني: الأدلة العامة من السنة النبوية على وجوب الإيمان بالقدر
دلت نصوص السنة على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر، والأحاديث الواردة في ذلك كثيرة جداً، ولكن نعرض لبعضها، ... فمنها:
1- حديث جبريل المشهور – برواياته المختلفة .
2- حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه, وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه)) , فنفى الإيمان حتى يؤمن العبد بالقدر وأن ما يجري عليه إنما هو بقدر من الله لا يتغير أبداً, ونفي الإيمان عمن لم يؤمن بالقدر يدل على وجوبه.
3- حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت, وبالبعث بعد الموت, ويؤمن بالقدر))
فالمراد بالحديث نفي أصل الإيمان عن من لم يؤمن بهذه الأربع: شهادة أن لا إله إلا الله, وشهادة أن محمداً رسول الله، ويؤمن بالموت: أي فناء الدنيا، أو المراد: اعتقاد أن الموت يحصل بأمر الله لا بفساد المزاج كما يقول الطبائعيون، ويؤمن بالبعث بعد الموت, ويؤمن بالقدر, وأن كل ما يجري بقدر الله تعالى وقضائه, ونفي أصل الإيمان عمن لم يؤمن بهذه الأمور يدل على وجوب الإيمان بها.
4- حديث طاوس قال: أدركت أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: ((كل شيء بقدر حتى العجز والكيس, أو الكيس والعجز)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48-49])) وهذان الحديثان يدلان على التصريح بإثبات القدر وأنه عام في كل شيء، حتى أن العاجز قد قدر عجزه, والكيس قد قدر كيسه، فكل ذلك مقدر في الأزل, معلوم لله مراد له, وهذا يدل على وجوب الإيمان بالقدر.
5- حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ولا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر, ولا عدل عادل, والإيمان بالأقدار)) فإذا كان الإيمان بالأقدار من أصل الإيمان فيجب الإيمان به.
6- وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم التحذير من التكذيب بالقدر، وذلك في الحديث الذي رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يدخل الجنة عاق, ولا مدمن خمر, ولا مكذب بقدر)) ولا شك أن هذه الأمور المنفي دخول الجنة بسببها متفاوتة وأعظمها التكذيب بالقدر، فالتصديق بالقدر واجب وسبب لدخول الجنة.
المبحث الثاني: مراتب الإيمان بالقدر
تمهيد
الإيمان بالقدر يقوم على أربعة مراتب، من أقرَّ بها جميعاً فإن إيمانه بالقدر يكون مكتملاً، ومن انتقص واحداً منها أو أكثر فقد اختل إيمانه بالقدر، وهذه المراتب هي:
الأول: الإيمان بعلم الله الشامل المحيط.
الثاني: الإيمان بكتابة الله في اللوح المحفوظ لكل ما هو كائن إلى يوم القيامة.
الثالث: الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته التامة، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
الرابع: خلقه تبارك وتعالى لكل موجود، لا شريك له في خلقه.
وسنتناول هذه المراتب الأربعة بشيء من التفصيل
المطلب الأول: المرتبة الأولى، الإيمان بعلم الله الشامل
وقد كثر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تقرير هذا الأصل العظيم، فعلم الله محيط بكل شيء، يعلم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم الموجود والمعدوم، والممكن والمستحيل.
وهو عالم بالعباد وآجالهم وأرزاقهم وأحوالهم وحركاتهم وسكناتهم وشقاوتهم وسعادتهم، ومن منهم من أهل الجنة، ومن منهم من أهل النار من قبل أن يخلقهم، ويخلق السماوات والأرض.
وكل ذلك مقتضى اتصافه – تبارك وتعالى – بالعلم، ومقتضى كونه – تبارك وتعالى – هو العليم الخبير السميع البصير. قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر:22] وقال: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]. وقال:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا الساعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 3 ]. وقال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [ النحل:125]. وقال: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [ النجم: 32]. وقال الحق مقرراً علمه بما لم يكن لو كان كيف سيكون {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [ الأنعام:28]، فالله يعلم أن هؤلاء المكذبين الذين يتمنون في يوم القيامة الرجعة إلى الدنيا أنهم لو عادوا إليها لرجعوا إلى تكذيبهم وضلالهم. وقال في الكفار الذين لا يطيقون سماع الهدى: {وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} [ الأنفال:23]. ومن علمه تبارك وتعالى بما هو كائن علمه بما كان الأطفال الذين توفوا صغاراً عاملين لو أنهم كبروا قبل مماتهم. روى البخاري في (صحيحه) عن ابن عباس قال: ((سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين)) . وروى مسلم عن عائشة أم المؤمنين قالت: توفي صبي، فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أولا تدرين أن الله خلق الجنة والنار، فخلق لهذه أهلاً ولهذه أهلاً)) . وفي رواية عند مسلم أيضاً عن عائشة قالت: ((دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه. قال: أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم)) . وهذه الأحاديث تتحدث عن علم الله في من مات صغيراً، لا أنّ هؤلاء يدخلهم الله النار بعلمه فيهم من غير أن يعملوا. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في قوله صلى الله عليه وسلم في أبناء المشركين: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)) (أي يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر لو بلغوا، ثم إنه جاء في حديث إسناده مقارب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان يوم القيامة فإن الله يمتحنهم، ويبعث إليهم رسولاً في عرصة القيامة، فمن أجابه أدخله الجنة، ومن عصاه أدخله النار)) فهنالك يظهر فيهم ما علمه الله سبحانه، ويجزيهم على ما ظهر من العلم، وهو إيمانهم وكفرهم، لا على مجرد العلم).
الأدلة العقلية على أن الله علم مقادير الخلائق قبل خلقهم: والحق أن وجود هذا الكون، ووجود كل مخلوق فيه يدل دلالة واضحة على أن الله علم به قبل خلقه، (فإنه يستحيل إيجاده الأشياء مع الجهل، لأن إيجاده الأشياء بإرادته، والإرادة تستلزم تصور المراد، وتصور المراد هو العلم بالمراد، فكان الإيجاد مستلزماً للإرادة، والإرادة مستلزمة للعلم، فالإيجاد مستلزم للعلم). وأيضاً فإن (المخلوقات فيها من الأحكام والإتقان ما يستلزم علم الفاعل لها، لأن الفعل المحكم المتقن يمتنع صدوره عن غير علم). واستدل العلماء على علمه تبارك وتعالى بقياس الأولى: (فالمخلوقات فيها ما هو عالم، والعلم صفة كمال، ويمتنع أن لا يكون الخالق عالماً).
والاستدلال بهذا الدليل له صيغتان:
أحدهما: أن يقال: نحن نعلم بالضرورة أن الخالق أكمل من المخلوق، وأن الواجب أكمل من الممكن، ونعلم ضرورة أنا لو فرضنا شيئين:
أحدهما عالم والآخر غير عالم، كان العالم أكمل، فلو لم يكن الخالق عالماً لزم أن يكون الممكن أكمل منه، وهو ممتنع.
الثاني: كل علم في المخلوقات فهو من الله تبارك وتعالى، ومن الممتنع أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عارياً منه، بل هو أحق به، ذلك أن كل ما ثبت للمخلوق من كمال فالخالق أحق به، وكلَ نقص تنزه عنه مخلوق ما، فتنزه الخالق عنه أولى. وكل هذه الأدلة يمكنك أن تلمحها في قوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [ الملك:14]. ويستدل على علمه – تبارك وتعالى – بإخباره بالأشياء والأحداث قبل وقوعها وحدوثها، فقد أخبر الحق في كتبه السابقة عن بعثة رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وصفاته وأخلاقه وعلاماته، كما أخبر عن الكثير من صفات أمته، وأخبر في محكم كتابه أن الروم سينتصرون في بضع سنين على الفُرس المجوس، ووقع الأمر كما أخبر، والإخبار عن المغيبات المستقبلة كثير في الكتاب والسنة.
المطلب الثاني: المرتبة الثانية، الإيمان بأن الله كتب في اللوح المحفوظ كل شيء
الفرع الأول: مرتبة الكتابة
دلت النصوص من الكتاب والسنة على أن الله كتب في اللوح المحفوظ كل شيء، ففي الحديث الذي يرويه مسلم في (صحيحه) عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء)) . ورواه الترمذي بلفظ: ((قدرَّ الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)) . وفي (سنن الترمذي) أيضاً عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب قال: ما أكتب؟ قال: اكتب القدر ما كان، وما هو كائن إلى الأبد)) . واللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقادير الخلائق سماه القرآن بالكتاب، وبالكتاب المبين، وبالإمام المبين وبأم الكتاب، والكتاب المسطور. قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 21-22 ]. وقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70] وقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]. وقال: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ} [ الطور: 1-3 ]. وقال: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4]
الفرع الثاني: أدلة مرتبة الكتابة
وهي أن الله تعالى كتب مقادير المخلوقات، والمقصود بهذه الكتابة، الكتابة في اللوح المحفوظ، وهو الكتاب الذي لم يفرط فيه الله من شيء، فكل ما جرى ويجري فهو مكتوب عند الله، وأدلة هذه المرتبة كثيرة نذكر منها:
أ- الأدلة من القرآن الكريم:
1- قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [ الأنعام: 38] على أحد الوجهين, وهو أن المقصود بالكتاب هنا اللوح المحفوظ، فالله أثبت فيه جميع الحوادث , فكل ما يجري مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ.
2- وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [ الأنبياء: 105]
(فأخبر تعالى أن هذا مكتوب مسطور في الكتب الشرعية والقدرية فهو كائن لا محالة) والآية دالة على مرتبة الكتابة عند من فسر الزبور بالكتب بعد الذكر, والذكر أم الكتاب عند الله وهو اللوح المحفوظ .
3- وقال تعالى في قصة أسرى بدر: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ الأنفال: 68] أي: لولا كتاب سبق به القضاء والقدر عند الله أنه قد أحل لكم الغنائم, وأن الله رفع عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم العذاب, لمسكم العذاب فالآية دليل على الكتاب السابق.}
4- وقال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70] وهذه الآية من أوضح الأدلة الدالة على علمه المحيط بكل شيء, وأنه علم الكائنات كلها قبل وجودها, وكتب الله ذلك في كتابه اللوح المحفوظ فالآية جمعت بن المرتبتين.
5- وقال تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [النمل:75]. أي: خفية, أو سر من أسرار العالم العلوي والسفلي إلا في كتاب مبين قد أحاط ذلك الكتاب بجميع ما كان ويكون إلى أن تقوم الساعة, فما من حادث جلي أو خفي إلا وهو مطابق لما كتب في اللوح المحفوظ , فالآية دليل على الكتابة السابقة لكل ما سيقع.
6- وقال تعالى في آية جمعت بين مرتبتي العلم والكتابة: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61] فما يعزب عن ربك، أي: ما يغيب عن علمه, وبصره, وسمعه ومشاهدته أي شيء حتى مثاقيل الذر، بل ما هو أصغر منها، وهذه مرتبة العلم, وقوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} مرتبة الكتابة، وكثيراً ما يقرن الله سبحانه وتعالى بين هاتين المرتبتين .
هذه بعض أدلة مرتبة الكتابة من القرآن، وننتقل إلى بيان بعض أدلتها من السنة.
ب- الأدلة من السنة:
1- من أوضح أدلة هذه المرتبة ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء)) فالدليل من الحديث قوله: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض)).
2- وفي الحديث الطويل الذي رواه علي رضي الله عنه بيان أن كل نفس قد كتب مكانها من الجنة والنار, وقد كتبت شقية أو سعيدة ونصه: قال: ((كنا في جنازة في بقيع الغرقد، ومعه مخصرة فنكس, فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد, ما من نفس منفوسة إلا وكتب الله مكانها من الجنة والنار, وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة قال: فقال رجل: يا رسول الله, أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة, ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير عمل أهل الشقاوة, فقال: اعملوا فكل ميسر, أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة, وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5-10])) وهذا دليل واضح على الكتابة السابقة ومنها كتابة أهل الجنة وأهل النار.
3- وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يبين أن ما مضت به المقادير، وسبق علم الله به، قد تمت كتابته في اللوح المحفوظ، وجف القلم الذي كتب به، وامتنعت فيه الزيادة والنقصان، فعن جابر رضي الله عنه قال: ((جاء سراقة بن مالك بن جعشم -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله, بيِّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام, وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: لا، بل فيما جفت به الأقلام, وجرت به المقادير, قال: ففيم العمل؟ قال زهير: ثم تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه, فسألت ما قال؟ فقال: اعملوا فكل ميسر)) .
4- ومن الأحاديث المشهورة حديث: أول ما خلق الله القلم، وفيه أن الله أمره بكتابة ما هو كائن إلى يوم القيامة، فعن أبي حفصة قال: ((قال عبادة بن الصامت لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك, وما أخطأك لم يكن ليصيبك, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب قال: رب وماذا أكتب؟ قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات على غير هذا فليس مني)) , وفي رواية أخرى عن عبدالواحد بن سليم قال: ((قدمت مكة فلقيت عطاء بن أبي رباح، فقلت له: يا أبا محمد: إن أهل البصرة يقولون في القدر, قال: يا بني أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم, قال: فاقرأ الزخرف. قال: فقرأت: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} فقال: أتدري ما أم الكتاب؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه كتاب كتبه الله قبل أن يخلق السموات, وقبل أن يخلق الأرض, فيه أن فرعون من أهل النار, وفيه تبت يد أبي لهب وتب، قال عطاء: فلقيت الوليد بن عبادة بن الصامت صاحب رسول صلى الله عليه وسلم فسألته: ما كانت وصية أبيك عند الموت؟ قال: دعاني أبي فقال لي: يا بني, اتق الله, واعلم أنك لن تتقي الله حتى تؤمن بالله, وتؤمن بالقدر خيره وشره، فإن مت على غير هذا دخلت النار. وإني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب. فقال: ما أكتب؟ قال اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد)) فقوله للقلم بعد خلقه: ((اكتب مقادير كل شيء)), جمع مقدار وهو الشيء الذي يعرف به قدر الشيء, وكميته, كالمكيال والميزان, وقد يستعمل بمعنى القدر نفسه وهو الكمية والكيفية, وفي الرواية الأخرى: ((اكتب القدر)), والمقصود بأم الكتاب في الآية التي استشهد بها عطاء: اللوح المحفوظ, فالروايتان فيهما دليل على مرتبة الكتابة, حيث أمر الله القلم بكتابة ما هو كائن إلى يوم القيامة.
5- وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان فقلنا: لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا, فقال: للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة, وأسماء آبائهم, وقبائلهم, ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم, ولا ينقص منهم أبداً, ثم قال للذي في شماله: وهذا كتاب من رب العالمين, فيه أسماء أهل النار, وأسماء آبائهم, وقبائلهم, ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً... الحديث)) ، فقوله: ((وفي يده كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟)). الظاهر من الإشارة أنهما حسيان, وقيل: تمثيل واستحضار للمعنى الدقيق الخفي في مشاهدة السامع حتى كأنه ينظر إليه رأي العين... ولا يستبعد إجراؤه على الحقيقة، فإن الله قادر على كل شيء, والدليل من الحديث قوله: هذا كتاب من رب العالمين لكل من أهل الجنة وأهل النار, مكتوبة فيه أسماؤهم وقبائلهم، ففي ذلك إثبات الكتابة لما قضاه الله وقدره وعلمه.
وبعد الكلام على أدلة هاتين المرتبتين: مرتبة العلم، ومرتبة الكتابة، يحسن أن نذكر هنا أنه يتعلق بهاتين المرتبتين عدة تقادير وهي بإيجاز:
أ- التقدير الأول: كتابة ذلك قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة عندما خلق الله القلم. ودليل هذا التقدير الحديث الأول من أدلة مرتبة الكتابة والذي تقدم قبل قليل، وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: ((جف القلم بما أنت لاق)) .
ب- التقدير حين أخذ الميثاق على بني آدم وهم على ظهر أبيهم آدم، ودليله حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعراف: 172] الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: ((إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذريته، قال: خلقت هؤلاء للجنة, وبعمل أهل الجنة يعملون, فقال رجل: يا رسول الله, ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل النار)) وهناك روايات أخرى ذكرها ابن كثير, والسيوطي وليس هذا موضع مناقشة مسألة الميثاق والخلاف فيه، وإنما المقصود هنا أن من رجح أن المقصود بالآية الفطرة قالوا: إن الروايات الواردة في ذلك ترجع إلى القدر السابق.
ج- التقدير العمري عند أول تخليق النطفة، وهذا دليله حديث عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات: بكتب رزقه, وأجله, وعمله, وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها, وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها))
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
المبحث الرابع: الإيمان بالقدر من أكبر العوامل التي تكون سبباً في استقامة المسلم
الإيمان بالقدر من أكبر العوامل التي تكون سبباً في استقامة المسلم, وخاصة في معاملته للآخرين، فحين يقصر في حقه أحد أو يسيء إليه، أو يرد إحسانه بالإساءة, أو ينال من عرضه بغير حق، تجده يعفو ويصفح لأنه يعلم أن ذلك مقدر، وهذا إنما يحسن إذا كان في حق نفسه، أما في حق الله فلا يجوز العفو, ولا التعلل بالقدر، لأن القدر إنما يحتج به في المصائب لا في المعائب .
المبحث الخامس: الإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن حقائق الإيمان المتعددة
الإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن حقائق الإيمان المتعددة، فهو دائم الاستعانة بالله، يعتمد على الله, ويتوكل عليه مع فعل الأسباب، وهو أيضاً دائم الافتقار إلى ربه تعالى، يستمد منه العون على الثبات، ويطلب منه المزيد، وهو أيضاً كريم يحب الإحسان إلى الآخرين، فتجده يعطف عليهم.
والإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن أيضاً الانكسار والاعتراف لله تعالى, حيث يقع منه الذنب, ومن ثم يطلب من الله العفو والمغفرة، ولا يحتج بالقدر على ذنوبه، وإن كانت مقدرة عليه؛ لأنه يعلم أن الاحتجاج باطل, ومنهي عنه, ومخالف لمقتضى الشرع .
المبحث السادس: من آثار الإيمان بالقدر أن الداعي إلى الله يصدع بدعوته
من آثار الإيمان بالقدر أن الداعي إلى الله يصدع بدعوته، ويجهر بها أمام الكافرين والظالمين، لا يخاف في الله لومة لائم، يبين للناس حقيقة الإيمان, ويوضح لهم مقتضياته، وواجباتهم تجاه ربهم تبارك وتعالى، كما يبين لهم حقائق الكفر, والشرك, والنفاق ويحذرهم منها، ويكشف الباطل, وزيفه, ودعاته, وحماته, ويقول كلمة الحق أمام الظالمين, ويفضح ما هم فيه من كفر وظلم وما يقومون به من إفساد وتضليل, يفعل المؤمن كل ذلك وهو راسخ الإيمان واثق بالله، متوكل عليه، صابر على كل ما يحصل له في سبيله, لأنه موقن أن الآجال بيد الله وحده، وأن الأرزاق عنده وحده، وأن العبيد لا يملكون من ذلك شيئاً مهما وجد لهم من قوة وأعوان.
إن المؤمن الصادق لا يذل إلا لله، ولا يخضع إلا له، ولا يخاف إلا منه، وحين يكون كذلك تجده يسلك الطريق المستقيم، ويثبت عليه، ويدعو إليه، ويصر على ما يلقاه في سبيل الدعوة من عداء المعتدين، وحرب الظالمين، ومكر الماكرين، ولا يصده شيء من ذلك، لأن هؤلاء لا يملكون من أمر الحياة ولا أمر الأرزاق شيئاً، وإذا كان الأمر هكذا فكيف يبقى في نفس المؤمن الداعية ذرة من خوف وهو يؤمن بقضاء الله وقدره، فما قدر سيكون، وما لم يقدر لن يكون، وهذا كله مرجعه إلى الله، والعباد لا يملكون من ذلك شيئا .
المبحث السابع: الإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشرك
لقد زعم كثير من الفلاسفة أن الخير من الله، والشر من صنع آلهة من دونه، وإنما قالوا هذا القول فراراً من نسبة الشر إلى الله تعالى. والمجوس زعموا أن النور خالق الخير، والظلمة خالقة الشر. والذين زعموا من هذه الأمة أن الله لم يخلق أفعال العباد، أو لم يخلق الضال منها أثبتوا خالقين من دون الله. ولا يتم توحيد الله إلا لمن أقرَّ أن الله وحده الخالق لكل شيء في الكون، وأن إرادته ماضية في خلقه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فكل المكذبين بالقدر لم يوحدوا ربهم، ولم يعرفوه حق معرفته، والإيمان بالقدر مفرق طريق بين التوحيد والشرك. فالمؤمن بالقدر يُقرُّ بأن هذا الكون وما فيه صادر عن إله واحد ومعبود واحد، ومن لم يؤمن هذا الإيمان فإنه يجعل من الله آلهة وأرباباً
المبحث الثامن: الاستقامة على منهج سواء في السراء والضراء
العباد بما فيهم من قصور وضعف لا يستقيمون على منهج سواء، قال تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وإذا مسه الخير منوعاً إِلا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 19-22]. والإيمان بالقدر يجعل الإنسان يمضي في حياته على منهج سواء، لا تبطره النعمة، ولا تيئسه المصيبة، فهو يعلم أن كل ما أصابه من نعم وحسنات من الله، لا بذكائه وحسن تدبيره {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل: 53]. ولا يكون حاله حال قارون الذي بغى على قومه، واستطال عليهم بما أعطاه الله من كنوز وأموال: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 76-78]. فإذا أصاب العبد الضراء والبلاء علم أن هذا بتقدير الله ابتلاء منه، فلا يجزع ولا ييأس، بل يحتسب ويصبر، فيكسب هذا الإيمان في قلب العبد المؤمن الرضا والطمأنينة {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22-23]. وقد امتدح الله عباده: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنا لِلّهِ وَإِنا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156-157].
والإنسان قد خلق محباً للحياة، راغباً في متاعها، حريصاً على نفع نفسه, كارهاً للآلام والمصائب التي تحل به، وهو أيضاً يحب الخير لنفسه ويمنعه غيره، ويكره الشر لنفسه ويجزع منه كما قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [نوح: 19-21].
فإن أصابه الخير بطر واغتر به, وإن أصابه الشر والمصيبة جزع, وحزن, ولا يعصم الإنسان من البطر والطغيان إذا أصابه الخير، والحزن إذا أصابه الشر إلا الإيمان بالقدر، وأن ما وقع فقد جرت به المقادير, وسبق به علم الله, يقول الإمام الشوكاني: (ومن فوائد رسوخ الإيمان بهذه الخصلة أي: الإيمان بالقدر أنه يعلم أنه ما وصل إليه من الخير على أي صفة كان، وبيد من اتفق فهو منه عز وجل، فيحصل له بذلك من الحبور والسرور ما لا يقدر قدره، لما له سبحانه من العصمة التي تضيق أذهان العباد عن تصورها، وتقصر عقولهم عن إدراك أدنى منازلها... وما أحسن ما قال الحربي – رحمه الله -: من لم يؤمن بالقدر لم يتهن بعيشه) وهذا صحيح فما تعاظمت القلوب بالمصائب, وضاقت بها الأنفس، وحرجت بها الصدور إلا من ضعف الإيمان.
المبحث التاسع: المؤمن بالقدر دائماً على حذر
المؤمنون بالقدر دائماً على حذر {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] فقلوب العباد دائمة التقلب والتغير، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، والفتن التي توجه سهامها إلى القلوب كثيرة، والمؤمن يحذر دائماً أن يأتيه ما يضله كما يخشى أن يختم له بخاتمة سيئة، وهذا لا يدفعه إلى التكاسل والخمول، بل يدفعه إلى المجاهدة الدائبة للاستقامة، والإكثار من الصالحات، ومجانبة المعاصي والموبقات. كما يبقى قلب العبد معلقاً بخالقه، يدعوه ويرجوه ويستعينه، ويسأله الثبات على الحق، كما يسأله الرشد والسداد.
المؤمنون بالقدر دائماً على حذر {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] فقلوب العباد دائمة التقلب والتغير، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، والفتن التي توجه سهامها إلى القلوب كثيرة، والمؤمن يحذر دائماً أن يأتيه ما يضله كما يخشى أن يختم له بخاتمة سيئة، وهذا لا يدفعه إلى التكاسل والخمول، بل يدفعه إلى المجاهدة الدائبة للاستقامة، والإكثار من الصالحات، ومجانبة المعاصي والموبقات. كما يبقى قلب العبد معلقاً بخالقه، يدعوه ويرجوه ويستعينه، ويسأله الثبات على الحق، كما يسأله الرشد والسداد
المبحث العاشر: مواجهة الصعاب والأخطار بقلب ثابت
إذا آمن العبد بأنَّ كل ما يصيبه مكتوب، وآمن أن الأرزاق والآجال بيد الله، فإنه يقتحم الصعاب والأهوال بقلب ثابت وهامة مرفوعة، وقد كان هذا الإيمان من أعظم ما دفع المجاهدين إلى الإقدام في ميدان النزال غير هيابين ولا وجلين، وكان الواحد منهم يطلب الموت في مظانه، ويرمى بنفسه في مضائق يظن فيها هلكته، ثم تراه يموت على فراشه، فيبكي إن لم يسقط في ميدان النزال شهيداً، وهو الذي كان يقتحم الأخطار والأهوال. وكان هذا الإيمان من أعظم ما ثبَّت قلوب الصالحين في مواجهة الظلمة والطغاة، ولا يخافون في الله لومة لائم، لأنهم يعلمون أن الأمر بيد الله، وما قدر لهم سيأتيهم. وكانوا لا يخافون من قول كلمة الحق خشية انقطاع الرزق، فالرزق بيد الله، وما كتبه الله من رزق لا يستطيع أحد منعه، وما منعه الله لعبد من عبيده لا يستطيع أحد إيصاله إليه.
والإيمان بالقدر يبعث في القلوب الشجاعة على مواجهة الشدائد، ويقوي فيها العزائم، فتثبت في ساحات الجهاد ولا تخاف الموت، لأنها توقن أن الآجال محددة لا تتقدم ولا تتأخر لحظة واحدة.
ولما كانت هذه العقيدة راسخة في قلوب المؤمنين ثبتوا في القتال, وعزموا على مواصلة الجهاد، فجاءت ملاحم الجهاد تحمل أروع الأمثلة على الثبات والصمود أمام الأعداء مهما كانت قوتهم، ومهما كان عددهم، لقد أيقنوا أنه لن يصيب الإنسان إلا ما كتب له، سواء كان قاعداً في بيته، أو يتقلب في ساحات القتال من معركة إلى معركة، فكيف يجبن، وكيف يفر من القتال خوفاً من الموت، والموت إذا جاء سيأتيه على آية حال هو.
هكذا كان الأمر في حس المؤمنين فأقبلوا على القتال والجهاد في سبيل الله في ثبات وعزم ويقين، وكانت لهم بطولات ما عرفت في أمة من الأمم غيرهم.
وإذا قد وجد من المثبطين من المنافقين وغيرهم من يتخلف عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدعياً أن السلامة في تخلفه، ومتربصاً بالمؤمنين الدوائر كان الرد عليهم يأتي من الله تعالى مبيناً أن المؤمنين يقومون بما أوجبه الله عليهم طاعة لله ورسوله, وهم يعتقدون أن كل ما يصيبهم قد جرت به المقادير,قال تعالى: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} [ التوبة: 51-52]، وحين قال المنافقون: {هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ} [ آل عمران:154]، جاء الجواب: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا} جاء الرد عليهم: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [ آل عمران:154].
وهكذا وعى المؤمنون هذه الحقيقة فأيقنوا أنه لا يموت إلا من كتب عليه الموت، ولو كان في مضجعه في بيته، وأيقنوا أيضاً أنهم لا يرتقبون إلا إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة ومنهم من نصره الله نصراً مبيناً.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه ويربيهم على عقيدة القدر, لأنها هي العدة التي تجعل المؤمن شجاعاً لا يخاف إلا الله، وهي التي تجعله يلاقي المصائب والصعاب راضياً مطمئناً، فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: ((يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) وفي رواية أخرى: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)) وهذا الحديث يدل على أن الإيمان بالقدر يبعث على الشجاعة والاتجاه إلى الله وحده في وقت الشدائد فيبقى المؤمن عزيزاً لا يذل إلا لله وحده .
الباب الرابع: المذاهب في القدر، وأسباب الضلال فيه، وحكم الاحتجاج به
الفصل الأول: المذاهب في القدر
المبحث الأول: مذهب المكذبين بالقدر
ذهب بعض الضالين في هذا الباب إلى نفي القدر، وزعموا أن الله – تعالى عما يقولون – لا يعلم بالأشياء قبل حصولها، ولم يتقدم علمه بها، وقالوا: إنما يعلم الله بالموجودات بعد خلقها وإيجادها. وزعم هؤلاء كذباً وزوراً أن الله إذا أمر العباد ونهاهم لا يعلم من يطيعه منهم ممن يعصيه، ولا يعلم من يدخل الجنة ممن يدخل النار، حتى إذا استجاب العباد لشرعه أو رفضوا – علم السعداء منهم والأشقياء، ويرفض هؤلاء الضلال الإيمان بعلم الله المتقدم، كما يكذبون بأن الله كتب مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض، كما ثبت في الكتاب والسنة. وقد نشأ القول بهذا في آخر عهد الصحابة، فأول من قال به معبد الجهني، ثم تقلد عنه هذا المذهب الفاسد رؤوس المعتزلة وأئمتهم كواصل بن عطاء الغزال، وعمرو بين عبيد، ورويت عنهم في هذا أقوال شنيعة فيها تكذيب لله ولرسوله في أن الله علم الأشياء وكتبها قبل خلقها. وقد خشي الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته هذا الضلال الذي وقعت فيه هذه الفرقة، ففي الحديث الصحيح الذي يرويه ابن عساكر عن أبي محجن وابن عبد البر في (الجامع) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أخاف على أمتي من بعدي ثلاثاً: حيف الأئمة، وإيماناً بالنجوم، وتكذيباً بالقدر)) .
وروى أبو يعلى في (مسنده) والخطيب في (التاريخ) وابن عَدِيّ في (الكامل) بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخاف على أمتي من بعدي خصلتين: تكذيباً بالقدر، وتصديقاً بالنجوم))
وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من هذا الضلال، ففي الحديث الذي يرويه الطبراني في (معجمه الأوسط)، والحاكم في (مستدركه) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه قال: ((أُخِّر الكلام في القدر لشرار أمتي))
وروى الطبراني في (معجمه الكبير) عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أمر هذه الأمة لا يزال مقارباً حتى يتكلموا في الولدان وفي القدر)) . وسمى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الفريق بمجوس هذه الأمة، لأن المجوس يقولون بوجود خالقين اثنين: النور والظلمة، وهذا الفريق يقولون بوجود خَالِقين، بل يزعمون أن كلَّ واحد خالق من دون الله، وقد أمر الرسول صلى الله وسلم بهجران هذا الفريق، فلا يزارون ولا يعادون، ففي الحديث الذي يرويه أحمد وأبو داود عن ابن عمر أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)) . وقد صاح الصحابة بأصحاب هذه الضلالة من كل ناحية، وأنكروا عليهم ما جاؤوا به من الضلال والباطل، ونهوا الناس عن مخالطة هؤلاء ومجالستهم، وأوردوا عليهم النصوص الفاضحة لباطلهم، المقررة للحق في باب القدر. ففي (سنن الترمذي) عن نافع أنَّ ابن عمر جاءَه رجل فقال: إنَّ فلاناً يَقرأ عليك السلام، فقال له: بلغني أنّه قد أحدث، فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يكون في هذه الأمة أو في أمتي خسف أو مسخ أو قذف في أهل القدر)) . وفي الترمذي عن ابن عمر أيضاً يرفعه: ((يكون في أمتي خسف ومسخ وذلك في المكذبين في القدر)) .
 
أعلى